جدو سامى 🕊️ 𓁈
كبير المشرفين
إدارة ميلفات
كبير المشرفين
مستر ميلفاوي
كاتب ذهبي
ناشر قصص
ناشر صور
ناشر أفلام
فضفضاوي متألق
ميلفاوي متميز
ميلفاوي كوميدي
إستشاري مميز
ميلفاوي شاعر
ناشر موسيقي
ميلفاوي سينماوي
ميلفاوي نشيط
ناشر قصص مصورة
نجم ميلفات
ملك الصور
ناقد قصصي
زعيم الفضفضة
حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان
وفي الليلة الأولى بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان ملك يسمى شهرمان صاحب عسكر وخدم وأعوان إلا أنه كبر سنه ورق عظمه لم يرزق بولد فتفكر في نفسه وحزن وقلق وشكا ذلك لبعض وزرائه وقال: إني أخاف إذا مت أن يضيع الملك لأنه ليس لي ولد يتولاه بعدي، فقال له الوزير: لعل **** يحدث بعد ذلك أمراً فتوكل على **** أيها الملك وتوضأ وصل ركعتين ثم جامع زوجتك لعلك تبلغ مطلوبك، فجامع زوجته فحملت في تلك الساعة ولما كملت أشهرها وضعت ولداً ذكراً كانه البدر السافر في الليل العاكر فسماه قمر الزمان وفرح غاية الفرح وزينوا المدينة سبعة أيام ودقت الطبول وأقبلت العشائر وحملته المراضع والدايات وتربى في العز والدلال حتى صار له من العمر خمس عشر سنة وكان فائقاً في الحسن والجمال والقد والإعتدال وكان أبوه يحبه ولا يقدر أن يفارقه ليلاً ولا نهاراً فشكا الملك شهرمان لأحد وزرائه فرط محبته لولده وقال: أيها الوزير لإني خائف على ولدي قمر الزمان من طوارق الدهر والحدثان وأريد أن أزوجه في حياتي. فقال له الوزير: اعلم أيها الملك إن الزواج من مكارم الأخلاق ولا بأس إن تزوج ولدك في حياتك فعند ذلك قال الملك شهرمان: علي بولدي قمر الزمان فحضر وأطرق رأسه إلى الأرض حياء من أبيه فقال له أبوه: يا قمر الزمان اعلم أني اريد أن أزوجك وأفرح بك في حياتي، فقال له: اعلم يا أبي أنني ليس لي في الزواج وليست نفسي تميل إلى النساء لأني وجدت في مكرهن كتباً بالروايات وبكيدهن وردت الآيات وقال الشاعر:
و لما فرغ من شعره قال: يا أبي إن الزواج شيء لا أفعله أبداً، فلما سمع السلطان شهرمان من ولده هذا الكلام اغتم غماً شديداً إلى عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان لما سمع من ولده هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتم على عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له ومن محبته له لم يكرر عليه الكلام في ذلك ولم يغضبه بل أقبل عليه وأكرمه ولاطفه بكل ما يجلب المحبة إلى القلب، كل ذلك وقمر الزمان يزداد في كل يوم حسناً وجمالاً وظرفاً ودلالاً فصبر الملك شهرمان على ولده سنة كاملة حتى صار كامل الفصاحة والملاحة وتهتكت في حسنه الوري وصار فتنة للعشاق وروضة للمشتاق عذب الكلام يخجل في وجهه بدر التمام صاحب قد واعتدال وظرف ودلال كانه غصن بان أو قضيب خيزران ينوب خده عن شقائق النعمان وقده عن غصن البان ظريف الشمائل كما قال فيه القائل:
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لوزيره: قل لي ما الذي أفعله في قضية ولدي قمر الزمان؟ فإني استشرتك في زواجه قبل أن أسلطنه فأشرت علي بذلك وأشرت علي أيضاً أن أذكر له أمر الزواج فذكرته له فخالفني فأشر علي الآن بما تراه حسناً؟ فقال الوزير: الذي أشير به عليك الان أيها الملك أن تصبر عليه سنة أخرى فإذا أردت أن تكلمه بعدها في أمر الزواج فلا تكلمه سراً ولكن حدثه في يوم حكومة يكون جميع الأمراء والوزراء حاضرين وجميع العساكر واقفين فإذا اجتمع هؤلاء فأرسل إلى ولدك قمر الزمان في تلك الساعة وأحضره فإذا حضر فخاطبه في أمر الزواج بحضرة جميع الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الوله والعساكر وأصحاب الصولة فإنه يستحي منهم وما يقدر أن يخالفك بحضرتهم.
فلما سمع الملك شهرمان من وزيره هذا الكلام فرح فرحاً شديداً واستصوب رأي الوزير في ذلك وخلع عليه خلعة سنية فصبر الملك شهرمان على ولده قمر الزمان سنة كاملة وكلما مضى عليه يوماً من الأيام يزداد حسناً وجمالاً وبهجةً وكمالاً حتى بلغ من العمر قريباً عشرين عاماً وألبسه **** حلل الجمال وتوجه بتاج الكمال وأشرقت خدوده بالاحمرار وبياض غرته حكى القمر الزاهر وسواد شعره كأنه الليل العاكر وخصره أرق من خيط هميان وردفه أثقل من الكثبان تهيج البلابل على أعطافه ويشتكي خصره من ثقل أردافه ومحاسنه حبرت الورى كما قال فيه بعض الشعراء:
ثم إن الملك شهرمان سمع كلام الوزير وصبر سنة أخرى حتى حصل يوم موسم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان دعي الأمراء والوزراء والحجاب وأرباب الدولة والعساكر وأصحاب الصولة، ثم أرسل خلف ولده قمر الزمان فلما حضر قبل الأرض بين يديه ثلاث مرات ووقف مكتفاً يديه وراء ظهره قدام ابيه فقال له أبوه: يا ولدي إنني ما أحضرتك هذه المرة قدام هذا المجلس وجميع العساكر حاضرون بين أيدينا إلا لأجل أن أمرتك بأمر فلا تخالفني فيه وذلك أن تتزوج لأنني أشتهي أن أزوجك بنت ملك الملوك وأفرح بك قبل موتي. فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلى أبيه ولحقه في تلك الساعة جنون الصبا وجهل الشبيبة فقال له: أما أنا فلا أتزوج أبداً ولو سقيت كأس الردى واما أنت فرجل كبير السن صغير العقل، إنك سألتني قبل هذا اليوم مرتين غير هذه المرة في شأن الزواج وانا لا اجيبك إلى ذلك، ثم إن قمر الزمان فك كتاف يديه وشمر عن ذراعيه قدام أبيه وهو في غيظه فخجل أبوه واستحى حيث حصل ذلك قدام أرباب دولته والعساكر الحاضرين في الموسم. ثم إن الملك شهرمان لحقته شهامة الملك فصرخ على ولده فأرعبه وصرخ على المماليك وامرهم بإمساكه فأمسكوه وأمرهم أن يكتفوه فكتفوه وقدموه بين يدي الملك وهو مطرق في رأسه من الخوف والوجل وتكلل وجهه وجبينه بالعرق واشتد به الحياء والخجل، فعند ذلك شتمه ابوه وسبه وقال له: ويلك يا ولد الزنا وتربية الخنا كيف يكون هذا جوابك لي بين عساكري وجيوشي؟ ولكن إلى الآن ما أدبك أحد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان: اما تعلم أن هذا الأمر الذي صدر منك لو صدر عن عامي من العوام لكان ذلك قبيحاً منه، ثم إن الملك أمر المماليك أن يحلوا أكتافه ويحبسوه في برج من أبراج القلعة، فعند ذلك دخل الفراشون القاعة التي فيها البرج فكنسوها ومسحوا بلاطها ونصبوا فيها سرير قمر الزمان وفرشوا له على السرير طراحة ونطعاً ووضعوا له مخدة وفانوساً كبيراً وشمعة لأن ذلك المكان كان مظلماً في النهار، ثم إن المماليك أدخلوا قمر الزمان في تلك القاعة وجعلوا على باب القاعة خادماً، فعند ذلك طلع قمر الزمان فوق ذلك السرير وهو منكسر الخاطر حزين الفؤاد وقد عاتب نفسه وندم على ما جرى منه في حق أبيه حيث لا ينفعه الندم وقال: خيب **** الزواج والبنات والنساء الخائنات، فيا ليتني سمعت من والدي وتزوجت فلو فعلت ذلك كان أحسن لي من هذا السجن. هذا ما كان من أمر قمر الزمان.
وأما ما كان من أمر أبيه فإنه أقام على كرسي مملكته بقية اليوم إلى وقت الغروب، ثم خلا بالوزير وقال له: اعلم أيها الوزير أنك كنت السبب في الذي جرى بيني وبين ولدي كله حيث أشرت علي بما أشرت فما الذي تشير به علي الآن؟ فقال له الوزير: أيها الملك دع ولدك في السجن مدة خمسة عشر يوماً ثم احضره بين يديك وأمره بالزواج فإنه لا يخالفك أبداً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قبل رأي الوزير في ذلك اليوم ونام تلك الليلة وهو مشتغل القلب على ولده لأنه كان يحبه محبة عظيمة حيث لم يكن له سواه، وكان الملك شهرمان كل ليلة لا يأتيه نوم حتى يجعل ذراعه تحت رقبة قمر الزمان وينام، فبات الملك الليلة وهو متشوش الخاطر من أجله وصار يتقلب من جنب إلى جنب كأنه نائم على جمر اللظى ولحقه الوسواس ولم يأخذه نوم في تلك الليلة بطولها وذرفت عيناه بالدموع وأنشد قول الشاعر:
وقال آخر:
هذا ما كان من أمر الملك شهرمان، واما ما كان من امر قمر الزمان فإنه لما قدم عليه الليل قدم له الخادم الفانوس وأوقدوا له شمعة وجعلها في شمعدان وقدم له شيئاً من المأكل فأكل قليلاً وصار يعاتب نفسه حيث أساء الأدب في حق أبيه الملك شهرمان وقال في نفسه: ألم تعلم أن ابن آدم رهين لسانه وأن لسان الآدمي هو الذي يوقعه في المهالك؟ ولم يزل يعاتب نفسه ويلومها حتى غلبت عليه الدموع واحترق قلبه المصدوع وندم على ما خرج من لسانه في حق الملك غاية الندم وأنشد هذين البيتين:
ثم إن قمر الزمان لما فرغ من الأكل والشرب طلب أن يغسل يديه فغسل من الطعام وتوضأ وصلى المغرب والعشاء وجلس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ابن الملك شهرمان جلس على السرير ونام على السرير فوق طراحة من الأطلس المعدن لها وجهان وهي محشوة بريش النعام، وحين أراد النوم تجرد من ثيابه وخلع لباسه ونام في قميص شمع رفيع وكان على رأسه مقنع مروزي أزرق فصار قمر الزمان في تلك الليلة كأنه البدر في ليلة أربعة عشر، ثم تغطى بملاءة من حرير ونام والفانوس موقد تحت رجليه والشمعة موقدة تحت رأسه ولم يزل نائماً إلى ثلث الليل ولم يعلم ما خبئ له في الغيب وما قدر عليه علام الغيوب، واتفق أن القاعة والبرج كانا عتيقين مهجورين مدة سنين كثيرة، وكان في تلك القاعة بئر روماني معمور بجنية ساكنة فيه وهي من ذرية إبليس اللعين واسم تلك الجنيهة ميمونة ابنة الدمرياط احد ملوك الجان المشهورين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اسم تلك الجنية ميمونة ابنة الدمرياط أحد ملوك الجان المشهورين فلما استمر قمر الزمان نائماً إلى ثلث الليل طلعت له تلك العفريتة من البئر الروماني وقصدت السماء لاستراق السمع فلما صارت في أعلى البئر رأت نوراً مضيئاً في البرج على خلاف العادة وكانت العفريتة مقيمة في ذلك المكان مدة مديدة من السنين فقالت في نفسها: أنا ما عهدت هنا شيئاً من ذلك وتعجبت من هذا الأمر غاية العجب وخطر ببالها أنه لا بد لذلك من سبب ثم قصدت ناحية ذلك النور فوجدته خارجاً من القاعة فدخلتها ووجدت الخادم نائماً على بابها. ولما دخلت القاعة وجدت سريراً منصوباً وعليه هيئة إنسان نائم وشمعة مضيئة عند رأسه وفانوس مضيء عند رجليه فتعجبت العفريتة ميمونة من ذلك النور وتقدمت إليه قليلاً قليلاً وأرخت أجنحتها ووقفت على السرير وكشفت الملاءة عن وجهه ونظرت إليه واستمرت باهتة في حسنه وجماله ساعة رومانية وقد وجدت ضوء وجهه غالباً على نور الشمعة وصار وجهه يتلألأ نوراً وقد غارت عيناه واسودت مقلتاه واحمر خداه وفتر جفناه وتقوس حاجباه وفاح مسكه العاطر كما قال فيه الشاعر:
فلما رأته العفريتة ميمونة بنت الدمرياط سبحت **** وقالت: تبارك **** أحسن الخالقين وكانت تلك العفريتة من الجن المؤمنين فاستمرت ساعة وهي تنظر إلى وجه قمر الزمان وتوحد **** وتغبطه على حسنه وجماله وقالت في نفسها و**** إني لا أضره ولا أترك احداً يؤذيه ومن كل سوء سوف افديه فإن هذا الوجه المليح لا يستحق إلا النظر إليه والتسبيح ولكن كيف هان على أهله حتى نسوه في هذا المكان الخرب فلو طلع له أحد من مردتنا في هذه الساعة لأعطبه ثم إن تلك العفريتة مالت عليه وقبلته بين عينيه وبعد ذلك أرخت الملاءة على وجهه وغطته بها وفتحت أجنحتها وطارت ناحية السماء وطلعت من دور تلك القاعة وصعدت ولم تزل صاعدة في الجو إلى أنقربت من سماء الدنيا وإذا بها سمعت خفق أجنحة طائرة في الهواء فقصدت ناحية تلك الجنحة. فلما قربت من صاحبها وجدته عفريتاً يقال له دهنش فانقضت عليه انقضاض الباشق فلما أحس بها دهنش وعرف أنها ميمونة بنت ملك الجن خاف منها وارتعدت فرائصه واستجار بها وقال لها: أقسم عليك بالاسم الأعظم والطلسم الأكرم المنقوش على خاتم سليمان أن ترفقي بي ولا تؤذيني، فلما سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام حن قلبها عليه وقالت له: إنك أقسمت علي بقسم عظيم ولكن لا أعتقد حتى تخبرني من أين مجيئك في هذه الساعة؟ فقال لها: أيتها السيدة اعلمي أن مجيئي من آخر بلاد الصين ومن داخل الجزائر وأخبرك بأعجوبة رأيتها في هذه الليلة فإن وجدت كلامي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجن قال للجنية فإن وجدت كلامي صحيحاً فاتركيني أروح إلى حال سبيلي بخطك في هذه الساعة أني عشيقك في هذه الساعة حتى لا يعارضني أحد من رهط الجن الطيارة العلوية والسفلية والغواصة، قالت له ميمونة: فما الذي رأيته في هذه الليلة يا دهنش فاخبرني ولا تكذب علي وتريد بكذبك أن تنفلت من يدي وأنا أقسم لك بحق النقش المكتوب على فص خاتم سليمان بن داود عليه السلام إن لم يكن كلامك صحيحاً أنتفت ريشك بيدي ومزقت جلدك وكسرت عظمك فقال لها العفريت دهنش بن شمهورش الطيار: إن لم يكن كلامي صحيحاً فافعلي بي ما شئت يا سيدتي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العاشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنش قال: خرجت في هذه الليلة من الجزائر الداخلة في بلاد الصين وهي بلاد الغيور صاحب الجزائر والبحور السبعة قصور فرأيت لذلك الملك بنتاً لم يخلق **** في زمانها أحسن منها ولا اعرف كيف أصفها لك ويعجز لساني عن وصفها كما ينبغي ولكن أذكر لك شيئاً من صفاتها على سبيل التقريب أما شعرها فكليالي الهجر وأما وجهها فكأيام الوصال وقد أحسن في وصفها من قال:
ولها أنف كحد السيف المصقول ولها وجنتان كرحيق الأرجوان ولها خد كشقائق النعمان وشفتاها كالمرجان والعقيق ورقها أشهى من الرحيق يطفئ مذاقه الحريق ولسانها يحركه عقل وافر وجواب حاضر ولها صدر فتنة لمن يراه فسبحان من خلقه وسواه ومتصل بذلك الصدر وعضدا من مرجان كما قال فيهما الشاعر الولهان:
ولها نهدان كأنهما من العاج يستمد من إشراقهما القمران ولها بطن مطوية كطي القباطي المصرية وينتهي ذلك إلى خصر مختصر من وهم الخيال فوق ردف ككثيب من الرمال يقعدها إذا قامت ويوقظها إذا نامت كما قال فيه بعض واصفيه:
يحمل ذلك الكفل فخذان كأنهما من الدر عمودان وعلى حمله ما أقدرهما إلا بركة الشيخ الذي بينهما وأما غير ذلك من الأوصاف فلا يحصيه ناعت ولا وصاف ويحمل ذلك كله قدمان لطيفتان صنعة المهيمن الديان فعجبت منهما وكيف كانا يحملان ما فوقهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية عشر بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريت دهنش ابن شمهورش قال للعفريتة ميمونة: وأما وراء ذلك فإني تركته لأنه تقصر عنه العبارة ولا تفي به الإشارة وأبو تلك الصبية ملك جبار فارس كرار يخوض بحار الأقطار في الليل والنهار لا يهاب الموت ولا يخاف القوت لأنه جائر ظلوم وقاهر غشوم وهو صاح جيوش وعساكر واقاليم وجزائر ومدن ودور واسمه الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور وكان يحب ابنته هذه التي وصفتها لك حباً شديداً ومن محبته لها جلب أموال سائر الملوك وبنى لها بذلك سبعة قصور كل قصر من جنس مخصوص، القصر الأول من البلور والقصر الثاني من الرخام والقصر الثالث من الحديد الصيني، والقصر الرابع من الجزع والفصوص والقصر الخامس من الفضة والقصر السادس من الذهب، والقصر السابع من الجواهر وملأ السبعة قصور من أنواع الفرش الفاخرة وأواني الذهب والفضة وجمع الآلات من كل ما تحتاج إليه الملوك وأمر ابنته أن تسكن في كل قصر مدة السنة ثم تنقل منه إلى قصر غيره واسمها الملكة بدور. فلما اشتهر حسنها وشاع في البلاد ذكرها أرسل سائر الملوك إلى أبيها يخطبونها منه فزادوها في أمر الزواج فكرهت ذلك وقالت لأبيها: يا والدي ليس لي غرض في الزواج أبداً فإني سيدة وملكة أحكم على الناس ولا أريد رجلاً يحكم علي. وكلما امتنعت من الزواج زادت رغبة الخطاب فيها، ثم إن جميع ملوك جزائر الصين الجوانية أرسلوا إلى أبيها الهدايا والتحف وكاتبوه في أمر زواجها فكرر عليها أبوها المشاورة في أمر الزواج مراراً عديدة، فخالفته وغضبت منه وقالت له: يا أبي إن ذكرت لي الزواج مرة أخرى أخذت السيف ووضعت قائمه في الأرض ودبابه في بطني واتكأت عله حتى يطلع من ظهري وقتلت نفسي.
فلما سمع أبوها منها هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلام واحترق قلبه عليها غاية الاحتراق وخشي أن تقتل نفسها وتحير في أمرها وفي أمر الملوك الذين خطبوها منه، فقال لها: إن كان ولا بد من عدم زواجك فامتنعي من الدخول والخروج، ثم إن أباها أدخلها البيت وحجبها فيه، واستحفظ عليها عشر عجائز قهرمانات ومنعها من أن تذهب إلى السبع قصور وأظهر لها أنه غضبان عليها وأرسل يكاتب الملوك جميعهم وأعلمهم أنها أصيبت بجنون في عقلها ولها الآن سنة وهي محجوبة، ثم قال العفريت دهنش للعفريتة: وأنا يا سيدتي في كل ليلة فأنظرها وأتملى بوجهها وأقبلها بين عينيها ومن محبتي لها لا أضرها ولا أركبها لأن جمالها بارع وكل من رآها يغار عليها من نفسه. وأقسمت عليك يا سيدتي أن ترجعي معي وتنظري حسنها وجمالها وقدها واعتدالها وبعد هذا إن شئت أن تعاقبيني أو تأسريني فافعلي فإن الأمر أمرك والنهي نهيك، ثم إن العفريت دهنش أطرق رأسه إلى الأرض وخفض أجنحته إلى الأرض فقالت له العفريتة ميمونة بعد أن ضحكت من كلامه وبصقت في وجهه: أي شيء هذه البنت التي تقول عنها فما هي إلا قوارة بول فكيف لو رأيت معشوقي و**** إن حسبت أن معك أمراً عجيباً أو خبراً غريباً، يا ملعون إني رأيت إنساناً في هذه الليلة لو رأيته ولو في المنام لنفلجت عليه وسالت ريالتك، فقال لها دهنش: وما حكاية هذا الغلام؟ فقالت له: اعلم يا دهنش أن هذا الغلام قد جرى له مثل ما جرى لمشوفتك التي ذكرتها وأمره أبوه بالزواج مراراً عديدة فأبى، فلما خالف أباه غضب عليه وسجنه في البرج الذي أنا ساكنة فيه فطلعت في هذه الليلة فرأيته فقال لها دهنش: يا سيدتي أريني هذا الغلام لأنظر هل هو أحسن من معشوقتي الملكة بدور أم لا، لأني ما أظن أن يوجد في هذا الزمان مثل معشوقتي، فقالت له العفريتة: تكذب يا ملعون يا أنحس المردة وأحقر الشياطين فأنا أتحقق أنه لا يوجد لمعشوقي مثيل في هذه الديار.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريتة ميمونة قالت للعفريت دهنش: أنا أتحقق أنه لا يوجد لمعشوقي مثيل في هذه الديار فهل أنت مجنون حتى تقيس مشوقتك بمعشوقي؟ قال لها: ب**** عليك يا سيدتي أن تذهبي معي وتنظري معشوقتي وأرجع معك وانظر معشوقك، فقالت له ميمونة: لا بد من ذلك يا ملعون لأنك شيطان مكار ولكن لا أجيء معك ولا تجيء معي إلا برهن فإن طلعتك معشوقك التي أنت تحبها وتتغالى فيها أحسن من معشوقي الذي أحبه وأتغالى فيه فإن ذلك الرهان يكون لك وإن طلع معشوقي أحسن فإن ذلك الرهان يكون لي عليك. فقال لها العفريت دهنش: يا سيدتي قبلت منك هذا الشرط ورضيت به، تعالي معي إلى الجزائر فقالت له ميمونة إن موضع معشوقي أقرب من موضع معشوقتك وها هو تحتنا فانزل معي لتنظر معشوقي ونروح بعد ذلك إلى معشوقتك فقال لها دهنش: سمعاً وطاعة، ثم انحدرا إلى أسفل ونزلا في دور القاعة التي في البرج وأوقفت ميمونة دهنش بجانب السرير ومدت يدها ورفعت الملاءة عن وجه قمر الزمان ابن الملك شهرمان فسطع وجهه وأشرق ولمع وزرها فنظرته ميمونة والتفتت من وقتها إلى دهنش وقالت له أنظر يا ملعون ولا تكن أقبح مجنون فنحن بنات وبه مفتونات.
فعند ذلك التفت إليها دهنش واستمر يتأمل فيه ساعة، ثم حرك رأسه وقال لميمونة: و**** يا سيدتي إنك لمعذورة ولكن بقي شيء آخر وهو أن حال الأنثى غير حال الذكر وحق **** إن معشوقك هذا أشبه الناس بمعشوقتي في الحسن والجمال والبهجة والكمال وهما الاثنان كأنهما أفرغا في قالب الحسن سواء. فلما سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً ولطمته بجناحها على رأسه لطمة قوية كادت أن تقضي عليه من شدتها وقالت له: قسماً بنور وجهه وجلاله أن تروح يا ملعون في هذه الساعة وتحمل معشوقتك التي تحبها وتجيء بها إلى هذا المكان حتى نجمع بين الاثنين وننظرهما وهما نائمان بالقرب من بعضهما فيظهر لنا أيهما أحسن، وإن لم تفعل ما أمرتك به في هذه الساعة يا ملعون لأحرقتك بناري ورميتك بشرار أسراري ومزقتك قطعاً في البراري وجعلتك عبرة للمقيم والساري، فقال لها دهنش: يا سيدتي لك علي ذلك وأنا أعرف أن محبوبتي أحسن وأحلى ثم إن العفريت دهنش طار من وقته وساعته وطارت ميمونة معه من أجل المحافظة عليه فغابا ساعة زمانية ثم أقبل الاثنان وهما حاملان تلك الصبية وعليها قميص بندقي رفيع بطرازين من الذهب وهو مزركش ببدائع التطريزات وكتوب على رأس كميه هذه الأبيات:
ثم إنهما نزلا بتلك الصبية ومدداه بجانب الغلام،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريت والعفريتة كشفا عن وجوه ثلاثين فكانا أشبه الناس ببعضهما فكأنهما توأمان أخوان منفردان وهما فتنة للمتقين كما قال لهما التاجر المبين:
وكان دهنش وميمونة ينظران إليهما فقال دهنش: إن معشوقتي أحسن، قالت له ميمونة: بل إنه أحسن، ويلك يا دهنش هل أنت اعمى اما تنظر إلى حسنه وجماله وقده واعتداله؟ فاسمع ما أقول، وإن كنت محباً صادقاً لمن تعشقها فقل فيها مثل ما أقول في محبوبي ثم إن ميمونة قبلت قمر الزمان قبلات عديدة وأنشدت هذه القصيدة:
فلما سمع دهنش شعر ميمونة في معشوقها طرب غاية الطرب وتعجب كل العجب.
فقالت له ميمونة: وهو كذلك، ثم ضربت الأرض برجلها فطلع لها من الأرض عفريت أعور أجرب وعيناه مشقوقتان في وجهه بالطول وفي رأسه سبعة قرون وله أرب ذوائب من الشعر مسترسلة إلى الأرض ويداه مثل يدي القطرب له أظفار كأظفار الأسد ورجلان كرجلي الفيل وجوافر كحوافر الحمار فلما طلع ذلك العفريت ورأى ميمونة قبل الأرض بين يديها وتكتف وقال لها: ما حاجتك يا سيدتي يا بنت الملك؟ فقالت له: يا قشقش إني أريد أن تحكم بيني وبين هذا الملعون دهنش ثم إنها أخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فعندها نظر العفريت قشقش إلى وجه ذلك الصبي ووجه تلك الصبية فرآهما متعانقين وهما نائمان ومعصم كل منهما تحت عنق الأخر وهما في الحسن والجمال متشابهان وفي الملاحة متساويان فنظر وتعجب المارد قشقش من حسنهما وجمالهما والتفت إلى ميمونة ودهنش بعد أن أطال إلى الصبي والصبية الالتفات وأنشد هذه الأبيات:
ثم إن العفريت قشقش التفت إلى ميمونة وإلى دهنش وقال لهما: و**** ما فيهما أحد أحسن من الآخر ولا دون الآخر بل هما أشبه الناس ببعضهما في الحسن والجمال والبهجة والكمال، ولا يفرق بينهما إلا بالتذكير والتأنيث وعندي حكم أخر وهو أن ننبه كل واحد منهما من غير علم الأخر، وكل من التهب على رفيقه فهو دونه في الحسن والجمال، فقالت ميمونة: نعم هذا الرأي الذي قلته فأنا رضيته وقال دهنش وأنا رضيته، فعند ذلك انقلب دهنش في صورة برغوث ولدغ قمر الزمان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنشاً لدغ قمر الزمان في رقبته في موضع ناعم فمد قمر الزمان يده على رقبته وهرش موضع اللدغة من شدة ما أحرقته فتحرك بجنبه فوجد شيئاً قائماً بجنبه ونفسه أذكى من المسك وجسمه ألين من من الزبد فتعجب قمر الزمان من ذلك غاية العجب ثم قام من وقته قاعداً ونظر إلى ذلك الشخص الراقد بجانبه فوجده صبية كالدرة السنية أو القبة المبنية بقامة ألفية خماسية القدر بارزة النهد موردة الخد كما قال فيها بعض واصفيها:
فلما رأى قمر الزمان السيدة بدور بنت الملك الغيور، وشاهد حسنها وجمالها وهي نائمة طوله ووجد فوق بدنها قميصاً بندقياً وهي بلا شروال وعليها كوفية من ذهب مرصعة بالجواهر وفي عنقها قلادة من الفصوص المثمنة لا يقدر عليها أحد من الملوك فصار مدهوش العقل من ذلك، ثم إنه حين شاهد حسنها تحركت فيه الحرارة الغريزية وألقى **** عليه شهوة الجماع وقال في نفسه: ما شاء **** كان وما لم يشأ لم يكن، ثم قلبها بيده ثاني مرة وفتح طوق قميصها فبان له بطنها ونظر إلى نهودها فازداد فيها محبة ورغبة فصار ينبهها وهي لا تنتبه، لأن دهنشاً ثقل نومها فصار قمر الزمان يهزها ويحركها ويقول: يا حبيبتي استيقظي وانظري من أنا فأنا قمر الزمان، فلم تستيقظ ولم تحرك رأسها، فعند ذلك تفكر في أمرها ساعة زمانية، وال في نفسه: إن صدق حذري فهذه الصبية هي التي يريد والدي زواجي بها، ومضى لي ثلاث سنين وأنا أمتنع من ذلك فإن شاء **** إذا جاء الصبح أقول لأبي: زوجني بها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان قال في نفسه: إن شاء **** إذا جاء الصبح أقول لأبي: زوجني بها ولا أترك نصف النهار يفوت حتى أفوز بوصلها وأتملى بحسنها وجمالها، ثم إن قمر الزمان مال إلى بدور ليقبلها فارتعدت ميمونة الجنية وخجلت، ثم إن قمر الزمان لما أراد أن يقبله في فمها استحى من ****، ولفت وجهه وقال في نفسه: أنا أصبر لئلا يكون والدي لما غضب علي وحبسني في هذا الموضع جاء لي بهذه العروسة وأمرها بالنوم جنبي ليمتحنني بها، وأوصاها أني إذا نبهتها لا تستيقظ وقال لها أي شيء فعل بك قمر الزمان فاعلميني به وربما يكون والدي مستخفياً في مكان ما بحيث يطلع علي وأنا لا أنظره فينظر جميع ما أفعله بهذه الصبية وإذا أصبح يوبخني ويقول لي: كيف تقول لي مالي أرب في الزواج وأنت قبلت تلك الصبية وعانقتها، فأنا أكف نفسي عنها الليلة لئلا ينكشف أمري مع والدي فأنا لا ألمس الصبية من تلك الساعة ولا ألتفت لها غير أني آخذ لي منها شيئاً يكون أمارة عندي وتذكرة لها حتى يبقى بيني وبينها إشارة، ثم إن قمر الزمان رفع جريدة كفاح العمال الاشتراكي الصبية وأخذ خاتمها من خنصرها وهو يساوي حملة من المال لأن فصه من نفيس الجواهر ونقوش دائرته هذه الأبيات:
ثم إن قمر الزمان نزع ذلك الخاتم من خنصر الملكة بدور ولبسه في خنصره وأدار ظهره إليها وقام ففرحت ميمونة الجنية لما رأت ذلك وقالت دهنش وقشقش: هل رأيتما محبوبي قمر الزمان وما فعله من العفة عن هذه الصبية؟ فهذا من كمال محاسنه فانظروا كيف رأى هذه الصبية وحسنها وجمالها ولم يعانقها ولم يلمس بيده عليها بل أدار ظهره إليها ونام فقالا لها: قد رأينا ما صنع من الكمال فعند ذلك انقلبت ميمونة وجعلت نفسها برغوثاً ودخلت ثياب بدور محبوبة دهنش ومشت على ساقها وطلعت على فخذها ومشت تحت سرتها مقدار أربعة قراريط ولدغتها ففتحت عينيها واستوت قاعدة فرأت شاباً نائماً بجانبها وهو يغط في نومه وله خدود كشقائق النعمان ولواحظ تخجل الحور الحسان وفم كأنه خاتم سليمان وريقه حلو المذاق وأنفع من الترياق كما قال فيه بعض واصفيه:
ثم إن الملكة بدور لما رأت قمر الزمان أخذها الهيام والوجد والغرام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور قالت في نفسها: وفضيحتاه إن هذا شاب غريب لا أعرفه ما باله راقد بجانبي في فراش واحد؟ ثم نظرت إليه بعينيها وحققت النظر فيه وفي ظرفه ودلاله وحسنه وجماله ثم قالت: وحق **** أنه شاب مليح مثل القمر إلا أن كبدي تكاد أن تتمزق وجداً عليه وشغفاً بحسنه وجماله، فيا لفضيحتي منه و**** لو علمت إن هذا الشاب هو الذي خطبني من أبي ما رددته بل كنت أتزوجه وأتملى بجماله، ثم إن الملكة بدور تطلعت من وقتها وساعتها في وجه قمر الزمان وقالت له: يا سيدي وحبيب قلبي ونور عيني انتبه من منامك وتمتع بحسني وجمالي، ثم حركته بيدها فأرخت عليه ميمونة الجنية النوم وثقلت رأسه بجناحها فلم يستيقظ قمر الزمان فهزته الملكة بدور بيديها وقالت له: بحياتي عليك أن تطيعني وانتبه من منامك وانظر النرجس والخضرة وتمتع ببطني والسرة وهارشني وناغشني من هذا الوقت إلى بكرة، قم يا سيدي واتكئ على المخدة ولا تنم، فلم يجبها قمر الزمان بجواب ولم يرد عليها خطاباً بل غط في النوم.
فقالت الملكة بدور: ما لك تائهاً بحسنك وجمالك وظرفك ودلالك فكما أنت مليح أنا الأخرى مليحة فما هذا الذي تفعله؟ هل هم علموك الصد عني أو أبي الشيخ النحس منعك من أن تكلمني في هذه الليلة؟ ففتح قمر الزمان عينيه فازدادت فيه محبة وألقى **** محبته في قلبها ونظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة فخفق فؤادها وتقلقلت أحشاؤها واضطربت جوارحها وقالت لقمر الزمان: يا سيدي كلمني يا حبيبي يا معشوقي رد علي الجواب وقل لي: ما اسمك فإنك سلبت عقلي، كل ذلك وقمر الزمان مستغرق في النوم ولم يرد عليها بكلمة. فتأوهت الملكة بدور وقالت: ما لك معجباً بنفسك؟ ثم هزته وقبلت يده فرأت خاتمها في إصبعه الخنصر فشهقت وأتبعتها بغنجة وقالت: أوه.. أوه و**** أنت حبيبي وتحبني ولكن كأنك تعرض عني دلالاً مع أنك جئتني وأنا نائمة وما أعرف كيف عملت أنت معي ولكني ما أنا قالعة خاتمي من خنصرك ثم فتحت جيب قميصه ومالته عليه وقبلت رقبته وفتشت على شيء تأخذه منه فلم تجد معه شيئاً ورأته بغير سروال فمدت يدها من تحت ذيل قميصه وجست سيقانه فزلقت يدها من نعومة جسمه وسقطت على عضوه فانصدع قلبها وارتجف فؤادها إلا أن شهوة النساء أقوى من شهوة الرجال وخجلت وخجلت ثم نزعت خاتمه من إصبعه ووضعته في إصبعها موضعاً عن خاتمها وقبلته في ثغره وقبلت كفه ولم تترك فيه موضعاً إلا قبلته وبعد ذلك أخذته في حضنها وعانقته ووضعت إحدى يديها تحت رقبته والأخرى من تحت إبطه ونامت بجانبه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الملكة بدور نامت بجانب قمر الزمان وجرى ما جرى فلما رأت ذلك ميمونة فرحت غاية الفرح وقالت لدهنش: هل رأيت يا ملعون كيف فعلت معشوقتك من الوله بمعشوقي؟ وكيف فعل معشوقي من التيه والدلال فلا شك أن معشوقي أحسن من معشوقتك ولكن عفوت عنك، ثم كتبت له ورقة والتفتت إلى قشقش وقالت له: ادخل معه واحمل معشوقته وساعده على وصالها إلى مكانها لأن الليل مضى وفاتني مطلوبي، فتقدم دهنش وقشقش إلى الملكة بدور وخلا تحتها وحملاها وطارا بها وأوصلاها إلى مكانها واعاداها إلى فراشها واختلت ميمونة النظر إلى قمر الزمان وهو نائم حتى لم يبق من الليل إلا القليل ثم توجهت إلى حال سبيلها. فلما انشق الفجر انتبه قمر الزمان من منامه والتفت يميناً وشمالاً فلم يجد الصبية عنده فقال في نفسه: ما هذا الأمر كأن أبي يرغبني في الزواج بالصبية التي كانت عندي ثم أخذها سراً لأجل أن تزداد رغبتي في الزواج ثم صرخ على الخادم الذي هو نائم على الباب وقال له: ويلك يا مأمون قم فقام الخادم وهو طائش العقل من النوم ثم قدم له الطشت والإبريق فقام قمر الزمان ودخل المستراح وقضى حاجته وخرج وتوضأ وصلى الصبح وجلس يسبح **** ثم نظر إلى الخادم فوجده واقفاً في خدمته بين يديه فقال له: ويلك يا صواب، من جاء هنا وأخذ الصبية من جنبي وانا نائم؟ فقال الخادم: يا سيدي أي شيء للصبية؟ فقال قمر الزمان: الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة، فانزعج الخادم من كلام قمر الزمان وقال له: لم يكن عندك صبية ولا غيرها ومن أين دخلت الصبية وأنا نائم وراء الباب وهو مقفول؟ و**** يا سيدي ما دخل عليك لا ذكر ولا أنثى، فقال له قمر الزمان: تكذب يا عبد النحس وهل وصل من قدرك أنت الأخر أنك تخادعني، ولا تخبرني أين راحت هذه الصبية التي كانت نائمة عندي غي هذه الليلة ولم تخبرني بالذي أخذها من عندي؟ فقال الطواشي وقد انزعج منه: و**** يا سيدي ما رأيت صبية ولا صبياً، فغضب قمر الزمان من كلام الخادم وقال له: إنهم علموك الخداع يا ملعون فتعالى عندي، فتقدم الخادم إلى قمر الزمان فأخذ بأطواقه وضرب به الأرض فضرط ثم برك عليه قمر الزمان ورفسه برجله وخنقه حتى غشي عليه ثم بعد ذلك ربطه في سلبة البئر وأدلاه فيه إلى أن وصل إلى الماء وأرخاه وكانت تلك الأيام برد وشتاء قاطع فغطس الخادم في الماء ثم نشله قمر الزمان وأرخاه، وما زال يغطس ذلك الخادم في الماء وينشله منه والخادم يستغيث ويصرخ ويصيح وقمر الزمان يقول له: و**** يا ملعون ما أطلعك من هذه البئر حتى تخبرني بخبر هذه الجارية وقضيتها ومن الذي أخذها وأنا نائم؟
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم قال لقمر الزمان: أنقذني من البئر يا سيدي وأنا أخبرك بالصحيح، فجذبه من البئر وأطلعه وهو غائب عن الوجود من شدة ما قاساه من الغرق والبرد والضرب والعذاب وصار يرتعد مثل القصبة في الريح العاصف واشتبكت أسنانه في بعضها وابتلت ثيابه بالماء فلما رأى الخادم نفسه على وجه الأرض قال له: دعني يا سيدي أروح وأقلع ثيابي وأعصرها وأنشرها في الشمس وألبس غيرها، ثم أحضر إليك سريعاً وأخبرك بأمر تلك الصبية وأحكي لك حكايتها. فقال قمر الزمان: و**** يا عبد النحس لولا أنك عاينت الموت ما أقررت بالحق فاخرج لقضاء أغراضك وعد إلي بسرعة واحك لي حكاية الصبية وقصتها، فعند ذلك خرج الخادم وهو لا يصدق بالنجاة ولم يزل يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان أبي قمر الزمان فوجد الوزير بجانبه وهما يتحدثان في أمر قمر الزمان فسمع الملك يقول للوزير: لإني ما نمت في هذه الليلة من اشتغال قلبي بولدي قمر الزمان وأخشى أن يجري له شيء في هذا الربج العتيق وما كان في سجنه شيء من المصلحة، فقال له الوزير: لا تخف عليه و**** لا يصيبه شيء ودعه مسجوناً شهراً كاملاً حتى تلين عريكته. فبينما هما في الكلام وإذا بالخادم دخل عليهما وهو في تلك الحالة وقال له: يا مولانا السلطان إن ولدك حصل له جنونو قد فعل بي هذه الفعال، وقال لي: إن صبية باتت عندي في هذه الليلة وذهبت خفية فأخبرني بخبرها وأنا لا أعرف ما شأن هذه الصبية، فلما سمع السلطان شهرمان هذا الكلام عن ولده قمر الزمان صرخ قائلاً: واولداه، وغضب على الوزير الذي كان سبباً في هذه الأمور غضباً شديداً وقال له: قم اكشف لي خبر ولدي قمر الزمان، فخرج الوزير وهو يتعثر في أذياله من خوفه من الملك وراح مع الخادم إلى البرج وكانت الشمس قد طلعت فدخل الوزير على قمر الزمان فوجده جالساً على السرير يقرأ القرآن فسلم عليه الوزير وجلس إلى جانبه وقال له: يا سيدي إن هذا العبد النحس أخبرنا بخبر شوش علينا وأزعجنا فاغتاظ الملك من ذلك، فقال له قمر الزمان: أيها الوزير، وما الذي قاله لكم عني حتى شوش على أبي وفي الحقيقة هو ما شوش إلا علي، فقال له الوزير: إنه جاءنا بحالة منكرة وقال لنا قولاً حاشاك منه وكذب علينا بما لا ينبغي أن يذكر في شانك فسلامة شبابك وعقلك الرجيح ولسانك الفصيح وحاشى أن يصدر منك شيء قبيح، فقال له قمر الزمان: فأي شيء قال هذا العبد النحس فقال له الوزير: إنه أخبرنا أنك جننت وقلت له كان عندي صبية في الليلة الماضية، فهل قلت للخادم هذا الكلام؟ فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً وقال للوزير: تبين لي أنكم علمتم الخادم الفعل الذي صدر منه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ابن الملك شهرمان، قال للوزير: تبين لي أنكم منعتموه من أن يخبرني بأمر الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة وأنت أيها الوزير أعقل من الخادم فأخبرني في هذه الساعة أين ذهبت الصبية المليحة التي كانت نائمة في حضني في تلك الليلة فأنتم الذين أرسلتموها وأمرتموها أن تبيت في حضني ونمت معها إلى الصباح فلما انتبهت ماوجتها، فأين هي الآن؟ فقال الوزير: يا سيدي قمر الزمان اسم **** حواليك وإنا ما أرسلنا لك في هذه الليلة أحداً وقد نمت وحدك والباب مقفل عليك والخادم نائم من خلف الباب وما أتى إليك صبية ولا غيرها فارجع إلى عقلك يا سيدي ولا تشغل خاطرك، فقال له قمر الزمان وقد اغتاظ من كلامه: أيها الوزير: أيها الوزير إن تلك الصبية معشوقتي وهي المليحة صاحبة العيون السود والخدود الحمر التي عانقتها في هذه الليلة، فتعجب الوزير من كلام قمر الزمان وقال له: هل رأيت الصبية في هذه الليلة بعينك في اليقظة أو في المنام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس أتظن أني رأيتها بأذني إنما رأيتها بعيوني في اليقظة وقلبتها بيدي وسهرت معها نصف ليلة كاملة وأنا أتفرج على حسنها وجمالها وظرفها ودلالها وإنما انتم أوصيتموها أنها لا تكلمني فجعلت نفسها نائمة فنمت بجنبها إلى الصباح ثم استيقظت من منامي فلم أجدها، فقال له الوزير: يا سيدي قمر الزمان ربما تكون رأيت هذا الأمر في المنام فيكون أضغاث أحلام أو تخيلات من أكل مختلف الطعام أو وسوسة الشياطين اللئام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس كيف تهزأ بي أنت الأخر وتقول لي لعل هذا أضغاث أحلام مع أن الخادم قد أقر بتلك الصبية وقال لي في هذه الساعة أعود إليك وأخبرك بقصتها؟ ثم إن قمر الزمان قام من وقته وتقدم إلى الوزير وقبض على لحيته في يده وكانت لحيته طويلة فأخذها قمر الزمان ولفها على يده وجذبه منها فرماه من فوق السرير وألقاه على الأرض فأحس الوزير أن روحه طلعت من شدة نتف لحيته وما زال قمر الزمان يرفس الوزير برجليه ويصفعه على قفاه بيديه حتى كاد أن يهلكه.
فقال الوزير في نفسه: إذا كان العبد الخادم خلص نفسه من هذا الصبي المجنون بكذبة فأنا أولى بذلك منه وأخلص نفسي أنا الآخر بكذبة وإلا يهلكني، فها أنا أكذب وأخلص روحي منه فإنه مجنون ولا شك في جنونه، ثم إن الوزير التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا سيدي لا تؤاخذني فإن والدك أوصاني أن أكتم عنك خبر هذه الصبية وأنا الآن عجزت وكليت من الضرب لأني بقيت رجلاً كبيراً وليس لي قوة تحمل الضرب فتمهل علي قليلاً حتى أحدثك بقصة الصبية. فعند ذلك منع عنه الضرب وقال له: لأي شيء لم تخبرني بخبر تلك الصبية إلا بعد الضرب والإهانة فقم أيها الشيخ النحس واحك لي خبرها، فقال له الوزير: هل أنت تسأل عن تلك الصبية صاحبة الوجه المليح والدقد الرجيح؟ فقال له قمر الزمان: نعم أخبرني أيها الوزير من الذي جاء بها إلي وأنامها عندي وأين هي في هذه السهاة حتى أروح إليها بنفسي؟ فإن كان أبي الملك شهرمان فعل معي هذه الفعال وامتحني بتلك الصبية المليحة من أجل زواجها فأنا رضيت أن أتزوج بها فإنه ما فعل معي هذا الأمر كله وولع خاطري بتلك الصبية، بعد ذلك حجبها عني إلا من أجل امتناعي من الزواج فها أنا رضيت بالزواج، فأعلم والدي بذلك أيها الوزير وأشر إليه أن يزوجني بتلك الصبية فإني لا أريد سواها وقلبي لم يعشق إلا إياها، فقم وأسرع إلى أبي وأشر إليه بتعجيل زواجي ثم عد إلي قريباً في هذه الساعة، فما صدق الوزير بالخلاص من قمر الزمان حتى خرج من البرج وهو يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير خرج يجري من البرج إلى أن دخل على الملك شهرمان فلما دخل عليه قال له الملك: أيها الوزير ما لي أراك في ارتباك ومن الذي بشره رماك حتى جئت مرعوباً؟ فقال للملك: إني قد جئتك ببشارة، فقال الملك: وما تلك البشارة؟ قال له: اعلم أن ولدك قمر الزمان قد حصل له جنون، فلما سمع الملك كلام الوزير صار الضياء في وجهه ظلاماً وقال له: أيها الوزير أوضح لي صف جنون ولدي؟ قال له الوزير: سمعاً وطاعة، ثم أخبره بما صدر من ولده فقال الملك: أبشر أيها الوزير إني أعطيك في نظير بشارتك إياي بجنون ولدي ضرب رقبتك وزوال النعم عنك يا أنحس الوزراء وأخبث الأمراء لأني اعلم أنك سبب جنون ولدي بمشورتك ورأيك التعس الذي أشرت به علي في الأول والآخر و**** إن كان يأتي على ولدي شيء من الضرر أو الجنون لأسمرك على القبة وأذيقك النكبة.
ثم إن الملك نهض قائماً على قدميه وأخذ الوزير معه ودخل به البرج الذي نزل فيه قمر الزمان فلما وصلا إليه قام قمر الزمان على قدميه لوالده ونزل سريعاً من فوق السرير الذي هو جالس عليه وقبل يديه ثم تأخر وراءه وأطرق رأسه إلى الأرض وهو مكتف اليدين قدام أبيه ولم يزل كذلك ساعة زمانية وبعد ذلك رفع راسه إلى والده وفرت الدموع من عينيه وسالت على خديه وأنشد قول الشاعر:
فعند ذلك قام الملك شهرمان وعانق ولده قمر الزمان وقبله بين عينيه وأجلسه إلى جانبه فوق السرير، ثم التفت إلى الوزير بعين الغضب وقال له: يا كلب الوزراء كيف تقول على ولدي قمر الزمان ما هو كذا وكذا وترعب قلبي عليه؟ ثم التفت إلى ولده وقال له: يا ولدي ما اسم هذا اليوم؟ فقال له: يا والدي هذا لبوس السبت وغداً يوم الأحد وبعده الاثنين وبعده الثلاثاء وبعده الأربعاء وبعده الخميس وبعده الجمعة. فقال له الملك: يا ولدي قمر الزمان الحمد *** على سلامتك، ما اسم هذا الشهر الذي علينا بالعربي؟ فقال: اسمه ذو القعدة ويليه ذو الحجة وبعده المحرم وبعده صفر وبعده ربيع الأول وبعده ربيع الثاني وبعده جمادى الأولى وبعده جمادى الثانية وبعده رجب وبعده شعبان وبعده رمضان وبعده شوال. ففرح بذلك الملك فرحاً شديداً وبصق في وجه الوزير وقال له: يا شيخ السوء كيف تزعم أن ولدي قمر الزمان قد جن والحال أنه ما جن إلا أنت. فعند ذك حرك الوزير رأسه وأراد أن يتكلم ثم خطر بباله أن يتمهل قليلاً لينظر ماذا يكون ثم إن الملك قال لولده: يا ولدي أي شيء هذا الكلام الذي تكلمت به للخادم والوزير حيث قلت لهما: إني كنت نائماً أنا وصبية مليحة في هذه الليلة، فما شأن هذه الصبية التي ذكرتها؟ فضحك قمر الزمان من كلام أبيه وقال له: يا والدي اعلم أنه ما بقي لي قوة تتحمل السخرية فلا تزيدوا علي شيئاً ولا كلمة واحدة، فقد ضاق خلقي مما تفعلونه معي واعلم يا والدي أني رضيت بالزواج ولكن بشرط أن تزوجني تلك الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة فإني أتحقق أنك أنت الذي أرسلتها إلي وشوقتني إليها وبعد ذلك أرسلت إليها قبل الصبح وأخذتها من عندي، فقال: اسم **** حواليك يا ولدي سلامة عقلك من الجنون.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان أي شيء هذه الصبية التي تزعم أني أرسلتها في هذه الليلة ثم أرسلت أخذتها من عندك قبل الصباح و**** يا ولدي ليس لي علم بهذا الأمر. فبالله عليك أن تخبرني هل ذلك أضغاث أحلام أو تخيلات طعام فإنك بت في هذه الليلة وأنت مشغول الخاطر بالزواج وموسوس بذكره قبح **** الزواج وساعته وقبح من أشار به أنك متكدر المزاج من جهة الزواج فرأيت في المنام أن صبية مليحة تعانقك وأنت تعتقد في بالك انك رأيتها في اليقظة وهذا كله يا ولدي أضغاث أحلام.
فقال قمر الزمان: دع عنك هذا الكلام، واحلف ب**** الخالق العلام قاصم الجبابرة ومبيد الأكاسرة أنه لم يكن عندك خبر بالصبية ومحلها؟ فقال الملك: وحق إله موسى وابراهيم أنه لم يكن لي علم بذلك، ولعله أضغاث أحلام رأيته في المنام، فقال قمر الزمان لوالده: أنا أضرب لك مثلاً يبين لك أن هذا كان في اليقظة.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان قال لوالده هذا المثل هو أني أسألك هل اتفق لأحد أنه رأى نفسه في المنام يقاتل وقد قاتل قتالاً شديداً وبعد ذلك استيقظ من منامه فوجد في يده سيفاً ملوثاً بالدم؟ فقال له والده: لا و**** يا ولدي لم يتفق هذا، فقال له قمر الزمان: أخبرك بما حصل لي وهو أني رأيت في هذه الليلة كأني استيقظت من منامي نصف الليل فوجدت بنتاً نائمة بجانبي وقدها كقدي وشكلها كشكلي فعانقتها ومسكتها بيدي وأخذت خاتمها ووضعته في إصبعي وامتنعت عنها حياء منك وظننت أنك أرسلتها واستخفيت في موضع لتنظر ما أفعل، واستحييت من أجل ذلك أن أقبلها في فمها حياء منك، وخطر ببالي أنك تمتحني بها حتى ترغبني في الزواج.
وبعد ذلك انتبهت من منامي في وجه الصبح فلم أجد للصبية من أثر ولا وقفت لها على أثر على خبر وجرى لي مع الخادم والوزير ما جرى فكيف يكون هذا الأمر كذباً وأمر الخاتم صحيحاً؟ ولولا الخاتم كنت أظن أنه منام وهذا خاتمها في خنصري في هذه الساعة فانظر أيها الملك إلى الخاتم كم يساوي، ثم إن قمر الزمان ناول الخاتم لأبيه فأخذه وقلبه ثم التفت إلى ولده وقال له: إن لهذا الخاتم نبأً عظيماً وخبراً جسيماً وإن الذي اتفق لك في هذه الليلة مع تلك الصبية أمر مشكل ولا أعلم من أين دخل علينا هذا الدخيل وما تسبب في هذا كله إلا الوزير فبالله عليك يا ولدي أن تصبر لعل **** يفرج عنك هذه الكربة ويأتيك بالفرج العظيم كما قال الشاعر:
فيا ولدي قد تحققت في هذه الساعة أنه ليس بك جنون ولكن قضيتك ما يجليها إلا ****، فقال قمر الزمان لوالده: ب**** يا والدي أنك تفحص لي عن هذه الصبية وتعجل بقدومها وإلا مت كمداً، ثم إن قمر الزمان أظهر الوجد والتفت بالوصل إلى أبيه وأنشد هذين البيتين:
ثم إن قمر الزمان بعد إنشاد هذه الأشعار التفت إليه أبيه بخضوع وانكسار وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ قمر الزمان من شعره قال الوزير للملك: يا ملك الزمان إلى متى أنت محجوب عن العسكر عند ولدك قمر الزمان فربما يفسد عليك نظام المملكة بسبب بعدك عن أرباب دولتك، والعاقل إذا ألمت بجسمه أمراض مختلفة يجب أن يبدأ بمداواة أعظمها، والرأي عندي أن تنقل ولدك فيه وتجعل للموكب والديوان في كل جمعة يومين الخميس والاثنين فيدخل عليك الأمراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وخواً المملكة وأصحاب الصولة وبقية العساكر والرعية ويعرضون عليك أحوالهم فاقض حوائجهم واحكم بينهم وخذ مطلبهم وأمر وانهي بينهم، وبقية الجمعة تكون عند ولدك قمر الزمان ولا تزال على تلك الحالة حتى يفرج **** عنك وعنه، ولا تأمن أيها الملك من نوائب الزمان وطوارق الحدثان فإنه العاقل دائماً محاذر وما أحسن قول الشاعر:
فلما سمع السلطان من الوزير هذا الكلام رآه صواباً ونصيحة في مصلحته فأثر عنده وخاف أن ينفسد عليه نظام الملك فنهض من وقته وساعته وأمر بتحويل ولده من ذلك المكان إلى القصر الذي في السرايا المطل على البحر ويمشون إليه على ممشاه في وسط البحر عرضها عشرون ذراعاً وبدائر القصر شبابيك مطلة على البحر وأرض ذلك القصر مفروشة بالرخام الملون وسقفه مدهون بأفخر الدهان من سائر الألوان ومنقوش بالذهب واللازورد ففرشوا لقمر الزمان فيه البسط الحرير وألبسوا حيطانه الديباج وأرخوا عليه الستائر المكللة بالجواهر ودخل فيه قمر الزمان وصار من شدة العشق كثير السهر، فاشتغل خاطره واصفر لونه وانتحل جسمه، وجلس والده عند رأسه وحزن عليه.
وصار الملك كل يوم اثنين وخميس يأذن في أن يدخل عليه من شاء الدخول الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وسائر العساكر والرعية في ذلك القصر فيدخلون عليه ويؤدون وظائف الخدمة ويقيمون عنده إلى آخر النهار ثم ينصرفون بعد ذلك إلى حال سبيلهم وبعد ذلك يدخل الملك عند ولده قمر الزمان في ذلك المكان ولا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، ولم يزل على تلك على تلك الحالة مدة أيام وليال من الزمان.
هذا ما كان من أمر قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والسبعة قصور فإن الجن لما حملوها وأناموها في فراشها لم يبق من الليل إلا ثلاث ساعات، ثم طلع الفجر فاستيقظت من منامها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما استيقظت من منامها جلست والتفتت يميناً وشمالاً فلم تر معشوقها الذي كان في حضنها فارتجف فؤادها وزال عقلها وصرخت صرخة عظيمة فاستيقظ جميع جواريها والدايات والقهرمانات ودخلن عليها فتقدمت إليها كبيرتهن وقالت لها: يا سيدتي ما الذي أصابك؟ فقالت لها: أيتها العجوز النحس أين معشوقي الشاب الذي كان نائماً هذه الليلة في حضني فأخبريني أين راح؟ فلما سمعت منها القهرمانة هذا الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً وخافت من بأسها خوفاً عظيماً وقالت: يا سيدتي بدور أي شيء هذا الكلام القبيح؟ فقالت السيدة بدور: ويلك يا عجوز النحس أين معشوقي الشاب المليح صاحب الوجه المليح والعيون السود والحواجب المقرونة الذي كان بائتاً عندي من العشاء إلى قرب طلوع الفجر؟ فقالت: و**** ما رأيت شاباً ولا غيره، فبالله يا سيدتي لا تمزحي هذا المزاح الخارج عن الحد فتروح أرواحنا وربما بلغ أباك هذا المزاح فمي يخلصنا من يده؟ فقالت الملكة بدور: إنه كان غلاماً بائتاً عندي في هذه الليلة وهو من أحسن الناس وجهاً، فقالت لها القهرمانة: سلامة عقلك ما كان أحد بائتاً عندك في هذه الليلة. فعند ذلك نظرت السيدة بدور إلى يدها فوجدت خاتم قمر الزمان في إصبعها ولم تجد خاتمها فقالت للقهرمانة: ويلك يا خائنة تكذبين علي وتقولين ما كان أحد بائتاً عندك وتحلفين ب**** باطلاً، فقالت القهرمانة: و**** ما كذبت عليك ولا حلفت باطلاً، فاغتاظت السيدة بدور وسحبت سيفاً كان عندها وضربت القهرمانة فقتلتها، فعند ذلك صاح الخدم والجواري والسراري عليها وراحوا إلى أبيها وأعلموه بحالها فأتى الملك إلى ابنتها السيدة بدور من وقته وساعته وقال لها: يا بنتي ما خبرك؟ فقالت يا أبي أين الشاب الذي كان نائماً بجانبي في هذه الليلة؟ وطار عقلها من رأسها وصارت تلتفت بعينيها يميناً وشمالاً ثم شقت ثوبها إلى ذيلها، فلما رأى أبوها تلك الفعال أمر الجواري والخدم أن يمسكوها فقبضوا عليها وقيدوها وجعلوا في رقبتها سلسلة من حديد وربطوها في الشباك الذي في القصر. هذا ما كان من أمر الملكة بدور.
و أما ما كان من أمر أبيها الملك الغيور فإنه لما رأى ما جرى من ابنته السيدة بدور ضاقت عليه الدنيا لأنه كان يحبها فلم يهن عليه أمرها، فعند ذلك أحضر المنجمين والحكماء وأصحاب الأقلام وقال لهم: من أبراً بنتي مما هي فيه زوجته بها وأعطيته نصف مملكتي ومن لم يبرئها ضربت عنقه ويعلق رأسه على باب القصر، ولم يزل يفعل ذلك إلى أن قطع من أجلها أربعين رأساً، فطلب سائر الحكماء فتوقفت جميع الناس عنها وعجز جميع الحكماء عن دوائها واشتكت قضيتها على أهل العلوم وأرباب الأقلام، ثم إن السيدة بدور لما زاد بها الوجد والغرام وأرباب الهيام أجرت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
فلما فرغت السيدة بدور من إنشاد هذه الأشعار بكت حتى مرضت جفونها وتذبلت وجناته ثم إنها استمرت على هذا الحال ثلاث سنين وكان لها أخ من الرضاع يسمى مرزؤان وكان سافر إلى أقصى البلاد وغاب عنها تلك المدة بطولها وكان يحبها محبة زائدة على محبة الأخوة فلما حضر دخل على والدته وسألها عن أخته السيدة بدور فقالت له: يا ولدي أختك حصل لها الجنون ومضى لها ثلاث سنين وفي رقبتها سلسلة من حديد وعجزت الأطباء عن دوائها، فلما سمع مرزؤان هذا الكلام قال لها: لا بد من دخولي عليها لعلي أعرف ما بها وأقدر على دوائها، فلما سمعت كلامه قالت: لا بد من خولك عليها ولكن اصبر إلى غد حتى أتحيل في أمرك ثم إن أمه ذهبت إلى قصر السيدة بدور واجتمعت بالخادم الموكل بالباب وأهدت له هدية وقالت له: إن لي بنتاً قد تربت مع السيدة بدور وقد زوجتها ولما جرى لسيدتك ما جرى صار قلبها متعلقاً بها وأرجو من فضلك أن بنتي تأتي عندها ساعة لتنظرها ثم ترجع من حيث جاءت ولا يعلم بها أحد، فقال الخادم: لا يمكن ذلك إلا في الليل فبعد أن يأتي السلطان ينظر ابنته ويخرج ادخلي أنت وابنتك، فقبلت العجوز يد الخادم وخرجت إلى بيتها. فلما جاء وقت العشاء من الليلة القابلة قامت من وقتها وساعتها وأخذت ولدها مرزؤان وألبسته بدلة من ثياب النساء وجعلت يده في يدها وأدخلته القصر، وما زالت تمشي حتى أوصلته إلى الخادم بعد انصراف السلطان من عند ابنته فلما رآها الخادم قام واقفاً وقال لها: ادخلي ولا تطيلي القعود فلما دخلت العجوز بولدها مرزؤان رأى السيدة بدور في تلك الحالة فسلموا عليها بعد انكشفت عنه أمه ثياب النساء فأخرج مرزوان الكتب التي معه وأوقد شمعة فنظرت إليه السيدة بدور فعرفته وقالت له: يا أخي أنت سافرت وانقطعت أخبارك عنا فقال لها: صحيح ولكن ردني **** با سلامة وأردت السفر ثانية فما ردني عنه إلا هذا الخبر الذي سمعته عنك فاحترق فؤادي عليك وجئت إليك لعلي أعرف داءك وأقدر على دوائك، فقالت له: يا أخي هل تحسب أن الذي اعتراني جنون، ثم أشارت إليه وأنشدت هذين البيتين:
فعلم مرزؤان أنها عاشقة فقال لها: أخبريني بقصتك وما اتفق لك لعل **** يطلعني على ما فيه خلاصك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والعشرون بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بدور قالت: يا أخي اسمع قصتي وذلك أنني تيقظت من منامي ليلة في الثلث الأخير من الليل وجلست فرأيت بجانبي شاباً احسن ما يكون من الشبان يكل عن وصفه اللسان كأنه غصن بان أو قضيب خيزران فظننت أن أبي هو الذي أمره بهذا الأمر ليمتحنني به لأنه راودني عن الزواج لما خطبني منه الملوك فأبيت فهذا الظن هو الذي منعني من أن أنبهه وخشيت إني إذا عانقته ربما يخبر أبي بذلك فلما أصبحت رأيت بيدي خاتمه عوضاً عن خاتمي. فهذه حكايتي وأنا يا أخي قد تعلق قلبي به من حن رؤيته ومن كثرة عشقي والغرام لم أذق طعم المنام وما لي شغل غير بكائي بالدموع وإنشاد الأشعار بالليل والنهار ثم أفضت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إن السيدة بدور قالت لمرزوان: انظر يا أخي ما الذي تعمل معي في الذي اعتراني فأطرق مرزوان رأسه إلى الأرض ساعة وهو يتعجب وما يدري ما يفعل ثم رفع رأسه وقال لها: جميع ما جرى لك صحيح وإن حكاية هذا الشاب أعيت فكري ولكن أدور جميع البلاد وأفتش على دوائك لعل **** يجعله على يدي فاصبري ولا تقلقي ثم إن مرزوان ودعها ودعا لها بالثبات وخرج من عندها ثم إن مرزوان تمشى إلى بيت والدته فنام تلك الليلة ولما أصبح الصباح تجهز للسفر فسافر ولم يزل مسافراً من مدينة إلى مدينة ومن جزيرة إلى جزيرة مدة شهر كامل ثم دخل مدينة يقال لها الطيرب واستنشق الأخبار من الناس لعله يجد دواء للملكة بدور وكان كلما يدخل في مدينة أو يمر بها يسمع أن الملكة بدور بنت الملك الغيور قد حصل لها جنون ولم يزل يستنشق الأخبار حتى وصل إلى مدينة الطيرب فسمع إن قمر الزمان ابن الملك شهرمان مريض وأنه اعتراه وسواس وجنون.
فلما سمع مرزوان بخبره سأل بعض أهالي تلك المدينة عن بلاده ومحل تخته فقالوا له جزائر خالدات وبيننا وبينها مسيرة شهر كامل في البحر وأما في البر فستة أشهر، فنزل مرزوان في مركب إلى جزائر خالدات وكانت مركب مجهزة للسفر وطاب لها الريح مدة شهر فبانت لهم المدينة ولما أشرفوا عليها ولم يبق لهم إلا الوصول إلى الساحل خرجت عليهم ريح عاصف فرمى الرية ووقعت القلوع في البحر وانقلب المركب بجميع ما فيه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرزوان جذبته قوة التيار جذبة حتى أوصلته تحت قصر الملك الذي فيه قمر الزمان وكان بالأمر المقدر قد اجتمع الأمراء والوزراء عنده للخدمة والملك شهرمان جالس ورأس ولده في حجره وخادم يهش عليه. وكان قمر الزمان مضى عليه يومان وهو لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم وصار الوزير واقفاً عند رجليه قريب من الشباك المطل على البحر فرفع الوزير بصره فرأى مرزوان قد أشرف على الهلاك من التيار وبقي على آخر نفس فرق قلب الوزير إليه فتقرب من السلطان ومد رأسه إليه وقال له: أستأذنك في أن أنزل إلى ساحة القصر وأفتح بابها لأنقذ إنساناً قد أشرف على الغرق وأطلعه من الضيق إلى الفرج لعل **** بسبب ذلك يخلص ولدك مما هو عليه.
فقال السلطان: كل ما جرى على ولدي بسببك وربما أنك إذا طلعت هذا الغريب يطلع على أحوالنا وينظر إلى ولدي وخرج يتحدث مع أحد بأسرارنا لأضربن رقبتك قبله لأنك أيها الوزير سبب ما جرى لنا أولاً وآخراً فافعل ما بدا لك، فنهض الوزير وفتح باب الساحة ونزل في الممشاة عشرين خطوة، ثم خرج إلى البحر فرأى مرزوان مشرفاً على الموت فمد الوزير يده إليه وأمسكه من شعر رأسه وجذبه منه عليه حتى ردت روحه إليه ثم نزع عنه ثيابه وألبسه غيرها وعممه بعمامة من عمائم غلمانه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما فعل مع مرزوان ما فعل، وكيف قال إني كنت سبباً لنجاتك فلا تكن سبباً لموتي وموتك، فقال مرزوان: وكيف ذلك؟ قال الوزير: لأنك في هذه الساعة تطلع وتشق بين أمراء ووزراء والكل ساكتون لا يتكلمون من أجل قمر الزمان ابن السلطان، فلما سمع مرزوان ذكر قمر الزمان عرفه لأنه كان يسمع بحديثه في البلاد، فقال مرزوان: ومن قمر الزمان؟ فقال الوزير: هو ابن السلطان شهرمان وهو ضعيف ملقى على الفراش لا يقر له قرار ولا يعرف ليلاً ولا نهاراً وكاد أن يفارق الحياة من نجول جسمه ويصير من الأموات فنهاره لهيب وليله في تعذيب وقد يئسنا من حياته وأيقنا بوفاته وإياك أن تطيل النظر إلى غير الموضع الذي تحط فيه رجلك وإلا تروح روحك وروحي، فقال: ب**** أخبرني عن هذا الشاب الذي وصفته لي وما سبب هذا الأمر الذي هو فيه؟ فقال له الوزير: لا أعلم له سبباً إلا أن والده من مدة ثلاث سنين كان يراوده عن أمر الزواج وهو يأبى فأصبح يزعم أنه كان نائماً فرأى بجنبه صبية بارعة الجمال وجمالها يحير العقول ويعجز عنه الوصف وذكر لنا أنه نزع خاتمها من إصبعها ولبسه وألبسها خاتمه ونحن لا نعرف باطن هذه القضية، فبالله يا ولدي اطلع معي القصر ولا تنظر إلى ابن الملك ثم بعد ذلك روح إلى حال سبيل فإن السلطان قلبه ملآن عليه غيظاً.
فقال مرزوان في نفسه: و**** إن هذا هو المطلوب ثم طلع خلف الوزير إلى أن وصل إلى القصر، ثم جلس الوزير تحت رجلي قمر الزمان وأما مرزوان فإنه لم يكن له دأب إلا أنه مشى حتى وقف قدام قمر الزمان ونظر إليه فمات الوزير في جلده وصار ينظر إلى مرزوان ويغمزه ليروح إلى حال سبيله ومرزوان يتغافل وينظر إلى قمر الزمان وعلم أنه هو المطلوب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرزوان قال: سبحان **** الذي جعل قده مثل قدها ولونه مثل لونها وخده مثل خدها ففتح قمر الزمان عينيه وصغى بأذنيه فلما رآه مرزوان صاغياً إلى ما يلقيه من الكلمات أنشد هذه الأبيات:
فلما أنشد مرزوان هذا الشعر نزل عل قمر الزمان برداً وسلاما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أشار إلى السلطان بيده: دع هذا الشاب يجلس في جانبي، فلما سمع السلطان من ولده قمر الزمان هذا الكلام هذا الكلام فرح فرحاً شديداً، بعد أن غضب على الشاب وأضمر في نفسه أنه يرمي رقبته، ثم قام الملك وأجلس مرزوان إلى جانب ولده وأقبل عليه وقال له: من أي البلاد أنت؟ قال من الجزائر الجوانية من بلاد الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور، والسبعة قصور. فقال له الملك شهرمان: عسى أن يكون الفرج على يديك لولدي قمر الزمان، ثم إن مرزوان أقبل على قمر الزمان وقال له في أذنه: ثبت قلبك وطب نفساً وقر عيناً فإن التي صرت من أجلها هكذا لا تسأل عما هي فيه من أجلك ولكنك كتمت أمرك فضعفت، وأما هي فإنها أظهرت ما بها فجئت وهي الآن مسجونة بأسوأ حال وفي رقبتها غل من حديد وإن شاء **** تعالى يكون دوائكما على يدي.
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام ردت روحه إليه واستفاق وأشار إلى الملك والده أن يجلس ففرح فرحاً زائداً وأجلس ولده، ثم أخرج جميع الوزراء والأمراء واتكأ قمر الزمان بين مخدتين وأمر الملك أن يطيبوا القصر بالزعفران ثم أمر بزينة المدينة وقال لمرزوان: و**** يا ولدي إن هذه طلعة مباركة ثم أكرمه غاية الإكرام وطلب لمرزوان الطعام فقدموا له فأكل وأكل معه قمر الزمان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
و لم يزل مرزوان يشجع قمر الزمان حتى أكل الطعام وشرب الشراب وردت روحه إليه ونقه مما كان فيه ولم يزل مرزوان يحدثه وينادمه ويسليه وينشد له الأشعار حتى دخل الحمام وأمر والده بزينة المدينة فرحاً بذلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان خلع الخلعة وتصدق وأطلق من في الحبوس ثم إن مرزوان قال لقمر الزمان: اعلم أنني ما حئت من عند السيدة بدور إلا لهذا الأمر وهو سبب سفري لأجل أن أخلصها مما هي فيه وما بقي لنا إلا الحيلة في رواحنا إليها لأن والدك لا يسمح لك بالذهاب، ولازم أن تخرج إلى الصيفي البرية ومعك خرجاً ملآناً من المال، واركب جواداً من الخيل وخذ معك جنيباً وأنا الآخر مثلك، وقل لوالدك إني أريد أن أتفرج في البرية وأتصيد وأنظر في الفضاء وأبيت هنا ليلة واحدة فلا تشغل قلبك علي بشيء، ففرح قمر الزمان واستأذنه في الخروج إلى الصيد وقال له الكلام الذي أوصاه به مرزوان فأذن له والده في الخروج إلى الصيد وقال له: لا تبت غير ليلة واحدة وفي غد تحضر فإنك تعلم أنه ما يطيب لي عيش إلا بك وإنني ما صدقت أنك خلصت مما كنت فيه، ثم إن الملك شهرمان أنشد هذين البيتين:
ثم إن الملك جهز ولده قمر الزمان هو مرزوان وأمر أن يهيأ لهما ستة من الخيل وهجين برسم المال، وجمل يحمل الماء والزاد ومنع قمر الزمان أن يخرج معه أحد في خدمته فودعه أبوه وضمه إلى صدره وقال له: سألتك ب**** لا تغيب عني إلا ليلة واحدة وحرام علي المنا
فيها وأنشد:
ثم خرج قمر الزمان ومرزوان وركبا فرسين ومعهما الهجين والجمل عليه الماء والزاد واستقبلا البر. و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ومرزوان لما استقبلا البر سارا أول يوم إلى المساء ثم نزلا وأكلا وشربا واطهما دوابهما واستراحا ساعة ثم ركبا وما زالا سائرين مدة ثلاثة أيام وفي رابع يوم بان لهما مكان متسع فيه غاب فنزلا فيه ثم أخذ مرزوان جملاً وفرساً وذبحهما وقطع لحمهما قطعاً ونحر عظمهما وأخذ من قمر الزمان قميصه ولباسه وقطعهما ولونهما بدم الفرس وأخذ ملوطة قمر الزمان ومزقها ولوثها بالدم ورماها في مفرق الطريق ثم أكلا وشربا وسافرا فسأله قمر الزمان عما فعله فقال مرزوان: اعلم أم والدك الملك شهرمان إذا غبت عنه ليلة ولم تحضر ثاني ليلة يركب ويسافر في أثرنا إلى أن يصل إلى هذا الدم الذي فعلته ويرى قماشك مقطعاً وعليه الدم فيظن في نفسه أنه جرى لك شيء من قطاع الطريق أو وحش البر فينقطع رجاؤه منك ويرجع إلى المدينة ونبلغ بهذه الحيلة ما نريد، فقال قمر الزمان: نعم ما فعلت ثم سارا أياماً وليالي وكل ذلك وقمر الزمان باكي العين إلى أن استبشر بقرب الديار أنشد هذه الأشعار:
فلما فرغ قمر الزمان من شعره بانت له جزائر الملك الغيور ففرح قمر الزمان فرحاً شديداً وشكر مرزوان على فعله.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ومرزوان دخلا المدينة وأنزله مرزوان في خان واستراحا ثلاثة أيام من السفر وبعد ذلك دخل قمر الزمان الحمام وألبسه لبس التجار وعمل له تخت رمل من ذهب وعمل له عدة وعمل له اصطرلاباً من الذهب ثم قال له مرزوان: قم يا مولاي وقف تحت قصر الملك وناد: أنا الحاسب الكاتب المنجم فأين الطالب؟ فإن الملك إذا سمعك يرسل خلفك ويدخل بك على ابنته محبوبتك وهي حين تراك يزول ما بها من الجنون ويفرح أبوها بسلامتك ويزوجها بك ويقاسمك في ملكه لأنه شرط على نفسه هذا الشرط، فقبل قمر الزمان ما أشار به مرزوان وخرج من الخان وهو لابس البدلة وأخذ معه العدة التي ذكرناها ومشى إلى أن وقف تحت قصر الملك الغيور ونادى: أنا الكاتب الحاسب المنجم أكتب الكتاب وأحكم الحجاب وأحسب الحساب بأقلام المطالب فأين الطالب؟ فلما سمع أهل المدينة هذا الكلام وكانوا مدة من الزمان ما رأوا حاسباً ولا مترجماً وقفوا حوله وتأملوه فتعجبوا من حسن صورته ورونق سبابة وقالوا له: ب**** عليك يا مولانا لا تفعل بنفسك هذه الفعال طمعاً في زواج بنت الملك الغيور وانظر بعينيك إلى هذه الرؤوس المعلقة فإن أصحابهم كلهم قتلوا من أجل هذا الحال فآل بهم الطمع إلى الوبال، فلم يلتفت قمر الزمان إلى كلامهم بل رفع صوته ونادى: أنا كاتب حاسب أقرب المطالب للطالب فتداخل عليه الناس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان نهته الناس فلم يسمع كلامهم فاغتاظوا جميعاً وقالوا له: ما أنت إلا شاب مكابر أحمق، ارحم شبابك وصغر سنك وحسنك وجمالك، فصاح قمر الزمان وقال: أنا المنجم والحاسب فهل من طالب؟ فبينما الناس تنهى قمر الزمان عن هذه الحالة إذ سمع الملك الغيور الصياح وضجة الناس فقال للوزير: انزل فائتنا بذا المنجم، فنزل الوزير وأخذ قمر الزمان فلما دخل على الملك قبل الأرض بين يديه وأنشد هذين البيتين:
فلما نظر الملك الغيور إليه أجلسه إلى جانبه وأقبل عليه وقال له: يا ولدي لا تجعل نفشك منجماً ولا تدخل على شرطي فإني ألزمت نفسي أن كل من دخل على بنتي ولم يبرئها مما أصاب بها ضربت عنقه وكل من أبرأها زوجته لها فلا يغرك حسنك وجمالك وقدك واعتدالك و**** و**** إن لم تبرئها لأضربن عنقك، فقال قمر الزمان: قبلت منك هذا الشرط فأشهد عليه الملك الغيور القضاة وسلمه إلى الخدم وقال له: أوصل هذا إلى السيدة بدور فأخذه الخادم من يده ومشى به إلى الدهليز فصار قمر الزمان يسابقه وصار الخادم يقول له: ويلك لا تستعجل على هلاك نفسك فوالله ما رأيت منجماً يستعجل على هلاك نفسه إلا أنت ولكنك لم تعرف أي شيء قدامك على الدواهي فأعرض قمر الزمان بوجهه عن الخادم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أنشد هذه الأبيات:
ثم إن الخادم أوقف قمر الزمان خلف الستارة التي على الباب فقال له قمر الزمان: أي الحالتين أحب إليك كوني أداوي سيدتك وأبرئها من هنا أو أدخل إليها وأبرئها من داخل الستارة؟ فتعجب الخادم من كلامه وقال له: إن أبرأتها من هنا كان ذلك زيادة في فضلك فعند ذلك جلس قمر الزمان خلف الستارة وأطلع الدواة والقلم وكتب في ورقة هذه الكلمات: من يروح به الجفاء فدواؤه الوفاء والبلاء لمن يئس من حياته وأيقن بحلول وفاته وما لقلبه الحزين من مسعف ولا معين وما لطرفه الساهر على الهم ناصر، فنهاره لهيب وليله تعذيب وقد انبرى جسمه من كثرة النحول ولم يأته من حبيبه ****، ثم كتب هذه الأبيات:
ثم كتب تحت الشعر هذه السجعات: شفاء القلوب لقاء المحبوب، من جفاه حبيبه فالله طبيبه، من خان منكم ومنا لاً نال ما يتمنى، ولا أظرف من المحب الوافي إلى الحبيب الجافي، ثم كتب في الإمضاء: من الهائم الولهان العاشق الحيران من أقلقه الشوق والغرام سير الوجد والهيام قمر الزمان ابن الملك شهرمان إلى فريدة الزمان ونخبة الحور الحسان السيدة بدور بنت الملك الغيور، اعلمي أنني في ليلي سهران وفي نهاري حيران زائد النحول والأسقام والعشق والغرام كثير الزفرات غزير العبرات أسير الهوى قتيل الجوى، غريم الغرام، نديم السقام، فأنا السهران الذي لا تهجع مقلته والميتم الذي لا تهجع مقلته والمتي الذي لا ترفأ عبرته، فنار قلبي لا تطفأ ولهيب شوقي لا يخفى، ثم كتب في حاشية الكتاب هذا البيت المستطاب:
ثم كتب أيضاً:
وكان وضع خاتم السيدة بدور في طي الكتاب ثناول الكتاب للخادم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما وضع الخاتم في الورقة ناولها للخادم فأخذها ودخل بها إلى السيدة بدور فأختها من يد الخادم وفتحتها فوجدت خاتمها بعينه ثم قرأت الورقة، فلما عرفت المقصود علمت أن معشوقها
قمر الزمان وأنه هو الواقف خلف الستارة فطار عقلها من الفرح واتسع صدرها وانشرح، ومن فرط المسرات أنشدن هذه الأبيات:
فلما فرغت السيدة بدور من شعرها قامت من وقتها وصلبت رجليها في الحائط واتكأت بقوتها على الغل الحديد فقطعته من رقبتها وقطعت السلاسل وخرجت من خلف الستارة ورمت روحها على قمر الزمان وقبلته في فمه مثل زق الحمام وعانقته م شدة ما بها من الغرام وقالت له: يا سيدي هل هذا يقظة أو منام وقد من **** علينا بجمع شملنا، ثم حمدت **** وشكرته على جمع شملها بعد اليأس، فلما رآها الخادم على تلك الحالة ذهب يجري حتى وصل إلى الملك الغيور فقبل الأرض بين يديه وقال له: يا مولاي اعلم أن هذا المنجم أعلم المنجمين كلهم فإنه داوى ابنتك وهو واقف خلف الستارة ولم يدخل عليها، فقال الملك للخادم: أصحيح هذا الخبر؟ فقال الخادم يا سيدي قم وانظر كيف قطعت السلاسل وخرجت للمنجك تقبله وتعانقه، فعند ذلك قام الملك الغيور ودخل على ابنته فلما رأته نهضت قائمة وغطت رأسها وأنشدت هذين البيتين:
ففرح أبوها بسلامتها وقبلها بين عينيها لأنه كان يحبها محبة عظيمة، وأقبل الملك الغيور على قمر الزمان وسأله عن حاله وقال له: من أي البلاد أنت؟ فأخبره قمر الزمان بشأنه وأعلمه أن والده الملك شهرمان، ثم إن قمر الزمان قص عليه القصة من أولها إلى آخرها وأخبره بجميع ما اتفق له مع السيدة بدور وكيف أخذ الخاتم من إصبعها وألبسها خاتمه فتعجب الملك الغيور من ذلك وقال: إن حكايتكما يجب أن تؤرخ في الكتب وتقرأ بعدكما جيلاً بعد جيل، ثم إن الملك الغيور أحضر القضاة والشهود من وقته وكتب كتاب السيدة بدور على قمر الزمان وأمر بتزيين المدينة سبعة أيام، ثم مدوا السماط والأطعمة وزينت المدينة وجميع العساكر وأقبلت البشائر ودخل قمر الزمان على السيدة بدور وفرح بعافيتها وزواجها وحمد **** الذي رماها في حب شاب مليح من أبناء الملوك ثم جلوها عليه وكانا يشبهان بعضهما في الحسن والجمال والظرف والدلال ونام قمر الزمان عندها الليلة وبلغ أربه منها وتمتعت هي بحسنه وجماله وتعانقا إلى الصباح، وفي اليوم الثاني عمل الملك وليمة وجمع أهل الجزائر الجوانية والجزائر البرانية وقدم لهم الأسمطة وامتدت الموائد مدة شهر
كامل، وبعد ذلك تفكر قمر الزمان أباه ورآه في المنام يقول له: يا ولدي أهكذا تفعل معي هذه الفعال وأنشده في المنام هذين البيتين:
ثم إن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه أصبح حزيناً وأعلم زوجته بذلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه أصبح حزيناً وأخبر السيدة بدور بذلك فدخلت هي وإياه على والدها وأعلماه واستأذناه في السفر فقالت السيدة بدور: يا والدي لا أصبر على فراقه فقال لها والدها: سافري معه وأذن لها بالإقامة معه سنة كاملة وبعد السنة تجيء تزور والدها في كل عام مرة، فقبلت يد أبيها وكذلك قمر الزمان، ثم شرع الملك الغيور في تجهيز ابنته هي وزوجها وهيأ لهما الخيول والهجان وأخرج ابنته وحمل لهما البغال والهجان واخرج لهما ما يحتاجان إليه في السفر.
و في يوم المسير ودع الملك الغيور قمر الزمان وخلع عليه خلعة سنية من الذهب مرصعة بالجواهر وقدم له خزنة مال وأوصاه على ابنته، ثم خرج معهما إلى طرف الجزائر وبعد ذلك ودع قمر الزمان، ثم دخل على ابنته وهي في المحفة وصار يعانقها ويبكي وأنشد هذين البيتين:
ثم خرج من عند ابنته وأتى إلى زوجته قمر الزمان فصار يودعه ويقبله ثم فارقهما وعاد إلى جزائره بعسكره بعد أن أمرهما بالرحيل فسار قمر الزمان هو وزوجته السيدة بدور ومن معهم من الأتباع أول يوم والثاني والثالث والرابع ولم يزالوا مسافرين مدو شهر، ثم نزلوا في مرج واسع كثير الكلأ وضربوا خيامهم فيه وأكلوا وشربوا واستراحوا ونامت السيدة بدور فدخل عليها قمر الزمان فوجدها وفوق بدنها قميص مشمشي من الحرير يبين منه كل شيء وفوق رأسها كوفية من الحرير مرصعة بالجواهر وقد رفع الهواء قميصها فطلع فوق سرتها عند نهودها فبان بطنها أبيض من الثلج وكل عكسه من عكس طياته تسع اوقية من دهن البان فزاد بها محبة وهياماً وأنشد هذان
البيتين:
فحط قمر الزمان يده في تكة لباسها فجذبها وحلها لما اشتهاها خاطره فرأى فصاً أحمر مثل العندم مربوطاً على التكة وعليه أسماء منقوشة سطرين بكتابة لا تقرأ فتعجب قمر الزمان من ذلك الفص وقال في نفسه: لولا أن لهذا الفص أمر عظيم عندها ما ربطته على تكة لباسها وما خبأته في أعز مكان عندها حتى لا تفارقه، فماذا تصنع بهذا السر الذي هو فيه؟ ثم أخذه وخرج من الخيمة ليبصره في النور.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أخذ الفص ليبصره في النور صار يتأمل فيه وإذا بطائر انقض عليه وخطفه من يده وطار به وحط على الأرض، فخاف قمر الزمان على الفص وجرى خلف الطائر، وصار الطائر يجري على قدر جري قمر الزمان خلفه من واد إلى واد ومن تل إلى تل إلى أن دخل الليل وتغلس الظلام فنام الطائر على شجرة عالية فوقف قمر الزمان تحتها وصار باهتاً وقد ضعف من الجوع والتعب وظن أنه هالك، وأراد أن يرجع فما علاف الموضع الذي جاء منه. وهجم الظلام فقال: لا حول ولاقوة إلا ب**** العلي العظيم، ثم نام تحت الشجرة التي فوقها الطائر إلى الصباح ثم انتبه من نومه فوجد الطائر قد انتبه وطار من فوق الشجرة فمشى قمر الزمان خلفه وصار ذلك الطائر يطير قليلاً بقدر مشي قمر الزمان وقال: يا *** العجب أن هذا الطائر كان بالأمس يطير بقدر جريتي وفي هذا اليوم علم اني أصبحت تعباناً لا أقدر على الجري فصار يطير على قدر مشيتي، إن هذا عجيب، ولكن لا بد أن أتبع هذا الطائر فإما أن يقودني إلى حياتي أو مماتي، فأنا أتبعه أينما يتوجه لأنه على كل حال لا يقيم إلا في البلاد العمار.
ثم إن قمر الزمان جعل يمشي تحت الطائر والطائر يبيت في كل ليلة على شجرة ولم يزل متابعه مدة عشرة أيام وقمر الزمان يتقوت من نبات الأرض ويشب من الأنهار. وبعد العشرة أيام أشرف على مدينة عامرة فمر الطائر في تلك المدينة مثل لمح البصر وغاب عن قمر الزمان وقال: الحمد *** الذي سلمني حتى وصلت إلى هذه المدينة، ثم جلس عند الماء وغسل يديه ورجليه ووجهه واستراح ساعة وتذكر ما كان فيه من الراحة، ونظر إلى ما هو فيه من الغربة والجوع والتعب، فأنشد يقول:
ثم إن قمر الزمان لما فرغ من شعره واستراح دخل باب المدينة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان دخل باب المدينة وهو لا يعلمأين يتوجه فمشى في المدينة جميعها وقد كان دخل من البر، ولم يزل يمشي إلى أن خرج من باب البحر فلم يقابله أحد من أهلها وكانت مدينة على جانب البحر، ثم إنه بعد أن خرج من باب البحر مشى ولم يزل ماشياً حتى وصل إلى بساتين المدينة وشق بين الأشجار فأتى إلى بستان ووقف على بابه فخرج إليه الخولي ورحب به وقال: الحمد *** الذي أتى بك سالماً من أهل هذه المدينة، فادخل هذا البستان سريعاً قبل أن يراك احد من أهلها.
فعند ذلك دخل قمر الزمان ذلك البستان وهو ذاهل العقل وقال للخولي ما حكاية أهل هذه المدينة وما خبرهم فقال له اعلم أن أهل هذه المدينة كلهم مجوس فبالله عليك كيف وصلت إلى هذا المكان وما سبب دخولك في بلادنا، فعند ذلك أخبره قمر الزمان بجميع ما جرى له فتعجب الخولي من ذلك غاية العجب وقال له: اعلم يا ولدي أن بلاد الإسلام بعيدة من هنا فبيننا وبينها أربعة أشهر في البحر وأما في البر فسنة كاملة وإن عندنا مركباً يقلع وتسافر كل سنة ببضائع إلى أول بلاد الإسلام وتسير من هنا إلى بحر الأبنوس ومنه إلى جزائر خالدات وملكها يقال له السلطان شهرمان.
فعند ذلك تفكر قمر الزمان في نفسه ساعة زمانية وعلم أنه من الأوفق له قعوده في البستان عند الخولي والعمل عنده مرابعاً، فقال للخولي: هل تقبلني عندك مرابعاً في هذا البستان فقال له الخولي سمعاً وطاعة، ثم علمه تحويل الماء بين الأشجار فصار قمر الزمان يحول الماء ويقطع الحشيش بالفأس وألبسه الخولي بشتاً قصيراً أزرق يصل إلى ركبته وصار يسقي الأشجار ويبكي بالدموع الغزار وينشد الأشعار بالليل والنهار في معشوقته بدور فمن جملة ذلك هذه الأبيات:
هذا ما كان من قمر الزمان واما ما كان من أمر زوجته السيدة بدور بنت الملك الغيور فإنها لما استيقظت من نومها طلبت زوجها قمر الزمان فلم تجده ورأت سروالها محلولاً فافتقدت العقد فوجدتها محلولة والفص معدوماً فقالت في نفسها يا للعجب أين معشوقي كأنه أخذ الفص وراح وهو لا يعلم السر الذي هو فيه فيا ترى أين راح ولكن لا بد له من أمر عجيب اقتضى رواحه فإنه لا يقدر أن يفارقني ساعة فلعن **** الفص ولعن ساعته ثم إن السيدة بدور تفكرت وقالت في نفسها إن خرجت إلى الحاشية وأعلمتهم بفقد زوجي يطمعوا في ولكن لا بد من الحيلة.
ثم إنها لبست ثياب قمر الزمان ولبست عمامة كعمامته وضربت لها لثاماً وحطت في محفتها جارية وخرجت من خيمتها وصرخت على الغلمان فقدموا لها الجواد فركبت وأمرت بشد الأحمال فشدوا الأحمال وسافروا وأخفت أمرها لأنها كانت تشبه قمر الزمان فما شك أحد أنها قمر الزمان بعينه وما زالت مسافرة هي وأتباعها أياماً وليالي حتى أشرفت على مدينة مطلة على البحر المالح فنزلت بظاهرها وضربت خيامها في ذلك المكان لأجل الاستراحة ثم سألت عن هذه المدينة فقيل لها هذه مدينة الآبنوس وملكها الملك أرمانوس وله بنت اسمها حياة النفوس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما نزلت بظاهر مدينة الآبنوس لأحل الاستراحة أرسل الملك أرمانوس رسولاً من عنده يكشف له خبر الملك النازل بظاهر المدينة فلما وصل إليهم الرسول سألهم فأخبروه بأن هذا ابن الملك تائه عن الطريق وهو قاصد جزائر خالدات الملك شهرمان فعاد الرسول إلى الملك أرمانوس وأخبره بالخبر فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام نزل هو وأرباب دولته إلى مقابلته فلما قدم على الخيام ترجلت السيدة بدور وترجل الملك أرمانوس وسلما على بعضهما وأخذها ودخل بها إلى مدينته وطلع بها إلى قصره وأمر بمد السماط وموائد الأطعمة وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة فقامت هناك ثلاثة أيام وبعد ذلك أقبل الملك أرمانوس على السيدة بدور وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام وأسفرت عن وجه كأنه البدر عند التمام فافتتن بها العالم وتهتكت بها الخلق عند رؤيتها.
فعند ذلك أقبل الملك أرمانوس عليها وهي لابسة حلة من الحرير مطرزة بالذهب المرصع بالجواهر وقال لها يا ولدي اعلم أني بقيت شيخاً هرماً وعمري ما رزقت ولداً غير بنت وهي على شكلك وقدك في الحسن والجمال وعجزت عن الملك فهل لك يا ولدي أن تقيم بأرضي وتسكن بلادي وأزوجك ابنتي وأعطيك مملكتي.
فأطرقت السيدة بدور رأسها وعرق جبينها من الحياء وقالت في نفسها كيف يكون العمل وأنا امرأة فإن خالفت أمره وسرت ربما يرسل خلفي جيشاً يقتلني وإن أطلعته على أمري ربما أفتضح وقد فقدت محبوبي قمر الزمان ولم أعرف له خبر وما لي خلاص إلا أن أجيبه إلى قصده وأقيم عنده حتى يقضي **** أمراً كان مفعولاً ثم إن السيدة بدور رفعت رأسها وأذعنت للملك بالسمع والطاعة ففرح الملك بذلك وأمر المنادي أن ينادي في جزائر الآبنوس بالفرح والزينة وجمع الحجاب والنواب والأمراء وأرباب دولته وقضاة مدينته وعزل نفسه عن الملك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الملك أرمانوس لما عزل نفسه من الملك سلطن السيدة بدور وألبسها بدلة الملك ودخلت الأمراء جميعاً على السيدة بدور وهم لا يشكون في أنها شاب وصار كل نظر إليهم منهم جميعاً يبل سراويله لفرط حسنها وجمالها فلما تسلطنت الملكة بدور ودقت لها البشائر بالسرور شرع الملك أرمانوس في تجهيز ابنته حياة النفوس وبعد أيام قلائل أدخلوا السيدة بدور على حياة النفوس فكانتا كأنهما بدران اجتمعا أو شمسان في وقت طلعا فردوا عليهما الأبواب وأرخوا الستائر بعد بعد أن أوقدوا لهما الشموع وفرشوا لهما الفرش فعند ذلك جلست السيدة بدور مع السيدة حياة النفوس فتذكرت محبوبها قمر الزمان واشتدت بها الأحزان فسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إن السيدة بدور لما فرغت من إنشادها جلست إلى جانب السيدة حياة النفوس وقبلتها في فمها ونهضت من وقتها وساعتها وتوضأت ولم تزل تصلي حتى نامت السيدة حياة النفوس ثم دخلت السيدة بدور معها في الفراش وأدارت ظهرها إلى الصباح، فلما طلع النهار دخل الملك هو وزوجته إلى انتهما وسألاها عن حالها فأخبرتهما بما جرى وما سمعته من الشعر.
هذا ما كان من أمر حياة النفوس وأبويها، وأما ما كان من أمر الملكة بدور فإنها خرجت وجلست على كرسي المملكة وطلع إليها الأمراء وأرباب وجميع الرؤساء والجيوش وهنأوها بالملك وقبلوا الأرض بين يديها ودعوا لها بدوام الملك وهم يعتقدون أنها رجل، ثم أنها أمرت ونهت وحكمت وعدلت وأطلقت من الحبوس وأبطلت المكوس ولم تزل قاعدة في مجلس الحكومة إلى أن دخل الليل ثم دخلت المكان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور لما دخلت المكان المعد لها وجدت السيدة حياة النفوس جالسة فجلست بجانبها وطقطقت على ظهرها ولاطفتها وقبلتها بين عينيها وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إن الملكة بدور نهضت قائمة على أقدامها ومسحت دموعها وتوضأت وصلت ولم تزل تصلي إلى أن غلب النوم على السيدة حياة النفوس فنامت فجاءت الملكة الملكة بدور ورقدت بجانبها إلى الصباح ثم قامت وصلت الصبح وجلست على كرسي المملكة وأمرت ونهت وحكمت وعدلت. هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر الملك أرمانوس فإنه دخل على ابنته وسألها عن حاله فأخبرته بجميع ما جرى لها وأنشدته الشعر الذي قالته الملكة بدور وقالت: يا أبي ما رأيت أحداً أكثر عقلاً وحياءً من زوجي غير أنه يبكي ويتنهد، فقال لها أبوها: يا ابنتي اصبري فما بقي له غير هذه الليلة الثالثة فإن لم يدخل بك ويزل بكارتك يكون لنا معه رأي وتدبير وأخلصه من الملك وأنفيه من بلادنا، فاتفق مع ابنته على هذا الكلام وأضمر الرأي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أقبل الليل قامت الملكة بدور من دست المملكة إلى القصر ودخلت المكان الذي هو معد لها فرأت الشمع موقداً والسيدة جالسة فتذكرت وزوجها وما جرى بينهما في تلك المدة اليسيرة ووالت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
لما فرغت من إنشادها أرادت أن تقوم إلى الصلاة وإذا بحياة النفوس تعلقت بذيلها وقالت لها: أما تستحي من والدي وما فعل معك من الجميل وأنت تتركني إلى هذا الوقت، فلما سمعت منها ذلك جلست في مكانها وقالت لها يا حبيبتي ما الذي تقولينه؟ قالت: الذي أقوله إني ما رأيت أحداً معجباً بنفسه مثلك فهل كل من كان مليحاً يعجب بنفسه هكذا، ولكن أنا ما قلت هذا الكلام لأجل أن أرغبك في وإنما قلته خفية عليك من الملك أرمانوس فإنه أضمر إن لم تدخل بي في هذه الليلة وتزيل بكارتي أنه ينزعك من المملكة في غد ويسفرك من بلاده يزداد به الغيظ فيقتلك وأنا يا سيدي رحمتك ونصحتك والرأي رأيك. فلما سمعت الملكة بدور منها ذلك الكلام أطرقت برأسها إلى الأرض وتحيرت في أمرها، ثم قالت في نفسها إن خالفته هلكت وإن أطلعته افتضحت ولكن أنا في هذه الساعة ملكة على جزائر الأبنوس كلها وهي تحت حكمي وما أجتمع أنا وقمر الزمان إلا في هذا المكان لأنه ليس له طريق إلى بلاده إلا من جزائر الأبنوس، وقد فوضت أمري إلى **** فهو نعم المدبر.
ثم إن الملكة بدور قالت لحياة النفوس يا حبيبتي إن تركي لك وامتناعي عنك بالرغم عني، وحكت لها ما جرى من المبتدأ إلى المنتهى وأرتها نفسها وقالت لها: سألتك ب**** أن تخفي أمري وتكتمي سري حتى يجمعني **** بمحبوبي قمر الزمان ز بعد ذلك يكون ما يكون.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما أعلمت حياة النفوس بقصتها وأمرتها بالكتمان تعجبت من ذلك غاية العجب ورقت لهل ودعت لها بجمع شملها على محبوبها قمر الزمان وقالت يا أختي لا تخافي ولا تفزعي واصبري إلى أن يقضي **** أمراً كان مفعولاً، ثم إن حياة النفوس أنشدت هذين البيتين:
فلما فرغت من شعرها قالت يا أختي إن صدور الأحرار قبور الأسرار وأنا لا أفشي لك سراً ثم لعبتا وتعانقتا ونامتا إلى قريب الآذان ثم قامت حياة النفوس وأخذت دجاجة وذبحتها وتلطخت بدمها وقلعت سراويله وصرخت فدخل لها أهلها وزغردت الجواري ودخلت عليها أمها وسألتها عن حالها وأقامت عندها إلى المساء، وأما الملكة بدور فإنها لما أصبحت قامت وذهبت إلى الحمام واغتسلت وصلت الصبح ثم توجهت إلى مجلس الحكومة وجلست على كرسي المملكة وحكمت بين الناس، فلما سمع الملك أرمانوس الزغاريد سأل عن الخبر فأخبروه بافتضاض بكارة ابنته ففرح بذلك واتسع صدره وانشرح وأولم اللائم ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان، هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر الملك شهرمان فإنه بعد خروج ولده إلى الصيد والقنص هو ومرزوان كما تقدم صبر حتى أقبل عليه الليل فلم يجيء ولده فتحير عقله ولم ينم تلك الليلة وقلق غاية القلق وزاد وجده واحترق وما صدق أن الفجر انشق حتى أصبح ينتظر ولده إلى نصف النهار فلم يجيء فأحس بقلبه بالفراق والتهب على ولده من الإشفاق ثم بكى حتى بل ثيابه وأنشد من قلب مصدوع:
فلما فرغ من شعره مسح دموعه ونادى في عسكره بالرحيل والحث على السفر الطويل فركب الجيش جميعه وخرج السلطان وهو محترق القلب على ولده قمر الزمان وقلبه بالحزن ملآن ثم فرق جيشه يميناً وشمالاً وأماماً وخلف ست فرق وقال لهم الاجتماع غداً عند مفرق الطريق فتفرقت الجيوش والعسكر كما ذكرنا وسلفرت الخيول ولم يزالوا مسافرين بقية النهار إلى أن جن الليل فساروا جميع الليل إلى نصف النهار حتى وصلوا إلى مفرق طرق فلم يعرفوا أي طريق سلكها ثم رأوا أثر أقمشة مقطعة ورأوا اللحم مقطعاً ونظروا أثر الدم باقياً وشاهدوا كل قطعة من الثياب واللحم في ناحية فلما رأى الملك شهرمان ذلك صرخ صرخة عظيمة من صميم القلب وقال واولداه ولطم على وجهه ونتف لحيته ومزق أثوابه وأيقن بموت ولده وزاد في البكاء والنحيب وبكت لبكائه العساكر وكلهم أيقنوا بهلاك قمر الزمان وحثوا على رؤوسهم التراب ودخل عليهم الليل وهم في بكاء ونحيب حنى أشرفوا على الهلاك واحترق قلب الملك بلهيب الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من إنشاده رحل بجيوشه إلى مدينته.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان أيقن بهلاك ولده وعلم أنه عدا عليه وافترسه وحش وإما قاطع طريق ثم نادى في جزائر خالدات أن يلبسوا السواد من الأحزان على ولده قمر الزمان وعمل له بيتاً وسماه بيت الأحزان وسار كل يوم خميس واثنين يحكم في مملكته بين عسكره ورعيته وبقية الجمعة يدخل بيت الأحزان وينعي ولده ويرثيه بالأشعار فمن ذلك قوله:
ومن ذلك قوله:
هذا ما كان من أمر الملك شهرمان وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور فإنها صارت ملكة في بلاد الأبنوس وصار الناس يشيرون إليها بالبنان ويقولون هذا صهر الملك أرمانوس وكل ليلة تنام مع السيدة حياة النفوس وتشتكي وحشة زوجها قمر الزمان وتصف لها حسنه وجماله وتتمنى ولو في المنا وصاله.
هذا ما كان من أمر الملكة بدور. وأما ما كان من أمر قمر الزمان فإنه لم يزل مقيماً عند الخولي في البستان مدة من الزمان وهو يبكي بالليل والنهار ويتحسر وينشد الأشعار على أوقات الهنا والسرور والخولي يقول: في آخر السنة تسير المراكب إلى بلاد المسلمين، ولم يزل قمر الزمان على تلك الحالة إلى أن رأى الناس مجتمعين على بعضهم فتعجب من ذلك، فدخل عليه الخولي وقال له: يا ولدي أبطل الشغل في هذا اليوم ولا تحول الماء على الأشجار أن هذا اليوم عيد والناس فيه يزور بعضهم بعضاً فاسترح واجعل بالك إلى الغيط، فإني أريد أن أبصر لك مركباً فما بقي إلا القليل وأرسلك إلى بلاد المسلمين، ثم إن الخولي خرج من البستان وبقي قمر الزمان وحده فانكسر خاطره وجرت دموعه ولم يزل يبكي حتى غشي عليه.
فلما أفاق قام يتمشى في البستان وهو متفكر فيما فعل به الزمان وطول البعد والهجران وعقله ولهان فعثر ووقع على وجهه فجاءت جبهته على حجر شجرة فجرى دمه واختلط بدموعه فمسح دمه ونشف دموعه وشد جبهته بخرقة وقام يتمشى في ذلك البستان وهو ذاهل العقل فنظر بعينه إلى شجرة فوقها طائران يتخاصمان فقلب أحدهما الآخر ونقره في عنقه فخلص رقبته من جثته ثم أخذ رأسه وطار به ووقع المقتول في الأرض قدام قمر الزمان.
فبينما هو كذلك إذا بطائرين كبيرين قد انقضا عليه ووقف واحد منهما عند رأسه والأخر عند ذنبه وأرخيا أجنحتهما عليه ومدا أعناقهما إليه وبكيا فبكى قمر الزمان على فراق زوجته حين رأى الطائرين يبكيان على صاحبهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قمر الزمان بكى على فراق زوجته لما رأى الطائران يبكيان على صاحبهما ثم إن قمر الزمان رأى الطائرين حفرا حفرة ودفنا الطائر المقتول فيها وطارا إلى الجو وغابا ساعة، ثم عادا ومعهما الطائر القاتل فنزلا به على قبر المقتول وبركا على القاتل حتى قتلاه وشقا جوفه وأخرجا أمعائه وأراقا دمه على قبر الطائر المقتول، ثم نثرا لحمه ومزقا جلده وأخرجا ما في جوفه وفرقا إلى أماكن متفرقة هذا كله جرى وقمر الزمان ينظر ويتعجب فحانت منه التفاتة إلى الموضع الذي قتلا فيه الطائر فوجد فيه شيئاً يلمع فدنا منه فوجده حوصلة الطائر فأخذها وفتحها فوجد فيها الفص الذي كان سبب فراقه من زوجته. فلما رآه وعرفه وقع على الأرض مغشياً عليه من فرحه فلما أفاق قال في نفسه هذا علامة الخير وبشارة الإجتماع ثم تامله ومر به على عينه وربطه على ذراعه واستبشر بالخير وقام لينظر الخولي ولم يزل يفتش عليه إلى الليل فلم يأت فبات قمر الزمان في موضعه إلى الصباح.
ثم أفاق إلى شغله وشد وسطه بحبل من الليف وأخذ الفأس والقفة وشق في البستان فأتى إلى شجرة خروب وضرب الفأس في جذرها فطنت الضربة فكشف التراب فوجده طابقاً ففتحه،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما فتح ذلك الطابق وجد باباً فنزل فيه فلقي قاعة قديمة من عهد ثمود وعاد وتلك القاعة واسعة وهي مملوءة ذهباً أحمر فقال في نفسه لقد ذهب التعب وجاء الفرح والسرور، ثم إن قمر الزمان طلع من المكان إلى ظاهر البستان ورد الطابق كما كان، ورجع إلى البستان وإلى تحويل الماء على الأشجار، ولم يزل كذلك إلى آخر النهار فجاء الخولي وقال يا ولدي أبشر برجوعك إلى الأوطان فإن التجار تجهزوا للسفر والمراكب بعد ثلاثة أيام مسافرة إلى مدينة من مدائن المسلمين، فإذا وصلت إليها تسافر في البر ستة أشهر حتى تصل جزائر خالدات، والملك شهرمان ففرح قمر الزمان بذلك ثم قبل يد الخولي وقال له يا والدي كما بشرتني فأنا أبشرك بشارة وأخبره بأمر القاعة ففرح الخولي وقال يا ولدي أنا في هذا البستان صار لي مدة ثمانون عاماً لم أجد شيء وأنت لك عندي دون السنة ووجدت هذا الكنز فهو رزقك وسبب زوال عكسك، ومعين لك على وصولك إلى أهلك واجتماع شملك بمن تحب. فقال قمر الزمان: لا بد من المقاسمة بيني وبينك، ثم أخذ الخولي ودخل في تلك القاعة وأراه الذهب وكان في عشرين خابية فأخذ عشرة والخولي عشرة.
فقال له: يا ولدي عب لك أمطار من الزيتون العصافيري الذي في هذا البستان فإنه معدوم في غير بلادنا وتحمله التجار إلى جميع البلاد واحمل الذهب في الأمطار والزيتون فوق الذهب، ثم سدها وخذها في المركب، فقام قمر الزمان م وقته وساعته وعبأ خمسين مطراً ووضع الذهب فيها، وسد عليه بعد أن جعل الزيتون فوق الذهب وحط الفص معه في مطر، وجلس هو والخولي يتحدثان وأيقن بجمع شمله وقربه من أهله وقال في نفسه إذا وصلت إلى جزيرة الأبنوس أسافر منها إلى بلاد أبي وأسأل عن محبوبتي بدور فيا ترى رجعت إلى بلادها أو سافرت إلى بلاد أبي أو حدث لها حادث في الطريق ثم جلس قمر الزمان ينتظر انقضاء الأيام وحكى للخولي حكاية الطيور وما وقع بينهما.
فتعجب الخولي من ذلك ثم ناما إلى الصباح فأصبح الخولي ضعيفاً، واستمر على ضعفه يومين وفي ثالث يوم اشتد به الضعف حتى يئسوا من حياته فحزن قمر الزمان على الخولي، فبينما هو كذلك إذا بالريس والبحرية قد أقبلوا وسألوا عن الخولي فأخبرهم بضعفه فقالوا أين الشاب الذي يريد السفر معنا إلى جزيرة الآبنوس فقال لهم قمر الزمان هو المملوك الذي بين أيديكم ثم أمرهم بتحويل الأمطار إلى المركب فنقلوها إلى المركب، وقالوا لقمر الزمان أسرع فإن الريح قد طاب.
فقال لهم سمعاً وطاعة ثم نقل زوادته إلى المركب، ورجع إلى الخولي يودعه فوجده في النزاع الأخير، فجلس عند رأسه حتى مات وغمضه وجهزه ووراه في التراب ثم توجه إلى المركب فوجدها أرخت القلوع وسارت ولم تزل تشق البحر حتى غابت عن عينه فصار قمر الزمان مدهوشاً حيران ثم رجع إلى البستان وهو مهموم مغموم وحثا التراب على رأسه،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان رجع إل البستان وهو مهموم مغموم بعد أن سافرت المركب واستأجر البستان من صاحبه، وأقام تحت يده رجلاً يعاونه على سقي الشجر وتوجه إلى الطابق ونزل إلى القاعة وعبأ الذهب الباقي في خمسين مطراً ووضع فوقه الزيتون عن المركب وسأل عن المركب فقالوا إنها لا تسافر إلا في كل سنة مرة واحدة فزاد به الوسواس وتحسر على ما جرى له لا سيما فقد الفص الذي للسيدة بدور فصار يبكي بالليل والنهار وينشد الأشعار، هذا ما كان من أمر قمر الزمان.
وأما ما كان من أمر المركب فإنه طاب لها الريح ووصلت إلى جزيرة الأبنوس واتفق بالأمر المقدور أن الملكة بدور كانت جالسة في الشباك فنظرت إلى المركب وقد رست في الساحل فخفق فؤادها وركبت هي والأمراء والحجاب وتوجهت إلى الساحل ووقفت على المركب وقد دار النقل في البضائع إلى المخازن فأحضرت الريس وسألته عما معه. فقال: أيها الملك إن معي في هذه المركب من العقاقير والسفوفات والأكحال والمراهم والأدهان والأموال والأقمشة الفاخرة والبضائع النفيسة ما يعجز عن حمله الجمال والبغال وفيها من أصناف العطر والبهار من العود القاقلي والتمر الهندي والزيتون العصافيري ما يندر وجوده في هذه البلاد فاشتهت نفسها الزيتون، وقالت لصاحب المركب ما مقدار الذي معك من الزيتون؟ قال معي خمسون مطراً ملآنة، ولكن صاحبها ما حضر معنا والملك يأخذ ما اشتهاه منها، فقالت: أطلعوها في البر لأنظر إليها فصاح الريس على البحرية فطلعوا الخمسين مطراً وأعطيكم ثمنها مهما كان.
فقال الريس: هذا ما له في بلادنا قيمة ولكن صاحبها تأخر عنا وهو رجل فقير الحال، قالت: وما مقدار ثمنها، قال: ألف درهم، قالت: آخذها بألف دينار، ثم أمرت بنقلها إلى القصر، فلما جاء الليل أمرت بإحضار مطر فكشفته وما في البيت غيرها هي وحياة النفوس فحطت بين يديها طبقاً ووضعت فيه شيئاً من المطر فنزل في الطبق كوم من الذهب الأحمر، فقالت للسيدة حياة النفوس: ما هذا إلا ذهب، ثم اختبرت الجميع فوجدتها كلها ذهباً والزيتون كله ما يملأ مطراً واحداً وفتشت في الذهب فوجدت الفص فيه فأخذته وتأملته فوجدته الفص الذي كان في تكة لباسها وأخذه قمر الزمان، فلما تحققته صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور لما رأت الفص صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها، فلما افاقت قالت في نفسها إن هذا الفص كان سبباً في فراق محبوبي قمر الزمان ولكنه بشير الخير ثم أعلمت السيدة حياة النفوس بأن وجود بشارة الاجتماع، فلما أصبح الصباح جلست على كرسي المملكة وأحضرت ريس المركب، فلما حضر قبل الأرض بين يديها فقالت: أين خليتم صاحب هذا الزيتون؟ فقال: يا ملك الزمان تركناه في بلاد المجوس وهو خولي بستان، فقالت له: إن لم تأت به فلا تعلم ما يجري عليك وعلى مركبك من الضرر، ثم أمرت بالختم على مخازن التجار وقالت لهم إن صاحب هذا الزيتون غريمي ولي عليه *** وإن لم يأت لأقتلنكم جميعاً وأنهب تجارتكم، فأقبلوا على الريس ووعدوه بأجرة مركبه ويرجع ثاني مرة وقالوا خلصنا من هذا الغاشم، فنزل الريس في المركب وحل قلوعها وكتب **** له السلامة حتى دخل الجزيرة في الليل وطلع إلى البستان وكان قمر الزمان قد طال عليه الليل وتذكر محبوبته فقعد يبكي على ما جرى له وهو في البستان ثم إن الريس دق الباب على قمر الزمان ففتح الباب وخرج إليه فحمله البحرية ونزلوا به إلى المركب وحلوا القلوع فيافروا وساروا ولم يزالوا سائرين أياماً وليالي وقمر الزمان لا يعلم ما موجب ذلك فسألهم عن السبب. فقالوا له: أنت غريم الملك صاحب جزائر الآبنوس صهر الملك أرمانوس وقد سرقت ماله يا منجوس، فقال: و**** عمري ما دخلت هذه البلاد ولا أعرفها، ثم إنهم ساروا به حتى أشرفوا على جزائر الأبنوس وطلعوا به على السيدة بدور، فلما رأته عرفته قالت: دعوه عند الخدام ليدخلوا به الجمام وأفرجت عن التجار وخلعت على الريس خلعة تساوي عشرة آلاف دينار ودخلت على السيدة حياة النفوس واعلمتها بذلك، وقالت لها اكتمي الخبر حتى أبلغ مرادي وأعمل عملاً يؤرخ ويقرأ بعدنا على الملوك والرعايا وقد أمرت أن يدخلوا بقمر الزمان الخمام فدخلوا به وألبسوه لبس الملوك ولما طلع قمر الزمان من الحمام كأنه غصن بان أو كوكب يخجل بطلعته القمران وردت روحه إليه ودخل القصر. فلما نظرته صبرت قلبها حتى يتم مرادها وأنعمت عليه بمماليك وخدم وجمال وبغال وأعطته خزانة مال ولم تزل ترقي قمر الزمان من درجة إلى درجة حتى جعلته خازندار وسلمت إليه الأموال وأقبلت عليه وقربته منها وأعلمت الأمراء بمنزلته فأحبوه جميعهم وصارت الملكة بدور كل يوم تزيد له في المرتبات وقمر الزمان لا يعرف سبب تعظيمها له ومن كثرة الأموال صار يهب ويتكرم ويخدم الملك أرمانوس حتى أحبه وكذلك أجبته الأمراء والخواء والعوام وصاروا يحلفون بحياته، كل ذلك وقمر الزمان يتعجب من تعظيم الملكة بدور له ويقول في نفسه و**** إن هذه المحبة لا بد لها من سبب وربما يكون هذا الملك إنما يكرمني هذا الإكرام الزائد لأجل غرض فاسد فلا بد أن أستأذنه وأسافر من بلاده.
ثم إنه توجه إلى الملكة بدور وقال لها: أيها الملك إنك أكرمتني إكراماً زائداً، ومن تمام الإكرام أن تأذن لي بالسفر وآخذ معي جميع ما انعمت علي، فتبسمت الملكة بدور وقالت له: ما حملك على طلب الأسفار واقتحام الأخطار وأنت في غاية الإكرام ومزيد الأنعام؟ فقال لها قمر الزمان: أيها الملك السعيد إن هذا الإكرام إذا لم يكن له سبب فإنه أعجب العجب خصوصاً وقد أوليتني من المراتب ما استحق أن يكون للشيوخ الكبار مع إنني من الأطفال الصغار، فقالت له الملكة بدور: سبب ذلك أني أحبك لفرط جمالك الفائق وبديع حسنك الرائق وإن أمكنتني مما أريد منك أزيدك إكراماً وعطاء وإنعاماً وأجعلك وزيراً على صغر سنك كما جعلني الناس سلطاناً عليهم وانا في هذا السن ولا عجب اليوم في رئاسة الأطفال ولله در من قال:
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام خجل واحمرت خدوده حنى صارت كالضرام وقال: لا حاجة لي بهذا الإكرام المؤدي إلى ارتكاب الحرام بل أعيش فقيراً من المال غنياً بالمروءة والكمال، فقالت له الملكة بدور: أنا لا أغتر بورعك الناشئ عن التيه والدلال ولله در من قال:
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام قال: أيها الملك إنه لا عادة لي بهذه الفعال ولا طاقة لي على حمل الأثقال التي يعجز حملها أكبر مني فكيف بي على صغر سني؟ فلما سمعت كلامه الملكة بدور تبسمت وقالت: إن هذا الشيء عجاب كيف يظهر الخطأ من خلال الصواب إذا كنت صغيراً فكيف تخشى الحرام وارتكاب الآثام وانت لم تبلغ حد التكليف ولا مؤاخذة في ذنب الصغير ولا تعنيف فقد ألزمت نفسك الحجة بالجدال وخفت على عليك كلمة الوصال فلا تظهر بعد ذلك امتناعاً ولا نفوراً وكان أمراً *** قدراً مقدوراً فانا أحق منك بخشية الوقوع وقد أجاد من قال:
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام تبدل الضياء في وجهه بالظلام وقال: أيها الملك إنه يوجد عندك من النساء والجواري الحسان ولا يوجد له نظير في هذا الزمان فهلا استغنيت بذلك عني فمل إلى ما شئت منهن ودعني فقالت: إن كلامك صحيح ولكن لا يشتفي بهن من عشقك، ألم ولا تبريح وإذا فسدت المزجة والطبيعة فهي لغير النصح سميعة فاترك الجدال واسمع قول من قال:
ويقول آخر:
وقول الآخر:
ويقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
فلما سمع قمر الزمان منها هذه الأشعار وتحقق أنه ليس له مما أرادته فراراً، قال: يا ملك الزمان إن كان ولا بد فعاهدني على أنك لا تفعل بي هذا الأمر إلا مرة واحدة وإن كان ذلك لا يجد في إصلاح الطبيعة الفاسدة وبعد ذلك لا تسألني فيه على الأبد فلعل **** يصلح مني ما فسد، فقالت: عاهدتك على ذلك راجياً إن **** علينا يتوب ويمحو بفضله عنا عظيم الذنوب فإن نطاق أفلاك المغفرة لا يضيق عن أن يحيط بنا ويكفر عنا ما عظم من سيئاتنا، ويخرجنا إلى نور الهدى من ظلام الضلال وقد أجاد وأحسن من قال:
ثم أعطته المواثيق والعهود وحلفت له بواجب الوجود أنه لا يقع بينها وبينه هذا الفعل إلا مرة في الزمان وإن ألجأهما غرامه إلى الموت والخسران فقام معها على هذا الشرط إلى محل خلوتها لتطفئ نيران لوعتها، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم، ثم حل سراويله وهو في غاية الخجل وعيونه تسيل من شدة الوجل فتبسمت وأطلعته معها على السرير وقالت له: لا ترى بعد هذه الليلة من نكير ومالت عليه بالتقبيل والعناق والتفاف ساق على ساق، ثم قالت له: مد يدك بين فخذي إلى المعهود لعله ينتصب إلى القيام من السجود فبكى وقال: أنا لا أحسن شيئاً من ذلك، فقالت: بحياتي تفعل ما أمرتك به مما هناك، فمد يده وفؤاده زفير فوجدها ألين من الزبد وأنعم من الحرير فاستلذ وجال بيده في جميع الجهات حتى وصل إلى قبة كثيرة البركات والحركات، وقال في نفسه: لعل هذا الملك خنثى وليس بذكر ولا أنثى، ثم قال: أيها الملك إني لم أجد لك آلة مثل آلات الرجال فما حملك على هذه الفعال؟ فضحكت الملكة بدور حتى استلقت على قفاها، وقالت: يا حبيبي ما أسرع من نسيت ليالي بتتناها وعرفته بنفسها فعرف أنها زوجته الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور فاحتضنها واحتضنته وقبلها وقبلته، ثم اضجعن على فراش الوصال، وتناشدت أقوال من قال:
ثم إن الملكة بدور أخبرت قمر الزمان بجميع ما جرى لها من الأول إلى الآخر وكذلك هو أخبرها بجميع ما جرى له وبعد ذلك انتقل معها إلى العتاب وقال لها: ما حملك على ما فعلته بي في هذه الليلة؟ فقالت: لا تؤاخذني كان قصدي المزاح ومؤيد البسط والانشراح، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح أرسلت الملكة بدور إلى الملك أرمانوس والد الملكة حيا النفوس وأخبرته بحقيقة أمرها وأنها زوجة قمر الزمان وأخبرته بقصتهما وبسبب افتراقهما من بعضهما وأعلمته أن ابنته حياة النفوس بكر على حالها.
فلما سمع الملك أرمانوس صاحب جزائر الآبنوس قصة الملكة بدور بنت الملك الغيور وتعجب منها غاية العجب وأمر أن يكتبوها بماء الذهب، ثم التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا ابن الملك هل لك أن تصاهرني وتتزوج ابنتي حياة النفوس؟ فقال له: حتى أشاور الملكة بدور فإن لها علي فضلاً غير محصور، فلما شاورها قالت له: نعم الرأي هذا فتزوجها وأكون أنا لها جارية لأن لها معروفاً وإحساناً وخيراً وامتناناً وخصوصاً ونحن في محلها وقد غمرنا إحسان أبيها، فلما رأى قمر الزمان أن الملكة بدور مائلة إلى ذلك ولم يكن عندها غيرة من حياة النفوس اتفق معها على هذا الأمر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان اتفق مع زوجته الملكة بدور على هذا الأمر وأخبر الملك أرمانوس بما قالتها لملكة بدور من أنه تحب ذلك وتكون جارية حياة النفوس، فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام من قمر الزمان فرح فرحاً شديداً ثم خرج وجلس على كرسي مملكته وأحضر جميع الوزراء والأمراء والحجاب وأرباب الدولة وأخبرهم بقصة قمر الزمان وزوجته الملكة بدور من الأول إلى الآخر وأنه يريد أن يزوج ابنته حياة النفوس إلى قمر الزمان ويجعله سلطاناً عليهم عوضاً عن زوجته الملكة بدور، فقالوا جميعاً حيث كان قمر الزمان هو زوج الملكة بدور التي كانت سلطاناً علينا قبله ونحن نظن أنها صهر ملكنا أرمانوس فكلنا نرضاه سلطاناً علينا ونكون له خدماً ولا نخرج عن طاعته، ففرح الملك أرمانوس فرحاً شديداً ثم أحضر القضاة والشهود ورؤساء الدولة وعقد قمر الزمان على ابنته الملكة حياة النفوس، ثم إنه أقام الأفراح وأولم اللائم الفاخرة وخلع الخلع السنية على جميع الأمراء والمساكين وأطلق جميع المحابيس واستبشر العالم بسلطنة الملك قمر الزمان وصاروا يدعون له بدوام العز والإقبال والسعادة والإجلال.
ثم إن قمر الزمان لما صار سلطاناً أزال المكوس وأطلق من في الحبوس وسار فيهم سيرة حميدة وأقام مع زوجته في هناء وسرور ووفاء وحبور يبيت عند كل واحدة منهما ليلة، ولم يزل على ذلك مدة من الزمان وقد انجلت عنه الهموم والأحزان ونسي أباه الملك شهرمان وما كان له من عز وسلطان حتى رزقه **** من زوجتيه بولدين ذكرين مثل القمرين النيرين أكبرهما من الملكة بدور وكان اسمه الملك الأمجد وو أصغرهما من الملكة حياة النفوس وكان اسمه الملك الأسعد أجمل من أخيه الأمجد، ثم إنهما تربيا في العز والدلال والأدب والكمال وتعلما العلم والسياسة والفروسية حتى صارا في غاية الكمال ونهاية الحسن والجمال وافتتن بهما النساء والجال وصار لهما من العمر نحو سبعة عشر عاماً وهما متلازمان فيأكلان ويشربان سواء ولا يفترقان عن بعضهما ساعة من الساعات ولا وقتاً من الأوقات وجميع الناس تحسدهما على ذلك.
و لما بلغا مبلغ الرجال واتصفا بالكمال صار أبوهما إذا سافر يجلسهما على التعاقب في مجلس الحكم فيحكم كل واحد منهما بين الناس، واتفق بالقدر المبرم أن والقضاء المحتم أن محبة الأسعد الذي هو ابن حياة النفوس وقعت في قلب الملكة بدور زوجة أبيه وأن محبة الأمجد الذي هو ابن الملكة بدور وقعت في قلب حياة النفوس زوجة أبيه فصارت كل واحدة من المرأتين تلاعب ابن ضرتها وتقبله وتضمه إلى صدرها وإذا رأت ذلك أمه تظن أنه من الشفقة ومحبة الأمهات لأولادهن، وتمكن العشق من قلوب المرأتين وافتتنا بالولدين فصارت كل واحدة منهن إذا دخل عليها ابن ضرتها تضمه إلى صدرها وتود انه لا يفارقها، وطال عليهما المطال ولم يجدا سبيلاً إلى الوصال والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضع الحكم كل واحد منهما يوماً على عادته. و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك توجه إلى الصيد والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضعه للحكم كل واحد يوماً على عادتهما فجلس للحكم في اليوم الأول الأمجد ابن الملكة بدور فأمر ونهى وولى وعزل وأعطى ومنع فكتبت له الملكة حياة النفوس أم الأسعد مكتوباً تستعطفه فيه وتوضح له أنها متعلقة به ومتعشقة فيه وتكشف له الغطاء وتعلمه أنها تريد وصاله فأخت ورقة وكتبت فيها هذه السجعات: من المسكينة العاشقة الحزينة المفارقة التي ضاع بحبك شبابها وطال فيك عذابها ولو وصفت لك طول الأسف وما أقاسيه من اللهف وما بقلبي من الشغف وما أنا فيه من البكاء والأنين وتقطع القلب الحزين وتوالي الغموم وتتابع الهموم وما أجده من الفراق والكآبة والإحتراق أطال شرحه في الكتاب وعجزت عن حصره الا لحساب وقد ضاقت علي الأرض والسماء ولا لي في غيرك أمل ولا رجاء فقد أشرفت على الموت وكابدت أهوال القوت وزاد بي الاحتراق وألم الهجر والفراق ولو وصفت ما عندي من الأشواق لفاقت عنه الوراق ثم بعد ذلك كتبت هذين البيتين:
ثم إن الملكة حياة النفوس لفت تلك الورقة في رقعة من غالي الحرير مضمخة بالمسك والعنبر ووضعت معها جدائل شعرها التي تستغرق الأموال بسعرها ثم لفتها وأعطتها للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنها أعطت ورقة المواصلة للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد فسار ذلك الخادم وهو لا يعلم ما خفي له في الغيب وعلام الغيوب يدبر الأمور كيف يشاء فلما دخل الخادم على الملك الأمجد قبل الأرض بين يديه وناوله المنديل وبلغه الرسالة فتناول الملك الأمجد المنديل من الخادم وفتحه فرأى الورقة ففتحها وقرأها فلما فهم معناها علم أن امرأة أبيه في عينها الخيانة وقد خانت أباه الملك قمر الزمان في نفسها فغضب غضباً شديداً وذم النساء على فعلهن وقال: لعن **** النساء الخائنات الناقصات عقلاً وديناً. ثم إنه جرد سيفه وقال للخادم: ويلك يا عبد السوء أتحمل الرسالة المشتملة على الخيانة من زوجة سيدك و**** أنه لا خير فيك يا أسود اللون والصحيفة يا قبيح المنظر والطبيعة السخيفة ثم ضربه بالسيف في عنقه فعزل رأسه عن جثته وطوى المنديل على ما فيه ووضعه في جيبه ثم دخل على أمه وأعلمها بما جرى وسبها وشتمها وقال: كلكن أنجس من بعضكن و**** العظيم لولا أني أخاف إساءة الأدب في حق والدي قمر الزمان وأخي الملك الأسعد لأدخلن وأضربن عنقها كما ضربت عنق خادمها ثم إنه خرج من عند الملكة بدور وهو في غاية الغيظ.
فلما بلغ الملكة حياة النفوس زوجة أبيه ما فعل بخادمها سبته ودعن عليه وأضمرت له المكر فبات الملك الأمجد في تلك الليلة ضعيفاً من الغيظ والقهر والفكر ولم يهنأ له أكل ولا منام فلما أصبح الصباح خرج أخوه الملك الأسعد وجلس في مجلس أبيه الملك قمر الزمان ليحكم بين الناس وأصبحت أمه ضعيفة بسبب ما سمعته عن الملك الأمجد من قتله للخادم ثم إن الملك الأسعد لما جلس للحكم في ذلك اليوم حكم وعدل وولى وعزل وأمر ونهى وأعطى ووهب ولم يزل جالساً في مجلس الحكم إلى قرب العصر ثم إن الملكة بدور أم الملك الأمجد أرسلت إلى عجوز من العجائز الماكرات وأظهرتها على ما في قلبها وأخذت ورقة لتكتب فيها مراسلة للملك الأسعد ابن زوجها وتشكو إليه من كثرة محبتها ووجدها به. فكتبت له هذه السجعات: ممن تلفت وجداً وشوقاً، إلى أحسن الناس خلق وخلقاً المعجب بجماله التائه التائه بدلاله المعرض عن طلب وصاله الزاهد في القرب ممن خضع وذل إلى من جفا ومل الملك الأسعد صاحب الحسن الفائق والجمال الرائق والوجه الأقمر والجبين الأزهر والضياء الأبهر هذا كتابي إلى من حبه أذاب جسمي ومزق جلدي وعظمي، اعلم أنه قد عيل صبري وتحيرت أمري وأقلقني الشوق والبعاد وأجفاني الصبر والرقاد ولازمني الحزن والسهاد وبرح بي الوجد والغرام وحلول الضنى والسقام فالروح تفديك وإن كان قتل الصب يرضيك و**** يبقيك ومن كل سوء يقيك، ثم بعد تلك السجعات كتبت هذه الأبيات:
ثم كتبت أيضاً هذه الأبيات:
ثم إن الملكة بدور ضمخت ورقة الرسالة بالمسك الأذفر ولفتها في جدائل شعرها وهي من الحرير العراقي وشراريبها من قضبان الزمرد الأخضر مرصعة بالدر والجوهر، ثم سلمتها إلى العجوز وأمرتها أن تعطيها للملك الأسعد ابن زوجها الملك قمر الزمان، فراحت العجوز من أجل خاطرها ودخلت على الملك الأسعد من وقتها وساعتها وكان في خلوة عند دخولها فناولته الورقة بما فيها وقد وقفت ساعة زمانية تنتظر رد الجواب فعند ذلك قرأ الملك الأسعد الورقة وفهم ما فيها ثم بعد ذلك لف الورقة في الجدائل ووضعها في جيبه وغضب غضباً شديداً ما عليه من مزيد ولعن النساء الخائنات ثم إنه نهض وسحب السيف من غمده وضرب رقبة العجوز فعزل رأسها عن جثتها وبعد ذلك قام وتمشى حتى دخل على أمه حياة النفوس فوجدها راقدة في الفراش ضعيفة بسبب ما جرى لها من الملك الأمجد فشتمها الملك الأسعد ولعنها ثم خرج من عندها فاجتمع بأخيه الملك الأمجد وحكى له جميع ما جرى له من امه الملكة بدور وأخبره أنه قتل العجوز التي جاءت له بالرسالة، ثم قال له: و**** يا أخي لولا حيائي منك لكنت دخلت في هذه الساعة وقطعت رأسها من بين كتفيها، فقال له الملك الأمجد: و**** يا أخي أنه قد جرى لي بالأمس لما جلست على كرسي المملكة مثل ما جرى لك في هذا اليوم فإن أمك أرسلت لي رسالة بمثل مضمون هذا الكلام، ثم أخبره بجميع ما جرى له مع أمه الملكة حياة النفوس وقال له: يا أخي لولا حيائي منك لدخلت إليها وفعلت بها ما فعلت بالخادم، ثم إنهما باتا يتحدثان بقية تلك الليلة ويلعنان النساء الخائنات ثم تواصيا بكتمان هذا الأمر لئلا يسمع به أبوهما قمر الزمان فيقتل المرأتين ولم يزالا في غم تلك الليلة إلى الصباح. فلما أصبح الصباح أقبل الملك بجيشه من الصيد وطلع إلى قصره ثم صرف الأمراء إلى حال سبيلهم وقام ودخل القصر فوجد زوجتيه راقدتين على الفراش وهما في غاية الضعف، وقد عملتا لولديهما مكيدة واتفقتا على تضييع أرواحهن لأنهن فضحن أنفسهن معهما وقد خشين أن يصيرا تحت ذلتهما فلما رآهما الملك على تلك الحالة، قال لهن: ما لكن؟ فقامتا إليه وقبلتا يديه وعكستا عليه المسألة وقالتا له: اعلم أيها الملك إن ولديك اللذين تربيا في نعمتك قد خاناك في زوجتيك وأركباك العار. فلما سمع الملك قمر الزمان من نسائه هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتاظ غيظاً شديداً حتى طار عقله من شدة الغيظ وقال لنسائه: أوضحا لي هذه القضية؟ فقالت له الملكة بدور: اعلم يا ملك الزمان أن ولدك الأسعد ابن حياة النفوس له مدة في الأيام وهو يراسلني ويكاتبني ويراودني عن الزنا وأنا أنهاه عن ذلك فلم ينته فلما سافرت أنت هجم علي وهو سكران والسيف في يده فخفت أن يقتلني إذا مانعته كما قتل خادمي فقضى أربه مني غصباً وإن لم تخلص حقي منه أيها الملك قتلت نفسي بيدي وليس لي حاجة بالحياة في الدنيا بعد هذا الفعل القبيح وأخبرته حياة النفوس أيضاً بمثل ما أخبرته به ضرتها بدور.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حياة النفوس أخبرت زوجها الملك قمر الزمان بمثل ما أخبرته به الملكة بدور وقالت له: أنا الأخرى جرى لي مع ولدك الأمجد كذلك ثم إنها أخذت في البكاء والنحيب وقالت له: إن لم تخلص لي حقي منه أعلمت أبي الملك أرمانوس بذلك ثم إن المرأتين بكتا قدام زوجهما الملك قمر الزمان بكاءً شديداً، فلما سمع كلامهما اعتقد أنه حق فغضب غضباً شديداً ما له من مزيد فقام وأراد أن يهجم على أولاده الاثنين ليقتلهما فلقيه عمه الملك أرمانوس وقد كان داخلاً في تلك الساعة ليسلم عليه لما علم أنه قد أتى من الصيد فرآه والسيف مشهور في يده والدم يقطر من مناخيره من شدة غيظه فسأله عما به فأخبره بجميع ما جرى من ولديه الأمجد والأسعد، ثم قال له: وها أنا داخل إليهما لأقتلهما أقبح قتلة وأمثل بهما أقبح مثلة. فقال له الملك أرمانوس وقد اغتاظ منهما أيضاً ونعم ما تفعل يا ولدي فلا بارك **** فيهما ولا في أولاد تفعل هذه الفعال في حق أبيهما ولكن يا ولدي صاحب المثل يقول: من لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب وهما ولداك على كل حال وينبغي أن تقتلهما بيدك، فتجرع غصتهما وتندم بعد ذلك على قتلهما حيث لا ينفعك الندم ولكن أرسلها مع أحد المماليك ليقتلهما في البرية وهما غائبان عن عينيك. فلما سمع الملك قمر الزمان من عمه الملك أرمانوس هذا الكلام رآه صواباً فأغمد سيفه ورجع وجلس على سرير مملكته ودعا خازنداره وكان شيخاً كبيراً عارفاً بالأمور وثبات الدهور وقال له: أدخل إلي ولدي الأمجد والأسعد وكتفها كتافاً جيداً واجعلهما في صندوقين واحملهما على بغل واركب أنت واخرج بهما إلى وسط البرية واذبحهما واملأ لي قنينتين من دمهما وائتني بهما عاجلاً، فقال له الخازندار: سمعاً وطاعة، ثم نهض من وقته وساعته وتوجه إلى الأمجد والأسعد فصادفهما في الطريق، وهما خارجان في دهليز القصر وقد لبسا قماشهما وأفخر ثيابهما، وأرادا التوجه إلى والدهما الملك قمر الزمان ليسلما عليه ويهنآه بالسلامة عند قدومه من السفر إلى الصيد، فلما رآهما الخازندار قبض عليهما، وقال لهما: يا ولدي اعلما أن عبد مأمور وإن أباكما أمرني بأمر فهل أنتما طائعان لأمره، فقالا: نعم، فعند ذلك تقدم إليهما الخازندار وكتفهما ووضعهما في صندوقين وحملهما على ظهر بغل وخرج بهما من المدينة ولم يزل سائراً بهما في البرية إلى قريب الظهر فأنزلهما في مكان أقفر موحش ونزل عن فرسه وحط الصندوقين عن ظهر البغل وفتحهما وأخرج الأمجد والأسعد منهما. فلما نظر إليهما بكى بكاءً شديداً على حسنهما وجمالهما وبعد ذلك جرد سيفه وقال لهما: و**** يا سيدي إنه يعز علي أن أفعل بكما فعلاً قبيحاً ولكن أنا معذور في هذه الأمور لأنني عبد مأمور وقد أمرني والدكما الملك قمر الزمان بضرب رقابكما فقالا له: أيها الأمير افعل ما أمرك به الملك فنحن صابرون على ما قدره **** عز وجل علينا وأنت في حل من دمنا، ثم إنهما تعانقا وودعا بعضهما وقال الأسعد للخازن دار: ب**** عليك يا عم أنك لا تجرعني غصة أخي ولا تسقني حسرته بل اقتلني أنا قبله ليكون ذلك أهون علي، وقال الأمجد للخازن دار مثل ما قاله الأسعد، واستعطف الخازندار أن يقتله قبل أخيه وقال له: إن أخي أصغر مني فلا تذقني لوعته ثم بكى كل منهما بكاءً شديداً ما عليه من مزيد وبكى الخازندار لبكائهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار بكى لبكائهما، ثم إن الأخوين تعانقا وودعا بعضهما، وقال أحدهما للآخر إن هذا كله من كيد الخائنتين أمي وأمك وهذا ما جرى مني في حق أمك وجزاء ما جرى منك في حق أمي، ولا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم، إنا *** وإنا إليه لراجعون، ثم إن الأسعد اعتنق أخاه وصعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
فلما سمع الأمجد بكاء أخيه بكى وضمه إلى صدره وأنشد هذين البيتين:
ثم قال الأمجد للخازن دار: سألتك بالواحد القهار الملك الستار أن تقتلني قبل أخي الأسعد لعل نار قلبي تخمد ولا تدعها تتوقد، فبكى الأسعد وقال: ما يقتل قبل إلا أنا، فقال الأمجد: الرأي أن تعتنقني وأعتقنك حتى ينزل السيف علينا فيقتلنا دفعة واحدة، فلما اعتنقا الاثنان وجهاً لوجه التزما ببعضهما، وشدهما الخازندار وربطهما بالحبال وهو يبكي، ثم جرد سيفه وقال: و**** يا سيدي أنه يعز علي قتلكما فهل لكما من حاجة فأقضيها أو وصية فأنفذها أو رسالة فأبلغها؟ فقال الأمجد: ما لنا حاجة، وأما من جهة الوصية فإني أوصيك أن تجعل أخي الأسعد من تحت وأنا من فوق لأجل أن تقع علي الضربة أولاً فإذا فرغت من قتلنا ووصلت إلى الملك وقال لك: ما سمعت منهما قبل موتهما فقل له: إن ولديك يقرآنك السلام ويقولان لك أنك لا تعلم هل هما بريئان أو مذنبان وقد قتلتهما وما تحققت منهما وما نظرت في حالهم ثم أنشد هذين البيتين:
ثم قال الأمجد: ما نريد منك إلا أن تبلغه هذين البيتين،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة السابعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد قال للخازن دار: ما نريد منك أن تبلغه إلا هذين البيتين اللذين سمعتهما وأسألك ب**** أن تطول بالك علينا حتى أنشد لأخي هذين البيتين الأخرين ثم بكى بكاءً شديداً وجعل يقول:
فلما سمع الخازندار من الأمجد هذا الكلام بكى بكاءً شديداً حتى بل لحيته، وأما الأسعد فإنه تغرغرت عيناه بالعبرات وأنشد هذه الأبيات:
ثم خضب خده بدمعه المرار وأنشد هذه الأشعار:
ثم صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ الأسعد من شعره اعتنق أخاه الأمجد حتى صارا كأنهما شخص واحد وسل الخازندار سيفه وأراد أن يضربهما وإذا بفرسه جفل في البر وكان يساوي ألف دينار وعليه سرج عظيم يساوي جملة من المال، فألقى السيف من يده وذهب وراء فرسه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار وقد التهب فؤاده وما زال يجري خلفه ليمسكه حتى دخل في غابة فدخل وراءه في تلك الغابة فشق الجواد في وسط الغابة ودق الأرض برجليه، فعلا الغبار وارتفع وثار فأما الفرس فإنه شخر ونخر وصهل وزمجر وكان في تلك الغابة أسد عظيم الخطر قبيح المنظر عيونه ترمي بالشرر له وجه عبوس وشكل يهول النفوس فالتفت الخازندار فرأى الأسد قاصداً إليه فلم يجد له مهرباً من يديه ولم يكن معه سيف فقال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم ما حصل لي هذا الضيق إلا بذنب الأمجد والأسعد وإن هذا السفرة مشؤومة من أوله، ثم إن الأمجد والأسعد قد حمي عليهما الحر فعطشا عطشاً شديداً، حتى نزلت ألسنتهما واستغاثا من العطش فلم يغثهما أحد، فقالا: يا ليتنا كنا قتلنا واسترحنا من هذا ولكن ما ندري أين جفل الحصان حتى ذهب الخازندار وراءه وخلانا مكتفين فلو جاءنا وقتلنا كان أريح لنا من مقاساة هذا العذاب. فقال الأسعد: يا أخي اصبر فسوف يأتينا فرج **** سبحانه وتعالى ن فإن الحصان ما جفل إلا لأجل لطف **** بنا وما ضرنا غير هذا العطش ثم هز نفسه وتحرك يميناً وشمالاً فانحل كتافه فقام وحل كتاف أخيه ثم أخذ سيف الخازندار وقال لأخيه: و**** لا تبرح من هذا حتى نكشف خبره ونعرف ما جرى له وشرعا يقتفيان الأثر فدلهما على الغابة فقالا لبعضهما: إن الحصان والخازن دار ما تجاوزا هذه الغابة. فقال الأسعد لأخيه: قف هنا حتى أدخل الغابة وأنظرها، فقال الأمجد: ما اخليك تدخل فيها وحدك وما ندخل إلا جميعنا فإن سلمنا سلمنا سواء وإن عطبنا عطبنا سواء، فدخل الاثنان فوجدا الأسد قد هاجم الخازندار وهو تحته كانه عصفور ولكنه صار يبتهل إلى **** ويشير إلى نحو السماء فلما رآه الأمجد أخذ السيف وهجم على الأسد وضربه بالسيف بين عينيه فقتله ووقع مطروحاً على الأرض فنهض الخازندار وهو متعجب من هذا الأمر فرأى الأمجد والأسعد ولدي سيده واقفين فترامى على أقدامهما وقال لهما: و**** يا سيدي ما يصلح أن أفرط فيكما بقتلكما فلا كان من يقتلكما فبروحي أفديكما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار قال للأمجد والأسعد: بروحي أفديكما ثم نهض من وقته وساعته وأعتقهما وسألهما عن سبب فك وثاقهما وقدومهما فأخبراه أنهم عطشا وانحل الوثاق من أحدهما ففك الآخر بسبب خلوص نيتهما ثم إنهما اقتفيا الأثر حتى وصلا إليه، فلما سمع كلامهما شكرهما على ما فعلهما وخرج معهما إلى ظاهر الغابة، فقالا له: يا عم افعل ما امرك به أبونا. فقال: حاشا *** أن أصيبكما بضرر ولكن اعلما أني أريد أن أنزع ثيابكما وألبسكما ثيابي وأملأ قنينتين من دم الأسد ثم أروح إلى الملك وأقول له: إني قتلتهما، وأما أنتما فسيحا في البلاد وأرض **** واسعة واعلما يا سيدي أن فراقكما يعز علي، ثم بكى كل من الخازندار والغلامين وخلعا ثيابهما وألبسهما ثيابه وراح إلى الملك ود أخذ ذلك وربط قماش كل واحد منهما في بقجة معه وملأ القنينتين من دم الأسد وجعل البقجتين قدامه على ظهر الجواد ثم ودعهما وسار متوجهاً إلى المدينة. ولم يزل سائراً حتى دخل على الملك وقبل الأرض بين يديه فرآه الملك متغير الوجه وذلك مما جرى له من الأسد فظن أن ذلك من قتل أولاده ففرح وقال له: هل قضيت على الشغل؟ قال: نعم يا مولانا، ثم ناوله البقجتين اللتين فيهما الثياب والقنينتين الممتلئتين بالدم فقال له الملك: ماذا رأيت منهما وهل أوصياك بشيء؟ قال: وجدتهما صابرين محتسبين لما نزل بهما وقد قالا لي: إن أبانا معذور فاقرئه منا السلام وقل له: أنت في حل من قتلنا ومن دمائنا ولكن نوصيك أن تبلغه هذين البيتين وهما:
فلما سمع الملك من الخازندار هذا الكلام أطرق رأسه إلى الأرض ملياً وعلم أن كلام ولديه يدل على أنهما قد قتلا ظلماً ثم تفكر في مكر النساء ودواهيهن وأخذ النقجتين وفتحهما وصار يقلب ثياب أولاده ويبكي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قمر الزمان لما فتح البقجتين صار يقلب ثياب أولاده وبكى فلما فتح ثياب ولده الأسعد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته بدور ومعها جدائل شعرها ففتح الورقة وقرأها وفهم معناها فعل أن ولده الأسعد مظلوم ولما قلب ثياب الأمجد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته حياة النفوس وفيها جدائل شعرها ففتح الورقة وقرأها فعلم أنه مظلوم فدق يداً على يد وقال: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم قد قتلت أولادي ظلماً،ثم صار يلطم على وجهه ويقول: واولداه.. واطول حزناه، وأمر ببناء قبرين في بيت الأحزان وكتب على القبرين اسمي ولديه وترامى على قبر الأمجد وبكى وأن واشتكى وانشد هذه الأبيات:
ثم ترامى على قبر الأسعد وبكى وأن واشتكى وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
و لما فرغ من شعره هجر الأحباب والخلان وانقطع في البيت الذي سماه بيت الأحباب وصار يبكي على أولاده وقد هجر نسائه وأصحابه وأصدقائه. هذاما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الأمجد والأسعد فإنهما لم يزالا سائران في البرية وهما يأكلان من نبات الأرض ويشربان من متحصلات الأمطار مدة شهر كامل حتى انتهى بهما المسير إلى جبل من الصوان الأسود لا يعلم أين منتهاه والطريق افترقت عند ذلك الجبل طريقين، طريق تشقه من وسطه وطريق ساعده إلى أعلاه فسلكا الطريق التي في أعلى الجبل واستمرا سائران خمسة أيام فلم يرله منتهى وقد حصل لهما الإعياء من التعب وليسا معتادين على المشي في جبل ولا في غيره ولما يئسا من الوصول إلى منتهاه رجعا وسلكا الطريق التي في وسط الجبل.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد والأسعد ولدي قمر الزمان لم عادا من الطريق الصاعدة في الجبل إلى الطريق المسلوكة في وسطه مشيا طول النهار إلى الليل وقد تعب الأسعد من كثرة السير فقال له لأخيه: يا أخي أنا ما بقيت أقدر على المشي فإني ضعفت جداً، فقل له الأمجد: يا أخي شد حيلك لعل **** يفرج عنا، ثم إنهما مشيا ساعة من الليل وقد تعب الأسعد تعباً شديداً ما عليه من مزيد وقال: يا أخي إني تعبت وكليت من المشي، ثم وقع في الأرض وبكى فخمله أخوه الأمجد ومشى به وصار ساعة يمشي وساعة يستريح إلى أن لاح الفجر حتى استراح أخوه فطلع هو وإياه فوق الجبل فوجد عيناً نابعة يجري منها الماء وعندها شجرة رمان ومحراب فما قصدا أنهما يريان ذلك، ثم جلسا عند تلك العين وشربا من مائها وأكلا من رمان تلك الشجرة وناما في ذلك الموضع حتى طلعت الشمس ثم جلسا واغتسلا من العين وأكلا من الرمان الذي في الشجرة وناما إلى العصر وأرادا أن يسيرا فما قدر الأسعد على السير وقد ورمت رجلاه فأقاما هناك ثلاثة أيام حتى استراحا، ثم سارا في الجبل مدة أيام وهما سائران فوق الجبل وقد تعبا من العطش إلى أن لاحت لهما مدينة من بعيد ففرحا وسارا حتى وصلا إليها.
فلما قربا منها شكرا **** تعالى وقال الأمجد للأسعد: يا أخي اجلس هنا وأنا أسير إلى هذه المدينة وأنظر ما شأنها وأسأل عن أحوالها لأجل أن نعرف أين نحن من أرض **** الواسعة ونعرف الذي قطعناه من البلاد في عرض هذا الجبل ولو أننا مشينا في وسطه ما كنا نصل إلى هذه المدينة في سنة كاملة، فالحمد *** على السلامة، فقال له الأسعد: و**** يا أخي ما يذهب إلى المدينة غيري وأنا فداؤك، فإنك إن تركتني ونزلت وغبت عني تستغرقني الأفكار من أجلك وليس لي قدرة على بعدك عني، فقال له الأمجد: توجه ولا تبطئ، فنزل السعد من الجبل وأخذ معه دنانير وخلى أخاه ينتظره وسار ماشياً إلى أسفل الجبل حتى دخل المدينة وشق في أزقتها فلقيه رجل كبير طاعن في السن وقد نزلت لحيته على صدره وافترقت فرقتين وبيده عكاز وعليه ثياب فاخرة وعلى رأسه عمامة كبيرة حمراء، فلما رآه الأسعد تعجب من لبسه وهيئته وتقدم إليه وسلم عليه وقال له: أين طريق السوق يا سيدي؟ فلما سمع الشيخ كلامه تبسم في وجهه وقال له: يا ولدي كأنك غريب؟ فقال له الأسعد: نعم أنا غريب يا عم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الذي لقي الأسعد تبسم في وجهه وقال له: يا ولدي كأنك غريب؟ فقال له الأسعد: نعم غريب، فقال له الشيخ: قد آنست ديارنا وأوحشت ديار أهلك فما الذي تريده من السوق؟ فقال الأسعد: يا عم إن لي أخاً تركته في الجبل ونحن مسافران من بلاد بعيدة ولنا في السفر مدة ثلاثة شهور وقد أشرفنا على هذه المدينة فجئت إلى هنا لأشتري طعاماً وأعود به إلى أخي لأجل أن نقتات به، فقال الشيخ له: يا ولدي أبشر بكل خير واعلم أنني عملت وليمة وعندي ضيوف كثيرة وجمعت فيها من أطيب الطعام وأحسنه ما تشتهيه النفوس فهل لك أن تسير معي إلى مكاني فأعطيك ما تريد ولا آخذ منك ثمناً وأخبرك بأحوال هذه المدينة والحمد *** يا ولدي حيث وقعت بك ولم يقع بك أحد غيري. فقال الأسعد افعل ما أنت آمله عجل فإن أخي ينتظرني وخاطره عندي، فأخذ الشيخ بيد الأسعد ورجع به إلى زقاق ضيق وصار يبتسم في وجهه ويقول له: سبحان من نجاك من أهل هذه المدينة، ولم يزل ماشياً به حتى دخل داراً واسعة وفيها قاعة جالساً فيها أربعون شيخاً طاعنون في السن وهم مصطفون حلقة وفي وسطهم نار موقدة والمشايخ جالسون حولها يعبدونها ويسجدون لها، فلما رأى ذلك الأسعد اقشعر بدنه ولم يعلم ما خبرهم، ثم إن الشيخ قال لهؤلاء الجماعة: يا مشايخ النار ما أبركه من نهار، ثم نادى قائلاً يا غضبان، فخرج عبد أسود بوجه أعبس وأنف أفطس وقامة مائلة وصورة هائلة ثم أشار إلى العبد فشد وثاق الأسعد. وبعد ذلك قال للعبد: انزل به إلى القاعة التي تحت الأرض واتركه هناك وقل للجارية الفلانية تتولى عذابه بالليل والنهار، فأخذه العبد وأنزله تلك القاعة وسلمه إلى الجارية فصارت تتولى عذابه وتعطيه رغيفاً واحداً في أول النهار ورغيفاً واحداً في أول الليل وكوز ماء مالح في الغداة ومثله في العشاء ثم إن المشايخ قالوا لبعضهم: لما يأتي أوان عيد النار نذبحه على الجبل ونتقرب به إلى النار، ثم إن الجارية نزلت إليه وضربته ضرباً وجيعاً حتى سالت الدماء من أعضائه وغشي عليه، ثم حطت عند رأسه رغيفاً وكوز ماء مالح وراحت وخلته فاستفاق في نصف الليل فوجد نفسه مقيداً وقد آلمه الضرب فبكى بكاءً شديداً وتذكر ما كان فيه من العز والسعادة والملك والسيادة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما رأى نفسه مقيداً وقد آلمه الضرب تذكر ما كان فيه من العز والسعادة والملك والسيادة فبكى وصعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
فلما فرغ الأسعد من شعره مد يده فوجد رغيفاً وكوز ماء مالح فأكل قليلاً ليسد رمقه وشرب قليلاً من الماء ولم يزل ساهراً إلى الصباح من كثرة البق والقمل فلما أصبح الصباح جاءت إليه الجارية ونزعت عنه ثيابه وكانت قد غمرت بالدم والتصقت بجلده وهو مقيد في الحديد بعيداً عن الأحباب فتذكر أخاه والعز الذي كان فيه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد تذكر أخاه والعز الذي كان فيه وأن واشتكى وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره ونثره حن وبكى وأن واشتكى وتذكر ما كان فيه من وما حصل له من فراق أخيه. هذا ما كان من أمره، وأمام ما كان من أمر أخيه الأمجد فإنه مكث ينتظر الأسعد إلى نصف النهار فلم يعد إليه فخفق فؤاده واشتد به ألم الفراق وأفاض دمعه المهراق.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد لما مكث ينتظر الأسعد إلى نصف النهار فلم يعد إليه فخفق فؤاده واشتد به ألم الفراق وأفاض دمعه المهراق وصاح وحاسرتاه ما كان اخوفني من الفراق ثم نزل من فوق الجبل ودمعه سايل على خديه ودخل المدينة ولم يزل ماشياً فيها حتى وصل إلى السوق وسأل الناس عن اسم هذه المدينة وعن أهلها فقالوا له: هذه تسمى مدين المجوس وأهلها يعبدون النار دون الملك الجبار، ثم سأل عن مدينة فقالوا له: إن المسافة التي بيننا وبينها من الب سنة ومن البحر ستة أشهر وملكها يقال له أرمانوس وقد صاهر اليوم ملكاً وجعله مكانه وذلك الملك يقال له قمر الزمان وهو صاحب عدل وإحسان وجود وأمان.
فلما سمع الملك الأمجد ذكر أبيه حن وبكى وأن واشتكى وصار لا يعلم أين يتوجه وقد اشترى معه شيئاً للأكل وذهب إلى موضع يتوارى فيه ثم قعد وأراد أن يأكل فتذكر أخيه فبكى ولم يأكل إلا قدر سد الرمق ثم قام ومشى في المدينة ليعلم خبر أخيه فوجد رجلاً مسلماً خياطاً في دكان فجلس عنده وحكى له قصته فقال الخياط: إن كان وقع في يد أحد المجوس فما بقيت تراه إلا بعسر ولعل **** يجمع بينك وبينه ثم قال: هل لك يا أخي أن تنزل عندي؟ قال: نعم. ففرح الخياط بذلك وأقام عنده أياماً وهو يسليه ويصبره ويعلمه الخياطة حتى صار ماهراً ثم خرج يوماً إلى شاطئ البحر وغسل أثوابه ودخل الحمام ولبس ثياباً نظيفة ثم خرج من الحمام يتفرج في المدينة فصادف في طريقه امرأة ذات حسن وجمال وقد واعتدال ليس لها في الحسن مثال فلما رأته رفعت القناع عن وجهها وغمزته بحواجبها وعيونها وغازلته باللحظات وقد لعبت به أيادي الصبابات فأشار لها وأنشد هذه الأبيات:
فلما سمعت من الأمجد هذا الشعر تنهدت بصاعد الزفرات وأشارت إليه وأنشدت هذه الأبيات:
فلما سمع الأمجد منها هذا الكلام قال لها: أتجيئين عندي أو أجيء عندك؟ فأطرقت رأسها حياء إلى الأرض وتلت قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل بعضهم على بعض ففهم الأمجد إشارتها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد فهم إشارة المرأة وعرف أنها تريد الذهاب معه حيث يذهب فالتزم لها بالمكان وقد استحى أن يروح عند الخياط الذي هو عنده فمشى قدامها ومشت خلفه ولم يزل ماشياً بها من زقاق إلى زقاق ومن موضع إلى موضع حتى تعبت الصبية فقالت له: يا سيدي أين دارك؟ فقال لها: قدام وما بقي عليها إلا شيء يسير ثم انعطف بها في زقاق مليح ولم يزل ماشياً فيه وهي خلفه حتى وصلا إلى آخره فوجده غير نفاذ فقال: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم، ثم التفت بعينه فرأى في صدر الزقاق باباً كبيراً بمصطبتين ولكنه مغلق فجلس الأمجد على مصطبة وجلست المرأة على مصطبة، ثم قالت له: يا سيدي ما الذي تنتظره؟ فأطرق برأسه إلى الأرض ملياً ثم رفع رأسه وقال لها: أنتظر مملوكي فإن المفتاح معه وكنت قد قلت له: هيء لنا المأكول والمشروب وصحبة المدام حتى أخرج من الحمام ثم قال في نفسه: ربما يطول عليها المطال فتروح إلى حال سبيلها وتخليني في هذا المكان فلما طال عليها الوقت قالت له: يا سيدي إن المملوك قد أبطأ علينا ونحن قاعدون في الزقاق، ثم قامت الصبية إلى الضبة بحجر فقال لها الأمجد: لا تعجلي واصبري حتى يجيء المملوك، فلم تسمع كلامه ثم ضربت الضبة بالحجر فقسمتها نصفين فانفتح الباب فقال لها: وأي شيء خطر لك حتى فعلت هذا؟ فقالت له: يا سيدي أي شيء جرى أما هو بيتك؟ فقال: نعم، ولكن لا يحتاج إلى كسر الضبة، ثم إن الصبية دخلت البيت فصار الأمجد متحيراً في نفسه خوفاً من أصحاب المنزل ولم يدر ماذا يصنع، فقالت الصبية: لم لا تتدخل يا سيدي يا نور عيني وحشاشة قلبي؟ فقال لها: سمعاً وطاعة ولكن قد أبطأ علي المملوك وما أدري هل فعل شيئاً مما امرته به أم لا، ثم إنه دخل معها وهو غاية ما يكون من الهم خوفاً من أصحاب المنزل، فقالت: يا سيدي مالك واقفاً هكذا؟ ثم شهقت شهقة وأعطت الأمجد قبلة مقل كسر الجوز وقالت: يل سيدي إن كنت مواعد غيري فإني أشد ظهري وأخدمها فضحك الأمجد عن قلب مملوء بالغيظ ثم طلع وجلس وهو ينفخ وقال في نفسه: يا قبلة الشؤم إذا جاء صاحب المنزل.
فبينما هو كذل إذا بصاحب الدار قد جاء وكان مملوكاً من أكابر المدينة لأنه كان أمير ياخو عند الملك وقد جعل تلك القاعة معدة لحظه لينشرح به صدره ويختلي فيها بمن يريد وكان في ذلك اليوم قد أرسل إلى معشوق يجيء له ويجهز له ذلك المكان وكان اسم ذلك المملوك بهادر وكان سخي اليد صاحب جود وإحسان وصدقات وامتنان فلما وصل إلى قريب القاعة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهادر صاحب القاعة لما وصل إلى قريب القاعة وجد الباب مفتوحاً فدخل قليلاً قليلاً، وطل برأسه فنظر الأمجد والصبية وقدامهما طبق فاكهة وآلة المدام وفي ذلك الوقت كان الأمجد ماسكاً قدحاً وعينيه إلى الباب، فلما صارت عينه في عين صاحب الدار اصفر لونه وارتعدت فرائصه فلما رآه بهادر وقد اصفر لونه وتغير حاله غمزه بإصبعه على فمه يعني أسكت وتعال عندي، فحط الأمجد الكأس من يده وقام إليه فقالت الصبية: إلى أين؟ فحرك رأسه وأشار لها أنه يريد الماء، ثم خرج إلى الدهليز خافياً، فلما رأى بهادر علم أنه صاحب الدار فأسرع إليه وقبل يديه ثم قال له: ب**** عليك يا سيدي قبل أن تؤذيني اسمع مني مقالي، ثم حدثه بحديثه من أوله إلى آخره وأخبره بسبب خروجه من أرضه ومملكته وأنه ما دخل القاعة باختياره ولكن الصبية هي التي كسرت الضبة وفتحت الباب وفعلت هذه الفعال، فلما سمع بهادر كلام الأمجد وعرف أنه ابن ملك حن عليه ورحمه، ثم قال: اسمع يا أمجد كلامي وأطعني وأنا أتكفل لك بالأمان مما تخاف وإن خالفتني قتلتك.
فقال الأمجد: آمرني بما شئت فأنا لا أخالفك أبداً لأنني عتيق مرؤتك، فقال له بهادر: ادخل إلى هذه القاعة واجلس في المكان الذي كنت فيه واطمئن وها أنا داخل عليك واسمي بهادر فإذا دخلت إليك فاشتمني وانهرني وقل لي: ما سبب تأخرك إلى هذا الوقت ولا تقبل لي عذراً بل قم اضربني. وإن شفقت علي أعدمتك حياتك، فادخل وانبسط ومهما طلبته مني تجده حاضراً بين يديك في الوقت وبت كما تحب في هذه الليلة وفي غد توجه إلى حال سبيلك إكراماً لغربتك فإني أحب الغريب وواجب علي إكرامه، فقبل الأمجد يده ودخل وقد اكتسى وجهه حمرة وبياضاً فأول ما دخل قال للصبية: يا سيدتي آنست موضعك وهذه ليلة مباركة، فقالت له الصبية: إن هذا عجيب منك حيث بسطت لي الأنس، فقال الأمجد: و**** يا سيدتي إني كنت أعتقد أن مملوكي بهادر أخذ لي عقود جواهر كل عقد يساوي عشرة آلف دينار، ثم خرجت الآن وأنا متفكر في ذلك ففتشت عليها فوجدتها في موضعها، ولأم أدر ما سبب تأخر المملوك إلى هذا الوقت ولابد لي من عقوبته، فاستراحت الصبية بكلام الأمجد ولعبا وشربا وانشرحا ولم يزالا في حظ إلى قريب المغرب، ثم دخل عليهما بهادر وقد غير لبسه وشد وسطه وجعل في رجليه زرنوباً على عادة المماليك، ثم سلم وقبل الأرض وكتف يديه وأطرق برأسه إلى الأرض، كالمعترف بذنبه فنظر إليه الأمجد بعين الغضب وقال له: ما سبب تأخرك يا أنحس المماليك؟ فقال له: يا سيدي إني اشتغلت بغسل أثوابي وما علمت أنك ههنا فإن ميعادي وميعادك العشاء لا بالنهار، فصرخ الأمجد وقال له: تكذب يا أخس المماليك و**** لا بد من ضربك، ثم قام الأمجد وسطح بهادر على الأرض وأخذ عصا وضربه برفق فقامت الصبية وخلصت العصا من يده ونزلت بها على بهادر بضرب وجيع حتى جرت دموعه واستغاث وصار يكز على أسنانه والأمجد يصيح على الصبية: لا تفعلي هكذا، وهي تقول له: دعني أشفي غيظي، ثم إن الأمجد خطف العصا من يدها ودفعها فقام بهادر ومسح دموعه عن وجهه ووقف في خدمته ساعة ثم مسح القاعة وأوقد القناديل وصارت الصبية كلما دخل بهادر وخرج تشتمه وتلعنه والأمجد يغضب عليها ويقول لها: بحق **** تعالى أن تتركي مملوكي فإنه غير معهود بهذا وما زالا يأكلان ويشربان، وبهادر في خدمتهما إلى نصف الليل حتى تعب من الخدمة والضرب فنام في وسط القاعة وشخر ونخر. فسكرت الصبية وقالت للأمجد: قم خذ هذا السيف المعلق واضرب رقبة هذا المملوك وإن لم تفعل ذلك عملت أنا على هلاك روحك، فقال الأمجد: وأي شيء خطر لك أن أقتل مملوكي؟ قالت: لا يكمل الحظ إلا بقتله وإن لم تقم قمت أنا وقتلته، فقال الأمجد: بحق **** عليك أن لا تفعلي، فقالت: لا بد هذا وأخذت السيف وجردته وهمت بقتله فقال الأمجد في نفسه: هذا رجل عمل معنا خيراً وسترنا وأحسن إلينا وجعل نفسه مملوكاً فأنا أحق بقتله منك ثم أخذ السيف من يدها ورفع يده وضرب الصبية في عنقها فأطاح رأسها عن جثتها فوقع رأسها على صاحب الدار فاستيقظ وجلس وفتح عينيه فوجد الأمجد واقفاً والسيف في يده مخضباً بالدم، ثم نظر إلى الصبية فوجدها مقتولة فاستخبره عن أمرها فأعاد عليه حديثها وقال له إنها أبت إلا أن تقتلك وهذا جزاؤها، فقام بهادر وقبل رأس الأمجد أطاحو قال له: يا سيدي ليتك عفوت عنها وما بقي في الأمر إلا إخراجها في هذا الوقت قبل الصباح ثم إن بهادر شد وسطه وأخذ الصبية ولفها في عباءة ووضعها في فرد وحملها، وقال للأمجد: أنت غريب ولا تعرف أحد فاجلس في مكانك وانتظر طلوع الشمي فإن عدت إليك لا بد أن أفعل معك خيراً كثيراً وأجتهد في كشف خبر أخيك وإن طلعت الشمس، ولم أعد إليك فاعلم أنه قد قضي علي والسلام عليك، وهذه الدار لك بما فيها من الأموال والقماش.
ثم إنه حمل الفرد وخرج من القاعة وشق بها الأسواق وقصد بها طريق البحر المالح ليرميها فيه فلما صار قريباً من البحر التفت فرأى الوالي والمقدمين قد أحاطوا به ولما عرفوه تعجبوا وفتحوا الفرد فوجدوا فيه قتيلة فقبضوا على عليه وبيتوه في الحديد إلى الصباح ثم طلعوا به هو والفرد إلى الملك وأعلموه بالخبر فلما رأى الملك غضب غضباً شديداً وقال له: ويلك إنك تفعل هكذا دائماً فتقتل القتلى وترميهم في البحر وتأخذ جميع مالهم وكم فعلت ذلك من قتل؟ فأطرق بهادر برأسه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهادر أطرق برأسه إلى الأرض قدام الملك فصرخ الملك وقال له: ويلك من قتل هذه الصبية؟ فقال له: يا سيدي أنا قتلتها ولا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم، فغضب الملك وأمر بشنقه فنزل به السياف حين أمره الملك وأمر الوالي المنادي أن ينادي في أزقة المدينة بالفرجة على بهادر أمير ياخور الملك ودار به في الأزقة والأسواق، هذا ما كان من أمر بهادر.
وأما ما كان من أمر الأمجد فإنه لما طلع عليه النهار وارتفعت الشمس ولم يعد إليه بهادر قال: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم أي شيء جرى له؟ فبينما هو يتفكر إذا بالمنادي ينادي بالفرجة على بهادر فإنهم يشنقونه في وسط النهار فلما سمع الأمجد ذلك بكى وقال: إنا *** وإنا إليه راجعون، قد أراد هلاك نفسه من أجلي وانا الذي قتلتها و**** لا كان هذا أبداً، ثم خرج من القاعة وقفلها وشق في وسط المدينة حتى أتى إلى بهادر، ووقف قدام الوالي وقال له: يا سيدي لا تقتل بهادر فإنه بريء و**** ما قتلها إلا أنا فلما سمع الوالي كلامه أخذه هو وبهادر وطلع بهما إلى الملك وأعلمه بما سمعه من الأمجد فنظر الملك إلى الأمجد وقال له: أنت قتلت الصبية؟ قال: نعم، فقال له الملك: احك لي ما سبب قتلك إياها وأصدقني ن قال له: أيها الملك أنه جرى لي حديث عجيب وأمر غريب لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، ثم حكى للملك حديثه وأخبره بما جرى له ولأخيه من المبتدأ إلى المنتهى فتعجب الملك من ذلك غاية العجب، وقال: إني قد علمت أنك معذور ولكن يا فتى هل لك أن تكون عندي وزيراً؟ فقال له: سمعاً وطاعة، وخلع عليه الملك وعلى بهادر خلعاً سنية وأعطاه داراً حسنة وحشماً وأنعم عليه بجميع ما يحتاج إليه ورتب له الرواتب والجرايات وأمره أن يبحث عن أخيه الأسعد فجلس الأمجد في رتبة الوزارة وحكم وعدل وعزل وأخذ وأعطى وأرسل المنادي في أزقة المدينة ينادي على أخيه الأسعد فمكث مدة أيام ينادي في الشوارع والأسواق فلم يسمع له بخبر ولم يقع له على أثر. هذا ما كان من أمر الأمجد. و أما ما كان من أمر الأسعد فإن المجوس ما زالوا يعاقبونه بالليل والنهار وفي العشي والأبكار مدة سنة كاملة حتى قرب عيد المجوس وهيأ له مركباً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهرام المجوسي جهز مركباً للسفر، ثم حط الأسعد في صندوق وأقفله عليه ونقله إلى المركب وسافروا ولم يزالوا مسافرين أياماً وليالي وكل يومين يخرج الأسعد ويطعمه قليلاً من الزاد ويسقيه قليلاً من الماء إلى أن قربوا من جبل النار فخرج عليهم ريح وهاج بهم البحر حتى تاه المركب عن الطريق وسلكوا طريقاً غير طريقهم ووصلوا إلى مدينة مبنية على شاطئ البحر ولها قلعة بشبابيك تطل على البحر والحاكمة على تلك المدينة امرأة يقال لها الملكة مرجانة فقال الريس لبهرام: يا سيدي إننا تهنا عن الطريق ولا بد لنا من دخول هذه المدينة لأجل الراحة وبعد ذلك يفعل **** ما يشلء. فقال له بهرام: ما رأيت والذي تراه افعله فقال له الريس: إذا أرسلت لنا الملكة تسألنا ماذا يكون جوابنا؟ فقال له بهرام: أنا عندي هذا المسلم الذي معنا فنلبسه لبس المماليك ونخرجه معنا إذا رأته الملكة تظن أنه مملوك، فأقول لها إني جلاب مماليك، أبيع وأشتري فيهم وقد كان عندي مماليك كثيرة فبعتهم ولم يبق غير هذا المملوك فقال له الريس ك هذا كلام مليح، ثم إنهم وصلوا إلى المدينة وأرخوا القلوع ودقوا المراسي، وإذا بالملكة وإذا بالملكة مرجانة نزلت إليهم ومعها عسكرها ووقفت على المركب ونادت على الريس فطلع عندها وقبل الأرض بين يديها. فقالت له: أي شيء في مركبك هذه ومن معك؟ فقال لها: يا ملكة الزمان معي رجل تاجر يبيع المماليك فقالت: علي به، وإذا ببهرام طلع ومعه الأسعد ماش وراءه في صفة مملوك فلما وصل إليهم بهرام قبل الأرض بين يديها فقالت له: ما شأنك؟ فقال لها: أنا تاجر رقيق فنظرت إلى الأسعد فحن قلبها عليه فقالت: أتعرف الكتابة؟ قال: نعم فناولته دواة وقلماً وقرطاساً وقالت له: اكتب شيئاً حتى أراه فكتب هذي البيتين:
فلما رأت الورقة رحمته ثم قالت لبهرام: بعني هذا المملوك فقال لها: يا سيدتي لا يمكنني بيعه لأني بعت جميع مماليكي ولم يبق عندي غير هذا، فقالت الملكة مرجانة: لا بد من أخذه منك إما ببيع أو بهبة، فقال لها: لا أبيعه ولا أهبه فقبضت على الأسعد وأخذت وطلعت به القلعة وأرسلت تقول له: إن لم تقلع في هذه الليلة عن بلدنا أخذت جميع مالك، وكسرت مركبك فلما وصلت إليه الرسالة اغتم غماً شديداً، وقال: هذه سفرة غير محمودة ثم قام وتجهز وأخذ جميع ما يريده وانتظر الليل ليسافر فيه وقال للبحرية: خذوا أهبتكم واملأوا قربكم من الماء واقلعوا بنا في آخر الليل، فصار البحرية يقضون أشغالهم. هذا ما كان من أمرهم.
و اما ما كان من أمر الملكة مرجانة فإنها أخذت الأسعد ودخلت القلعة وفتحت الشبابيك المطلة على البحر وأمرت الجواري أن يقدمن لهم الطعام فقدمن لهم الطعام فأكلا ثم أمرتهن أن يقدمن المدام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة مرجانة أمرت الجواري أن يقدمن المدام فقدمنه فشربت مع الأسعد وألقى **** سبحانه وتعالى محبة الأسعد في قلبها وصارت تملأ القدح وتسقيه حتى غاب عقله فقام يريد قضاء حاجة ونزل من القاعة فرأى باباً مفتوحاً فدخل فيه وتمشى فانتهى به السير إلى بستان عظيم فيه جميع الفواكه والأزهار فجلس تحت شجرة وقضى حاجته وقام إلى الفستقية التي في البستان فاستلقى على قفاه ولباسه محلول، فضربه الهواء فنام ودخل عليه الليل. هذا ما كان من أمره. وأما ما كان من أمر بهرام فإنه لما دخل عليه الليل صاح على بحرية المركب وقال له: خلوا قلوعكم وسافروا بنا فقالوا سمعاً وطاعة، ولكن اصبر علينا حتى نملأ قربنا ونحل، ثم طلع البحرية بالقرب وداروا حول القلعة، فلم يجدوا غير حيطان البستان فتعلقوا بها ونزلوا البستان وتتبعوا أثر الأقدام الموصلة إلى الفستقية فلما وصلوا وجدوا الأسعد مستلقياً على قفاه فعرفوه، وفرحوا به وحملوه بعد أن ملأوا قربهم ونطوا من الحائط وأتوا به مسرعين إلى بهرام المجوسي، وقالوا له: أبشر بحصول المراد وشفاء الأكباد فقد طبل طبلك وزمر زمرك فإن أسيرك الذي أخذته الملكة مرجانة منك غصباً قد وجدناه واتينا به معنا ثم رموه قدامه. فلما نظره بهرام طار قلبه من الفرح واتسع صدره وانشرح، ثم خلع عليهم وأمرهم أن يحلوا القلوع بسرعة فحلوا قلوعهم قاصدين جبل النار ولم يزالوا مسافرين إلى الصباح. هذا ما كان من أمرهم.
و ام ما كان من أمر الملكة مرجانة فإنها بعد نزول الأسعد من عندها مكثت تنتظره ساعة فلم يعد إليها فقامت وفتشت عليه فما وجدته فأوقدت الشموع وامرت الجواري أن يفتشن عليه ثم نزلت هي بنفسها فرأت البستان مفتوحاً فعلمت أنه دخله فدخلت البستان فوجدت نعله بجانب الفستقية فصارت تفتش عليه في جوانب البستان إلى الصباح ثم سألت عن المراكب فقالوا لها: قد سافرت في ثلث الليل، فعلمت أنهم أخذوه معهم فصعب عليها واغتاظت غيظاً شديداً ثم أمرت بتجهيز عشر مراكب في الوقت وتجهيزات الحرب ونزلت في مركب من العشر مراكب ونزل معها عسكرها متهيئين بالعدة الفاخرة وآلات الحرب وحلوا القلوع وقالت للرؤساء: متى لحقتم مركب المجوسي فلكم عندي الخلع والأموال، وإن لم تلحقوها قتلتكم عن آخركم فحصل للبحرية خوف عظيم، ثم سافروا بالمراكب ذلك النهار وتلك الليلة وثاني يوم وثالث يوم، وفي اليوم الرابع لاحت لهم مركب بهرام ولم ينقض النهار حتى أحاطت المراكب بمركب المجوسي وكان بهرام في ذلك الوقت قد أخرج الأسعد وضربوه صار يعاقبه والأسعد يستغيث ويستجير فلم يجد مغيثاً ولا مجيراً من الخلق وقد آلمه الضرب الشديد.
فبينما هو يعاقبه إذ لاحت منه نظرة فوجد المراكب قد أحاطت بمركبه ودارت حولها كما يدور بياض العين بسوادها فتيقن أنه هالك لا محالة فتحسر بهرام وقال: ويلك يا أسعد هذا كله من تحت رأسك، ثم أخذه من يده وامر البحرية أن يرموه في البحر، وقال: و**** لأقتلنك قبل موتي فاحتملته البحرية من يديه ورجليه ورموه في وسط البحر فأذن **** سبحانه وتعالى لما يريد من سلامته وبقية أجله أنغطس، ثم طلع وخبط بيديه ورجليه إلى أنسهل **** عليه وآتاه الفرج وضربه الموج وقذفه بعيداً عن مركب المجوسي ووصل إلى البر فطلع وهو لا يصدق بالنجاة ولما صار في البر قلع أثوابه وعصرها ونشرها وقعد عرياناً يبكي على ما جرى له من المصائب والأسر، ثم أنشد هذين البيتين:
فلما فرغ من شعره قام ولبس ثيابه ولم يعلم أين يروح ولا أين يجيء فصار يأكل من نبات الأرض وفواكه الأشجار ويشرب من ماء الأنهار وسافر بالليل والنهار حتى أشرف على مدينة ففرح وأسرع في مشيته نحو المدينة فلما وصل إليها أدركه المساء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والسبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما وصل إلى المدينة أدركه المساء وقد قفل بابها وكانت هي التي كان أسيراً فيها وأخوه الأمجد وزير ملكها فلما رآها الأسعد مقفلة رجع إلى جهة المقابر فلما وصل إلى المقابر وجد تربة بلا باب فدخلها ونام فيها فحط وجهه في غيه وكان بهرام المجوسي لما وصلت إليه الملكة مرجانة بالمراكب كسرها بمكره وسحره ورجع سالماً نحو مدينته وسار من وقته وساعته وهو فرحان فلما جاز على المقابر طلع من المركب بالقضاء والقدر ومشى بين المقابر فرأى التربة التي فيها الأسعد مفتوحة فتعجب وقال: لا بد أن أنظر في هذه التربة. فلما نظر فيها رأى الأسعد وهو نائم ورأسه في عبه فنظر في وجهه فعرفه فقال في نفسه: هل أنت تعيش إلى الآن؟ ثم أخذه وذهب به إلى بيته وكان له في بيته طابق تحت الأرض معد لعذاب المسلمين وكان له بنت تسمى بستان فوضع في رجلي الأسعد قيداً ثقيلاً وأنزله في ذلك الطابق ووكل بنته بتعذيبه ليلاً ونهاراً إلى أن يموت ثم إنه ضربه الضرب الوجيع وأقفل عليه الطابق وأعطى المفاتيح لبنته ثم إن بنته بستان نزلت لضربه فوجدته شاباً ظريف الشمال حلو المنظر مقوس الحاجبين كحيل المقلتين فوقعت محبته في قلبها فقالت له: ما اسمك؟ قال لها: اسمي الأسعد، فقالت له: سعدت وسعدت أيامك أنت ما تستأهل العذاب وقد علمت أنك مظلوم وصارت تؤانسه بالكلام وفكت قيوده ثم غنها ومزج **** محبة الأسعد بفؤادها وصارت من أهل السعادة وصارت تطعمه وتسقيه وتتحدث معه وتصلي هي وهو وتصنع له المساليق بالدجاج حتى اشتد وزال ما به من الأمراض ورجع إلى ما كان عليه من الصحة.
ثم إن بنت بهرام خرجت من عند الأسعد ووقفت على الباب وإذا بالمنادي ينادي ويقول: كل من عنده شاب مليح صفته كذا وكذا وأظهره فله جميع ما طلب من الأموال ومن كان عنده وانكره فإنه يشنق على باب داره وينهب ماله ويهدر دمه، وكان الأسعد قد اخبر بستان بنت بهرام بجميع ما جرى له فلما سمعت ذلك عرفت أنه هو المطلوب فدخلت عليه وأخبرته بالخبر فخرج وتوجه إلى دار الوزير فلما رأى الوزير قال: و**** إن هذا هو أخي الأمجد وعرفه فألقى نفيه عليه وتعانقا واحتاطت بهما المماليك وغشي على الأسعد والأمجد ساعة، فلما أفاقا من غشيتهما أخذه الأمجد وطلع به إلى السلطان وأخبره بقصته فأمر السلطان بنهب بهرام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السلطان أمر الأمجد بنهب دار بهرام فأرسل الوزير جماعة لذلك فتوجهوا إلى بيت بهرام ونهبوه وطلعوا بابنته إلى الوزير فأكرمها وحدث الأسعد أخاه بكل ما جرى له من العذاب وما عملت معه بنت بهرام من الإحسان فزاد الأمجد في إكرامها ثم حكى الأمجد للأسعد جميع ما جرى له مع الصبية وكيف سلم من الشنق وقد صار وزيراً وصار يشكو أحدهما للآخر ما وجد من فرقة أخيه، ثم حكى الأمجد والأسعد ما جرى لهما فقال لهما: يا سيدي تجهزوا للسفر وأنا أسافر بكما، ففرحا بذلك وبإسلامه وبكيا بكاءً شديداً فقال لهما بهرام: يا سيدي لا تبكيا فمصيركما تجتمعان كما اجتمع نعمة ونعم فقالا له: وما جرى لنعمة ونعم؟
وفي الليلة الأولى بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان ملك يسمى شهرمان صاحب عسكر وخدم وأعوان إلا أنه كبر سنه ورق عظمه لم يرزق بولد فتفكر في نفسه وحزن وقلق وشكا ذلك لبعض وزرائه وقال: إني أخاف إذا مت أن يضيع الملك لأنه ليس لي ولد يتولاه بعدي، فقال له الوزير: لعل **** يحدث بعد ذلك أمراً فتوكل على **** أيها الملك وتوضأ وصل ركعتين ثم جامع زوجتك لعلك تبلغ مطلوبك، فجامع زوجته فحملت في تلك الساعة ولما كملت أشهرها وضعت ولداً ذكراً كانه البدر السافر في الليل العاكر فسماه قمر الزمان وفرح غاية الفرح وزينوا المدينة سبعة أيام ودقت الطبول وأقبلت العشائر وحملته المراضع والدايات وتربى في العز والدلال حتى صار له من العمر خمس عشر سنة وكان فائقاً في الحسن والجمال والقد والإعتدال وكان أبوه يحبه ولا يقدر أن يفارقه ليلاً ولا نهاراً فشكا الملك شهرمان لأحد وزرائه فرط محبته لولده وقال: أيها الوزير لإني خائف على ولدي قمر الزمان من طوارق الدهر والحدثان وأريد أن أزوجه في حياتي. فقال له الوزير: اعلم أيها الملك إن الزواج من مكارم الأخلاق ولا بأس إن تزوج ولدك في حياتك فعند ذلك قال الملك شهرمان: علي بولدي قمر الزمان فحضر وأطرق رأسه إلى الأرض حياء من أبيه فقال له أبوه: يا قمر الزمان اعلم أني اريد أن أزوجك وأفرح بك في حياتي، فقال له: اعلم يا أبي أنني ليس لي في الزواج وليست نفسي تميل إلى النساء لأني وجدت في مكرهن كتباً بالروايات وبكيدهن وردت الآيات وقال الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنـنـي | خبير بأحوال النسـاء طـيب | |
إذا شاب رأس المرء وقل ماله | فليس له في ودهن نصـيب |
و لما فرغ من شعره قال: يا أبي إن الزواج شيء لا أفعله أبداً، فلما سمع السلطان شهرمان من ولده هذا الكلام اغتم غماً شديداً إلى عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان لما سمع من ولده هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتم على عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له ومن محبته له لم يكرر عليه الكلام في ذلك ولم يغضبه بل أقبل عليه وأكرمه ولاطفه بكل ما يجلب المحبة إلى القلب، كل ذلك وقمر الزمان يزداد في كل يوم حسناً وجمالاً وظرفاً ودلالاً فصبر الملك شهرمان على ولده سنة كاملة حتى صار كامل الفصاحة والملاحة وتهتكت في حسنه الوري وصار فتنة للعشاق وروضة للمشتاق عذب الكلام يخجل في وجهه بدر التمام صاحب قد واعتدال وظرف ودلال كانه غصن بان أو قضيب خيزران ينوب خده عن شقائق النعمان وقده عن غصن البان ظريف الشمائل كما قال فيه القائل:
بدا فقالوا تـبـارك الـلـه | جل الذي صاغـه وسـواه | |
مليك كل الملاح قـاطـبة | فكلهم أصبحـوا رعـاياه | |
في ريقه شـهـدة مـذوبة | وانعقد الدار فـي ثـنـاياه | |
مكملاً بالجمال مـنـفـرداً | كل الورى في جماله تاهوا | |
قد كتب الحسن فوق وجنته | أشهد أنلا ملـيح إلا هـو |
فلما تكاملت سنة أخرى لقمر الزمان ابن الملك شهرمان دعاه والده إليه وقال له: يا ولدي أما تسمع مني؟ فوقع قمر الزمان على الأرض بين يدي أبيه هيبة واستحى منه وقال له: يا أبي كيف لا أسمع منك وقد أمرني **** بطاعتك وعدم مخالفتك، فقال له الملك شهرمان: اعلم يا ولدي إني أريد أن أزوجك وأفرح بك في حياتي وأسلطنك في مملكتي قبل مماتي فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق رأسه وقال: يا أبي هذا شيء لا أفعله أبداً ولو سقيت كأس الردى وانا أعلم أن **** فرض علي طاعتك فبحق **** عليك لا تكلفني أمر الزواج ولا تظن أني اتزوج طول عمري لأنني قرأت في كتب المتقدمين والمتأخرين وعرفت ما جرى لهم من المصائب والآفات بسبب فتن النساء ومكرهن غير المتناهي وما يحدث عنهن من الدواهي وما أحسن قول الشاعر:
فلما سمع شهرمان من ولده قمر الزمان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام لم يرد عليه جواباً من فرط محبته وزاد في إنعامه وإكرامه وانفض ذلك المجلس من تلك الساعة، وبعد انفضاض المجلس طلب شهرمان وزيره واختلى به وقال له: أيها الوزير.إن النساء وإن ادعين العـفة | رمم تقلبها النسور الـحـوم | |
في الليل عندك سرها وحديثها | وغداً لغيرك ساقها والمعصم | |
كالخان تسكنه وتصبح راحلاً | فيحل بعدك فيه من لا تعلـم |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لوزيره: قل لي ما الذي أفعله في قضية ولدي قمر الزمان؟ فإني استشرتك في زواجه قبل أن أسلطنه فأشرت علي بذلك وأشرت علي أيضاً أن أذكر له أمر الزواج فذكرته له فخالفني فأشر علي الآن بما تراه حسناً؟ فقال الوزير: الذي أشير به عليك الان أيها الملك أن تصبر عليه سنة أخرى فإذا أردت أن تكلمه بعدها في أمر الزواج فلا تكلمه سراً ولكن حدثه في يوم حكومة يكون جميع الأمراء والوزراء حاضرين وجميع العساكر واقفين فإذا اجتمع هؤلاء فأرسل إلى ولدك قمر الزمان في تلك الساعة وأحضره فإذا حضر فخاطبه في أمر الزواج بحضرة جميع الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الوله والعساكر وأصحاب الصولة فإنه يستحي منهم وما يقدر أن يخالفك بحضرتهم.
فلما سمع الملك شهرمان من وزيره هذا الكلام فرح فرحاً شديداً واستصوب رأي الوزير في ذلك وخلع عليه خلعة سنية فصبر الملك شهرمان على ولده قمر الزمان سنة كاملة وكلما مضى عليه يوماً من الأيام يزداد حسناً وجمالاً وبهجةً وكمالاً حتى بلغ من العمر قريباً عشرين عاماً وألبسه **** حلل الجمال وتوجه بتاج الكمال وأشرقت خدوده بالاحمرار وبياض غرته حكى القمر الزاهر وسواد شعره كأنه الليل العاكر وخصره أرق من خيط هميان وردفه أثقل من الكثبان تهيج البلابل على أعطافه ويشتكي خصره من ثقل أردافه ومحاسنه حبرت الورى كما قال فيه بعض الشعراء:
قسماً بوجنته وبـاسـم ثـغـره | وبأسهم قد راشها من سـحـره | |
وبلين عطفه ومرهف لحـظـه | وبياض غرته وأسود شـعـره | |
وبحاجب حجب الـكـرى عـن | صبه وسطا عليه بنهيه وبأمـره | |
وعقارب قد أرسلت من صدغـه | وسمعت لقتل العاشقين بهجـره | |
وبـورد خـديه وآس عــذاره | وعقيق مبسمه ولؤلـؤ ثـغـره | |
وبطيب نكهتـه وسـال جـرى | في فيه يزري بالرحيق وعصره | |
وبردفه المرتج في حـركـاتـه | وسكونه وبرقة في خـصـره | |
وبجود راحته وصدق لـسـانـه | وبطيب عنصره وعالي قـدره | |
ما المسك إلا من فضالة خـالـه | والطيب يروي ريحه عن شعره | |
وكذلك الشمس المـنـيرة دونـه | ورأى الهلال قلامة من ظفـره |
ثم إن الملك شهرمان سمع كلام الوزير وصبر سنة أخرى حتى حصل يوم موسم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان دعي الأمراء والوزراء والحجاب وأرباب الدولة والعساكر وأصحاب الصولة، ثم أرسل خلف ولده قمر الزمان فلما حضر قبل الأرض بين يديه ثلاث مرات ووقف مكتفاً يديه وراء ظهره قدام ابيه فقال له أبوه: يا ولدي إنني ما أحضرتك هذه المرة قدام هذا المجلس وجميع العساكر حاضرون بين أيدينا إلا لأجل أن أمرتك بأمر فلا تخالفني فيه وذلك أن تتزوج لأنني أشتهي أن أزوجك بنت ملك الملوك وأفرح بك قبل موتي. فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلى أبيه ولحقه في تلك الساعة جنون الصبا وجهل الشبيبة فقال له: أما أنا فلا أتزوج أبداً ولو سقيت كأس الردى واما أنت فرجل كبير السن صغير العقل، إنك سألتني قبل هذا اليوم مرتين غير هذه المرة في شأن الزواج وانا لا اجيبك إلى ذلك، ثم إن قمر الزمان فك كتاف يديه وشمر عن ذراعيه قدام أبيه وهو في غيظه فخجل أبوه واستحى حيث حصل ذلك قدام أرباب دولته والعساكر الحاضرين في الموسم. ثم إن الملك شهرمان لحقته شهامة الملك فصرخ على ولده فأرعبه وصرخ على المماليك وامرهم بإمساكه فأمسكوه وأمرهم أن يكتفوه فكتفوه وقدموه بين يدي الملك وهو مطرق في رأسه من الخوف والوجل وتكلل وجهه وجبينه بالعرق واشتد به الحياء والخجل، فعند ذلك شتمه ابوه وسبه وقال له: ويلك يا ولد الزنا وتربية الخنا كيف يكون هذا جوابك لي بين عساكري وجيوشي؟ ولكن إلى الآن ما أدبك أحد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان: اما تعلم أن هذا الأمر الذي صدر منك لو صدر عن عامي من العوام لكان ذلك قبيحاً منه، ثم إن الملك أمر المماليك أن يحلوا أكتافه ويحبسوه في برج من أبراج القلعة، فعند ذلك دخل الفراشون القاعة التي فيها البرج فكنسوها ومسحوا بلاطها ونصبوا فيها سرير قمر الزمان وفرشوا له على السرير طراحة ونطعاً ووضعوا له مخدة وفانوساً كبيراً وشمعة لأن ذلك المكان كان مظلماً في النهار، ثم إن المماليك أدخلوا قمر الزمان في تلك القاعة وجعلوا على باب القاعة خادماً، فعند ذلك طلع قمر الزمان فوق ذلك السرير وهو منكسر الخاطر حزين الفؤاد وقد عاتب نفسه وندم على ما جرى منه في حق أبيه حيث لا ينفعه الندم وقال: خيب **** الزواج والبنات والنساء الخائنات، فيا ليتني سمعت من والدي وتزوجت فلو فعلت ذلك كان أحسن لي من هذا السجن. هذا ما كان من أمر قمر الزمان.
وأما ما كان من أمر أبيه فإنه أقام على كرسي مملكته بقية اليوم إلى وقت الغروب، ثم خلا بالوزير وقال له: اعلم أيها الوزير أنك كنت السبب في الذي جرى بيني وبين ولدي كله حيث أشرت علي بما أشرت فما الذي تشير به علي الآن؟ فقال له الوزير: أيها الملك دع ولدك في السجن مدة خمسة عشر يوماً ثم احضره بين يديك وأمره بالزواج فإنه لا يخالفك أبداً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قبل رأي الوزير في ذلك اليوم ونام تلك الليلة وهو مشتغل القلب على ولده لأنه كان يحبه محبة عظيمة حيث لم يكن له سواه، وكان الملك شهرمان كل ليلة لا يأتيه نوم حتى يجعل ذراعه تحت رقبة قمر الزمان وينام، فبات الملك الليلة وهو متشوش الخاطر من أجله وصار يتقلب من جنب إلى جنب كأنه نائم على جمر اللظى ولحقه الوسواس ولم يأخذه نوم في تلك الليلة بطولها وذرفت عيناه بالدموع وأنشد قول الشاعر:
لقد طال ليلي والوشاة هجـوع | وناهيك قلباً بالفـراق مـروع | |
أقول وليلي زاد بالهم طـولـه | أما لك يا ضوء الصباح رجوع |
وقال آخر:
لما رأيت النجم ساه طـرفـه | والقلب قد ألقى عليه سباتـا | |
وبنات نعش في الحداد سوافرا | أيقنت أن صباحه قد مـاتـا |
هذا ما كان من أمر الملك شهرمان، واما ما كان من امر قمر الزمان فإنه لما قدم عليه الليل قدم له الخادم الفانوس وأوقدوا له شمعة وجعلها في شمعدان وقدم له شيئاً من المأكل فأكل قليلاً وصار يعاتب نفسه حيث أساء الأدب في حق أبيه الملك شهرمان وقال في نفسه: ألم تعلم أن ابن آدم رهين لسانه وأن لسان الآدمي هو الذي يوقعه في المهالك؟ ولم يزل يعاتب نفسه ويلومها حتى غلبت عليه الدموع واحترق قلبه المصدوع وندم على ما خرج من لسانه في حق الملك غاية الندم وأنشد هذين البيتين:
يموت الفتى من عثرة في لسـانـه | وليس يموت المرء من عثرة الرجل | |
فعثرته من فيه تقضي بـحـتـفـه | وعثرته بالرجل تبرأ على مـهـل |
ثم إن قمر الزمان لما فرغ من الأكل والشرب طلب أن يغسل يديه فغسل من الطعام وتوضأ وصلى المغرب والعشاء وجلس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ابن الملك شهرمان جلس على السرير ونام على السرير فوق طراحة من الأطلس المعدن لها وجهان وهي محشوة بريش النعام، وحين أراد النوم تجرد من ثيابه وخلع لباسه ونام في قميص شمع رفيع وكان على رأسه مقنع مروزي أزرق فصار قمر الزمان في تلك الليلة كأنه البدر في ليلة أربعة عشر، ثم تغطى بملاءة من حرير ونام والفانوس موقد تحت رجليه والشمعة موقدة تحت رأسه ولم يزل نائماً إلى ثلث الليل ولم يعلم ما خبئ له في الغيب وما قدر عليه علام الغيوب، واتفق أن القاعة والبرج كانا عتيقين مهجورين مدة سنين كثيرة، وكان في تلك القاعة بئر روماني معمور بجنية ساكنة فيه وهي من ذرية إبليس اللعين واسم تلك الجنيهة ميمونة ابنة الدمرياط احد ملوك الجان المشهورين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اسم تلك الجنية ميمونة ابنة الدمرياط أحد ملوك الجان المشهورين فلما استمر قمر الزمان نائماً إلى ثلث الليل طلعت له تلك العفريتة من البئر الروماني وقصدت السماء لاستراق السمع فلما صارت في أعلى البئر رأت نوراً مضيئاً في البرج على خلاف العادة وكانت العفريتة مقيمة في ذلك المكان مدة مديدة من السنين فقالت في نفسها: أنا ما عهدت هنا شيئاً من ذلك وتعجبت من هذا الأمر غاية العجب وخطر ببالها أنه لا بد لذلك من سبب ثم قصدت ناحية ذلك النور فوجدته خارجاً من القاعة فدخلتها ووجدت الخادم نائماً على بابها. ولما دخلت القاعة وجدت سريراً منصوباً وعليه هيئة إنسان نائم وشمعة مضيئة عند رأسه وفانوس مضيء عند رجليه فتعجبت العفريتة ميمونة من ذلك النور وتقدمت إليه قليلاً قليلاً وأرخت أجنحتها ووقفت على السرير وكشفت الملاءة عن وجهه ونظرت إليه واستمرت باهتة في حسنه وجماله ساعة رومانية وقد وجدت ضوء وجهه غالباً على نور الشمعة وصار وجهه يتلألأ نوراً وقد غارت عيناه واسودت مقلتاه واحمر خداه وفتر جفناه وتقوس حاجباه وفاح مسكه العاطر كما قال فيه الشاعر:
قبلته فاسودت المقـل الـتـي | هي فتنتني واحمرت الوجنات | |
يا قلب إن زعم العـواذل أنـه | في الحسن يوجد مثله قل هاتوا |
فلما رأته العفريتة ميمونة بنت الدمرياط سبحت **** وقالت: تبارك **** أحسن الخالقين وكانت تلك العفريتة من الجن المؤمنين فاستمرت ساعة وهي تنظر إلى وجه قمر الزمان وتوحد **** وتغبطه على حسنه وجماله وقالت في نفسها و**** إني لا أضره ولا أترك احداً يؤذيه ومن كل سوء سوف افديه فإن هذا الوجه المليح لا يستحق إلا النظر إليه والتسبيح ولكن كيف هان على أهله حتى نسوه في هذا المكان الخرب فلو طلع له أحد من مردتنا في هذه الساعة لأعطبه ثم إن تلك العفريتة مالت عليه وقبلته بين عينيه وبعد ذلك أرخت الملاءة على وجهه وغطته بها وفتحت أجنحتها وطارت ناحية السماء وطلعت من دور تلك القاعة وصعدت ولم تزل صاعدة في الجو إلى أنقربت من سماء الدنيا وإذا بها سمعت خفق أجنحة طائرة في الهواء فقصدت ناحية تلك الجنحة. فلما قربت من صاحبها وجدته عفريتاً يقال له دهنش فانقضت عليه انقضاض الباشق فلما أحس بها دهنش وعرف أنها ميمونة بنت ملك الجن خاف منها وارتعدت فرائصه واستجار بها وقال لها: أقسم عليك بالاسم الأعظم والطلسم الأكرم المنقوش على خاتم سليمان أن ترفقي بي ولا تؤذيني، فلما سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام حن قلبها عليه وقالت له: إنك أقسمت علي بقسم عظيم ولكن لا أعتقد حتى تخبرني من أين مجيئك في هذه الساعة؟ فقال لها: أيتها السيدة اعلمي أن مجيئي من آخر بلاد الصين ومن داخل الجزائر وأخبرك بأعجوبة رأيتها في هذه الليلة فإن وجدت كلامي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجن قال للجنية فإن وجدت كلامي صحيحاً فاتركيني أروح إلى حال سبيلي بخطك في هذه الساعة أني عشيقك في هذه الساعة حتى لا يعارضني أحد من رهط الجن الطيارة العلوية والسفلية والغواصة، قالت له ميمونة: فما الذي رأيته في هذه الليلة يا دهنش فاخبرني ولا تكذب علي وتريد بكذبك أن تنفلت من يدي وأنا أقسم لك بحق النقش المكتوب على فص خاتم سليمان بن داود عليه السلام إن لم يكن كلامك صحيحاً أنتفت ريشك بيدي ومزقت جلدك وكسرت عظمك فقال لها العفريت دهنش بن شمهورش الطيار: إن لم يكن كلامي صحيحاً فافعلي بي ما شئت يا سيدتي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العاشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنش قال: خرجت في هذه الليلة من الجزائر الداخلة في بلاد الصين وهي بلاد الغيور صاحب الجزائر والبحور السبعة قصور فرأيت لذلك الملك بنتاً لم يخلق **** في زمانها أحسن منها ولا اعرف كيف أصفها لك ويعجز لساني عن وصفها كما ينبغي ولكن أذكر لك شيئاً من صفاتها على سبيل التقريب أما شعرها فكليالي الهجر وأما وجهها فكأيام الوصال وقد أحسن في وصفها من قال:
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها | في ليلة فأرت ليالي أربـعـا | |
واستقبلت قمر السماء وجههـا | فأرتني القمرين في وقت معا |
ولها أنف كحد السيف المصقول ولها وجنتان كرحيق الأرجوان ولها خد كشقائق النعمان وشفتاها كالمرجان والعقيق ورقها أشهى من الرحيق يطفئ مذاقه الحريق ولسانها يحركه عقل وافر وجواب حاضر ولها صدر فتنة لمن يراه فسبحان من خلقه وسواه ومتصل بذلك الصدر وعضدا من مرجان كما قال فيهما الشاعر الولهان:
وزندان لولا أمسكا بـأسـاور | لسالا من الأكمام سيل الجداول |
ولها نهدان كأنهما من العاج يستمد من إشراقهما القمران ولها بطن مطوية كطي القباطي المصرية وينتهي ذلك إلى خصر مختصر من وهم الخيال فوق ردف ككثيب من الرمال يقعدها إذا قامت ويوقظها إذا نامت كما قال فيه بعض واصفيه:
لها كفل تعلق في ضعـيف | وذاك الردف لي ولها ظلوم | |
فيوقفني إذا فـكـرت فـيه | ويقعدها إذا همت تـقـوم |
يحمل ذلك الكفل فخذان كأنهما من الدر عمودان وعلى حمله ما أقدرهما إلا بركة الشيخ الذي بينهما وأما غير ذلك من الأوصاف فلا يحصيه ناعت ولا وصاف ويحمل ذلك كله قدمان لطيفتان صنعة المهيمن الديان فعجبت منهما وكيف كانا يحملان ما فوقهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية عشر بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريت دهنش ابن شمهورش قال للعفريتة ميمونة: وأما وراء ذلك فإني تركته لأنه تقصر عنه العبارة ولا تفي به الإشارة وأبو تلك الصبية ملك جبار فارس كرار يخوض بحار الأقطار في الليل والنهار لا يهاب الموت ولا يخاف القوت لأنه جائر ظلوم وقاهر غشوم وهو صاح جيوش وعساكر واقاليم وجزائر ومدن ودور واسمه الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور وكان يحب ابنته هذه التي وصفتها لك حباً شديداً ومن محبته لها جلب أموال سائر الملوك وبنى لها بذلك سبعة قصور كل قصر من جنس مخصوص، القصر الأول من البلور والقصر الثاني من الرخام والقصر الثالث من الحديد الصيني، والقصر الرابع من الجزع والفصوص والقصر الخامس من الفضة والقصر السادس من الذهب، والقصر السابع من الجواهر وملأ السبعة قصور من أنواع الفرش الفاخرة وأواني الذهب والفضة وجمع الآلات من كل ما تحتاج إليه الملوك وأمر ابنته أن تسكن في كل قصر مدة السنة ثم تنقل منه إلى قصر غيره واسمها الملكة بدور. فلما اشتهر حسنها وشاع في البلاد ذكرها أرسل سائر الملوك إلى أبيها يخطبونها منه فزادوها في أمر الزواج فكرهت ذلك وقالت لأبيها: يا والدي ليس لي غرض في الزواج أبداً فإني سيدة وملكة أحكم على الناس ولا أريد رجلاً يحكم علي. وكلما امتنعت من الزواج زادت رغبة الخطاب فيها، ثم إن جميع ملوك جزائر الصين الجوانية أرسلوا إلى أبيها الهدايا والتحف وكاتبوه في أمر زواجها فكرر عليها أبوها المشاورة في أمر الزواج مراراً عديدة، فخالفته وغضبت منه وقالت له: يا أبي إن ذكرت لي الزواج مرة أخرى أخذت السيف ووضعت قائمه في الأرض ودبابه في بطني واتكأت عله حتى يطلع من ظهري وقتلت نفسي.
فلما سمع أبوها منها هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلام واحترق قلبه عليها غاية الاحتراق وخشي أن تقتل نفسها وتحير في أمرها وفي أمر الملوك الذين خطبوها منه، فقال لها: إن كان ولا بد من عدم زواجك فامتنعي من الدخول والخروج، ثم إن أباها أدخلها البيت وحجبها فيه، واستحفظ عليها عشر عجائز قهرمانات ومنعها من أن تذهب إلى السبع قصور وأظهر لها أنه غضبان عليها وأرسل يكاتب الملوك جميعهم وأعلمهم أنها أصيبت بجنون في عقلها ولها الآن سنة وهي محجوبة، ثم قال العفريت دهنش للعفريتة: وأنا يا سيدتي في كل ليلة فأنظرها وأتملى بوجهها وأقبلها بين عينيها ومن محبتي لها لا أضرها ولا أركبها لأن جمالها بارع وكل من رآها يغار عليها من نفسه. وأقسمت عليك يا سيدتي أن ترجعي معي وتنظري حسنها وجمالها وقدها واعتدالها وبعد هذا إن شئت أن تعاقبيني أو تأسريني فافعلي فإن الأمر أمرك والنهي نهيك، ثم إن العفريت دهنش أطرق رأسه إلى الأرض وخفض أجنحته إلى الأرض فقالت له العفريتة ميمونة بعد أن ضحكت من كلامه وبصقت في وجهه: أي شيء هذه البنت التي تقول عنها فما هي إلا قوارة بول فكيف لو رأيت معشوقي و**** إن حسبت أن معك أمراً عجيباً أو خبراً غريباً، يا ملعون إني رأيت إنساناً في هذه الليلة لو رأيته ولو في المنام لنفلجت عليه وسالت ريالتك، فقال لها دهنش: وما حكاية هذا الغلام؟ فقالت له: اعلم يا دهنش أن هذا الغلام قد جرى له مثل ما جرى لمشوفتك التي ذكرتها وأمره أبوه بالزواج مراراً عديدة فأبى، فلما خالف أباه غضب عليه وسجنه في البرج الذي أنا ساكنة فيه فطلعت في هذه الليلة فرأيته فقال لها دهنش: يا سيدتي أريني هذا الغلام لأنظر هل هو أحسن من معشوقتي الملكة بدور أم لا، لأني ما أظن أن يوجد في هذا الزمان مثل معشوقتي، فقالت له العفريتة: تكذب يا ملعون يا أنحس المردة وأحقر الشياطين فأنا أتحقق أنه لا يوجد لمعشوقي مثيل في هذه الديار.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريتة ميمونة قالت للعفريت دهنش: أنا أتحقق أنه لا يوجد لمعشوقي مثيل في هذه الديار فهل أنت مجنون حتى تقيس مشوقتك بمعشوقي؟ قال لها: ب**** عليك يا سيدتي أن تذهبي معي وتنظري معشوقتي وأرجع معك وانظر معشوقك، فقالت له ميمونة: لا بد من ذلك يا ملعون لأنك شيطان مكار ولكن لا أجيء معك ولا تجيء معي إلا برهن فإن طلعتك معشوقك التي أنت تحبها وتتغالى فيها أحسن من معشوقي الذي أحبه وأتغالى فيه فإن ذلك الرهان يكون لك وإن طلع معشوقي أحسن فإن ذلك الرهان يكون لي عليك. فقال لها العفريت دهنش: يا سيدتي قبلت منك هذا الشرط ورضيت به، تعالي معي إلى الجزائر فقالت له ميمونة إن موضع معشوقي أقرب من موضع معشوقتك وها هو تحتنا فانزل معي لتنظر معشوقي ونروح بعد ذلك إلى معشوقتك فقال لها دهنش: سمعاً وطاعة، ثم انحدرا إلى أسفل ونزلا في دور القاعة التي في البرج وأوقفت ميمونة دهنش بجانب السرير ومدت يدها ورفعت الملاءة عن وجه قمر الزمان ابن الملك شهرمان فسطع وجهه وأشرق ولمع وزرها فنظرته ميمونة والتفتت من وقتها إلى دهنش وقالت له أنظر يا ملعون ولا تكن أقبح مجنون فنحن بنات وبه مفتونات.
فعند ذلك التفت إليها دهنش واستمر يتأمل فيه ساعة، ثم حرك رأسه وقال لميمونة: و**** يا سيدتي إنك لمعذورة ولكن بقي شيء آخر وهو أن حال الأنثى غير حال الذكر وحق **** إن معشوقك هذا أشبه الناس بمعشوقتي في الحسن والجمال والبهجة والكمال وهما الاثنان كأنهما أفرغا في قالب الحسن سواء. فلما سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً ولطمته بجناحها على رأسه لطمة قوية كادت أن تقضي عليه من شدتها وقالت له: قسماً بنور وجهه وجلاله أن تروح يا ملعون في هذه الساعة وتحمل معشوقتك التي تحبها وتجيء بها إلى هذا المكان حتى نجمع بين الاثنين وننظرهما وهما نائمان بالقرب من بعضهما فيظهر لنا أيهما أحسن، وإن لم تفعل ما أمرتك به في هذه الساعة يا ملعون لأحرقتك بناري ورميتك بشرار أسراري ومزقتك قطعاً في البراري وجعلتك عبرة للمقيم والساري، فقال لها دهنش: يا سيدتي لك علي ذلك وأنا أعرف أن محبوبتي أحسن وأحلى ثم إن العفريت دهنش طار من وقته وساعته وطارت ميمونة معه من أجل المحافظة عليه فغابا ساعة زمانية ثم أقبل الاثنان وهما حاملان تلك الصبية وعليها قميص بندقي رفيع بطرازين من الذهب وهو مزركش ببدائع التطريزات وكتوب على رأس كميه هذه الأبيات:
ثلاثة منعـتـهـا مـن زيارتـنـا | خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق | |
ضوء الجبين ووسواس الحلي ومـا | حوت معاطفها من عنبـر عـبـق | |
هب الجبين بفضل الكم تـسـتـره | والحلي تنزعه ما حـيلة الـعـرق |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريت والعفريتة كشفا عن وجوه ثلاثين فكانا أشبه الناس ببعضهما فكأنهما توأمان أخوان منفردان وهما فتنة للمتقين كما قال لهما التاجر المبين:
أتحب لا تعشق مليحاً واحداً | تحتار فيه تدللاً وتـذلـلا | |
تحب الملاح جميعهم تلقاهم | إن صد هذا كان هذا مقبلا |
مالي وللاحين عـلـيك يعـنـف | كيف السلو وأنت غصـن أهـيف | |
لك مقلة كحلاء تنـفـث سـحـره | ما للهوى العذري عنها مـصـرف | |
تركية الألحاظ تفعـل بـالـحـشـا | ما ليس يفعله الصقيل المـرهـف | |
حملتني ثـقـل الـغـرام وإنـنـي | بالعجز عن حمل القميص لا ضعف | |
وجدي عليك كما علمت ولوعـتـي | طبع وعشقي في هواك تـكـلـف | |
لو أن قلبي مثل قلـبـك لـم أبـت | والجسم مني مثل خصرك منحـف | |
ويلاه من قـمـر بـكـل مـلاحة | بين الأنام وكل حـسـن يوصـف | |
قال العواذل في الهوى من ذا الـذي | أنت الكثيب به فقلت لهم صـفـوا | |
يا قلبه القاسي تعـلـم عـطـفـه | من قده فعسى ترق وتـعـطـف | |
لك يا أمير في الـمـلاحة نـاظـر | يسطو علي وحاجـب لا ينـصـف | |
كذب الذي ظن المـلاحة كـلـهـا | في يوسف كم في جمالك يوسـف | |
الجن تخشـانـي إذا قـابـلـتـهـا | وأنا إذا ألقـاك قـلـبـي يرجـف | |
أتكلف الإعراض عـنـك مـهـابة | وإليك أصبو جهد مـا أتـكـلـف | |
والشعر أسود والجبين مشـعـشـع | والطرف أحور والقوام مهفـهـف |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنش قال: أنشدتيني فيمن تعشقينه هذا الشعر الرقيق مع أن بالك مشغول به ولكن أنا أبذل الجهد في إنشاد الشعر على قدر فكرتي ثم إن دهنشاً قام إلى معشوقته بدور وقبلها بين عينيها ونظر إلى العفرية ميمونة وإلى معشوقته بدور وجعل ينشد هذه القصيدة وهو بلا شعور: فلما فرغ من شعره قالت العفريتة: أحسنت يا دهنش ولكن أي هذين الاثنين أحسن؟ فقال لها: محبوبتي بدور أحسن من محبوبك، فقالت له: كذبت يا ملعون بل معشوقي أحسن من معشوقتك ثم إنهما لم يزالا يعارضان بعضهما في الكلام حتى صرخت ميمونة على دهنش وأرادت أن تبطش به فذل لها ورفق في كلامه وقال لها: لا يصعب عليك الحق فابطلي قولك وقولي فإن كلانا يشهد لمعشوقه أنه أحسن.
فنعرض عن كلام كل واحد منا ونطلب من يفصل الحكم بيننا بالإنصاف ونعتمد على قوله.فقالت له ميمونة: وهو كذلك، ثم ضربت الأرض برجلها فطلع لها من الأرض عفريت أعور أجرب وعيناه مشقوقتان في وجهه بالطول وفي رأسه سبعة قرون وله أرب ذوائب من الشعر مسترسلة إلى الأرض ويداه مثل يدي القطرب له أظفار كأظفار الأسد ورجلان كرجلي الفيل وجوافر كحوافر الحمار فلما طلع ذلك العفريت ورأى ميمونة قبل الأرض بين يديها وتكتف وقال لها: ما حاجتك يا سيدتي يا بنت الملك؟ فقالت له: يا قشقش إني أريد أن تحكم بيني وبين هذا الملعون دهنش ثم إنها أخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فعندها نظر العفريت قشقش إلى وجه ذلك الصبي ووجه تلك الصبية فرآهما متعانقين وهما نائمان ومعصم كل منهما تحت عنق الأخر وهما في الحسن والجمال متشابهان وفي الملاحة متساويان فنظر وتعجب المارد قشقش من حسنهما وجمالهما والتفت إلى ميمونة ودهنش بعد أن أطال إلى الصبي والصبية الالتفات وأنشد هذه الأبيات:
زر من تحب ودع مقالة حـاسـد | ليس الحسود على الهوى بمساعد | |
لم يخلق الرحمن أحسن منـظـراً | من عاشقين على فـراش واحـد | |
متعانقين عليهما حلـل الـرضـا | متوسدين بمعصـم وبـسـاعـد | |
وإذا صفا لك من زمانـك واحـد | فهو المراد وعش بذاك الواحـد | |
وإذا تألفت القلوب على الـهـوى | فالناس تضرب في حـديد بـارد | |
يا من يلوم على الهوى أهل الهوى | هل يستطاع صلاح قلب فاسـد | |
يا رب يا رحمن تحسن ختمـنـا | قبل الممات ولـو بـيوم واحـد |
ثم إن العفريت قشقش التفت إلى ميمونة وإلى دهنش وقال لهما: و**** ما فيهما أحد أحسن من الآخر ولا دون الآخر بل هما أشبه الناس ببعضهما في الحسن والجمال والبهجة والكمال، ولا يفرق بينهما إلا بالتذكير والتأنيث وعندي حكم أخر وهو أن ننبه كل واحد منهما من غير علم الأخر، وكل من التهب على رفيقه فهو دونه في الحسن والجمال، فقالت ميمونة: نعم هذا الرأي الذي قلته فأنا رضيته وقال دهنش وأنا رضيته، فعند ذلك انقلب دهنش في صورة برغوث ولدغ قمر الزمان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنشاً لدغ قمر الزمان في رقبته في موضع ناعم فمد قمر الزمان يده على رقبته وهرش موضع اللدغة من شدة ما أحرقته فتحرك بجنبه فوجد شيئاً قائماً بجنبه ونفسه أذكى من المسك وجسمه ألين من من الزبد فتعجب قمر الزمان من ذلك غاية العجب ثم قام من وقته قاعداً ونظر إلى ذلك الشخص الراقد بجانبه فوجده صبية كالدرة السنية أو القبة المبنية بقامة ألفية خماسية القدر بارزة النهد موردة الخد كما قال فيها بعض واصفيها:
بدت قمراً وعادت غصن بان | وفاحت عنبراً ورنت غزالا | |
كأن الحزن مشغوف بقلبـي | فساعة هجرها يجد الوصالا |
فلما رأى قمر الزمان السيدة بدور بنت الملك الغيور، وشاهد حسنها وجمالها وهي نائمة طوله ووجد فوق بدنها قميصاً بندقياً وهي بلا شروال وعليها كوفية من ذهب مرصعة بالجواهر وفي عنقها قلادة من الفصوص المثمنة لا يقدر عليها أحد من الملوك فصار مدهوش العقل من ذلك، ثم إنه حين شاهد حسنها تحركت فيه الحرارة الغريزية وألقى **** عليه شهوة الجماع وقال في نفسه: ما شاء **** كان وما لم يشأ لم يكن، ثم قلبها بيده ثاني مرة وفتح طوق قميصها فبان له بطنها ونظر إلى نهودها فازداد فيها محبة ورغبة فصار ينبهها وهي لا تنتبه، لأن دهنشاً ثقل نومها فصار قمر الزمان يهزها ويحركها ويقول: يا حبيبتي استيقظي وانظري من أنا فأنا قمر الزمان، فلم تستيقظ ولم تحرك رأسها، فعند ذلك تفكر في أمرها ساعة زمانية، وال في نفسه: إن صدق حذري فهذه الصبية هي التي يريد والدي زواجي بها، ومضى لي ثلاث سنين وأنا أمتنع من ذلك فإن شاء **** إذا جاء الصبح أقول لأبي: زوجني بها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان قال في نفسه: إن شاء **** إذا جاء الصبح أقول لأبي: زوجني بها ولا أترك نصف النهار يفوت حتى أفوز بوصلها وأتملى بحسنها وجمالها، ثم إن قمر الزمان مال إلى بدور ليقبلها فارتعدت ميمونة الجنية وخجلت، ثم إن قمر الزمان لما أراد أن يقبله في فمها استحى من ****، ولفت وجهه وقال في نفسه: أنا أصبر لئلا يكون والدي لما غضب علي وحبسني في هذا الموضع جاء لي بهذه العروسة وأمرها بالنوم جنبي ليمتحنني بها، وأوصاها أني إذا نبهتها لا تستيقظ وقال لها أي شيء فعل بك قمر الزمان فاعلميني به وربما يكون والدي مستخفياً في مكان ما بحيث يطلع علي وأنا لا أنظره فينظر جميع ما أفعله بهذه الصبية وإذا أصبح يوبخني ويقول لي: كيف تقول لي مالي أرب في الزواج وأنت قبلت تلك الصبية وعانقتها، فأنا أكف نفسي عنها الليلة لئلا ينكشف أمري مع والدي فأنا لا ألمس الصبية من تلك الساعة ولا ألتفت لها غير أني آخذ لي منها شيئاً يكون أمارة عندي وتذكرة لها حتى يبقى بيني وبينها إشارة، ثم إن قمر الزمان رفع جريدة كفاح العمال الاشتراكي الصبية وأخذ خاتمها من خنصرها وهو يساوي حملة من المال لأن فصه من نفيس الجواهر ونقوش دائرته هذه الأبيات:
لا تحسبوا أني نسيت عهـودكـم | مهما أطلتم في الزمان صدودكم | |
يا سادتي جودوا علي تعطـفـاً | فعسى أقبل ثغركم وخـدودكـم | |
و**** إني لست أبرح عـنـكـم | ولو أعديتم في الغرام حدودكـم |
سلا خاطري عـن زينـب ونـوار | بوردة خـد فـوق آس عـــذار | |
واصبحت بالظبي المقرمط مغرمـاً | ولا أرى لي في عشق ذات سـوار | |
أنيسي في النادي وفي خلوتي معـاً | خلاف أنيسي فـي قـرارة داري | |
فيا لائمي في هجر هـنـد وزينـب | وقد لاح عذري كالمصباح المساري | |
أتـرضـى بـأن أمـسـي أسـيرة | محصـنة أو مـن وراء جـداري |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور قالت في نفسها: وفضيحتاه إن هذا شاب غريب لا أعرفه ما باله راقد بجانبي في فراش واحد؟ ثم نظرت إليه بعينيها وحققت النظر فيه وفي ظرفه ودلاله وحسنه وجماله ثم قالت: وحق **** أنه شاب مليح مثل القمر إلا أن كبدي تكاد أن تتمزق وجداً عليه وشغفاً بحسنه وجماله، فيا لفضيحتي منه و**** لو علمت إن هذا الشاب هو الذي خطبني من أبي ما رددته بل كنت أتزوجه وأتملى بجماله، ثم إن الملكة بدور تطلعت من وقتها وساعتها في وجه قمر الزمان وقالت له: يا سيدي وحبيب قلبي ونور عيني انتبه من منامك وتمتع بحسني وجمالي، ثم حركته بيدها فأرخت عليه ميمونة الجنية النوم وثقلت رأسه بجناحها فلم يستيقظ قمر الزمان فهزته الملكة بدور بيديها وقالت له: بحياتي عليك أن تطيعني وانتبه من منامك وانظر النرجس والخضرة وتمتع ببطني والسرة وهارشني وناغشني من هذا الوقت إلى بكرة، قم يا سيدي واتكئ على المخدة ولا تنم، فلم يجبها قمر الزمان بجواب ولم يرد عليها خطاباً بل غط في النوم.
فقالت الملكة بدور: ما لك تائهاً بحسنك وجمالك وظرفك ودلالك فكما أنت مليح أنا الأخرى مليحة فما هذا الذي تفعله؟ هل هم علموك الصد عني أو أبي الشيخ النحس منعك من أن تكلمني في هذه الليلة؟ ففتح قمر الزمان عينيه فازدادت فيه محبة وألقى **** محبته في قلبها ونظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة فخفق فؤادها وتقلقلت أحشاؤها واضطربت جوارحها وقالت لقمر الزمان: يا سيدي كلمني يا حبيبي يا معشوقي رد علي الجواب وقل لي: ما اسمك فإنك سلبت عقلي، كل ذلك وقمر الزمان مستغرق في النوم ولم يرد عليها بكلمة. فتأوهت الملكة بدور وقالت: ما لك معجباً بنفسك؟ ثم هزته وقبلت يده فرأت خاتمها في إصبعه الخنصر فشهقت وأتبعتها بغنجة وقالت: أوه.. أوه و**** أنت حبيبي وتحبني ولكن كأنك تعرض عني دلالاً مع أنك جئتني وأنا نائمة وما أعرف كيف عملت أنت معي ولكني ما أنا قالعة خاتمي من خنصرك ثم فتحت جيب قميصه ومالته عليه وقبلت رقبته وفتشت على شيء تأخذه منه فلم تجد معه شيئاً ورأته بغير سروال فمدت يدها من تحت ذيل قميصه وجست سيقانه فزلقت يدها من نعومة جسمه وسقطت على عضوه فانصدع قلبها وارتجف فؤادها إلا أن شهوة النساء أقوى من شهوة الرجال وخجلت وخجلت ثم نزعت خاتمه من إصبعه ووضعته في إصبعها موضعاً عن خاتمها وقبلته في ثغره وقبلت كفه ولم تترك فيه موضعاً إلا قبلته وبعد ذلك أخذته في حضنها وعانقته ووضعت إحدى يديها تحت رقبته والأخرى من تحت إبطه ونامت بجانبه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الملكة بدور نامت بجانب قمر الزمان وجرى ما جرى فلما رأت ذلك ميمونة فرحت غاية الفرح وقالت لدهنش: هل رأيت يا ملعون كيف فعلت معشوقتك من الوله بمعشوقي؟ وكيف فعل معشوقي من التيه والدلال فلا شك أن معشوقي أحسن من معشوقتك ولكن عفوت عنك، ثم كتبت له ورقة والتفتت إلى قشقش وقالت له: ادخل معه واحمل معشوقته وساعده على وصالها إلى مكانها لأن الليل مضى وفاتني مطلوبي، فتقدم دهنش وقشقش إلى الملكة بدور وخلا تحتها وحملاها وطارا بها وأوصلاها إلى مكانها واعاداها إلى فراشها واختلت ميمونة النظر إلى قمر الزمان وهو نائم حتى لم يبق من الليل إلا القليل ثم توجهت إلى حال سبيلها. فلما انشق الفجر انتبه قمر الزمان من منامه والتفت يميناً وشمالاً فلم يجد الصبية عنده فقال في نفسه: ما هذا الأمر كأن أبي يرغبني في الزواج بالصبية التي كانت عندي ثم أخذها سراً لأجل أن تزداد رغبتي في الزواج ثم صرخ على الخادم الذي هو نائم على الباب وقال له: ويلك يا مأمون قم فقام الخادم وهو طائش العقل من النوم ثم قدم له الطشت والإبريق فقام قمر الزمان ودخل المستراح وقضى حاجته وخرج وتوضأ وصلى الصبح وجلس يسبح **** ثم نظر إلى الخادم فوجده واقفاً في خدمته بين يديه فقال له: ويلك يا صواب، من جاء هنا وأخذ الصبية من جنبي وانا نائم؟ فقال الخادم: يا سيدي أي شيء للصبية؟ فقال قمر الزمان: الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة، فانزعج الخادم من كلام قمر الزمان وقال له: لم يكن عندك صبية ولا غيرها ومن أين دخلت الصبية وأنا نائم وراء الباب وهو مقفول؟ و**** يا سيدي ما دخل عليك لا ذكر ولا أنثى، فقال له قمر الزمان: تكذب يا عبد النحس وهل وصل من قدرك أنت الأخر أنك تخادعني، ولا تخبرني أين راحت هذه الصبية التي كانت نائمة عندي غي هذه الليلة ولم تخبرني بالذي أخذها من عندي؟ فقال الطواشي وقد انزعج منه: و**** يا سيدي ما رأيت صبية ولا صبياً، فغضب قمر الزمان من كلام الخادم وقال له: إنهم علموك الخداع يا ملعون فتعالى عندي، فتقدم الخادم إلى قمر الزمان فأخذ بأطواقه وضرب به الأرض فضرط ثم برك عليه قمر الزمان ورفسه برجله وخنقه حتى غشي عليه ثم بعد ذلك ربطه في سلبة البئر وأدلاه فيه إلى أن وصل إلى الماء وأرخاه وكانت تلك الأيام برد وشتاء قاطع فغطس الخادم في الماء ثم نشله قمر الزمان وأرخاه، وما زال يغطس ذلك الخادم في الماء وينشله منه والخادم يستغيث ويصرخ ويصيح وقمر الزمان يقول له: و**** يا ملعون ما أطلعك من هذه البئر حتى تخبرني بخبر هذه الجارية وقضيتها ومن الذي أخذها وأنا نائم؟
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم قال لقمر الزمان: أنقذني من البئر يا سيدي وأنا أخبرك بالصحيح، فجذبه من البئر وأطلعه وهو غائب عن الوجود من شدة ما قاساه من الغرق والبرد والضرب والعذاب وصار يرتعد مثل القصبة في الريح العاصف واشتبكت أسنانه في بعضها وابتلت ثيابه بالماء فلما رأى الخادم نفسه على وجه الأرض قال له: دعني يا سيدي أروح وأقلع ثيابي وأعصرها وأنشرها في الشمس وألبس غيرها، ثم أحضر إليك سريعاً وأخبرك بأمر تلك الصبية وأحكي لك حكايتها. فقال قمر الزمان: و**** يا عبد النحس لولا أنك عاينت الموت ما أقررت بالحق فاخرج لقضاء أغراضك وعد إلي بسرعة واحك لي حكاية الصبية وقصتها، فعند ذلك خرج الخادم وهو لا يصدق بالنجاة ولم يزل يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان أبي قمر الزمان فوجد الوزير بجانبه وهما يتحدثان في أمر قمر الزمان فسمع الملك يقول للوزير: لإني ما نمت في هذه الليلة من اشتغال قلبي بولدي قمر الزمان وأخشى أن يجري له شيء في هذا الربج العتيق وما كان في سجنه شيء من المصلحة، فقال له الوزير: لا تخف عليه و**** لا يصيبه شيء ودعه مسجوناً شهراً كاملاً حتى تلين عريكته. فبينما هما في الكلام وإذا بالخادم دخل عليهما وهو في تلك الحالة وقال له: يا مولانا السلطان إن ولدك حصل له جنونو قد فعل بي هذه الفعال، وقال لي: إن صبية باتت عندي في هذه الليلة وذهبت خفية فأخبرني بخبرها وأنا لا أعرف ما شأن هذه الصبية، فلما سمع السلطان شهرمان هذا الكلام عن ولده قمر الزمان صرخ قائلاً: واولداه، وغضب على الوزير الذي كان سبباً في هذه الأمور غضباً شديداً وقال له: قم اكشف لي خبر ولدي قمر الزمان، فخرج الوزير وهو يتعثر في أذياله من خوفه من الملك وراح مع الخادم إلى البرج وكانت الشمس قد طلعت فدخل الوزير على قمر الزمان فوجده جالساً على السرير يقرأ القرآن فسلم عليه الوزير وجلس إلى جانبه وقال له: يا سيدي إن هذا العبد النحس أخبرنا بخبر شوش علينا وأزعجنا فاغتاظ الملك من ذلك، فقال له قمر الزمان: أيها الوزير، وما الذي قاله لكم عني حتى شوش على أبي وفي الحقيقة هو ما شوش إلا علي، فقال له الوزير: إنه جاءنا بحالة منكرة وقال لنا قولاً حاشاك منه وكذب علينا بما لا ينبغي أن يذكر في شانك فسلامة شبابك وعقلك الرجيح ولسانك الفصيح وحاشى أن يصدر منك شيء قبيح، فقال له قمر الزمان: فأي شيء قال هذا العبد النحس فقال له الوزير: إنه أخبرنا أنك جننت وقلت له كان عندي صبية في الليلة الماضية، فهل قلت للخادم هذا الكلام؟ فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً وقال للوزير: تبين لي أنكم علمتم الخادم الفعل الذي صدر منه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ابن الملك شهرمان، قال للوزير: تبين لي أنكم منعتموه من أن يخبرني بأمر الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة وأنت أيها الوزير أعقل من الخادم فأخبرني في هذه الساعة أين ذهبت الصبية المليحة التي كانت نائمة في حضني في تلك الليلة فأنتم الذين أرسلتموها وأمرتموها أن تبيت في حضني ونمت معها إلى الصباح فلما انتبهت ماوجتها، فأين هي الآن؟ فقال الوزير: يا سيدي قمر الزمان اسم **** حواليك وإنا ما أرسلنا لك في هذه الليلة أحداً وقد نمت وحدك والباب مقفل عليك والخادم نائم من خلف الباب وما أتى إليك صبية ولا غيرها فارجع إلى عقلك يا سيدي ولا تشغل خاطرك، فقال له قمر الزمان وقد اغتاظ من كلامه: أيها الوزير: أيها الوزير إن تلك الصبية معشوقتي وهي المليحة صاحبة العيون السود والخدود الحمر التي عانقتها في هذه الليلة، فتعجب الوزير من كلام قمر الزمان وقال له: هل رأيت الصبية في هذه الليلة بعينك في اليقظة أو في المنام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس أتظن أني رأيتها بأذني إنما رأيتها بعيوني في اليقظة وقلبتها بيدي وسهرت معها نصف ليلة كاملة وأنا أتفرج على حسنها وجمالها وظرفها ودلالها وإنما انتم أوصيتموها أنها لا تكلمني فجعلت نفسها نائمة فنمت بجنبها إلى الصباح ثم استيقظت من منامي فلم أجدها، فقال له الوزير: يا سيدي قمر الزمان ربما تكون رأيت هذا الأمر في المنام فيكون أضغاث أحلام أو تخيلات من أكل مختلف الطعام أو وسوسة الشياطين اللئام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس كيف تهزأ بي أنت الأخر وتقول لي لعل هذا أضغاث أحلام مع أن الخادم قد أقر بتلك الصبية وقال لي في هذه الساعة أعود إليك وأخبرك بقصتها؟ ثم إن قمر الزمان قام من وقته وتقدم إلى الوزير وقبض على لحيته في يده وكانت لحيته طويلة فأخذها قمر الزمان ولفها على يده وجذبه منها فرماه من فوق السرير وألقاه على الأرض فأحس الوزير أن روحه طلعت من شدة نتف لحيته وما زال قمر الزمان يرفس الوزير برجليه ويصفعه على قفاه بيديه حتى كاد أن يهلكه.
فقال الوزير في نفسه: إذا كان العبد الخادم خلص نفسه من هذا الصبي المجنون بكذبة فأنا أولى بذلك منه وأخلص نفسي أنا الآخر بكذبة وإلا يهلكني، فها أنا أكذب وأخلص روحي منه فإنه مجنون ولا شك في جنونه، ثم إن الوزير التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا سيدي لا تؤاخذني فإن والدك أوصاني أن أكتم عنك خبر هذه الصبية وأنا الآن عجزت وكليت من الضرب لأني بقيت رجلاً كبيراً وليس لي قوة تحمل الضرب فتمهل علي قليلاً حتى أحدثك بقصة الصبية. فعند ذلك منع عنه الضرب وقال له: لأي شيء لم تخبرني بخبر تلك الصبية إلا بعد الضرب والإهانة فقم أيها الشيخ النحس واحك لي خبرها، فقال له الوزير: هل أنت تسأل عن تلك الصبية صاحبة الوجه المليح والدقد الرجيح؟ فقال له قمر الزمان: نعم أخبرني أيها الوزير من الذي جاء بها إلي وأنامها عندي وأين هي في هذه السهاة حتى أروح إليها بنفسي؟ فإن كان أبي الملك شهرمان فعل معي هذه الفعال وامتحني بتلك الصبية المليحة من أجل زواجها فأنا رضيت أن أتزوج بها فإنه ما فعل معي هذا الأمر كله وولع خاطري بتلك الصبية، بعد ذلك حجبها عني إلا من أجل امتناعي من الزواج فها أنا رضيت بالزواج، فأعلم والدي بذلك أيها الوزير وأشر إليه أن يزوجني بتلك الصبية فإني لا أريد سواها وقلبي لم يعشق إلا إياها، فقم وأسرع إلى أبي وأشر إليه بتعجيل زواجي ثم عد إلي قريباً في هذه الساعة، فما صدق الوزير بالخلاص من قمر الزمان حتى خرج من البرج وهو يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير خرج يجري من البرج إلى أن دخل على الملك شهرمان فلما دخل عليه قال له الملك: أيها الوزير ما لي أراك في ارتباك ومن الذي بشره رماك حتى جئت مرعوباً؟ فقال للملك: إني قد جئتك ببشارة، فقال الملك: وما تلك البشارة؟ قال له: اعلم أن ولدك قمر الزمان قد حصل له جنون، فلما سمع الملك كلام الوزير صار الضياء في وجهه ظلاماً وقال له: أيها الوزير أوضح لي صف جنون ولدي؟ قال له الوزير: سمعاً وطاعة، ثم أخبره بما صدر من ولده فقال الملك: أبشر أيها الوزير إني أعطيك في نظير بشارتك إياي بجنون ولدي ضرب رقبتك وزوال النعم عنك يا أنحس الوزراء وأخبث الأمراء لأني اعلم أنك سبب جنون ولدي بمشورتك ورأيك التعس الذي أشرت به علي في الأول والآخر و**** إن كان يأتي على ولدي شيء من الضرر أو الجنون لأسمرك على القبة وأذيقك النكبة.
ثم إن الملك نهض قائماً على قدميه وأخذ الوزير معه ودخل به البرج الذي نزل فيه قمر الزمان فلما وصلا إليه قام قمر الزمان على قدميه لوالده ونزل سريعاً من فوق السرير الذي هو جالس عليه وقبل يديه ثم تأخر وراءه وأطرق رأسه إلى الأرض وهو مكتف اليدين قدام أبيه ولم يزل كذلك ساعة زمانية وبعد ذلك رفع راسه إلى والده وفرت الدموع من عينيه وسالت على خديه وأنشد قول الشاعر:
إن كنت قد أذنبت سالـفـاً | في حقكم وأتيت شيئاً منكرا | |
أنا تائب عما جنيت وعفوكم | يسع المسيء إذا أتى مستغفرا |
فعند ذلك قام الملك شهرمان وعانق ولده قمر الزمان وقبله بين عينيه وأجلسه إلى جانبه فوق السرير، ثم التفت إلى الوزير بعين الغضب وقال له: يا كلب الوزراء كيف تقول على ولدي قمر الزمان ما هو كذا وكذا وترعب قلبي عليه؟ ثم التفت إلى ولده وقال له: يا ولدي ما اسم هذا اليوم؟ فقال له: يا والدي هذا لبوس السبت وغداً يوم الأحد وبعده الاثنين وبعده الثلاثاء وبعده الأربعاء وبعده الخميس وبعده الجمعة. فقال له الملك: يا ولدي قمر الزمان الحمد *** على سلامتك، ما اسم هذا الشهر الذي علينا بالعربي؟ فقال: اسمه ذو القعدة ويليه ذو الحجة وبعده المحرم وبعده صفر وبعده ربيع الأول وبعده ربيع الثاني وبعده جمادى الأولى وبعده جمادى الثانية وبعده رجب وبعده شعبان وبعده رمضان وبعده شوال. ففرح بذلك الملك فرحاً شديداً وبصق في وجه الوزير وقال له: يا شيخ السوء كيف تزعم أن ولدي قمر الزمان قد جن والحال أنه ما جن إلا أنت. فعند ذك حرك الوزير رأسه وأراد أن يتكلم ثم خطر بباله أن يتمهل قليلاً لينظر ماذا يكون ثم إن الملك قال لولده: يا ولدي أي شيء هذا الكلام الذي تكلمت به للخادم والوزير حيث قلت لهما: إني كنت نائماً أنا وصبية مليحة في هذه الليلة، فما شأن هذه الصبية التي ذكرتها؟ فضحك قمر الزمان من كلام أبيه وقال له: يا والدي اعلم أنه ما بقي لي قوة تتحمل السخرية فلا تزيدوا علي شيئاً ولا كلمة واحدة، فقد ضاق خلقي مما تفعلونه معي واعلم يا والدي أني رضيت بالزواج ولكن بشرط أن تزوجني تلك الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة فإني أتحقق أنك أنت الذي أرسلتها إلي وشوقتني إليها وبعد ذلك أرسلت إليها قبل الصبح وأخذتها من عندي، فقال: اسم **** حواليك يا ولدي سلامة عقلك من الجنون.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان أي شيء هذه الصبية التي تزعم أني أرسلتها في هذه الليلة ثم أرسلت أخذتها من عندك قبل الصباح و**** يا ولدي ليس لي علم بهذا الأمر. فبالله عليك أن تخبرني هل ذلك أضغاث أحلام أو تخيلات طعام فإنك بت في هذه الليلة وأنت مشغول الخاطر بالزواج وموسوس بذكره قبح **** الزواج وساعته وقبح من أشار به أنك متكدر المزاج من جهة الزواج فرأيت في المنام أن صبية مليحة تعانقك وأنت تعتقد في بالك انك رأيتها في اليقظة وهذا كله يا ولدي أضغاث أحلام.
فقال قمر الزمان: دع عنك هذا الكلام، واحلف ب**** الخالق العلام قاصم الجبابرة ومبيد الأكاسرة أنه لم يكن عندك خبر بالصبية ومحلها؟ فقال الملك: وحق إله موسى وابراهيم أنه لم يكن لي علم بذلك، ولعله أضغاث أحلام رأيته في المنام، فقال قمر الزمان لوالده: أنا أضرب لك مثلاً يبين لك أن هذا كان في اليقظة.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان قال لوالده هذا المثل هو أني أسألك هل اتفق لأحد أنه رأى نفسه في المنام يقاتل وقد قاتل قتالاً شديداً وبعد ذلك استيقظ من منامه فوجد في يده سيفاً ملوثاً بالدم؟ فقال له والده: لا و**** يا ولدي لم يتفق هذا، فقال له قمر الزمان: أخبرك بما حصل لي وهو أني رأيت في هذه الليلة كأني استيقظت من منامي نصف الليل فوجدت بنتاً نائمة بجانبي وقدها كقدي وشكلها كشكلي فعانقتها ومسكتها بيدي وأخذت خاتمها ووضعته في إصبعي وامتنعت عنها حياء منك وظننت أنك أرسلتها واستخفيت في موضع لتنظر ما أفعل، واستحييت من أجل ذلك أن أقبلها في فمها حياء منك، وخطر ببالي أنك تمتحني بها حتى ترغبني في الزواج.
وبعد ذلك انتبهت من منامي في وجه الصبح فلم أجد للصبية من أثر ولا وقفت لها على أثر على خبر وجرى لي مع الخادم والوزير ما جرى فكيف يكون هذا الأمر كذباً وأمر الخاتم صحيحاً؟ ولولا الخاتم كنت أظن أنه منام وهذا خاتمها في خنصري في هذه الساعة فانظر أيها الملك إلى الخاتم كم يساوي، ثم إن قمر الزمان ناول الخاتم لأبيه فأخذه وقلبه ثم التفت إلى ولده وقال له: إن لهذا الخاتم نبأً عظيماً وخبراً جسيماً وإن الذي اتفق لك في هذه الليلة مع تلك الصبية أمر مشكل ولا أعلم من أين دخل علينا هذا الدخيل وما تسبب في هذا كله إلا الوزير فبالله عليك يا ولدي أن تصبر لعل **** يفرج عنك هذه الكربة ويأتيك بالفرج العظيم كما قال الشاعر:
عسى ولعل الدهر يلوي عنانه | ويأتي بخير فالزمان غـيور | |
وتسعد آمالي وتقضي حوائجي | وتحدث من بعد الأمور أمور |
فيا ولدي قد تحققت في هذه الساعة أنه ليس بك جنون ولكن قضيتك ما يجليها إلا ****، فقال قمر الزمان لوالده: ب**** يا والدي أنك تفحص لي عن هذه الصبية وتعجل بقدومها وإلا مت كمداً، ثم إن قمر الزمان أظهر الوجد والتفت بالوصل إلى أبيه وأنشد هذين البيتين:
إن كان في وعدكم بالوصـل تـزوير | ففي الكرى واصلوا المشتاق أو زورا | ||||
قالوا وكيف يزور الطيف جفن فتى | منامه عند ممنوع ومـحـجـورا | ||||
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
خذوا حذركم من طرفها فهو ساحر | وليس بناج من رمته المـحـاجـر | |
ولا تخدعوا من رقة في كلامـهـا | فإن الحميا للعـقـول تـخـامـر | |
منعمه لولا مـس الـورد خـدهـا | بكت وبدت من مقلتيها الـبـواتـر | |
فلو في الكرى مر النسيم بأرضهـا | سرى وبدا من ارضها وهو عواطر |
فلما فرغ قمر الزمان من شعره قال الوزير للملك: يا ملك الزمان إلى متى أنت محجوب عن العسكر عند ولدك قمر الزمان فربما يفسد عليك نظام المملكة بسبب بعدك عن أرباب دولتك، والعاقل إذا ألمت بجسمه أمراض مختلفة يجب أن يبدأ بمداواة أعظمها، والرأي عندي أن تنقل ولدك فيه وتجعل للموكب والديوان في كل جمعة يومين الخميس والاثنين فيدخل عليك الأمراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وخواً المملكة وأصحاب الصولة وبقية العساكر والرعية ويعرضون عليك أحوالهم فاقض حوائجهم واحكم بينهم وخذ مطلبهم وأمر وانهي بينهم، وبقية الجمعة تكون عند ولدك قمر الزمان ولا تزال على تلك الحالة حتى يفرج **** عنك وعنه، ولا تأمن أيها الملك من نوائب الزمان وطوارق الحدثان فإنه العاقل دائماً محاذر وما أحسن قول الشاعر:
حسنت ظنك بالأيام إذ حـسـنـت | ولم نخف سوء ما يأتي به القـدر | |
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند | وعند صفو الليالي يحدث الكـدر | |
يا معشر الناس من كان الزمان له | مساعد فليكن من رأيه الـحـذر |
فلما سمع السلطان من الوزير هذا الكلام رآه صواباً ونصيحة في مصلحته فأثر عنده وخاف أن ينفسد عليه نظام الملك فنهض من وقته وساعته وأمر بتحويل ولده من ذلك المكان إلى القصر الذي في السرايا المطل على البحر ويمشون إليه على ممشاه في وسط البحر عرضها عشرون ذراعاً وبدائر القصر شبابيك مطلة على البحر وأرض ذلك القصر مفروشة بالرخام الملون وسقفه مدهون بأفخر الدهان من سائر الألوان ومنقوش بالذهب واللازورد ففرشوا لقمر الزمان فيه البسط الحرير وألبسوا حيطانه الديباج وأرخوا عليه الستائر المكللة بالجواهر ودخل فيه قمر الزمان وصار من شدة العشق كثير السهر، فاشتغل خاطره واصفر لونه وانتحل جسمه، وجلس والده عند رأسه وحزن عليه.
وصار الملك كل يوم اثنين وخميس يأذن في أن يدخل عليه من شاء الدخول الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وسائر العساكر والرعية في ذلك القصر فيدخلون عليه ويؤدون وظائف الخدمة ويقيمون عنده إلى آخر النهار ثم ينصرفون بعد ذلك إلى حال سبيلهم وبعد ذلك يدخل الملك عند ولده قمر الزمان في ذلك المكان ولا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، ولم يزل على تلك على تلك الحالة مدة أيام وليال من الزمان.
هذا ما كان من أمر قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والسبعة قصور فإن الجن لما حملوها وأناموها في فراشها لم يبق من الليل إلا ثلاث ساعات، ثم طلع الفجر فاستيقظت من منامها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما استيقظت من منامها جلست والتفتت يميناً وشمالاً فلم تر معشوقها الذي كان في حضنها فارتجف فؤادها وزال عقلها وصرخت صرخة عظيمة فاستيقظ جميع جواريها والدايات والقهرمانات ودخلن عليها فتقدمت إليها كبيرتهن وقالت لها: يا سيدتي ما الذي أصابك؟ فقالت لها: أيتها العجوز النحس أين معشوقي الشاب الذي كان نائماً هذه الليلة في حضني فأخبريني أين راح؟ فلما سمعت منها القهرمانة هذا الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً وخافت من بأسها خوفاً عظيماً وقالت: يا سيدتي بدور أي شيء هذا الكلام القبيح؟ فقالت السيدة بدور: ويلك يا عجوز النحس أين معشوقي الشاب المليح صاحب الوجه المليح والعيون السود والحواجب المقرونة الذي كان بائتاً عندي من العشاء إلى قرب طلوع الفجر؟ فقالت: و**** ما رأيت شاباً ولا غيره، فبالله يا سيدتي لا تمزحي هذا المزاح الخارج عن الحد فتروح أرواحنا وربما بلغ أباك هذا المزاح فمي يخلصنا من يده؟ فقالت الملكة بدور: إنه كان غلاماً بائتاً عندي في هذه الليلة وهو من أحسن الناس وجهاً، فقالت لها القهرمانة: سلامة عقلك ما كان أحد بائتاً عندك في هذه الليلة. فعند ذلك نظرت السيدة بدور إلى يدها فوجدت خاتم قمر الزمان في إصبعها ولم تجد خاتمها فقالت للقهرمانة: ويلك يا خائنة تكذبين علي وتقولين ما كان أحد بائتاً عندك وتحلفين ب**** باطلاً، فقالت القهرمانة: و**** ما كذبت عليك ولا حلفت باطلاً، فاغتاظت السيدة بدور وسحبت سيفاً كان عندها وضربت القهرمانة فقتلتها، فعند ذلك صاح الخدم والجواري والسراري عليها وراحوا إلى أبيها وأعلموه بحالها فأتى الملك إلى ابنتها السيدة بدور من وقته وساعته وقال لها: يا بنتي ما خبرك؟ فقالت يا أبي أين الشاب الذي كان نائماً بجانبي في هذه الليلة؟ وطار عقلها من رأسها وصارت تلتفت بعينيها يميناً وشمالاً ثم شقت ثوبها إلى ذيلها، فلما رأى أبوها تلك الفعال أمر الجواري والخدم أن يمسكوها فقبضوا عليها وقيدوها وجعلوا في رقبتها سلسلة من حديد وربطوها في الشباك الذي في القصر. هذا ما كان من أمر الملكة بدور.
و أما ما كان من أمر أبيها الملك الغيور فإنه لما رأى ما جرى من ابنته السيدة بدور ضاقت عليه الدنيا لأنه كان يحبها فلم يهن عليه أمرها، فعند ذلك أحضر المنجمين والحكماء وأصحاب الأقلام وقال لهم: من أبراً بنتي مما هي فيه زوجته بها وأعطيته نصف مملكتي ومن لم يبرئها ضربت عنقه ويعلق رأسه على باب القصر، ولم يزل يفعل ذلك إلى أن قطع من أجلها أربعين رأساً، فطلب سائر الحكماء فتوقفت جميع الناس عنها وعجز جميع الحكماء عن دوائها واشتكت قضيتها على أهل العلوم وأرباب الأقلام، ثم إن السيدة بدور لما زاد بها الوجد والغرام وأرباب الهيام أجرت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
غرامي فيك يا قمري غريمي | ذكرك في دجى ليلي نديمي | |
أتيت وأضلعي فيها لـهـيب | يحاكي حره نار الجـحـيم | |
بليت بفرط وجد واحـتـراق | عذابي منهما أضحى أليمـي |
فلما فرغت السيدة بدور من إنشاد هذه الأشعار بكت حتى مرضت جفونها وتذبلت وجناته ثم إنها استمرت على هذا الحال ثلاث سنين وكان لها أخ من الرضاع يسمى مرزؤان وكان سافر إلى أقصى البلاد وغاب عنها تلك المدة بطولها وكان يحبها محبة زائدة على محبة الأخوة فلما حضر دخل على والدته وسألها عن أخته السيدة بدور فقالت له: يا ولدي أختك حصل لها الجنون ومضى لها ثلاث سنين وفي رقبتها سلسلة من حديد وعجزت الأطباء عن دوائها، فلما سمع مرزؤان هذا الكلام قال لها: لا بد من دخولي عليها لعلي أعرف ما بها وأقدر على دوائها، فلما سمعت كلامه قالت: لا بد من خولك عليها ولكن اصبر إلى غد حتى أتحيل في أمرك ثم إن أمه ذهبت إلى قصر السيدة بدور واجتمعت بالخادم الموكل بالباب وأهدت له هدية وقالت له: إن لي بنتاً قد تربت مع السيدة بدور وقد زوجتها ولما جرى لسيدتك ما جرى صار قلبها متعلقاً بها وأرجو من فضلك أن بنتي تأتي عندها ساعة لتنظرها ثم ترجع من حيث جاءت ولا يعلم بها أحد، فقال الخادم: لا يمكن ذلك إلا في الليل فبعد أن يأتي السلطان ينظر ابنته ويخرج ادخلي أنت وابنتك، فقبلت العجوز يد الخادم وخرجت إلى بيتها. فلما جاء وقت العشاء من الليلة القابلة قامت من وقتها وساعتها وأخذت ولدها مرزؤان وألبسته بدلة من ثياب النساء وجعلت يده في يدها وأدخلته القصر، وما زالت تمشي حتى أوصلته إلى الخادم بعد انصراف السلطان من عند ابنته فلما رآها الخادم قام واقفاً وقال لها: ادخلي ولا تطيلي القعود فلما دخلت العجوز بولدها مرزؤان رأى السيدة بدور في تلك الحالة فسلموا عليها بعد انكشفت عنه أمه ثياب النساء فأخرج مرزوان الكتب التي معه وأوقد شمعة فنظرت إليه السيدة بدور فعرفته وقالت له: يا أخي أنت سافرت وانقطعت أخبارك عنا فقال لها: صحيح ولكن ردني **** با سلامة وأردت السفر ثانية فما ردني عنه إلا هذا الخبر الذي سمعته عنك فاحترق فؤادي عليك وجئت إليك لعلي أعرف داءك وأقدر على دوائك، فقالت له: يا أخي هل تحسب أن الذي اعتراني جنون، ثم أشارت إليه وأنشدت هذين البيتين:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم | ما لذة العيش إلا للمـجـانـين | |
ثم جننت فهاتوا من جننـت بـه | إن كان يشفي جنوني لا تلوموني |
فعلم مرزؤان أنها عاشقة فقال لها: أخبريني بقصتك وما اتفق لك لعل **** يطلعني على ما فيه خلاصك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والعشرون بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بدور قالت: يا أخي اسمع قصتي وذلك أنني تيقظت من منامي ليلة في الثلث الأخير من الليل وجلست فرأيت بجانبي شاباً احسن ما يكون من الشبان يكل عن وصفه اللسان كأنه غصن بان أو قضيب خيزران فظننت أن أبي هو الذي أمره بهذا الأمر ليمتحنني به لأنه راودني عن الزواج لما خطبني منه الملوك فأبيت فهذا الظن هو الذي منعني من أن أنبهه وخشيت إني إذا عانقته ربما يخبر أبي بذلك فلما أصبحت رأيت بيدي خاتمه عوضاً عن خاتمي. فهذه حكايتي وأنا يا أخي قد تعلق قلبي به من حن رؤيته ومن كثرة عشقي والغرام لم أذق طعم المنام وما لي شغل غير بكائي بالدموع وإنشاد الأشعار بالليل والنهار ثم أفضت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
أبعد الحب لـذاتـي تـطـيب | وذاك الظبي مرتعه القـلـوب | |
دم العشاق أهون مـا عـلـيه | وفيه مهجة الظـبي تـذوب | |
أغار عليه من نظري وفكـري | فمن بعضي على بعضي رقيب | |
راجفان له ترمـي سـهـامـاً | فواتك في القلوب لنا تصـيب | |
فهل لي أن أراه قبل مـوتـي | إذا ما كان في الدنيا نـصـيب | |
وأكتم السـر فـينـيم دمـعـي | بما عندي ويعلمـه الـرقـيب | |
قريب وصلـه مـنـي بـعـيد | بعـيد ذكـره مـنـي قـريب |
ثم إن السيدة بدور قالت لمرزوان: انظر يا أخي ما الذي تعمل معي في الذي اعتراني فأطرق مرزوان رأسه إلى الأرض ساعة وهو يتعجب وما يدري ما يفعل ثم رفع رأسه وقال لها: جميع ما جرى لك صحيح وإن حكاية هذا الشاب أعيت فكري ولكن أدور جميع البلاد وأفتش على دوائك لعل **** يجعله على يدي فاصبري ولا تقلقي ثم إن مرزوان ودعها ودعا لها بالثبات وخرج من عندها ثم إن مرزوان تمشى إلى بيت والدته فنام تلك الليلة ولما أصبح الصباح تجهز للسفر فسافر ولم يزل مسافراً من مدينة إلى مدينة ومن جزيرة إلى جزيرة مدة شهر كامل ثم دخل مدينة يقال لها الطيرب واستنشق الأخبار من الناس لعله يجد دواء للملكة بدور وكان كلما يدخل في مدينة أو يمر بها يسمع أن الملكة بدور بنت الملك الغيور قد حصل لها جنون ولم يزل يستنشق الأخبار حتى وصل إلى مدينة الطيرب فسمع إن قمر الزمان ابن الملك شهرمان مريض وأنه اعتراه وسواس وجنون.
فلما سمع مرزوان بخبره سأل بعض أهالي تلك المدينة عن بلاده ومحل تخته فقالوا له جزائر خالدات وبيننا وبينها مسيرة شهر كامل في البحر وأما في البر فستة أشهر، فنزل مرزوان في مركب إلى جزائر خالدات وكانت مركب مجهزة للسفر وطاب لها الريح مدة شهر فبانت لهم المدينة ولما أشرفوا عليها ولم يبق لهم إلا الوصول إلى الساحل خرجت عليهم ريح عاصف فرمى الرية ووقعت القلوع في البحر وانقلب المركب بجميع ما فيه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرزوان جذبته قوة التيار جذبة حتى أوصلته تحت قصر الملك الذي فيه قمر الزمان وكان بالأمر المقدر قد اجتمع الأمراء والوزراء عنده للخدمة والملك شهرمان جالس ورأس ولده في حجره وخادم يهش عليه. وكان قمر الزمان مضى عليه يومان وهو لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم وصار الوزير واقفاً عند رجليه قريب من الشباك المطل على البحر فرفع الوزير بصره فرأى مرزوان قد أشرف على الهلاك من التيار وبقي على آخر نفس فرق قلب الوزير إليه فتقرب من السلطان ومد رأسه إليه وقال له: أستأذنك في أن أنزل إلى ساحة القصر وأفتح بابها لأنقذ إنساناً قد أشرف على الغرق وأطلعه من الضيق إلى الفرج لعل **** بسبب ذلك يخلص ولدك مما هو عليه.
فقال السلطان: كل ما جرى على ولدي بسببك وربما أنك إذا طلعت هذا الغريب يطلع على أحوالنا وينظر إلى ولدي وخرج يتحدث مع أحد بأسرارنا لأضربن رقبتك قبله لأنك أيها الوزير سبب ما جرى لنا أولاً وآخراً فافعل ما بدا لك، فنهض الوزير وفتح باب الساحة ونزل في الممشاة عشرين خطوة، ثم خرج إلى البحر فرأى مرزوان مشرفاً على الموت فمد الوزير يده إليه وأمسكه من شعر رأسه وجذبه منه عليه حتى ردت روحه إليه ثم نزع عنه ثيابه وألبسه غيرها وعممه بعمامة من عمائم غلمانه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما فعل مع مرزوان ما فعل، وكيف قال إني كنت سبباً لنجاتك فلا تكن سبباً لموتي وموتك، فقال مرزوان: وكيف ذلك؟ قال الوزير: لأنك في هذه الساعة تطلع وتشق بين أمراء ووزراء والكل ساكتون لا يتكلمون من أجل قمر الزمان ابن السلطان، فلما سمع مرزوان ذكر قمر الزمان عرفه لأنه كان يسمع بحديثه في البلاد، فقال مرزوان: ومن قمر الزمان؟ فقال الوزير: هو ابن السلطان شهرمان وهو ضعيف ملقى على الفراش لا يقر له قرار ولا يعرف ليلاً ولا نهاراً وكاد أن يفارق الحياة من نجول جسمه ويصير من الأموات فنهاره لهيب وليله في تعذيب وقد يئسنا من حياته وأيقنا بوفاته وإياك أن تطيل النظر إلى غير الموضع الذي تحط فيه رجلك وإلا تروح روحك وروحي، فقال: ب**** أخبرني عن هذا الشاب الذي وصفته لي وما سبب هذا الأمر الذي هو فيه؟ فقال له الوزير: لا أعلم له سبباً إلا أن والده من مدة ثلاث سنين كان يراوده عن أمر الزواج وهو يأبى فأصبح يزعم أنه كان نائماً فرأى بجنبه صبية بارعة الجمال وجمالها يحير العقول ويعجز عنه الوصف وذكر لنا أنه نزع خاتمها من إصبعها ولبسه وألبسها خاتمه ونحن لا نعرف باطن هذه القضية، فبالله يا ولدي اطلع معي القصر ولا تنظر إلى ابن الملك ثم بعد ذلك روح إلى حال سبيل فإن السلطان قلبه ملآن عليه غيظاً.
فقال مرزوان في نفسه: و**** إن هذا هو المطلوب ثم طلع خلف الوزير إلى أن وصل إلى القصر، ثم جلس الوزير تحت رجلي قمر الزمان وأما مرزوان فإنه لم يكن له دأب إلا أنه مشى حتى وقف قدام قمر الزمان ونظر إليه فمات الوزير في جلده وصار ينظر إلى مرزوان ويغمزه ليروح إلى حال سبيله ومرزوان يتغافل وينظر إلى قمر الزمان وعلم أنه هو المطلوب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرزوان قال: سبحان **** الذي جعل قده مثل قدها ولونه مثل لونها وخده مثل خدها ففتح قمر الزمان عينيه وصغى بأذنيه فلما رآه مرزوان صاغياً إلى ما يلقيه من الكلمات أنشد هذه الأبيات:
أراك طروباً ذا شـجـى وتـرنـم | تميل إلى ذكر المحاسن بـالـفـم | |
أصابك عشق أم رميت بـسـهـم | فما هـذه الأسـيجة مـن رمـي | |
ألا فاسقني كاسات خمر وإن لـي | بذكر سليمى والرباب وتـنـعـم | |
أغار على أعطافها من ثـيابـهـا | إذا لبستها فوق جسـم مـنـعـم | |
وأحسد كاسات تقبـل ثـغـرهـا | إذا وضعت اللـثـم فـي الـفـم | |
فلا تحسبوا أني قتلـت بـصـارم | ولكن لحاظ قد رمتني بـأسـهـم | |
ولما تلاقينـا وجـدت بـنـانـهـا | مخضبة تحكي عصـارة عـنـدم | |
فقالت وألقت في الحـشـا لاعـج | الهوى مقالة من للحب لم يتكـلـم | |
رويدك ما هذا خضاب خضبـتـه | فلاتك بالبهتان والزور متهـمـي | |
ولكننـي لـمـا رأيتـك نـائمـاً | وقد كشفت كفي وزندي ومعصمي | |
بكيت دماً يوم النوى فمسـحـتـه | بكفي فابتلت بنانـي مـن دمـي | |
فلو قبل مبكاه بـكـيت صـبـابة | لكنت شفيت النفس قبل الـتـنـدم | |
ولكن بكت قبلي فهيج لي البـكـا | بكاها فقلت الفضل للـمـتـقـدم | |
فلا تعذلوني في هواهـا لأنـنـي | وحق الهوى فيها كثير الـتـألـم | |
بكيت على زين الحسن وجهـهـا | ليس لها مثـل يعـرب وأعـجـم | |
لها علم لقمـان وصـورة يوسـف | ونـغـمة داود وعـفة مــريم | |
ولي حزن يعقوب وحسرة يونـس | وبـلــوة أيوب وقـــصة آدم | |
فلا تقتلوها إن قلت بـهـا حـوى | بلى فاسألوها كيف حل لها دمـي |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أشار إلى السلطان بيده: دع هذا الشاب يجلس في جانبي، فلما سمع السلطان من ولده قمر الزمان هذا الكلام هذا الكلام فرح فرحاً شديداً، بعد أن غضب على الشاب وأضمر في نفسه أنه يرمي رقبته، ثم قام الملك وأجلس مرزوان إلى جانب ولده وأقبل عليه وقال له: من أي البلاد أنت؟ قال من الجزائر الجوانية من بلاد الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور، والسبعة قصور. فقال له الملك شهرمان: عسى أن يكون الفرج على يديك لولدي قمر الزمان، ثم إن مرزوان أقبل على قمر الزمان وقال له في أذنه: ثبت قلبك وطب نفساً وقر عيناً فإن التي صرت من أجلها هكذا لا تسأل عما هي فيه من أجلك ولكنك كتمت أمرك فضعفت، وأما هي فإنها أظهرت ما بها فجئت وهي الآن مسجونة بأسوأ حال وفي رقبتها غل من حديد وإن شاء **** تعالى يكون دوائكما على يدي.
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام ردت روحه إليه واستفاق وأشار إلى الملك والده أن يجلس ففرح فرحاً زائداً وأجلس ولده، ثم أخرج جميع الوزراء والأمراء واتكأ قمر الزمان بين مخدتين وأمر الملك أن يطيبوا القصر بالزعفران ثم أمر بزينة المدينة وقال لمرزوان: و**** يا ولدي إن هذه طلعة مباركة ثم أكرمه غاية الإكرام وطلب لمرزوان الطعام فقدموا له فأكل وأكل معه قمر الزمان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السلطان شهرمان بات تلك الليلة عندهما من شدة فرحته بشفاء ولده فلما أصبح الصباح صار مرزوان يحدث قمر الزمان بالقصة وقال له: اعلم أنني أعرف التي اجتمعت بها واسمها بدور بنت الملك الغيور، ثم حدثه بما جرى للسيدة بدور من الأول إلى الآخر وأخبره بفرط محبتها له وقال له: جميع ما جرى لك مع والدك جرى لها مع والده وأنت من غير شك حبيبها فثبت قلبك وقوي عزيمتك فها أنا أوصلك إليها وأجمع بينك وبينها وأعمل معكما كما قال بعض الشعراء:
إذا الحبيب صد عن صبـه | ولم يزل في فرط أعراض | |
ألفت وصلاً بين شخصيكما | كأنني مسمار مـقـراض |
و لم يزل مرزوان يشجع قمر الزمان حتى أكل الطعام وشرب الشراب وردت روحه إليه ونقه مما كان فيه ولم يزل مرزوان يحدثه وينادمه ويسليه وينشد له الأشعار حتى دخل الحمام وأمر والده بزينة المدينة فرحاً بذلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان خلع الخلعة وتصدق وأطلق من في الحبوس ثم إن مرزوان قال لقمر الزمان: اعلم أنني ما حئت من عند السيدة بدور إلا لهذا الأمر وهو سبب سفري لأجل أن أخلصها مما هي فيه وما بقي لنا إلا الحيلة في رواحنا إليها لأن والدك لا يسمح لك بالذهاب، ولازم أن تخرج إلى الصيفي البرية ومعك خرجاً ملآناً من المال، واركب جواداً من الخيل وخذ معك جنيباً وأنا الآخر مثلك، وقل لوالدك إني أريد أن أتفرج في البرية وأتصيد وأنظر في الفضاء وأبيت هنا ليلة واحدة فلا تشغل قلبك علي بشيء، ففرح قمر الزمان واستأذنه في الخروج إلى الصيد وقال له الكلام الذي أوصاه به مرزوان فأذن له والده في الخروج إلى الصيد وقال له: لا تبت غير ليلة واحدة وفي غد تحضر فإنك تعلم أنه ما يطيب لي عيش إلا بك وإنني ما صدقت أنك خلصت مما كنت فيه، ثم إن الملك شهرمان أنشد هذين البيتين:
ولو أنني أصبحت في كل نعـمة | وكانت لي الدنيا وملك الأكاسـرة | |
لما وازنت عندي جناح بعـوضة | وإذا لم تكن عيني لشخصك ناظرة |
ثم إن الملك جهز ولده قمر الزمان هو مرزوان وأمر أن يهيأ لهما ستة من الخيل وهجين برسم المال، وجمل يحمل الماء والزاد ومنع قمر الزمان أن يخرج معه أحد في خدمته فودعه أبوه وضمه إلى صدره وقال له: سألتك ب**** لا تغيب عني إلا ليلة واحدة وحرام علي المنا
فيها وأنشد:
وصالك عندي ألذ نـعـيم | وصبري عنك أضر ألـيم | |
فديتك إن كان ذنب الهـوى | إليك فذنبي أجل عـظـيم | |
أعندك مثلي نار الـجـوى | فأصلى بذاك عذاب الجحيم |
ثم خرج قمر الزمان ومرزوان وركبا فرسين ومعهما الهجين والجمل عليه الماء والزاد واستقبلا البر. و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ومرزوان لما استقبلا البر سارا أول يوم إلى المساء ثم نزلا وأكلا وشربا واطهما دوابهما واستراحا ساعة ثم ركبا وما زالا سائرين مدة ثلاثة أيام وفي رابع يوم بان لهما مكان متسع فيه غاب فنزلا فيه ثم أخذ مرزوان جملاً وفرساً وذبحهما وقطع لحمهما قطعاً ونحر عظمهما وأخذ من قمر الزمان قميصه ولباسه وقطعهما ولونهما بدم الفرس وأخذ ملوطة قمر الزمان ومزقها ولوثها بالدم ورماها في مفرق الطريق ثم أكلا وشربا وسافرا فسأله قمر الزمان عما فعله فقال مرزوان: اعلم أم والدك الملك شهرمان إذا غبت عنه ليلة ولم تحضر ثاني ليلة يركب ويسافر في أثرنا إلى أن يصل إلى هذا الدم الذي فعلته ويرى قماشك مقطعاً وعليه الدم فيظن في نفسه أنه جرى لك شيء من قطاع الطريق أو وحش البر فينقطع رجاؤه منك ويرجع إلى المدينة ونبلغ بهذه الحيلة ما نريد، فقال قمر الزمان: نعم ما فعلت ثم سارا أياماً وليالي وكل ذلك وقمر الزمان باكي العين إلى أن استبشر بقرب الديار أنشد هذه الأشعار:
أتجفو محباً مـا سـلا عـنـك سـاعة | وتزهد فيه بعد مـا كـنـت راغـبـا | |
حرمت الرضا إن كنت خنتك في الهوى | وعوقبت بالهجران إن كنـت كـاذبـا | |
وما كان لي ذنب فاستوجب الـجـفـا | وإن كان لي ذنب فقـد جـئت تـائبـا | |
ومن عـجـب الأيام أنـك هـاجـري | وما زالت الأنام تبـدي الـعـجـائبـا |
فلما فرغ قمر الزمان من شعره بانت له جزائر الملك الغيور ففرح قمر الزمان فرحاً شديداً وشكر مرزوان على فعله.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ومرزوان دخلا المدينة وأنزله مرزوان في خان واستراحا ثلاثة أيام من السفر وبعد ذلك دخل قمر الزمان الحمام وألبسه لبس التجار وعمل له تخت رمل من ذهب وعمل له عدة وعمل له اصطرلاباً من الذهب ثم قال له مرزوان: قم يا مولاي وقف تحت قصر الملك وناد: أنا الحاسب الكاتب المنجم فأين الطالب؟ فإن الملك إذا سمعك يرسل خلفك ويدخل بك على ابنته محبوبتك وهي حين تراك يزول ما بها من الجنون ويفرح أبوها بسلامتك ويزوجها بك ويقاسمك في ملكه لأنه شرط على نفسه هذا الشرط، فقبل قمر الزمان ما أشار به مرزوان وخرج من الخان وهو لابس البدلة وأخذ معه العدة التي ذكرناها ومشى إلى أن وقف تحت قصر الملك الغيور ونادى: أنا الكاتب الحاسب المنجم أكتب الكتاب وأحكم الحجاب وأحسب الحساب بأقلام المطالب فأين الطالب؟ فلما سمع أهل المدينة هذا الكلام وكانوا مدة من الزمان ما رأوا حاسباً ولا مترجماً وقفوا حوله وتأملوه فتعجبوا من حسن صورته ورونق سبابة وقالوا له: ب**** عليك يا مولانا لا تفعل بنفسك هذه الفعال طمعاً في زواج بنت الملك الغيور وانظر بعينيك إلى هذه الرؤوس المعلقة فإن أصحابهم كلهم قتلوا من أجل هذا الحال فآل بهم الطمع إلى الوبال، فلم يلتفت قمر الزمان إلى كلامهم بل رفع صوته ونادى: أنا كاتب حاسب أقرب المطالب للطالب فتداخل عليه الناس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان نهته الناس فلم يسمع كلامهم فاغتاظوا جميعاً وقالوا له: ما أنت إلا شاب مكابر أحمق، ارحم شبابك وصغر سنك وحسنك وجمالك، فصاح قمر الزمان وقال: أنا المنجم والحاسب فهل من طالب؟ فبينما الناس تنهى قمر الزمان عن هذه الحالة إذ سمع الملك الغيور الصياح وضجة الناس فقال للوزير: انزل فائتنا بذا المنجم، فنزل الوزير وأخذ قمر الزمان فلما دخل على الملك قبل الأرض بين يديه وأنشد هذين البيتين:
ثمانية في المجد خرت جميعهـا | فلا زال خداماً بهن لك الدهـر | |
يتينك والتقوى ومجدك والـنـدى | ولفظك والمعنى وعزك والنصر |
فلما نظر الملك الغيور إليه أجلسه إلى جانبه وأقبل عليه وقال له: يا ولدي لا تجعل نفشك منجماً ولا تدخل على شرطي فإني ألزمت نفسي أن كل من دخل على بنتي ولم يبرئها مما أصاب بها ضربت عنقه وكل من أبرأها زوجته لها فلا يغرك حسنك وجمالك وقدك واعتدالك و**** و**** إن لم تبرئها لأضربن عنقك، فقال قمر الزمان: قبلت منك هذا الشرط فأشهد عليه الملك الغيور القضاة وسلمه إلى الخدم وقال له: أوصل هذا إلى السيدة بدور فأخذه الخادم من يده ومشى به إلى الدهليز فصار قمر الزمان يسابقه وصار الخادم يقول له: ويلك لا تستعجل على هلاك نفسك فوالله ما رأيت منجماً يستعجل على هلاك نفسه إلا أنت ولكنك لم تعرف أي شيء قدامك على الدواهي فأعرض قمر الزمان بوجهه عن الخادم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أنشد هذه الأبيات:
أنا عارف بصفات حسنك جاهل | متحير لـم أدر مـا أنـا قـائل | |
إن قلت شمساً كأن حسنك لم يغب | عني وعهدي بالشموس أوافـل | |
كملت محاسنك التي في وصفها | عجز البليغ وحار فيها لـقـائل |
ثم إن الخادم أوقف قمر الزمان خلف الستارة التي على الباب فقال له قمر الزمان: أي الحالتين أحب إليك كوني أداوي سيدتك وأبرئها من هنا أو أدخل إليها وأبرئها من داخل الستارة؟ فتعجب الخادم من كلامه وقال له: إن أبرأتها من هنا كان ذلك زيادة في فضلك فعند ذلك جلس قمر الزمان خلف الستارة وأطلع الدواة والقلم وكتب في ورقة هذه الكلمات: من يروح به الجفاء فدواؤه الوفاء والبلاء لمن يئس من حياته وأيقن بحلول وفاته وما لقلبه الحزين من مسعف ولا معين وما لطرفه الساهر على الهم ناصر، فنهاره لهيب وليله تعذيب وقد انبرى جسمه من كثرة النحول ولم يأته من حبيبه ****، ثم كتب هذه الأبيات:
كتبت ولي قلب بذكرك مـولـع | وجفن قريح من دمـائي يدمـع | |
وجسم كساه لاعج الشوق والأسى | قميص نحول فهو فيه مضعضع | |
شكوت الهوى لما أضر بي الهوى | ولم يبق عندي للتصبر موضـع | |
ليك فجودي وارحمي وتعطفـي | فإن فؤادي بالهـوى يتـقـطـع |
ثم كتب تحت الشعر هذه السجعات: شفاء القلوب لقاء المحبوب، من جفاه حبيبه فالله طبيبه، من خان منكم ومنا لاً نال ما يتمنى، ولا أظرف من المحب الوافي إلى الحبيب الجافي، ثم كتب في الإمضاء: من الهائم الولهان العاشق الحيران من أقلقه الشوق والغرام سير الوجد والهيام قمر الزمان ابن الملك شهرمان إلى فريدة الزمان ونخبة الحور الحسان السيدة بدور بنت الملك الغيور، اعلمي أنني في ليلي سهران وفي نهاري حيران زائد النحول والأسقام والعشق والغرام كثير الزفرات غزير العبرات أسير الهوى قتيل الجوى، غريم الغرام، نديم السقام، فأنا السهران الذي لا تهجع مقلته والميتم الذي لا تهجع مقلته والمتي الذي لا ترفأ عبرته، فنار قلبي لا تطفأ ولهيب شوقي لا يخفى، ثم كتب في حاشية الكتاب هذا البيت المستطاب:
سلام من خزائن لطف ربـي | على من عندها روحي وقلبي |
ثم كتب أيضاً:
أرسلت خاتمك الذي أستبـدلـه | يوم التواصل فارسلي لي خاتمي |
وكان وضع خاتم السيدة بدور في طي الكتاب ثناول الكتاب للخادم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما وضع الخاتم في الورقة ناولها للخادم فأخذها ودخل بها إلى السيدة بدور فأختها من يد الخادم وفتحتها فوجدت خاتمها بعينه ثم قرأت الورقة، فلما عرفت المقصود علمت أن معشوقها
قمر الزمان وأنه هو الواقف خلف الستارة فطار عقلها من الفرح واتسع صدرها وانشرح، ومن فرط المسرات أنشدن هذه الأبيات:
ولقد ندمت على تفرق شملنـا | دهرأ وفاض الدمع من أجفاني | |
ونذرت إن عاد الزمان يلمـنـا | لا عدت أذكر فرقة بلسـانـي | |
هجم السرور علي حتـى أنـه | من فرط ما سرني أبكـانـي | |
يا عين صار الدمـع سـجـية | تبكين في فرح وفي أحـزان |
لا أحب السواك من أجل أني | إن ذكرت السواك قلت سواكا | |
وأحب الأراك من أجل أنـي | إن ذكرت الأراك قلت أراك |
ففرح أبوها بسلامتها وقبلها بين عينيها لأنه كان يحبها محبة عظيمة، وأقبل الملك الغيور على قمر الزمان وسأله عن حاله وقال له: من أي البلاد أنت؟ فأخبره قمر الزمان بشأنه وأعلمه أن والده الملك شهرمان، ثم إن قمر الزمان قص عليه القصة من أولها إلى آخرها وأخبره بجميع ما اتفق له مع السيدة بدور وكيف أخذ الخاتم من إصبعها وألبسها خاتمه فتعجب الملك الغيور من ذلك وقال: إن حكايتكما يجب أن تؤرخ في الكتب وتقرأ بعدكما جيلاً بعد جيل، ثم إن الملك الغيور أحضر القضاة والشهود من وقته وكتب كتاب السيدة بدور على قمر الزمان وأمر بتزيين المدينة سبعة أيام، ثم مدوا السماط والأطعمة وزينت المدينة وجميع العساكر وأقبلت البشائر ودخل قمر الزمان على السيدة بدور وفرح بعافيتها وزواجها وحمد **** الذي رماها في حب شاب مليح من أبناء الملوك ثم جلوها عليه وكانا يشبهان بعضهما في الحسن والجمال والظرف والدلال ونام قمر الزمان عندها الليلة وبلغ أربه منها وتمتعت هي بحسنه وجماله وتعانقا إلى الصباح، وفي اليوم الثاني عمل الملك وليمة وجمع أهل الجزائر الجوانية والجزائر البرانية وقدم لهم الأسمطة وامتدت الموائد مدة شهر
كامل، وبعد ذلك تفكر قمر الزمان أباه ورآه في المنام يقول له: يا ولدي أهكذا تفعل معي هذه الفعال وأنشده في المنام هذين البيتين:
لقد راعني بدر الدجى بـصـدوده | ووكل أجفاني برعي كـواكـبـه | |
فيا كبدي مهلاً عـسـاه يعـود لـي | ويا مهجتي صبراً على ما كواك به |
ثم إن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه أصبح حزيناً وأعلم زوجته بذلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه أصبح حزيناً وأخبر السيدة بدور بذلك فدخلت هي وإياه على والدها وأعلماه واستأذناه في السفر فقالت السيدة بدور: يا والدي لا أصبر على فراقه فقال لها والدها: سافري معه وأذن لها بالإقامة معه سنة كاملة وبعد السنة تجيء تزور والدها في كل عام مرة، فقبلت يد أبيها وكذلك قمر الزمان، ثم شرع الملك الغيور في تجهيز ابنته هي وزوجها وهيأ لهما الخيول والهجان وأخرج ابنته وحمل لهما البغال والهجان واخرج لهما ما يحتاجان إليه في السفر.
و في يوم المسير ودع الملك الغيور قمر الزمان وخلع عليه خلعة سنية من الذهب مرصعة بالجواهر وقدم له خزنة مال وأوصاه على ابنته، ثم خرج معهما إلى طرف الجزائر وبعد ذلك ودع قمر الزمان، ثم دخل على ابنته وهي في المحفة وصار يعانقها ويبكي وأنشد هذين البيتين:
يا طالباً للفراق صبـرا | فمنعة العاشق العنـاق | |
مهلاً فطبع الزمان غدر | وآخر العشرة الفـراق |
ثم خرج من عند ابنته وأتى إلى زوجته قمر الزمان فصار يودعه ويقبله ثم فارقهما وعاد إلى جزائره بعسكره بعد أن أمرهما بالرحيل فسار قمر الزمان هو وزوجته السيدة بدور ومن معهم من الأتباع أول يوم والثاني والثالث والرابع ولم يزالوا مسافرين مدو شهر، ثم نزلوا في مرج واسع كثير الكلأ وضربوا خيامهم فيه وأكلوا وشربوا واستراحوا ونامت السيدة بدور فدخل عليها قمر الزمان فوجدها وفوق بدنها قميص مشمشي من الحرير يبين منه كل شيء وفوق رأسها كوفية من الحرير مرصعة بالجواهر وقد رفع الهواء قميصها فطلع فوق سرتها عند نهودها فبان بطنها أبيض من الثلج وكل عكسه من عكس طياته تسع اوقية من دهن البان فزاد بها محبة وهياماً وأنشد هذان
البيتين:
لو قيل لي وزفير الحـر مـتـقـد | والنار في القلب والأحشاء تضطرم | |
أهم تريد وتهوى أن تشـاهـدهـم | أو شربة من زلال الماء قلتهـم |
فحط قمر الزمان يده في تكة لباسها فجذبها وحلها لما اشتهاها خاطره فرأى فصاً أحمر مثل العندم مربوطاً على التكة وعليه أسماء منقوشة سطرين بكتابة لا تقرأ فتعجب قمر الزمان من ذلك الفص وقال في نفسه: لولا أن لهذا الفص أمر عظيم عندها ما ربطته على تكة لباسها وما خبأته في أعز مكان عندها حتى لا تفارقه، فماذا تصنع بهذا السر الذي هو فيه؟ ثم أخذه وخرج من الخيمة ليبصره في النور.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أخذ الفص ليبصره في النور صار يتأمل فيه وإذا بطائر انقض عليه وخطفه من يده وطار به وحط على الأرض، فخاف قمر الزمان على الفص وجرى خلف الطائر، وصار الطائر يجري على قدر جري قمر الزمان خلفه من واد إلى واد ومن تل إلى تل إلى أن دخل الليل وتغلس الظلام فنام الطائر على شجرة عالية فوقف قمر الزمان تحتها وصار باهتاً وقد ضعف من الجوع والتعب وظن أنه هالك، وأراد أن يرجع فما علاف الموضع الذي جاء منه. وهجم الظلام فقال: لا حول ولاقوة إلا ب**** العلي العظيم، ثم نام تحت الشجرة التي فوقها الطائر إلى الصباح ثم انتبه من نومه فوجد الطائر قد انتبه وطار من فوق الشجرة فمشى قمر الزمان خلفه وصار ذلك الطائر يطير قليلاً بقدر مشي قمر الزمان وقال: يا *** العجب أن هذا الطائر كان بالأمس يطير بقدر جريتي وفي هذا اليوم علم اني أصبحت تعباناً لا أقدر على الجري فصار يطير على قدر مشيتي، إن هذا عجيب، ولكن لا بد أن أتبع هذا الطائر فإما أن يقودني إلى حياتي أو مماتي، فأنا أتبعه أينما يتوجه لأنه على كل حال لا يقيم إلا في البلاد العمار.
ثم إن قمر الزمان جعل يمشي تحت الطائر والطائر يبيت في كل ليلة على شجرة ولم يزل متابعه مدة عشرة أيام وقمر الزمان يتقوت من نبات الأرض ويشب من الأنهار. وبعد العشرة أيام أشرف على مدينة عامرة فمر الطائر في تلك المدينة مثل لمح البصر وغاب عن قمر الزمان وقال: الحمد *** الذي سلمني حتى وصلت إلى هذه المدينة، ثم جلس عند الماء وغسل يديه ورجليه ووجهه واستراح ساعة وتذكر ما كان فيه من الراحة، ونظر إلى ما هو فيه من الغربة والجوع والتعب، فأنشد يقول:
أخفيت ما ألقاه منه وقـد ظـهـر | والنوم من عيني تبذل بالـسـهـر | |
ناديت لما أوهنت قلبي الـفـكـر | يا دهر يا دهر لا تبقي علي ولاتذر | |
ها مهجتي بين المشقة والخطـر | ||
لو كان سلطان المحبة منصفي | ما كان نومي من عيوني قد نفـي | |
يا سادتي رفقاً بـصـب مـدنـف | وتعطفوا لعـزيز قـوم ذل فـي | |
شرع الهوى وغني قوم وافتقـر | | |
لج العواذل فيك ما طاوعتهم | وسددت كل مسامعي وعصيتـهـم | |
قالوا عشقت مهفهفاً فأجـبـتـهـم | اخترته من بينهـم وتـركـتـهـم | |
كفوا إذا وقع القضاء عمي البصر |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان دخل باب المدينة وهو لا يعلمأين يتوجه فمشى في المدينة جميعها وقد كان دخل من البر، ولم يزل يمشي إلى أن خرج من باب البحر فلم يقابله أحد من أهلها وكانت مدينة على جانب البحر، ثم إنه بعد أن خرج من باب البحر مشى ولم يزل ماشياً حتى وصل إلى بساتين المدينة وشق بين الأشجار فأتى إلى بستان ووقف على بابه فخرج إليه الخولي ورحب به وقال: الحمد *** الذي أتى بك سالماً من أهل هذه المدينة، فادخل هذا البستان سريعاً قبل أن يراك احد من أهلها.
فعند ذلك دخل قمر الزمان ذلك البستان وهو ذاهل العقل وقال للخولي ما حكاية أهل هذه المدينة وما خبرهم فقال له اعلم أن أهل هذه المدينة كلهم مجوس فبالله عليك كيف وصلت إلى هذا المكان وما سبب دخولك في بلادنا، فعند ذلك أخبره قمر الزمان بجميع ما جرى له فتعجب الخولي من ذلك غاية العجب وقال له: اعلم يا ولدي أن بلاد الإسلام بعيدة من هنا فبيننا وبينها أربعة أشهر في البحر وأما في البر فسنة كاملة وإن عندنا مركباً يقلع وتسافر كل سنة ببضائع إلى أول بلاد الإسلام وتسير من هنا إلى بحر الأبنوس ومنه إلى جزائر خالدات وملكها يقال له السلطان شهرمان.
فعند ذلك تفكر قمر الزمان في نفسه ساعة زمانية وعلم أنه من الأوفق له قعوده في البستان عند الخولي والعمل عنده مرابعاً، فقال للخولي: هل تقبلني عندك مرابعاً في هذا البستان فقال له الخولي سمعاً وطاعة، ثم علمه تحويل الماء بين الأشجار فصار قمر الزمان يحول الماء ويقطع الحشيش بالفأس وألبسه الخولي بشتاً قصيراً أزرق يصل إلى ركبته وصار يسقي الأشجار ويبكي بالدموع الغزار وينشد الأشعار بالليل والنهار في معشوقته بدور فمن جملة ذلك هذه الأبيات:
لنا عندكـم وعـد فـهـلا وفـيتـم | وقلتم لنا قولاً فـهـلا فـعـلـتـم | |
قهرنا على حكم الغـرام ونـمـتـم | ولـيس سـواء سـاهـرون ونـوم | |
وكنا عهدنا أننـا نـكـتـم الـهـوى | فأغراكم الواشـي وقـال قـلـتـم | |
فيا أيها الأحبـاب فـي الـسـخـط | والرضا على كل حال أنتم القصد أنتم | |
ولي عند بعض الناس قلب مـعـذب | فيا ليته يرثـي لـحـالـي ويرحـم | |
وماك ل عين مثل عـينـي قـريحة | ولاكل قلب مثل قـلـبـي مـتـيم | |
ظالمتم وقلتم إنمـا الـحـب ظـالـم | صدقتم كذا كان الحديث صـدقـتـم | |
سلوا مغرماً لا ينقض الدهر عـهـده | ولو كان في أحشائه النار تـضـرم | |
إذا كان خصمي في الصبابة حاكمـي | لمن أشتكي خصمي لمن أتـظـلـم | |
ولولا افتقاري في الهوى وصبابتـي | لما كان لي في العشق قلب مـتـيم |
هذا ما كان من قمر الزمان واما ما كان من أمر زوجته السيدة بدور بنت الملك الغيور فإنها لما استيقظت من نومها طلبت زوجها قمر الزمان فلم تجده ورأت سروالها محلولاً فافتقدت العقد فوجدتها محلولة والفص معدوماً فقالت في نفسها يا للعجب أين معشوقي كأنه أخذ الفص وراح وهو لا يعلم السر الذي هو فيه فيا ترى أين راح ولكن لا بد له من أمر عجيب اقتضى رواحه فإنه لا يقدر أن يفارقني ساعة فلعن **** الفص ولعن ساعته ثم إن السيدة بدور تفكرت وقالت في نفسها إن خرجت إلى الحاشية وأعلمتهم بفقد زوجي يطمعوا في ولكن لا بد من الحيلة.
ثم إنها لبست ثياب قمر الزمان ولبست عمامة كعمامته وضربت لها لثاماً وحطت في محفتها جارية وخرجت من خيمتها وصرخت على الغلمان فقدموا لها الجواد فركبت وأمرت بشد الأحمال فشدوا الأحمال وسافروا وأخفت أمرها لأنها كانت تشبه قمر الزمان فما شك أحد أنها قمر الزمان بعينه وما زالت مسافرة هي وأتباعها أياماً وليالي حتى أشرفت على مدينة مطلة على البحر المالح فنزلت بظاهرها وضربت خيامها في ذلك المكان لأجل الاستراحة ثم سألت عن هذه المدينة فقيل لها هذه مدينة الآبنوس وملكها الملك أرمانوس وله بنت اسمها حياة النفوس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما نزلت بظاهر مدينة الآبنوس لأحل الاستراحة أرسل الملك أرمانوس رسولاً من عنده يكشف له خبر الملك النازل بظاهر المدينة فلما وصل إليهم الرسول سألهم فأخبروه بأن هذا ابن الملك تائه عن الطريق وهو قاصد جزائر خالدات الملك شهرمان فعاد الرسول إلى الملك أرمانوس وأخبره بالخبر فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام نزل هو وأرباب دولته إلى مقابلته فلما قدم على الخيام ترجلت السيدة بدور وترجل الملك أرمانوس وسلما على بعضهما وأخذها ودخل بها إلى مدينته وطلع بها إلى قصره وأمر بمد السماط وموائد الأطعمة وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة فقامت هناك ثلاثة أيام وبعد ذلك أقبل الملك أرمانوس على السيدة بدور وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام وأسفرت عن وجه كأنه البدر عند التمام فافتتن بها العالم وتهتكت بها الخلق عند رؤيتها.
فعند ذلك أقبل الملك أرمانوس عليها وهي لابسة حلة من الحرير مطرزة بالذهب المرصع بالجواهر وقال لها يا ولدي اعلم أني بقيت شيخاً هرماً وعمري ما رزقت ولداً غير بنت وهي على شكلك وقدك في الحسن والجمال وعجزت عن الملك فهل لك يا ولدي أن تقيم بأرضي وتسكن بلادي وأزوجك ابنتي وأعطيك مملكتي.
فأطرقت السيدة بدور رأسها وعرق جبينها من الحياء وقالت في نفسها كيف يكون العمل وأنا امرأة فإن خالفت أمره وسرت ربما يرسل خلفي جيشاً يقتلني وإن أطلعته على أمري ربما أفتضح وقد فقدت محبوبي قمر الزمان ولم أعرف له خبر وما لي خلاص إلا أن أجيبه إلى قصده وأقيم عنده حتى يقضي **** أمراً كان مفعولاً ثم إن السيدة بدور رفعت رأسها وأذعنت للملك بالسمع والطاعة ففرح الملك بذلك وأمر المنادي أن ينادي في جزائر الآبنوس بالفرح والزينة وجمع الحجاب والنواب والأمراء وأرباب دولته وقضاة مدينته وعزل نفسه عن الملك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الملك أرمانوس لما عزل نفسه من الملك سلطن السيدة بدور وألبسها بدلة الملك ودخلت الأمراء جميعاً على السيدة بدور وهم لا يشكون في أنها شاب وصار كل نظر إليهم منهم جميعاً يبل سراويله لفرط حسنها وجمالها فلما تسلطنت الملكة بدور ودقت لها البشائر بالسرور شرع الملك أرمانوس في تجهيز ابنته حياة النفوس وبعد أيام قلائل أدخلوا السيدة بدور على حياة النفوس فكانتا كأنهما بدران اجتمعا أو شمسان في وقت طلعا فردوا عليهما الأبواب وأرخوا الستائر بعد بعد أن أوقدوا لهما الشموع وفرشوا لهما الفرش فعند ذلك جلست السيدة بدور مع السيدة حياة النفوس فتذكرت محبوبها قمر الزمان واشتدت بها الأحزان فسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
يا راحلين وقلـبـي زائد الـقـلـق | لم يبق بينكم في الجسم مـن رمـق | |
قد كان لي مقلة تشكو السهـاد وقـد | أذابها الدمع يا ليت السهـاد بـقـي | |
لما رحلتم أقام الـضـب بـعـدكـم | ولكن سلوا عنه ماذا في البعاد لقـي | |
لولا جفوني وقد فاضت مدامـعـنـا | توقدت عرصات الأرض من حرقي | |
أشكو إلى **** أحبابـاً عـدمـتـهـم | لم يرحموا صبوتي فيهم ولا قلـقـي | |
لا ذنب لي عندهم إلا الغرام بـهـم | والناس بين سعيد في الهوى وشقـي |
هذا ما كان من أمر حياة النفوس وأبويها، وأما ما كان من أمر الملكة بدور فإنها خرجت وجلست على كرسي المملكة وطلع إليها الأمراء وأرباب وجميع الرؤساء والجيوش وهنأوها بالملك وقبلوا الأرض بين يديها ودعوا لها بدوام الملك وهم يعتقدون أنها رجل، ثم أنها أمرت ونهت وحكمت وعدلت وأطلقت من الحبوس وأبطلت المكوس ولم تزل قاعدة في مجلس الحكومة إلى أن دخل الليل ثم دخلت المكان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور لما دخلت المكان المعد لها وجدت السيدة حياة النفوس جالسة فجلست بجانبها وطقطقت على ظهرها ولاطفتها وقبلتها بين عينيها وأنشدت هذه الأبيات:
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح | ||
أخفي الهوى ويذيعه ألم الـنـوى | حالي على الواشين ليست خافـية | |
يا راحلين عن الحمى خـلـفـتـم | جسمي بكم مضنى ونفسي بالـيه | |
وسكنتم غور الحشا فـنـواظـري | تجري مدامعها وعـينـي دامـية | |
وأنا فداء الغائبين بـمـهـجـتـي | أبداً وأشـواقـي إلـيهـم بـاديه | |
لي مقلة مقروحة فـي حـبـهـم | جفت الكرى ودموعها متـوالـيه | |
ظن العدا من عـلـيه تـجـلـداً | هيهات ما أذني إلـيهـم واعـيه | |
خابت ظنونـهـم لـدي وإنـمـا | قمر الزمان بـه أنـال أمـانـيه | |
جمع الفضائل ما حواها قـبـلـه | أحد سواه في العصور الخـالـيه | |
أنسى الأنام بـجـوده وبـعـفـوه | كرم بن زائدة وحلـم مـعـاوية | |
لولا الإطالة والقريض مقـصـر | عن حصر حسنك لم أدع من قافيه |
ثم إن الملكة بدور نهضت قائمة على أقدامها ومسحت دموعها وتوضأت وصلت ولم تزل تصلي إلى أن غلب النوم على السيدة حياة النفوس فنامت فجاءت الملكة الملكة بدور ورقدت بجانبها إلى الصباح ثم قامت وصلت الصبح وجلست على كرسي المملكة وأمرت ونهت وحكمت وعدلت. هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر الملك أرمانوس فإنه دخل على ابنته وسألها عن حاله فأخبرته بجميع ما جرى لها وأنشدته الشعر الذي قالته الملكة بدور وقالت: يا أبي ما رأيت أحداً أكثر عقلاً وحياءً من زوجي غير أنه يبكي ويتنهد، فقال لها أبوها: يا ابنتي اصبري فما بقي له غير هذه الليلة الثالثة فإن لم يدخل بك ويزل بكارتك يكون لنا معه رأي وتدبير وأخلصه من الملك وأنفيه من بلادنا، فاتفق مع ابنته على هذا الكلام وأضمر الرأي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أقبل الليل قامت الملكة بدور من دست المملكة إلى القصر ودخلت المكان الذي هو معد لها فرأت الشمع موقداً والسيدة جالسة فتذكرت وزوجها وما جرى بينهما في تلك المدة اليسيرة ووالت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
قسماً لقد ملأت أحاديثي الـفـضـا | كالشمس مشرقة على ذات الغضى | |
نطقت إشارته فأشكل فـهـمـهـا | فلذاك شوقي في المزيد وانقضـى | |
أبغضت حسن الصبر مذ أحببـتـم | أرأيت صبراً في الصبابة مبغضـا | |
وممرض اللحظات صال بفتكـهـا | واللحظ أقتل ما يكون ممـرضـا | |
ألقـى ذوائبـه وحـط لـثـامـه | فرأيت منه الحسن أسود أبـيضـا | |
سقمي وبـرئي فـي يديه وإنـمـا | يشفي سقام الحب من قد أمرضـا | |
هام الوشاح برقة فـي خـصـره | والردف من حسد أبى أن ينهضـا |
لما فرغت من إنشادها أرادت أن تقوم إلى الصلاة وإذا بحياة النفوس تعلقت بذيلها وقالت لها: أما تستحي من والدي وما فعل معك من الجميل وأنت تتركني إلى هذا الوقت، فلما سمعت منها ذلك جلست في مكانها وقالت لها يا حبيبتي ما الذي تقولينه؟ قالت: الذي أقوله إني ما رأيت أحداً معجباً بنفسه مثلك فهل كل من كان مليحاً يعجب بنفسه هكذا، ولكن أنا ما قلت هذا الكلام لأجل أن أرغبك في وإنما قلته خفية عليك من الملك أرمانوس فإنه أضمر إن لم تدخل بي في هذه الليلة وتزيل بكارتي أنه ينزعك من المملكة في غد ويسفرك من بلاده يزداد به الغيظ فيقتلك وأنا يا سيدي رحمتك ونصحتك والرأي رأيك. فلما سمعت الملكة بدور منها ذلك الكلام أطرقت برأسها إلى الأرض وتحيرت في أمرها، ثم قالت في نفسها إن خالفته هلكت وإن أطلعته افتضحت ولكن أنا في هذه الساعة ملكة على جزائر الأبنوس كلها وهي تحت حكمي وما أجتمع أنا وقمر الزمان إلا في هذا المكان لأنه ليس له طريق إلى بلاده إلا من جزائر الأبنوس، وقد فوضت أمري إلى **** فهو نعم المدبر.
ثم إن الملكة بدور قالت لحياة النفوس يا حبيبتي إن تركي لك وامتناعي عنك بالرغم عني، وحكت لها ما جرى من المبتدأ إلى المنتهى وأرتها نفسها وقالت لها: سألتك ب**** أن تخفي أمري وتكتمي سري حتى يجمعني **** بمحبوبي قمر الزمان ز بعد ذلك يكون ما يكون.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما أعلمت حياة النفوس بقصتها وأمرتها بالكتمان تعجبت من ذلك غاية العجب ورقت لهل ودعت لها بجمع شملها على محبوبها قمر الزمان وقالت يا أختي لا تخافي ولا تفزعي واصبري إلى أن يقضي **** أمراً كان مفعولاً، ثم إن حياة النفوس أنشدت هذين البيتين:
السر عندي في بيت له غلـق | قد ضاع مفتاحه والبيت مختوم | |
ما يكتم السر إلا كل ذي ثـقة | والسر عند خيا الناس مكتـوم |
فلما فرغت من شعرها قالت يا أختي إن صدور الأحرار قبور الأسرار وأنا لا أفشي لك سراً ثم لعبتا وتعانقتا ونامتا إلى قريب الآذان ثم قامت حياة النفوس وأخذت دجاجة وذبحتها وتلطخت بدمها وقلعت سراويله وصرخت فدخل لها أهلها وزغردت الجواري ودخلت عليها أمها وسألتها عن حالها وأقامت عندها إلى المساء، وأما الملكة بدور فإنها لما أصبحت قامت وذهبت إلى الحمام واغتسلت وصلت الصبح ثم توجهت إلى مجلس الحكومة وجلست على كرسي المملكة وحكمت بين الناس، فلما سمع الملك أرمانوس الزغاريد سأل عن الخبر فأخبروه بافتضاض بكارة ابنته ففرح بذلك واتسع صدره وانشرح وأولم اللائم ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان، هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر الملك شهرمان فإنه بعد خروج ولده إلى الصيد والقنص هو ومرزوان كما تقدم صبر حتى أقبل عليه الليل فلم يجيء ولده فتحير عقله ولم ينم تلك الليلة وقلق غاية القلق وزاد وجده واحترق وما صدق أن الفجر انشق حتى أصبح ينتظر ولده إلى نصف النهار فلم يجيء فأحس بقلبه بالفراق والتهب على ولده من الإشفاق ثم بكى حتى بل ثيابه وأنشد من قلب مصدوع:
ما زلت معترضاً على أهل الهوى | حتى بليت بحـلـوه وبـمـره | |
وشربت كأس مراره متجـرعـاً | وذللت فيه لعـبـده ولـحـره | |
نذر الزمان بأن يفرق شمـلـنـا | والآن قد أوفى الزمان بـنـذره |
فلما فرغ من شعره مسح دموعه ونادى في عسكره بالرحيل والحث على السفر الطويل فركب الجيش جميعه وخرج السلطان وهو محترق القلب على ولده قمر الزمان وقلبه بالحزن ملآن ثم فرق جيشه يميناً وشمالاً وأماماً وخلف ست فرق وقال لهم الاجتماع غداً عند مفرق الطريق فتفرقت الجيوش والعسكر كما ذكرنا وسلفرت الخيول ولم يزالوا مسافرين بقية النهار إلى أن جن الليل فساروا جميع الليل إلى نصف النهار حتى وصلوا إلى مفرق طرق فلم يعرفوا أي طريق سلكها ثم رأوا أثر أقمشة مقطعة ورأوا اللحم مقطعاً ونظروا أثر الدم باقياً وشاهدوا كل قطعة من الثياب واللحم في ناحية فلما رأى الملك شهرمان ذلك صرخ صرخة عظيمة من صميم القلب وقال واولداه ولطم على وجهه ونتف لحيته ومزق أثوابه وأيقن بموت ولده وزاد في البكاء والنحيب وبكت لبكائه العساكر وكلهم أيقنوا بهلاك قمر الزمان وحثوا على رؤوسهم التراب ودخل عليهم الليل وهم في بكاء ونحيب حنى أشرفوا على الهلاك واحترق قلب الملك بلهيب الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
لا تعذلوا المحزون في أحزانه | فلقد جفاه الوجد من أشجانـه | |
يبكي لفرط تأسف وتـوجـع | وغرامه ينبيك عن نـيرانـه | |
يا سعد من لمتيم حلف الضنى | أن لا يزيل الدمع من أجفانه | |
يبدي الغرام لفقد بدر زاهـر | بضيائه يزهو على أقرانـه | |
ولقد سقاه الموت كأساً مترعاً | يوم الرحيل فشط عن أوطانه |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان أيقن بهلاك ولده وعلم أنه عدا عليه وافترسه وحش وإما قاطع طريق ثم نادى في جزائر خالدات أن يلبسوا السواد من الأحزان على ولده قمر الزمان وعمل له بيتاً وسماه بيت الأحزان وسار كل يوم خميس واثنين يحكم في مملكته بين عسكره ورعيته وبقية الجمعة يدخل بيت الأحزان وينعي ولده ويرثيه بالأشعار فمن ذلك قوله:
فيوم الأماني يوم قربكم منـي | ويوم المنايا يوم إعراضكم عني | |
إذا بت مرعوباً أهدد بالـردى | فوصلكم عندي ألذ من الأمـن |
ومن ذلك قوله:
نفس الفداء لظاعنين رحيلـه | أنكى وأفسد في القلوب وعاثا | |
فليقض عدته السرور فإننـي | طلقت بعدهم النعيم ثـلاثـا |
هذا ما كان من أمر الملكة بدور. وأما ما كان من أمر قمر الزمان فإنه لم يزل مقيماً عند الخولي في البستان مدة من الزمان وهو يبكي بالليل والنهار ويتحسر وينشد الأشعار على أوقات الهنا والسرور والخولي يقول: في آخر السنة تسير المراكب إلى بلاد المسلمين، ولم يزل قمر الزمان على تلك الحالة إلى أن رأى الناس مجتمعين على بعضهم فتعجب من ذلك، فدخل عليه الخولي وقال له: يا ولدي أبطل الشغل في هذا اليوم ولا تحول الماء على الأشجار أن هذا اليوم عيد والناس فيه يزور بعضهم بعضاً فاسترح واجعل بالك إلى الغيط، فإني أريد أن أبصر لك مركباً فما بقي إلا القليل وأرسلك إلى بلاد المسلمين، ثم إن الخولي خرج من البستان وبقي قمر الزمان وحده فانكسر خاطره وجرت دموعه ولم يزل يبكي حتى غشي عليه.
فلما أفاق قام يتمشى في البستان وهو متفكر فيما فعل به الزمان وطول البعد والهجران وعقله ولهان فعثر ووقع على وجهه فجاءت جبهته على حجر شجرة فجرى دمه واختلط بدموعه فمسح دمه ونشف دموعه وشد جبهته بخرقة وقام يتمشى في ذلك البستان وهو ذاهل العقل فنظر بعينه إلى شجرة فوقها طائران يتخاصمان فقلب أحدهما الآخر ونقره في عنقه فخلص رقبته من جثته ثم أخذ رأسه وطار به ووقع المقتول في الأرض قدام قمر الزمان.
فبينما هو كذلك إذا بطائرين كبيرين قد انقضا عليه ووقف واحد منهما عند رأسه والأخر عند ذنبه وأرخيا أجنحتهما عليه ومدا أعناقهما إليه وبكيا فبكى قمر الزمان على فراق زوجته حين رأى الطائرين يبكيان على صاحبهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قمر الزمان بكى على فراق زوجته لما رأى الطائران يبكيان على صاحبهما ثم إن قمر الزمان رأى الطائرين حفرا حفرة ودفنا الطائر المقتول فيها وطارا إلى الجو وغابا ساعة، ثم عادا ومعهما الطائر القاتل فنزلا به على قبر المقتول وبركا على القاتل حتى قتلاه وشقا جوفه وأخرجا أمعائه وأراقا دمه على قبر الطائر المقتول، ثم نثرا لحمه ومزقا جلده وأخرجا ما في جوفه وفرقا إلى أماكن متفرقة هذا كله جرى وقمر الزمان ينظر ويتعجب فحانت منه التفاتة إلى الموضع الذي قتلا فيه الطائر فوجد فيه شيئاً يلمع فدنا منه فوجده حوصلة الطائر فأخذها وفتحها فوجد فيها الفص الذي كان سبب فراقه من زوجته. فلما رآه وعرفه وقع على الأرض مغشياً عليه من فرحه فلما أفاق قال في نفسه هذا علامة الخير وبشارة الإجتماع ثم تامله ومر به على عينه وربطه على ذراعه واستبشر بالخير وقام لينظر الخولي ولم يزل يفتش عليه إلى الليل فلم يأت فبات قمر الزمان في موضعه إلى الصباح.
ثم أفاق إلى شغله وشد وسطه بحبل من الليف وأخذ الفأس والقفة وشق في البستان فأتى إلى شجرة خروب وضرب الفأس في جذرها فطنت الضربة فكشف التراب فوجده طابقاً ففتحه،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما فتح ذلك الطابق وجد باباً فنزل فيه فلقي قاعة قديمة من عهد ثمود وعاد وتلك القاعة واسعة وهي مملوءة ذهباً أحمر فقال في نفسه لقد ذهب التعب وجاء الفرح والسرور، ثم إن قمر الزمان طلع من المكان إلى ظاهر البستان ورد الطابق كما كان، ورجع إلى البستان وإلى تحويل الماء على الأشجار، ولم يزل كذلك إلى آخر النهار فجاء الخولي وقال يا ولدي أبشر برجوعك إلى الأوطان فإن التجار تجهزوا للسفر والمراكب بعد ثلاثة أيام مسافرة إلى مدينة من مدائن المسلمين، فإذا وصلت إليها تسافر في البر ستة أشهر حتى تصل جزائر خالدات، والملك شهرمان ففرح قمر الزمان بذلك ثم قبل يد الخولي وقال له يا والدي كما بشرتني فأنا أبشرك بشارة وأخبره بأمر القاعة ففرح الخولي وقال يا ولدي أنا في هذا البستان صار لي مدة ثمانون عاماً لم أجد شيء وأنت لك عندي دون السنة ووجدت هذا الكنز فهو رزقك وسبب زوال عكسك، ومعين لك على وصولك إلى أهلك واجتماع شملك بمن تحب. فقال قمر الزمان: لا بد من المقاسمة بيني وبينك، ثم أخذ الخولي ودخل في تلك القاعة وأراه الذهب وكان في عشرين خابية فأخذ عشرة والخولي عشرة.
فقال له: يا ولدي عب لك أمطار من الزيتون العصافيري الذي في هذا البستان فإنه معدوم في غير بلادنا وتحمله التجار إلى جميع البلاد واحمل الذهب في الأمطار والزيتون فوق الذهب، ثم سدها وخذها في المركب، فقام قمر الزمان م وقته وساعته وعبأ خمسين مطراً ووضع الذهب فيها، وسد عليه بعد أن جعل الزيتون فوق الذهب وحط الفص معه في مطر، وجلس هو والخولي يتحدثان وأيقن بجمع شمله وقربه من أهله وقال في نفسه إذا وصلت إلى جزيرة الأبنوس أسافر منها إلى بلاد أبي وأسأل عن محبوبتي بدور فيا ترى رجعت إلى بلادها أو سافرت إلى بلاد أبي أو حدث لها حادث في الطريق ثم جلس قمر الزمان ينتظر انقضاء الأيام وحكى للخولي حكاية الطيور وما وقع بينهما.
فتعجب الخولي من ذلك ثم ناما إلى الصباح فأصبح الخولي ضعيفاً، واستمر على ضعفه يومين وفي ثالث يوم اشتد به الضعف حتى يئسوا من حياته فحزن قمر الزمان على الخولي، فبينما هو كذلك إذا بالريس والبحرية قد أقبلوا وسألوا عن الخولي فأخبرهم بضعفه فقالوا أين الشاب الذي يريد السفر معنا إلى جزيرة الآبنوس فقال لهم قمر الزمان هو المملوك الذي بين أيديكم ثم أمرهم بتحويل الأمطار إلى المركب فنقلوها إلى المركب، وقالوا لقمر الزمان أسرع فإن الريح قد طاب.
فقال لهم سمعاً وطاعة ثم نقل زوادته إلى المركب، ورجع إلى الخولي يودعه فوجده في النزاع الأخير، فجلس عند رأسه حتى مات وغمضه وجهزه ووراه في التراب ثم توجه إلى المركب فوجدها أرخت القلوع وسارت ولم تزل تشق البحر حتى غابت عن عينه فصار قمر الزمان مدهوشاً حيران ثم رجع إلى البستان وهو مهموم مغموم وحثا التراب على رأسه،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان رجع إل البستان وهو مهموم مغموم بعد أن سافرت المركب واستأجر البستان من صاحبه، وأقام تحت يده رجلاً يعاونه على سقي الشجر وتوجه إلى الطابق ونزل إلى القاعة وعبأ الذهب الباقي في خمسين مطراً ووضع فوقه الزيتون عن المركب وسأل عن المركب فقالوا إنها لا تسافر إلا في كل سنة مرة واحدة فزاد به الوسواس وتحسر على ما جرى له لا سيما فقد الفص الذي للسيدة بدور فصار يبكي بالليل والنهار وينشد الأشعار، هذا ما كان من أمر قمر الزمان.
وأما ما كان من أمر المركب فإنه طاب لها الريح ووصلت إلى جزيرة الأبنوس واتفق بالأمر المقدور أن الملكة بدور كانت جالسة في الشباك فنظرت إلى المركب وقد رست في الساحل فخفق فؤادها وركبت هي والأمراء والحجاب وتوجهت إلى الساحل ووقفت على المركب وقد دار النقل في البضائع إلى المخازن فأحضرت الريس وسألته عما معه. فقال: أيها الملك إن معي في هذه المركب من العقاقير والسفوفات والأكحال والمراهم والأدهان والأموال والأقمشة الفاخرة والبضائع النفيسة ما يعجز عن حمله الجمال والبغال وفيها من أصناف العطر والبهار من العود القاقلي والتمر الهندي والزيتون العصافيري ما يندر وجوده في هذه البلاد فاشتهت نفسها الزيتون، وقالت لصاحب المركب ما مقدار الذي معك من الزيتون؟ قال معي خمسون مطراً ملآنة، ولكن صاحبها ما حضر معنا والملك يأخذ ما اشتهاه منها، فقالت: أطلعوها في البر لأنظر إليها فصاح الريس على البحرية فطلعوا الخمسين مطراً وأعطيكم ثمنها مهما كان.
فقال الريس: هذا ما له في بلادنا قيمة ولكن صاحبها تأخر عنا وهو رجل فقير الحال، قالت: وما مقدار ثمنها، قال: ألف درهم، قالت: آخذها بألف دينار، ثم أمرت بنقلها إلى القصر، فلما جاء الليل أمرت بإحضار مطر فكشفته وما في البيت غيرها هي وحياة النفوس فحطت بين يديها طبقاً ووضعت فيه شيئاً من المطر فنزل في الطبق كوم من الذهب الأحمر، فقالت للسيدة حياة النفوس: ما هذا إلا ذهب، ثم اختبرت الجميع فوجدتها كلها ذهباً والزيتون كله ما يملأ مطراً واحداً وفتشت في الذهب فوجدت الفص فيه فأخذته وتأملته فوجدته الفص الذي كان في تكة لباسها وأخذه قمر الزمان، فلما تحققته صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور لما رأت الفص صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها، فلما افاقت قالت في نفسها إن هذا الفص كان سبباً في فراق محبوبي قمر الزمان ولكنه بشير الخير ثم أعلمت السيدة حياة النفوس بأن وجود بشارة الاجتماع، فلما أصبح الصباح جلست على كرسي المملكة وأحضرت ريس المركب، فلما حضر قبل الأرض بين يديها فقالت: أين خليتم صاحب هذا الزيتون؟ فقال: يا ملك الزمان تركناه في بلاد المجوس وهو خولي بستان، فقالت له: إن لم تأت به فلا تعلم ما يجري عليك وعلى مركبك من الضرر، ثم أمرت بالختم على مخازن التجار وقالت لهم إن صاحب هذا الزيتون غريمي ولي عليه *** وإن لم يأت لأقتلنكم جميعاً وأنهب تجارتكم، فأقبلوا على الريس ووعدوه بأجرة مركبه ويرجع ثاني مرة وقالوا خلصنا من هذا الغاشم، فنزل الريس في المركب وحل قلوعها وكتب **** له السلامة حتى دخل الجزيرة في الليل وطلع إلى البستان وكان قمر الزمان قد طال عليه الليل وتذكر محبوبته فقعد يبكي على ما جرى له وهو في البستان ثم إن الريس دق الباب على قمر الزمان ففتح الباب وخرج إليه فحمله البحرية ونزلوا به إلى المركب وحلوا القلوع فيافروا وساروا ولم يزالوا سائرين أياماً وليالي وقمر الزمان لا يعلم ما موجب ذلك فسألهم عن السبب. فقالوا له: أنت غريم الملك صاحب جزائر الآبنوس صهر الملك أرمانوس وقد سرقت ماله يا منجوس، فقال: و**** عمري ما دخلت هذه البلاد ولا أعرفها، ثم إنهم ساروا به حتى أشرفوا على جزائر الأبنوس وطلعوا به على السيدة بدور، فلما رأته عرفته قالت: دعوه عند الخدام ليدخلوا به الجمام وأفرجت عن التجار وخلعت على الريس خلعة تساوي عشرة آلاف دينار ودخلت على السيدة حياة النفوس واعلمتها بذلك، وقالت لها اكتمي الخبر حتى أبلغ مرادي وأعمل عملاً يؤرخ ويقرأ بعدنا على الملوك والرعايا وقد أمرت أن يدخلوا بقمر الزمان الخمام فدخلوا به وألبسوه لبس الملوك ولما طلع قمر الزمان من الحمام كأنه غصن بان أو كوكب يخجل بطلعته القمران وردت روحه إليه ودخل القصر. فلما نظرته صبرت قلبها حتى يتم مرادها وأنعمت عليه بمماليك وخدم وجمال وبغال وأعطته خزانة مال ولم تزل ترقي قمر الزمان من درجة إلى درجة حتى جعلته خازندار وسلمت إليه الأموال وأقبلت عليه وقربته منها وأعلمت الأمراء بمنزلته فأحبوه جميعهم وصارت الملكة بدور كل يوم تزيد له في المرتبات وقمر الزمان لا يعرف سبب تعظيمها له ومن كثرة الأموال صار يهب ويتكرم ويخدم الملك أرمانوس حتى أحبه وكذلك أجبته الأمراء والخواء والعوام وصاروا يحلفون بحياته، كل ذلك وقمر الزمان يتعجب من تعظيم الملكة بدور له ويقول في نفسه و**** إن هذه المحبة لا بد لها من سبب وربما يكون هذا الملك إنما يكرمني هذا الإكرام الزائد لأجل غرض فاسد فلا بد أن أستأذنه وأسافر من بلاده.
ثم إنه توجه إلى الملكة بدور وقال لها: أيها الملك إنك أكرمتني إكراماً زائداً، ومن تمام الإكرام أن تأذن لي بالسفر وآخذ معي جميع ما انعمت علي، فتبسمت الملكة بدور وقالت له: ما حملك على طلب الأسفار واقتحام الأخطار وأنت في غاية الإكرام ومزيد الأنعام؟ فقال لها قمر الزمان: أيها الملك السعيد إن هذا الإكرام إذا لم يكن له سبب فإنه أعجب العجب خصوصاً وقد أوليتني من المراتب ما استحق أن يكون للشيوخ الكبار مع إنني من الأطفال الصغار، فقالت له الملكة بدور: سبب ذلك أني أحبك لفرط جمالك الفائق وبديع حسنك الرائق وإن أمكنتني مما أريد منك أزيدك إكراماً وعطاء وإنعاماً وأجعلك وزيراً على صغر سنك كما جعلني الناس سلطاناً عليهم وانا في هذا السن ولا عجب اليوم في رئاسة الأطفال ولله در من قال:
كأن زماننا من قوم لوط | له شغف تقديم الصغار |
ذاكرته عهد الوصال فقال لي | كم ذا تطيل من الكلام المؤلم | |
فأريته الدينار أنـشـد قـائلاً | أين المفر من القضاء المبرم | |
عضوي كبير والصغير يقول لي | اطعن به الأحشا وكن صنـديدا | |
فأجبته ذا لا يجوز فقـال لـي | عندي يجوز فنكتـه تـقـلـيدا |
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام تبدل الضياء في وجهه بالظلام وقال: أيها الملك إنه يوجد عندك من النساء والجواري الحسان ولا يوجد له نظير في هذا الزمان فهلا استغنيت بذلك عني فمل إلى ما شئت منهن ودعني فقالت: إن كلامك صحيح ولكن لا يشتفي بهن من عشقك، ألم ولا تبريح وإذا فسدت المزجة والطبيعة فهي لغير النصح سميعة فاترك الجدال واسمع قول من قال:
أما ترى السوق قد صفت فواكهه | للتين قوم وللـجـمـيز أقـوام |
ويقول آخر:
وصامتة الخلخال رن وشـاحـهـا | فهذا قد استغنى وذا يشتكي الفقرا | |
تريد السلوى عنك جهلاً بحسنـهـا | وما كنت أرضى بعد إيماني الكفرا | |
وحق عذار بزردي بقفـاصـهـا | لما خدعتني عنك غـانـية عـذرا |
يا فريد الجمال حـبـك دينـي | واختياري على جميع المذاهب | |
قد تركت النساء لأجلك حتـى | زعم الناس أنني اليوم راهـب |
ويقول الآخر:
سلا خاطري عن زينـب ونـوار | بوردة خـده فـوق أس عـذار | ||||
وأصبحت بالظبي المفرطق مغرما | ولا رأى لي في عشق ذات سوار | ||||
أنيسي في النادي وفي خلوتي معـا | خلاف أنيسي فـي قـرارة داري | ||||
فيا لائمي في هجر هند وزينـب | وقد لاح عذري كالمصباح الساري | ||||
أترضى بأن أمسي أسـير أسـيرة | محـصـنة أو مـن وراء جـدار | ||||
جادت بفرج نـاعـم | فقلت إني لـم أنـك | |
فانصـرفـت قـائلة | يؤفك عنك من أفك | |
النيل من قـدام فـي | هذا الزمان قد ترك | |
ودورت لي فـقـحة | مثل اللجين المنسك | |
أحسنت يا سـيدتـي | أحسنت لا فجعت بك | |
أحسنت يا أوسع مـن | فتوح مولانا الملـك |
يستغفر الناس بـأيديهـم | وهن يستغفرن بالأرجل | |
فيا له من عمل صالـح | يرفعه **** إلى أسفـل |
توهم فينا الناس شيئاً وصممت | عليه نفوس منهم وقـلـوب | |
تعالى نحقق ظنهم لنريحهـم | من الإثم فينا مرة ونـتـوب |
ثم أعطته المواثيق والعهود وحلفت له بواجب الوجود أنه لا يقع بينها وبينه هذا الفعل إلا مرة في الزمان وإن ألجأهما غرامه إلى الموت والخسران فقام معها على هذا الشرط إلى محل خلوتها لتطفئ نيران لوعتها، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم، ثم حل سراويله وهو في غاية الخجل وعيونه تسيل من شدة الوجل فتبسمت وأطلعته معها على السرير وقالت له: لا ترى بعد هذه الليلة من نكير ومالت عليه بالتقبيل والعناق والتفاف ساق على ساق، ثم قالت له: مد يدك بين فخذي إلى المعهود لعله ينتصب إلى القيام من السجود فبكى وقال: أنا لا أحسن شيئاً من ذلك، فقالت: بحياتي تفعل ما أمرتك به مما هناك، فمد يده وفؤاده زفير فوجدها ألين من الزبد وأنعم من الحرير فاستلذ وجال بيده في جميع الجهات حتى وصل إلى قبة كثيرة البركات والحركات، وقال في نفسه: لعل هذا الملك خنثى وليس بذكر ولا أنثى، ثم قال: أيها الملك إني لم أجد لك آلة مثل آلات الرجال فما حملك على هذه الفعال؟ فضحكت الملكة بدور حتى استلقت على قفاها، وقالت: يا حبيبي ما أسرع من نسيت ليالي بتتناها وعرفته بنفسها فعرف أنها زوجته الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور فاحتضنها واحتضنته وقبلها وقبلته، ثم اضجعن على فراش الوصال، وتناشدت أقوال من قال:
لما دعته إلى وصالي عـطـفة | من معتطف بتعطف متواصي | |
وسقت قساوة قلبها من لينـهـا | فأجاب بعد ممنع وتعـاصـي | |
خشي العواذل أن تـراه إذا بـدا | قاسى بعدة آمـن الإرهـاص | |
شكت القصور رواد فاقد حملت | أقدامه في المشي حمـل قـلاً | |
متفل الصمصام من ألحـاظـه | ومن الدجى متضرعا بـلاً | |
وشذاء بشرني بسعـد قـدومـه | ففرت مثل الطير من أقفاصي | |
وفرشت حدي في الطريق لنعله | فشفي بأثمد تربها أرمـاصـي | |
وعقدت ألوية الوصال معانـقـاً | وفككت عقدة حظي المتعاصي | |
وأقمت أفراحاً أجاب نـداءهـا | طرب صفاً عن شائب الأنغاص | |
والبدر نقط بالنجوم الثغـر مـن | حبب على وجه الطلا رقـاص | |
وعكفت في محراب لذاتها على | ما من تعاطيه يتوب العاصـي | |
قسماً بآيات الضحى من وجهـه | إلى أنس فيه سورة الإخـلاص |
ثم إن الملكة بدور أخبرت قمر الزمان بجميع ما جرى لها من الأول إلى الآخر وكذلك هو أخبرها بجميع ما جرى له وبعد ذلك انتقل معها إلى العتاب وقال لها: ما حملك على ما فعلته بي في هذه الليلة؟ فقالت: لا تؤاخذني كان قصدي المزاح ومؤيد البسط والانشراح، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح أرسلت الملكة بدور إلى الملك أرمانوس والد الملكة حيا النفوس وأخبرته بحقيقة أمرها وأنها زوجة قمر الزمان وأخبرته بقصتهما وبسبب افتراقهما من بعضهما وأعلمته أن ابنته حياة النفوس بكر على حالها.
فلما سمع الملك أرمانوس صاحب جزائر الآبنوس قصة الملكة بدور بنت الملك الغيور وتعجب منها غاية العجب وأمر أن يكتبوها بماء الذهب، ثم التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا ابن الملك هل لك أن تصاهرني وتتزوج ابنتي حياة النفوس؟ فقال له: حتى أشاور الملكة بدور فإن لها علي فضلاً غير محصور، فلما شاورها قالت له: نعم الرأي هذا فتزوجها وأكون أنا لها جارية لأن لها معروفاً وإحساناً وخيراً وامتناناً وخصوصاً ونحن في محلها وقد غمرنا إحسان أبيها، فلما رأى قمر الزمان أن الملكة بدور مائلة إلى ذلك ولم يكن عندها غيرة من حياة النفوس اتفق معها على هذا الأمر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان اتفق مع زوجته الملكة بدور على هذا الأمر وأخبر الملك أرمانوس بما قالتها لملكة بدور من أنه تحب ذلك وتكون جارية حياة النفوس، فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام من قمر الزمان فرح فرحاً شديداً ثم خرج وجلس على كرسي مملكته وأحضر جميع الوزراء والأمراء والحجاب وأرباب الدولة وأخبرهم بقصة قمر الزمان وزوجته الملكة بدور من الأول إلى الآخر وأنه يريد أن يزوج ابنته حياة النفوس إلى قمر الزمان ويجعله سلطاناً عليهم عوضاً عن زوجته الملكة بدور، فقالوا جميعاً حيث كان قمر الزمان هو زوج الملكة بدور التي كانت سلطاناً علينا قبله ونحن نظن أنها صهر ملكنا أرمانوس فكلنا نرضاه سلطاناً علينا ونكون له خدماً ولا نخرج عن طاعته، ففرح الملك أرمانوس فرحاً شديداً ثم أحضر القضاة والشهود ورؤساء الدولة وعقد قمر الزمان على ابنته الملكة حياة النفوس، ثم إنه أقام الأفراح وأولم اللائم الفاخرة وخلع الخلع السنية على جميع الأمراء والمساكين وأطلق جميع المحابيس واستبشر العالم بسلطنة الملك قمر الزمان وصاروا يدعون له بدوام العز والإقبال والسعادة والإجلال.
ثم إن قمر الزمان لما صار سلطاناً أزال المكوس وأطلق من في الحبوس وسار فيهم سيرة حميدة وأقام مع زوجته في هناء وسرور ووفاء وحبور يبيت عند كل واحدة منهما ليلة، ولم يزل على ذلك مدة من الزمان وقد انجلت عنه الهموم والأحزان ونسي أباه الملك شهرمان وما كان له من عز وسلطان حتى رزقه **** من زوجتيه بولدين ذكرين مثل القمرين النيرين أكبرهما من الملكة بدور وكان اسمه الملك الأمجد وو أصغرهما من الملكة حياة النفوس وكان اسمه الملك الأسعد أجمل من أخيه الأمجد، ثم إنهما تربيا في العز والدلال والأدب والكمال وتعلما العلم والسياسة والفروسية حتى صارا في غاية الكمال ونهاية الحسن والجمال وافتتن بهما النساء والجال وصار لهما من العمر نحو سبعة عشر عاماً وهما متلازمان فيأكلان ويشربان سواء ولا يفترقان عن بعضهما ساعة من الساعات ولا وقتاً من الأوقات وجميع الناس تحسدهما على ذلك.
و لما بلغا مبلغ الرجال واتصفا بالكمال صار أبوهما إذا سافر يجلسهما على التعاقب في مجلس الحكم فيحكم كل واحد منهما بين الناس، واتفق بالقدر المبرم أن والقضاء المحتم أن محبة الأسعد الذي هو ابن حياة النفوس وقعت في قلب الملكة بدور زوجة أبيه وأن محبة الأمجد الذي هو ابن الملكة بدور وقعت في قلب حياة النفوس زوجة أبيه فصارت كل واحدة من المرأتين تلاعب ابن ضرتها وتقبله وتضمه إلى صدرها وإذا رأت ذلك أمه تظن أنه من الشفقة ومحبة الأمهات لأولادهن، وتمكن العشق من قلوب المرأتين وافتتنا بالولدين فصارت كل واحدة منهن إذا دخل عليها ابن ضرتها تضمه إلى صدرها وتود انه لا يفارقها، وطال عليهما المطال ولم يجدا سبيلاً إلى الوصال والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضع الحكم كل واحد منهما يوماً على عادته. و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك توجه إلى الصيد والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضعه للحكم كل واحد يوماً على عادتهما فجلس للحكم في اليوم الأول الأمجد ابن الملكة بدور فأمر ونهى وولى وعزل وأعطى ومنع فكتبت له الملكة حياة النفوس أم الأسعد مكتوباً تستعطفه فيه وتوضح له أنها متعلقة به ومتعشقة فيه وتكشف له الغطاء وتعلمه أنها تريد وصاله فأخت ورقة وكتبت فيها هذه السجعات: من المسكينة العاشقة الحزينة المفارقة التي ضاع بحبك شبابها وطال فيك عذابها ولو وصفت لك طول الأسف وما أقاسيه من اللهف وما بقلبي من الشغف وما أنا فيه من البكاء والأنين وتقطع القلب الحزين وتوالي الغموم وتتابع الهموم وما أجده من الفراق والكآبة والإحتراق أطال شرحه في الكتاب وعجزت عن حصره الا لحساب وقد ضاقت علي الأرض والسماء ولا لي في غيرك أمل ولا رجاء فقد أشرفت على الموت وكابدت أهوال القوت وزاد بي الاحتراق وألم الهجر والفراق ولو وصفت ما عندي من الأشواق لفاقت عنه الوراق ثم بعد ذلك كتبت هذين البيتين:
لو كنت أشرح ما ألقها من حـرق | ومن سقام ومن وجد ومن قـلـق | |
لم يبق في الأرض قرطاس ولا قلم | ولا مداد ولا شـيء مـن الـورق |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنها أعطت ورقة المواصلة للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد فسار ذلك الخادم وهو لا يعلم ما خفي له في الغيب وعلام الغيوب يدبر الأمور كيف يشاء فلما دخل الخادم على الملك الأمجد قبل الأرض بين يديه وناوله المنديل وبلغه الرسالة فتناول الملك الأمجد المنديل من الخادم وفتحه فرأى الورقة ففتحها وقرأها فلما فهم معناها علم أن امرأة أبيه في عينها الخيانة وقد خانت أباه الملك قمر الزمان في نفسها فغضب غضباً شديداً وذم النساء على فعلهن وقال: لعن **** النساء الخائنات الناقصات عقلاً وديناً. ثم إنه جرد سيفه وقال للخادم: ويلك يا عبد السوء أتحمل الرسالة المشتملة على الخيانة من زوجة سيدك و**** أنه لا خير فيك يا أسود اللون والصحيفة يا قبيح المنظر والطبيعة السخيفة ثم ضربه بالسيف في عنقه فعزل رأسه عن جثته وطوى المنديل على ما فيه ووضعه في جيبه ثم دخل على أمه وأعلمها بما جرى وسبها وشتمها وقال: كلكن أنجس من بعضكن و**** العظيم لولا أني أخاف إساءة الأدب في حق والدي قمر الزمان وأخي الملك الأسعد لأدخلن وأضربن عنقها كما ضربت عنق خادمها ثم إنه خرج من عند الملكة بدور وهو في غاية الغيظ.
فلما بلغ الملكة حياة النفوس زوجة أبيه ما فعل بخادمها سبته ودعن عليه وأضمرت له المكر فبات الملك الأمجد في تلك الليلة ضعيفاً من الغيظ والقهر والفكر ولم يهنأ له أكل ولا منام فلما أصبح الصباح خرج أخوه الملك الأسعد وجلس في مجلس أبيه الملك قمر الزمان ليحكم بين الناس وأصبحت أمه ضعيفة بسبب ما سمعته عن الملك الأمجد من قتله للخادم ثم إن الملك الأسعد لما جلس للحكم في ذلك اليوم حكم وعدل وولى وعزل وأمر ونهى وأعطى ووهب ولم يزل جالساً في مجلس الحكم إلى قرب العصر ثم إن الملكة بدور أم الملك الأمجد أرسلت إلى عجوز من العجائز الماكرات وأظهرتها على ما في قلبها وأخذت ورقة لتكتب فيها مراسلة للملك الأسعد ابن زوجها وتشكو إليه من كثرة محبتها ووجدها به. فكتبت له هذه السجعات: ممن تلفت وجداً وشوقاً، إلى أحسن الناس خلق وخلقاً المعجب بجماله التائه التائه بدلاله المعرض عن طلب وصاله الزاهد في القرب ممن خضع وذل إلى من جفا ومل الملك الأسعد صاحب الحسن الفائق والجمال الرائق والوجه الأقمر والجبين الأزهر والضياء الأبهر هذا كتابي إلى من حبه أذاب جسمي ومزق جلدي وعظمي، اعلم أنه قد عيل صبري وتحيرت أمري وأقلقني الشوق والبعاد وأجفاني الصبر والرقاد ولازمني الحزن والسهاد وبرح بي الوجد والغرام وحلول الضنى والسقام فالروح تفديك وإن كان قتل الصب يرضيك و**** يبقيك ومن كل سوء يقيك، ثم بعد تلك السجعات كتبت هذه الأبيات:
حكم الزمان بأننـي عـاشـق | يا من محاسنه كبدر يشـرق | |
حزت الفصاحة والملاحة كلها | وعليك من دون البرية رونق | |
ولقد رضيت بأن تكون معذبي | فعسى علي بنظرة تتصـدق | |
من مات فيك صبابة فله الهنا | لا خير فيمن لا يحب ويعشق |
ثم كتبت أيضاً هذه الأبيات:
إليك أسعد أشكو من لهـيب جـوى | فارحم متيمة بالشوق تـلـتـهـب | |
إلى متى وأيادي الوجد تلعـب بـي | والعشق والفكر والتسهيد والنصـب | |
طوراً ببحر وطوراً أشتكي لهـبـاً | في مهجتي إن ذا يا من منيت عجـب | |
يا لائمي خل لومي والتمس هربـاً | من الهوى فدموع العين تنسـكـب | |
كم صحت وجداً من الهجران واحربا | فلم يفدني بذاك الـويل والـحـرب | |
أمرضتني بصدود لست أحـمـلـه | أنت الطبيب فاسعفني بمـا يجـب | |
يا عاذلي كف عن عذلي مـحـاذرة | كيلا يصيبك من داء الهوى عطـب |
ثم إن الملكة بدور ضمخت ورقة الرسالة بالمسك الأذفر ولفتها في جدائل شعرها وهي من الحرير العراقي وشراريبها من قضبان الزمرد الأخضر مرصعة بالدر والجوهر، ثم سلمتها إلى العجوز وأمرتها أن تعطيها للملك الأسعد ابن زوجها الملك قمر الزمان، فراحت العجوز من أجل خاطرها ودخلت على الملك الأسعد من وقتها وساعتها وكان في خلوة عند دخولها فناولته الورقة بما فيها وقد وقفت ساعة زمانية تنتظر رد الجواب فعند ذلك قرأ الملك الأسعد الورقة وفهم ما فيها ثم بعد ذلك لف الورقة في الجدائل ووضعها في جيبه وغضب غضباً شديداً ما عليه من مزيد ولعن النساء الخائنات ثم إنه نهض وسحب السيف من غمده وضرب رقبة العجوز فعزل رأسها عن جثتها وبعد ذلك قام وتمشى حتى دخل على أمه حياة النفوس فوجدها راقدة في الفراش ضعيفة بسبب ما جرى لها من الملك الأمجد فشتمها الملك الأسعد ولعنها ثم خرج من عندها فاجتمع بأخيه الملك الأمجد وحكى له جميع ما جرى له من امه الملكة بدور وأخبره أنه قتل العجوز التي جاءت له بالرسالة، ثم قال له: و**** يا أخي لولا حيائي منك لكنت دخلت في هذه الساعة وقطعت رأسها من بين كتفيها، فقال له الملك الأمجد: و**** يا أخي أنه قد جرى لي بالأمس لما جلست على كرسي المملكة مثل ما جرى لك في هذا اليوم فإن أمك أرسلت لي رسالة بمثل مضمون هذا الكلام، ثم أخبره بجميع ما جرى له مع أمه الملكة حياة النفوس وقال له: يا أخي لولا حيائي منك لدخلت إليها وفعلت بها ما فعلت بالخادم، ثم إنهما باتا يتحدثان بقية تلك الليلة ويلعنان النساء الخائنات ثم تواصيا بكتمان هذا الأمر لئلا يسمع به أبوهما قمر الزمان فيقتل المرأتين ولم يزالا في غم تلك الليلة إلى الصباح. فلما أصبح الصباح أقبل الملك بجيشه من الصيد وطلع إلى قصره ثم صرف الأمراء إلى حال سبيلهم وقام ودخل القصر فوجد زوجتيه راقدتين على الفراش وهما في غاية الضعف، وقد عملتا لولديهما مكيدة واتفقتا على تضييع أرواحهن لأنهن فضحن أنفسهن معهما وقد خشين أن يصيرا تحت ذلتهما فلما رآهما الملك على تلك الحالة، قال لهن: ما لكن؟ فقامتا إليه وقبلتا يديه وعكستا عليه المسألة وقالتا له: اعلم أيها الملك إن ولديك اللذين تربيا في نعمتك قد خاناك في زوجتيك وأركباك العار. فلما سمع الملك قمر الزمان من نسائه هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتاظ غيظاً شديداً حتى طار عقله من شدة الغيظ وقال لنسائه: أوضحا لي هذه القضية؟ فقالت له الملكة بدور: اعلم يا ملك الزمان أن ولدك الأسعد ابن حياة النفوس له مدة في الأيام وهو يراسلني ويكاتبني ويراودني عن الزنا وأنا أنهاه عن ذلك فلم ينته فلما سافرت أنت هجم علي وهو سكران والسيف في يده فخفت أن يقتلني إذا مانعته كما قتل خادمي فقضى أربه مني غصباً وإن لم تخلص حقي منه أيها الملك قتلت نفسي بيدي وليس لي حاجة بالحياة في الدنيا بعد هذا الفعل القبيح وأخبرته حياة النفوس أيضاً بمثل ما أخبرته به ضرتها بدور.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حياة النفوس أخبرت زوجها الملك قمر الزمان بمثل ما أخبرته به الملكة بدور وقالت له: أنا الأخرى جرى لي مع ولدك الأمجد كذلك ثم إنها أخذت في البكاء والنحيب وقالت له: إن لم تخلص لي حقي منه أعلمت أبي الملك أرمانوس بذلك ثم إن المرأتين بكتا قدام زوجهما الملك قمر الزمان بكاءً شديداً، فلما سمع كلامهما اعتقد أنه حق فغضب غضباً شديداً ما له من مزيد فقام وأراد أن يهجم على أولاده الاثنين ليقتلهما فلقيه عمه الملك أرمانوس وقد كان داخلاً في تلك الساعة ليسلم عليه لما علم أنه قد أتى من الصيد فرآه والسيف مشهور في يده والدم يقطر من مناخيره من شدة غيظه فسأله عما به فأخبره بجميع ما جرى من ولديه الأمجد والأسعد، ثم قال له: وها أنا داخل إليهما لأقتلهما أقبح قتلة وأمثل بهما أقبح مثلة. فقال له الملك أرمانوس وقد اغتاظ منهما أيضاً ونعم ما تفعل يا ولدي فلا بارك **** فيهما ولا في أولاد تفعل هذه الفعال في حق أبيهما ولكن يا ولدي صاحب المثل يقول: من لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب وهما ولداك على كل حال وينبغي أن تقتلهما بيدك، فتجرع غصتهما وتندم بعد ذلك على قتلهما حيث لا ينفعك الندم ولكن أرسلها مع أحد المماليك ليقتلهما في البرية وهما غائبان عن عينيك. فلما سمع الملك قمر الزمان من عمه الملك أرمانوس هذا الكلام رآه صواباً فأغمد سيفه ورجع وجلس على سرير مملكته ودعا خازنداره وكان شيخاً كبيراً عارفاً بالأمور وثبات الدهور وقال له: أدخل إلي ولدي الأمجد والأسعد وكتفها كتافاً جيداً واجعلهما في صندوقين واحملهما على بغل واركب أنت واخرج بهما إلى وسط البرية واذبحهما واملأ لي قنينتين من دمهما وائتني بهما عاجلاً، فقال له الخازندار: سمعاً وطاعة، ثم نهض من وقته وساعته وتوجه إلى الأمجد والأسعد فصادفهما في الطريق، وهما خارجان في دهليز القصر وقد لبسا قماشهما وأفخر ثيابهما، وأرادا التوجه إلى والدهما الملك قمر الزمان ليسلما عليه ويهنآه بالسلامة عند قدومه من السفر إلى الصيد، فلما رآهما الخازندار قبض عليهما، وقال لهما: يا ولدي اعلما أن عبد مأمور وإن أباكما أمرني بأمر فهل أنتما طائعان لأمره، فقالا: نعم، فعند ذلك تقدم إليهما الخازندار وكتفهما ووضعهما في صندوقين وحملهما على ظهر بغل وخرج بهما من المدينة ولم يزل سائراً بهما في البرية إلى قريب الظهر فأنزلهما في مكان أقفر موحش ونزل عن فرسه وحط الصندوقين عن ظهر البغل وفتحهما وأخرج الأمجد والأسعد منهما. فلما نظر إليهما بكى بكاءً شديداً على حسنهما وجمالهما وبعد ذلك جرد سيفه وقال لهما: و**** يا سيدي إنه يعز علي أن أفعل بكما فعلاً قبيحاً ولكن أنا معذور في هذه الأمور لأنني عبد مأمور وقد أمرني والدكما الملك قمر الزمان بضرب رقابكما فقالا له: أيها الأمير افعل ما أمرك به الملك فنحن صابرون على ما قدره **** عز وجل علينا وأنت في حل من دمنا، ثم إنهما تعانقا وودعا بعضهما وقال الأسعد للخازن دار: ب**** عليك يا عم أنك لا تجرعني غصة أخي ولا تسقني حسرته بل اقتلني أنا قبله ليكون ذلك أهون علي، وقال الأمجد للخازن دار مثل ما قاله الأسعد، واستعطف الخازندار أن يقتله قبل أخيه وقال له: إن أخي أصغر مني فلا تذقني لوعته ثم بكى كل منهما بكاءً شديداً ما عليه من مزيد وبكى الخازندار لبكائهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار بكى لبكائهما، ثم إن الأخوين تعانقا وودعا بعضهما، وقال أحدهما للآخر إن هذا كله من كيد الخائنتين أمي وأمك وهذا ما جرى مني في حق أمك وجزاء ما جرى منك في حق أمي، ولا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم، إنا *** وإنا إليه لراجعون، ثم إن الأسعد اعتنق أخاه وصعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
يا من إليه المشتكى والمـفـزع | أنت المعد لكل مـا يتـوقـع | |
ما لي سوى قرعي لبابك حـيلة | ولئن وددت فأي بـاب أقـرع | |
يا من خزائن فضله في قول كن | أمنن فإن الخير عندك أجمـع |
فلما سمع الأمجد بكاء أخيه بكى وضمه إلى صدره وأنشد هذين البيتين:
يا من أياديه عندي غير واحدة | ومن مواهبه تنمو من العدد | |
ما نابني من زماني قط نائبة | إلا وجدتك فيها آخذا بـيدي |
ثم قال الأمجد للخازن دار: سألتك بالواحد القهار الملك الستار أن تقتلني قبل أخي الأسعد لعل نار قلبي تخمد ولا تدعها تتوقد، فبكى الأسعد وقال: ما يقتل قبل إلا أنا، فقال الأمجد: الرأي أن تعتنقني وأعتقنك حتى ينزل السيف علينا فيقتلنا دفعة واحدة، فلما اعتنقا الاثنان وجهاً لوجه التزما ببعضهما، وشدهما الخازندار وربطهما بالحبال وهو يبكي، ثم جرد سيفه وقال: و**** يا سيدي أنه يعز علي قتلكما فهل لكما من حاجة فأقضيها أو وصية فأنفذها أو رسالة فأبلغها؟ فقال الأمجد: ما لنا حاجة، وأما من جهة الوصية فإني أوصيك أن تجعل أخي الأسعد من تحت وأنا من فوق لأجل أن تقع علي الضربة أولاً فإذا فرغت من قتلنا ووصلت إلى الملك وقال لك: ما سمعت منهما قبل موتهما فقل له: إن ولديك يقرآنك السلام ويقولان لك أنك لا تعلم هل هما بريئان أو مذنبان وقد قتلتهما وما تحققت منهما وما نظرت في حالهم ثم أنشد هذين البيتين:
إن النساء شياطين خلقن لـنـا | نعوذ ب**** من كيد الشياطـين | |
فهن أصل البليات التي ظهرت | بين البرية في الدنيا وفي الدين |
ثم قال الأمجد: ما نريد منك إلا أن تبلغه هذين البيتين،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة السابعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد قال للخازن دار: ما نريد منك أن تبلغه إلا هذين البيتين اللذين سمعتهما وأسألك ب**** أن تطول بالك علينا حتى أنشد لأخي هذين البيتين الأخرين ثم بكى بكاءً شديداً وجعل يقول:
في الـذاهـبـين الأولـين | من الملوك لنا بـصـائر | |
كم قد مضى في ذا الطريق | من الأكابر والأصـاغـر |
الدهر يفجع بعد العـين بـالأثـر | فما البكاء على الأشباح والصـور | |
فما الليالي أقال **** عـثـرتـنـا | من الليالي وخانتهـا يد الـغـدر | |
فقد أضمرت كيدها لابن الزبير وما | رعت ليأذنه بالبيت والـحـجـر | |
وليتها إذ ندت عمـراً بـخـارجة | فدت علياً بمن شاءت من البشـر |
ثم خضب خده بدمعه المرار وأنشد هذه الأشعار:
إن الليالي والأيام قد طـبـعـت | على الخداع وفيها المكر والحيل | |
سراب كل نياب عندهـا شـئت | وهول كل ظلال عندها كحـل | |
ذبني إلى الدهر فليكره سجيتـه | ذنب الحسام إذ ما أحجم البطـل |
يا طالب الدنيا الـدنـيا إنـهـا | شرك الردى أو قرارة الاكدار | |
دار متى أضحكت في يومهـا | أبكت غداً تباً لـهـا مـن دار | |
غاراته لا تنقضي وأسـيرهـا | لا يفتدي بجلائل الأخـطـار | |
كم مزده بغروره حتـى غـدا | متفردا متجاوز الـمـقـدار |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار وقد التهب فؤاده وما زال يجري خلفه ليمسكه حتى دخل في غابة فدخل وراءه في تلك الغابة فشق الجواد في وسط الغابة ودق الأرض برجليه، فعلا الغبار وارتفع وثار فأما الفرس فإنه شخر ونخر وصهل وزمجر وكان في تلك الغابة أسد عظيم الخطر قبيح المنظر عيونه ترمي بالشرر له وجه عبوس وشكل يهول النفوس فالتفت الخازندار فرأى الأسد قاصداً إليه فلم يجد له مهرباً من يديه ولم يكن معه سيف فقال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم ما حصل لي هذا الضيق إلا بذنب الأمجد والأسعد وإن هذا السفرة مشؤومة من أوله، ثم إن الأمجد والأسعد قد حمي عليهما الحر فعطشا عطشاً شديداً، حتى نزلت ألسنتهما واستغاثا من العطش فلم يغثهما أحد، فقالا: يا ليتنا كنا قتلنا واسترحنا من هذا ولكن ما ندري أين جفل الحصان حتى ذهب الخازندار وراءه وخلانا مكتفين فلو جاءنا وقتلنا كان أريح لنا من مقاساة هذا العذاب. فقال الأسعد: يا أخي اصبر فسوف يأتينا فرج **** سبحانه وتعالى ن فإن الحصان ما جفل إلا لأجل لطف **** بنا وما ضرنا غير هذا العطش ثم هز نفسه وتحرك يميناً وشمالاً فانحل كتافه فقام وحل كتاف أخيه ثم أخذ سيف الخازندار وقال لأخيه: و**** لا تبرح من هذا حتى نكشف خبره ونعرف ما جرى له وشرعا يقتفيان الأثر فدلهما على الغابة فقالا لبعضهما: إن الحصان والخازن دار ما تجاوزا هذه الغابة. فقال الأسعد لأخيه: قف هنا حتى أدخل الغابة وأنظرها، فقال الأمجد: ما اخليك تدخل فيها وحدك وما ندخل إلا جميعنا فإن سلمنا سلمنا سواء وإن عطبنا عطبنا سواء، فدخل الاثنان فوجدا الأسد قد هاجم الخازندار وهو تحته كانه عصفور ولكنه صار يبتهل إلى **** ويشير إلى نحو السماء فلما رآه الأمجد أخذ السيف وهجم على الأسد وضربه بالسيف بين عينيه فقتله ووقع مطروحاً على الأرض فنهض الخازندار وهو متعجب من هذا الأمر فرأى الأمجد والأسعد ولدي سيده واقفين فترامى على أقدامهما وقال لهما: و**** يا سيدي ما يصلح أن أفرط فيكما بقتلكما فلا كان من يقتلكما فبروحي أفديكما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار قال للأمجد والأسعد: بروحي أفديكما ثم نهض من وقته وساعته وأعتقهما وسألهما عن سبب فك وثاقهما وقدومهما فأخبراه أنهم عطشا وانحل الوثاق من أحدهما ففك الآخر بسبب خلوص نيتهما ثم إنهما اقتفيا الأثر حتى وصلا إليه، فلما سمع كلامهما شكرهما على ما فعلهما وخرج معهما إلى ظاهر الغابة، فقالا له: يا عم افعل ما امرك به أبونا. فقال: حاشا *** أن أصيبكما بضرر ولكن اعلما أني أريد أن أنزع ثيابكما وألبسكما ثيابي وأملأ قنينتين من دم الأسد ثم أروح إلى الملك وأقول له: إني قتلتهما، وأما أنتما فسيحا في البلاد وأرض **** واسعة واعلما يا سيدي أن فراقكما يعز علي، ثم بكى كل من الخازندار والغلامين وخلعا ثيابهما وألبسهما ثيابه وراح إلى الملك ود أخذ ذلك وربط قماش كل واحد منهما في بقجة معه وملأ القنينتين من دم الأسد وجعل البقجتين قدامه على ظهر الجواد ثم ودعهما وسار متوجهاً إلى المدينة. ولم يزل سائراً حتى دخل على الملك وقبل الأرض بين يديه فرآه الملك متغير الوجه وذلك مما جرى له من الأسد فظن أن ذلك من قتل أولاده ففرح وقال له: هل قضيت على الشغل؟ قال: نعم يا مولانا، ثم ناوله البقجتين اللتين فيهما الثياب والقنينتين الممتلئتين بالدم فقال له الملك: ماذا رأيت منهما وهل أوصياك بشيء؟ قال: وجدتهما صابرين محتسبين لما نزل بهما وقد قالا لي: إن أبانا معذور فاقرئه منا السلام وقل له: أنت في حل من قتلنا ومن دمائنا ولكن نوصيك أن تبلغه هذين البيتين وهما:
إن النساء شياطين خلقن لـنـا | نعوذ ب**** من كيد الشياطـين | |
فهن أصل البليات التي ظهرت | بين البرية في الدنيا وفي الدين |
فلما سمع الملك من الخازندار هذا الكلام أطرق رأسه إلى الأرض ملياً وعلم أن كلام ولديه يدل على أنهما قد قتلا ظلماً ثم تفكر في مكر النساء ودواهيهن وأخذ النقجتين وفتحهما وصار يقلب ثياب أولاده ويبكي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قمر الزمان لما فتح البقجتين صار يقلب ثياب أولاده وبكى فلما فتح ثياب ولده الأسعد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته بدور ومعها جدائل شعرها ففتح الورقة وقرأها وفهم معناها فعل أن ولده الأسعد مظلوم ولما قلب ثياب الأمجد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته حياة النفوس وفيها جدائل شعرها ففتح الورقة وقرأها فعلم أنه مظلوم فدق يداً على يد وقال: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم قد قتلت أولادي ظلماً،ثم صار يلطم على وجهه ويقول: واولداه.. واطول حزناه، وأمر ببناء قبرين في بيت الأحزان وكتب على القبرين اسمي ولديه وترامى على قبر الأمجد وبكى وأن واشتكى وانشد هذه الأبيات:
يا قمر قد غاب تحت الثـرى | بكت عليه الأنجم الزاهـرة | ||||
يا قضياً لـم يمـس بـعـده | معاطف للأعين النـاظـرة | ||||
منعت عينيي عنك من غيرتي | علـيك لا أراك لـلآخـرة | ||||
وأغرقت بالسهد في دمها | وإنني من ذاك بالعاهرة | ||||
قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى | لكن الـلـه أراد غـير الـردى | |
سودت ما بين الفضاء وناظـري | ومحوت من عيني كـل سـواد | |
لا ينفذ الدمع الذي أبـكـي بـه | إن الـفـؤاد لـه مـن الأمـداد | |
أعز علي بأن أراك بمـرضـع | متشابـه الأوغـاد والأمـجـاد |
و لما فرغ من شعره هجر الأحباب والخلان وانقطع في البيت الذي سماه بيت الأحباب وصار يبكي على أولاده وقد هجر نسائه وأصحابه وأصدقائه. هذاما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الأمجد والأسعد فإنهما لم يزالا سائران في البرية وهما يأكلان من نبات الأرض ويشربان من متحصلات الأمطار مدة شهر كامل حتى انتهى بهما المسير إلى جبل من الصوان الأسود لا يعلم أين منتهاه والطريق افترقت عند ذلك الجبل طريقين، طريق تشقه من وسطه وطريق ساعده إلى أعلاه فسلكا الطريق التي في أعلى الجبل واستمرا سائران خمسة أيام فلم يرله منتهى وقد حصل لهما الإعياء من التعب وليسا معتادين على المشي في جبل ولا في غيره ولما يئسا من الوصول إلى منتهاه رجعا وسلكا الطريق التي في وسط الجبل.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد والأسعد ولدي قمر الزمان لم عادا من الطريق الصاعدة في الجبل إلى الطريق المسلوكة في وسطه مشيا طول النهار إلى الليل وقد تعب الأسعد من كثرة السير فقال له لأخيه: يا أخي أنا ما بقيت أقدر على المشي فإني ضعفت جداً، فقل له الأمجد: يا أخي شد حيلك لعل **** يفرج عنا، ثم إنهما مشيا ساعة من الليل وقد تعب الأسعد تعباً شديداً ما عليه من مزيد وقال: يا أخي إني تعبت وكليت من المشي، ثم وقع في الأرض وبكى فخمله أخوه الأمجد ومشى به وصار ساعة يمشي وساعة يستريح إلى أن لاح الفجر حتى استراح أخوه فطلع هو وإياه فوق الجبل فوجد عيناً نابعة يجري منها الماء وعندها شجرة رمان ومحراب فما قصدا أنهما يريان ذلك، ثم جلسا عند تلك العين وشربا من مائها وأكلا من رمان تلك الشجرة وناما في ذلك الموضع حتى طلعت الشمس ثم جلسا واغتسلا من العين وأكلا من الرمان الذي في الشجرة وناما إلى العصر وأرادا أن يسيرا فما قدر الأسعد على السير وقد ورمت رجلاه فأقاما هناك ثلاثة أيام حتى استراحا، ثم سارا في الجبل مدة أيام وهما سائران فوق الجبل وقد تعبا من العطش إلى أن لاحت لهما مدينة من بعيد ففرحا وسارا حتى وصلا إليها.
فلما قربا منها شكرا **** تعالى وقال الأمجد للأسعد: يا أخي اجلس هنا وأنا أسير إلى هذه المدينة وأنظر ما شأنها وأسأل عن أحوالها لأجل أن نعرف أين نحن من أرض **** الواسعة ونعرف الذي قطعناه من البلاد في عرض هذا الجبل ولو أننا مشينا في وسطه ما كنا نصل إلى هذه المدينة في سنة كاملة، فالحمد *** على السلامة، فقال له الأسعد: و**** يا أخي ما يذهب إلى المدينة غيري وأنا فداؤك، فإنك إن تركتني ونزلت وغبت عني تستغرقني الأفكار من أجلك وليس لي قدرة على بعدك عني، فقال له الأمجد: توجه ولا تبطئ، فنزل السعد من الجبل وأخذ معه دنانير وخلى أخاه ينتظره وسار ماشياً إلى أسفل الجبل حتى دخل المدينة وشق في أزقتها فلقيه رجل كبير طاعن في السن وقد نزلت لحيته على صدره وافترقت فرقتين وبيده عكاز وعليه ثياب فاخرة وعلى رأسه عمامة كبيرة حمراء، فلما رآه الأسعد تعجب من لبسه وهيئته وتقدم إليه وسلم عليه وقال له: أين طريق السوق يا سيدي؟ فلما سمع الشيخ كلامه تبسم في وجهه وقال له: يا ولدي كأنك غريب؟ فقال له الأسعد: نعم أنا غريب يا عم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الذي لقي الأسعد تبسم في وجهه وقال له: يا ولدي كأنك غريب؟ فقال له الأسعد: نعم غريب، فقال له الشيخ: قد آنست ديارنا وأوحشت ديار أهلك فما الذي تريده من السوق؟ فقال الأسعد: يا عم إن لي أخاً تركته في الجبل ونحن مسافران من بلاد بعيدة ولنا في السفر مدة ثلاثة شهور وقد أشرفنا على هذه المدينة فجئت إلى هنا لأشتري طعاماً وأعود به إلى أخي لأجل أن نقتات به، فقال الشيخ له: يا ولدي أبشر بكل خير واعلم أنني عملت وليمة وعندي ضيوف كثيرة وجمعت فيها من أطيب الطعام وأحسنه ما تشتهيه النفوس فهل لك أن تسير معي إلى مكاني فأعطيك ما تريد ولا آخذ منك ثمناً وأخبرك بأحوال هذه المدينة والحمد *** يا ولدي حيث وقعت بك ولم يقع بك أحد غيري. فقال الأسعد افعل ما أنت آمله عجل فإن أخي ينتظرني وخاطره عندي، فأخذ الشيخ بيد الأسعد ورجع به إلى زقاق ضيق وصار يبتسم في وجهه ويقول له: سبحان من نجاك من أهل هذه المدينة، ولم يزل ماشياً به حتى دخل داراً واسعة وفيها قاعة جالساً فيها أربعون شيخاً طاعنون في السن وهم مصطفون حلقة وفي وسطهم نار موقدة والمشايخ جالسون حولها يعبدونها ويسجدون لها، فلما رأى ذلك الأسعد اقشعر بدنه ولم يعلم ما خبرهم، ثم إن الشيخ قال لهؤلاء الجماعة: يا مشايخ النار ما أبركه من نهار، ثم نادى قائلاً يا غضبان، فخرج عبد أسود بوجه أعبس وأنف أفطس وقامة مائلة وصورة هائلة ثم أشار إلى العبد فشد وثاق الأسعد. وبعد ذلك قال للعبد: انزل به إلى القاعة التي تحت الأرض واتركه هناك وقل للجارية الفلانية تتولى عذابه بالليل والنهار، فأخذه العبد وأنزله تلك القاعة وسلمه إلى الجارية فصارت تتولى عذابه وتعطيه رغيفاً واحداً في أول النهار ورغيفاً واحداً في أول الليل وكوز ماء مالح في الغداة ومثله في العشاء ثم إن المشايخ قالوا لبعضهم: لما يأتي أوان عيد النار نذبحه على الجبل ونتقرب به إلى النار، ثم إن الجارية نزلت إليه وضربته ضرباً وجيعاً حتى سالت الدماء من أعضائه وغشي عليه، ثم حطت عند رأسه رغيفاً وكوز ماء مالح وراحت وخلته فاستفاق في نصف الليل فوجد نفسه مقيداً وقد آلمه الضرب فبكى بكاءً شديداً وتذكر ما كان فيه من العز والسعادة والملك والسيادة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما رأى نفسه مقيداً وقد آلمه الضرب تذكر ما كان فيه من العز والسعادة والملك والسيادة فبكى وصعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
قفوا برسم الدار واستخبروا عنها | تحسبونا في الديار كما كـنـا | |
لقد فرق الدهر المشتت شملنـا | وهنا تشتفي أكباد حسادنا مـنـا | |
تولت عذابي بالـسـياط لـئيمة | وقد ملئت منها جوانحي طعنـا | |
عسى ولعل **** يجمع شملـنـا | ويدفعوا بالتنكيل أعداؤنا عـنـا |
فلما فرغ الأسعد من شعره مد يده فوجد رغيفاً وكوز ماء مالح فأكل قليلاً ليسد رمقه وشرب قليلاً من الماء ولم يزل ساهراً إلى الصباح من كثرة البق والقمل فلما أصبح الصباح جاءت إليه الجارية ونزعت عنه ثيابه وكانت قد غمرت بالدم والتصقت بجلده وهو مقيد في الحديد بعيداً عن الأحباب فتذكر أخاه والعز الذي كان فيه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد تذكر أخاه والعز الذي كان فيه وأن واشتكى وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
يا دهر كم تجـور وتـعـتـدي | ولكم بأحبابي تروح وتعـتـدي | ||||
ما آن أن ترثي لطول تشتـتـي | وترق يا من قلبه كالجـلـمـد | ||||
وأسأت أحبابي بما أشمـت بـي | كل العداة بما صنعت من الردي | ||||
وقد اشتفى قلب العدو بمـا رأى | من غربتي وصبابتي وتوحـدي | ||||
لم يكفه ما حل بي مـن كـربة | وفراق أحبابي وطرف أرمدي | ||||
حتى بليت بضيق سجن ليس لي | فيه أنيس غير عضـي بـالـيد | ||||
ومدامع تهمي كفيض سحـائب | وغليل شوق ناره لم تـخـمـد | ||||
وكآبة وصبـابة وتـذكـر | وتحسر وتنفس وتـنـهـد | ||||
شوق أكابده وحزن متلـف | ووقعت في وجد مقيم مقعد | ||||
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد لما مكث ينتظر الأسعد إلى نصف النهار فلم يعد إليه فخفق فؤاده واشتد به ألم الفراق وأفاض دمعه المهراق وصاح وحاسرتاه ما كان اخوفني من الفراق ثم نزل من فوق الجبل ودمعه سايل على خديه ودخل المدينة ولم يزل ماشياً فيها حتى وصل إلى السوق وسأل الناس عن اسم هذه المدينة وعن أهلها فقالوا له: هذه تسمى مدين المجوس وأهلها يعبدون النار دون الملك الجبار، ثم سأل عن مدينة فقالوا له: إن المسافة التي بيننا وبينها من الب سنة ومن البحر ستة أشهر وملكها يقال له أرمانوس وقد صاهر اليوم ملكاً وجعله مكانه وذلك الملك يقال له قمر الزمان وهو صاحب عدل وإحسان وجود وأمان.
فلما سمع الملك الأمجد ذكر أبيه حن وبكى وأن واشتكى وصار لا يعلم أين يتوجه وقد اشترى معه شيئاً للأكل وذهب إلى موضع يتوارى فيه ثم قعد وأراد أن يأكل فتذكر أخيه فبكى ولم يأكل إلا قدر سد الرمق ثم قام ومشى في المدينة ليعلم خبر أخيه فوجد رجلاً مسلماً خياطاً في دكان فجلس عنده وحكى له قصته فقال الخياط: إن كان وقع في يد أحد المجوس فما بقيت تراه إلا بعسر ولعل **** يجمع بينك وبينه ثم قال: هل لك يا أخي أن تنزل عندي؟ قال: نعم. ففرح الخياط بذلك وأقام عنده أياماً وهو يسليه ويصبره ويعلمه الخياطة حتى صار ماهراً ثم خرج يوماً إلى شاطئ البحر وغسل أثوابه ودخل الحمام ولبس ثياباً نظيفة ثم خرج من الحمام يتفرج في المدينة فصادف في طريقه امرأة ذات حسن وجمال وقد واعتدال ليس لها في الحسن مثال فلما رأته رفعت القناع عن وجهها وغمزته بحواجبها وعيونها وغازلته باللحظات وقد لعبت به أيادي الصبابات فأشار لها وأنشد هذه الأبيات:
ورد الخدود ودونه شوك الـقـنـا | فمن المحدث نفسه أن يجـتـنـي | |
لا تمدد الأيدي إلـيه فـطـالـمـا | شنوا الحروب لأن مددنا الأعـينـا | |
قل للتي ظلمت وكـانـت فـتـنة | ولو أنها عدلت لكانـت أفـتـنـا | |
ليزداد وجهك بالـتـبـرقـع ضـلة | وأرى السفور لمثل حسنك أصونـا | |
كالشمس يمتنع اجتلاءك وجهـهـا | وإن اكتست برقيق غيم أمـكـنـا | |
غدت النحيلة في حمى من نحلـهـا | فسلوا حماة الحي عـم تـصـدنـا | |
إن كان قتلي قصدهم فلـيرفـعـوا | تلك الضغائن وليخـلـوا بـينـنـا | |
ما هم بأعظم فتـكة لـو بـارزوا | من طرف ذات الخال إذا برزت لنا |
فلما سمعت من الأمجد هذا الشعر تنهدت بصاعد الزفرات وأشارت إليه وأنشدت هذه الأبيات:
أنت الذي سلك الإعراض لست أنـا | جسد بالوصال إذا كان الوفاء أنـا | |
يا فالق الصبح مـن لألاء غـرتـه | وجاعل الليل من أصداغه سكـنـا | |
بصورة الوثن استعبدتنـي وبـهـا | فتنتني وقديماً هجت لـي فـتـنـا | |
لا غرو إن أحرقت نار الهوى كبدي | فالنار حق على من يعبد الوثـنـا | |
تبيع مثلي مـجـانـاً بـلا ثـمـن | إن كان لا بد من بيع فخذ الثمـنـا |
فلما سمع الأمجد منها هذا الكلام قال لها: أتجيئين عندي أو أجيء عندك؟ فأطرقت رأسها حياء إلى الأرض وتلت قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل بعضهم على بعض ففهم الأمجد إشارتها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد فهم إشارة المرأة وعرف أنها تريد الذهاب معه حيث يذهب فالتزم لها بالمكان وقد استحى أن يروح عند الخياط الذي هو عنده فمشى قدامها ومشت خلفه ولم يزل ماشياً بها من زقاق إلى زقاق ومن موضع إلى موضع حتى تعبت الصبية فقالت له: يا سيدي أين دارك؟ فقال لها: قدام وما بقي عليها إلا شيء يسير ثم انعطف بها في زقاق مليح ولم يزل ماشياً فيه وهي خلفه حتى وصلا إلى آخره فوجده غير نفاذ فقال: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم، ثم التفت بعينه فرأى في صدر الزقاق باباً كبيراً بمصطبتين ولكنه مغلق فجلس الأمجد على مصطبة وجلست المرأة على مصطبة، ثم قالت له: يا سيدي ما الذي تنتظره؟ فأطرق برأسه إلى الأرض ملياً ثم رفع رأسه وقال لها: أنتظر مملوكي فإن المفتاح معه وكنت قد قلت له: هيء لنا المأكول والمشروب وصحبة المدام حتى أخرج من الحمام ثم قال في نفسه: ربما يطول عليها المطال فتروح إلى حال سبيلها وتخليني في هذا المكان فلما طال عليها الوقت قالت له: يا سيدي إن المملوك قد أبطأ علينا ونحن قاعدون في الزقاق، ثم قامت الصبية إلى الضبة بحجر فقال لها الأمجد: لا تعجلي واصبري حتى يجيء المملوك، فلم تسمع كلامه ثم ضربت الضبة بالحجر فقسمتها نصفين فانفتح الباب فقال لها: وأي شيء خطر لك حتى فعلت هذا؟ فقالت له: يا سيدي أي شيء جرى أما هو بيتك؟ فقال: نعم، ولكن لا يحتاج إلى كسر الضبة، ثم إن الصبية دخلت البيت فصار الأمجد متحيراً في نفسه خوفاً من أصحاب المنزل ولم يدر ماذا يصنع، فقالت الصبية: لم لا تتدخل يا سيدي يا نور عيني وحشاشة قلبي؟ فقال لها: سمعاً وطاعة ولكن قد أبطأ علي المملوك وما أدري هل فعل شيئاً مما امرته به أم لا، ثم إنه دخل معها وهو غاية ما يكون من الهم خوفاً من أصحاب المنزل، فقالت: يا سيدي مالك واقفاً هكذا؟ ثم شهقت شهقة وأعطت الأمجد قبلة مقل كسر الجوز وقالت: يل سيدي إن كنت مواعد غيري فإني أشد ظهري وأخدمها فضحك الأمجد عن قلب مملوء بالغيظ ثم طلع وجلس وهو ينفخ وقال في نفسه: يا قبلة الشؤم إذا جاء صاحب المنزل.
فبينما هو كذل إذا بصاحب الدار قد جاء وكان مملوكاً من أكابر المدينة لأنه كان أمير ياخو عند الملك وقد جعل تلك القاعة معدة لحظه لينشرح به صدره ويختلي فيها بمن يريد وكان في ذلك اليوم قد أرسل إلى معشوق يجيء له ويجهز له ذلك المكان وكان اسم ذلك المملوك بهادر وكان سخي اليد صاحب جود وإحسان وصدقات وامتنان فلما وصل إلى قريب القاعة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهادر صاحب القاعة لما وصل إلى قريب القاعة وجد الباب مفتوحاً فدخل قليلاً قليلاً، وطل برأسه فنظر الأمجد والصبية وقدامهما طبق فاكهة وآلة المدام وفي ذلك الوقت كان الأمجد ماسكاً قدحاً وعينيه إلى الباب، فلما صارت عينه في عين صاحب الدار اصفر لونه وارتعدت فرائصه فلما رآه بهادر وقد اصفر لونه وتغير حاله غمزه بإصبعه على فمه يعني أسكت وتعال عندي، فحط الأمجد الكأس من يده وقام إليه فقالت الصبية: إلى أين؟ فحرك رأسه وأشار لها أنه يريد الماء، ثم خرج إلى الدهليز خافياً، فلما رأى بهادر علم أنه صاحب الدار فأسرع إليه وقبل يديه ثم قال له: ب**** عليك يا سيدي قبل أن تؤذيني اسمع مني مقالي، ثم حدثه بحديثه من أوله إلى آخره وأخبره بسبب خروجه من أرضه ومملكته وأنه ما دخل القاعة باختياره ولكن الصبية هي التي كسرت الضبة وفتحت الباب وفعلت هذه الفعال، فلما سمع بهادر كلام الأمجد وعرف أنه ابن ملك حن عليه ورحمه، ثم قال: اسمع يا أمجد كلامي وأطعني وأنا أتكفل لك بالأمان مما تخاف وإن خالفتني قتلتك.
فقال الأمجد: آمرني بما شئت فأنا لا أخالفك أبداً لأنني عتيق مرؤتك، فقال له بهادر: ادخل إلى هذه القاعة واجلس في المكان الذي كنت فيه واطمئن وها أنا داخل عليك واسمي بهادر فإذا دخلت إليك فاشتمني وانهرني وقل لي: ما سبب تأخرك إلى هذا الوقت ولا تقبل لي عذراً بل قم اضربني. وإن شفقت علي أعدمتك حياتك، فادخل وانبسط ومهما طلبته مني تجده حاضراً بين يديك في الوقت وبت كما تحب في هذه الليلة وفي غد توجه إلى حال سبيلك إكراماً لغربتك فإني أحب الغريب وواجب علي إكرامه، فقبل الأمجد يده ودخل وقد اكتسى وجهه حمرة وبياضاً فأول ما دخل قال للصبية: يا سيدتي آنست موضعك وهذه ليلة مباركة، فقالت له الصبية: إن هذا عجيب منك حيث بسطت لي الأنس، فقال الأمجد: و**** يا سيدتي إني كنت أعتقد أن مملوكي بهادر أخذ لي عقود جواهر كل عقد يساوي عشرة آلف دينار، ثم خرجت الآن وأنا متفكر في ذلك ففتشت عليها فوجدتها في موضعها، ولأم أدر ما سبب تأخر المملوك إلى هذا الوقت ولابد لي من عقوبته، فاستراحت الصبية بكلام الأمجد ولعبا وشربا وانشرحا ولم يزالا في حظ إلى قريب المغرب، ثم دخل عليهما بهادر وقد غير لبسه وشد وسطه وجعل في رجليه زرنوباً على عادة المماليك، ثم سلم وقبل الأرض وكتف يديه وأطرق برأسه إلى الأرض، كالمعترف بذنبه فنظر إليه الأمجد بعين الغضب وقال له: ما سبب تأخرك يا أنحس المماليك؟ فقال له: يا سيدي إني اشتغلت بغسل أثوابي وما علمت أنك ههنا فإن ميعادي وميعادك العشاء لا بالنهار، فصرخ الأمجد وقال له: تكذب يا أخس المماليك و**** لا بد من ضربك، ثم قام الأمجد وسطح بهادر على الأرض وأخذ عصا وضربه برفق فقامت الصبية وخلصت العصا من يده ونزلت بها على بهادر بضرب وجيع حتى جرت دموعه واستغاث وصار يكز على أسنانه والأمجد يصيح على الصبية: لا تفعلي هكذا، وهي تقول له: دعني أشفي غيظي، ثم إن الأمجد خطف العصا من يدها ودفعها فقام بهادر ومسح دموعه عن وجهه ووقف في خدمته ساعة ثم مسح القاعة وأوقد القناديل وصارت الصبية كلما دخل بهادر وخرج تشتمه وتلعنه والأمجد يغضب عليها ويقول لها: بحق **** تعالى أن تتركي مملوكي فإنه غير معهود بهذا وما زالا يأكلان ويشربان، وبهادر في خدمتهما إلى نصف الليل حتى تعب من الخدمة والضرب فنام في وسط القاعة وشخر ونخر. فسكرت الصبية وقالت للأمجد: قم خذ هذا السيف المعلق واضرب رقبة هذا المملوك وإن لم تفعل ذلك عملت أنا على هلاك روحك، فقال الأمجد: وأي شيء خطر لك أن أقتل مملوكي؟ قالت: لا يكمل الحظ إلا بقتله وإن لم تقم قمت أنا وقتلته، فقال الأمجد: بحق **** عليك أن لا تفعلي، فقالت: لا بد هذا وأخذت السيف وجردته وهمت بقتله فقال الأمجد في نفسه: هذا رجل عمل معنا خيراً وسترنا وأحسن إلينا وجعل نفسه مملوكاً فأنا أحق بقتله منك ثم أخذ السيف من يدها ورفع يده وضرب الصبية في عنقها فأطاح رأسها عن جثتها فوقع رأسها على صاحب الدار فاستيقظ وجلس وفتح عينيه فوجد الأمجد واقفاً والسيف في يده مخضباً بالدم، ثم نظر إلى الصبية فوجدها مقتولة فاستخبره عن أمرها فأعاد عليه حديثها وقال له إنها أبت إلا أن تقتلك وهذا جزاؤها، فقام بهادر وقبل رأس الأمجد أطاحو قال له: يا سيدي ليتك عفوت عنها وما بقي في الأمر إلا إخراجها في هذا الوقت قبل الصباح ثم إن بهادر شد وسطه وأخذ الصبية ولفها في عباءة ووضعها في فرد وحملها، وقال للأمجد: أنت غريب ولا تعرف أحد فاجلس في مكانك وانتظر طلوع الشمي فإن عدت إليك لا بد أن أفعل معك خيراً كثيراً وأجتهد في كشف خبر أخيك وإن طلعت الشمس، ولم أعد إليك فاعلم أنه قد قضي علي والسلام عليك، وهذه الدار لك بما فيها من الأموال والقماش.
ثم إنه حمل الفرد وخرج من القاعة وشق بها الأسواق وقصد بها طريق البحر المالح ليرميها فيه فلما صار قريباً من البحر التفت فرأى الوالي والمقدمين قد أحاطوا به ولما عرفوه تعجبوا وفتحوا الفرد فوجدوا فيه قتيلة فقبضوا على عليه وبيتوه في الحديد إلى الصباح ثم طلعوا به هو والفرد إلى الملك وأعلموه بالخبر فلما رأى الملك غضب غضباً شديداً وقال له: ويلك إنك تفعل هكذا دائماً فتقتل القتلى وترميهم في البحر وتأخذ جميع مالهم وكم فعلت ذلك من قتل؟ فأطرق بهادر برأسه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهادر أطرق برأسه إلى الأرض قدام الملك فصرخ الملك وقال له: ويلك من قتل هذه الصبية؟ فقال له: يا سيدي أنا قتلتها ولا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم، فغضب الملك وأمر بشنقه فنزل به السياف حين أمره الملك وأمر الوالي المنادي أن ينادي في أزقة المدينة بالفرجة على بهادر أمير ياخور الملك ودار به في الأزقة والأسواق، هذا ما كان من أمر بهادر.
وأما ما كان من أمر الأمجد فإنه لما طلع عليه النهار وارتفعت الشمس ولم يعد إليه بهادر قال: لا حول ولا قوة إلا ب**** العلي العظيم أي شيء جرى له؟ فبينما هو يتفكر إذا بالمنادي ينادي بالفرجة على بهادر فإنهم يشنقونه في وسط النهار فلما سمع الأمجد ذلك بكى وقال: إنا *** وإنا إليه راجعون، قد أراد هلاك نفسه من أجلي وانا الذي قتلتها و**** لا كان هذا أبداً، ثم خرج من القاعة وقفلها وشق في وسط المدينة حتى أتى إلى بهادر، ووقف قدام الوالي وقال له: يا سيدي لا تقتل بهادر فإنه بريء و**** ما قتلها إلا أنا فلما سمع الوالي كلامه أخذه هو وبهادر وطلع بهما إلى الملك وأعلمه بما سمعه من الأمجد فنظر الملك إلى الأمجد وقال له: أنت قتلت الصبية؟ قال: نعم، فقال له الملك: احك لي ما سبب قتلك إياها وأصدقني ن قال له: أيها الملك أنه جرى لي حديث عجيب وأمر غريب لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، ثم حكى للملك حديثه وأخبره بما جرى له ولأخيه من المبتدأ إلى المنتهى فتعجب الملك من ذلك غاية العجب، وقال: إني قد علمت أنك معذور ولكن يا فتى هل لك أن تكون عندي وزيراً؟ فقال له: سمعاً وطاعة، وخلع عليه الملك وعلى بهادر خلعاً سنية وأعطاه داراً حسنة وحشماً وأنعم عليه بجميع ما يحتاج إليه ورتب له الرواتب والجرايات وأمره أن يبحث عن أخيه الأسعد فجلس الأمجد في رتبة الوزارة وحكم وعدل وعزل وأخذ وأعطى وأرسل المنادي في أزقة المدينة ينادي على أخيه الأسعد فمكث مدة أيام ينادي في الشوارع والأسواق فلم يسمع له بخبر ولم يقع له على أثر. هذا ما كان من أمر الأمجد. و أما ما كان من أمر الأسعد فإن المجوس ما زالوا يعاقبونه بالليل والنهار وفي العشي والأبكار مدة سنة كاملة حتى قرب عيد المجوس وهيأ له مركباً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهرام المجوسي جهز مركباً للسفر، ثم حط الأسعد في صندوق وأقفله عليه ونقله إلى المركب وسافروا ولم يزالوا مسافرين أياماً وليالي وكل يومين يخرج الأسعد ويطعمه قليلاً من الزاد ويسقيه قليلاً من الماء إلى أن قربوا من جبل النار فخرج عليهم ريح وهاج بهم البحر حتى تاه المركب عن الطريق وسلكوا طريقاً غير طريقهم ووصلوا إلى مدينة مبنية على شاطئ البحر ولها قلعة بشبابيك تطل على البحر والحاكمة على تلك المدينة امرأة يقال لها الملكة مرجانة فقال الريس لبهرام: يا سيدي إننا تهنا عن الطريق ولا بد لنا من دخول هذه المدينة لأجل الراحة وبعد ذلك يفعل **** ما يشلء. فقال له بهرام: ما رأيت والذي تراه افعله فقال له الريس: إذا أرسلت لنا الملكة تسألنا ماذا يكون جوابنا؟ فقال له بهرام: أنا عندي هذا المسلم الذي معنا فنلبسه لبس المماليك ونخرجه معنا إذا رأته الملكة تظن أنه مملوك، فأقول لها إني جلاب مماليك، أبيع وأشتري فيهم وقد كان عندي مماليك كثيرة فبعتهم ولم يبق غير هذا المملوك فقال له الريس ك هذا كلام مليح، ثم إنهم وصلوا إلى المدينة وأرخوا القلوع ودقوا المراسي، وإذا بالملكة وإذا بالملكة مرجانة نزلت إليهم ومعها عسكرها ووقفت على المركب ونادت على الريس فطلع عندها وقبل الأرض بين يديها. فقالت له: أي شيء في مركبك هذه ومن معك؟ فقال لها: يا ملكة الزمان معي رجل تاجر يبيع المماليك فقالت: علي به، وإذا ببهرام طلع ومعه الأسعد ماش وراءه في صفة مملوك فلما وصل إليهم بهرام قبل الأرض بين يديها فقالت له: ما شأنك؟ فقال لها: أنا تاجر رقيق فنظرت إلى الأسعد فحن قلبها عليه فقالت: أتعرف الكتابة؟ قال: نعم فناولته دواة وقلماً وقرطاساً وقالت له: اكتب شيئاً حتى أراه فكتب هذي البيتين:
ما حيلة العبد والأقدار جـارية | عليه في كل حال إيها الرائي | |
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال لـه | إياك إياك أن تبتل بالـمـاء |
فلما رأت الورقة رحمته ثم قالت لبهرام: بعني هذا المملوك فقال لها: يا سيدتي لا يمكنني بيعه لأني بعت جميع مماليكي ولم يبق عندي غير هذا، فقالت الملكة مرجانة: لا بد من أخذه منك إما ببيع أو بهبة، فقال لها: لا أبيعه ولا أهبه فقبضت على الأسعد وأخذت وطلعت به القلعة وأرسلت تقول له: إن لم تقلع في هذه الليلة عن بلدنا أخذت جميع مالك، وكسرت مركبك فلما وصلت إليه الرسالة اغتم غماً شديداً، وقال: هذه سفرة غير محمودة ثم قام وتجهز وأخذ جميع ما يريده وانتظر الليل ليسافر فيه وقال للبحرية: خذوا أهبتكم واملأوا قربكم من الماء واقلعوا بنا في آخر الليل، فصار البحرية يقضون أشغالهم. هذا ما كان من أمرهم.
و اما ما كان من أمر الملكة مرجانة فإنها أخذت الأسعد ودخلت القلعة وفتحت الشبابيك المطلة على البحر وأمرت الجواري أن يقدمن لهم الطعام فقدمن لهم الطعام فأكلا ثم أمرتهن أن يقدمن المدام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة مرجانة أمرت الجواري أن يقدمن المدام فقدمنه فشربت مع الأسعد وألقى **** سبحانه وتعالى محبة الأسعد في قلبها وصارت تملأ القدح وتسقيه حتى غاب عقله فقام يريد قضاء حاجة ونزل من القاعة فرأى باباً مفتوحاً فدخل فيه وتمشى فانتهى به السير إلى بستان عظيم فيه جميع الفواكه والأزهار فجلس تحت شجرة وقضى حاجته وقام إلى الفستقية التي في البستان فاستلقى على قفاه ولباسه محلول، فضربه الهواء فنام ودخل عليه الليل. هذا ما كان من أمره. وأما ما كان من أمر بهرام فإنه لما دخل عليه الليل صاح على بحرية المركب وقال له: خلوا قلوعكم وسافروا بنا فقالوا سمعاً وطاعة، ولكن اصبر علينا حتى نملأ قربنا ونحل، ثم طلع البحرية بالقرب وداروا حول القلعة، فلم يجدوا غير حيطان البستان فتعلقوا بها ونزلوا البستان وتتبعوا أثر الأقدام الموصلة إلى الفستقية فلما وصلوا وجدوا الأسعد مستلقياً على قفاه فعرفوه، وفرحوا به وحملوه بعد أن ملأوا قربهم ونطوا من الحائط وأتوا به مسرعين إلى بهرام المجوسي، وقالوا له: أبشر بحصول المراد وشفاء الأكباد فقد طبل طبلك وزمر زمرك فإن أسيرك الذي أخذته الملكة مرجانة منك غصباً قد وجدناه واتينا به معنا ثم رموه قدامه. فلما نظره بهرام طار قلبه من الفرح واتسع صدره وانشرح، ثم خلع عليهم وأمرهم أن يحلوا القلوع بسرعة فحلوا قلوعهم قاصدين جبل النار ولم يزالوا مسافرين إلى الصباح. هذا ما كان من أمرهم.
و ام ما كان من أمر الملكة مرجانة فإنها بعد نزول الأسعد من عندها مكثت تنتظره ساعة فلم يعد إليها فقامت وفتشت عليه فما وجدته فأوقدت الشموع وامرت الجواري أن يفتشن عليه ثم نزلت هي بنفسها فرأت البستان مفتوحاً فعلمت أنه دخله فدخلت البستان فوجدت نعله بجانب الفستقية فصارت تفتش عليه في جوانب البستان إلى الصباح ثم سألت عن المراكب فقالوا لها: قد سافرت في ثلث الليل، فعلمت أنهم أخذوه معهم فصعب عليها واغتاظت غيظاً شديداً ثم أمرت بتجهيز عشر مراكب في الوقت وتجهيزات الحرب ونزلت في مركب من العشر مراكب ونزل معها عسكرها متهيئين بالعدة الفاخرة وآلات الحرب وحلوا القلوع وقالت للرؤساء: متى لحقتم مركب المجوسي فلكم عندي الخلع والأموال، وإن لم تلحقوها قتلتكم عن آخركم فحصل للبحرية خوف عظيم، ثم سافروا بالمراكب ذلك النهار وتلك الليلة وثاني يوم وثالث يوم، وفي اليوم الرابع لاحت لهم مركب بهرام ولم ينقض النهار حتى أحاطت المراكب بمركب المجوسي وكان بهرام في ذلك الوقت قد أخرج الأسعد وضربوه صار يعاقبه والأسعد يستغيث ويستجير فلم يجد مغيثاً ولا مجيراً من الخلق وقد آلمه الضرب الشديد.
فبينما هو يعاقبه إذ لاحت منه نظرة فوجد المراكب قد أحاطت بمركبه ودارت حولها كما يدور بياض العين بسوادها فتيقن أنه هالك لا محالة فتحسر بهرام وقال: ويلك يا أسعد هذا كله من تحت رأسك، ثم أخذه من يده وامر البحرية أن يرموه في البحر، وقال: و**** لأقتلنك قبل موتي فاحتملته البحرية من يديه ورجليه ورموه في وسط البحر فأذن **** سبحانه وتعالى لما يريد من سلامته وبقية أجله أنغطس، ثم طلع وخبط بيديه ورجليه إلى أنسهل **** عليه وآتاه الفرج وضربه الموج وقذفه بعيداً عن مركب المجوسي ووصل إلى البر فطلع وهو لا يصدق بالنجاة ولما صار في البر قلع أثوابه وعصرها ونشرها وقعد عرياناً يبكي على ما جرى له من المصائب والأسر، ثم أنشد هذين البيتين:
إلهي قل صبـري واحـتـيالـي | وضاق صدري وانصرمي حبالي | |
إلى من يشتكي المـسـكـين إلا | إلى مولاه يا مولى الـمـوالـي |
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والسبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما وصل إلى المدينة أدركه المساء وقد قفل بابها وكانت هي التي كان أسيراً فيها وأخوه الأمجد وزير ملكها فلما رآها الأسعد مقفلة رجع إلى جهة المقابر فلما وصل إلى المقابر وجد تربة بلا باب فدخلها ونام فيها فحط وجهه في غيه وكان بهرام المجوسي لما وصلت إليه الملكة مرجانة بالمراكب كسرها بمكره وسحره ورجع سالماً نحو مدينته وسار من وقته وساعته وهو فرحان فلما جاز على المقابر طلع من المركب بالقضاء والقدر ومشى بين المقابر فرأى التربة التي فيها الأسعد مفتوحة فتعجب وقال: لا بد أن أنظر في هذه التربة. فلما نظر فيها رأى الأسعد وهو نائم ورأسه في عبه فنظر في وجهه فعرفه فقال في نفسه: هل أنت تعيش إلى الآن؟ ثم أخذه وذهب به إلى بيته وكان له في بيته طابق تحت الأرض معد لعذاب المسلمين وكان له بنت تسمى بستان فوضع في رجلي الأسعد قيداً ثقيلاً وأنزله في ذلك الطابق ووكل بنته بتعذيبه ليلاً ونهاراً إلى أن يموت ثم إنه ضربه الضرب الوجيع وأقفل عليه الطابق وأعطى المفاتيح لبنته ثم إن بنته بستان نزلت لضربه فوجدته شاباً ظريف الشمال حلو المنظر مقوس الحاجبين كحيل المقلتين فوقعت محبته في قلبها فقالت له: ما اسمك؟ قال لها: اسمي الأسعد، فقالت له: سعدت وسعدت أيامك أنت ما تستأهل العذاب وقد علمت أنك مظلوم وصارت تؤانسه بالكلام وفكت قيوده ثم غنها ومزج **** محبة الأسعد بفؤادها وصارت من أهل السعادة وصارت تطعمه وتسقيه وتتحدث معه وتصلي هي وهو وتصنع له المساليق بالدجاج حتى اشتد وزال ما به من الأمراض ورجع إلى ما كان عليه من الصحة.
ثم إن بنت بهرام خرجت من عند الأسعد ووقفت على الباب وإذا بالمنادي ينادي ويقول: كل من عنده شاب مليح صفته كذا وكذا وأظهره فله جميع ما طلب من الأموال ومن كان عنده وانكره فإنه يشنق على باب داره وينهب ماله ويهدر دمه، وكان الأسعد قد اخبر بستان بنت بهرام بجميع ما جرى له فلما سمعت ذلك عرفت أنه هو المطلوب فدخلت عليه وأخبرته بالخبر فخرج وتوجه إلى دار الوزير فلما رأى الوزير قال: و**** إن هذا هو أخي الأمجد وعرفه فألقى نفيه عليه وتعانقا واحتاطت بهما المماليك وغشي على الأسعد والأمجد ساعة، فلما أفاقا من غشيتهما أخذه الأمجد وطلع به إلى السلطان وأخبره بقصته فأمر السلطان بنهب بهرام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السلطان أمر الأمجد بنهب دار بهرام فأرسل الوزير جماعة لذلك فتوجهوا إلى بيت بهرام ونهبوه وطلعوا بابنته إلى الوزير فأكرمها وحدث الأسعد أخاه بكل ما جرى له من العذاب وما عملت معه بنت بهرام من الإحسان فزاد الأمجد في إكرامها ثم حكى الأمجد للأسعد جميع ما جرى له مع الصبية وكيف سلم من الشنق وقد صار وزيراً وصار يشكو أحدهما للآخر ما وجد من فرقة أخيه، ثم حكى الأمجد والأسعد ما جرى لهما فقال لهما: يا سيدي تجهزوا للسفر وأنا أسافر بكما، ففرحا بذلك وبإسلامه وبكيا بكاءً شديداً فقال لهما بهرام: يا سيدي لا تبكيا فمصيركما تجتمعان كما اجتمع نعمة ونعم فقالا له: وما جرى لنعمة ونعم؟