• سجل عضوية لنشر مواضيع ومشاركات ومحادثة الأعضاء بدون إزعاج الإعلانات

مكتملة قصيرة الصندوق - توفيق الحكيم (1 مشاهد)

ابيقور

ميلفاوي أبلودر
العضوية الفضية
ميلفاوي معلم
عضو
ناشر قصص
ميلفاوي نشيط
إنضم
21 سبتمبر 2023
المشاركات
563
مستوى التفاعل
310
نقاط
620
النوع
ذكر
الميول
طبيعي

(خدر نفيس الفُرش والوسائد والرياش! … فيه ملكة جميلة، تنظر إلى الباب بلهفة وشوق وقد فُتح ودخلت منه امرأتان مؤتزرتان.)

الملكة : أبطأتما!
الوصيفة (تخلع إزارها) : لم نبطئ، إنما هو حارس لُكَع، استوقفنا عند الأسوار!
الملكة (للوصيفة) : قفي يا «غاضرة» بالباب، كما تقفين، وراقبي! … واحذري أن تغفل لك عين!
(الوصيفة تخرج … وتخلع الأخرى إزارها فإذا رجل …)

الرجل : إذا خرجتُ من خدرك بعد اليوم سالمًا، فلن أعود إليه أبد الدهر!
الملكة : لماذا يا «وضَّاح»؟! … ما هذا الشحوب على مُحَياك الجميل؟!
وضَّاح : عينا الحارس … لكأنهما اخترقتا الحجاب، ونفذتا إلى السر المحجوب!
الملكة : أوهام شاعر! … ما هي بالزيارة الأولى يا «وضَّاح»! .
وضَّاح : ما خالجني هذا الفَرَق إلا اليوم!
الملكة : أهو إيذان بانطفاء حبك؟! … المحب لا يعرف الخوف! … الخوف برد، والغرام ضرام! … ولا يسكن القلب ضدان!
وضَّاح : لا تذكري البرد! … فما أنا إلا جمرة توقدها بسماتك!
الملكة : تُحسن القول … وهذا بعض ما نُحب منك ونكره!
وضَّاح : وما الذي تكرهين منه؟
الملكة : لستُ أول من قلتَ فيها شعرًا! … كلما ذكرتَ «روضة» حبيبتك الأولى! …
«تنشد»:

«إني تهيجني إليـ

ـك حمامتان على فنن!»
وضَّاح : حسبك! … حسبك! … ما أحسن ذلك الشعر! … وما أسخف ذلك الحب! … إن للشاعر حبين … حبًّا لشعره، وحبًّا لقلبه! … حبًّا للتشبيب والغزل، وحبًّا للقدَر والأجل!
الملكة : وحبك لي؟!
وضَّاح : أقلت فيك شعرًا جيدًا؟!
الملكة : يوم رأيتني أول مرة، ورأيتك! … يوم خرجت إلى الحج، وقدمت مكة ومعي من الجواري ما لم يُرَ مثله حُسنًا!
وضَّاح : لم أرَ يومئذٍ غيرك! … وقعت عيني عليك، فهَوِيتك!
الملكة : ووقعت عيني عليك، فهَوِيتك!
وضَّاح : وكتب زوجك الوليد، يتوعَّد الشعراء جميعًا إن ذكرك أحد منهم، أو تصدَّى لك أهل الشعر والغزل.
الملكة : نعم! … جَبُنوا جميعًا وخشوا الخليفة سواك … فقد قلت.
وضَّاح : ماذا قلت؟
الملكة (تنشد) :
قُرَشية، كالشمس أشـ

ـرق نورُها ببهائها
زادت على البِيض الحسا

ن بحسنها ونقائها
لم تلتفت لِلِدَاتها

ومضت على غَلْوَائها
وضَّاح : ما أردأ ذلك الشعر! … وما أرق ذلك الحب!
الملكة : ليتني أصدقك! … يُخيَّل إليَّ أنك تُحب فيَّ بهاء الملكة … ويبهرك مني ضوء المُلك!
وضَّاح : وإني ليُخيَّل إليَّ أنك تحبين فيَّ أوهام الشاعر، وتفتنك أطوار الشاعرية!
الملكة : هيهات أن تقدر على تبديد الظنون!
وضَّاح : أتعذِّبك الظنون؟
الملكة : نعم!
وضَّاح : مثلي؟
الملكة : يُسعدني أنك تشقى مثلما أشقى!
وضَّاح : ما أعجب الحب! … يُخرج لنا سعادةً من الشقاء … وشقاءً من السعادة! … إني منذ عرفتك، ووقعت عينك في قلبي، كأنها شمس؛ طلع في سماء ذلك القلب «قوس قزح» يسطع بألوان من: فرح، وحزن، وأمل، ويأس، ورغبة، ورهبة!
الملكة : فيمَ تحدِّق هكذا؟
وضَّاح : في هذا الصندوق! … إنه مثل قلب محب ساطع بالألوان!
الملكة : إنه مثل قلبي!
وضاح : لا أنسى يوم خفت من صوت قادم، فواريتني فيه، وأقفلت عليَّ!
الملكة : إني أُداريك دائمًا فيه، وأقفل عليك!
وضَّاح : خُيِّل إليَّ أنه قبر أُدفن فيه حيًّا! … ولا خروج لي منه!
الملكة : لقد وضعتك في أعز مكان!
وضَّاح : أهو عندك كذلك؟
الملكة : إني فيه أُخفي أبهى كنوزي!
وضَّاح : لمَّا دخلته أول مرة لم أجد فيه كنزًا.
الملكة : لم تجد فيه سواك؟!
وضاح : لم أجد فيه غيري!
الملكة : أليس هذا يكفي؟
وضَّاح : صندوق ملكة! … ما كنت أحسبك إلى هذا الحد فقيرة!
الملكة : ما كنت أحسبني بهذا القدر غنية … بعد أن ضمَّتك جدرانه!
وضَّاح : أيتها الملكة العظيمة! … لماذا يُحب مثلك مثلي؟!
الملكة : أتحسدني على هذه النعمة؟
وضَّاح : ماذا تُخبئ لي أيها القدر؟! … إنها لسعادة لا بد لها عندك من ثمن!
(يُطرق قليلًا)

الملكة : فيمَ هذا الإطراق؟!
وضَّاح : لو أَقبض عليَّ الموت الآن!
الملكة : لا تذكر الموت يا «وضَّاح»!
وضَّاح : شفتاك ترتجفان! … كأنهما ورقتا وردة أرعبهما همس ريح!
الملكة : إنك تُرعبني حقَّا … وأمامنا الدنيا في أعطافها الفرح.
وضَّاح : أمامنا فراق … فما في يد الدنيا أن تجمعنا أكثر ممَّا تجمعنا الآن!
الملكة : أهو يا «وضَّاح» تأنيب وعتاب؟!
وضَّاح : حاشاي أن أفعل … إني أعرَف منكِ بمكانك … كيف أمد كفي إلى الشمس، فأنتزعها من سمائها؛ لأمضي بها؟!
الملكة : نعم … يجب أن نقنع بما نحن فيه! … ولكن ثق أن من تحسبها شمسًا، ليست إلا جسمًا يحترق!
وضَّاح : إني في نورك أعيش، وفي لفحك أذوب، وبشعاعك أتطهَّر … وما لي بعد ذلك فيك من مطمع!
الملكة : فلنتجلَّد ولنصبر!
وضَّاح : إني في محراب حبك أتجلَّد وأتعبَّد!
(ضوضاء في الخارج وصوت «غاضرة» يصيح.)

غاضرة (من الخارج) : خادم الخليفة! … رويدك! … رويدك!
الملكة : أسرع يا «وضَّاح» إلى الصندوق! … إلى الصندوق!
(ويهب «وضَّاح» إلى الصندوق فيدخله … وما تكاد تهم بإغلاقه عليه حتى يُفتح الباب … ويبرز خادم الخليفة ومن خلفه «غاضرة» تجذبه وتدفعه عن الباب.)

الخادم (وعينه إلى الصندوق) : إني … ما أردت أن أدخل مفاجأة … ولكني فرح بالبُشرى التي أزفها إلى مولاتي … دعيني أيتها الجارية!
الملكة (تلتفت إليه) : دعيه يا «غاضرة»! … ما هي ذي البشرى؟
الخادم : جوهر له قيمة، أُهديَ للخليفة، فبعث به معي إليك، وأمرني أن أقول لك: إن هذا الجوهر أعجبه، فآثرك به … ها هو ذا!
الملكة (تتناوله وتتأمله) : ما أحسنه! … شكرا للخليفة!
الخادم : مولاتي!
الملكة : امضِ لمولاك، وبلِّغه شكري وحمدي!
الخادم : إني …
الملكة : ما بالك لا تمضي؟
الخادم : مولاتي … هبيني منه حجرًا!
الملكة : ماذا دهاك أيها الغلام؟
غاضرة (وهي تجذب الخادم بعنف إلى الخارج) : هلمَّ قبحك ****!
(تخرج «غاضرة» بالخادم، وتُغلق خلفها الباب.)

الملكة (تسرع إلى الصندوق فتفتحه) : اخرج يا «وضَّاح»!
وضَّاح (يخرج من الصندوق) : ألك في هذا الخادم ثقة؟
الملكة : لماذا تسألني هذا السؤال!
وضَّاح : بدا لي أنه لمحني وأنت تخبئينني!
الملكة : لم أرَ ذلك … إنه ولا ريب وهم من أوهامك!
وضَّاح : ربما … ألَا تُرينني الجوهر الذي أُهديَ لك؟
الملكة (تبسط له كفها بالجوهر) : ما يعنيك أنت من هذا الجوهر؟!
وضَّاح (ينظر فيه) : ما أحسنه حقًّا وما أبدعه! … لقد آثرك به … كلفًا بك … ما أثمنها عطية، وما أجمل حبه لك!
الملكة : إنه جوهر لا يضيء إلا في الحاضر، وفي قصيدك أيها الشاعر من الجواهر، ما يضيء في الأجيال!
وضَّاح (يتأمل الجوهر) : انظري إلى أشعته وبريقه … لكأنه قطعة لهب!
الملكة : قطعة لهب تُعوِزها الحرارة!
وضَّاح : يدهشني أنك لا تُحسين منها الدفء!
الملكة : ما من حرارة عندي تعدل حرارة الكلمات!
وضَّاح : إن الحب الذي لا يتكلَّم يبعث ****ًا فصيح اللسان!
الملكة : أين هو؟
وضَّاح : تأملي وهج الجوهر … ثلاثة ألسنة تندلع منه … ذات ألون حمراء وصفراء وزرقاء! … الأحمر يقول: أحب … والأصفر يقول: أغار! … والأزرق يقول: حذار.
الملكة : ما من لسان غير لسانك! … إنك تُنطق هذا الحجر!
وضَّاح : بل إني لأصغي إليه!
الملكة : أصغِ إليَّ أنا يا «وضَّاح»! … ألقِ الجوهر من يدك، وحادثني أنا!
وضاح (يرد إليها الجوهر) : ضعيه في هذا الصندوق!
الملكة : كلا! … لن أضعه في مكان توضع أنت فيه! … سأجعله تحت هذه الوسادة! (تدسه تحت إحدى الوسائد.)
وضَّاح : تكتمين صوته … وتُخرسين ألسنته!
الملكة : لا يصل إلى قلبي إلا صوتك أنت!
وضاح : يا لهذه البئر التي يرن فيها صوت حصاة زهيدة ولا يرن صوت حجر كريم!
الملكة : ليست زهيدةً تلك الحصاة، إذا كانت من السماء نزلت!
وضَّاح : صه! … أيتها الملكة … هل سمعت؟!
الملكة (تُرهف الأذن) : ماذا؟
وضَّاح : خُيِّل إليَّ أني سمعت صوتًا من السماء يناديني!
الملكة : ما الذي قال لك؟
وضَّاح : لم أتبيَّن قوله الآن … ربما استبان لي ذلك بعد حين!
الملكة : لعله وحي!
وضَّاح : إن وحيي لا ينزل عليَّ اليوم إلا من سمائك أنت!
الملكة : لعله بشير خير!
وضَّاح (هامسًا كالمُخاطب نفسه) : لست أدري … إني خائف!
الملكة : ما أكثر اليوم وساوسك!
وضَّاح : لو أذنت لي الساعة في الرحيل!
الملكة : ضقت بي سريعًا يا «وضاح» … ومَلِلت مجلسي!
وضَّاح : أهذا فهمك أنت، ينطق بهذي الكلمات؟!
الملكة : أيغضبك ذلك مني؟!
وضَّاح : ما الذي يحملك على أن تقولي ما لا تعتقدين؟!
الملكة : ابقَ إذن قليلًا، ولا تُسرع بالبعد عني!
وضَّاح «في رِعدة» : صه! … أسمعت الآن؟ … هذا صوت لغط يستبين!
الملكة (تُنصت) : إنها «غاضرة»!
(الباب يُطرَق ويُفتَح ويبرز رأس «غاضرة» فزعةً مرتاعة.)

غاضرة (قائلة بلهفة) : الخليفة قادم!
الملكة (تنهض إلى الصندوق) : هلمَّ يا «وضَّاح»! … كن هادئ الرَّوع، رابط الجأش … لن يطول مكثه ها هنا … إنها لحظة وينصرف!
(تغلق عليه الصندوق، وتسرع إلى وسائدها وتتشاغل بتمشيط شعرها … ولا تمضي هنيهة حتى يدخل الخليفة «الوليد بن عبد الملك».)

الوليد : كيف حال أم البنين؟
الملكة : على خير ما أتمنى.
الوليد : أتعرفين لمَ جئت بهذه العجلة؟
الملكة : لا.
الوليد : جئت أراه بين يديك.
الملكة : تراه؟!
الوليد : أين هو؟ … أين واريته؟!
الملكة : واريته؟!
الوليد (يبحث بعينيه في القاعة) : في مكان حريز ولا ريب … لا تقع عليه العيون!
الملكة : عمَّ تبحث هنا بهذه النظرات الشائعة؟!
الوليد : إذا صدقت فِراستي … فإنك قد وضعته في هذا الصندوق!
الملكة (تدنو برفق) : مهلًا يا مولاي! … لست أفهم من مرادك شيئًا!
الوليد (يداه على ذراعيها) : القشعريرة في بدنك!
الملكة : إنها من لمسات يديك القويتين!
الوليد (يرفع يديه عنها وينظر إليها) : أهما حقًّا بتلك القوة التي تتخيلين؟!
الملكة : ألست بهما تقبض على مُلك ضخم، وتُشيع الرِّعدة في قلوب شعوب!
الوليد : حسبتهما على كتفيك حمامتين على فنن!
الملكة (في رِجفة) : ماذا أسمع منك؟!
الوليد : تهتزين كغصن تهزه الريح!
الملكة : إني أعترف أنك تستطيع أن تعصف بي!
الوليد : يا له من اعتراف!
الملكة : تعلم من أمري كل شيء إذن؟
الوليد : ليس كل شيء! … ولكن …
الملكة : إذن قد هلكت!
الوليد : اعتراف آخر … ولكني أبغي دليلًا!
الملكة : ما أراك في حاجة إلى دليل!
الوليد : ما بال وجهكِ قد اصفر، كورقة غصن، هبَّت عليها ريح الخريف؟ … غير أن الشحوب يزيدك جمالًا!
الملكة : هذا الهدوء منك يزيدني عذابًا! … وَدِدت لو أنك انقضضت عليَّ، وأنشبت أظفارك في عنقي! … أسرع ولا تقف هكذا ترسل إليَّ هذه النظرات التي لا أدرك فيها سرًّا … ولا أسبر لها غورًا … افعل بي ما شئت! … ولكن بربك عجِّل! … لا تبسم هذه البسمات! … حطِّمني بيدك تحطيمًا! … واهدمني هدمًا، واجعلني بددًا أو عدمًا! … اصنع أيَّ شيء بي! … ولا تُطل انتظاري!
الوليد : يا له من انتصار بخس! … كلا! … لست أريد أن أكون إعصارًا يحطِّمك ويهدمك!
الملكة : ماذا تريد إذن؟
الوليد : وددت لو أنك قلت لي إن نفخةً من فمي تكفي لانهيارك!
الملكة : أقل من نفخة فمك يكفي لذلك!
الوليد : قبلة إذن؟!
الملكة (دَهِشة) : قبلة؟!
الوليد : آه! … لو أنكِ اعترفت لي مخلصةً صادقة أن قبلةً مني تستطيع حقًّا أن تعصف بك، وأن تهز قلبك!
الملكة (تتنفس الصُّعَداء) : أهذا كل الاعتراف الذي أردته مني؟!
الوليد : هنالك أمر كنت أود أن تبادريني به عند دخولي.
الملكة : أي أمر؟!
الوليد : ولكنك أسدلتِ على وجهك نقابًا، فلم أُطالع بعدُ فيه ما جئت أُطالع!
الملكة : إني سافرة كما ترى … ولك أن تطالع في وجهي ما شئت!
الوليد (يتناول وجهها ويتأمله) : صفحة بيضاء! … لا رضًا أرى فيها ولا فرحًا!
الملكة : أحر الشعور ما خفي!
الوليد : ما من شكٍّ عندي في أنك تُخفين عني شيئًا!
الملكة (مرتاعة) : أنا؟!
الوليد : حبكِ لي!
الملكة (تهدأ) : نعم!
الوليد : يا للنساء! … ما أبرعهن في الإخفاء!
الملكة (بقلق) : ماذا أُخفي عنك أيضًا؟
الوليد : تخفين حتى ما تعرفين أني عالِم بوجوده!
الملكة : عالِم بوجوده؟!
الوليد : هنا في هذا الصندوق! … إذا أصاب ظني … وهو قلَّما يطيش.
الملكة : دائمًا هذه الابتسامة! … هذه الابتسامة الرقيقة، كحد السيف!
الوليد : ما هذا البريق في عينيك؟ … أهو غضب أم خوف؟ … أم يأس أم بأس؟!
الملكة (كالمُخاطِبة نفسها) : افعل بي ما شئت … إني كفأرة في مخلب سنور!
الوليد : ماذا تقولين؟ … فيكِ اليومَ شيء مُغلق لا أتبيَّنه!
الملكة : وأنت أيضًا!
الوليد : إن موقفي لواضح … لقد جئت إليك لأراه! … أخرجيه لي لأراه.
الملكة (ناظرةً إليه بفزع) : أُخرجه لك لتراه؟
الوليد : نعم! … وأتأمَّله، وأنظر أهو حقًّا جدير أن تُعجَبي به وأن تحبيه؟!
الملكة : وإذا أبيت؟!
الوليد : أبحث عنه بنفسي، وأستخرجه!
الملكة : وإذا فعلت … فماذا أنت به صانع؟!
الوليد : يا للعجب! … أوَتخشين مني عليه؟!
الملكة : مولاي! … زوجي!
الوليد : ما هذه النبرات المتوسلة؟ … والنظرات المستعطفة؟!
الملكة : اقتلني قبل أن تمسَّه يدك!
الوليد : أثمين عندك هو بهذا القدر؟ … ما كذب ظني قط! … لقد أدركت أنه يقع من نفسك هذا الموقع! … وها أنت ذي قد جعلتِه سريعًا كنزك المفضل؛ خبَّأتِه عن العيون، كما يفعل البخيل بكنزه الذي ادَّخره طول دهره! … ولكن لا تخشَي شيئًا! … إنه هنا في هذا الصندوق! (يتجه إليه.)
الملكة (ترتمي على وسائدها مرتاعة هامسة) : رحمتك!
الوليد (يضع يده على غطاء الصندوق ليفتحه) : صندوق فاخر يليق به!
الملكة (تغطِّي رأسها وعينيها بوسادة كيلا ترى) : رباه!
الوليد (يلتفت إليها) : أين أنت؟ (يلمح الجوهر يبرق بجوارها وقد رفعت عنه الوسادة التي دسَّت فيها وجهها) ما أشد حماقتي! … كان ينبغي أن أُدرك أنه بجوارك، يكاد يلتصق بجلدك! … يا له من منظر نادر! … امرأة رشيقة ممدودة، لدنة، كأنها ثعبان يحرس كنزه!
الملكة (ترفع رأسها عن الوسادة) : ماذا تقول؟
الوليد : ها أنت ذي قد كشفت عنه بيدك! (يشير إلى الجوهر).
الملكة (ثائبة إلى رشدها) : نعم! … فهمت (تنقَض على الجوهر فتحضنه، كأنه حقيقة كنز تذود عنه).
الوليد : إني لمزهو أن أُهدي إليك شيئًا تحرصين عليه كل هذا الحرص!
الملكة : خفت أن تكون قد جئت تسترده … وأن يكون قد بدا لك أن تؤثر به غيري!
الوليد : من غيرك خليق بمثله؟ … إني الآن لأحار … أيُّكما أنقى ضوءًا، وأصفى نورًا! … ما عهدته من قبلُ بهذا التألق! … لكأني بك، وهو منك دانٍ، تُفيضين عليه بهاءً … إنه بدونك قمر لا شمس له.
الملكة (تنظر إليه هامسة) : لا شمس له!
الوليد : لماذا تصوِّبين إليَّ هذه النظرات؟
الملكة : أنا؟! … إني أُنقِّب عن كلمة حمد أهديها إليك!
الوليد : ما أسخاك! … أُهدي إليك جوهرًا، وتهدين إليَّ كلمة؟!
الملكة : أفي وسعي أن أُهدي إليك سوى ذلك؟!
الوليد : لديك صندوق فيه جوهر!
الملكة (مرتاعة) : أين؟
الوليد : إنه أقرب الأشياء إليك!
الملكة (تنظر إلى الصندوق من طرف خفي) : أين؟ … أين؟
الوليد (يشير إلى قلبها) : هنا بين جنبيك!
الملكة : أي جوهر في مثل هذا الصندوق؟!
الوليد : حبك!
الملكة (تُطرِق) : لو كان في مقدوري أن أنزعه من مكانه!
الوليد : إذا نُزع من مكانه فقد نُزعت عنك حياتك! … وليس هذا ما أريد … فليبقَ إذن في موضعه … ولن أمد إليه يدي! … ولن أحاول … حتى وإن صار في كفي أن أفتحه لأرى ما فيه!
الملكة : أتعتقد أن ليس فيه ما يرضيك؟
الوليد : أعتقد أن **** لم يدفن سوى قلوبنا في أعماق الصدور!
الملكة (تطيل إليه النظر) : لن تسألني إذن شيئًا؟
الوليد : إذا أردت أن تكوني كريمة، فإنك تستطيعين أن تُهدي إليَّ شيئًا ممَّا في حجرتك هذه!
الملكة : أأتخيَّر أنا لك الهدية؟!
الوليد : دعي لي الخيار!
الملكة : لك ما تريد إذن.
الوليد (يجول بعينيه في المكان ثم يقول) : أريد هذا الصندوق!
الملكة (مضطربة) : هذا الصندوق؟!
الوليد : نعم!
الملكة : ماذا يعجبك فيه؟ … إنه من رديء الخشب!
الوليد (يذهب إليه ويجسه ويفحصه ثم يجلس عليه) : حسبي أنه من الخارج بديع الطلاء، حَسَن الرواء! … ماذا يعنينا من البحر إذا طوى في جوفه الزوبعة، ما دام على وجهه الصفاء!
الملكة : ما أراها هديةً تليق بأمير المؤمنين! … عندي منديل نفيس من خَز، ووشي، وديباج!
الوليد : لقد اخترت هذا الصندوق!
الملكة : لديَّ صندوق آخر صغير من نضال!
الوليد : ما أريد غير هذا الذي اخترت!
الملكة : ماذا تصنع به؟
الوليد : هبيني إياه … وأنت تعرفين!
الملكة : لقد أنزلتُ، كما رأيتَ، هديتَك لي خير مكان!
الوليد : وسأُنزل أنا أيضًا، كما سترين، هديتَك لي خير مكان!
الملكة (مُطرِقة هامسة) : لك ما تريد!
الوليد (ينهض) : هذا الصندوق قد صار لي إذن … لي أن أُلقي فيه بما عندي من أشياء!
الملكة (شاردة هامسة) : نعم!
الوليد : أفارغ هو، أم لك فيه حوائج؟
الملكة (تتجلَّد) : يا أمير المؤمنين!
الوليد : سيان عندي … أتعرفين ما سأُلقي فيه؟
الملكة : لا!
الوليد : إذن فاسمعي! … لقد حمل إليَّ أحد الحكماء ذلك الجوهر الذي أُهدي لي، وآثرتك به، فلمَّا سألته عن حكمته قال: «أنتَ كالبحر أيها الملك وأعقل من البحر! … إذا أردت لنفسك الصفاء الدائم، فانزع منها كامن الزوابع، وألقِ بها في صندوق! … واطرحه بعدئذٍ في قرار سحيق تعِش حياتك بَاسِم الثغر … لك العمق، وفي جوفك اللؤلؤ، ولا يعرف صدرك سحب البحر!
الملكة : أين تطرحه؟
الوليد : لقد اخترته بهذا الحجم ليسع ما أضع فيه!
الملكة : أين تطرحه؟
الوليد : ستعلمين الآن.
(يتجه إلى الباب.)

الملكة (بلهفة) : أتذهب؟
الوليد : كلا … كلا … بل أدعو خدمي (يفتح الباب وينادي): إليَّ يا رجالي!
الملكة (تتجلَّد هامسة) : اللهم صبرا!
الوليد (يعود إلى الصندوق) : أيها الصندوق! … ما أدري و**** أفارغ أنت أم ملآن؟ … ولكني ألقي فيك بكل ما بنفسي … إلى آخر الزمان!
(العبيد يدخلون ويصطفون ويتقدَّم من بينهم خادم.)

الخادم : لبيك يا أمير المؤمنين!
الوليد : احملوا هذا الصندوق دون أن تفتحوه، وإلا وجأْت أعناقكم! … احملوه إلى خير مكان عندي … أتعرفون ما خير مكان عندي؟ … هو مجلسي الذي يقوم فيه عرش الملك … اذهبوا به إليه … ونحو البساط حيث أجلس … واحفروا إلى الماء … وضعوا هذا الصندوق في الحفرة … وأهيلوا عليه التراب … وسَوُّوا الأرض ورُدوا البساط إلى حاله لأجلس عليه بعدئذٍ كما يجلس البحر على دفين ماله!
(الملكة ممتقعة اللون، تضع طرف غِلالتها في فمها لتكتم صرخة الفزع … بينما يذهب الرجال إلى الصندوق ويحملونه كما يُحمَل النعش، خارجين به على أنغام موسيقى خفية … ويخيِّم صمت إلى أن يخرج العبيد بحِملهم، تاركين «الوليد» وزوجته منفردَين.)

الوليد (بعد لحظة) : يا أم البنين! … ألك في أن نلعب النرد؟!
الملكة : مشيئتك يا أمير المؤمنين!
الوليد : أعلم أن هذا يسرك!
الملكة : نعم!
الوليد : أحضريه من مكانه وضعيه على هذا الفرش … ولأخلع نعلي!
(تأتي الملكة بالنرد من أحد أركان الحجرة ويجلس «الوليد» على الفرش، ويخلع نعليه وتضع الملكة النرد بين يديه وتجلس أمامه.)

الملكة : أأدعو القِيان يجلسن ويغنين؟!
الوليد : حسبي الآن صوتك!
الملكة : ابدأ اللعب!
الوليد (أثناء اللعب) : أعلمت أني أُلاعب ابننا «عبد العزيز» فأغلبه؟!
الملكة : ما شككت قط في ذلك!
الوليد : إني أرى كل شيء في وجهه والنزال محتدم!
الملكة : أمَّا وجهك … فإني ما رأيت فيه قط أثرًا لشيء!
الوليد : ولن تري حتى يفرِّق بيننا الموت!
الملكة : إنك لبارع!
الوليد : أنت أيضًا … ما لاعبتك قط إلا غلبتك مرة، وغلبتِني أخرى.
الملكة : ما أذكر أني غلبتك!
الوليد : ما أشد تواضعك! … إنَّا في البراعة متكافئان!.
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

مواضيع متشابهه

أعلى أسفل