المنظر الأول
(مستشفًى عسكري في القاهرة … ضابط شاب على سرير وقد رُبطت ذراعه اليسرى برباط صحي … وعلى مقربة منه إحدى المتطوعات تقوم بتمريضه.)الضابط : لماذا تضعين على رأسي ثلجًا؟
الممرضة : لأن حرارتك مرتفعة.
الضابط : هذا صحيح … ولكنك أخطأت المكان … كان يجب أن تضعي الثلج ها هنا (يشير إلى قلبه).
الممرضة : المغازلة ممنوعة من فضلك.
الضابط : المغازلة؟ … مع مَن؟
الممرضة : مع المتطوعات.
الضابط : تقصدين حضرتك؟ … أأنا غازلت حضرتك؟
الممرضة : ألم تُشِر إلى قلبك وحرارته؟
الضابط : يا للنساء! … أوَلا يمكن أن يكون في قلب رجل حرارة غير حرارة حبكن؟!
الممرضة (باسمة) : نتمنَّى ذلك.
الضابط : كلا … أنتن لا تتمنين ذلك أبدًا … أما أنا فباعتباري رجلًا قادمًا من الميدان فإني أؤكد لك أن في قلبي دخانًا ولهبًا … لعل أثرًا لهما في عيني.
الممرضة : أرى اللهب، ولكني لست أرى الدخان.
الضابط : ثقي أنه ليس لهب الحُمى، إنه لهب المدفع!
الممرضة : أعرف أنك بطل … وأنك قمت باقتحام كثير من الحصون.
الضابط : أقالوا لك إني بطل؟
الممرضة : نعم … كلهم هنا يقولون ذلك … إني فخورة بتمريضك!
الضابط (باسمًا) : المغازلة ممنوعة من فضلك!
الممرضة : لست أفخر بشخصك … بل بعملك في الحرب.
الضابط (بأسف) : لماذا هذا التحديد والتفريق؟ … إذا أردت أنا أيضًا أن أُعجب بك، فهل تظنين أني مستطيع طرح شخصك من الحساب؟
الممرضة : ألم تُحِس بعدُ أن أشخاصنا أصبحت اليوم تافهةً بالقياس إلى العمل الذي نؤديه من أجل الوطن؟
الضابط : لست أعرف الآن ما أحس … لا تسأليني عن مشاعري … إنها أعقد من أن أفهمها لأول وهلة … يُخيَّل إليَّ أن شيئًا في نفسي قد تغير … شيئًا لا أتبينه … ولا أدري بعدُ كيف أصفه … لن تفهمي بالضبط ما أقصد … لا بد أن أبسط لك طرفًا من حياتي السابقة؛ ليبدو لك هذا الكلام واضحًا.
الممرضة : كلامك واضح لي … لإني أحس عين إحساسك.
الضابط (دهِشًا) : كيف ذلك؟ … فسِّري لي إذن.
الممرضة : لا … ليس الآن … لقد تركتك تتكلم أكثر ممَّا ينبغي … ليس من الحكمة أن تبذل مجهودًا وأنت لم تستكمل بعدُ الشفاء … سأدعك لحظةً لتستريح، وتستغرق في الهدوء … ومن الخير أن تنام قليلًا.
الضابط : لا … لا أريد أن أنام.
الممرضة : إذن … لا تتكلم … أصغِ إلى الراديو، إذا شئت.
(تفتح جهازًا صغيرًا للراديو قرب سريره … فيسمع صوت المذيع يقول: «تسمعون الآن أغنية: الحب كله أنين».)
الضابط : ما أحسن حظي! … هذه أغنية طالما أحببتها.
الممرضة : مثلي إذن … إنها أغنيتي المفضلة.
(يصغيان إليها صامتَين.)
الضابط (بعد برهة) : ما هذا؟ إنها ليست هي … أواثقة أنت أنها هي؟
الممرضة : هي بعينها.
الضابط : لم يكن فيها هذه التأوهات السخيفة ولا هذه المعاني الضعيفة.
الممرضة : أوَتظن إدارة الإذاعة قد وضعت فيها هذه التعديلات أخيرًا؟
الضابط : لا بالطبع … ولكن فيها مع ذلك شيئًا قد … تغيَّر.
الممرضة : ليست هي التي تغيرت.
الضابط : إذا لم يكن في طلبي إزعاج لك، فإني أرجو منك أن تغلقي الراديو.
الممرضة (وهي تضغط على مفتاح الجهاز وتغلقه) : حسنًا فعلت … أنا أيضًا أفضِّل لك جو الصمت.
الضابط : لا تنتهزي الفرصة كي تتركيني وتنصرفي … لا أريد أن أنام، لا أريد أن أنام … لقد نمت طويلًا.
الممرضة : سأقيس درجة حرارتك … فإذا كانت معتدلة، فإني أسمح لك بالحديث لحظةً أخرى … موافق؟
الضابط : موافق … ومع ذلك، ثقي أني بخير … وإلا ما شعرت بهذه اليقظة ولا بهذا النشاط … أريد أن أنهض قليلًا.
الممرضة : مهلًا … مهلًا … حذارِ أن تصدم ذراعك الجريح … دعني أُسند ظهرك إلى الوسادة.
الضابط (يتأمل ذراعه المربوطة) : عجبًا! … ما هذا المشبك البديع؟ … إنه من ذهب فيما أعتقد … غاية في سلامة الذوق ودقة الصناعة! … لن يستطيع أحد أن يقنعني بأنه من أدوات المستشفى.
الممرضة : هو مشبكي … لم أجد غيره أُحكِم به رباطك الذي فُك وأنت نائم.
الضابط : لن يُفك الرباط بعد اليوم ما دمتِ قد شبكتِني بمشبكك!
الممرضة (وهي تُخرج مقياس الحرارة) : أتنوي الاحتفاظ به؟
الضابط : إلى آخر لحظة في حياتي.
الممرضة (باسمة) : بلا ثمن؟
الضابط : ماذا تطلبين فيه من ثمن؟
الممرضة : لست أدري … إني أمزح. خذه مني هديةً إذا راق لك. إنه زهيد القيمة.
الضابط : لا شيء منك زهيد القيمة … إني أقدِّر له ثمنًا مرتفعًا … سأحاول الوفاء به فيما بعد!
الممرضة (وهي تضع في فمه المقياس) : عندما تهبط حرارتك سيهبط ذلك الثمن المرتفع … لا تفكر الآن في تقدير شيء!
الضابط (يهز رأسه) : كلا … كلا …
الممرضة : لا تهز رأسك هكذا ومقياس الحرارة في فمك! … أصغ إليَّ دون حراك … أتراني مخطئة؟ … أرجو أن أكون كذلك، بل إني لمخطئة … ها أنا ذا ألمح في عينيك الساعةَ بريقًا، ليس من السهل أن ينطفئ … ما بي حاجة إلى أن أتلقَّى منك جوابًا على أسئلتي … إني أقرأ كل شيء … لا على صفحة نفسك بل على صفحة نفسي أنا … أردت أن تكشف لي عن ماضي حياتك؛ لتفسر لي ما اعتراك من تغيير … يكفيني أن أستعرض حياتي أنا كي أفهم … ألم يخطر لك أن تتساءل: «لماذا أنا هنا بجوارك أنا الفتاة المصرية التي ما عرفت قط يومًا غير التافه من المشاعر؟! … هذه الأغنية التي كانت تملأ حياتنا: «الحب كله أنين.» أتصدِّق أنها كانت تُبكيني الليالي الطوال؟ … ما حدث لي اليوم حتى أسمعها فلا تهتز مني شعرة؟ لا تحسب الدموع قد نضبت من عيني … إني أسكبها في بعض الأحيان مدرارًا، لا حزنًا بل فرحًا … إنها تتساقط مع البسمات كالمطر في شروق الشمس … كلما وُلد لنا في ميدان الشرف بطل (تتناول من فمه المقياس وتنظر فيه) صدقت … إنك بخير … أستطيع الآن أن أُنحِّي عن رأسك هذا الثلج.
الضابط : أيتها … الآنسة!
الممرضة (تلتفت إليه) : ماذا بك؟ … لماذا تنظر إليَّ هكذا؟
الضابط : إنك … تخيفينني.
الممرضة : أخيفك؟
الضابط : نعم … كلما ذكرت هذه الكلمة.
الممرضة : أي كلمة؟!
الضابط : أود لو أعلم منك شيئًا … أتعدينني أن تصارحيني القول؟
الممرضة : أعدك … ماذا تريد أن تعلم؟
الضابط : مَن هو «البطل»؟ … إني لم أرَه قط … أتمنى لو أراه مرة.
الممرضة : تريد أن ترى بطلًا؟!
الضابط : نعم.
الممرضة : لا شيء أيسر من ذلك … لحظة واحدة من فضلك … وأنا أقدِّمه إليك (تأتي بحقيبة يدها وتفتحها).
الضابط : عجبًا! … أهو في هذه الحقيبة؟!
الممرضة (تُخرج من حقيبتها مرآةً صغيرة تُدنيها من وجهه) : انظر في هذه المرآة وأنت تراه!
الضابط : آه … لا تمزحي! (يقصي عنه المرآة) إنك تجرحين شعوري بهذا القول … ثقي أني لا أتواضع عندما أؤكد لك أني لم أرَ ذلك الذي ترين … لا أود أن تظنيني رجلًا مجردًا عن حب الزهو … على النقيض … لطالما شعرت أني بطل العالم كله يوم كنت متفوقًا في لعبة كرة القدم. كنت أصيب الهدف بقدمي، وأسمع هتاف الجماهير فأعتقد أن تلك القدم ليست من لحم وعظم … إنها من ذهب إبريز … وكنت أسير بها مختالًا فوق الأفاريز … فيُخيَّل إليَّ أن عيون الحب والإعجاب تتبعها وتكلؤها وترعاها، كما لو كانت ذخرًا قوميًّا لا يُقدَّر بمال … اليوم أمشي بهذه القدم بين الألغام … وأقتحم بها الحصون، تحت وابل النيران، فما شعرت قط لحظةً أنها قدم بطل! … نعم، صدقيني أنك لا تعرفين جو المعركة أيتها الآنسة! … ولا تدركين تلك اللحظات التي ينسى فيها الجندي الفَرق بين الجد واللعب … هناك حيث ينزل إلى ميدان واسع غامض، وبين قدميه مصيره كأنه كرة … لا يطرق سمعَه تصفيق الناس ولا هتاف الجماهير … لا تخطر في باله فكرة البطولة … فهو مشغول عنها وعن غيرها من الأفكار! … إنه يفكِّر في مواجهة الموت كما لو كان يواجه امرأةً خطرة الحسن، بقلب يتأجَّج نارًا … بل إنه لا يفكر على الإطلاق … إنما الذي يفكِّر هو سلاحه الذي في يده … عندما نتلقَّى الأمر بالهجوم، نشعر كأنه مركز التفكير فينا قد انتقل من الرأس إلى المسدس … لكأنه يعرف بغريزة مجهولة ماذا يصنع وماذا ينبغي أن يصنع؟ … وإنا لندعه يقودنا في خِضَم الخطر، دون أن نُتيح له من حب السلامة مقاومًا ينطلق معه، ولا نفكِّر عندئذٍ فيما سوف يحدث … لهذا أغضب عليك، وأخاف منك، كلما وصفتني بشيء ما رأيتِه في نفسي اليوم قط!
الممرضة : ليس من الضروري أن ترى أنت … يكفي أن نرى نحن.
الضابط : أوَاثقة أنت أنك لست مخدوعة؟
الممرضة : اطمئن! … لست أنا التي يسهُل الآن خداعها!
الضابط : من يدري؟ ربما كان هذا أيضًا نوعًا من التمريض. هذه المبالغة والمغالاة وهذا التشجيع والتضخيم! ولكنك لا تعرفينني! … إني شاب صريح، أحب الصدق … وإنك لتحملينني بتمريضك الروحي هذا على السخرية منك ومن نفسي! … أقسم لك أن لا شيء يريحني حقًّا غير الوضع الصحيح للأشياء … لا أقبل مطلقًا أن أُحاط بإطار مسرحي من الثناء أيتها الآنسة! … حذارِ من سخطي ومن احتقاري! … أنا الذي كاد يعتقد أن الحرب خلقت مني ومنك ومن أمثالنا جيلًا آخر، يجري في دمائه شعور جديد … عندما قلت لك إني قد تغيَّرت، ما قصدت أني قد صرت بطلًا في نظر نفسي! … «بطل»! … إني أمنعك من ذكر هذه الكلمة لي أو نسبتها إليَّ … إنك لا تدركين مبلغ ما فيها لي من إيذاء!
الممرضة : إيذاء؟ … لك أنت؟ … أيقوم في رُوعك أني أوذيك بهذه الكلمة.
الضابط : إنها نوع من الصدقة لا أقبله!
الممرضة : صدقة! … أرجوك … لا تقل ذلك.
الضابط : هدية … إذا شئت … رداء مُوشًّى خاطف البريق … لا أجرؤ أن أرتديه وأمشي به في الطريق … دون أن يعتريني الخجل، وأتصور الناس تتبعني بأنظارها قائلة هامسة: يا له من ادعاء!
الممرضة : ما خطر لي ببال أن أقدِّم إليك هدية! … حتى ولا هذا المشبك الذهبي الصغير … أنت الذي أردت الاحتفاظ به … وأرجو من فضلك أن ترده إليَّ في يوم من الأيام.
الضابط : سأرده … في يوم من الأيام.
الممرضة : نم الآن … قبل أن تصيبك نكسة من كثرة الكلام … إني ذاهبة.
الضابط (بشيء من العنف) : قلت لك لن أنام!
الممرضة (ببعض العنف) : آمرك أن تستريح، وأن تغمض عينيك، وأن تكف عن كل ما يُنهك قواك.
الضابط : لست أتلقَّى منك أمرًا.
الممرضة : إذا كنت في الميدان مكلَّفًا بطاعة قُوادك ورؤسائك، فأنت هنا في المستشفى مُكلَّف بطاعة أطبائك وممرضيك.
الضابط : في مقدوري أن أطيع أمرًا بالهجوم … ولكني لا أستطيع أن أطيع أمرًا بالنوم.
الممرضة : وأنا لا أستطيع أن أتحمَّل تبعة عصيانك! (تتحرك للانصراف).
الضابط (يلطِّف فجأةً من لهجته) : أتذهبين؟
الممرضة : سأنصرف إلى غيرك من الجنود … أوَتحسبني منقطعةً لتمريضك وحدك؟
الضابط : أصبت … اذهبي إليهم … ولكني …
الممرضة : ماذا؟
الضابط : سأنتظر عودتك!
الممرضة : شفاؤك قريب … وستخرج من هنا بعد أيام.
الضابط : أعرف أن فراقنا قريب … ولهذا … (يرمقها صامتًا).
الممرضة : لماذا تنظر هكذا إليَّ؟
الضابط : لا شيء … اذهبي … ها أنا ذا أطيعك وأغمض عيني!
الممرضة : نعم … نم الآن قليلًا … بغير أحلام!
الضابط (وهو يُغمض عينيه) : صورة واحدة ستلازمني في النوم واليقظة … إلى آخر لحظة!
(ستار)
المنظر الثاني
(في ميدان القتال … «الضابط» وهو قائد الفصيلة الأولى المرابِطة في الخط الأمامي يتحدَّث همسًا إلى قائد السرية وقد جاء يتفقَّد الحالة قبل الهجوم على حصن الأعداء … وقد كاد ينتصف الليل … وقصف المدافع المصرية يهز الأرجاء.)قائد السرية (ينظر في ساعته) : بعد سبع دقائق تتوقَّف بطارياتنا عن الضرب.
الضابط : نعم … لقد فرغَت من مهمتها … وبقي علينا نحن القيام بالباقي.
قائد السرية : يجب أن تعلم أن مهمتك خطرة!
الضابط : ليست أخطر من مهمة غيرنا.
قائد السرية : أظن أنها أخطر … لا تنسَ أن عليك أن تتقدَّم على رأس دوريتك المقاتلة؛ لتفتح ثغرةً في الأسلاك الشائكة حول هذا الحصن المنيع!
الضابط : معنا قصافات الأسلاك.
قائد السرية : أمامك حقل من الألغام، مغطًّى بنيران العدو.
الضابط : معنا مجسَّات الألغام.
قائد السرية : صدرك قد يتلقَّى رصاصة القناصة الغادرين.
الضابط : فليرَوا صدري … ولكني سأعرف كيف أرى ظهورهم!
قائد السرية : كل شيء إذن على ما يرام.
الضابط : نعم … اعتمد على فصيلتي، وعُد مطمئنًّا إلى موقعك.
قائد السرية : ما كنت أظن أني سأراك هنا بهذه السرعة! … ولا أدري كيف عدت إلينا هكذا على عجَل بعد خروجك من المستشفى.
الضابط : لا تذكِّرني الآن بالمستشفى.
قائد السرية : أكان جرحك أليمًا؟
الضابط (يشير إلى جهة الحصن) : انظر … انظر … لقد أطاحت قنبلة المدفع ببرج الحصن!
قائد السرية (ينظر بمنظاره) : نعم … يا له من عمل رائع لمدفعيتنا!
الضابط : الدخان يرتفع من أرجاء الحصن … أنبدأ زحفنا؟
قائد السرية (ينظر في ساعته) : انتظر لحظة … إن الدقائق السبع لم تنقضِ بعد … أخبرني … إنك لم تحدثني.
الضابط : عن ماذا؟
قائد السرية : عمَّا رأيت وسمعت في القاهرة أثناء مدة علاجك.
الضابط : آه … لقد رأيت.
قائد السرية : إني مصغٍ.
الضابط : لا شيء.
قائد السرية : ما لصوتك قد تهدَّج؟
الضابط : كم الساعة الآن؟
قائد السرية : إذا صدَقت فراستي فإنك قد قابلت هناك شخصًا عزيزًا.
الضابط : الأمر لا يحتاج إلى فراسة … كلنا لنا هناك شخص عزيز … ولكن …
قائد السرية : ولكن ماذا؟
الضابط : أهذا مكان وزمان نتحدث فيهما عن ذلك.
قائد السرية : إنه خير موضع وظرف نستأنس فيهما بالصور الموضوعة في قلوبنا.
الضابط : قلوبنا! … عجيب ذلك الذي حدث لهذه القلوب … لقلبي أنا على الأقل … لكأنه هو أيضًا قد تحوَّل إلى ميدان حرب … طغى فيه هدير المدافع على الهمسات والبسمات … ولكن سجع اليمام يُسمِع أحيانًا رقيقَ النغم حلو الهديل بين طيات الرعد القاصف … صدقت … هنالك صورة، وهنالك صوت … لا بد أن نحملهما معنا في أخطر المواقف وأحرج اللحظات.
قائد السرية (يحدِّق في صدر الضابط) : ما هذا الشيء الذي يبرق في صدرك؟
الضابط : هذا … مشبك ذهبي.
قائد السرية (باسمًا) : يا لها من أناقة جديرة بعاشق يسير في حديقة أزهار، لا في حقل ألغام!
الضابط : لست أجد الآن فرقًا كبيرًا بين الحديقتين … لكل من الزهر تحت الخمائل، واللغم تحت الأسلاك، مقص ومجس!
قائد السرية : أنت أيضًا تنتابك هذه الأفكار؟
الضابط : أي أفكار؟
قائد السرية : خُيِّل إليَّ أني وحدي الذي اكتشف حقيقتنا المدفونة ككنز، التي كنا نجهل وجودها في أنفسنا … إني لم أعد بعدُ إلى القاهرة … منذ بدء المعارك … ولكن إذا قُدِّر لي عمر وعودة إلى الوطن، فإني على ثقة من أني سأكون رجلًا جديدًا … لذلك سألتك الساعة عمَّا رأيت هناك … هل نحن وحدنا الذين تغيرنا … أو أن أهل بلادنا حدث لهم كذلك مثل الذي حدث لنا؟
الضابط (يشير إلى الحصن) : انظر … ما هذا؟ … أحقٌّ ما أرى أم هو سراب؟
قائد السرية (يمسك بمنظاره) : ماذا؟
الضابط : هذه الرايات البيضاء التي تُرفع فوق الحصن؟!
قائد السرية (يرى بمنظاره) : نعم … نعم … حقًّا … إنها رايات التسليم!
الضابط : إذن … فلنقتحم الحصن في الحال.
قائد السرية : مهلًا … يجب أولًا أن نُخبر مركز القيادة الرئيسي (يسرع إلى تليفون الميدان ويخاطب القيادة) رُفعت رايات التسليم فوق الحصن … أفندم؟ … يُحتمل أن تكون خدعة؟ … نرسل الفصيلة الأولى؟
الضابط : فصيلتي.
قائد السرية (وهو يترك جهاز التليفون) : نعم … ولكن يجب أن تكونوا على حذر … فهؤلاء الأعداء غادرون … وقد يكون التسليم خدعة لاجتذاب عدد كبير من جنودنا … حتى إذا اقتربوا من العدو، فتح عليهم النيران.
الضابط : لن يذهب أحد من جنودنا.
قائد السرية : ومن يذهب ليتلقَّى التسليم!
الضابط : أنا … بمفردي.
قائد السرية : وإذا كان في الأمر غدر، وأطلق عليك قناصتهم الرصاص.
الضابط : لن يظفروا عندئذٍ بغير قتيل واحد!
قائد السرية : لا … لن أفرِّط فيك أنت … فليذهب.
الضابط : لا تبحث عن أحد غيري … أنا قائد الفصيلة الأولى … ولن أعرِّض أحدًا من رجال فصيلتي … سأذهب وحدي.
قائد السرية : لن أُصدر إليك هذا الأمر.
الضابط : لقد صدرَت إليك تعليمات القيادة بتحرُّك الفصيلة الأولى … فصيلتي … وليس لك أن تخالِف أوامر القيادة.
قائد السرية : هذا صحيح … فلتذهب إذن فصيلتك.
الضابط : أنا حر إذن في اختيار من يذهب معي منها … فأنا قائدها … وقد اخترت نفسي.
قائد السرية : إذا صدقت فِراستي فأنت مقتول.
الضابط : يسرني أن أضع فِراستك هذه المرة موضع الامتحان … خذ هذا.
قائد السرية (يتلقَّى من يد الضابط شيئًا نزعه من صدره) : مشبكك الذهبي؟
الضابط : إنه ليس لي … إنه لممرضة متطوعة في المستشفى العسكري بالقاهرة … إذا قُتلت أنا … وعدتَ أنت إلى الوطن سالمًا … فاذهب وابحث عنها … ورُد هذا المشبك إليها.
قائد السرية : ما اسمها؟
الضابط : لست أدري … إني ما سألتها قط عن اسمها … ولكني واثق أنك ستجدها … قل لها: لقد كان وعدك أن يرد إليك هذا المشبك في يوم من الأيام … وقد برَّ بوعده … أمَّا الثمن المرتفع الذي قدَّره في نظير الاحتفاظ به هذه اللحظات، فإنه لم يستطع أن يدفع أكثر من … حياته … إلى اللقاء أو وداعًا.
(يقفز الضابط إلى سيارة صغيرة ويمضي إلى الحصن)
قائد السرية : اذهب في حفظ ****.
(يرفع قائد السرية منظاره إلى عينيه ويتبع الضابط)
الضابط (صائحًا) : إذا أطلقت لكم وهجًا من مسدسي فهي إشارة إلى أن التسليم صادق.
قائد السرية (للجنود) : اصطفوا وارقبوا الإشارة … ها هو ذا قائدكم يذهب بمفرده (يتبعه بمنظاره) إنه الآن يقترب من أسلاك الحصن … آه … يا للجبناء! … يا للأنذال! (صائحًا) إنهم يُنزلون الرايات البيضاء … لقد سحبوا التسليم … ما هذا؟ … ما هذا؟ … صوت طلقات مدفع رشاش … قتلوه … لقد قتلوه … قتلوه … مات الرجل.
الجنود (بغيظ وتأثر) : مات الضابط!
قائد السرية (بجلَد وفي عينَيه دمعة) : ولكن … وُلد البطل!
(ستار)