• سجل عضوية لنشر مواضيع ومشاركات ومحادثة الأعضاء بدون إزعاج الإعلانات

مكتملة أريد أن أقتل - توفيق الحكيم (1 مشاهد)

ابيقور

ميلفاوي أبلودر
العضوية الفضية
ميلفاوي معلم
عضو
ناشر قصص
ميلفاوي نشيط
إنضم
21 سبتمبر 2023
المشاركات
563
مستوى التفاعل
310
نقاط
620
النوع
ذكر
الميول
طبيعي

أريد أن أقتل​

قصة تمثيلية في فصل واحد

(بهو استقبال صغير في «شقة» يقطنها زوجان وحيدان … كل شيء فيها ينم على البساطة والهدوء والاطمئنان … وفي وسط البهو منضدة عليها حقيبة صغيرة مفتوحة لمندوب شركة التأمين على الحياة وهو يقدم إلى الزوج عقدًا … ويناوله قلمًا من الأبنوس …)

مندوب التأمين : وقِّع بإمضائك هنا … بقلمي الأبنوس … فهو يجلب السعد!
الزوج (وهو يلقي على العقد نظرة أخيرة) : إذا مت فإن زوجتي تقبض من الشركة ألفي جنيه؟
المندوب : في الحال بمجرد الوفاة.
الزوج (وهو يتناول منه القلم) : إليك إمضائي.
(يوقع على العقد، ثم يضع القلم فوق المنضدة، ويسلم العقد للمندوب …)

المندوب (وهو يتناول العقد) : مبروك!
الزوج : على وفاتي؟!
المندوب : على إتمام «البوليصة».
الزوج : أهم شيء عندي هو أن زوجتي لا تعلم بخبر هذا التأمين وأنا على قيد الحياة … إنها رقيقة الشعور … شديدة الإخلاص إلى حد يؤثر أحيانًا في صحتها … ما من أمر يزعجها في النهار ويؤرقها في الليل إلا فكرة موتي قبلها … فهي لا تطيق أن تتصور هذا يحدث يومًا … وإذا مر شبح ذلك بخاطرها صاحت: «اللهم اجعل يومي قبل يومه …» ولكني أنا أشد منها انزعاجًا، ولا أسأل **** شيئًا إلا أن يجعل يومي قبل يومها!
المندوب : ما شاء **** … إخلاص متبادل.
الزوج : لذلك أخشى أن يبْلغها خبر هذا التأمين على حياتي من أجلها فتتشاءم، ويتملكها الفزع!
المندوب : اطمئن … لن يبْلغها شيء من جهتنا … المحافظة على الأسرار أهم واجباتنا واختصاصاتنا.
الزوج : من حسن الحظ أنها الآن فوق … عند الجيران … تعود فتاةً مريضةً، ولكن … إذا شاءت المصادفة السيئة أن تلقاك هنا أو تفاجئك … فحذار أن تخبرها أنك مندوب شركة التأمين على الحياة!
المندوب : لا تخف … اعتمد على لباقتي.
الزوج : إني معتمد على **** وعليك وعلى الشركة في أن تعيش أرملتي في سعة وبحبوحة وعزة وراحة.
المندوب : لكن في العقد شرطًا، إذا توفيت أرملتك قبلك. أقصد زوجتك. فإن كل ما دفعته أنت من أقساط، وإن بلغ المئات، يضيع عليك.
الزوج (فزعًا) : صه … صه … تتوفى قبلي … تموت قبلي … وما فائدة حياتي بعدها … وما قيمة مالي … ولماذا أطالبكم بشيء … وأفكر في شيء … أجننت أيها المجنون … أيها المندوب.
المندوب : عفوًا … معذرة … إني ما قصدت إلا مجرد الإشارة إلى نص من النصوص.
الزوج : كفى … لا أريد أن تقع عيني على مثل هذا النص المؤلم.
المندوب : خانتني اللباقة … سامحني … سأحتاط منذ الآن … كل ما أرجوه أن ترضى … وأن يطيل **** بقاء الست.
الزوج : وأن يتوفاني قبلها.
المندوب : وأن يتوفاك قبلها … وتقبض هي مبلغ التأمين في خير وسرور.
(يحمل الحقيبة الصغيرة ويتأهب للانصراف …)

الزوج : تنصرف … ولم أقدم إليك القهوة … لا تؤاخذنا … خادمتنا اليوم في إجازة … وأنا والست وحدنا في «الشقة» … وهي كما قلت الآن لك فوق عند الجيران.
المندوب : لا داعي للكلفة … إني سعيد أن أكون دائمًا في خدمتك.
الزوج : تذكَّر دائمًا … زوجتي لا يجب أن تعلم.
المندوب : لن تعلم … إلى اللقاء.
(في هذه اللحظة يدفع باب الشقة المفتوح وتظهر الزوجة نازلة من عند الجيران … فترى المندوب متجهًا إلى الباب وفي يده الحقيبة الصغيرة …)

الزوجة (للمندوب بلهجة سريعة) : الدكتور … حضرتك الدكتور؟
المندوب (مفاجأ) : أنا؟
الزوج (للمندوب بسرعة) : زوجتي … زوجتي.
المندوب : الست … آه … تشرفنا يا هانم.
الزوجة : وحضرتك طبعًا …
الزوج (بارتباك) : نعم … حضرته طبعًا …
الزوجة : الدكتور؟
المندوب (ينظر إلى الحقيبة الصغيرة في يده) : دكتور؟
الزوج (يغمز بعينه للمندوب) : نعم … دكتور … ولكن اطمئني … اطمئني … إني في أتم صحة.
الزوجة : الدكتور طبعًا غلط في الطابق … المريضة فوق عند الجيران … لقد طلبوك بالتليفون من نصف ساعة.
الزوج : اصعد يا دكتور … اصعد.
المندوب : سأصعد … حالًا.
(يتجه بسرعة إلى الباب كمن يريد أن ينجو بنفسه من الموقف …)

الزوجة : انتظر يا دكتور … حذار أن تقول للمريضة إنك طبيب جاء لعلاجها … فهي لا تعتقد أنها مصابة بمرض … وهي تتكلم بكل هدوء، وكل منطق … وقد ترفض مقابلتك إذا علمت أنك طبيب … فيحسن أن تقول لها إنك … أي شيء آخر … قل لها مثلًا إنك …
المندوب : إني مندوب شركة تأمين … جاء يؤمن على حياتها.
الزوج (للمندوب) : ألم تجد شيئًا آخر غير هذا؟!
الزوجة : لا بأس … لا بأس … فلينتحل أي صفة يراها … المهم أن يخفي عنها أنه دكتور.
المندوب (بسرعة وهو منصرف) : لن تعلم … لن تعلم.
الزوجة : انتظر يا دكتور … انتظر … إنك ستجدها الآن منفردة في حجرتها … مستغرقة في تأملاتها … فهي كثيرة العزلة … تعيش وحدها مع أمها … لا تخرج كثيرًا، وتقرأ طويلًا … وقلَّما أراها عندما أصعد زائرة … ولكني أرى أمها المسكينة التي تحدثني عن أمرها العجيب ودموعها تسيل … وما من خادمة أو خادم يطيل المقام عندها خوفًا على حياته.
المندوب : خوفًا على حياته؟!
الزوجة : نعم يا دكتور … لقد أصبحت هذه الفتاة خطرة … وإن كان ظاهرها لا يدل على ذلك … بالعكس … إنك ستراها حسناء وديعة دمثة مؤدبة مثقفة، ولكنها ما تكاد تنفرد بخادم في المطبخ وفي يدها سكين … حتى تلمع عيناها ببريق غريب … وتهم بطعنه … ولولا صياحه وفراره وظهور الأم.
المندوب (في خوف) : يا مغيث!
الزوجة : ماذا تسمي هذه الحالة يا دكتور عندكم في الطب؟
المندوب (مرتبكًا) : هذه الحالة تسمى … تسمى …
الزوج (بسرعة) : تسمى من غير شك اختلالًا عصبيًّا أو على الأقل اعتلالًا نفسانيًّا.
الزوجة (لزوجها) : دع الدكتور يتكلم … إنه أدرى بمهنته … ما رأيك يا دكتور؟
المندوب : رأيي أن هذا شيء مخيف جدًّا!
الزوجة : بماذا تشخصه … بماذا تعلله … بماذا تعالجه؟
المندوب (بارتباك) : من رأيي أن المستحضرات الطبية تعالج الآن كل شيء … ومخازن الأدوية مملوءة بالعقاقير … وكل يوم يظهر اختراع جديد … والأمراض في انقراض … والأعمار تضاعف طولها في المتوسط … حتى أصبحت شركات التأمين …
الزوج (همسًا) : مالنا ومال التأمين؟!
الزوجة (للمندوب) : قصد الدكتور أنه يوجد مستحضر طبي لعلاج هذه الحالة؟!
الزوج (لزوجته) : أتطلبين من الدكتور أن يتكلم عن حالة لم يفحصها بعد.
المندوب : هذا صحيح … لا أستطيع الكلام عن حالة لم أفحصها بعد.
الزوجة : عفوًا يا دكتور … اعذرني … إن الفضول دفعني إلى كل هذه الأسئلة؛ بل شيئًا آخر أكثر من مجرد الفضول … هو شفقتي على الأم المسكينة … لا ينبغي أن أحجزك هنا أكثر من ذلك … إنهم فوق في انتظارك … وأرجو أن يتم لهذه الفتاة الشفاء على يديك.
المندوب : شكرًا … ليلتكم سعيدة!
(يتحرك للانصراف.)

الزوجة : انتظر يا دكتور … خذ حذرك من الفتاة … لقد أخبرتني أمها منذ لحظات أنها لمحت في حجرتها شيئًا يشبه المسدس.
المندوب : مسدس؟!
الزوجة : نعم … لقد خرجت الفتاة في الصباح؛ كما قالت لي أمها … ولم تعد إلا في الظهر … ولا تدري الأم من أين جاءت ابنتها بهذا المسدس … ولماذا جاءت به؟
المندوب (مسرعًا بالانصراف) : سلام عليكم!
الزوجة : انتظر لحظة يا دكتور … هل تعرف أين هي شقة هؤلاء الجيران؟
المندوب (باندفاع) : لا.
الزوجة : تعالَ معي … أنا أُريك الشقة … وأصعد بك إلى هناك.
المندوب (بفزع) : لا … لا … أرجوك … أنا أعرفها … أعرفها … سأسأل عنها … لا داعي لتعب حضرتك.
الزوج (يبادر إلى إنقاذه فيمسك زوجته) : نعم … لا داعي لتعبك أنت يا عزيزتي … دعي الدكتور يذهب بمفرده … وابقي معي هنا … أريد أن أحدثك بشيء.
الزوجة (للمندوب) : الشقة يا دكتور فوقنا مباشرة … على اليمين.
المندوب (وهو يخرج مهرولًا) : سأنزل حالًا … أقصد … سأصعد … أشكركم!
(يخرج بسرعة.)

الزوجة (تتجه إلى زوجها) : والآن … حدثني.
الزوج : بماذا؟
الزوجة : ألم تقل إنك تريد أن تحدثني بشيء؟
الزوج : آه … نسيت … نسيت ما كنت أريد أن أقول لك.
الزوجة : أهو شيء مهم؟
الزوج : لا أذكر.
الزوجة : أهو شيء يتعلق بك؟
الزوج : لا.
الزوجة : يتعلق بي؟
الزوج : لا …
الزوجة : إذن لا تفكر ولا تهتم … كل ما خرج عنا نحن الاثنان لا قيمة له.
الزوج : صدقت يا عزيزتي … نحن الاثنان كل الدنيا … وكل الكون … روح في جسدين، وحياة في شخصين … وهذا سر عذابي!
الزوجة : أنت أيضًا يا عزيزي فؤاد؟
الزوج : نعم … إني أعيش في خوف دائم من أن يصيبني سوء … فتفجعي … ومن أن يصيبك سوء … فأموت.
الزوجة : إذا كان لا بد للسوء من أن يصيب أحدنا … فإني أفضل دائمًا أن أكون لك الفداء.
الزوج : إنك لن تنقذيني بذلك … فأنت تعرفين النتيجة!
الزوجة : حقًّا … هي روح واحدة … لنا معًا … لا يمكن لأحدنا أن يستقل بها.
الزوج : لو كان لنا ***** يا لطيفة … لكانت لك فيهم أرواح أخرى وحيوات عدة.
الزوجة : إني لست آسفة.
الزوج : ولا أنا بآسف.
الزوجة : تكفينا هذه الروح الواحدة يا فؤاد، نتقاسمها معًا … ولا يستأثر بها واحد منا … وإذا انطفأت عند أحدنا …
الزوج : انطفأت في الحال عند الآخر.
الزوجة : كفى يا فؤاد … أرجوك … اترك هذا الموضوع … إني أحس الدوار وأشعر بالدنيا تسودُّ في عيني … اللهم اجعل يومي قبل يومك!
الزوج : لا تسمع منها يا رب!
الزوجة : لا تقل ذلك … لا تقل ذلك!
الزوج : اللهم اجعل يومي أنا قبل يومها!
الزوجة : لا تسمع منه يا رب!
(تظهر فتاة في الثامنة عشرة … رشيقة أنيقة … آتية متسللة من جهة باب الشقة.)

الفتاة : إنه لن يسمع من أحدكما دون الآخر!
الزوجة (مأخوذة) : سهام!
الزوج : مَن هذه؟
الزوجة (بخوف) : فتاة الجيران!
الزوج (همسًا في رعدة) : المجنونة!
الفتاة (تبرز مسدسها من جيبها) : أرجو منكما أن تجلسا ها هنا أمامي … أحدكما بجوار الآخر … وأن تصغيا مليًّا إلى ما أقول.
(تشير لهما بطرف المسدس إلى الأريكة … فيجلسان متلاصقين وقد عقد الخوف لسانيهما.)

الفتاة : اسمحا لي أولًا أن أجلس على هذا الكرسي أمامكما.
(تجلس على الكرسي المجاور للمنضدة … بحيث تكون المنضدة فاصلًا بينها وبين الزوجين.)

الفتاة : وأْذنا لي في أن أشكر الظروف التي شاءت أن يكون بابكما مفتوحًا … فتُهيأ لي هذه الفرصة السعيدة!
(الزوجان في صمت وذهول.)

الفتاة : لقد وصل إلى علمي أنكما وحدكما اليوم في هذه الشقة … وهذا أيضًا من حسن ظني! تعرفان طبعًا الغرض من زيارتي المفاجئة.
(الزوجان يهزان الشفاه … دون أن ينبسا بجواب.)

الفتاة (بهدوء) : المسألة في غاية البساطة: جئت لأقتل … أقتل أحدكما.
الزوجة (بصوت مرتجف) : سهام … سهام!
الفتاة (بأدب) : إني متأسفة … إني في شدة الأسف … ولكن لا بد من أن أفعل ذلك.
الزوجة (بتوسل) : سهام!
الفتاة : مضطرة … رغبة جامحة … قوة قاهرة تدفعني إلى أن أقتل شخصًا.
الزوجة (بلفظ مرتجف) : نحن جيرانك يا سهام … إني صديقة والدتك … إنك مثل أختي الصغيرة … كيف يطاوعك قلبك أن تلحقي بنا شرًّا؟!
الفتاة : إني لا أريد أن ألحق بكما شرًّا … ولا أفكر في الضرر الذي يصيبكما … ولكني أفكر في خنق هذا الصوت الصارخ في نفسي: أن أقتل … أقتل … أقتل.
الزوجة (برجاء) : … اعقلي يا سهام … أرجوك … أرجوك!
الفتاة : إني أعقِل ما أفعل … إني في أتم قواي العقلية.
الزوجة : لو كنت تعقلين ما كنت تقْدمين على هذا الفعل الشنيع.
الزوج (يغمز زوجته ويهمس) : لا تثيري غضبها.
الفتاة : إني أعلم أنه فعل شنيع … ولكن ما حيلتي؟ ليس في استطاعتي أن أمتنع عن فعله … لقد حاولت كثيرًا أن أصد نفسي عنه … لطالما استعنت بإرادتي وبحكمي … وقاومت وحاربت … وقاومت في نفسي معارك طويلة … ولكني هُزمت … ما من شيء تغلَّب على هذه الرغبة الجارفة عندي: أن أقتل … أقتل.
الزوج (بصوت مهزوز) : يا آنسة … كلمة.
الفتاة : تفضل.
الزوج : إنك آنسة مهذَّبة … وكثيرًا ما كنت أقابلك في السلم فأحييك وتحييني بكل احترام … ألا تذكرين؟
الفتاة : وإني لم أزل أحمل لك كل احترام.
الزوج : أيرضيك إذن أن ترفعي يدك نحونا بسوء؟!
الفتاة : لا يرضيني ذلك بالطبع، ولكني مدفوعة إلى ذلك على الرغم مني … لا بد أن أقتل الليلة شخصًا … وإلا جننت … علاجي الوحيد لما أنا فيه من ضيق هو أن أقتل.
الزوج : تريدين قتل أي شخص؟
الفتاة : نعم.
الزوج : لماذا إذن لا تهبطين الشارع وتقتلين أي شخص يصادفك؟
الفتاة : فكرت في ذلك بالفعل … وكنت في طريقي إلى تنفيذه … ولكني وجدت بابكما مفتوحًا، وتذكرت أنكما وحدكما.
الزوجة : يا لسوء بختنا!
الفتاة : بل هذا من حسن بختي أنا … لأن الشخص الذي أقتله في الشارع سيحدث ضجيجًا يجمع حوله الناس، فلا أستطيع أن أجني بهدوء ثمرة هذا الفعل.
الزوج : أهناك ثمرة تجنينها من مثل هذا الفعل؟
الفتاة : بالتأكيد … لقد ألحفت على نفسي في السؤال لماذا تضطرم فيها شهوة القتل هذا الاضطرام … فكان جوابها: إني أريد أن أعرف شعور الإنسان وهو يموت … وشعور القاتل وهو يحدث الموت … وإذا كانت هناك صلة معرفة بين القاتل والمقتول؛ فإن هذا الشعور يتضح ويبرز ويأتي بنتيجة … لذلك أرى فيكما خير مثال لمطلبي … ها أنا ذا قد شرحت لكما حالي باختصار … كي تعذراني وتُساعداني … إن شفائي في يد أحدكما … إني سأكون شاكرة طول حياتي معترفة بالجميل لمن سأقتله منكما … والآن استعدا.
(ترفع مسدسها … فيلتصق الزوجان رعبًا ويدرآن بيديهما.)

الزوجة (صائحة) : سهام!
الزوج (متوسلًا) : يا آنسة …
الفتاة : إني لا أريد أن أقتلكما معًا … لأن هذا لا يلزمني … بل قد يفوت غرضي … ويشتت ذهني … أريد أن أقتل واحدًا منكما فقط … أما الحي منكما فسينفعني أجزل النفع … لأني سأقرأ على وجهه من مختلف الشعور، ما لا يقل عما أطالعه في وجه المقتول …
الزوجة (بصوت باكٍ) : يا سهام … يا حبيبتي سهام … إني لم أصنع لك شيئًا … نحن لكم خير الأصدقاء وخير الجيران … وأنت عندي أعز من كثيرات من قريباتي … لكم تمنيت أن تكون لي بنت مثلك … لطالما قلت ذلك لوالدتك … وامتدحت أدبك وسلوكك ورقتك … أتفعلين ذلك بنا؟!
الفتاة : بالرغم مني.
الزوج : نحن يا آنسة أبرياء … تذكري أنك تريدين سفك دماء بريئة … نحن لا نحمل لك غير الود. أتعتدين على أناس وادعين طيبين أبرياء؟!
الفتاة : نعم … أنتم أبرياء وهذا عين مطلبي … لأن رغبتي في القتل ليس باعثها الانتقام … وأنتم في غاية الطيبة والوداعة … لأنكم لو كنتم أشرارًا وأهل سوء، لحُمل باعثي على أنه عقاب … لا … لا … إن فعلي لا باعث له على الإطلاق … ولا ينبغي أن يكون له باعث … إنه شهوة القتل لذاتها … مجردة عن أي باعث.
الزوجة : أأنت قاسية القلب بهذا المقدار؟!
الفتاة : إنك تعرفين أني لا أطيق سماع مواء قطة جائعة!
الزوجة : حقًّا يا سهام … سمعت ذلك من والدتك … ورأيتك بعيني تصومين وتصلين، ويتمزق قلبك رحمة بالطفل البائس ابن الكناس، فتصنعين له بيدك ثوبًا يكسو عريه.
الزوج : يا آنسة … لك مثل هذا القلب، ولا ترحمين زوجين متحابين وحيدين مثلنا؟!
الزوجة : ألم تحدثك والدتك عنايات يا سهام؟ ألم تقل لك إننا أخلص زوجين؟
الفتاة : أعلم ذلك.
الزوج : وتريدين بعد ذلك أن تهدمي هذه الأسرة الصغيرة!
الفتاة : إنكما لم تفهما بعد موقفي … ولم تدركا ما أنا فيه … اعلما جيدًا أن في أعماق نفسي الآن صوتًا يغطي على رحمتي وحكمتي وعلى أصوات توسلاتكم وحججكم … ليس يهمني الآن هذا العالم بناسه وجيرانه ورحمته ومنطقه وبراهينه وثوابه وعقابه وخيره وشره … لا … لا … لا يهمني كل ذلك الساعة … كل ما يهمني في هذه اللحظة هو أن أخنق هذا الصوت الخفي، الذي لا أدري من أين هو صاعد … صوتًا يقول لي: اقتلي … يجب أن تقتلي … هذا الصوت لا مفر لي من أن أطيعه.
الزوج : هذا الصوت … لم يقل لك لماذا يأمرك بذلك؟
الفتاة : لا … إنه لا يفسر ولا يعلل … إنه يأمر … ما من شك أن هنالك أناسًا غيري سمعوا في حياتهم أصواتًا تأمرهم بفعل أشياء … فلم يجدوا بدًّا من فعلها … ولعل من بين تلك الأشياء ما كان له معنًى … أو ما كان له غرض عظيم … فغيَّروا بذلك مصير البشر … كما أن من بين تلك الأشياء ما ليس له معنًى على الإطلاق … فيحار الناس في تأويله … صوتي هو من هذا النوع الأخير … إنه يأمرني بشيء، حِرت في معناه ومغزاه … شيء لا خير فيه … ولكن لا قِبل لي بالامتناع عنه … لا بد أن أحققه وأؤديه لأستريح … هل فهمتما وأدركتما حقيقة موقفي؟ الآن اسمحا لي أن أطلق النار.
(ترفع المسدس … فيتراجع الزوجان رعبًا … ويرفعان الأذرع توسلًا.)

الزوجة (باكية) : ستفعلين … ستفعلين!
الفتاة : الوقت أزف … يجب أن أكف عن الكلام … وأن أعمل … وأسرع في العمل.
الزوج (مرتجفًا متوسلًا) : لحظة يا آنسة … لحظة … لحظة.
الفتاة : ثقا أنه لا فائدة من المناقشة ومن التوسل ومن البكاء … سأطلق الرصاص على أحدكما … هذا أمر مفروغ منه … أيكما … أيكما؟
الزوجة (برعب) : أينا؟!
الفتاة : نعم … أيكما … على أيكما أطلق … بسرعة … يجب أن يقع الاختيار على أحدكما.
الزوج (في رعدة) : أَسَتختارين؟
الفتاة (وهي تتأمل كل واحد منهما) : يجب أن أختار واحدًا منكما وهذا ليس بالأمر السهل … كيف أرجح بلا مرجح … وأنتما هكذا جامدان متلاصقان … ما من واحد حاول الهرب أو هَمَّ بحركة، حتى ألاحقه برصاصي … وأطرح عن نفسي مشقة التخيُّر … إنكما تضعان على كاهلي عبئًا ثقيلًا … من أختار منكما؟ الزوجة؟ والزوج؟
الزوجة (تشهق) : أسنموت الآن … حقًّا سنموت … اللهم الرحمة … الرحمة … الرحمة!
الزوج : أنموت هكذا يا رب بهذه السرعة … أهو إذن الموت … ارحمينا أيتها الآنسة … الرحمة!
الفتاة (كالمخاطبة نفسها) : كلما ذكرتما الموت، تأججت شهوتي لإحداثه. أزف الوقت (صائحة) أسمع صوتًا … يجب أن أقتل … أيكما؟ أيكما؟ يجب أن أقرر الآن … يجب أن أختار مَن؟ مَن؟
(ترسل نظرات حائرة بين الزوج والزوجة … بينما يتبعان هما نظراتها واجفين والشفاه منهما تهتزان فرقًا.)

الفتاة (صائحة في تصميم) : أنت أيتها الزوجة … تقدمي.
الزوجة (فزعة منهارة) : أنا! لا … لا … لا!
الفتاة : لا تريدين أن تموتي؟
الزوجة : لا … لا أريد أن أموت!
الفتاة : إذن فليتقدم زوجك بدلًا منك … أيها الزوج … تقدم.
الزوج (فزعًا) : أنا … لا … لا يا آنسة … لا … أتوسل إليك دعيني أعش!
الفتاة : لا تريد أن تموت؟
الزوج : لا … لا أريد … أرجوك!
الفتاة : هذا مستحيل. هذا الوضع مستحيل؛ لا بد لأحدكما أن يموت. لا بد أن أطلق الرصاص على أحدكما. على مَن؟ على مَن؟ لا توقعاني في الحيرة … ساعداني … عاوناني … سأطلق المسدس على أحدكما في الحال كيفما اتفق … (ترفع المسدس في يدها) فليكن عليك أنت أيها الزوجة.
الزوجة (صائحة برعب) : لا … لا يا سهام … لا تطلقي عليَّ أنا … يجب أن أعيش … يجب أن أعيش لأني … لأني … لأني حامل.
الفتاة : حامل؟ لماذا لم تقولي ذلك من قبل … حمدًا *** الذي نجَّاك في الوقت المناسب … حقًّا يجب أن تعيشي أنت لطفلك … أي جرم كنت ارتكبته لو أني قتلتك وفي بطنك جنين … ستعيشين … وليتقدم زوجك.
الزوج (مرتجفًا من الهلع) : يا آنسة … لا تقتليني أنا … لا تقتليني!
الفتاة (وهي تصوب المسدس نحوه) : لا مفر من قتلك أنت … لم يبقَ غيرك … وقد رجَّحت كفة … وليس من المعقول ولا من المقبول أن تبقى أنت حيًّا وتموت زوجتك وهي حامل!
الزوج : إنها ليست حاملًا … إنها تكذب … أقسم ب**** إنها تكذب.
الفتاة : تكذب؟ أأنت واثق من ذلك؟
الزوج : أحلف بأغلظ الأيمان … لقد أكد لها كل الأطباء أنها لا يمكن أن تأتي بأطفال.
الزوجة (لزوجها) : يا لك من وغد!
الفتاة (للزوجة) : تكذبين هكذا لتنقذي حياتك؟!
الزوجة (تشير إلى زوجها) : بل هو الذي يحتال لينقذ حياته.
الفتاة : يُخيَّل إليَّ أني سمعت من أمي أنك عاقر … مهما يكن من أمر فقد أوقعتماني في الحيرة من جديد … ها أنا ذي لم أخطُ بعد خطوة … وما من واحد منكما يريد أن يموت … أو يقبل أن يتقدم بدلًا من الآخر … ماذا أصنع الآن؟ لا بد من العمل السريع … هل أطلق الرصاص في تجاهكما ولتصب النار منكما مَن تصيب؟
(ترفع المسدس وتصوبه نحوهما فيدرآن بأيديهما صائحين)

الزوجة : لا … لا … لا تطلقي!
الزوج : لا تطلقي … لا تطلقي!
الفتاة : لا بد أن أطلق هكذا عليكما معًا … إذن … اتفقا فيما بينكما على وضع … من منكما يتطوع بتلقي الرصاصة عوضًا عن صاحبه؟
(الزوجان يصمتان.)

الفتاة (بعد لحظة) : أمخيف الموت إلى هذا الحد؟ أحلوة الحياة إلى هذا الحد؟! تكلما … لا تريدان الاتفاق … اسمعا إذن … ما رأيكما في أن أجري القرعة بينكما؟ وليحكم الحظ وحده فيكما بما يرى … أخرج من جيبك قطعة عملة صغيرة أيها الزوج … وليختر أحدكما وجهًا من وجهيها … ولتلقَ العملة على هذه المنضدة فمن كانت له الصورة أُنقذ، ومن كان له الرقم قُتل.
(الزوج يُخرج من جيبه عملة صغيرة.)

الزوج : أنا اخترت الصورة.
(يهم بإلقاء العملة على المنضدة.)

الزوجة (تمسك) : لا … لا تلقِ أنت … إني الآن لا أثق بك.
(يظهر عندئذٍ مندوب التأمين مطلًّا برأسه، آتيًا من جهة باب الشقة … وينقر بأصابعه على باب القاعة منبِّهًا.)

المندوب : لا مؤاخذة … نسيت هنا قلمي «الأبنوس» … وهو تذكار ثمين!
الزوجة (ترى المندوب فتصيح به) : الدكتور … أنقذنا يا دكتور!
المندوب : المريضة … فوق … بخير … اطمئني!
الزوجة (تغمزه مشيرة إلى الفتاة هامسة) : ها هي …
الفتاة (ملوحة بالمسدس) : حضرته دكتور؟ يا دكتور اجلس بكل هدوء إلى جانب البك والست … دون أن تجادل أو تناقش.
المندوب (بخوف) : لا … لا داعي للمناقشة!
(يجلس حيث أشارت له الفتاة بالجلوس.)

الفتاة : أنتم الآن ثلاثة … لا اثنان … وهذا قد يجعل المسألة بالنسبة إليَّ أشد تعقيدًا أو أكثر بساطة … على كل حال سأنفض يدي … وسأترك لكم أنتم اتخاذ القرار النهائي.
المندوب : أي قرار نهائي؟!
الفتاة : واحد منكم أنتم الثلاثة يجب الآن أن يموت.
المندوب (مذعورًا) : يا حفيظ!
(يتلفت حوله.)

الفتاة (تلوح بالمسدس) : أي حركة في ذاتها قرار … وقد تريحني وتعفيني من حيرة الاختيار.
المندوب (يثبت في كرسيه) : إني تمثال من حجر!
الفتاة : لا تحاولوا أن تضيعوا وقتًا. ها أنا ذي أحذركم فقد تأتي لحظة مفاجئة لا أتمكن فيها من التحكم في الموقف. فأطلق النار على غير هدًى.
الزوجة (هامسة بلا حراك) : يا دكتور … أما من علاج؟
المندوب (هامسًا) : علاج لي أنا؟ أين هو؟ دمي هرب!
الزوجة (همسًا بدون أن تتحرك) : أوَتتركها تقتلنا هكذا يا دكتور؟!
الزوج (بصوت عالٍ) : إنه ليس بدكتور … إنه مندوب شركة تأمين على الحياة!
الزوجة : ليس بدكتور … حضرته …
المندوب (للزوج همسًا) : تذكر أن الست زوجتك لا يجب أن تعلم …
الزوج (بصوت مرتفع) : فلتعلم … فلتعلم لم يبقَ هناك محل لأن نخفي عنها … فكرة موتي لن تفزعها أو تفجعها أو تصيبها بمكروه!
الزوجة (للزوج) : وفكرة موتي … هل هزت منك الآن شعرة؟!
الفتاة (صائحة فيهم) : وأخيرًا … وأخيرًا إنكم تلعبون بالنار! إنكم لا تقدِّرون أني قد أخرج عن طوري وأرتكب عملًا طائشًا … فيه فناؤكم جميعًا … قلت لكم أريد واحدًا منكم فقط … وعليكم أن تعينوه … أنتم الآن ثلاثة … حكِّموا فيكم الأغلبية … كما يحدث في المحاكم … يكفي أن يتفق اثنان منكم على قرار ليصبح هو النافذ … أسمعتم … لن أقف منكم غير موقف المنفِّذ … اثنان منكم يستطيعان أن يُصدرا حكم الإعدام في الثالث … هلموا … تداولوا … وانطقوا بالحكم … سريعًا … سريعًا.
(الزوج والزوجة يتبادلان النظرات.)

الزوج : هذا معقول.
الزوجة : هذا عدل.
الزوج (يشير إلى نفسه وإلى زوجته) : نحن الاثنان متفقان.
الزوجة : نعم … أنا وزوجي من رأي واحد.
الفتاة : حكمتما طبعًا على …
(تشير إلى المندوب.)

الزوج (ومعه زوجته في صوت واحد) : نعم.
المندوب (صائحًا) : حكما عليَّ أنا … بماذا؟
الفتاة (وهي ترفع مسدسها) : بالموت.
المندوب (يرفع يديه صائحًا متوسلًا) : يا ست … يا آنسة … لا تطلقي … لا تطلقي … كلمة … كلمة واحدة … كلمة لا غير.
الفتاة (تتمهل) : ماذا تريد أن تقول؟
المندوب (وهو يتنفس) : فهموني من فضلكم … ما هذا الحكم … وما هذه المحكمة … وما جنايتي … أنا رجل مسكين … مندوب تأمين … جئت هنا أؤمِّن على الحياة … فأجد أمامي الموت؟!
الفتاة : لم يبقَ عندي وقت لأقص عليك أنت أيضًا القصة من جديد … نعم … أنت رجل مسكين … ومندوب تأمين …
المندوب : وزوج أمين …
الفتاة : وزوج أمين …
المندوب : ووالد ***** صغار …
الفتاة : ووالد ***** صغار تعولهم وتربيهم … ولا جريمة لك ولا ذنب … وما من سبب يدعو إلى قتلك … ولم تسئ إليَّ … ولم أحمل لك أنا ضغنًا … كل هذا أعلمه علم اليقين … ومع ذلك لا بد لي من أن أقتلك.
المندوب : يا مغيث يا رب!
الفتاة (وهي ترفع المسدس) : هل عندك كلام آخر بعد ذلك؟
المندوب (يرفع يديه) : انتظري يا آنسة … انتظري … لحظة … لحظة أخرى.
الفتاة : تفضل … إني كما ترى هادئة الأعصاب إلى حد أُحسد عليه … تكلم.
المندوب : افرضي يا آنستي أني لم أحضر الآن … ولم يرجعني إلى هنا قلمي الأبنوس النحس … ماذا كنت ستصنعين؟
الفتاة : كنت سأقتل أحد هذين الزوجين.
المندوب : اجعلي إذن أني غير موجود … وامضي في إجراءاتك السابقة.
الفتاة : هذا غير ممكن … لأنك موجود بالفعل وصدر عليك حكم الأغلبية.
المندوب : الأغلبية؟! إن هذه الزوجة لا تدري ما ينفعها … ولو أنها عرفت مصلحتها لحكمت معي ضد هذا الزوج … فإنها بمجرد موته تقبض ألفين من الجنيهات.
الزوج : أيها المندوب … لا تلجأ إلى هذا الإغراء الوضيع … إنك في قرارة نفسك تتمنى موت الزوجة … لأن شركتك تكسب بذلك كل ما دفعت أنا من أقساط … ولا بد أن يكون لك من وراء ذلك عمولة.
الفتاة (صائحة) : كفى … كفى … لقد ضقت بهذا الجدل … أريد التنفيذ … أريد العمل … أريد أن أقتل … تقدم أيها المندوب!
المندوب : يا آنستي … رحماك … أقبِّل قدميك … لا تقتليني بهذه السرعة … أبقي عليَّ دقيقة … ألا تعرفين الرحمة؟
الفتاة : أعرف الرحمة … ولطالما غمرت قلبي.
المندوب : ألا تعرفين ****؟
الفتاة : أعرف **** … ولطالما صمت له وصليت.
المندوب : ألا تعرفين الحب؟
الفتاة : الحب؟! ماذا تعني؟
المندوب : الحب … أعني الحب … الذي يجعلك تعيشين … وتدركين للحياة معنًى نابضًا راقصًا … ذلك الحب الذي شعرت به عندما رأيت زوجتي أول مرة وهي فتاة … خُيِّل إليَّ يومئذٍ أني أحيا لأول مرة، وأن كل شيء ألمسه يحيا تحت لمساتي … وكل منظر أراه يحيا تحت نظراتي … الحب ذلك الشعور الذي يحيي الأشياء والأشخاص.
الفتاة : ما هذا الكلام؟ إني ما سمحت لنفسي قط، وما سمحت لي أمي أن أجعل لمثل هذه العواطف مكانًا في قلبي … إني لم أزل في الثامنة عشرة من عمري … ومنذ صغري وأمي تحذرني من هذا الشعور الأثيم الذي تجرؤ أنت فتطريه هذا الإطراء.
المندوب : آه … لقد قتلت فيك حب الحياة … فحل فيك حب الموت.
الفتاة : احتفظ بهذه الأفكار لنفسك … لست أنت على كل حال من يقدر أن يرى ما تنطوي عليه نفسي … من ذا الذي يستطيع أن يعرف حقيقة ما يحب ومدى ما يحب … إليك زوجين هما مثال الإخلاص والوفاء … طالما لمحت ذلك منها بعيني وسمعت من أمي.
الزوجة : أوَكان يدور بخاطري أن زوجي يخدعني هذا الخداع؟!
الزوج : أأنا الذي خدعك أم أنت التي خدعتني؟!
الفتاة : ما من واحدٍ منكما خدع صاحبه … إنما كان كل واحد منكما يَخدع نفسَه … أو نفسُه هي التي تخدعه … لأنه ما من إنسان هبط إلى قاع نفسه ليرى ما فيها … هذا البحر ذو الوجه الصافي الذي تختلط في جوفه الرمالُ بالأعشاب والصخورُ بالأسماك واللآلئُ بالعقارب … هكذا قال لي الطبيب الذي ذهبت إليه هذا الصباح.
الزوجة : أوَذهبت إلى طبيب هذا الصباح؟
الفتاة : نعم … طبيب من أبرع الأطباء في الحالات النفسية … لم أرَ بدًّا من أن أستشيره اليوم … دون أن أخبر أحدًا، حتى ولا أمي … لقد استشرته في أمر هذا الصوت الداخلي الذي يأمرني بالقتل.
الزوجة : وبماذا أشار عليك؟
الفتاة : أشار عليَّ بأن أطيع الصوت … ولا أخافه ولا أكبته … وأن أقتل.
المندوب (صائحًا) : قال لك اقتلي؟!
الفتاة : قال لي إذا قتلت فإنك تشعرين في الحال بأنك استرحت … وأعطاني هذا المسدس.
المندوب : أعطاك المسدس وقال لك اقتلي؟! هكذا بكل بساطة! كما لو أعطاك برشامة «أسبرين» وقل لك اشربي!
الفتاة : لقد أكد لي أن هذا هو الدواء … ولا يجوز لي أن أهمل تعليمات الطبيب … ويحسُن بك أن تساعدني على الشفاء … لأقدِّر لك هذه الخدمة فيما بعد … تقدم.
(تصوب المسدس نحوه.)

المندوب (في ذهول) : فيما بعد! أين؟ ومتى؟ وأنت تخطفين الآن روحي … (يفيق ويصيح) لا تصوبي نحوي … انتظري … انتظري!
الفتاة : انتظرت أكثر مما يجب … أريد أن أستريح … أريد أن أستريح.
المندوب : تتعاطين الدواء!
الفتاة : نعم … وبسرعة … وأرجو أن تتلطف معي وتترفق بي … ولا تؤخرني عن مباشرة العلاج.
المندوب : ارحموني يا ناس … سأجن قبل أن أموت … تريد مني أن أترفق بها، ولتطلق رصاصها في صدري!
الفتاة : نعم … ترفق بي وأرحني … أرحني … عالجني … امنحني الراحة والشفاء.
المندوب (صائحًا) : بموتي … بدمي!
الفتاة : وأي غرابة في ذلك؟! إن دماء البعض علاج للبعض … وليس هذا بالشيء الجديد تحت الشمس … أرجوك أن تتقدم خطوة حتى لا تصيب الرصاصة غيرك … إني سأطلق.
(تصوب المسدس.)

المندوب (صائحًا بفزع) : يا آنسة … ارحميني … ارحمي الأيتام!
(يسرع إلى الزوجين فيلتصق بهما.)

الزوج (يدفعه عنه) : ابعد عنا … ابعد.
المندوب (يتشبث به) : أبعد عنك الآن … وأنت سبب المصيبة … يا زبون الشؤم!
الزوج (يحاول التخلص) : اتركني … اتركني.
المندوب (يستميت في التشبث به) : لن أتركك أبدًا … فلنمت معًا … لن أموت وحدي … ما ذنبي أدخل بيتك لأؤمِّن عليك … فإذا أنت الزبون تعيش … وإذا أنا المندوب غير المؤمَّن عليه أموت؟!
الزوج (لزوجته) : خلصيني … خلصيني منه!
الزوجة : كيف أخلصه … وذراعاه قد ماتتا عليك؟!
الزوج : حاولي … ابذلي مجهودًا … لا تقفي هكذا تشاهدين!
(يتماسكون جميعًا.)

الفتاة (وهي تراقبهم) : آه … المسألة قد تعقدت فيما أرى … ووقتي ضيق وأنفاسي تكاد تقف … أشعر أني أختنق … لا … لا بد من العمل حالًا … لأستعيد تنفسي … لن أموت من أجلكم … ولا من أجل أحد … تماسكتم وأصبحتم كتلة … ربما كان في ذلك انفراج العقدة … سأطلق رصاصة واحدة على كتلة أجسامكم المتلاصقة … ولتصب منكم مَن تصيب … كلٌّ وحظه … ها أنا ذي أقتل واحدًا من بينكم … أي واحد … أقتل … أقتل … أقتل.
(تقول هذه الكلمة من بين أسنانها وتلمع عيناها ببريق عجيب … وتطلق عيارًا ناريًّا، يدوي في القاعة على الثلاثة وهم متكتلون يتدافعون.)

الثلاثة (يسقطون على الأرض صائحين) : قتلتنا!
الفتاة (تتجه إليهم) : من منكم الذي أصيب؟
الزوجة (صائحة) : أنا … أنا مت!
الزوج (صائحًا) : أنا توفيت!
المندوب (صائحًا) : أنا انتقلت إلى رحمة ****!
الفتاة : مستحيل … مستحيل أن تموتوا جميعًا … أنتم الثلاثة من رصاصة واحدة! فيكم اثنان على الأقل في صحة جيدة … انهضوا لأرى … واحد من بينكم فقط هو الذي أصيب.
(الثلاثة ينهضون على أقدامهم … وهم يجسون أعضائهم فاحصين.)

الفتاة (وهي تنظر إليهم) : ما هذا السواد في وجوهكم وعلى ثيابكم؟!
المندوب (هباب.) : البارود!
الفتاة : والرصاصة؟ أين الرصاصة؟ من منكم استقرت فيه الرصاصة؟
الزوج (وهو يفحص جسمه ويبحث في جيوبه) : أوَتُلقين علينا أيضًا عبء البحث عن رصاصتك؟!
الفتاة : هذا لا يحتاج إلى بحث … أمَا من دم سال من أحدكم؟ …
الزوجة (وهي تمسح عرقها) : وهل بعد كل هذا يبقى في أحدنا قطرة دم؟!
(المندوب يتناول المسدس حيث كانت قد وضعته الفتاة على المنضدة بعد الطلقة … ويفحصه ويصيح)

المندوب : المسدس لم يكن محشوًّا بغير البارود!
الفتاة (تلتفت نحوه) : أأنت واثق؟
المندوب (يقدم إليها المسدس) : خذي وانظري بنفسك!
الفتاة : هذا إذن تدبير من الطبيب … مهما يكن من أمر فإني أشعر حقًّا أني استرحت … وكأن كابوسًا انزاح عني.
المندوب : وعني أنا أيضًا … اسمحي لي يا آنسة بالانصراف … توبة إلى **** … لن أدخل هذا البيت … قبل أن أؤمِّن على حياتي لمصلحة الأولاد!
(يحمل حقيبته الصغيرة … ويلتقط قلمه الأبنوس الذي كان قد نسيه فوق المنضدة … ويخرج بسرعة.)

الفتاة (للزوجين) : آسفة … أزعجتكما كثيرًا … اعذراني … وافهما حالتي … إني على كل حال شاكرة لكما أجزل الشكر … لقد استرحت حقًّا بعد أن أطلقت النار … واعتقدت أني قتلت.
(تشير بالتحية منصرفة بينما تتجه الزوجة مطرقة إلى باب حجرتها على اليمين دون أن تنظر إلى زوجها.)

الزوج (للفتاة المنصرفة) : لقد قتلت سعادتنا الزوجية!
(ستار)
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

مواضيع متشابهه

أعلى أسفل