• سجل عضوية لنشر مواضيع ومشاركات ومحادثة الأعضاء بدون إزعاج الإعلانات

مكتملة ميلاد بطل - توفيق الحكيم (1 مشاهد)

ابيقور

ميلفاوي أبلودر
العضوية الفضية
ميلفاوي معلم
عضو
ناشر قصص
ميلفاوي نشيط
إنضم
21 سبتمبر 2023
المشاركات
563
مستوى التفاعل
310
نقاط
620
النوع
ذكر
الميول
طبيعي

المنظر الأول​

(مستشفًى عسكري في القاهرة … ضابط شاب على سرير وقد رُبطت ذراعه اليسرى برباط صحي … وعلى مقربة منه إحدى المتطوعات تقوم بتمريضه.)

الضابط : لماذا تضعين على رأسي ثلجًا؟
الممرضة : لأن حرارتك مرتفعة.
الضابط : هذا صحيح … ولكنك أخطأت المكان … كان يجب أن تضعي الثلج ها هنا (يشير إلى قلبه).
الممرضة : المغازلة ممنوعة من فضلك.
الضابط : المغازلة؟ … مع مَن؟
الممرضة : مع المتطوعات.
الضابط : تقصدين حضرتك؟ … أأنا غازلت حضرتك؟
الممرضة : ألم تُشِر إلى قلبك وحرارته؟
الضابط : يا للنساء! … أوَلا يمكن أن يكون في قلب رجل حرارة غير حرارة حبكن؟!
الممرضة (باسمة) : نتمنَّى ذلك.
الضابط : كلا … أنتن لا تتمنين ذلك أبدًا … أما أنا فباعتباري رجلًا قادمًا من الميدان فإني أؤكد لك أن في قلبي دخانًا ولهبًا … لعل أثرًا لهما في عيني.
الممرضة : أرى اللهب، ولكني لست أرى الدخان.
الضابط : ثقي أنه ليس لهب الحُمى، إنه لهب المدفع!
الممرضة : أعرف أنك بطل … وأنك قمت باقتحام كثير من الحصون.
الضابط : أقالوا لك إني بطل؟
الممرضة : نعم … كلهم هنا يقولون ذلك … إني فخورة بتمريضك!
الضابط (باسمًا) : المغازلة ممنوعة من فضلك!
الممرضة : لست أفخر بشخصك … بل بعملك في الحرب.
الضابط (بأسف) : لماذا هذا التحديد والتفريق؟ … إذا أردت أنا أيضًا أن أُعجب بك، فهل تظنين أني مستطيع طرح شخصك من الحساب؟
الممرضة : ألم تُحِس بعدُ أن أشخاصنا أصبحت اليوم تافهةً بالقياس إلى العمل الذي نؤديه من أجل الوطن؟
الضابط : لست أعرف الآن ما أحس … لا تسأليني عن مشاعري … إنها أعقد من أن أفهمها لأول وهلة … يُخيَّل إليَّ أن شيئًا في نفسي قد تغير … شيئًا لا أتبينه … ولا أدري بعدُ كيف أصفه … لن تفهمي بالضبط ما أقصد … لا بد أن أبسط لك طرفًا من حياتي السابقة؛ ليبدو لك هذا الكلام واضحًا.
الممرضة : كلامك واضح لي … لإني أحس عين إحساسك.
الضابط (دهِشًا) : كيف ذلك؟ … فسِّري لي إذن.
الممرضة : لا … ليس الآن … لقد تركتك تتكلم أكثر ممَّا ينبغي … ليس من الحكمة أن تبذل مجهودًا وأنت لم تستكمل بعدُ الشفاء … سأدعك لحظةً لتستريح، وتستغرق في الهدوء … ومن الخير أن تنام قليلًا.
الضابط : لا … لا أريد أن أنام.
الممرضة : إذن … لا تتكلم … أصغِ إلى الراديو، إذا شئت.
(تفتح جهازًا صغيرًا للراديو قرب سريره … فيسمع صوت المذيع يقول: «تسمعون الآن أغنية: الحب كله أنين».)

الضابط : ما أحسن حظي! … هذه أغنية طالما أحببتها.
الممرضة : مثلي إذن … إنها أغنيتي المفضلة.
(يصغيان إليها صامتَين.)

الضابط (بعد برهة) : ما هذا؟ إنها ليست هي … أواثقة أنت أنها هي؟
الممرضة : هي بعينها.
الضابط : لم يكن فيها هذه التأوهات السخيفة ولا هذه المعاني الضعيفة.
الممرضة : أوَتظن إدارة الإذاعة قد وضعت فيها هذه التعديلات أخيرًا؟
الضابط : لا بالطبع … ولكن فيها مع ذلك شيئًا قد … تغيَّر.
الممرضة : ليست هي التي تغيرت.
الضابط : إذا لم يكن في طلبي إزعاج لك، فإني أرجو منك أن تغلقي الراديو.
الممرضة (وهي تضغط على مفتاح الجهاز وتغلقه) : حسنًا فعلت … أنا أيضًا أفضِّل لك جو الصمت.
الضابط : لا تنتهزي الفرصة كي تتركيني وتنصرفي … لا أريد أن أنام، لا أريد أن أنام … لقد نمت طويلًا.
الممرضة : سأقيس درجة حرارتك … فإذا كانت معتدلة، فإني أسمح لك بالحديث لحظةً أخرى … موافق؟
الضابط : موافق … ومع ذلك، ثقي أني بخير … وإلا ما شعرت بهذه اليقظة ولا بهذا النشاط … أريد أن أنهض قليلًا.
الممرضة : مهلًا … مهلًا … حذارِ أن تصدم ذراعك الجريح … دعني أُسند ظهرك إلى الوسادة.
الضابط (يتأمل ذراعه المربوطة) : عجبًا! … ما هذا المشبك البديع؟ … إنه من ذهب فيما أعتقد … غاية في سلامة الذوق ودقة الصناعة! … لن يستطيع أحد أن يقنعني بأنه من أدوات المستشفى.
الممرضة : هو مشبكي … لم أجد غيره أُحكِم به رباطك الذي فُك وأنت نائم.
الضابط : لن يُفك الرباط بعد اليوم ما دمتِ قد شبكتِني بمشبكك!
الممرضة (وهي تُخرج مقياس الحرارة) : أتنوي الاحتفاظ به؟
الضابط : إلى آخر لحظة في حياتي.
الممرضة (باسمة) : بلا ثمن؟
الضابط : ماذا تطلبين فيه من ثمن؟
الممرضة : لست أدري … إني أمزح. خذه مني هديةً إذا راق لك. إنه زهيد القيمة.
الضابط : لا شيء منك زهيد القيمة … إني أقدِّر له ثمنًا مرتفعًا … سأحاول الوفاء به فيما بعد!
الممرضة (وهي تضع في فمه المقياس) : عندما تهبط حرارتك سيهبط ذلك الثمن المرتفع … لا تفكر الآن في تقدير شيء!
الضابط (يهز رأسه) : كلا … كلا …
الممرضة : لا تهز رأسك هكذا ومقياس الحرارة في فمك! … أصغ إليَّ دون حراك … أتراني مخطئة؟ … أرجو أن أكون كذلك، بل إني لمخطئة … ها أنا ذا ألمح في عينيك الساعةَ بريقًا، ليس من السهل أن ينطفئ … ما بي حاجة إلى أن أتلقَّى منك جوابًا على أسئلتي … إني أقرأ كل شيء … لا على صفحة نفسك بل على صفحة نفسي أنا … أردت أن تكشف لي عن ماضي حياتك؛ لتفسر لي ما اعتراك من تغيير … يكفيني أن أستعرض حياتي أنا كي أفهم … ألم يخطر لك أن تتساءل: «لماذا أنا هنا بجوارك أنا الفتاة المصرية التي ما عرفت قط يومًا غير التافه من المشاعر؟! … هذه الأغنية التي كانت تملأ حياتنا: «الحب كله أنين.» أتصدِّق أنها كانت تُبكيني الليالي الطوال؟ … ما حدث لي اليوم حتى أسمعها فلا تهتز مني شعرة؟ لا تحسب الدموع قد نضبت من عيني … إني أسكبها في بعض الأحيان مدرارًا، لا حزنًا بل فرحًا … إنها تتساقط مع البسمات كالمطر في شروق الشمس … كلما وُلد لنا في ميدان الشرف بطل (تتناول من فمه المقياس وتنظر فيه) صدقت … إنك بخير … أستطيع الآن أن أُنحِّي عن رأسك هذا الثلج.
الضابط : أيتها … الآنسة!
الممرضة (تلتفت إليه) : ماذا بك؟ … لماذا تنظر إليَّ هكذا؟
الضابط : إنك … تخيفينني.
الممرضة : أخيفك؟
الضابط : نعم … كلما ذكرت هذه الكلمة.
الممرضة : أي كلمة؟!
الضابط : أود لو أعلم منك شيئًا … أتعدينني أن تصارحيني القول؟
الممرضة : أعدك … ماذا تريد أن تعلم؟
الضابط : مَن هو «البطل»؟ … إني لم أرَه قط … أتمنى لو أراه مرة.
الممرضة : تريد أن ترى بطلًا؟!
الضابط : نعم.
الممرضة : لا شيء أيسر من ذلك … لحظة واحدة من فضلك … وأنا أقدِّمه إليك (تأتي بحقيبة يدها وتفتحها).
الضابط : عجبًا! … أهو في هذه الحقيبة؟!
الممرضة (تُخرج من حقيبتها مرآةً صغيرة تُدنيها من وجهه) : انظر في هذه المرآة وأنت تراه!
الضابط : آه … لا تمزحي! (يقصي عنه المرآة) إنك تجرحين شعوري بهذا القول … ثقي أني لا أتواضع عندما أؤكد لك أني لم أرَ ذلك الذي ترين … لا أود أن تظنيني رجلًا مجردًا عن حب الزهو … على النقيض … لطالما شعرت أني بطل العالم كله يوم كنت متفوقًا في لعبة كرة القدم. كنت أصيب الهدف بقدمي، وأسمع هتاف الجماهير فأعتقد أن تلك القدم ليست من لحم وعظم … إنها من ذهب إبريز … وكنت أسير بها مختالًا فوق الأفاريز … فيُخيَّل إليَّ أن عيون الحب والإعجاب تتبعها وتكلؤها وترعاها، كما لو كانت ذخرًا قوميًّا لا يُقدَّر بمال … اليوم أمشي بهذه القدم بين الألغام … وأقتحم بها الحصون، تحت وابل النيران، فما شعرت قط لحظةً أنها قدم بطل! … نعم، صدقيني أنك لا تعرفين جو المعركة أيتها الآنسة! … ولا تدركين تلك اللحظات التي ينسى فيها الجندي الفَرق بين الجد واللعب … هناك حيث ينزل إلى ميدان واسع غامض، وبين قدميه مصيره كأنه كرة … لا يطرق سمعَه تصفيق الناس ولا هتاف الجماهير … لا تخطر في باله فكرة البطولة … فهو مشغول عنها وعن غيرها من الأفكار! … إنه يفكِّر في مواجهة الموت كما لو كان يواجه امرأةً خطرة الحسن، بقلب يتأجَّج نارًا … بل إنه لا يفكر على الإطلاق … إنما الذي يفكِّر هو سلاحه الذي في يده … عندما نتلقَّى الأمر بالهجوم، نشعر كأنه مركز التفكير فينا قد انتقل من الرأس إلى المسدس … لكأنه يعرف بغريزة مجهولة ماذا يصنع وماذا ينبغي أن يصنع؟ … وإنا لندعه يقودنا في خِضَم الخطر، دون أن نُتيح له من حب السلامة مقاومًا ينطلق معه، ولا نفكِّر عندئذٍ فيما سوف يحدث … لهذا أغضب عليك، وأخاف منك، كلما وصفتني بشيء ما رأيتِه في نفسي اليوم قط!
الممرضة : ليس من الضروري أن ترى أنت … يكفي أن نرى نحن.
الضابط : أوَاثقة أنت أنك لست مخدوعة؟
الممرضة : اطمئن! … لست أنا التي يسهُل الآن خداعها!
الضابط : من يدري؟ ربما كان هذا أيضًا نوعًا من التمريض. هذه المبالغة والمغالاة وهذا التشجيع والتضخيم! ولكنك لا تعرفينني! … إني شاب صريح، أحب الصدق … وإنك لتحملينني بتمريضك الروحي هذا على السخرية منك ومن نفسي! … أقسم لك أن لا شيء يريحني حقًّا غير الوضع الصحيح للأشياء … لا أقبل مطلقًا أن أُحاط بإطار مسرحي من الثناء أيتها الآنسة! … حذارِ من سخطي ومن احتقاري! … أنا الذي كاد يعتقد أن الحرب خلقت مني ومنك ومن أمثالنا جيلًا آخر، يجري في دمائه شعور جديد … عندما قلت لك إني قد تغيَّرت، ما قصدت أني قد صرت بطلًا في نظر نفسي! … «بطل»! … إني أمنعك من ذكر هذه الكلمة لي أو نسبتها إليَّ … إنك لا تدركين مبلغ ما فيها لي من إيذاء!
الممرضة : إيذاء؟ … لك أنت؟ … أيقوم في رُوعك أني أوذيك بهذه الكلمة.
الضابط : إنها نوع من الصدقة لا أقبله!
الممرضة : صدقة! … أرجوك … لا تقل ذلك.
الضابط : هدية … إذا شئت … رداء مُوشًّى خاطف البريق … لا أجرؤ أن أرتديه وأمشي به في الطريق … دون أن يعتريني الخجل، وأتصور الناس تتبعني بأنظارها قائلة هامسة: يا له من ادعاء!
الممرضة : ما خطر لي ببال أن أقدِّم إليك هدية! … حتى ولا هذا المشبك الذهبي الصغير … أنت الذي أردت الاحتفاظ به … وأرجو من فضلك أن ترده إليَّ في يوم من الأيام.
الضابط : سأرده … في يوم من الأيام.
الممرضة : نم الآن … قبل أن تصيبك نكسة من كثرة الكلام … إني ذاهبة.
الضابط (بشيء من العنف) : قلت لك لن أنام!
الممرضة (ببعض العنف) : آمرك أن تستريح، وأن تغمض عينيك، وأن تكف عن كل ما يُنهك قواك.
الضابط : لست أتلقَّى منك أمرًا.
الممرضة : إذا كنت في الميدان مكلَّفًا بطاعة قُوادك ورؤسائك، فأنت هنا في المستشفى مُكلَّف بطاعة أطبائك وممرضيك.
الضابط : في مقدوري أن أطيع أمرًا بالهجوم … ولكني لا أستطيع أن أطيع أمرًا بالنوم.
الممرضة : وأنا لا أستطيع أن أتحمَّل تبعة عصيانك! (تتحرك للانصراف).
الضابط (يلطِّف فجأةً من لهجته) : أتذهبين؟
الممرضة : سأنصرف إلى غيرك من الجنود … أوَتحسبني منقطعةً لتمريضك وحدك؟
الضابط : أصبت … اذهبي إليهم … ولكني …
الممرضة : ماذا؟
الضابط : سأنتظر عودتك!
الممرضة : شفاؤك قريب … وستخرج من هنا بعد أيام.
الضابط : أعرف أن فراقنا قريب … ولهذا … (يرمقها صامتًا).
الممرضة : لماذا تنظر هكذا إليَّ؟
الضابط : لا شيء … اذهبي … ها أنا ذا أطيعك وأغمض عيني!
الممرضة : نعم … نم الآن قليلًا … بغير أحلام!
الضابط (وهو يُغمض عينيه) : صورة واحدة ستلازمني في النوم واليقظة … إلى آخر لحظة!
(ستار)

المنظر الثاني​

(في ميدان القتال … «الضابط» وهو قائد الفصيلة الأولى المرابِطة في الخط الأمامي يتحدَّث همسًا إلى قائد السرية وقد جاء يتفقَّد الحالة قبل الهجوم على حصن الأعداء … وقد كاد ينتصف الليل … وقصف المدافع المصرية يهز الأرجاء.)

قائد السرية (ينظر في ساعته) : بعد سبع دقائق تتوقَّف بطارياتنا عن الضرب.
الضابط : نعم … لقد فرغَت من مهمتها … وبقي علينا نحن القيام بالباقي.
قائد السرية : يجب أن تعلم أن مهمتك خطرة!
الضابط : ليست أخطر من مهمة غيرنا.
قائد السرية : أظن أنها أخطر … لا تنسَ أن عليك أن تتقدَّم على رأس دوريتك المقاتلة؛ لتفتح ثغرةً في الأسلاك الشائكة حول هذا الحصن المنيع!
الضابط : معنا قصافات الأسلاك.
قائد السرية : أمامك حقل من الألغام، مغطًّى بنيران العدو.
الضابط : معنا مجسَّات الألغام.
قائد السرية : صدرك قد يتلقَّى رصاصة القناصة الغادرين.
الضابط : فليرَوا صدري … ولكني سأعرف كيف أرى ظهورهم!
قائد السرية : كل شيء إذن على ما يرام.
الضابط : نعم … اعتمد على فصيلتي، وعُد مطمئنًّا إلى موقعك.
قائد السرية : ما كنت أظن أني سأراك هنا بهذه السرعة! … ولا أدري كيف عدت إلينا هكذا على عجَل بعد خروجك من المستشفى.
الضابط : لا تذكِّرني الآن بالمستشفى.
قائد السرية : أكان جرحك أليمًا؟
الضابط (يشير إلى جهة الحصن) : انظر … انظر … لقد أطاحت قنبلة المدفع ببرج الحصن!
قائد السرية (ينظر بمنظاره) : نعم … يا له من عمل رائع لمدفعيتنا!
الضابط : الدخان يرتفع من أرجاء الحصن … أنبدأ زحفنا؟
قائد السرية (ينظر في ساعته) : انتظر لحظة … إن الدقائق السبع لم تنقضِ بعد … أخبرني … إنك لم تحدثني.
الضابط : عن ماذا؟
قائد السرية : عمَّا رأيت وسمعت في القاهرة أثناء مدة علاجك.
الضابط : آه … لقد رأيت.
قائد السرية : إني مصغٍ.
الضابط : لا شيء.
قائد السرية : ما لصوتك قد تهدَّج؟
الضابط : كم الساعة الآن؟
قائد السرية : إذا صدَقت فراستي فإنك قد قابلت هناك شخصًا عزيزًا.
الضابط : الأمر لا يحتاج إلى فراسة … كلنا لنا هناك شخص عزيز … ولكن …
قائد السرية : ولكن ماذا؟
الضابط : أهذا مكان وزمان نتحدث فيهما عن ذلك.
قائد السرية : إنه خير موضع وظرف نستأنس فيهما بالصور الموضوعة في قلوبنا.
الضابط : قلوبنا! … عجيب ذلك الذي حدث لهذه القلوب … لقلبي أنا على الأقل … لكأنه هو أيضًا قد تحوَّل إلى ميدان حرب … طغى فيه هدير المدافع على الهمسات والبسمات … ولكن سجع اليمام يُسمِع أحيانًا رقيقَ النغم حلو الهديل بين طيات الرعد القاصف … صدقت … هنالك صورة، وهنالك صوت … لا بد أن نحملهما معنا في أخطر المواقف وأحرج اللحظات.
قائد السرية (يحدِّق في صدر الضابط) : ما هذا الشيء الذي يبرق في صدرك؟
الضابط : هذا … مشبك ذهبي.
قائد السرية (باسمًا) : يا لها من أناقة جديرة بعاشق يسير في حديقة أزهار، لا في حقل ألغام!
الضابط : لست أجد الآن فرقًا كبيرًا بين الحديقتين … لكل من الزهر تحت الخمائل، واللغم تحت الأسلاك، مقص ومجس!
قائد السرية : أنت أيضًا تنتابك هذه الأفكار؟
الضابط : أي أفكار؟
قائد السرية : خُيِّل إليَّ أني وحدي الذي اكتشف حقيقتنا المدفونة ككنز، التي كنا نجهل وجودها في أنفسنا … إني لم أعد بعدُ إلى القاهرة … منذ بدء المعارك … ولكن إذا قُدِّر لي عمر وعودة إلى الوطن، فإني على ثقة من أني سأكون رجلًا جديدًا … لذلك سألتك الساعة عمَّا رأيت هناك … هل نحن وحدنا الذين تغيرنا … أو أن أهل بلادنا حدث لهم كذلك مثل الذي حدث لنا؟
الضابط (يشير إلى الحصن) : انظر … ما هذا؟ … أحقٌّ ما أرى أم هو سراب؟
قائد السرية (يمسك بمنظاره) : ماذا؟
الضابط : هذه الرايات البيضاء التي تُرفع فوق الحصن؟!
قائد السرية (يرى بمنظاره) : نعم … نعم … حقًّا … إنها رايات التسليم!
الضابط : إذن … فلنقتحم الحصن في الحال.
قائد السرية : مهلًا … يجب أولًا أن نُخبر مركز القيادة الرئيسي (يسرع إلى تليفون الميدان ويخاطب القيادة) رُفعت رايات التسليم فوق الحصن … أفندم؟ … يُحتمل أن تكون خدعة؟ … نرسل الفصيلة الأولى؟
الضابط : فصيلتي.
قائد السرية (وهو يترك جهاز التليفون) : نعم … ولكن يجب أن تكونوا على حذر … فهؤلاء الأعداء غادرون … وقد يكون التسليم خدعة لاجتذاب عدد كبير من جنودنا … حتى إذا اقتربوا من العدو، فتح عليهم النيران.
الضابط : لن يذهب أحد من جنودنا.
قائد السرية : ومن يذهب ليتلقَّى التسليم!
الضابط : أنا … بمفردي.
قائد السرية : وإذا كان في الأمر غدر، وأطلق عليك قناصتهم الرصاص.
الضابط : لن يظفروا عندئذٍ بغير قتيل واحد!
قائد السرية : لا … لن أفرِّط فيك أنت … فليذهب.
الضابط : لا تبحث عن أحد غيري … أنا قائد الفصيلة الأولى … ولن أعرِّض أحدًا من رجال فصيلتي … سأذهب وحدي.
قائد السرية : لن أُصدر إليك هذا الأمر.
الضابط : لقد صدرَت إليك تعليمات القيادة بتحرُّك الفصيلة الأولى … فصيلتي … وليس لك أن تخالِف أوامر القيادة.
قائد السرية : هذا صحيح … فلتذهب إذن فصيلتك.
الضابط : أنا حر إذن في اختيار من يذهب معي منها … فأنا قائدها … وقد اخترت نفسي.
قائد السرية : إذا صدقت فِراستي فأنت مقتول.
الضابط : يسرني أن أضع فِراستك هذه المرة موضع الامتحان … خذ هذا.
قائد السرية (يتلقَّى من يد الضابط شيئًا نزعه من صدره) : مشبكك الذهبي؟
الضابط : إنه ليس لي … إنه لممرضة متطوعة في المستشفى العسكري بالقاهرة … إذا قُتلت أنا … وعدتَ أنت إلى الوطن سالمًا … فاذهب وابحث عنها … ورُد هذا المشبك إليها.
قائد السرية : ما اسمها؟
الضابط : لست أدري … إني ما سألتها قط عن اسمها … ولكني واثق أنك ستجدها … قل لها: لقد كان وعدك أن يرد إليك هذا المشبك في يوم من الأيام … وقد برَّ بوعده … أمَّا الثمن المرتفع الذي قدَّره في نظير الاحتفاظ به هذه اللحظات، فإنه لم يستطع أن يدفع أكثر من … حياته … إلى اللقاء أو وداعًا.
(يقفز الضابط إلى سيارة صغيرة ويمضي إلى الحصن)

قائد السرية : اذهب في حفظ ****.
(يرفع قائد السرية منظاره إلى عينيه ويتبع الضابط)

الضابط (صائحًا) : إذا أطلقت لكم وهجًا من مسدسي فهي إشارة إلى أن التسليم صادق.
قائد السرية (للجنود) : اصطفوا وارقبوا الإشارة … ها هو ذا قائدكم يذهب بمفرده (يتبعه بمنظاره) إنه الآن يقترب من أسلاك الحصن … آه … يا للجبناء! … يا للأنذال! (صائحًا) إنهم يُنزلون الرايات البيضاء … لقد سحبوا التسليم … ما هذا؟ … ما هذا؟ … صوت طلقات مدفع رشاش … قتلوه … لقد قتلوه … قتلوه … مات الرجل.
الجنود (بغيظ وتأثر) : مات الضابط!
قائد السرية (بجلَد وفي عينَيه دمعة) : ولكن … وُلد البطل!
(ستار)
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

مواضيع متشابهه المنتدى التاريخ
جدو سامى 🕊️ 𓁈 قصص غير جنسية 1 55

مواضيع متشابهه

أعلى أسفل