الفصل الحادي عشر
وقفت عزة فى حضن والدتها تبكى بمرارة, ولم تكن أمها بها من القوة ما يجعلها تخفف عنها , كل ما استطاعت أن تفعله هو أن تدعو **** بقلبها ألا تكون عبير قد أصيبت بسوء أقترب عمرو منهما وقال لعزة بعتاب :
- مش كده يا عزة المفروض انتِ اللى تقوى مامتك وتخففى عنها
بكت عزة بقوة أكبر وهى تقول :
- مش قادره أمسك نفسى يا عمرو خايفة على عبير أوى
أنتظر الجميع فى الخارج حتى خرج إليهم الطبيب وهو يحمل صور الأشعة وقد ظهرت على وجهه علامات البشرى وقال محاولاً التخفيف من وقع كلماته :
- بصوا يا جماعة.. وقعة زى دى كانت ممكن تأذى العمود الفقرى لكن الحمد *** العمود الفقرى كويس.. محصلش غير كسر بسيط فى الرجل اليمين
ضربت أمها على صدرها وشهقت وهى تقول:
- بنتى رجلها اتكسرت
ربتت عزة على كتفها وهى تكفكف دموعها قائلة:
- الحمد *** يا ماما انها جات على قد كده.. بيقولك العمود الفقرى كان ممكن يتأذى
تابع الطبيب قائلا:
- أحنا دلوقتى هنحط الجبس ومش أقل من شهر علشان نشيله وبعديه لازم تبدأوا فى العلاج الطبيعى.. برضة مش اقل من شهر أو اتنين
شعر والد عبير بوهن شديد ووخذة فى صدره ولكنه تماسك وقال بضعف:
- يعنى دلوقتى هى هتتجبس ونروح على البيت ولا أيه
الطبيب:
- هتفضل هنا يومين وبعدين تاخدوها وتروحوا بالسلامة
***
طرق عمرو باب مكتب إلهام ودخل وأغلق الباب , وكالعادة رأى ابتسامتها الواسعة المرحبة به بشكل دائم وفى كل الأوقات , وقفت أمامها وهو يتسائل:
- خير يا فندم حضرتك بعتيلى
أشارت إليه بالجلوس وهى تقول :
- تشرب أيه الأول
نظر إلى ساعته وهو يقول بحرج:
- أنا آسف مش هينفع أصل عندى شغل هخلصه وهمشى على طول.. عندى ارتباطات مهمة
نظرت إليه متفحصة بجرأة وقالت بهدوء:
- أيه عندك معاد غرامى ولا أيه
رفع نظره إليها بدهشة من جرأتها وتدخلها فى شئونه الخاصة بها الشكل السافر وقال على الفور:
- لا معاد غرامى أيه أنا مش بتاع الكلام ده
ثم اردف سريعاً:
- خير يا بشمهندسة فى حاجة فى الشغل؟
تابعت وكأنها لم تسمعه وقالت:
- أومال رايح فين ؟
زادت دهشته من اهتمامها الزائد به وقال :
- رايح أجيب أخت خطيبتى من المستشفى مع والدها
أتسعت عيناها ونظرت ليده فلم تلحظ الدبلة الفضية فى يده قبل ذلك وقالت متوترة:
- أيه ده هو انت خاطب من أمتى .. أنا مشوفتش دبلة فى أيدك قبل كده
زفر بطريقة لم تلحظها وقال بضيق :
- أنا لسه خاطب من يومين بس
هزت رأسها بحنق وهى تنقر على سطح مكتبها وتقول:
- قصة حب ولا أيه؟
تحرك من مقعده قليلاً وهو ينظر لساعة يده ويقول :
- حاجة زى كده .. طيب انا مضطر استأذن دلوقتى
نظرت إليه بحدة وهى تقول بجدية:
- ساعات العمل الرسمية لسه مخلصتش يا بشمهندس
ثم ابتسمت ابتسامة صفراء وهى تقول:
- لسه نص ساعة
أستند إلى ظهر مقعده وظل صامتا فقالت بحنق:
- هو انت متعود تمشى قبل المواعيد ولا أيه؟
حاول أن يغلب الغضب بداخله وقال دون أن ينظر إليها:
- أنا مكنتش همشى قبل مواعيدى .. أنا قلت لحضرتك فى الأول انى ورايا شغل عاوز أخلصه قبل ما امشى
هبت واقفة وقالت بتعالى:
- طب اتفضل خلص شغلك يا بشمهندس.. أنا عندى اجتماع
نظر إليها متعجبا من تصرفاتها المتناقضة , فهو لم يطلب الدخول إليها أو الجلوس معها من الأساس , فلماذا تفعل ذلك , ولكن على كل حال تنهد فى ارتياح وهو يغادر إلى مكتبه , كسرت القلم بين يديها فى غضب وهى تنظر للفراغ الذى كان يحتله منذ دقائق.
***
دخل عمرو مكتبه وتوجه على مكتبه الهندسى الخاص به تحت نظر زميله نادر الذى كان يرمقه متبرما لاستدعائها المتكرر له فى مكتبها الخاص ووجد نفسه يقول بسخرية:
- أتأخرت ليه يا روميو؟
نظر له كل من عمرو وزميلهم الثالث أحمد وقال عمرو فى انفعال:
- بتكلمنى انا
قال نادر متهكما:
- هو فى روميو تانى هنا
ترك عمرو ما فى يده وقال له محذرا فى غضب شديد:
- أنا بحذرك تكلم معايا بالطريقة دى تانى .. أنت فاهم ولا لاء
كان يتوقع أن يهاجمه نادر ولكنه وجده يقول بسخرية وهو ينظر لـ أحمد:
- شفت يا عم احمد .. طبعا ما هو مسنود من فوق بقى
صاح عمرو بغضب مرة أخرى قائلا:
- بقولك اتكلم معايا كويس أحسن لك
حاول أحمد تهدئة الوضع بينهما ووقف يهتف بهما:
- ميصحش كده يا جماعة
ثم نظر لنادر معاتبا وقال بضيق:
- وبعدين معاك يا نادر ده احنا زمايل وفى مكتب واحد يا أخى مش كده
نظر لهما نادر بسخرية وأعاد نظره إلى عمله مرة أخرى دون أن يتفوه بكلمة أخرى وكأنه كان يختبر أعصاب عمرو, هل هو سريع الغضب أم لا , ربت أحمد على كتف عمرو قائلا بهدوء:
- معلش يا بشمهندس خاليها عليك المرة دى
قال عمرو وهو يرمق نادر بعينيه :
- ياريت الناس كلها فى أخلاقك يا أحمد
دقائق من الهدوء سادت فى المكتب وكل منهم يتابع عمله حتى ينتهوا منه قبل مواعيد الأنصراف
***
عادت عبير إلى منزلها بصحبة عزة وعمرو ووالدها ووالدتها بينما استأذن فارس للعودة إلى عمله مرة أخرى , دخلت غرفتها بصحبة والدتها وأختها عزة , استراحت على فراشها وسمعت عزة تقول:
- أجيبلك تاكلى يا عبير ولا هتنامى
- لا يا حبيبتى انا هنام شوية .. أصلى مكنتش عارفة انام فى المستشفى خالص
تدخلت والدتها قائلة:
- سيبى اختك تنام واطلعى اقعدى مع خطيبك شوية.. ميصحش كده
نظرت عزة إلى عبير تستنجد بها فقالت عبير على الفور:
- يا ماما مينفعش تقعد معاه لوحدها ده لسه خطيبها
نهضت والدتها وجذبت عزة من يدها وهى تدفعها تجاه الباب وتقول:
- أبوكى قاعد معاه بره مش هتقعدى معاه لوحدك .. يالا ياختى وخدى معاكى كوباية عصير فى أيدك الراجل واقف معانا من بدرى
خرجت عزة وهى تنظر تحت قدميها إن صحت العبارة , نظر عمرو إليها بطرف عينيه وشعر بخفقان قلبه كما يحدث له دائما عند رؤياها , وضعت الكوب على الطاولة أمامه وهى تقول بخجل:
- أتفضل
تابعها بعينيه حتى جلست على مقعد آخر يبعد عنه بعض الشىء فقال والدها:
- أختك عاملة أيه دلوقتى
- الحمد *** يا بابا .. سبتها تنام وترتاح
قال الوالد وهو يهز رأسه رأسه بأسى :
- و**** منا عارف هتقعد فى الجبس شهر ازاى .. وبعديهم كمان علاج طبيعى وشغلانة
تدخل عمرو قائلا:
- متقلقش يا عمى من حكاية العلاج الطبيعى دى ..فارس يعرف دكتور كويس أوى وقريب من هنا جدا
خفق قلبها فاشاحت بوجهها بعيدا حتى لا يرى أحد علامات تأثرها بادية على وجهها , ساد الصمت للحظات قطعه والدها قائلا :
- منور يا بشمهندس
تنحنح عمرو بحرج وقال وهو ينهض واقفا :
- طيب استأذن انا بقى
وقفت عزة ووالدها الذى قال بتصميم:
- لا و**** ما ينفع.. ده انت لسه داخل حتى ملحقتش تشرب حاجة
أبتسم عمرو بمودة وهو يقول:
- معلش يا عمى مرة تانية ان شاء ****
نظر إليها والدها وقال آمراً:
- وصلى خطيبك يا عزة
أحمر وجهها بشدة وهى تنظر لوالدها وكادت أن ترفض ولكنها وجدت علامات الجدية على وجهه فتراجعت عن الرفض وقالت وهى تشير لعمرو :
- اتفضل يا بشمهندس
توجه والدها للداخل وتركهم عند باب الشقة المفتوح , وقف عمرو بالخارج وهى بالداخل تنظر إلى الارض, كانت تتصور انه سيلقى السلام ويغادر ولكنه لم يفعل , وقف ينظر إليها وكل خلجة من خلجاته تنطق بالحب , ليس نظراته فقط وما كانت عيناه إلا مرآة يمر الحب خلالهما وينساب بدون أن يشعر ليسكن فى عينيها عندما رفعتهما إليه لترى سبب صمته الذى طال , فأخفضت عينيها حياء منه ومن نظراته وهى تقول بخفوت :
- فى حاجة يا بشمهندس
قال بنفس خفوتها وابتسامته تملأ وجهه :
- على فكرة.. أنا أسمى عمرو ..هه
قالت دون أن تنظر إليه :
- فى حاجة يا عمرو؟
خفق قلبه وابتسم فى سعادة و .. قاطعت نظراته وأفكاره ورفعت رأسها فجأة وقالت بجدية:
- على فكرة مينفعش تبصلى كده ..عن اذنك
تراجع للخلف بدهشة وأغلقت هى الباب وسمعته يقول من خلفه:
- يخرب عقلك .. قطعتى لحظة رومانسية بنت لذينه
وخبط كفا بكف وهو ينزل درجات السلم وهو يهتف:
- أيه شغل الجنان ده
أبتسمت رغما عنها واتجت للداخل , لا تعلم لماذا تزداد أعجابًا به يوما بعد يوم برغم من أنهما لم يتقابلا إلا مرات معدودة ولكنه فى كل مرة يثبت أنه أهلا لها ولتحمل المسؤلية عن جداره تستحق الأحترام رغم صغر سنه بالمقارنة ببعض الرجال الذين تعدوا الثلاثين ولكنهم لا يشغلهم من الحياة إلا أنفسهم ورغباتهم فقط .. فالأيام لا تغير البشر ولكنها فقط تنزع القناع عنهم
***
الفصل الثانية عشر
أنهى باسم جميع متعلقاته فى مكتب الدكتور حمدى مهران وتركه نهائياً وأخذ معه حسن للعمل معه فى مكتبه الخاص, وفى نفس اليوم دخل الدكتور حمدى المكتب ولكنه لم يذهب مباشرة إلى مكتبه وانما مر بالحجرة الأخرى الخاصة بـ فارس , أطل برأسه وقال موجهاً حديثه لفارس:
- تعالى يا فارس شوية عايزك
نهض فارس واقفاً وذهب خلف الدكتور حمدى ودخل حجرة مكتب الدكتور حمدى خلفه وسمعه يقول وهو يجلس خلف مكتبه:
- أقفل الباب وراك يا فارس
أغلق فارس الباب خلفه وجلس قبالته وهو ينظر إليه باهتمام وهو يتوقع التكليف بقضية مهمة من ضمن القضايا التى يكلفه بها ولكنه فوجىْ به يقول:
- أنت هتمسك أدارة المكتب مكان الأستاذ باسم
أتسعت عيناه دهشة فهو لم يكن يتوقع أن تسند إليه مثل هذه المهمة وفى هذا التوقيت المبكر وقال:
- ايوا يا دكتور بس ..
قاطعه الدكتور حمدى قائلا بجدية :
- متقلقش من حاجة.. الموضوع أصلا مش محتاج حاجة يعنى مش مسؤلية زى ما انت فاهم .. وبعدين القضايا مبقتش كتير زى ما انت شايف
أطرق فارس برأسه لبرهة من الوقت صمت خلالها يفكر ثم رفع رأسه وقال:
- بس أنا مش اقدم واحد فى المكتب فى ناس أقدم مني
أبتسم الدكتور حمدى وهو يقول بثقة:
- بس انا بثق فيك انت
ثم نظر أمامه وشرد قليلا وهو يقول:
- وبعدين انا بحضرك لحاجة كبيرة بس مش دلوقتى
حاول فارس أن يتكلم متسائلا عن الأمر ولكنه قاطعه مرة أخرى قائلا:
- أخبار الماجستير أية
فكر فارس قليلاً وكأنها يجمع الأوراق أمام عينيه وقال:
- مش أقل من سنة يا دكتور
هز رأسه مبتسماً وهو يقول:
- طب يالا بقى على مكتبك الجديد
خرج فارس من حجرة الدكتور حمدى بمشاعر مضطربة ما بين السعادة والخوف من المسؤلية الكبيرة التى ألقاها أستاذه على كاهله ووجد نفسه يهتف داخله متضرعاً:
- **** وفقنى أنا محتاجلك أوى ****
دخل حجرته فوجد دنيا تنتظره ونهضت على الفور متسائلة:
- خير يا فارس الدكتور كان عاوزك ليه
أبتسم فارس وهو يأخذ نفساً عميقا ثم قال:
- الدكتور كلفنى بأدارة المكتب بدل الأستاذ باسم
شهقت دنيا فرحاً وهى تضع كفيها على وجنتيها وهتفت بسعادة:
- معقول .. ألف مبروك يا حبيبى
كان قد انتهى من جمع بعض أوراقه وقبل أن يخرج توقف وقد تذكر شيئاً ذات أهمية وقال:
- لو سمحتى يا دنيا تعالي كمان ساعة كده.. عاوزك ضرورى
أبتسمت دنيا وهى تتابعه وهو يخرج من الحجرة بينما توجهت نورا خلفه لتهنئه , طرقت الباب ودخلت عندما سمعته يعطى الأذن بالدخول , وقفت عند حافة الباب المفتوح تهنئه فشكرها بابتسامة هادئة وقد كان يتوقع أن تغادر ولكنه وجدها تقف فى حيرة من أمرها لا تدرى ماذا تقول , فقال فارس بهدوء لا يخلو من الدهشة:
- فى حاجة يا أستاذة نورا؟
تقدمت للداخل وبحركة تلقائية كادت أن تغلق الباب ولكنه استوقفها قائلا:
- لو سمحتى سيبى الباب مفتوح
أومأت برأسها وجلست قبالته وقالت بتوتر:
- أستاذ فارس ..أنا عارفة انك مشغول أوى بس انا.. أنا بجد مخنوقة أوى ومحتاجة اتكلم معاك
ترك فارس مافى يده من ملفات وقال ببطء متسائلا:
- خير فى حاجة مضايقاكى .. فى الشغل
قال كلمته الأخيرة تلك وهو يضغط حروفها بتعمد فرفعت نظرها إليه متعجبة وقالت باستنكار:
- أنت كنت بتسمع لمشاكلى كلها وبتحاول تلاقيلى حل مهما كانت نوع المشاكل دى
أستند فارس إلى سطح المكتب وهو ينظر لكفيه ويقول :
- عارف يا أستاذة نورا.. بس انا عرفت ان ده كان غلط .. مش غلط انى أحل لك مشاكلك ..لكن الغلط فى حد ذاته أنى أخلى زميلة ليا تشوفنى على أنى سوبر مان اللى مفيش مشكلة بتقف قدامه .. أنتِ أغلب مشاكلك متعلقة بخطيبك وبعلاقتكم مع بعض وخصوصا المشاكل العاطفية بيتهيألى لو حكيتى لبنت زيك هيكون أفضل وهنسد باب الفتن دى من أولها لآخرها
قطبت جبينها وقالت فى حرج :
- أنت عمرك ما قلتلى كلمة فيها تجاوز.. ليه تقول كلمة فتن
أبتسم فارس وهو مازال غاضا لبصره عنها:
- مكنتش بقول ..بس الشيطان مش هيسيبك فى حالك .. هيفتحلك ألف باب وباب .. ويهيألِك انى محصلتش فى الناحية العاطفية .. والحقيقة انى بشر زى أى بشر.. بغلط وبتوب بتكلم حلو ووحش زى كل الناس .. لكن لما بنشوف المشكلة من بره بيبقى حكمنا وطريقة كلامنا غير اللى عاشها فعلا
وقفت وهى تقول بحنق وقد شعرت بكلماته تغوص بداخلها لتخرج ما به من انفعالات وقالت بضيق شديد:
- متشكرة أوى يا أستاذ فارس على تنبيهك ده ..عن أذنك
خرجت من حجرته حانقةَ عليه وعلى نفسها , دخلت لتتوضأ وعادت لحجرتها فى المكتب لتصلى فى أحد أركانه وتلكأت فى جلستها حتى نهضت دنيا ودلفت إلى مكتب فارس, وبنفس الطريقة أشار لها أن تبقى الباب مفتوحا, جلست أمامه فى سعادة بالغة وهى تقول:
- مبروك مرة تانية يا حبيبى تستاهلها بجد
أخذ نفساً عميقا وهو يغمض عينيه وزفر فى بطء وهدوء ثم قال:
- دنيا .. أولا متنسيش اننا لسه مخطوبين
مطت شفتاها بتبرم وهى تقول:
- وثانيا ؟
قال على الفور:
- لبسك بقى ملفت للنظر أوى يا دنيا
صاحت فى غضب وهى تهب واقفة:
- ما تقولى ألبسى خيمة أحسن
- أنتِ زعلانه انى بغير عليكى وعاوز لبسك يبقى محتشم أكتر من كدة ؟
تبرمت فى حنق وجلست مرة أخرى ولم ترد أو بمعنى أصح تقلب الأمر فى رأسها , صمتت قليلا ثم قالت:
- طيب سيبنى بس لما اقبض علشان اعرف اشترى لبس يرضيك
أبتسم لموافقتها ثم أخرج بعض المال وقدمه لها قائلا:
- معلش ده مبلغ بسيط .. بس هيكفى ان شاء **** تجيبى طقم بسيط كده على ما نقبض
نظرت للمال ثم نظرت إليه بضيق وهى تقول:
- حتى الكام يوم مش عاوز تسيبنى براحتى فيهم وبعدين شكرا يا سيدى هاخد فلوس من بابا
- أومال ليه بتقوليلى استنى لما اقبض
زفرت فى غضب هاتفةً:
- يووه بقى يا فارس .. حاضر حـــااضر
***
جلست نورا على مقعدها خلف مكتبها وهى تدفن رأسها بين كفيها وتستعيد كلمات فارس الذى ألقاها عليها منذ قليل كمن يلقى دلواً باردا فى ليل الشتاء القارص على قلبها بلا رحمة أو شفقة, ولم تعد تدرى اهو يقصد صالحها كما قال , أم يتهرب منها ومن مشاكلها التى غطت أذنيه منذ عملهما معاً , كانت تريد أن تختلى بنفسها قليلا بعيد عن أعين الناس , نهضت وأخذت حقيبتها وبدون أن تستأذن للأنصراف خطت بسرعة خارج المكتب مسرعة لا تعبأ بالسؤال عنها حين ملاحظة غيابها , كانت مرتبكة قلقة تتردد كلماته على قلبها قبل عقلها فحثت السير أكثر كأن شبحا يطاردها.
تقوقعت نورا فى فراشها وهى تحتضن قدميها إلى صدرها وتفكر فيما قاله لها اليوم وتفكر فيه بعمق وتحادث نفسها قائلة:
- مش عارفه معاه حق ولا لاء .. أنا فعلا فى الأول كنت بتكلم معاه على أنه زميلى وبس لكن مع كل مشكلة كان بيحلهالى كنت بحس أنه هو ده اللى بدور عليه ..وكنت بندم على أنى مقابلتوش قبل خطيبى وقبل ما نكتب الكتاب
أستلقت على أحدى جنبيها وألقت رأسها على الوسادة وهى تفكر فى حل لما وقعت فيه بدون أرادة منها وقالت بضيق :
- ياريتنى كنت حكيت لبنت زيى على الأقل كنت هفضفض معاها من غير ما يحصل اللى حصل ده جوايا
تململت فى الفراش كتململ العصفور المبلل بماء المطر حتى استسلمت للنوم وقد قررت أن تقف مع نفسها بحسم وتصرف عن قلبها صورة فارس الهُلامية التى صنعتها له بيديها, صورة الرجل الذى لا يخطىء أبدا , وتضع مكانها صورة خطيبها وحبه لها لتجعل منه مددا لها لعلها تفيق مما هى فيه وتشعر بهذا الرجل الذى أهملته كثيرا بأوهامها السابقة.
****
كان فارس يجلس بمكتبه حين سمع جلبة بالخارج , حرك جسده قليلا وهو يحاول النظر من الباب المفتوح أمامه فرأى رجلاً يصيح بعصبية قائلا:
- ده مش أسلوب معاملة.. أومال مكتب كبير واسم كبير وخلاص .. وكل ده على الفاضى ومش عارفين تخلصولى حتة قضية يخلصها محامى صغير
هب فارس ناهضا وأثناء خروجه وجد الدكتور حمدى يدخل حجرة مكتبه ويغلق الباب فى وجه الرجل بحدة مما جعل الرجل يشتعل غضبا أكثر ودنيا ونورا يتابعان ما يحدث عن كثب وبعض المحامين يحاولون التحدث للرجل للرحيل بسلام ودون أثارة المشاكل ولكن كان منفعلاً بشدة فلم يستجب لأحد , حاول فارس تهدأته وعرض عليه الجلوس فى مكتبه ليتفاهم معه ومحاولة أصلاح الأمر بصفته مدير المكتب , أستجاب الرجل ودخل حجرة فارس
جلس فارس أمامه على المقعد المقابل له ولم يجلس خلف مكتبه ليستطيع التعامل معه ومع انفعاله وهو يقول :
- أهدى بس حضرتك وقولى أيه الحكاية بالظبط
هدأ الرجل قليلا ثم قال متهكماً:
- حتة قضية شرعى صغيرة قد كده.. يخلصها أى محامى صغير ..جيت للدكتور بتاعكوا وقلت أسم وسمعه وهيخلصها قوام قوام.. لقيته بيرمى الملف ويقولى شفلك محامى غيرى وطردنى من مكتبه
قام فارس بتهدأته مرة أخرى ثم قال:
- ممكن الملف بعد أذنك
أستند فارس لظهر مقعده وهو يقلب فيه سريعاً ثم قال بدهشة:
- والدكتور رفض القضية ليه .. دى قضية طلاق عادية جدا
قال الرجل متهكما:
- أديك قلت.. قضية طلاق عادية جدا ..
مال فارس للأمام وهو يتفحص الرجل وقال بجدية وهو يتكأ بمرفقيه على ساقيه والملف بين يديه:
- ممكن حضرتك بس تجبلى الموضوع من الأول كده علشان افهم واقدر افيدك
- طلقت مراتى وراحت بيت ابوها بالعيال ..رفعت عليا قضية نفقة ليها وللعيال ومؤخر بقى وقايمة والذى منه
حثه فارس على المتابعة قائلا:
- وبعدين
- ولا قابلين .. واحد صاحبى ليه تجربة فى الموضوع ده قبل كده ... شار عليا أنى لو قلت عليها انها ماشيها بطال وجبت شهود وأدله على كده كل حقوقها هتسقط ومش هيبقى ليها حاجة عندى غير نفقة العيال بس
قطب فارس جبينه بشدة وقال مستفهماً:
- وأنت فعلا عندك شهود على كده
ضحك الرجل بسخرية ثم قال:
- أهم مرمين على القهوة قدام المحكمة مش لاقين شغلانة .. كل واحد عشرين جنية و تحفظه كلمتين وخلصت خلاص
شعر فارس بالدماء تغلى فى رأسه ولكنه حاول ضبط أعصابه والتحكم بها وهو يقول:
- شهود زور يعنى ؟!!
- زور ولا مش زور .. المهم الوليه دى متخدش منى حاجة إلا بمزاجى
صمت فارس قليلا ثم قال بعد تفكير:
- وتقبل أن مراتك ام ولادك سمعتها وشرفها يبقى في بؤ كل واحد شوية وانت عارف ومتأكد أنها ست شريفة وكل ده علشان ايه ..علشان خاطر انت مش عاوز تديها حقوقها اللى **** أمرك بيها وأستحلتها كزوجة بعد ما وافقت عليها ومضيت على كده
زفر الرجل فى ضيق وهتف به:
- بقولك ايه يا أستاذ انا مش جاى هنا اسمع مواعظ ..هما كلمتين هتظبطلى القضية دى ولا مش هتعرف
ثم أردف مسرعاً :
- ولو وافقت ليك عليا هتعامل معاك من بره بره من غير الدكتور بتاعك ما يعرف وأتعابك هتبقى ليك لوحدك ...ها قلت ايه
أبتسم فارس وهو يقول:
- قلت أن حضرتك مقرتش اليافطة اللى على المكتب بره كويس ...ده مكتب محاماة مش شقة دعارة
نظر له الرجل بدهشة وقد بدت علامات العبوس على وجهه فتابع فارس قائلا:
- أه و**** مش مصدق ولا ايه ...ماهوأنا لو وافقت على اللى بتقوله يبقى مراتك دخلت عندنا شريفة وطلعت من عندنا مشيها بطال ...تبقى شقة دعارة ولا لاء
ثم هب واقفاً وهو ينظر للرجل باحتقار وقال بهدوء:
- أتفضل حضرتك شوفلك حد تانى يلوث سمعت ام ولادك .. ولو كمان كسبت القضية تبقى علمت على عيالك انهم ولاد حرام وفضحتهم قدام الناس كلها وضيعت مستقبلهم.. وكمان بقى عندك بنات شوف مين اللى هيبصلهم بعد كده.. وخلى بالك انت كده بتقذفها فى شرفها وكمان بشهود زور.. يعنى حسابك عند **** مش بس عقوبة القذف لالا دى كمان شهادة زور والتحريض على شهادة الزور
وغمزله بعينيه وهو يتابع:
- يعنى حسابك هيتقل أوى يا باشا وبلُغة القانون الوضعى ..أعدام .. والأعدام بتاع الآخرة ..على جنهم عدل
ظل الرجل ينظر لفارس ويحدق به وهو يتحدث حتى انتهى من حديثه ثم جذب الملف من يده وهو يشعر بالتوتر من كلماته والإرتباك وقال متلعثماً وهو يغادر بسرعة :
- أنا مش فاهم .. مكتب محاماة ده ولا جامع
أنصرف الرجل وجلس فارس خلف مكتبه وهو يضع رأسه بين كفيه قائلا بأسى:
- لا حول ولا قوة الا ب**** .. معقول توصل للدرجة دى
دخلت دنيا مسرعة وقالت بلهفة:
- أيوا كده يا فارس هو ده الشغل ..ها ظبطت الراجل وهتشتغلها لحسابك صح ..؟؟
رفع رأسه إليها وهو يقول بحزن:
- لاء طبعا يا دنيا اصلك متعرفيش الراجل ده كان عاوز ايه
قطبت جبينها وقالت ضيق:
- ليه يا فارس ليه.. دى فرصة جات لحد عندنا كنت هتطلعلك منها بكام ألف
أبتسم ساخرا وهو يقول:
- حتى لو كانوا كام ألف حرام
صمتت وهى تنظر إليه بدهشة ودخلت نورا لتخبره أن الدكتور حمدى يطلبه ولكنه لم ينتبه لها وهو يقول:
- الراجل طلق مراته وعاوز يدعى عليها انها ماشيها بطال علشان ميديهاش حقها لاء وكمان هيجيب شهود زور على كده ..
وهز رأسه متهكما وهو يقول:
- لاء ويقولى خد القضية لحسابك ...فاكرنى على آخر الزمن هاكل حرام
صمتت دنيا تفكر فى كلماته فبرغم شعورها بالحنق تجاه رفضه للقضية إلا أنها لم تستطع أخفاء شعورها بالأعجاب تجاهه , لم تكن هى الوحيدة التى أعجبت به , بل كانت نورا أيضا التى كانت تقف تنظر إليه باحترام شديد , حانت منه التفاتة إليها انتزعتها من أفكارها وقالت بسرعة:
- الدكتور حمدى عاوزك فى مكتبه
***
نظر فارس إلى وجه الدكتور حمدى فوجده مازال محتقنا بالدماء من كثرة غضبه وانفعاله فقال:
- أهدى يا دكتور الراجل مشى خلاص
قال الدكتور حمدى بعصبية وهو يضرب سطح المكتب بقبضته :
- شفت الراجل الوقح ده كان عاوز ايه
أومأ فارس مجيبا وهو يقول:
- أيوا يا دكتور وعموما أنا اديته اللى فيه النصيب ومشى
نظر إليه حمدى مستفهما فقال فارس:
- أديته كلمتين فى عضمه يمكن يفوقوه ويفكروه ان فى آخره وعذاب وحساب من ****
ضرب حمدى كفيه ببعضهما وهو يهتف متعجباً:
- لاء ومش دى المصيبة يا فارس .. المصيبة أنى كنت فاكر انى مشغل معايا ناس عندهم ضمير لكن للأسف الكام محامى اللى شفتهم بره بيهدوه كانوا موجودين ويقولولى وفيها ايه يا دكتور ده شغل ..تخيل يا فارس انا على أخر الزمن اشتغل بالطريقة دى
نهض فارس واقفا بقلق وهو يقول:
- أنا هروح اجيب لحضرتك كوباية ماية
أشار إليه حمدى مستوقفاً أياه وهو يقول:
- لا متقلقش يا فارس..أنا خلاص هديت وبقيت كويس متقلقش
ثم زفر وهو يعيد ظهره إلى الوراء ويستند إلى ظهر كرسيه وهو ينظر لفارس قائلا :
- الحمد *** أنا كده اتأكدت أنى اخترت صح من الأول
***
أنتهت نورا من عملها وانصرفت من المكتب , وما إن هبطت للأسفل حتى وجدت خطيبها رامى ينتظرها أمام البناية داخل سيارته الصغيرة , أبتسمت ابتسامة صغيرة واستقلت السيارة بجواره فانطلق بها وهو يقول:
- وحشتينى يا نورا .. شكلك مرهق أوى النهاردة
نظرت له وقد بدا عليها الإرهاق بشدة وهى تقول:
- ما أانت عارف يا رامى شغلنا متعب أزاى
- أنا مش عارف أيه اللى جابرك على كده .. منا قلتلك كفاية بقى من زمان بس انتِ اللى مصممة تشتغلى مش عارف ليه ..كان يتوقع أن تتكلم بحدة كعادتها عندما تأتى سيرة عملها ولكنها هذه المرة قابلت الحديث بصمت وهى تستند برأسها للخلف وتقول:
- هبقى افكر فى الموضوع ده تانى
أغمضت عينيها باسترخاء ولكن فجأة فتحتهما وكأنها تذكرت شيئا وقالت باهتمام:
- عاوزة آخد رأيك فى حاجة مهمة
- قولى يا نورا انا سامعك
قصت عليه ماحدث فى المكتب اليوم من شد وجذب مع هذا الرجل ولكنها لم تذكر له رد فعل فارس واكتفت بما فعله الدكتور حمدى ثم قالت تختبره:
- أنت أيه رايك يا رامى.. لو كان الراجل ده عرض عليا القضية أشتغلها لحسابى أوافق ولا لاء ؟؟
قال بسرعة وبدون تفكير:
- لاء طبعا ده راجل معندوش ددمم ولا ضمير.. كويس أن الدكتور حمدى طرده بس .. ده لو كنت انا كنت طبقت فى زمارة رقبته
قالت ببطء:
- حتى لو كان هيدفعلى الفلوس اللى انا عاوزاها
قال بضجر:
- حتى لو كان هيدفع مال قارون دى هتبقى فلوس حرام
أبتسمت نورا وهى تسترخى بجسدها بالكامل للوراء وتسائلت , لماذا إذن لم تكن ترى خطيبها يحمل تلك المشاعر النبيلة والضمير اليقظ من قبل ,هل لأنها لم ترى إلا فارس فقط أم لأنها كانت تحكم على رامى مسبقا دون أن تعرف شيئا عنه أو تحتك به عن قرب كما كان يحدث هذا يوميا مع فارس , تعددت الأسباب والحكم واحد فى النهاية , لا تعلم لماذا بدت صورة فارس أمام عينيها تتلاشى لتحل محلاها صورة رامى الجالس بجانبها خلف عجلة القيادة , حانت منه التفاتة إليها فرأى نظرات الحب التى لم يرها أبدا فى عينيها منذ أن عقد قرانها , فأوقف السيارة جانبا وظل ينظر إليها بحب وشوق لتلك النظرة المطلة من عينيها , فقالت :
- وقفت العربية ليه يا رامى
- أبتسم وهو يقول:
- أصل انا معرفش أحب واسوق فى نفس الوقت بصراحة
***
عاد فارس لمنزله سريعاَ بعد **** الظهر ليلحق بميعاد الغذاء مع والدته حتى لا تأكل وحدها وهو ما يزال مشدوها مما حدث يوم أمس فى المكتب ومما سمع من هذا الرجل , ربتت والدته على رأسه بحنان وهى تهم بالجلوس بجواره حول مائدة الطعام , نظر لها بابتسامتة العذبة فقالت:
- مالك يابنى من ساعة ما رجعت وانت سرحان وبالك مشغول
ما كادت أن تنهى عبارتها حتى سمعت طرقاً على باب الشقة , نهض فارس سريعاً واتجه ليفتح الباب فوجد أم يحيى أمامه ويبدو عليها علامات العجلة والتوتر وقالت:
- أسفه و**** يا أستاذ فارس هى الست ام فارس موجودة
نادتها أم فارس من الداخل فأفسح لها فارس المجال للدخول ولكنها اكتفت بأن تطل برأسها وهى تقول :
- معلش يا ست ام فارس أصل اختى تعبانة شوية ولازم اروحلها دلوقتى
نهضت أم فارس واقتربت منها فقالت بحرج:
- ممكن بس لو مُهرة نزلتلك تخليها عندك لحد ما ارجع.. أصلها عليها واجبات كتير النهاردة ومكنش ينفع اخدها معايا
تدخل فارس قائلا:
- هى لوحدها فوق ولا يحيى معاها
قالت بحرج:
- لا أصل يحيى عنده درس دلوقتى ومعاه زمايله فوق .. وانا سبتها معاهم لحد ما ارجع بس ممكن تضايق لوحدها ولا حاجة .. فلو نزلت معلش يعنى استحمليها لحد ما ارجع .. أنا مش هتأخر ان شاء ****
قاطعها فارس مرة أخرى وقال مؤنباً أياها:
- معقول يا ام يحيى.. سايباها مع شباب لوحدها فوق وكمان المدرس اللى معاهم كده ينفع يعنى
ضحكت أم يحيى وهى تقول:
- شباب أيه بس يا أستاذ فارس .. دول شوية عيال فى ثانوى وهى مقروضة زى ما انت عارف .. وبعدين مفيش حد غريب ده يحيى معاه محمود أخو البشمهندس عمرو ومعاهم أتنين من زمايلهم فى المدرسة
رفع فارس حاجبيه وقال متهكماً:
- شوية عيال ! .. و**** انتِ غلبانة يا ست ام يحيى .. ده محمود ده بالذات عاكسها قدامى فى خطوبة عمرو وجيت اكلمه مهموش وعاد نفس الكلام قدامى .. مابالك بقى بالاتنين التانين
تدخلت أم فارس قائلة :
- خلاص روحى انتِ وانا هبقى اطلع اجيبها
أنصرفت أم يحيى سريعاً وهبطت الدرج على عجلة منها وهمت أم فارس أن تغلق الباب ولكنه استوقفها قائلا:
- أستنى يا ماما لما اطلع اجيبها الأول
قالت بدهشة:
- أتغدى طيب وبعدين انا هبقى اطلع اجيبها
قال وهو يخرج من الباب ويتجه إلى السلم :
- معلش يا ماما هجيبها الأول واهى تتغدى معانا بالمرة
صعد فارس للطابق التالى لهم وطرق الباب ففتح له يحيى وابتسم عندما رآه قائلا:
- أبيه فارس أتفضل
دخل فارس وهو يضع ذراعه على كتفه بود قائلا:
- ها عامل أيه فى المذاكرة
- المستر لسه مجاش.. اتأخر النهاردة وانا قاعد اهو بخلص الواجب اللى كان مديهولنا فى المدرسة
نظر فارس حوله وهو يحدثه , فوجد زملائه يعبثان أمام قنوات التلفاز ويتضاحان بشكل عشوائى ومحمود يقف فى الشرفة يضايق مُهرة كالعادة وهى ممسكة بدميتها المفضلة باربى هدية فارس لها , أشار له فارس باتجاه محمود وقال بغضب:
- أزاى امك تأمنك على اختك وسايب صاحبك واقف يكلمها كده ويضايقها
سمعت مُهرة صوت فارس فأقبلت مسرعة باتجاهه ضاحكة بينما كان يحيى يقول:
- مانا مخلى بإلى منها يا أبيه هو انا عملت حاجة.. وبعدين دى تضايق بلد بحالها
زفر فارس بضيق وقال ليحيى :
- طب خلص الدرس بتاعك وبعدين هبقى اقعد اتكلم معاك فى الحكاية دى بعدين وافهمك
ثم التفت لمهُرة قائلا:
- يالا روحى هاتى شنطة المدرسة علشان تنزلى معايا
أخذها فارس وهبط بها لشقته ووجد والدته تعد لها صحنها التى تحب أن تأكل فيه فابتسمت عندما رأتها بصحبته , ألتف ثلاثتهم حول المائدة وهو يقول :
- كويس انى طلعت على طول
نظرت له والدته متسائله فقال:
- لو سمحتى يا ماما مُهرة تفضل معاكِ معظم اليوم زى ما كانت الأول .. أنا كده هبقى فى الشغل ودماغى بتلف
بعد انتهاء الغذاء أعد فارس الشاى ووضعه أمام والدته على الطاولة المواجهة لمقعدها بينما جلس هو على الأريكة واستندت مُهرة بظهرها إلى أريكته وهى على الأرض بجوار ساقه وتضع كراستها فوق ركبتيها وهى تحل أحد المسائل الحسابية فقالت لها أم فارس:
- يابنتى ما تقعدى على الترابيزة حد يذاكر كده ..هتتعبى
قالت مُهرة دون أن تنظر إليها بحب اذاكر كده يا طنطى
ألتفت فارس إلى والدته وقال:
- سيبيها يا ماما ما انتِ عارفاها دماغها ناشفة
نظرت له والدته وقالت:
- على فكرة .. أنا منستش أنك كنت سرحان وبالك مشغول ..خدتنى فى دوكه فى موضوع مُهرة ده .. قولى مالك
تناول فارس كوب الشاى الخاص به وأخذ منه رشفة صغيرة وقال فارس متعجباً :
- تخيلى يا ماما واحد جالنا المكتب فقضية طلاق ..ومش هتصدقى كان عاوز ايه
قالت والدته بفضول واهتمام وهى تضيق عينيها:
- كان عاوز ايه يابنى
قص عليها تفاصيل ماحدث بينه وبينه الرجل والحوار الذى دار بينهما وما سمعه من الدكتور حمدى عقب خروج الرجل من عنده فقالت وهى تهز رأسها بحزن :
- ومالك يابنى مستغرب كده ليه ده بقى عادى خلاص ..سيرة الناس بقت لبانه فى بؤ كل واحد شوية من غير خشى ولا ضمير.. بالكدب بقى بالباطل مش هتفرق .. ده حتى لو العيوب دى فيه فعلا تبقى غيبة
رفعت مُهرة رأسها من بين كتبها وقالت:
- يعنى لو واحدة صاحبتى قالت عليا لواحدة صاحبتى تانية أن انا أوزعة .. يبقى كده حرام صح يا فارس
نظرا إليها كل من فارس ووالدتها متعجبين وقالت أم فارس :
- أيه ده .. أنتِ واخدة بالك من الكلام وانا اللى فاكراكى غلبانة
ضحك فارس ووجه كلامه لمُهرة قائلا:
صح يا مُهرة وهحكيلك بقى حكاية علشان تفضلى فاكرة الموضوع ده فى دماغك على طول بما أنك بتحبى الحكايات
جلست مُهرة فى انتباه وهى تستمع إليه فقال:
- بصى يا ستى كان مرة الرسول عليه الصلاة والسلام ماشى وكان فى ناس ماشيين وراه بيتكلموا على واحد مش موجود كلام مش كويس .. الرسول عليه الصلاة والسلام شاف حمار ميت مرمى فى الطريق ...عمل أيه بقى الرسول علشان يعلمهم براحة
شاور على الحمار الميت ده وقالهم ياكلوا منه... وبعد ما الناس استغربت وقالوا ازاى هناكل حمار ميت .. الرسول قالهم لو كنتم أكلتم لحم الحمار الميت ده أهون من أنكم تتكلموا على أخيكم وتتكلموا عليه كلام هو ميحبش حد يقولوا عليه
يعنى يا مُهرة لو لقيتى حد بيتكلم على حد بحاجات هو ميحبهاش فى نفسه أتخيلى كده أنهم قاعدين ياكلوا لحم حمار ميت
وضعت مُهرة يدها على فمها متقرفة ثم قالت :
- طب لو انا عملت كده أعمل ايه طيب
ضحكت أم فارس من طريقتها وابتسم فارس وقال:
- استغفرى كتير ليكى وللى اتكلمتى عليها
***
صلى فارس الجمعة ووقف يبحث بعينيه عن بلال وأخيرا وجده فأقبل عليه مسرعاً وصافحه بحرارة فقال بلال:
- هو انا يابنى مش هشوفك غير فى المصايب ولا أيه
ضحك فارس لداعبته وقال مدافعاً:
- لا و**** مفيش مصيبة المرة دى .. دى خدمة بس
ضحك بلال وقال:
- أنا برضة بقول عليك بتاع مصلحتك..ها خير
- شوف يا سيدى الحكاية باختصار ..أخت خطيبة عمرو صاحبى وقعت من على السلم ورجلها اتكسرت والدكتور قال لازم علاج طبيعى بعد ما تفك الجبس واهى فكته من يومين ومن ساعتها واحنا دايخين على دكتورة ست ..مش لاقين .. وبما أنك بقى دكتور علاج طبيعى يبقى مفيش قدامنا غير سيادتك
حاول بلال أن يتكلم رافضاً ولكن فارس قاطعه بسرعة :
- أولا انا عارف أنك بتتعامل مع الرجالة بس ..لكن و**** غصب عننا ومفيش حل تانى يا أما ست يا أما دكتور نضمن خلقه وأمانته
ثانيا انا عارف أنك شهم ومش هترضى نوديها عند أى دكتور منضمنوش ده غير انها رافضة تروح لدكتور لأنها منتقبة ومش عاوزه راجل يلمسها يرضيك بقى يحصلها مشكلة فى رجلها
أطرق بلال برأسه قليلا ليفكر فى الأمر, لقد كان شبه مستحيل بالنسبة له أن يتعامل مع النساء وخصوصا فى هذا المجال الذى يتطلب بعض اللمسات المباشرة , فرفع رأسه وقال متسائلا:
- قلتلى انها رافضة تروح لدكتور راجل ؟
قال فارس مؤكداً:
- أه و**** يا بلال .. ده حتى لما رجلها اتكسرت وراحت المستشفى .. بدل ما تعيط من الألم كانت بتعيط ان الدكتور شاف وشها وهو بيفوقها
قال بلال بعفوية :
- هى منتقبة من زمان ؟
نظر له فارس بدهشة وقال:
- افتكرتك هتسألنى على حالتها الصحية
أنتبه بلال لسؤاله وقال مستدركاً:
- طب ماهى هترفض تجيلى برضة .. مش بتقول رافضة تروح لدكتور راجل
أبتسم وهو يقول:
- لو أنت وافقت هقول لباباها وهو هيتصرف .. مفيش حل تانى ..الدكتور بعد ما فك الجبس قال لو معملتيش علاج طبيعى هيحصل تيبس للعضلات وضمور ومش هتعرف تتحرك تانى
قطب بلال جبينه وهو يعقد ذراعيه أمام صدره ثم ابتسم قائلا:
- هاتهالى المركز بكره .. بس يكون والدها معاها
***
الفصل الثالث عشر
كانت عزة تجلس بجوار أختها عبير ظهراً وهى تساعدها فى ارتداء اسدال الصلاة فسمعت صوت رنين الهاتف فقالت عبير:
- روحى شوفى مين يا عزة خلاص هلف الطرحة واصلى
تركتها عزة وأتجهت للهاتف بعد أن ربتت على كتفها وأجابت على المتصل:
- السلام عليكم
أبتسم عمرو بتلقائية وهو يقول:
- وعليكم السلام ..هى النمرة غلط ولا ايه
قالت عزة باستغراب:
- لا يا عمرو النمرة مش غلط
أتسعت ابتسامته أكثر وأخفض صوته وهو يضع أصابعه على سماعة الهاتف قائلا :
- لما رديتى عليا وسمعت صوتك افتكرت انى اتصلت بمحل العصافير
أنتبهت عزة أنه يداعبها فلم تستطع أن تمنع نفسها من الأبتسام ولكنها قالت بنرة جدية:
- خير يا عمرو فى حاجة
زفر عمرو بقوة شعرت بها عزة على الطرف الآخر وقال:
- أه فى طبعا أومال بتصل علشان اقولك وحشتينى مثلا .. لا يا ماما ده بُعدك
أحمرت وجنتها وقالت بنبرة اكثر جدية:
- لو سمحت يا عمرو قول عاوز أيه وإلا هنادى ماما تكلمك هى بقى
قال على الفور :
- لالالا على ايه يا ستى ..بصى احنا الحمد *** لقينا دكتورعلاج طبيعى كويس أوى ومحترم جدا ومتدين وعلى فكرة هو مش بيتعامل مع ستات .. بس لما فارس قاله ان عبير مش عاوزه تروح لدكتور والكلام ده .. وافق طبعا بس عاوز والدك يروح معاها
قالت عزة بتلقائية وبدون تفكير:
- معرفتك ولا معرفة فارس ؟
تغير صوت عمرو وقال بضيق:
- هتفرق معاكى مش كده ..؟؟
شعرت بالأرتباك وندمت على كلمتها ولكنها قالت بتماسك :
- لا مش قصدى .. قصدى يعنى.. أصلك بتقول متدين و.. محتــ
قاطعها بغضب وغيرة واضحة:
- وأنا معرفش حد متدين ومحترم .. لكن فارس يعرف مش كده.. مش ده قصدك ؟
حاولت أن تتكلم ولكنه قاطعها مرة أخرى قائلا:
- عموما هكلم والدك لما ارجع من الشغل واديله التفاصيل والعنوان..سلام
أنهى عمرو المكالمة بعصبية ومسح رأسه بعنف , حاول أن يعود إلى عمله , ولكن أفكاره جميعها تشتت وغلب عليها عدم التركيز فترك القلم مرة أخرى ووضع رأسه بين يديه وأغمض عينيه واستسلم لشيطانه الذى أخذ يوسوس له ويؤكد له الفكرة التى زرعتها هى بكلمتها تلك ..
تناول القلم مرة أخرى ودون عنوان الدكتور بلال عليه ثم استأذن وانصرف مغادرًا إلى منزل عزة , صعد الدرج سريعاً , طرق الباب وانتظر بعيدا حتى فتحت والدتها الباب وقالت بترحاب لا يخلو من الدهشة:
- اهلا يا بشمهندس ..أتفضل يابنى
أخرج عمرو الورقة من جيبه ومد يده بها إليها وهو يقول:
- معلش يا طنط وقت تانى ان شاء **** .. ده عنوان دكتور علاج طبيعى كويس صاحب فارس مش صاحبى .. فارس كلمه على حالة عبير وهو مرحب بيها فى أى وقت بس لازم يكون والدها معاها.. والأشعة كلها
مدت يدها لتأخذها وهى تقول:
- يابنى تعالى مينفعش على السلم كده
قال وهو يتجه للسلم مسرعاً:
- معلش اصلى مستعجل شوية ..سلام عليكم
عادت والدة عزة للداخل وهى تنظر أمامها متعجبة وتقول:
- سبحان **** ...!!
خرج زوجها من غرفة نومه بعد أن أنهى صلاته وقال وهو ينظر إليها:
- مين يا ام عبير
قالت زوجته وهى تنظر لعزة الجالسة أمام التلفاز شاردة :
- ده عمرو يا حاج
أنتبهت عزة والتفتت إليها وقال والدها متعجباً:
- ومدخلش ليه ؟
نظرت والدتها إليها مرة أخرى باستفهام وقالت:
- مش عارفة يا حاج .. شكله كده مضايق من حاجة
ناولته الورقة وهى تقول:
- كان جايب عنوان دكتور علاج طبيعى لعبير وبيقولى انه صاحب فارس مش صاحبه هو
أخترقت الكلمة أذن عزة وشعرت أن الدماء ستنفجر من رأسها وقالت بداخلها وهى واجمة:
- طالما زعل وعمل كده يبقى أكيد أفتكر أن فى حاجة ..**** استر
هتفت عبير مستنكرة:
- أنا مش هروح يا بابا
نظر لها والدها بحدة لم تعتدها منه وقال:
- هتروحى يا عبير يعنى هتروحى ..ولا عاوزه يحصلك ضمور ومتتحركيش تانى
شعرت بالعبرات تقتحم مجال رؤيتها لتعيقها عنه وهى تقول:
- يا بابا حضرتك عارف يعنى ايه علاج طبيعى .. يعنى ممكن يقول تدليلك وكلام فاضى يرضيك يعنى يا بابا واحد يقعد يدلك رجلى
تدخلت عزة وقالت بخفوت وكأنها تخشى أن يخرج صوتها من حلقها :
- عمرو لما اتصل قال انه متدين ومحترم ومش بيتعامل مع ستات أصلا لكن لما ..
وشعرت بغصة وهى تقول على مضض:
- لما فارس قاله انك مش عاوز تروحلى لدكتور راجل وان احنا مش لاقين دكتور مضمون وافق بصعوبة
نهض والدها وقال موجهأً حديثه لعبير :
- جهزى نفسك هنروح بكره على طول
وقبل أن تتكلم قال آمراً:
- ومش عاوز كلمة زيادة
***
دخلت عبير مركز العلاج الطبيعى وهى تستند لذراعى والدها ووالدتها, جلست تنتظر دورها بجوارهما فى قلق , المكان حولهم ملىء بالرجال لا يوجد امرأة واحدة فى المركز , شعرت بألم فى معدتها وحاولت أن تذكر **** مراراً حتى تهدأ , نهض والدها وتحدث إلى الممرض ثم عاد وجلس بجوارهما مرة أخرى ومال عليهما قائلا:
- خلاص قدامنا حالة واحدة بس الحمد ***
همست عبير مستنجدة به:
- بابا انا عاوزه اروح البيت
نظر لها محذرا وقال:
- عبير ايه شغل العيال ده
وأخيرا جاء دورها فى الدخول له , ولم تكن تطأ إلى غرفته حتى اتسعت عيناها دهشة وهى تنظر إلى بلال ولحيته وسمته الظاهر , غضت بصرها سريعاً عنه وسمعت والدها يلقى السلام وسمعته يرد عليه السلام بود واحترام , ثم هب بلال واقفاً ووضع مقعد الكشف فى وضع مريح لها وابتعد حتى تجلس بأريحية وعاد ليجلس خلف مكتبه مرة أخرى
جلس والديها على المقعدين المقابلين أمام مكتبه وهو ينظر إلى الأشعه بأمعان وتأمل دقيق , ثم رفع رأسه بابتسامة عذبة وبشاشة قائلا:
- ماشاء ** نتيجة الأشعه ممتازة .. باذن كده الموضوع مش صعب خالص على فكرة ...متقلقوش يا جماعة خير إن شاء **
قالت والدتها وقد لانت تعابير وجهها قليلا:
- ان شاء ** .. تسلم يا دكتور و** انت وشك فيه القبول
أردف زوجها على الفور :
- اه و**** يا حجة معاكى حق
أبتسم بلال وهو ينظر للزوج قائلا:
- جزاكم ** خيرا و** ده من ذوقكم بس
تناول أحد الملفات الفارغة وهو يقول:
- انا هعملها ملف بحالتها فى الأول كده علشان نبقى متابعين التطورات أول بأول
لمعت عينيه بنظرة ذات مغزى وهو يدون البيانات , تظاهر بالأستغراق فى كتابة البيانات ووالدها يمليه أسمها والعنوان ورقم الهاتف , توقف فجأة عن الكتابة وسأل بشىء من الامبالاة قائلا:
- أكتب آنسه عبير ولا مدام عبير
قالت والدتها سريعاً:
-آنسه عبير يا دكتور
دون بلال البيانات فقال والدها بتردد:
- هو العلاج الطبيعى ده بيبقى ازاى ..معلش يا دكتور أصلها بصراحة قلقانة أوى ومكنتش عاوزه تيجى علشان يعنى مش عاوزه حد يشوفها
قال بلال وهو ينهض ويتجه إليها قائلا:
- متقلقش يا حاج
وتناول مقعد صغير ووضعه بجوار مقعد الكشف الذى تجلس عليه عبير وما أن جلس عليه أمامها مباشرة وما أن شعرت عبير باقترابه حتى هتفت فجأة:
- مش هكشف ..مش هكشف انا عاوزه امشى ..روحنى يا بابا
هب والدها واقفاً واقترب منها يهدأها بينما قال بلال له:
- لو سمحت يا حاج استنى شوية ..عاوز اتكلم مع الآنسه عبير
أومأ والدها برأسه موافقاً له فاستند بلال بمرفقيه على قدميه وقال لها دون أن ينظر إليها:
- آنسه عبير.. لو سمحتى أهدى علشان اعرف افهمك طبيعة العلاج
غشيت الدموع عينيها ولم ترد , وقالت بصوت متقطع:
- أنا عندى أموت ومفيش راجل يلمسنى
قال بجدية :
- يعنى عمرك ما روحتى لدكتور خالص ؟
قالت بانفعال :
- الحمد *** عمرى ما تعبت إلا ولقيت دكتورة ست .. إلا المرة دى
قال مختبراً :
- اه بس ليه تتكسفى من الدكتور ده شغله يعنى مش أى راجل كده وخلاص
قالت بصوت متقطع من أثر البكاء:
- السيدة عائشة كانت بتشد ملابسها عليها وهى داخله الحجرة اللى ادفن فيها الرسول عليه الصلاة والسلام علشان عمر بن الخطاب كان مدفون جنبه.. يعنى كانت بتستحى من واحد ميت حضرتك بقى مش عاوزنى استحى من راجل عايش لمجرد أنه دكتور
أطرق بلال برأسه ولاحت أبتسامة رضا على شفتيه ثم قال بصوته العذب مطمئناً:
- حالتك أصلا مش محتاجة كشف.. يعنى أنا مكنتش هكشف عليكى اصلا .. زى ما قلتلك حالتك واضحة من الأشعة وكويسة أوى واحب اطمنك العلاج الطبيعى مش هيطول ومش هيحتاج ان راجل يلمسك ...ممكن تهدى بقى علشان نعرف نتفاهم
هدأت عبير قليلا وتبادل والدها ووالدتها النظرات القلقة من المرحلة القادمة , نهض بلال واقفاً وأبعد مقعده قليلا وقال بحزم:
- قومى اقفى لو سمحتى
نظرت إلى والدها الذى كان يقف بجوارها ومدت يدها له ليساعدها ولكن بلال أوقفها قائلا:
- لالالا محدش هيساعدك.. أنتِ هتقفى لوحدك
حاولت عبير النهوض وأخيرا نهضت بصعوبة وهى تتألم فقال بابتسامة :
- ماشاء **** مكنتش متوقع تجيبيها لوحدك فى الأول كده
ثم أشار إلى أحد الأجهزة بعيدا وقال:
- شايفة الجهاز ده.. روحى اقعدى على الكرسى اللى جانبه
كانت تمشى بصعوبة بالغة وهى تكتم آلامها بداخلها وأخيرا وصلت إليه وجلست بصعوبة وحدها , أقترب منها وضغط أحد أزرار الجهاز وهو يقول:
- ده جهاز ممتاز أوى لحالتك ..يالا أرفعى رجلك وحطيها هنا تحت النور ده بالظبط ..
فعلت كما أمرها ثم قالت بتوتر:
- على فكرة لو هتقولى تدليك مش هعمله
أبتسم وهو يتجه لمكتبه وقال:
- تدليك ايه بس.. ده موضة قديمة فى العلاج
جلس خلف مكتبه وهو يكتب فى ملفها ميعاد أول الجلسات فقال والدها:
- هو العلاج ده هياخد كام جلسة يا دكتور
بلال :
- السؤال ده لسه شوية عليه يا حاج.. أحنا لسه بنقول يا هادى
*****
وضعت عزة سماعة الهاتف فى يأس ونظرات الحزن تطل من عينيها وتفصح عن نفسها , جلست والدتها بجوارها وهى تقول :
- مش عاوز يكلمك ليه؟؟
ألتفتت عزة لها متعجبةً وقالت:
- هو مين ده يا ماما
- خطيبك
- مين اللى قالك كده يا ماما ده انا لسه كنت ...كنت بكلمه أهو
أمسكتها والدتها بكتفها ونظرت لعينيها بقوة قائلة:
- ماهو لو مقولتيش هروح أقول لبوكى وهو بقى يقررك بمعرفته
قالت والدتها هذه الكلمة وهمت بأن تنصرف ولكن عزة أمسكتها من يدها وانحنت تقبل كفها قائلة برجاء:
- لا يا ماما **** يخليكى بلاش تدخلى بابا فى الحكاية
أعتدلت أمها فى جلستها وهى تقول:
- قولى يا عزة ايه اللى حصل بينكوا .. اللى جه يدينى العنوان ده مش عمرو اللى احنا نعرفه ده كأنه واحد تانى وانا متأكدة أنك عملتى مصيبة
أطرقت عزة برأسها و روت لها بخفوت ما حدث وما قالت فى المكالمة الهاتفية التى كانت بينها وبين عمرو , نظرت لها أمها بضيق وقالت بغضب:
- أنتِ يابت غبية ولا مبتفهميش
وضربت على قدمها بانفعال وهى تقول:
- و**** أعلم بقى فهم ايه دلوقتى .. ويمكن يروح يقول لأمه على كلامك .. وأمه تيجى تتكلم هنا وتبقى مشكلة
قالت عزة متبرمة:
- هتقول أيه يعنى .. وبعدين هو اللى فهم غلط
قالت أمها بعصبية:
- لاء مفهمش غلط يا عاقلة يا كاملة .. أى عيل صغير يفهم أنك بتبصى لفارس نظرة غير اللى بتبصيها لخطيبك .. ويارب يكون فهم كده وبس والشيطان ميكونش لعب بعقله وفهمه حاجة تانية
هبت واقفة وأمسكتها من يدها بقوة وهى تقول آمره:
- أتفضلى روحى ألبسى علشان نعملهم زيارة ونشوف ميتهم أيه يلا بسرعة.. واسمعى متجبيش سيرة عن حاجة قدام امه .. أتعاملى عادى كأن مفيش حاجة
***
رحبت والدة عمرو بعزة ووالدتها وعانقتهما بحرارة مما جعل والدة عزة تطمئن أن عمرو لم يتكلم معها فى شىء , نهضت والدته وهى تقول بترحاب شديد:
- ثوانى هعمل الشاى وأشوف عمرو صاحى ولا نايم لسه
تبادلت عزة النظرات مع والدتها التى همست لها:
- كده يبقى مقالش حاجة لامه .. اصل أنا عارفاها اللى فى قلبها على لسانها مبتعرفش تخبى
خرج عمرو من غرفته فوقع نظره على عزة ووالدتها تجلس بجوارها, حاول رسم ابتسامة على شفتيه وهو يقول:
- اهلا وسهلا أزى حضرتك يا طنط
ثم قال وكانه يجبر نفسه على الحديث معها قائلا:
- ازيك يا عزة
أبتسمت والدتها وهى تقول له :
- أزيك أنت يا حبيبى أخبار شغلك ايه
جلس دون أن ينظر إليهما وهو يقول:
- الحمد *** تمام
لكزتها أمها فى يدها لتتكلم معه ونظرت لها بحدة فقالت عزة على الفور بصوت ضعيف:
- أزيك يا عمرو
هب واقفاً وهو يقول بجفاء:
- الحمد *** .. طب عن اذنكم بقى علشان عندى مشوار مهم
أوقفته والدتها وهى تقول واقفةً:
- استنى يا عمرو عزة عاوزه تقولك كلمتين
نظرت إلى عزة بضيق وهى تقول :
- قولى لخطيبك اللى انتِ عايزاه على ما أدخل أعمل فنجان القهوة بتاعى مع خالتك يا عزة
تبعتها بنظرها حتى دخلت المطبخ خلف والدته وقالت بأسف :
- عمرو انا آسفه .. أنت و**** فهمت غلط
أشاح بوجهه بعيداً ولم يرد , كانت مشاعره متضاربة كالأمواج المتلاطمة , يريد أن يسامحها ويبتسم لها ويمزح معها كما اعتاد ويزيل نظرات الحزن من عينيها ولكنه لم يستطع , طال صمته فقالت بحزن:
- و**** ما كان قصدى انا كده متسرعة فى كلامى ومبفكرش فيه الاول قبل ما اقوله
ألتفت إليها حانقاً ونطق بما يعتمل بصدره منذ سنوات وقال:
- أنتِ فعلا مفكرتيش فيه .. أنتِ قلتى اللى فى قلبك يا عزة ..أنتِ عمرك ما هتشوفينى راجل محترم وطبعا بما انى مش محترم فاستحاله اعرف حد محترم .. عارفة ليه علشان عنيكى مش شايفة غير واحد بس ..
قاطعته بلوعة:
- أرجوك اسكت .. متقولش كده انت غلطان و**** غلطان
- ماشى أنا غلطان .. بس انا هسألك سؤال واحد .. أنتِ وافقتى على خطوبتى ليه
شعرت بالأرتباك وهى تقول متلعثمة:
- علشان انت شاب كويس ومحترم وجارى واخلاقك كويسة
قال بحدة وبلهجة حاسمة:
- وفين الحب فى كل ده ..أنتِ عمرك ما حبتينى ولا هتحبينى
نظر إلى عينيها بحدة وأشار إلى خاتم الخطبة فى أصبعها وهو يقول:
- الطوق اللى خانقك ده تقدرى تقلعيه فى أى وقت براحتك .. ومتقلقيش محدش هيعرف حاجة .. أحنا كده خلاص
قفزت دمعة من عينيها رغماً عنها وهى تقول بصوت متقطع :
- مش هقلعها يا عمرو
واستدارت وغادرت المكان كله , نظر إلى الفراغ الذى كان يحتله جسدها منذ قليل وهو غير مصدق الكلمات التى خرجت من فمه , والدموع التى انسابت من عينيها بسببه, كل شىء كان له سبب فى عقله , كلامها ورجائها وغضبه منها إلا شىء واحد .. عبراتها !.. دخل غرفته وأغلق الباب بقوة وهوى إلى فراشه غضبان أسفا , يلعن القلب الذى مازال يحبها رغم علمه أنها تحب غيره , ضرب الفراش بقبضته ومد يده يخلع الطوق الذى يحيط بأصبعه والذى شعر أنه يطوق عنقه ويخنقه هو أيضا ويمنع عنه الهواء.
****
خرجت والدة دنيا من غرفتها ليلا وهى فى طريقها إلى الحمام مروراً بغرفة ابنتها سمعت صوت يشبه الهمس آتى من الداخل , نظرت للباب بانتباه ودهشة واقتربت ببطء ووضعت أذنها عليه لتستمع لما يدور بالداخل , خفق قلبها وهى تستمع لابنتها تقول بتوتر :
- لا يا أستاذ باسم مينفعش كده حضرتك كده زودتها أوى ..أنا قلتلك كتير قبل كده انى محبش الكلام ده.. وبعدين انا كل ما احاول افاتحه فى الموضوع بتراجع ..أنا متأكدة أن فارس مش هيوافق وهيعملى مشاكل كتير.. إذا كنت متجرأتش أقوله على حكاية الموبايل دى لحد دلوقتى
وقفت والدتها تفكر ماذا تفعل :
- هل تدخل تسألها ماذا يحدث أم تتركها للصباح , ترددت قليلا ولكنها لم تستطع أن تمنع نفسها حينما سمعتها تقول:
- لا يا أستاذ باسم انا عمرى ما ارضى ابقى زوجة تانية أبدا.. وكمان عرفى .. ليه يعنى أعمل فى نفسى كده ليه
فتحت أمها الباب فجأة فوقع الهاتف من يدها وهى تنظر إليها بخوف, أقتربت منها أمها وقالت بسخط:
- مين باسم ده يا دنيا
أرتبكت دنيا وتلعثمت وهى تقول :
- فى ايه يا ماما مالك كده
أقتربت أمها منها أكثر وتناولت الهاتف قائلة بغضب:
- أنا مش هالوم عليكى.. أنا اللى معرفتش اربيكى من الأول
أخذت الهاتف معها وخرجت من غرفة دنيا , دخلت غرفتها واطمئنت أن زوجها نائماً نظرت للهاتف بحيرة ممزوجة بالغضب ثم وضعته فى خزانة ملابسها الخاصة وأحكمت غلقه بالمفتاح الخاص به وجلست على طرف الفراش بجوار زوجها الذى قد سكن جسده بجوارها
جلست دنيا منكمشة فى فراشها تفكر فى رد فعل والدتها وماذا ستفعل بها , لم تمضى الساعة حتى دخلت عليها والدتها مرة أخرى ولكنها كانت فى حالة انهيار شديد ودموعها تملأ وجهها وهى تصرخ بها :
- أبوكى مات يا دنيا..أبوكى مات
***
وقف فارس أمام باب شقة دنيا يأخذ عزاء والدها بجوار خالها وأولاده , أما ودنيا ووالدتها تجلس مع النساء فى الداخل , أنتهى العزاء وغادر المعزيين وجلس فارس أمامه لا يدرى ما يقول , الموقف فى منتهى الصعوبة لا يحتمل أى كلمات , يرى دنيا تدفن رأسها بين أيديها وتذرف العبرات من عينيها ووالدتها تجلس فى حزن وكأنها قد زاد عمرها أضعافاً وأنحنى ظهرها وكأنه يستعد لحمل المسؤلية من بعد والدها وعينيها شاردة وملامحها واجمة تستمع إلى كلمات المواساة من أخيها وعمة دنيا وأبنائهم ولا يظهر عليها أى رد فعل تجاهها , رفعت رأسها ببطء ونظرت إلى فارس نظرة طويلة أندهش لها فارس قليلا ولكنه تعجب أكثر حينما نهضت بوهن وقالت وهى تشير له:
- من فضلك عاوزاك لحظة يا فارس يابنى
أبتعدت قليلا عن الجالسين معهم وتبعها هو فى صمت ثم الفتت إليه بجسدها كله ونظرت إليه بشرود وهى تقول:
- أنا يابنى عاوزه منك خدمة وعارفة انك مش هترفضلى طلب
ثم أردفت فى حزن:
- انا عارفة أن الكلام ده مش وقته ولا مكانه ومش عاوزاك تستغرب
نظر إليها باهتمام فتابعت برجاء:
- أنا عاوزاك تكتب كتابك على دنيا فى أقرب وقت
***
نظرت له والدته بدهشة وهتفت :
- أزاى أمها تطلب طلب زى ده يابنى وجوزها لسه مدفون
قال فارس بحيرة كبيرة:
- مش عارف يا ماما .. بتقول أنها خايفة على دنيا وخصوصا ان قرايبهم طول عمرهم بعيد عنهم يعنى لو حصلها حاجة دنيا هتبقى لوحدها
نظرت له والدته بتمعن وقالت بشك:
- مش عارفة يابنى مش مطمنة للموضوع ده ...طب كانت تستنى للأربعين حتى
أبتسم فارس وهو يقول :
أربعين ايه بس يا ماما ..مفيش حاجة فى الدين اسمها اربعين وخميس وسنوية كل ده بدع
أتسعت عيناها وهى تقول:
- ازاى يابنى لا فى طبعا ...طب حتى اسأل صاحبك بلال
أبتسم فارس مرة أخرى وهو يربط على يد أمه بحنان ويقول:
- أنتِ تعرفى يا ماما الناس جابت حكاية الأربعين دى منين...؟؟
- منين يابنى ؟
- زمان الفراعنة كانوا بيقعدوا يحنطوا الميتين بتوعهم أربعين يوم وفى اليوم الأربعين بيقفلوا عليه وبيفتكروا أن روحه رجعتلوا تانى ودخلت جسمه وهو قام بقى ولبس الدهب بتاعه وكل الاكل اللى سابينه جانبه.. وبعدين بقى روحه تلف على حبايبه وأهله فلازم يشوف عزا وحداد وإلا هيغضب عليهم ويتحول لروح شريرة
قال فارس كلمته الأخيرة وضحك بشدة وهو يقول:
- كويس ان مُهرة مش موجودة
وتابع ضحكاته الخافتة وهو يردف :
والحكاية بقى دخلت بعد كده فى خرافات والناس نقلوها لبعض جيل ورا جيل لحد ما بقت حاجة عادية .. لكن فى الشرع عندنا الميت بيقوم فى القبر يتحاسب على عمله فى الدنيا مش بيقوم يلبس دهب وياكل ويشرب وروحه تخرج تتفسح شوية
مطت والدته شفتاها وقالت باستغراب:
- و** يابنى ما كنت أعرف بس كويس أنك نبهتنى.. وعموما يعنى دور كلام أمها فى دماغك كويس واستخير **
نهض فارس بارهاق وهو يقول:
- حاضر يا ماما ..انا كده ولا كده مستنى رد دنيا لأنها لسه متعرفش .. أمها قالتلى أنها لسه مفتحتهاش فى الموضوع
***
الفصل الرابع عشر
دخلت دنيا غرفة والدتها ودلفت إليها فى حذر وهى تنظر لوالدتها التى كانت تجلس على طرف فراشها وهى ممسكة ببعض الصور التى كانت تجمعها بزوجها وشريك عمرها فى بداية زواجها وقد لمعت العبرات فى عينيها ولكنها تظاهرت بالتماسك أمام ابنتها وهى تقول بجدية:
- أقفلى الباب وراكى مش عاوزه حد يسمع فضايحنا
خفق قلب دنيا وهى تغلق الباب وتقف خلفه وهى تنظر لوالدتها بخوف وارتياب فقالت أمها بصرامة :
- اسمعى ..أنتِ عارفه أنى مبحبش أكرر الكلام مرتين ...ومش عاوزه أسمع نفسك ..عمتك بره ومش عاوزاها تسمع
وقفت دنيا متربصة فى صمت وبعينين زائغتين تنتظر حديث أمها التى يظهر من بدايته أنه غير مبشر على الأطلاق ..فتابعت والدتها بحسم :
- أنا اتكلمت مع فارس واتفقنا على كتب الكتاب قريب أوى وهو وافق بس مستنى رأيك
أتسعت عينيى دنيا دهشة وهتفت باستنكار:
- بتقولى أيه يا ماما
هبت أمها من مجلسها وتقدمت منها وجذبتها من يدها بعنف وأبعدتها عن الباب, اتجهت بها إلى الفراش وأدارتها مواجهة لها بقسوة وهى تقول بغضب:
- أسمعى يا بت انتِ.. أقسم برب العزة لو قلتى لاء ولا فتحتى بؤك بكلمة.. لكون بعتاكى مع عمتك على البلد وهتقعدى هناك ومش هترجعى هنا تانى وهناك بقى يا عين أمك يبقوا يجوزوكى بمعرفتهم
بكت دنيا بين يدى أمها وهى تتضرع لها قائلة:
- ليه كده يا ماما هو انا عملت ايه علشان كل ده
دفعتها أمها على الفراش وقالت بحزم:
- أنا مش هسيبك لما عيارك يفلت وتعتمدى على أنك ابوكى خلاص مبقاش موجود وسطينا
دفنت دنيا وجهها فى الفراش وهى تبكى بحرقة وتقول بصوت مختنق:
- يا ماما و**** ما عملت حاجة.. الراجل ده كان بيعرض عليا الجواز وانا رفضت والموضوع أنتهى
تابعت والدتها بغضب:
- أنتِ يا بت مش كنتِ بتقولى أنك بتحبى خطيبك ..مش عاوزه تجوزيه ليه .. فهمينى
مسحت دنيا دموعها بكفيها وهى تقول بصوت متقطع:
- مش عاوزه أعيش فى الحاره مع أمه
- خلاص بسيطة.. نكتب الكتاب لحد ما نلاقى شقة إيجار كويسة تعيشوا فيها واهو مرتبة زاد كتير بعد ما اترقى فى المكتب
قالت دنيا بحنق وهى تجفف دمعها:
- إيجار يا ماما ..أنتِ عمرك ما وافقتى على الأقتراح ده قبل كده
نظرت والدتها أمامها وقالت بوجوم:
- كنت غلطانة ..كل حاجة كانت غلط ..لكن دلوقتى خلاص مينفعش اغلط تانى ...أبوكى سابك أمانة فى رقبتى وانا مش هخزله أبدا وافرط فيكى واسيبك تضيعى وتضيعينا معاكى
ثم ألتفتت إليها وقالت محذرة:
- والدته هتيجى تعزينا وهو هيسألك عن رأيك وطبعا انتِ موافقة ..مش كده ولا ايه
قالت دنيا باستسلام :
- حاضر يا ماما هوافق
نهضت أمها واقفة وهى تلقى نظرة على صور أبيها وتقول بشرود:
- أبوكى كان بيقول على فارس راجل وقد المسؤلية ..**** بس يقدر يستحمل بلاويكى
وأعملى حسابك انتِ مش هتخرجى من البيت قبل كتب الكتاب فاهمة ولا لاء
أطرقت دنيا برأسها أرضاً فى تفكير وهى تقول بشرود باحثة عن مخرج:
- فاهمة
***
أنهى بلال **** المغرب وتوجه إلى المركز العلاجى سريعاً وما أن دخل وألقى السلام حتى قال الممرض الذى كان ينتظره خارجا:
- والدة حضرتك مستنياك جوه
عقد بلال ما بين حاجبيه مندهشاً وهو يدلف إلى حجرة الكشف ورأى والدته وهى تجلس على المقعد بجوار مكتبه الخاص تنتظره , أقبل عليها وانحنى بابتسامة يقبل يدها وهو يرحب بها , جلس على المقعد المقابل لها وهو يقول:
- خير يا أمى أيه اللى نزلك وانتِ لسه تعبانة
أبتسمت بمكر وهى تقول:
- جاية اشوف عبير.. مش هى برضة جاية النهاردة
ضحك بلال ضحكة رنانة وقال:
- ينهار أبيض يا أمى.. طب أنا غلطان أنى حكتلك
ضحكت ثم قالت:
- هو انت يعنى كنت عاوز تقول.. ده انا اللى سحبت الكلام منك سحب
مال إلى الأمام وهو يقول بأهتمام:
- أمى **** يكرمك الناس زمانها جاية.. وأنا مش عاوز أحرجهم
ضربته أمه على قدمه وهى تقول:
- أنا هسلم وامشى بس ..كأنى كنت قاعدة معاك عادى
أبتسم وهو يضيق عينيه ناظراً إليها وهو يقول:
- طب وأيه لازمتها لما هتمشى على طول
رجعت للخلف وهى تستند إلى مقعدها قائلة:
- نفسى اشوف مين دى اللى لفتت نظرك يا بلال ..ده انت اتعرضت عليك بنات كتير مفيش واحدة فيهم لفتت نظرك.. وبعدين عاوزه اشوف أهلها.. أنا برضة ليا نظره
طرق الممرض الباب ودخل ووضع الملف أمام بلال على مكتبه قائلا:
- أدخل الحالة يا دكتور ولا استنى شوية؟
قالت والدته على الفور :
- دخلهم يابنى انا ماشية على طول
نهض بلال وجلس خلف مكتبه بينما دخل والد عبير وهو يبتسم له ويمد يده للمصافحة , صافحه بلال بحرارة مرحباً بهم , نظرت أم بلال إلى والد عبير تتفحص هيئته وطريقة حديثه ثم نظرت سريعا إلى الباب وهى تتابع دخول عبير متكأة على يد والدتها بنظرات متأملة متعمقة وتبادلت النظرات معهما ثم قالت لوالدتها :
- ألف سلامة **** يقومهالك بالسلامة ****
قالت أم عبير بابتسامة متسائلة:
- **** يسلمك
قالت والدته وهى تعرف نفسها :
- انا أم الدكتور بلال
صافحتها أم عبير بابتسامة واسعة وحياها والدها مرحباً بيما قالت أم بلال وهى تنظر إليهم :
- الشرف لينا .. أنا مش هعطلكوا على الجلسة .. أنا أصلى نسيت الأدوات بتاعة الحجامة بتاعتى عند بلال وقلت انزل اخدها وطالعة على طول.. أصل أحنا شقتنا فوق المركز على طول
قالت أم عبير بانتباه :
- هو حضرتك بتعرفى تعملى حجامة .. ده انا وعبير بنتى كنا دايخين على حد بيعرف يعملها
نظرت عبير لوالدتها بدهشة فهى لم تسمعها يوما تسأل عن هذا الأمر مسبقاً ولكنها آثرت السكوت .. وسمعت أم بلال تقول :
- تنورونى فى أى وقت .. أيه رأيك تطلعولى بعد الجلسة لحد ما الحاج يروح يصلى العشا ويرجع نكون خلصنا
نظرت عبير ووالدها إلى والدتها وهى تقول بموافقة وحماس :
- خلاص أتفقنا هنطلعلك بعد الجلسة على طول واهو لحد ما الحاج يروح يصلى العشاء مع الدكتور بلال
أبتسمت أم بلال وهى تنظر لأم عبير التى بادلتها النظرات وكأن كل منهما يتبادلان النظرات المٌشفرة التى لا يعلم معناها إلا هن فقط!
خرجت أم بلال تودعهم وأغلقت الباب خلفها بابتسامة كبيرة وهى تشعر انها قد حققت هدفاً فى مرمى حياة ولدها المستقبلية , جلست عبير على الكرسى التى جلست عليه فى المرة السابقة وهى مازالت تنظر لأمها متعجبة , نهض بلال وأخذ نفس المقعد الصغير ووضعه قريب منها كما فعل فى المرة السابقة وهو يقول بجدية مفاجأةً:
- أنتِ مبتسمعيش الكلام ليه ؟؟
نظرت له نظرة خاطفة وقالت بقلق :
- يعنى ايه؟
تابع بنفس الجدية:
- انا مش قلت عاوزك تعتمدى على نفسك فى الحركه ومحدش يساعدك .. ليه شايفك داخلة دلوقتى متسندة على والدتك؟
قالت عبير بخفوت وهى تنظر للأرض:
- ده دلوقتى بس لكن فى البيت لاء
أومأ برأسه ونهض من مكانه , أحضر كرسياً آخر له مسند غير الذى تجلس عليه وقال بحزم:
- تعالى اقعدى هنا علشان نبدأ
شعرت عبير بصعوبة وهى تنهض بمفردها ولكن ليس هذا ما تشعر به فقط, وليس هذا هو سبب توترها, لا تعلم لماذا ترتجف عندما يتحدث إليها بشكل مباشر, هل لأنها غير معتادة على أن رجل غريب يتحدث إليها بشكل مباشر أم لشىء آخر لا تعلمه !
أتجهت إلى حيث أمرها فابتعد عن مقعدها وتركها تجلس وأتى بمقعده ووضعه أمامها ..جلس عليه وهو يقول :
- كل حركة هعملها لازم تعملى زيها بالظبط
أومأت برأسها موافقة ورأته يرفع ساقه ويمدها أمامه ببطء شديد ويعيدها إلى مكانها ببطء مرة أخرى , فشعرت أنها لن تستطيع فعل ذلك, التمرين يبدو سهلا ولكنه بالنسبة لمن يعانى من كسر جديد فى قدمه فهو صعب للغاية
قال متابعاً:
- يالا هتفردى رجلك ببطء على عشر تسبيحات وترجعيها مكانها تانى ببطء برضة على عشر تكبيرات ..أتفقنا ؟
نظرت له بدهشة وقالت:
- ازاى يعنى
قال بابتسامة عذبة :
- يعنى ياستى بدل ما نقول نرفع رجلينا ببطء على عشر عدات أو عشر دقات ..لاء أحنا هنعمل التمرينات على ذكر **** وكده التمرينات يبقى فيها بركة وفى نفس الوقت أخدنا ثوابها
أبتسمت عبير من خلف نقابها وتبادلا أمها وأبيها النظرات وألتفتا مرة أخرى إلى الدكتور بلال وهو يقول:
- شوفى زى كده بالظبط
وبدء فى رفع ساقه ببطء قائلاً:
- سبحان ** ...سبحان ...سبحان ** ....
ثم أعادها إلى حيث كانت مرة أخرى ببطء أيضا وهو يقول:
- ** أكبر... أكبر .... ** أكبر....
جاهدت عبير لفعل ما أمرها به ولكنها كانت خجلة وهى تسبح وتكبر بصوت هامس وخجول
كان بلال يتابعها فى صمت وهو يستمع إلى صوت تسبيحها الهامس وتكبيرها الخفيض شعر بصوتها يسرى بداخله ويتغلل بين جنباته يسبح بين طيات قلبه بانسيابية ويسر, أفاق من شروده على صوتها الخجول وهى تقول بأجهاد:
- خلصت يا دكتور أكرره تانى ولا خلاص
رفع رأسه لها منتبهاً ثم قال وهو ينهض مبتعداً :
- لاء هنكرره تانى ...
جلس خلف مكتبه وتركها تكرر التمرين وحدها وأخرج بعض الصور الملونة المطبوعة بحرفية وقدمها لوالدتها ووالدها قائلا:
- دى صور لبعض التمارين المهمة ..لازم تعملها بمساعدة حد فى الأول
نظر إلى والدتها قائلا:
- حضرتك ممكن تساعديها بسهولة فى البيت .. والورق ده فيه كل الخطوات وهو سهل ان شاء ****.
أنتهت الجلسة على وقت أذان العشاء , ذهب بلال ووالد عبير إلى الصلاة بينما صعدت عبير وأمها إلى أم بلال التى كانت تنتظرهما فى شقتها وقبل أن يطرقوا الباب قالت عبير هامسة لوالدتها:
- هو فى ايه يا ماما من أمتى وانتِ بتحبى الحجامة
طرقت أمها الباب وهى تضغط على يدها قائلة:
- حبتها.. مالكيش دعوة
وضعت أم بلال أكواب العصير مرحبة بالزائرتين وبدأت فى وضع الكاسات الهوائية فى أماكن معينة فى جسد عبير وهى تتفحص وجهها وجسدها بنظرات خبيرة قائلة:
- ماشاء **** يا عبير انتِ زى القمر
أبتسمت عبير فى خجل ولم ترد فقالت أمها و قد لمعت عينيها بسعادة :
- عبير طول عمرها مهتمة بنفسها بس البتاع اللى حاطاه على وشها ده هو اللى مخلى محدش بيشوفها ولا يعرف شكلها ايه
قالت أم بلال وهى تضغط الكاسات الهوائية على قدم عبير:
- اللى يستحق يشوفها ويشوف جمالها هو اللى **** كاتبله يبقى جوزها مش الناس اللى ماشية فى الشارع يا ست أم عبير
ثم رفعت رأسها لعبير قائلة:
- يالا بقى علشان أعملك حجامة على ضهرك كمان بالمرة كده
أحمر وجهها وهى تقول بحياء:
- لا معلش يا طنط مش هينفع اقلع البلوزه
نظرت لها أمها بحدة وقالت آمره :
- دى ست زيك يا عبير هتكسفى من الستات برضه
هزت عبير رأسها وقالت معاندة:
- معلش بجد مش هينفع مقدرش و****
كادت أمها أن تعترض ولكن أم بلال منعتها قائلة بحسم:
- خلاص يا بنتى مفيش مشكلة .. لما نعرف بعض كويس مش هتتكسفى مني
أزالت الكاسات عن قدمها ومسحت بعض الدماء وهى تسمع أم عبير تقول متسائلة:
- هو اللى بيعمل الحجامة دى لازم يكون متخصص ؟
قالت أم بلال باهتمام:
- بلال هو اللى علمهالى بما أنه دكتور .. ساعتها قالى أن فى دورات بتتاخد فيها واللى بيدى الدورات دى دكاترة واللى بياخد الدورات دى بيبقى معاه شهادة معتمدة أنه عنده علم بيها لأن فى أماكن فى الجسم خطر أى حد كده يقرب منها لازم يكون دارس.
بعد أنتهاء **** العشاء عدلت عبير هندامها ووضعت غطاء وجهها وأنتظرت حتى أنتهت الصلاة وانصرفت بصحبة أمها مودعة أم بلال التى ودعتهم بابتسامة متفائلة على وعد باللقاء
***
أحتضنت دنيا أم فارس وهى تقبلها هى ووالدتها و تعزيهما فى فقد الزوج والوالد والركن الشديد ومظلة الحماية لعائلتهم الصغيرة , وبعد وقت قصير باغتتهم والدة دنيا بقولها :
- ها يا فارس حددت معاد مناسب ولا لسه
نظر إليها فارس منتبهاً لكلماتها وتبادل نظرات صغيرة مع والدته ثم نظر إلى دنيا وقال:
- رأيك ايه يا دنيا وأيه المعاد اللى يناسبك
قالت دنيا متلعثمة وهى تتجنب النظر إلى عينين والدتها المصوبة إليها بحدة:
- المعاد اللى ماما تحدده
حاول فارس أن يخفى ابتسامته فهى غير مناسبة للموقف وقال :
- أول ما اخلص امتحانات الماجستير على طول .. كويس ؟
ونظرت والدة دنيا إلى والدة فارس تسألها:
- أيه رأيك يا حجة؟
قالت أم فارس مرحبة ومندهشة فى نفس الوقت :
- كويس أوى
ظهرت علامات الأرتياح على وجه والدة دنيا ونظرت لفارس وقالت بصدق:
- كتب الكتاب هيبقى على الضيق كده.. فى البيت يعنى.. متفتكرش انى طالبة منك فوق طاقتك .. وأنا عن نفسى مش عاوزه غير أنى اطمن على بنتى أنى لو مت وسبتها تبقى مع راجل يقدر يحميها ويتحمل مسؤليتها والحاج **** يرحمه كان دايما بيقول عليك قد المسؤلية
لمعت عينى فارس تأثراً وأطرق برأسه حزناً على فقد هذا الرجل الذى كان يتمنى أن يمتد به العمر أكثر ليثبت له أنه عند حسن ظنه به بينما قالت والدته:
- **** يرحمه
أخبرته والدة دنيا برغبتها فى بقاء دنيا معها هذه الفتره وبعدم رغبتها فى عودتها للمكتب وطمئنها فارس بموافقته وأن الدكتور حمدى ليس لديه أى مانع وأنه يقدر ظروف دنيا بعد وفاة والدها.
***
جلس بلال إلى والدته بعد عودته ليلاً وعلى وجهه سعادة كبيرة لما يسمعه منها عن عبير ووالدتها وقال بلهفة:
- بجد يا أمى يعنى انتِ فعلا حسيتى انها مرتحالى .. طيب افاتحهم فى الموضوع أمتى
ضحكت والدته وهى تقول:
- ومالك مستعجل أوى كده ده انت يدوب شفتها كام مرة
ثم ضحكت مرة أخرى وهى تستدرك:
- قال شفتها قال
ضحك بلال لدعابة والدته وقال:
- أنتِ بتقولى فيها يا أمى ..أنا فعلاً شوفتها بقلبى وعقلى.. متقدريش تتصورى يا أمى هى حيية وخجولة وبتحافظ على نفسها قد أيه.. ودى أول حاجة شدتنى ليها حتى من غير ما اقابلها اصلاً
ربتت على ساقه وهى تقول مطمئنةً:
- متقلقش سيب الموضوع على **** ثم عليا.. لو تحب أروح اخطبهالك النهاردة قبل بكره
فرك كفيه قلقاً وهو يقول:
- أنا بس عاوز أتكلم معاها علشان أعرف شوية حاجات تهمنى كده وده ان شاء **** يحصل فى الرؤية الشرعية
- بس يابنى هنروح نتقدم كده مش نستنى لما تخف الأول طيب
أبتسم بلال ابتسامة ذات معنى وهو يتمتم:
- ماهى لما تبقى مراتى هعرف اعالجها بضمير
***
وقفت عزه ليلا فى نافذتها تتطلع إلى بداية الطريق عن كثب وتتأمل المنعطف الذى يجتازه عمرو يوميا فى نفس الميعاد عائداً من عمله , ظلت تنظر لساعة يدها بين كل دقيقة وأخرى فى قلق وهى تتمتم بقلق:
- أتأخر أوى النهاردة
سمعت صوت أنثوى من خلفها يقول:
- سبحان **** له فى خلقه شئون
ألفتت عزة إلى عبير وعاودة النظر من النافذة مرة أخرى إلى تلك البقعة الفارغة والتى تنتظر عمرو ليمر بها وكانهما على موعد وقالت:
- بطلى التلميحات دى يا عبير
ضحكت عبير وهى تقول:
- صحيح و**** الممنوع مرغوب..الراجل كان بيتمنالك الرضا ترضى وكنتِ حتى مبتفتكريش شغله الصبح ولا بالليل ..أول ما يديكى الوش الخشب تبقى هتموتى عليه وعارفة مواعيد رجوعه بالظبط
قالت عزة بتوتر دون أن تنظر إليها:
- أنا مش هموت على حد على فكرة.. أنا واقفة عادى
قالت عبير وهى تومأ برأسها ساخرة:
- صح وانا مصدقاكى
ثم قالت مردفةً:
- على فكره بقى اللى بيحصل ده فى مصلحتك و****
لمعت عينيى عزة بالدموع وهى تقول بهمس:
- من مصلحتى انه يخاصمنى ومش عاوز يرد على تليفوناتى ويتهرب مني ..من مصلحتى أنه قلع الدبلة وقالى اقلعيها خلاص
هزت عبير رأسها نفياً وهى تقول:
- لاء من مصلحتك انك تعرفى قيمة الراجل اللى هتجوزيه .. أياً كان مين الراجل ده.. من مصحلتك أنك تشيلى من قلبك أى رواسب قديمة كانت هتسبب فى مشاكل بينكوا بعدين وانا شايفة بقى اللى حصل ده هو اللى هيشيل الرواسب دى
قالت عزة بصوت مختنق بالدموع :
- والدبلة اللى قلعها
قالت عبير بثقة:
- ولا تسوى حاجة.. أنتِ عارفة أنه بيحبك والدبلة اللى اتقلعت تتلبس تانى .. المهم قلبك انتِ يكون صفى ومستعد لاستبقال البشمهندس اللى هيجننك ده
وكأن عبير قد استدعته بكلامها عنه , تعلقت عينيى عزة بمنحنى الطريق ورأته وهو يدلف منه واضعاً يديه فى جيبيى بنطاله ويسير ببطء . يركل كل حصى تقابله وكأنه يتعارك معها ويتوعدها ألا تصادفه مرة أخرى وتتنحى أمام قدميه المتحفزتين , يظهر الحزن على قسماته وتعابير وجهه وكأنه فقد شخصاً , أو شيئاً , أو قلباً !
فى كل مرة كانت تقف هكذا تتمنى أن يرفع رأسه ليراها واقفة تنتظره ولكنه لم يكن يفعل أبداً , ولكن هذه المرة وبتلقائية شديدة رفع رأسه وكأنه يتوقع أن يرى نافذتها مغلقة فى هذا التوقيت , رآها تطل عليه بعينين زائغتين معتذرتين دامعتين , تلاقت نظراتهما مع خفقان قلبها وشعوره بالحنين لفقدانها , دار حواراً سريعاً بين عينيهما كان عنوانه الأول والأخير ... أعتـذر منـك ..أشتـاقكِ ..عُـد إلـي
***
الفصل الخامس عشر
دوت الزغاريد فى نفس المنزل للمرة الثانية على التوالى ولكن هذه المرة كانت العروس مختلفة , كانت عبير ,عبير ذات العبير المعتق فى صدفته ينتظر نصفه الآخر المقدر له استنشاقه وملىء رئتيه بنسيم العذراء القابعة أسفل أمواج خجلها .
أحمر وجهها وهى تجذب والدتها من ملابسها لتجلسها مرة أخرى ووالدها يكمم فمها هاتفاً بها:
- أسكتى بقى الناس تقول علينا ايه
جلست أم عبير وهى تلهث من فرحتها قائلة:
- يقولوا عندنا فرح هيقولوا ايه يعنى
نهرها قائلا:
- مش لما العروسة توافق الأول يا ام مخ مهوى انتِ
نظرت إلى أبنتها وهى تقول :
- عبير موافقة طبعاً هى دى عايزة كلام
قالت عزة بحماس وهى تنظر إلى أختها :
- صح يا ماما
صوب الجميع نظره إليها فى انتظار كلمتها وبعد فترة من الصمت قالت بارتباك :
- لما أقعد معاه الأول وبعدين استخير.. ده جواز يعنى لازم يكون منهجنا واحد وإلا هيبقى فيه مشاكل كتير بينا بعد كده.. الحكاية مش حكاية لحية وخلاص
تم تحديد ميعاد للقاء عبير وبلال للرؤية الشرعية بعد يومين وتم تجهيز المنزل لإستقبال بلال ووالدته , لن نستطيع أن نتهم عبير بالسعادة لأنها لم تكن تجرؤ على هذا الأحساس , بل كانت تئده كلما حاول الظهور على السطح , كل ما كانت تشعر به هو التوجس والإنتظار لا تعلم لماذا اختارها هى بالذات للتقدم لطلب الزواج بها , فهى ليست مميزة عن غيرها , نعم هى ملتزمة ولكنه بالتأكيد صادف قبلها كثير من الفتيات الملتزمات وبالتأكيد شاهدهن خلال الرؤية الشرعية وكانت منهم الجميلات والأصغر سناً منها ولكنه لم يتزوج بواحدة منهن , فماذا يميزها عن غيرها ليختارها هى , كانت خائفة بل ووجلة , ليس من تلك الهواجس فقط , ولكن خافت أن يكون على غير المنهج الصحيح الذى اختارته لنفسها ووافق السنة الصحيحة
دخلت عليها والدتها لتجدها على حالها تلك الذى تركتها عليه منذ قليل جالسة على فراشها ترتدى كامل ملابسها التى تخرج بها إلى الطريق لم يختلف شىء غير أنها قد أزاحت غطاء وجهها عنها ليستطيع رؤية وجهها بوضوح وهي تردد بعض الأذكار لتخفف من توترها وارتباكها وخفقان قلبها , وقالت تستعجلها:
- يالا يا عبير الضيوف وصلوا ..
تبعتها عزة التى دلفت خلف والدتها مباشرة وهى تهتف بها :
- يالا يا ستى مامته بتسأل عليكى
وقفت عبير وهى تشعر بالألم فى ساقها الذى لم يتعافى بعد, ورغم أنها رؤية شرعية ولابد أن تكشف عن وجهها ليراها إلا أنها شعرت وهى تخرج أمامه هكذا بوجهها المكشوف كأنها عارية أمامه, فزاد حيائها وخجلها وحمرة وجنتيها وإطراق رأسها أرضاً أكثر وأكثر, هبت والدته واقفة عندما ظهرت عليهم وأقبلت عليها فى ترحاب تقبلها وتعانقها وتساعدها فى الجلوس على أقرب مقعد جواره , هذا الحياء الذى علق قلبه بها فى الأمس هو نفسه من علق عينيه بها اليوم وهو ينظر إليها بشغف ويتأمل أحمرار وجنتيها الصافية وعينيها الخجولة الناظرة إلى أى شىء وكل شىء إلا هو, خوفاً من اللقاء ! , ظل يتأملها قليلا فى صمت وعلى ثغره ابتسامة ناعمة تحمل كل الرضا والقبول
أرادت والدته أن تقطع هذا الصمت أو بالأحرى أرادت أن تعطيه طرف الحديث معها فقالت:
- رجلك عاملة أيه دلوقتى يا عبير
قالت بصوت لا يكاد يكون مسموعاً :
- الحمد *** يا طنط أحسن شويه
تحرك لسانه أخيراً وتحرر من صمته ووجد نفسه يقول:
- بتعملى التمارين ؟
أومأت برأسها إيجاباً ولم تجبه شفاهتاً , وكما فعلوا مع عزة وعمرو فى السابق فعلوا مع عبير, تركوها مع بلال فى الخارج وانتقلوا لغرفة استقبال الضيوف , وجلس والدها نفس المجلس فى المرة السابقة ليستطيع رؤية ما يحدث فى الخارج
كان لهذا أثر كبير على بلال الذى تحرر من خجله لمجرد أن أصبح وحده معها ولكنه فى داخله شكر فعل والدها أنه يحرص عليها مع ترك مساحة من الحرية لا تسمح إلا بالحديث معها فقط, فكم سقط فى عينيه آباء كُــثر أغلقوا الباب عليهما بدعوى حرية الحديث , لولا أنه كان يرفض ويأبى هذا بل ويكون سبب خروجه من البيت بلا عودة .
ظلت عبير صامتة مطرقة الرأس ولكنه لم يظل صامتاً ..قال في حنان وهو يتأملها :
- على فكرة ..الرؤية دى يعنى احنا الاتنين نشوف بعض كويس مش انا بس اللى اشوفك
جاهدت على أخراج صوتها من حلقها وكأنه يعبر الأحبال الصوتية فى مشقة وقالت :
- منا شوفتك قبل كده
لاحت ابتسامة صغيرة على جانبى شفتيه وشعر أن الأمر يتطلب جرأة أكثر فقال:
- طيب ممكن ترفعى راسك شوية مش عارف اشوفك كويس
خفق قلبها بشدة وشعرت أنها لو تركت العنان لنفسها لهبت من مقعدها لتجرى إلى غرفتها وتغلقها عليها لتختبىء من نظراته المصوبة إليها ولكنها تعلم أنه من حقه أن يراها جيداً وينظر إليها , رفعت وجهها ببطء ولكنها لم تقدر على النظر إليه مباشرة , نظر إليها ملياً ثم قال :
- عبير
شىء ما بداخلها لا تعلم ماهو جعلها تخطف نظرة إليه ثم تعيد عينيها إلى حيث كانت , ربما كانت تريد ان ترى ردة فعله وهو ينظر لها, هل أعجبته أم لا ..لم تكن عبير تلك الفتاة الفاقدة الثقة فى نفسها رغم أنها فتاة عادية ليست بارعة الجمال , بل وليست مميزة فى جمالها , فتاة عادية بكل المقاييس, ولكنها أرادت أن ترى نظرة سابحة فى عالمها منصهرة فى وجودها, كانت قد رأتها فى عينيه مرة واحدة حينما كان يستمع لصوتها وهى تسبح وتكبر فى عيادته سابقاً وهى تؤدى التمرين, ولقد وجدتها وعثرت عليها للمرة الثانية واستشفت ما وراءها من قبول ورضا
أستردت نفسها حينما سمعته يقول:
- والدك كان قالى انك عاوزه تتأكدى من حاجات معينة ..أتفضلى انا تحت أمرك
حاولت عبير أن تقذف بخجلها بعيدا بل وترميه خلف ظهرها فهذا زواج لابد أن يكون فيه من المكاشفة ما فيه حتى تستقر سفينة الحياة بهم فى المستقبل على جبل التوافق والرشاد
خرج صوتها بصعوبة وهى تقول:
- كنت عاوزه أسألك على منهجك ..منهج أهل السنة والجماعة ولا حاجة تانية
أتسعت ابتسامته وأشرق قلبه بسؤالها, فهى ليست فتاة خجولة وفقط , بل أنها تعرف ماذا تريد فى زوج المستقبل وتعرف أنه ليس كل ملتحى متبعاً للمنهج الصحيح ..أجابها قائلا:
- أيوا الحمد *** .. أنا على منهج أهل السنة والجماعة
ظلت عبير تسأله وهو يجيب , كأنما يجلس أمام محقق يعرف جيدا كيف يستخرج منه الأجابات الوافية, سألته عن شيوخه ودروس العلم التى يحضرها وكيف بدأت حياته الدعوية وغيرها , وكيف يستطيع أن يوفق بين عمله كطبيب والدعوة
فقال:
- بغض النظر عن أنى ممكن أخطب خطبة أو أتكلم مع حد .. لكن بجد انا شايف أن الدعوة دى بتكون فى أى مكان وفى أى حته ومهما كان الواحد بيشتغل ممكن يدعوا الناس عن طريق شغله
قالت مستدركة:
- قصدك يعنى عن طريق أخلاقه
هز رأسه نفياً وهو يقول:
- مش بس أخلاقه .. الدكتور والمهندس والمحامي وأى موظف فى أى مكان أو صاحب محل .. ممكن يحط قدامه كتيبات وشرايط على المكتب والمريض أو العميل أو الزبون اللى يدخل عنده يديله منها ..الست ممكن تشيلها فى شنطتها وتدى منها هدايا لواحدة قاعدة جنبها فى المواصلات أو زميلتها فى الشغل أو جيرانها ...الواحد يجى يوم القيامة يلاقى جبال حسنات مش عارف جاتله منين .. ممكن واحدة تقرا الكتيب و**** يهديها وتبقى فى ميزان حسناتك وانتِ مش عارفة.. تتفاجئ بيها يوم القيامة فى ميزان حسناتك وهكذا ..علشان كده بقول مفيش حاجة اسمها مش عارف أوفق بين الدعوة إلى **** وشغلى مهما كانت طبيعة الشغل ده.
أخذت نفساً عميقاً وهى تشعر بالراحة النفسية الكبيرة وهى تنصت إليه فى اهتمام حتى انتهى من حديثه وأجاباته النموذجية , كان ينظر إليها وهو يجيبها وكلما أجاب أجابة ابتسمت ابتسامة صغيرة مما جعله يعرف نتيجة الأمتحان سريعاً , مما شجعه على أن يقول :
- ها فى حاجة تانية ولا خلاص ؟
هزت رأسها نفياً أن "لا" , فقال مردفاً بمرح :
- أنا اتعصرت على فكرة
أبتسمت ابتسامة صغيرة وهى تشعر بالقبول تجاهه ولكن قلبها خفق مرة أخرى حينما سمعته يقول:
- ممكن اسأل انا بقى ؟
أومأت برأسها موافقةً وقد كانت تتوقع أن يسألها أسئلة شبيهة بأسئلتها وقد كانت مستعدة تماماً لها ولكنها فوجأت به يقول:
- بتحبى الشعر؟
نظرت له مندهشةً وقالت باستغراب:
- شعر !!
أبتسم وهو ينظر إلى علامات الدهشة التى ملأت قسمات وجهها وأومأ برأسه مؤكداً وهو يقول:
- أيوا .. الشعر .. بتحبيه ؟
ثم قال هامساً :
- أصل انا رومانسى أوى .. وبحب كل حاجة رومانسية
أرتبكت ولم تدرى ماذا تقول, لقد غير مجرى الحوار تماماً , وعاد إليها خجلها مرة أخرى غازياً كل خلجاتها من جديد, وبعنفوانه أصر على تلوين وجهها مجدداً بلونه الوردى بعد أن كانت قد تحررت منه منذ قليل, قاومت فضولها ولكنها لم تستطع ووجدت نفسها تقول:
- وعرفت منين انك رومانسى ..هو كان فى علاقات من أى نوع قبل كده
أسند ذقنه على راحة يده وقال مبتسماً بنبرة خفيضة أربكتها:
- متقلقيش .. أنا شايل كل مشاعرى لحبيبتى وبس
لم تستطع أن تجلس أكثر من هذا , لم تعد تتحمل تلميحاته المتلاحقة والتى جعلت قلبها تتلاحق دقاته هو الآخر ويقفز بجنون بعد أن عاش طويلا يعانى شظف القسوة وتغالب الحرمان .. وجد من يأوى إليه ويستغرقه وينصهر بداخله ليصيرا مكوناً واحداً .
بدأ اللهب يشتعل فى مدفأة الحب , وبعد الأستخاره كانت النتيجة المتوقعة , بالموافقة , وتم تحديد ميعاد عقد القران , كانت عبير تحاول تأخير الميعاد حتى تكون شفيت تماماً ولكن بلال كان مصراً على العقد بعد أسبوع بحجة أن تعود عبير لممارسة العلاج الطبيعى تحت أشرافه مرة أخرى , دون موانع شرعية !
***
فوجىْ عمرو باتصال من والد عزة يخبره بميعاد عقد قران عبير ويطلب منه حضور العقد والشهادة عليه , ولم يستطيع عمرو أن يرفض , وافق على الفور, المشهد الأخير الذى رأى فيه عزة واقفة تنتظره فى نافذتها الصغيرة جعل قلبه يرق لها مرة أخرى ويشعر بقيمته لديها , قيمة الإنسان الحقيقية تتحدد بمن يعنيهم أمرنا وبمن يمثل رضاؤنا عنهم أو جفاؤنا منهم شيئاً ثمينا , غضب منها لأنه لم يستطع أن ينسى جرحها وكلمتها التى ألقتها على أذنيه فى الهاتف , ولكنه يعود ويتراجع ويلين , فإن لم يلن الجانب لحبيبته فلمن يفعل إذن ! , وهو أحبها واختارها منذ البداية وهو يشك فى مشاعرها تجاه صديقه , ولكل اختيار تبعاته التى لابد وأن نتحملها ونتعامل معها راضين بها , لأنها جزء لا يتجزأ من هذا الأختيار.
***
ضرب نادر بقبضته على مكتب إلهام بعنف وغضب وهو يصيح بها غاضباً:
- انا عاوز أعرف بقى ايه حكاية اللى اسمه عمرو ده معاكى
نهضت إلهام وهى تقول بحدة :
- وطى صوتك يا بنى آدم ..أنت عاوز تعملنا فضيحه ولا أيه .. وبعدين وانت مالك ..أنت مجرد حتة مهندس فى شركتى ملكش دعوة بتصرفاتى ولا فاكر نفسك جوزى ؟
قال وهو يشير إليها محذراً:
- أسمعى يا إلهام.. أنا مش هسمح باللى فى دماغك ده أنا فاهمك كويس
أبتسمت إلهام ساخرة وهى تقترب منه وتقف أمامه مباشرة قائلة:
- أنت هتمثل ولا ايه ..عاوز تفهمنى أنك بتغير عليا ...أنا عارفه كويس أوى انت خايف وقلقان منه ليه
ثم وضعت يدها على ذراعه وقالت :
- ومتقلقش الخير كتير ونصيبك محدش هيلمسه فى أى عملية ..خلاص ارتاح بقى ومتقعدش تتنططلى كل شوية وتعملى فيها غيران
تركها وجلس على المقعد أمام المكتب وهو يستند بمرفقه إلى حافته قائلاً:
- أنا عايز اعرف بس انتِ هتحتاجيه فأيه ؟ هو انا مش مهندس برضة وبخلصلك اللى انتِ عايزاه كله وأحسن ..عاوزه تحشريه ليه وسطنا.. ده بدل ما نقول يا حيطة دارينا
قالت إلهام بعصبية :
- أيه الألفاظ دى.. حيطة ايه دى اللى تدارينا .. أنت ناسى احنا بنشتغل مع مين ولا ايه ومالك كده محسسنى اننا بنتاجر فى المخدرات
وقفت خلفه ووضعت يدها على كتفه وقالت بحسم:
- أسمع يا نادر.. أنت متدخلش فى شغلى تانى وملكش دعوة بعمرو .. وبطل تضايقه فى شغله .. أما بقى شغلنا الخاص مش عاوزاك تقلق.. عمرو مش هيدخل فى نصيبك هيبقى ليه نصيب خاص بيه لوحده
هب واقفاً وصاح مرة اخرى:
- وليه كل ده هيعمل أيه زيادة
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت بجرأة:
- بصراحة ....عمرو ذكى أوى وليه لمحات كده فى شغله بتحسسنى انه فنان فعلا مش مجرد مهندس كده وخلاص ومن الآخر عاجبنى وعاوزه أكبره
أبتسم نادر بسخرية ممزوجة بالغضب وهو يهتف :
- آه عاوزه تكبريه على قفايا مش كده
قالت متأففة وهى تجلس خلف مكتبها:
- يووه أطلع من دماغى بقى يا نادر.. أنا جبتلك من الآخر وانت مش عاوز تفهم
أتكأ على المكتب ونظر لها بتحدى قائلا:
- دلوقتى أطلع من دماغك ..طبعا ما انتِ استغنيتى خلاص
قالت بلامبالاة:
- مش زى ما أنت فاهم على فكره
رفع حاجبيه وقال ساخراً:
- كمان مش زى ما أنا فاهم ..
ثم ضحك قائلا:
- يعنى لسه مدوخك ومطلع عينك ..أومال عاجبنى ومش عاجبنى وبعتينى علشانه وهو ولا معبرك
أستندت إلى ظهر مقعدها باستعلاء وهى تضع ساقاً فوق الأخرى وقالت باستفزاز:
- أنا مش هزعل من كلامك ده علشان مقدره حالتك كويس ..لكن متنساش مين هى إلهام ..أنا محدش يقدر يقولى لاء ..لا عمرو ولا غيره ...وأنت مجرب
****
وفى صباح يوم عقد قرآن عبير وبلال كانت أعمال تعليق المصابيح والكهرباء تجرى على قدم وساق فى شارعهم الصغير وسط مباركة ومشاركة من الجميع الذين أبهجهم خبر زواج عبير .
أبتسمت أم يحيى وهى تفتح بابها عندما وجدت فارس واقفاً أمامها فقالت مرحبةً:
- أهلا يا أستاذ فارس أتفضل
قال بسرعة وعلى محياه ابتسامة واسعة :
- لا معلش يا ام يحيى.. مستعجل أوى ..كتب كتاب بلال صاحبى والآنسه عبير النهاردة.. أنتِ مش عارفة ولا ايه
قالت أم يحيى بسعادة:
- لا عارفة طبعا ورايحة كمان شوية.. هو فى أغلى عندى من عبير .. دى هى اللى علمتنى الصلاة ونبهتنى ليها
كان واضعاً يديه خلف ظهره وهو يتحدث وقال:
- أومال مُهرة فين .. مش سامع صوتها يعنى بقالى كام يوم
- بتذاكر
- طب نديهإلى ثوانى بس مش هعطلـــ ..
لم يكمل عبارته حتى وجدها تدفع أمها من الخلف محاولةً أن تخرج رأسها بجوار خصرها بصعوبة هاتفةً باسمه , تنحت أمها جانباً لتمر بجوارها وتراجعت هى قائلة:
- ياريتنا كنا افتكرنا شلن ..
وأستأذنته قائلة:
- طب عن أذنك يا أستاذ فارس اشوف اللى على النار
نظر لها بتمعن وقال بمرح:
- أيه ده مش معقول .. زى ما تكونى طولتى خير اللهم اجعله خير خمسة سنتى
كان يتوقع عاصفة رعدية بعد إنهاء كلمته الأخيرة ولكن العكس هو الذى حدث , نظرت لنفسها ووقفت على أطراف أصابعها وهى تقول بلهفة:
- بجد يا فارس .. أنا طولت بجد
ضحك وهو يقول:
- أه طبعا طولتى وكبرتى وعلشان كده بقى جايبلك حاجة هتعجبك اوى
وأخرج الشنطة البلاستيكية من خلف ظهره وأعطاها لها قائلا:
- أتفضلى يا ستى ده بقى علشان تلبسيه فى كتب كتاب عبير النهاردة
فضت الشنطة فى سرعة شغوفة وأخرجت منها فستان و** , أعادت ال** فى الشنطة مرة ثانية وأمسكت بالفستان بفرح وهى تتامل ألوانه الهادئة المتداخلة فى انسيابيه وضعته على جسدها وقالت بتبرم :
- بس ده طويل يا فارس هيكعبلنى
هز رأسه نفيا وقال بتصميم:
- لا طبعاً ولا هيكعبلك ولا حاجة.. ده يدوب واصل لآخر رجلك
ثم أخرج ال**** قائلاً:
- وده بقى هتلبسيه فوقيه .. شايفه لونهم حلو ازاى على بعض
قالت وهى تمسك بشعرها:
- بس انا كنت عاوزه أسيب شعرى فى الفرح النهاردة
عقد ذراعيه أمام صدره وأشاح بوجهه بعيداً عنها ولم يجيبها , نظرت إليه ملياً وهتفت فجأة:
- طب خلاص متزعلش هلبسه و** ..و** خلاص
ألتفت إليها وقطب جبينه وقال محذراً:
- ولو محمود أخو عمرو ولا أى حد غيره حاول يكلمك مترديش عليه .. ومتجيش تقوليلى وسط الرجالة.. لاء... أدخلى عند البنات جوه وتخليكى جوه على طول فاهمانى
أومأت برأسها بقوة موافقة وهى تقول:
- حاضر يا فارس
تابع حديثه قائلا باهتمام:
- وال**** ده متقلعيهوش تانى ومتخرجيش من غيره .. ولما يكون يحيى عنده درس متخرجيش من أوضتك أبدا إلا وانتِ لابساه
أومأت برأسها بقوة مرة أخرى توافقة ولكنها توقفت فجاة وقالت:
- طب وانا نازله عندكم ألبسه برضة
كان الرد منطقى وطبيعى أن يقول نعم , ولكنه لا يعلم لماذا تردد , ربما لأنه يعتبر نفسه مُربيها وولى أمرها وكأنه أباها أوأخيها الأكبر سناً , ولكن فى النهاية لا يصح إلا الصحيح فقال:
- أيوا طبعاً حتى وانتِ نازله عندنا تلبسيه ..أتفقنا
- أتفقنا
***
كانت حفل عقد القران بسيطاً ولكنه ممتلىء بالبركة ولا عجب من ذلك فإن لم تكن البركة فى الحلال بعد الصبر الجميل فاين تكون , أنتهى المأذون من العقد قائلاً :
- حد يودى الدفتر للعروسة علشان تمضى
لمح والدها عزة تقف بين النساء فنادى عليها فاقبلت سريعاً وكأنها تنتظر هذا النداء لتلقى نظرة سريعة على عمرو الجالس بجوار فارس وبلال , راقب عمرو نظرتها فوجدها تبحث عنه وحده , وابتسمت عندما وجدته , أعطاها والدها الدفتر الكبير وأسرعت هى فى سعادة إلى غرفة أختها التى كانت تحيطها أمها وأم بلال وبعض النساء والجارات المحبات ووضعتها أمامها فى شغف قائلة:
- أمضى يا عروسة.. يالا ولا رجعتى فى كلامك ؟!
ابتسمت عبير وهى تنظر إلى الدفتر وعزة تشير لها على المكان المخصص لتوقيعها وابتسمت أكثر عندما وجدت توقيع بلال وكأنها تراه هو شخصياً وليس توقيعه فقط , شعرت باضطراب وبخفقان شديد فى نبضها وهى توقع بجانبه , وساد الصمت حتى أنها شعرت أن الجميع يسمع صوت نبضاتها المتلاحقة تتسارع أيهما ينبض أولاً , أخذت عزة الدفتر مرة أخرى بعد ان قبلت اختها مهنئةً لها ومباركة لزواجها وسط زغاريد النساء المتعإلية وعادت سريعاً لتلقى نظرة أخرى وهى ترد الدفتر لأبيها ولكنها لم تجده , مقعده فارغاً , بحثت بعينيها سريعاً فى الغرفة فلم تجده , أنتهت الأجراءات بمباركة الجميع وعناق فارس لـ بلال فى سعادة كبيرة.
عادت عزة أدراجها خارج الغرفة والمكان مزدحم , ظلت تبحث عنه وهى تتجنب الصدام بالرجال حتى خرجت خارج الشقة , ألقت نظرة سريعة على السلم , وقبل أن تلتفت لتعود سمعته يقول :
- بتدورى على حد ؟
شهقت وهى تضع يدها على صدرها والتفتت إليه سريعاً قائلة:
- فزعتنى
عقد ذراعيه أمام صدره وقال بجدية:
- سلامتك
أطرقت للأسفل ثم قالت متوترة:
- سامحتنى ولا لسه
- أنتِ شايفة ايه ؟
- أنت لسه مش على طبيعتك معايا
أطل عمرو برأسه داخل الشقة ثم عاد كما كان وهو يقول :
- مش وقته الكلام ده .. بعدين نبقى نتكلم تلاقيهم بيدوروا عليا
كاد ان يدخل ويتركها ولكنه استدار إليها مرة أخرى وأشار إلى وجهها قائلا:
- مش عاوزك تحطى مكياج قدام الناس تانى
وضعت يدها على وجهها بتلقائية وقالت :
- انت عارف انى مبحطش مكياج بس علشان النهاردة فرح عبير وبعدين الرجالة بعيد عن الستات
أومأ برأسه وهو يقول متهكماً:
- اه صح.. يعنى مدخلتيش عند الرجالة مرتين ومخرجتيش دلوقتى بره الشقة مش كده
قالت منفعلة مدافعةً عن نفسها:
- انا خرجت ادور عليك
لاحت ابتسامة صغيرة على جانبى ثغره ولكنه أخفاها سريعاً وقال بجدية مصطنعة :
- عموما يعنى انا ماليش حكم عليكى ... براحتك
قال كلمته ودلف للداخل كادت أن تمسك بذراعه لتوقفه ولكن يدها توقفت فى الهواء , زفرت بضيق فلم تستطيع استخراج ما بداخله وتركها فى حيرة وكادت أن تظن انه نسيها تماماً لولا أخر كلمة قالها وتعليقه على زينة وجهها
تنهدت فى حيرة ودلفت للداخل دون النظر لأحد وقفت أمام مرآة الحمام وأزالت الألوان العالقة بشفتاها ووجنتها وعينيها وأعادة وجهها إلى ما كان عليه فى صفاءه ونضارته الطبيعية
دخلت المراة التى تسببت فى حادثة وقوع عبير فوق السلم هى وابنتها , لا تبارك وأنما لتشمت ولتسخر , شعرت بالحقد وهى ترى عبير فى أبهى صورها , قبلتها ببرود وهى تبارك لها بكلمات خاوية غير صادقة ومن العجيب أن عبير كانت قد نسيتها تماماً ولم تتذكرها إلا عندما سمعتها تسخر وهى تحادث أمها قائلة :
- والعريس بقى عدى الخمسين ولا لسه
كادت أم عبير أن ترد بعصبية ولكن أم بلال قاطعتها قائلة بزهو:
- أبنى الدكتور بلال لسه مكملش ال34 سنة
وأردفت أم عبير قائلة بحدة:
- وملتزم ويعرف ****
نظرت ابنتها إليها بحقد وهى تردد ... دكتور ! , ردت عبير قائلة :
- ده الدكتور اللى عالجنى لما وقعت على السلم ورجلى اتكسرت يا طنط
لا تعلم عبير لماذا قالت ذلك, ربما أنها فعلت ذلك بداعى أنثوى محض لا يعلمه ولم يختبره غير النساء, خرجت المرأة مقهورة هى وابنتها , وبعد أن شاهدت بلال وسط الرجال, زادت قوة سخطها وقهرتها وهى تراه بلحيته المنمقة التى زادته وسامة وجاذبية وضحكته المجلجلة بينهم التى تنم عن سعادته بهذه الزيجة .
أنفض الجمع وخلا الحبيب بحبيبه ولكن هذه المرة بعيداً عن الأعين المراقبة , أعدت أم عبير عشاءً فاخراً لزوج ابنتها وتركتهما وحدهما فى غرفة الصالون وتركت الباب مفتوحاً وانضمت إلى زوجها فى غرفته , بينما كانت عزة تنظف فى المطبخ آثار حفلة زواج أختها فى سعادة وحيرة من أمر عمرو
جلس بلال على المقعد الملاصق لها أمام مائدة الطعام وهو يتأملها بحب , كان يتوقع من نفسه غير ذلك فى تلك الليلة التى كان ينتظرها بشغف , ولكنه وجد نفسه مرتبكأ أكثر منها أخذ يتفحصها فى سعادة كبيرة وفى صمت أيضاً , قطعت هى ذلك الصمت ولكن بهمس وقالت بخجل:
- مش هتتعشى ؟
أنتبه من سُباته وقال على الفور :
- اه هاكل طبعا.. ده انا واقع من الجوع
حاول أن يطعمها فى فمها ولكنها خجلت وامتنعت فقال:
- ايه ده بقى عاوزه تحرمينى الأجر ولا ايه
ألتفتت له متعجبةً وقالت:
- أجر أيه
أبتسم وهو يقول :
- متعرفيش حديث الرسول صل ** عليه وسلم : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه ** إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك (...شفتى بقى يعنى اللقمه اللى هحطها فى بؤك هاخد عليها أجر
أبتسمت بخجل وهو يمد يده و يضع قطعة صغيرة من اللحم فى فمها ولكن احمرار وجنتها طغى وبشدة وكادت أن يغشى عليها حينما وضع أطراف أصابعه التى لامست شفتيها فى فمه وهو يتذوقها متلذذاً و يتأملها قائلا:
- هى صوابعى طعمها احلو كده ليه
أشفق عليها عندما رأى تلون وجهها بعد عبارته فأراد تغير الحديث وقال بجدية :
- أسمعى بقى من هنا ورايح مفيش دلع.. لازم تخفى بسرعة ..عاوزين نخرج مع بعض ونفسى أوى أفسحك ونتمشى مع بعض كده وأدينا فى أيد بعض زى الحبيبة
رأى ابتسامتها فتابع قائلا:
- خلاص اتفقنا من بكره ان شاء **** هنبدأ تمارين مكثفة
قالت عبير بصوت خفيض:
- بس هتكسف أجيلك المركز
رفع حاجبيه متعجباً وقال:
- وتيجى ليه ..أنا اللى هجيلك وهنعمل التمارين هنا ولو احتاجتى للجهاز هبقى اخدك على هناك بنفسى
قالت بحياء وهى تضع خصلة شعرها خلف اذنها :
- هنا فى البيت ؟
مال إلى الأمام وهو يتلمس خصلتها التى نامت على كتفها وقال هامساً:
- اه هنا فى البيت هو انتِ مش مراتى ولا أيه
ثم جعل صوته أكثر عذوبة وهمساً وهو يقول:
- وبعدين كان فى تمارين مش عارفين نعملها قبل كده.. افتكر بقى دلوقتى هنعملها بسهولة
وقبل أن تجيب اعتدل فى جلسته وقال بشغف :
- أمبارح قرأت شعر حلو أوى وحسيت انه مكتوب علشانك انتِ .. قعدت احفظ فيه طول الليل علشان اقولهولك النهاردة
لم يتلقى منها أجابة إلا صمتها الخجول وعينيها الحيية فبدأ فى سرد ما حفظه من شعر يهديه لها بصوت عذب هامس :
أحبــــك ... واحة هـــــــدأت عليها كــــل أحزاني
أحبـــــك ... نسمة تروي لصمت النــاس ألحانــي
و لو أنساكِ يا عمري ..... حنايا القلب تنسـاني
و لو خٌيِّرتٌ في وطن ..... لقلتٌ هواكِ أوطانـي
إذا ما ضعت في درب ..... ففي عينيكِ عنوانــي
أخذت تنصت إليه وهى تشعر أن المكان غير المكان والزمان غير الزمان وكأن الغرفة الصغيرة تحولت لسحابة هادئة تمضى بهما فى رحلة غير مماثلة , إلى واحة هانئة ينفث الحب فيها عطره الفواح.
الفصل السادس عشر
طرق عمرو باب حجرة المكتب الخاص بإلهام ودلف إليها مبتسماً أبتسامة روتينية بعد أن ألقى التحية , أشارت له إلهام بالجلوس وهى تتأمله متفحصة وارتسمت على شفتيها الأبتسامة المعتادة التى تغزوها كلما رأته ثم قالت بنعومة:
- أيه يا بشمهندس .. يعنى محدش بيشوفك
لم يستطع أن يغالب المزاح بداخله فوجد نفسه قائلا:
- وفيها ايه لما يشوفنى يعنى
قطب جبينها وقالت بعدم فهم:
- هو مين ده !!
رفع حاجبيه وهو يقول:
- محدش
أبتسمت وهى تضيق عينيها قليلا ناظرة إليه وقالت:
- ايه ده وكمان دمك خفيف..
وخضعت بنبرة صوتها وهى تردف:
- مش كفاية ذكى ووسيم وجذاب .. كمان دمك خفيف.. لاء كده مش هاستحمل
أبتلع عمرو ريقه وهو حانقاً على نفسه وعلى دعابته, هل أصبحت الدعابة تسرى فى دمه لهذه الدرجة فلا يستطيع وضع احاديثه فى نصابها الصحيح ومع الشخص الصحيح , رآها تنهض من مجلسها وتقف خلفه وقالت :
- عمرو.. أنا عاوزه اتكلم معاك شوية بره الشغل ... أنت بيبقى وراك حاجة بالليل؟
قالت كلمتها الأخيرة هذه وهى تلامس خصلات شعره من الخلف مما جعله ينتفض واقفاً وبحث عن مخرج مناسب لا يتسبب فى أنهاء حياته العملية من الشركة ولكنها لم تنتظره طويلا واعتبرت صمته تفكير فى الأمر فاقتربت أكثر لتحثه على الموافقة وتعده بما ليس له بل وليس من حقه بدنوها منه إلى هذه الدرجة حتى شعر بانفاسها من خلف أذنيه واشتم رائحة عطرها النفاذ تزكم أنفه رغماً عنه لتوقظ بعض مشاعره الدفينة وشعر بدفء جسدها بملامسة ظهره وسمعها تقول بهمس كالفحيح:
- أيه رأيك نتعشى سوا الليلة
وفجأة فُتح الباب ودلف صلاح فى عجلة من أمره , ولكنه توقف أمام ذلك المشهد , عمرو واقفاً فى توتروإلهام تقف خلفه مقتربة منه بشدة , وقف جامداً ينظر إليهما ولكنها كانت فرصة سانحة وجدها عمرو للهروب بدون عواقب كما كان يفكر قبل دخول صلاح عليهما , تنحنح وهو يتحرك فى اتجاه صلاح ووقف بجواره قائلا:
- طب استأذن انا علشان عندى شغل كتير
بمجرد أن خرج عمرو حتى قامت عاصفة إلهام الرعدية وظلت ترعد وتؤنب صلاح على دخوله بغير أذن وبغير ميعاد , وضع صلاح الملف الذى كان يحتاج إلى توقيعها أمامها على المكتب وانصرف على الفور وتركها وسط حممها المتصاعدة وعاد لعمله .
فوجئ بوجود عمرو فى مكتبه ينتظره , ألقى عليه نظرة عتاب كبيرة وهو يجلس خلف مكتبه ويتابع عمله بصمت , وقف عمرو مدافعاًعن نفسه وقال:
- متبصليش كده .. أنا و**** ما عملت حاجة
رفع صلاح عينيه إليه قائلا:
- معملتش اه .. لكن سكت .. و اللى يسكت على الغلط يبقى مشارك فيه ومينفعش بعد كده انه يلوم اللى هيطمع فيه بعد كده نتيجة سكوته وزى ما بيقولوا السكوت علامة الرضا
قال عمرو بانفعال وهو يجلس :
- أنا مكنتش ساكت.. أنا كنت بدور على طريقة مناسبة أهرب بيها من الموقف
- الحكاية مش محتاجه تفكير يا عمرو.. أنت بتخاف على شغلك ومستقبلك أكتر ما بتخاف على أى حاجة تانية ... وأنا حذرتك كتير ونبهتك كتير بس أنت شكلك مش هتتعلم ببلاش ..اللى بيسيب الباب موارب يابنى مايزعلش لما يدخله منه شر بعد كده
خرج عمرو من مكتب صلاح يضيق بنفسه ذرعاً ولا يعلم لماذا يتهاون إلى هذا الحد , هل كما قال صلاح فعلا هو يخاف على مستقبله وعمله أكثر من خوفه من أى شىء آخر , نفض الفكرة عن رأسه مستنكراً لها ولكنه لم يستطع أن ينفض تلك المشاعر التى عاشها والتى أستقيظت بداخله منذ لحظات فى مكتب إلهام , فمازال يشتم عطرها النفاذ ومازال يشعر بلمستها , لم يستطع أن يغالب هذا الشعور الذى يجتاحه فخرج فورا من الشركة عائداً لمنزله تصارعه مشاعر شتى , وبدلاً من أن يدخل منزله وجد نفسه يتوجه إلى بيت خطيبته قاصداً أياها , سيلهى بعض من مشاعره بطلب تحديد موعد لعقد القران ولتذهب الخطبة إلى الجحيم.
****
وبعد موافقتها تم تحديد موعد عقد قران عزة وعمرو بعد أيام ليصبح فارس هو آخر من يتم عقد قرانه بينهما , وفى هذه الفترة كان عمرو يتهرب من أى لقاء يجمعه بإلهام وكان صلاح يساعده على ذلك ويتصدر هو لأى عمل يتطلب وجود عمرو معها فى مكان واحد. وجاء اليوم المنتظر وكان بسيطاً كالذى سبقه تماماً يجتمع فيه الأهل والأحبة والجيران فى منزل العروس ليتم عقد القران بينهم وبحضور الشاهدين , فارس وبلال , ويالها من مفارقة كانت فى يوم من الأيام تتمناه زوجاً وها هو اليوم يشهد على عقد قرانها ويزيل عقدها بتوقيعه المميز .
أجتمعت بعض النساء فى الداخل ينشدون لعزة الأناشيد بقيادة عبير التى كانت قد تحسنت كثيرا بفضل تمارين بلال المكثفة ! كما كان يقول ويبدو أن ضميره هذا قد انعكس على حالتها النفسية كثيراً , فلقد كانت تبدو كما لو كانت هى العروس , وكأنها فى العشرين من ربيعها وهى تغرد بأناشيدها المحببة وتضرب بالدف فى سعادة وقوة وتتنقل بين النساء كالفراشة التى تتنقل بين الزهور فى بستان المودة والرحمة التى نهلت منه منذ أن أصبحت زوجة لـ بلال وحبيبة لقلبه الفياض , وأثناء انشغالها سمعت أمها تهمس فى أذنها أن زوجها يريدها فى الخارج , ربما قد يكون الأمر عاديا لولا أن والدتها أنبئتها أنه يبدو عليه الإنزعاج وربما الغضب , أرتدت ملابسها كاملة وخرجت تبحث عنه فاشارت لها والدتها أنه ينتظرها فى المطبخ ! , دخلت بسرعة إلى مطبخها فوجدته فعلا قد بدا عليه الضيق الشديد فرفعت نقابها ونظرت إليه بقلق وقالت متسألة:
- مالك يا حبيبى
نظر إليها بضيق وقطب جبينه وقال منفعلا:
- مش عارفة فى أيه .. أنتِ فاكرة نفسك بتنشدى فى الصحرا لوحدك ..صوتك واصل بره عندنا يا هانم
أصفر وجهها وشحب واتسعت عيناها وهى تضع يديها على وجهها ثم قالت بأحراج:
- و**** ما كنت واخده بإلى ..
ثم نظرت له معتذرة وقالت :
- أنا آسفه يا حبيبى.. ب**** عليك متزعلش مني
هدأ قليلاً وهو عاقداً ذراعيه خلف ظهره وقال معاتباً:
- أبقى خدى بالك بعد كده ..
ثم مد يده ومسح وجنتها بظهر أنامله وقال بحب:
- ما انتِ عارفه انا بغير عليكى ازاى يا حبيبتى.. صوتك محبش راجل غيرى يسمعه
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت مداعبةً له:
- ده انت أرهابى بقى
أمسك وجهها بين كفيه واحتواها بعينيه ..ثم قال:
- لو ده الأرهاب فأنا أرهابى أصيل...
ثم قبل جبهتها وقال مردفاً:
- ولابس حزام ناسف كمان
أبتسمت فى سكون وهى تمسك بيديه التى تحيط بوجهها فقال :
- أخبار رجلك ايه
نظرت له بدهشة وقالت:
- كويسة الحمد *** بتسأل ليه
مط شفتيه وقال:
- انا بقول نعمل الفرح والدخلة بقى علشان نكمل التمارين فى بيتنا براحتنا.. الواحد يا شيخة مش حاسس انه بيشتغل بضمير فى العلاج
أزاحت يديه ووضعت يديها حول خصرها قائلة:
- كل ده وضميرك لسه مستريحش
أبتسم وهو يرمقها بنظراته المتفحصة:
- كل ده أيه .. ده انا حاسس انى مقصر.. يرضيكى يعنى ضميرى يعذبنى
قالت وهى تعيد ال**** على وجهها مرة أخرى :
- مقصر ..لاء خاليك مقصر **** يخليك
أفلتت من يده وعادت إلى النساء مرة أخرى , أكثر أشراقاُ وجاذبية, فهكذا هى الزهرة , كلما لاقت حباً واهتماماً وعنايةً , كلما زادت إشراقاً وتألقاً وتفتحاً وعبيراً , تفيض على من حولها بشذاها.
أنتهى حفل عقد القران واستأذن بلال والد عبير أن يخرجا سوياً وخرج معها من منزلها أصابعهما متشابكة كما كان يحلم دائماً وهى تقول :
- بلال أنا مكسوفة امشى فى شارعنا واحنا ماسكين أيد بعض كده
قال مشاكساً:
- ليه يا حبيبتى هو انتِ صاحبتى ده انتِ مراتى
***
دفعت عزة عمرو بعيدًا عنها بهدوء وقالت بارتباك :
- أيه يا عمرو ده.. مينفعش كده على فكرة
نظر إليها بضيق وقال متبرماً:
- أيه يا عزة أنا جوزك دلوقتى
تلعثمت وهى تقول بخجل:
- يا عمرو دى أول مرة نقعد فيها مع بعض بعد كتب الكتاب .. أرجوك تراعى الحكاية دى
أسند مرفقيه على مائدة الطعام أمامه وقال معتذرا :
- حاضر هراعى.. بس انتِ كمان راعى انى بحبك وانى شاب زى كل الشباب وطول عمرى بشوف بنات وشباب وعلاقتهم مفتوحة كأنها مراته .. ورغم كده عمرى ما عملت زيهم عارفه ليه ..
وقبل أن تجيب قال :
- علشان بحبك وعمرى ما حبيت أنى ارتبط بواحدة غيرك.. لا فى حلال ولا فى حرام مينفعش بقى تيجى بعد كل ده وتقوليلى مينفعش يا عمرو
كادت عزة أن تبكى وهى تشعر بضغطه عليها بكلماته واستعجاله للأمور بهذا الألحاح المتواصل ومحاولاته المستمرة , ولكنها لن ترضخ له فى أى حال من الأحوال فالعقد له حدودا يجب أن لا يتخطاها أبداً
***
سار بلال بجوار عبير بمحاذاة كورنيش النيل متعانقة أيديهما متشابكة أصابعهما, نظر لها ليرى بعض علامات الضيق والأضطراب ظاهرة بوضوح فى عينيها فقال:
- مالك يا حبيبتى ايه اللى مضايقك
- مش شايف المناظر يا بلال.. هى البنات دى مش مكسوفة وهى واقفة بالشكل ده.. طب مش خايفين من أهاليهم.
هز رأسه باسى وكأن حديثها آثار شجونه وقال:
- يعنى انتِ من مرة واحدة وقلتى كده واضايقتى من المناظر.. أومال انا أعمل ايه اللى على مدار حياتى شفت اضعاف اضعاف المناظر دى.. ده غير الأشكال اللى كنت بقابلها فى شغلى أيام ما كنت بشتغل فى مركز كبير بعد تخرجى .. وكان بيورد علينا رجالة وستات والحاجات اللى كانت بتتعرض عليا ساعتها ورغم كده الواحد كان بيستحمل وبيصبر وبيغض بصره عن الحرام
قالت عبير بحنان:
- وكنت بتقدر تستحمل كده ده ازاى
قال بشجن :
- علشان ** يا عبير .. كنت بصبر وبصوم كتير وبخرج طاقتى فى شغلى والدعوة والرياضة والحمد *** ** عصمنى
ثم نظر لها وقال بحب:
- مش كده وبس ..ده كمان كافأنى ورزقنى بزوجة صالحة زيك
ابتسمت رغم الشجن الذى لمسته من كلماته وحاولت تخفيف ما استعاده من ذكريات قد تضيق بها نفسه وقالت بمرح :
- بس أيه يا عم الكاجوال الخطير ده .. الناس يقولوا أيه.. شيخ ولابس كاجوال
نظر إلى ملابسه وقال بزهو مصطنع:
- لا وكله كوم والتيشرت الفظيع ده كوم لوحده
ضحك كلاهما وهما يسيران عكس اتجاه الطريق ليعودا أدراجهما إلى منازلهما وتركوا خلفهما شباب متسكعة وبنات متخبطة فى شهوات الدنيا وملذات الحياة, متسلقين زورقًا للحب, يتخبط بهم فى بحار عالية الأمواج , بعيدة القاع ذات اليمين وذات الشمال , فهل يُأمل لهم النجاة وقد بعُد المرسى .
***
أستطاعت دنيا أن تتكيف على عالمها الجديد, فلا تدخل ولا تخرج إلا بصحبة والدتهاالتى أشرفت بنفسها على شراء ملابسها الجديدة, فاختارت لها كل ماهو محتشم, تغيرت طريقة ملابس دنيا بالكامل مما جعل فارس يشعر أنهما على بداية الطريق الصحيح وأنها من الممكن أن تتغير فعلا وأنه أحسن الأختيار, ولكنه لم يكن يعرف أنها كانت تجاريهم فقط لتمر الأزمة على خير حتى أنهى فارس اختبارات الماجيستير وتم تحديد يوم حفل عقد القران .
حضر عقد القران عمرو وبلال وعبير وعزة ورغم المحاولات الكثيرة التى قام بها فارس لأصطحاب مُهرة معهم ولكنها بكت و رفضت بشدة , بل وتصنعت المرض لكى لا تذهب معهم.
بعد العقد مباشرة أصرت عزة على المغادرة هى وعبير عزه وعبير, فلقد كانت دنيا تتعامل معهما ببرود وبابتسامة خاوية من أى ترحيب مما جعلهن يشعرن بالوحدة فى بيتها وطلبا المغادرة بعد تهنئتها بالزواج بصحبة والدة فارس , غادر الجميع وتركت والدة دنيا لفارس المجال أن يجلس مع دنيا قليلا على انفراد بعد أن أصبحت زوجته , كانت متوترة وعيناها تفصح عن شىء ما مجهول ولكنها صامتة , عندما حاول بثها شوقه لم تتجاوب معه وتعاملت معه ببرود ثم اعتذرت وكأن الأمر خارج عن سيطرتها , حاول أن يعرف ما بها ولكنها لم تجب بشىء واضح , غادرهو الآخر بعد أن طبع قبلة رقيقة على وجنتها مودعاً أياها.
***
ومرت الشهور تلو الشهور , وسنة يعقبها سنة, تتسابق تتلاحق ,وكأنها فأر يقرض فى عمر الزمن فى سرعة وخفة لم يلتفت لها فارس وهو منهمك فى تحضير الدكتوراة التى نفذت معه طاقته ولقد كان هو أكثر من مرحب وهو يشعر بتباعد دنيا عنه يوما بعد يوم,
ورزقت عبير من بلال بأربع توائم دفعة واحدة وكأن **** سبحانه وتعالى قد صرف لها الأقدار ومنحها دفعة واحدة جوائزه وعطاياه كما لو كانت تزوجت منذ سنوات كثيرة وليس أقل من ثلاث سنوات .
وحاول عمرو إقناع والد عزة بأن يتم الزواج فى شقة والده ولكن والدها رفض نظراً لأن لديه أخ أصغرمنه وهو محمود , والذى ألتحق بالجامعة هو ويحيى صديقه , فكيف ستعيش عزة مع محمود فى منزل واحد! , باءت المحاولة بالفشل وبدأ عمرو فى البحث عن شقة إيجار فى مكان قريب منهم.
وخاضت مُهرة فى مرحلة جديدة وهى مرحلة الثانوية العامة ورحلة بحثها عن ذاتها التى لم تنقطع طوال الفترة السابقة , ولكنها ظلت البنت العنيدة التى لا تستسلم بسهولة ولا تصمت على شىء تراه خطأ من وجهة نظرها, وكانت تحاكى أفعال فارس فى كل شىء , بل وتتحدث مثله وتستمع إليه وتدون النقاط المهمة فى حديثه تحفظها عن ظهر قلب , حتى أن الجميع كان يلقبها بالفارس الصغير! , كانت أنوثتها قد لاحت فى الأفاق بقوة وطالت قامتها فجأة وأصبحت تضاهى أقرانها بجمال بري مشاكس ملفت للأنظار , ولكن فارس لم يراها يوماً إلا طفلته الصغيرة العنيدة التى يفخر بها دوماً.
****
الفصل السابع عشر
طرقت مُهرة باب شقة فارس وهى تمسك بيدها بطفلين صغيرين بالكاد أتما السنتين من عمرهما , أبتسمت أم فارس وهى تفتح لها الباب وتنظر إلى الولدين فى يدها وقالت وهى تنحنى لتأخذ واحدا منهما وتلاعبه:
- تعالى يا ام العيال ادخلى
دخلت مُهرة وهى تضحك لمداعبة أم فارس وجلست ووضعت *** منهما على قدمها وأخذت تهزه وتأرجحه و تقول:
- اه و**** يا طنط .. أنا حاسة انى انا أمهم فعلا
أعطتهم أم فارس أحد قطع الألعاب الصغيرة وهى تقول:
- من يوم ما شوفتيهم بعد ما اتولدوا وانتِ شايلاهم.. بصراحة يا مُهرة انتِ شلتى عبء كبير عن عبير
وضعت مُهرة يديها فى خصرها وهى تقول بمشاغبة:
- يا سلام مش ساعتها كنتوا بتقولوا صغيرة ومش هتعرف تخلى بالها منهم.. وعزة مش مكفيها تاخد منهم واحد ..لا كمان كانت طمعانة فى اللى حطيت عينى عليه
ضحكت أم فارس وهى تقول باستغراب:
- هما طبق كشرى بتفرقى فيهم يابنتى.. دول *****
- بس عرفت اخد بالى منهم ولا لاء؟
قالت أم فارس بإعجاب :
- عرفتى وابصملك بالعشرة
دارت مُهرة ببصرها فى المنزل وهى تقول:
- هو فارس لسه مجاش من الشغل
ضربت أم فارس بيدها على جبينها وهى تقول متذكرة:
- الأكل على النار يخرب عقلك يا مُهرة نستينى
نهضت واقفة وتابعت وهى فى طريقها للمطبخ:
- ده زمانه جاى هو ومراته ..عازمها على الغدا عندنا النهاردة
مطت شفتيها بامتعاض وهى تقول بصوت مرتفع :
- **** يكون فى عونك يا طنط أنا عارفة هتستحمليها ازاى
خرجت أم فارس من المطبخ ونظرت إلى مُهرة بعتاب وقالت:
- لاء يا مُهرة محبش اسمعك بتقولى كده لو فارس سمعك هيزعل أوى.. دى مراته برضة
لوحت مُهرة بيدها وهى تقول معترضة:
- مش مراته .. دى خطيبته بس
أبتسمت أم فارس وهى تقول :
- لاء مدام كتب كتابه عليها تبقى مراته
عادت للمطبخ ثانية تكمل ما بدأته من طعام الغذاء بينما وضعت مهُرة الطفلين على الأريكة وأخذت تلاعبهما وتضاحكهما ببعض الألعاب ثم وضعتهما على الأرض يمرحان بألعابهما ووقفت تنظر لغرفة فارس التى اعتادت الدخول إليها يوميا منذ أن كانت مجرد ****, وقفت وسط الغرفة تتأمل المكان حولها وكأنها تدخل لأول مرة وفعلت كما تفعل يوميا , جلست خلف مكتبه الصغير وفتحت أحد أدراجه وأخرجت بعض من صورها الذى التُقطت لها وهى صغيرة ومازال فارس محتفظا بها فى درج ذكرياته كما يسميه, تأملت صورها قليلا وهى تبتسم تارة لصورتها بشعرها الأشعث المتناثر وصورة أخرى بملابس العيد الجديدة وصورة جمعت بينهما وهما ينظران لبعضهما البعض ويخرج كل منهما لسانه للآخر بمشاغبة وهى تحمل دميتها المفضلة باربى هدية فارس لها, أنتزعها من ذكرياتها صوت ثلاث طرقات على باب الشقة تعرفهم جيدا وتحفظ نغمتهم , أعادت الدرج إلى وضعه سريعاً وخرجت مسرعة فوجدت والدته قد سبقتها وفتحت الباب قبلها ورأت دنيا تدلف من الباب ونظرها مصوب باتجاه مهُرة برغم من أنها تقبل أم فارس وتصافحها , دخل خلفها فارس يلقى السلام فوجد مُهرة واقفة مستندة على حافة باب غرفته المفتوحة , فابتسم لها وقال محذراً بمزاح:
- عارفة لو لعبتى فى شغلى من ورايا هعمل فيكى ايه؟
قالت باندفاع :
- لا و**** ما لعبت فى حاجة
أبتسم فارس وهو يشير لدنيا موجهاً حديثه لمُهرة قائلا:
- مش هتسلمى على دنيا؟
نظرت لها مُهرة فوجدتها تنظر لها ببرود وتبتسم لها ابتسامة صفراء فبادلتها نفس الأبتسامة ونفس النظرة وهى تضغط كلمتها قائلة:
- أهلاً
نظرت لها دنيا بحدة وقالت:
- يصح بنت كبيرة كده تدخل أوضة راجل غريب ..هى مامتك مبتعلمكيش الحاجات دى ولا ايه
نظر لها فارس بضيق ولمعت الدموع فى عينيى مُهرة بينما قالت أم فارس وهى تنظر لها بجدية:
- هى مبتدخلش الأوضة وهو موجود
ثم تابعت بضيق:
- مُهرة غالية عليا ومحبش حد يكلمها كده .. حتى لو كان فارس نفسه
عقدت دنيا ذراعيها أمام صدرها وقالت بتهكم:
- يا طنط انا اللى مرات ابنك مش هيه
جذبها فارس من ذراعها برفق وقال بحسم:
- دنيا ..هنتكلم فى الموضوع ده كام مرة.. مش خلصنا منه قبل كده ولا ايه
تحركت مُهرة بانفعال وهى تحبس دموعها وأخذت الطفلين وتوجهت بهما إلى الخارج واغلقت الباب خلفها بقوة وصعدت لشقتها, دخلت أم فارس المطبخ ودخل خلفها قبل رأسها وقال معتذرا:
- أنا آسف يا أمى بالنيابة عنها.. معلش متزعليش علشان خاطرى
نظرت له أمه بعتاب وقالت :
- فهم مراتك ان مُهرة بنتى واللى مبيحبهاش على الأقل يراعى انى بحبها وانها غالية عليا
أحاط كتفيها وقال بحنو:
- ما انتِ عارفه يا ماما ان مُهرة غالية عندى انا كمان ونفسى و**** دنيا تحبها بس مش عارف هى واخدة موقف عدائى منها كده ليه
لاحت ابتسامة واثقة على شفتيها وقالت:
- انا بقى عارفة
رفع حاجبيه متعجباً وقال:
- عارفة أيه يا أمى
ربطت على كتفيه قائلة:
- مش وقته دلوقتى روح يالا اقعد معاها على ما اخلص الأكل
قبل رأسها مرة أخرى وخرج من المطبخ متوجهاً إليها , لم يجدها فى الصالة الخارجية , بحث بعينيه سريعاً فوجدها بداخل غرفته , دلف خلفها فوجدها تنظر يمنةً ويسرة وكأنها تبحث عن شىء ما لا تعرفه فقال:
- فى أيه بتدورى على حاجة ؟
كانت تظن أن مُهرة ربما تكون قد تركت لفارس رسالة أو شيئاً من هذا القبيل فى غرفته ولكنها قالت له :
- أبداً مفيش هو انا يعنى اللى اوضتك متحرمة عليا ولا ايه
لفها إليه ورفع رأسها ينظر إليها وقال :
- دنيا ..أنتِ اللى محرمة نفسك عليها ..هو فى حد يقعد كاتب كتابه 3 سنين !
أزاحت يديه وقالت حانقةً:
- يوه بقى يا فارس .. أنت كل ما تشوفنى تكلمنى فى الحكاية دى .. وبعدين ماهو عندك صاحبك عمرو مش ده برضه كتب كتابه معانا تقريبا ولسه مدخلش لحد دلوقتى
حاول فارس أن يتحكم بأعصابه وكتم غضبه حتى لا تستمع والدته لما يحدث بينهم فأخفض صوته وقال بضيق:
- وأحنا مالنا ومال عمرو.. وبعدين هو لو عليه كان زمانه دخل من زمان .. لكن ده من ساعة ما كتب كتابه وزى ما يكونوا بينتقموا منه فى شغله ومبهدلينوا فى مشاريع بره القاهرة.. حتى مراته مبيشوفهاش غير مرتين تلاتة فى السنة .
و زفر بقوة ثم تابع قائلاً:
- وبعدين هو عنده مشكلة فى الشقة.. لكن احنا الشقة اللى هنتجوز فيها موجودة أهى وانتِ وافقتى لما كتبنا الكتاب وقلتى معندكيش مانع نقعد هنا
شعرت دنيا بالتوتر يسود بينهما وشعرت أن فارس غضبه يتصاعد فحاولت من تخفيف حدة النقاش قليلاً فغيرت نبرة صوتها وجعلتها أكثر نعومة وقالت:
- مش احنا كنا متفقين لما تخلص الدكتوراة علشان مفيش حاجة تعطلك عن الرسالة وتخلصها بسرعة
وقبل أن يجيب سمع والدته تناديه من الخارج , خرج إليها مسرعاً فقالت:
- الغدا خلص تعالى حط الأطباق معايا على السفرة .. وبعد كده اتكملوا بعيد عن البيت
أنا وحده عندى الضغط ومش ناقصة حرق ددمم
****
أستيقظ بلال من نومه وهو يتململ فى فراشه, نظر فى ساعته بعين مفتوحة وأخرى مغمضة , هب واقفاً فى سرعة ليلحق بصلاة العصر فى المسجد , توضأ وبدل ملابسه وسريعاً للخارج, فوجد عبير تجلس بجوار والدته ويتسامران ..نظر لها بعتاب وقال:
- كده برضوا يا عبير ..أنا مش منبه عليكى تصحينى قبل الأذان بربع ساعة
نهضت وقالت معتذره:
- اسفه و**** يا حبيبى كنت هدخل اصحيك من شوية والكلام خدنا انا وماما
نظر إلى والدته وهى تحمل **** الصغير على قدمها وتلاعبه فقال وهو ينظر حوله:
- **** .. أومال فين باقى الولاد نايمين ولا ايه
ضحكت والدته وهى تقول:
- لا مش هنا أصلاً .. واحد مع عزة واتنين مع مُهرة
نظر لهم متعجباً واتجه إلى الباب وهو يتمتم:
- واحد مع عزة واتنين مع مُهرة.. أنا مش عارف هما دول ولادى ولا علبة ألوان
ألقى السلام وخرج وأغلق الباب خلفه متوجهاً للمسجد , جلست عبير وهى تحمل الطفل عن أم بلال وهى تقول:
- و** يا ماما أنا ما كنت عارفة هعمل أيه فى العيال دى لوحدى .. لولا ان من عليا بعزة ومُهرة وانتِ كمان يا ماما بتتعبى معانا أوى ** يخاليكى لينا
ربتت ام بلال على كتفها برضا وأردفت تقول:
- انا مكنتش مستغربة من عزة لأنها كبيرة ماشاء ** وتقدر تخلى بالها من صغير .. اللى كنت مستغربة منه بجد هى مُهرة .. تعرفى يا عبير لما شفتها فى فرحك حسيت أن البنت دى هتبقى قريبة مننا أوى وحسيت انى اعرفها من زمان ولما ولدتى وجبتى الأربعة ماشاء ***.. صممت تيجى تقعد معاكى وأمها بصراحه مقالتش لاء .. وفى أسبوع واحد كانت اتعلمت تتعامل مع العيال ازاى .. والعيال كمان اتعلقت بيها أوى ..بس تعرفى يا عبير أمها كمان بتحبك أوى
ابتسمت عبير وهى تقول:
- أم يحيى دى غلبانة أوى يا ماما.. هى اللى شايلة بيتها على كتفها.. جوزها أصلا بيخرج الفجر مبيرجعش غير نص الليل ولا يعرف حاجة عن ولادوا ومكبر دماغوا ..لما كلمتها عن الصلاة لقيتها ياعينى متعرفش حاجة ومن ساعة ما اتعلمت وهى مواظبة عليها وبتحبنى أوى من ساعتها
عندما عاد بلال من المسجد وجدهما فى مكانهما كما تركهما , دخل وأغلق الباب خلفه ينظر إليهم بابتسامة وهو يردد دعاء دخول المنزل, أقبلت عبير عليه بابتسامة فقبلها على جبينها واتجه إلى أمه وقبل كفها وحمل عنها الصغير فقالت عبير :
- ثوانى هحضر الغدا ..
أوقفها نداء زوجها فالتفتت إليه متسائلة فاقترب منها قائلاً:
- صليتى العصر
قالت بسرعة وهى تستدير للتوجه للمطبخ مرة أخرى:
- لاء لسه .. هحضر الغدا واروح اصليه
جذبها من ساعدها برفق وقال:
- تعالى يا عبير عاوزك فى كلمتين
أخذها ودخل بها غرفتهما وأغلقها خلفه , أستدار لها ينظر إليها , وابتسم وهو يقترب منها ويتحسس وجنتها بأنامله فى رقة وقال :
- أنا زعلان منك أوى يا حبيبتى
قطبت جبينها وقالت بلهفة :
- ليه يا بلال أنا عملت ايه
قال وهو مازال يداعب وجنتها برفق:
- مش ملاحظة انك من ساعة ما **** رزقنا بالأولاد وانتِ بتأخرى الصلاة
خفضت نظرها فى خجل وقالت :
- معاك حق يا حبيبى بس و**** بيبقى غصب عنى .. بعمل حاجات كتيرة والولاد وشغل البيت بيخلونى بأخرها غصب عنى
قبلها على وجنتها قائلا:
- روح قلبى ..أنتِ عارفة كويس أن مينفعش نقدم أى حاجة على الصلاة.. مهما كانت الحاجة دى أيه ..عارفة لو أول ما سمعتى الأذان سيبتى كل اللى فى أيدك وروحتى اتوضيتى وصليتى .. هترجعى تلاقى الحاجة بتتعمل بسهولة ويسر أكتر من لو أخرتى الصلاة علشانها .. لو بداتى تتهاونى فى مواعيد الصلاة يا عبير هتلاقى نفسك يوم ورا يوم بتصليها قبل الوقت اللى بعدها بخمس دقايق .. و واحدة واحدة هتلاقى نفسك بتجمعى الصلوات مع بعض ..وأنا عارف أن حبيبتى هتاخد بالها بعد كده ولو الولد بيعيط حتى صلى وانتِ شايلاه مفيهاش حاجة
أبتسمت عبير وهى تمسك بيده التى سكنت على وجنتها قالت بحب:
- **** يخاليك ليا يا حبيبى ...أنا مبسوطة بيك أوى يا بلال وانت بتنبهنى وبتقولى الكلام ده وبالطريقة دى
أبتسم وهو ينظر لعينيها وقال بحب:
- لا اعملى حسابك مش كل مرة هتكلم بالطريقة دى ..المرة اللى جاية فى ضرب .. ومش أى ضرب .. ده هيبقى ضرب بضمير.. وطبعا انتِ عارفة ضميرى ..فاهمانى
ضحكت عبير وهى تحمل الطفل قائلة:
- إلا عارفة.. أنت هتقولى على ضميرك برضة ..انا هروح بقى اصلى وبعدين أحضر الغدا
لحق بها عند باب الغرفة وقال:
- لا بلاش تدخلى المطبخ
ألتفتت له بدهشة وقالت متعجبة :
- ليه
قال بمزاح وهو يمسح على شعرها:
- بغير عليكى من عيون البوتاجاز
ضحكت عبير وأحمرت وجنتيها وخرجت مسرعة , توضأت وصلت العصر وأعدت الطعام كأحسن ما يكون, ولم لا فلقد بثها حناناً فأطعمته جمالاً , جعلها ملكةً فوضعته على عرش قلبها وتوجته حاكماً وملكته صكوك غفرانها
***
أخذت عزة الهاتف وسحبت السلك خلفها ودخلت غرفتها وأغلقتها خلفها وهى تضع سامعته على أذنها وتسندها بكتفها وابتسامتها واسعة ثم قالت بصوت خفيض:
- وحشتنى
قال مداعباً:
- أيه الجرأة دى كلها.. وحشتنى مرة واحدة ..**** يرحم
أحمر وجهها وقالت بعتاب:
- كده يا عمرو .. طب انا غلطانة .. مش هقولك حاجة تانى
قال على الفور:
- لالالا بهزر معاكى يا شيخة .. أنتِ ايه ما بتصدقى علشان تمنعى عنى الدعم السنوى
أتجهت إلى فراشها وهى تحمل الهاتف وكأنها تحمل قلبها بين يديها بعناية وجلست عليه وقالت بشوق:
- بجد يا عمرو .. هتيجى أمتى وحشتنى جدا
أستلقى على فراشه ووضع يده تحت رأسه وقال بهمس:
- وانتِ كمان وحشتينى أوى .. بس غصب عنى و**** .. بس عموماً هانت كلها أسبوعين وتلاقينى عندك وساعتها بقى يا جميل هبقى عاوز عشرة يكتفونى زى الراجل ابو عضلات ده اللى بيقعد فى المولد يقول عاوز عشرة يكتفونى وبعدين يعيط ويقول وعشرين يفوكونى
لم تضحك لدعابته بل قالت بعبوس:
- أسبوعين يا عمرو.. لسه أسبوعين كمان .. وياترى بقى زى كل مرة هتيجى يومين وتمشى تانى
أراد عمرو أن يغير مجرى الحديث فهو يعلم أنها ستبكى بعد قليل كعادتها وتطالبه بترك شركته التى أتعبتها شوقاً له منذ عقد قرانه عليها فقال :
- فاكرة يا وزة يوم كتب الكتاب عملتى فيا أيه.. بقى فى عروسة تسيب جوزها زعلان وتقعد تاكل !
ابتسمت وقد تذكرت ذلك اليوم وقالت :
- كنت بهرب منك .. أنت مكنتش شايف شكلك ساعتها
ضحك ضحكات رنانة اختلج لها قلبها وقال:
- معاكى حق .. أنا كنت عامل زى القطر اللى من غير سواق
ضحك مجدداً وخفق قلبها مرة اخرى وهى تستمع لمغازلاته واشواقه التى لا تنتهى
***
وفى الليل دخل فارس فراشه واستلقى فى أرهاق شديد , أمسك جبينه بيديه يشعربألم شديد فى رأسه , نهض مرة أخرى وجلس خلف مكتبه الصغير يبحث عن حبات مسكنة للصداع تناول واحدة منها وشرع فى إغلاق درج مكتبه مرة أخرى فوقع بصره على الصور الفوتوغرافية الصغير مبعثرة داخله , أبتسم وقد علم أن مُهرة كانت تشاهدها وأغلقت الدرج سريعاً بحيث بعثرت ما به , أعادها بعناية كما كانت سابقاً وهو يحاول أن يذكر نفسه بأن يحضر ألبوماً للصور لكى يحافظ عليها من أى أهمال قد يصيبها فهى تمثل حقبة مهمة من حياته منذ أن كان صبياً فى الحادية عشر من عمره, عندما وُلدت مُهرة فى غياب والدها وحملها طوال الليل بعد أن أهملها الجميع , فقد كان الجميع منشغلاً فى والدتها التى أُصيبت بنزيف حاد بعد ولادتها وأعطتها له والدته يحملها ويرعاها ووضعت بجوار كوب به ماءاً مختلطاً بالسكر ليسقيها حتى تعود إليه , ونسيها الجميع معه , كان يسقيها تارة ويتأملها تارة ويدور بها فى الغرفة حتى يسكت بكاؤها الذى لم يطل كثيراً , وأخذ يفكر فى أسم يليق بملامحها البريئة وعينيها الواسعة الخلابة حتى بزوخ فجر يوم جديد كان قد أاتقر على أسمها الجديد والذى استقاه من اسمه وقد كانت مُهرة .
أنتزعه صوت هاتفه المحمول من عالمه الخاص وابتسم وهو ينظر لأسم المتصل وأجابه على الفور:
- حظك حلو لسه كنت هعمل الموبايل صامت وهنام
ضحك عمرو وقال مداعباً:
- و** وعرفنا الموبايلات والصامت والحركات ** يخاليك لينا يا شارع عبد العزيز
ضحك فارس لدعابته وقال :
- و**** عمرك ما هتتغير.. ده انت تستحق البهدلة اللى انت فيها
زفر عمرو بقوة وهو يقول:
- وأى بهدلة يا صاحبى .. أنا مش عارف هو انا مهندس ولا متهم وواخدينه كعب داير
- وأنا مش عارف انت متمسك بالشركة دى كده ليه طالما مطلعين عينك
- أعمل ايه بس يا فارس منا دخت على شغل كتير.. مش لاقى حتى نص المرتب اللى باخده من الشركة دى
- خلاص بقى أستحمل ومتشتكيش
- خلاص هانت.. بابا كلمنى وقالى ان فى شقة على أول شارعنا هتفضى قريب وإيجارها معقول أوى وهو ظبط مع صاحب البيت خلاص .. المهم انت عامل ايه وهتدخل أمتى ..لما تخلل ولا قبلها بشوية ؟!
نظر فارس أمامه وقال بحسم:
- خلاص يا عمرو .. أنا مش هستحمل أعذارها أكتر من كده.. كبيرها معايا شهرين.. أخلص فيها الرسالة ومش هقبل أى تأجيل تانى خلاص
تحدث قليلاً مع صديقه وعاد إلى فراشه مرة أخرى مستعداً للأستغراق فى نوم عميق, ولكن عقله كان شاردأً فى علاقته بدنيا ووضع أمامه علامات استفهام كبيرة , هل حقاً هى التى تؤجل الزفاف بدون أسباب مقنعة ؟ , ام هو الذى كان يوافقها على أسبابها تلك وكأنه يرحب بالتأجيل ! , كيف ستسكن فى شقة واحدة مع أمه وهما مشاعرهما متنافرة تجاه بعضهما البعض, لن يستطيع أن يترك أمه وحدها مهما كانت الأسباب وخصيصاً أنها خلُوقة لا تؤذى احداً بلسانها ولا بافعالها ولا تتطفل على أحد ولن تسبب لهما أى ضيق فى حياتهما الزوجية , هى فقط تريد من يرعاها ويذكرها بدوائها ويتسامر معها قليلا حتى لا تشعر بالوحدة , فهل هذا بكثيرٍ عليها فى مثل هذا العمر .
***
فى الصباح , خرجت مُهرة لتذهب لمدرستها لأختبارات نهاية العام , ولكنها توقفت فجأة أمام باب شقة فارس, كانت تود أن تراه , صعدت مرة أخرى أربع درجات من السلم للخلف , ووقفت تنتظره فهو يذهب إلى عمله صباحاً فى هذا التوقيت , وقفت أكثر من ربع ساعة حتى سمعت مقبض الباب يدور من الداخل, والباب يُفتح , فتصنعت النزول وكأنها قابلته صدفة , أبتسم لها قائلاً:
- صباح الخير يا مُهرة .. رايحة الامتحان ؟
أبتسمت فى خجل وقبل أن تجيبه وجدته قطب جبينه وهو يقول بجدية:
- أيه ده يا مُهرة .. ال**** صغير كده ليه
وضعت يدها على أطراف حجابها ونظرت إليه وقالت:
- مش صغير ولا حاجة.. ده كبير بس بلفوا بطريقة معينة زى صحباتى ما بيعملوا
حك ذقنه قليلاً ثم طرق باب شقته , فتحت والدته ونظرت لهما دهشة فأشار إلى مُهرة وقال بضيق:
- خديها يا ماما لو سمحتى جوه خاليها تظبط حجابها
وقفت مُهرة أمام المرآة تعدل من حجابها سريعاً وهى تتمتم متبرمة:
- يا طنط كل صحابتى بيلفوا طرحتهم كده
كانت والدته تنظر إليها فى صمت وشرود وهى تتحدث وتمط شفتيها وتتمتم فى ضيق وتحرك يديها فى سرعة لتثبت دبابيس ال**** جيدًا , حتى انتهت والتفتت إليها قائلة:
- ها كده كويس؟
أومأت لها والدته وقالت :
- كويس.. يالا بقى علشان متتأخريش على مدرستك أكتر من كده
ألقى فارس نظرة سريعة على حجابها واستدار ليخرج متوجهاً لعمله وهو يقول:
- هجبلك النهاردة وأنا راجع خمارات لف ...شغل الطرح ده مش عاجبنى
حملت مُهرة حقيبتها وخرجت تعدو لتلحق بموعد الأختبار وأغلقت الباب خلفها, ظلت أم فارس تنظر إلى الباب المغلق واجمةُ وبداخلها مشاعر كثيرة ودت لو كانت مخطأة فيها .
***
الفصل الثامن عشر
أستيقظت مُهرة فزعةً من نومها تصرخ باسم فارس وتناديه , جلست على فراشها تلتقط أنفاسها بصعوبة , كانت تبكى وهى نائمة على أثر حلم مفزع ولكنها فوجأت بالدموع تغرق وجهها وكأنها كانت تبكى فى الحقيقة لا فى الحلم, مسحت دموعها التى شقت طريقها فى ثبات على وجنتيها وأخذت تُتمتم بالأستعاذة لتهدىْ من روعها قليلاً وهى تدور بعينيها فى غرفتها لتتأكد أنها وحيدة فيها ولم يسمعها أحد , نهضت متثاقلة من فراشها وهى تحيط جسدها بذراعيها لتبث الأمان فى نفسها , فتحت نافذة غرفتها ليتسلل ضوء القمر إليها ويغمر وجهها مداعباً لوجنتيها , أطلت برأسها للأسفل لعلها ترى خياله فى نافذته أو شرفته التى كانت غارقة فى الظلام, أغلقت نافذتها واتجهت إلى فراشها مرة أخرى ولكنها سمعت صوته يتردد فى عقلها وهو يقول:
- لو شفتى كابوس أتفلى على الناحية الشمال ثلاث مرات واستعيذى ب**** من الشيطان الرجيم ويستحسن تقومى تتوضى وتصلى ركعتين علشان تطمنى
توجهت مباشرة إلى الحمام توضات وصلت ركعتين أدخلا الطمأنينة فى نفسها ثم عادت لفراشها وقد داعب النوم جفونها فتثاقلت واستسلمت لنوم عميق
***
جلس فارس بجوار والدته حول مائدة الغذاء وبدأ فى تناول الطعام وهو يقول:
- مُهرة رجعت من الامتحان ولا لسه يا ماما
هزت والدته رأسها نفياً وابتلعت طعامها ثم قالت:
- عندها درس بعد الامتحان على طول ..بتسأل ليه؟
ترك الملعقة من يده ونظر إلى والدته متسائلاً:
- درس أيه ده وفين
نظرت إليه والدته بتفكير ثم قالت:
- مش عارفة درس أيه بالظبط اللى اعرفه أنها عندها درس ..بطلت أكل ليه
تناول ملعقته مرة اخرى وقال بضيق:
- أنا مبحبش قصة الدروس اللى مالهاش مواعيد دى .. وبعدين ما تاخد الدرس فى بيتها
لازم تروح تتنطط عند الناس بره و**** أعلم بيوتهم عاملة ازاى وشكلها أيه.. وعندهم رجالة ولا لاء.
صمت قليلاً ثم أردف قائلاً:
- لما ترجع ابقى نادى عليها علشان عايزها.. لما نشوف أيه حكاية الدروس دى
شردت والدته قليلاً وهى تقلب طعامها فى طبقها عدة مرات حتى لاحظ هو ونظر إليها وتسائل باهتمام:
- مالك يا ماما مبتكليش ليه
وضعت أمه معلقتها وشبكت أصابعها أمامها وهى تستند بمرفقيها على المائدة ونظر إليه بعمق وقالت:
- تسمح ملكش دعوة بالحكاية دى .. مُهرة كبرت يا فارس ومينفعش تفضل تتعامل معاها كده وبعدين اخوها يحيى كبر وبقى راجل وهو اللى يقولها رايحة فين وجاية منين والكلام اللى انت عاوز تعمله ده
قالت جملتها الأخيرة وهو ينظر إليها بدهشة لا يكاد يصدق ما يسمع فقال باستغراب:
- من أمتى وانا مش مسئول عن مُهرة .. أنتِ قولتيلى الكلام ده قبل كده لما جبتلها الخمارات وانا مركزتش معاكى لكن لما يتعاد تانى يبقى فى حاجة انا معرفهاش
مدت يدها وربتت على يده وقالت بشفقة:
- أنا عارفة انك انت اللى مربيها وبتعتبر نفسك مسئول عنها.. لكن يابنى دلوقتى الوضع اختلف مُهرة كبرت خلاص
ترك ملعقته ونهض وهو يقول بانفعال شديد:
- معنى انها كبرت انى خلاص أشيل أيدى من المسئولية.. وانا عارف أن اخوها مكبر دماغه وبره البيت طول اليوم وابوها مسافر وسايبهم .
أعتدلت والدته وهى تقول :
- طب يابنى تعالى كمل أكلك مالك زعلت كده ليه
أتجه إلى غرفته وهو يقول باقتضاب :
- معلش يا ماما شبعت.. عن أذنك هدخل اريح شوية
هزت والدته رأسها فى عدم رضا وهى تقول بأسف:
- **** يهدى الحال
دخل فارس غرفته متبرماً , ألقى جسده على الفراش كما لو كان يدفع حملاً ثقيلاً عن كتفيه قد أثقله , كيف يتركها وهى , هى التى وُلدت ووُضعت بين ذراعيه مباشرة قبل أن تلامسها يدي والدتها , وقبل أن يراها أخيها وقبل أن يعلم أبيها بأنها قد جاءت إلى الحياة, هى التى كبُرت بين يديه واحتوتها غرفته لسنوات طفولتها ومشاغباتها وألعابها وسعادتها ومرحها بل وبكائها وتبرمها وضجرها , وزرع فيها القيم والأخلاق التى أُحبها وعاداته المفضلة فأصبحت تتوقع تتصرفاته قبل أن يفعلها, وعلم عنها كل شىء , بل وأكتشفها كما اكتشفته فاصبحت كتاباً مفتوحاً أمامه خالى من الألغاز, لاتوجد به علامة استفهام واحدة , ترددت كلمات أمه فى عقله مقتحمة ذكرياته مبعثرة أفكاره وهى تخبره أن أخيها أولى بها لأنها قد كُبرت.. وضع الوسادة على وجهه يريد أسكات هذه الكلمات التى غزت عقله وقال بعناد وبصوت مسموع ..لا لم تكبر !
***
نقر عمرو بخفة نقرات بسيطة باب مكتب صلاح ثم فتحه وأطل برأسه داخله وهو يقول:
- صباح الخيرات
ضحك صلاح وهو ينهض ويتجه إليه ..عانقه بحرارة وهو يقول:
- حمدلله على السلامة جيت أمتى ؟
قال عمرو بمرح:
- لسه نازل من الجتر يا بشمهنديز
أهتز صلاح ضاحكاً وهو واضع ذراعه على كتف عمرو وقال:
- لاء شكلك أخدت الجنسية من كتر قاعدتك هناك
جلس عمرو على المقعد المقابل للمكتب وقال برجاء:
- أبوس أديكوا بقى كفاية.. أنا لفيت جمهورية مصر العربية كلها هو انا عملت فيكوا ايه علشان ترحلونى كل شوية كده
أختفت أبتسامة صلاح وجلس على المقعد المقابل لعمرو وقال بجدية:
- يعنى مش عارف عملت ايه.. حد قالك تتجوز
أستند عمرو بمرفقه على حافة المكتب ولوح بيديه قائلاً:
- هو انا عارف اتجوز.. هى الشركة كل مشاريعها خارج القاهرة ليه نفسى اعرف
مال صلاح للأمام وقطب جبينه قائلاً:
- أسمع يا عمرو.. أنت عارف أنى بحبك زى ابنى بالظبط وبصراحة كده انا مش عاجبنى تصرفاتك .. أنت زى ماتكون عاجبك اللى بيحصل ومبسوط أن فى حد بيجرى وراك وعايزك
عقد عمرو يديه أمام صدره وقال معترضاً:
- هو انا يعنى عاوز أتمرمط كده ..أنا بس و**** عاوز احوش قرشين علشان اعرف اجيب العفش ..ولو سبت الشغل دلوقتى يبقى قول على جوازى يا رحمان يارحيم ..أعمل ايه مضطر استنى واشتغل واسافر واستحمل بُعدى عن أهلى ومراتى لحد ما الاقى شغل تانى على الأقل بنفس المرتب اللى باخده هنا.
أسند صلاح ظهره إلى المقعد وقال متسائلاً:
- يعنى جبت الشقة خلاص؟
قال عمرو بابتسامة واسعة :
- أه الحمد *** حاجة كده إيجار بس حلوه ومش محتاجه توضيب كتير يعنى تقريباً جاهزة
أبتسم صلاح وهو يقول متهكماً:
- يعنى عاوز ثلاث سنين كمان علشان تعرف تجيب العفش ؟!
زفر عمرو بحنق وقال بضيق:
- و**** منا عارف انا شكلى هطلب سلفة .. أنت ايه رايك
حك صلاح ذقنه وصمت قليلاً يفكر ثم قال:
- فى حل تانى غير السلفة اللى انا متأكد ان مدام إلهام مش هتوافق عليها
قال عمرو بلهفة:
- إلحقنى بيه قوام
صلاح :
- عندى واحد صاحبى عنده معرض كبير للأثاث ..هو بيبيع بالقسط .. أنا هروح معاك اعرفك المكان واكلموا وهو هيظبطك فى حكاية القسط دى ان شاء **** متشلش هم
هب عمرو واقفاً وأمسك رأس صلاح وقبلها بقوة وقال:
- **** يخليك لينا يا كبير
ضحك صلاح ثم قال بجدية:
- عاوز نصيحتى ..أمشى دلوقتى قبل ما حد يشوفك ونتقابل بعد المغرب ونروح المعرض سوا .. بكره وبعده أجازة ممكن تاخد مراتك وتروحوا تنقوا العفش .
ثم أشار له محذراً وقال:
- ولما تنوى على معاد الفرح .. أنا اللى هخدلك الأجازة بنفسى علشان محدش يقفلك فيها
عانقه عمرو فى سعادة ثم تركه فجأة وفتح الباب وفر هارباً ! .
***
كان فارس عائداً من عمله فى وقت الظهيرة وقبل أن يأخذ طريق المنعطف إذا به يصطدم بعمرو الذى كان يمشى بخطوات واسعة فى الاتجاه المعاكس وهو على عجلة من أمره, تفاجأ فارس بعودة عمرو وهتف وهو يعانقه فى سعادة :
- عمور جيت امتى حمد *** على السلامة
عانقه عمرو بقوة وربط على ظهره وهو يقول:
- واحشنى يا ابو الفوارس .. أنا لسه جاى طازة
فارس :
- ورايح على فين كده
مسح على شعره وقال بابتسامة واسعة:
- أصلى هروح عند عزة كمان شوية وقلت يعنى اجيبلها هدية بقالى كتير معملتهاش
ضحك فارس وهو يقول:
- أيه ده .. بقى عندك ددمم أخيراً مبروك يا اخى ..
عمرو :
- **** يبارك فيك عقبالك كده لما تتجوز وتريحنا منك
تذكر عمرو مقابلته مع صلاح فقال سريعاً:
- صحيح يا فارس ما تيجى معايا النهاردة ..هروح معرض بيبع عفش بالقسط أيه رأيك تيجى تتفرج .. أستاذ صلاح يعرف صاحب المعرض وهيظبطلى موضوع التقسيط وان شاء **** هيبقى القسط حنين
لمعت عينيى فارس وقال:
- أنت وقعتلى من السما يابنى.. ده انا كنت فى مشكلة بسبب الموضوع ده محتار هجيب العفش منين وبكام
ربط عمرو على ذراعه وهو يقول بغرور:
- خلاص نتقابل نروح سوا ..بس ابقى عد الجمايل بقى ها..
ثم أردف متسائلاً:
- هتناقش الرسالة أمتى ؟؟
قال عبارته الأخيرة وهو يرى فارس ينظر فى الأتجاه الآخر بتركيز , فأعاد عبارته مرة أخرى ولكنه لم يجبه أيضاً , بل وتركه وتحرك بسرعة , تابعه عمرو بعينيه فوجده يتحرك فى اتجاه مُهرة التى تسير بسرعة كبيرة وكأنها تستعد للعدو وأخيه محمود يسير خلفها يحاول أن يتكلم معها ومن الواضح أنه يضايقها, فُزعت مُهرة عندما تفاجأت بفارس مقبلاً عليها مسرعاً والشرر يتطاير من عينيه وهو ينظر لمحمود وقد احتقن وجهه , أصفر وجه محمود عندما رأى فارس فى هذا الوضع وتسمر مكانه , أمسك فارس بتلابيب محمود وقال زاجراً:
- أنت راجل انت ؟! .. ده بدل ما تحميها
أقترب عمرو فى سرعة وخلص أخيه من قبضة فارس وهو يقول:
- معلش يا فارس أمسحها فيا
ثم نظر لمحمود مؤنباً وقال:
- كده يصح يا محمود برضة
شرعت مُهرة فى التدخل ولكن فارس نظر إليها بصرامة أخافتها وصاح بها:
- أمشى اطلعى على البيت وحسابى معاكى بعدين
خافت مُهرة وهرولت إلى المنزل سريعاً , أطرق محمود رأسه أرضاً وهو يقول:
- أنا مكنش قصدى اعاكسها.. أنا كنت عاوز اقولها انى عاوز اخطبها .. وهى كانت مش عاوزه تسمعنى
أمسكه فارس من ملابسه مرة اخرى وقال بعصبية:
- تخطب مين يلا ..مش لما تبقى راجل الأول وتحافظ على بنات الناس
تدخل عمرو مرة أخرى وخلص أخيه وهو يحاول تهدأت فارس الذى أفلته وتوعده بعينين تشعان غضباً وقال بلهجة صارمة :
- أنا مرضتش أمد أيدى عليك علشان خاطر عمرو بس ..لكن لو الموقف ده اتكرر تانى محدش يلومنى على اللى هيحصلك ..على **** تقرب منها تانى ولا حتى تيجى على بالك.. أنت فاهمنى يلا ولا لاء
قال كلمته الأخيره وتركهم وانصرف فى غضب هادر , نظر عمرو إلى أخيه محمود وقال بجدية:
- من أمتى واحنا بنعاكس البنات فى الشوارع يا محمود.. عيب يا أخى ده انت حتى صاحب أخوها يحيى
قال محمود بضجر وهو يلوح بيديه:
- وهو ماله هو أبصلها ولا افكر فيها ..هو كان ولى أمرها وبعدين انا غرضى شريف وهخطبها يعنى هخطبها
دفعه عمرو من كتفه باتجاه البيت وهو يقول:
- طب امشى بقى فورت دمى
وتركه وأنصرف فى طريقه وهو يتمتم :
- أيه البلاوى دى .. أروح للموزة بتاعتى ازاى وانا دمى فاير كده
***
دلفت مُهرة باب شقتها وأغلقت الباب خلفها وهى تضع يدها على صدرها الذى كان يعلو ويهبط بسرعة وقد تلاحقت أنفاسها بشدة كأن أسداً كان يلاحقها , أقبلت عليها والدتها مسرعة وهى تنظر لها بلهفة وقالت :
- مالك يا مُهرة فى حد بيجرى وراكى؟
حاولت ألتقاط أنفاسها وقالت وهى تجلس على أقرب مقعد:
- فارس شاف محمود وهو ماشى ورايا وكان هيضربه
- محمود مين صاحب يحيى؟!.. وكان ماشى وراكى ليه ده وعايز منك ايه
- بيقولى عاوز يخطبنى
جلست أم يحيى أمامها وقالت بتفكير:
- هو قالك كده ؟!.. طب ازاى ده لسه طالب فى الجامعة
نظرت لها مُهرة وقالت متبرمة:
- طالب ولا مش طالب .. أنا أصلا مش طايقاه وهقول ليحيى ميدخلوش هنا تانى
قالت والدتها بسرعة :
- أسكتى انتِ ملكيش دعوة.. أنا هبقى اشوف الحكاية دى
نهضت مُهرة وحملت حقيبتها لتدخل غرفتها وهى تقول بحنق:
- حكاية أيه يا ماما.. ده ولد مش كويس .. وكمان شوفته مرة وهو بيشرب سجاير.. ولو كلمنى تانى هقول لامه
قالت كلمتها الأخيرة بعصبية ودخلت غرفتها , نظرت إليها والدتها وضحكت وهى تردد كلمتها الأخيرة:
- هتقولى لامه !!..هتفضلى عبيطة لحد أمتى يا بنتى
***
خرجت عزة من غرفتها سريعاً عندما استمعت لصوت عمرو فى الخارج وهو يتحدث مع والدها بصوت مرتفع ويضحك بشدة , تلك الضحكات التى تأسرها وتزلزل قلبها , أصطدمت بوالدتها التى كانت متوجهة للمطبخ , أتسعت عينيى والدتها وقالت بدهشة:
- خضتينى يا عزة .. بتجرى كده ليه؟
أرتبكت عزة وهى تقول:
- مفيش يا ماما.. تقريباً كده حد بينده عليا
نظرت لها والدتها بخبث وقالت:
- ياسلام ..يابت اتقلى شوية يقول عليكى ايه
ثم أردفت وهى تتجه للمطبخ :
- تعالى ورايا خدى الشاى علشان تقدميه .. بدل ما تخرجى زى العبيطة كده
تبعتها عزة وبدأت فى صنع الشاى فدخل والدها المطبخ وقال وهو ينظر إليها:
- بتعملى أيه عندك.. يالا اطلعى سلمي على جوزك
لم تنتظر عزة كثيراً وانطلقت فى سرعة إلى غرفة الصالون , وبمجرد أن اقتربت منها وقفت وهندمت ملابسها وشعرها ثم فتحت الباب بهدوء ودلفت للداخل وقد تعلقت عيناها بزوجها الذى نهض واقفاً وعلى شفتيه ابتسامة عذبة مرحة وهو يكاد يلتهمها بعينيه ونظراته المشتاقة, خطت فى اتجاهه ومدت يدها تصافحه فتناول كلتا يديها ورفعها لشفتيه وقبلها بشوق ثم وضعها على وجنتيه وهو يقول:
- وحشتينى جدااا يا حبيبتى
تأملت وجهه وهى تقول بحب:
- وانت كمان
فرت دمعة من عينيها بدون شعور فمد يده ومسحهما وداعب وجنتيها وهو ينظر إلى عينيها التى تحمل الشوق المختلط بالحزن وقال :
- أنا مش هسألك الدموع دى ليه ..أنا عارف انى مقصر معاكى بس و**** غصب عنى
أبتسمت بأسى وقالت :
- حمد *** على سلامتك .. وأوعى تقولى انهم كلفوك بشغل فى حتة تانيهة زى كل مرة
أبتسم وألتفت إلى الأريكة وتناول من فوقها شنطة من الورق الملون المقوى وأخرج منها علبة مستطيلة الشكل صغيرة من القطيفة الحمراء وقدمها لها قائلاً:
- حبيبتى ممكن تقبل منى الهدية البسيطة دى
أخذتها عزة بلهفة وفضتها أمامه واتسعت عينيها وهى تنظر إلى الهدية ثم تنظر إليه
وقالت بسعادة:
- **** .. برفان !
وضعت منه قليلا على يدها وقربتها من أنفها واستنشقتها بنشوى وهى تقول :
- **** دى جميلة أوى يا عمرو ..متشكرة أوى يا حبيبى
أمسك عمرو كفها واستنشقه وهو يغمض عينيه استمتاعاً برائحته ثم نظر لها وقال بشوق:
- البرفان ده ميتحطش غير ليا انا بس.. فاهمة ولا لاء
طرقت والدتها الباب ودخلت تحمل صينية الشاى , أخذها عمرو من يدها ووضعها على الطاولة أمامه فقالت:
- ايه الريحة الحلوه دى
قالت عزة بسعادة:
- شوفتى يا ماما عمرو جابلى أيه
قالت والدتها وهى تنظر إليهما :
- يعيش ويجبلك يابنتى ..
ثم نظرت لعمرو وقالت:
- عمك بيقول انك هتروح تشوف المحل اللى هتجيب منه العفش النهاردة يا عمرو
لمعت عينيى عزة سروراً وهى تنظر إليه فقال:
- النهاردة ان شاء ** هروح اشوفه ولو الأمور مشيت فى موضوع القسط ده هاخدكوا بكره ان شاء ** ونروح نتفرج وعزة تنقى اللى هى عايزاه
ثم قال موجهاً كلامه لوالدة عزة:
- انا عارف انى طولت عليكم فى موضوع الفرح .. محدش بيكتب كتابه كل ده .. بس خلاص هانت .. أحنا نخلص موضوع العفش فى أسبوع إن شاء **** وبعدين نحدد معاد للفرح
وقصد أن ينظر إلى عزة ويتأمل عينيها فى اهتمام وهو يتابع قائلاً:
- فارس قالى أنه احتمال كبير يدخل على أول الشهر بعد ما يناقش الرسالة على طول وممكن نعمل فرحنا مع بعض
لا يعلم عمرو لماذا كان يبحث عن علامة من علامات الحزن أو الأسى فى ملامحها وعينيها وهو يلقى هذا الخبر ولكنه لم يجد إلا السعادة والفرحة التى اجتاحت ملامح عزة وهى تستمع إلى بشرياته واحدة تلو الأخرى وهتفت قائلة:
- بجد يا عمرو
ثم عانقت والدتها واحتضنتها بسعادة, قطع تصرف عزة هذا وسعادتها الكبيرة بما تسمع الشك باليقين فى قلب عمرو تجاه مشاعر عزة نحو صديقه وقال بمرح :
- مش هتغدونا بقى ولا أيه يا جماعة.. أنا واقع من الجوع
***
- تعال اقعد يا فارس
نطق الدكتور حمدى بهذه العبارة وهو يشير إليه بالجلوس وقد بدا عليه الأهتمام الشديد وهو يعتدل فى جلسته ويستند إلى المكتب بمرفقيه ويشبك أصابع كفيه فى بعضهما البعض , كانت طريقته توحى بأنه يستعد لإلقاء حديثاً هاماً مما جعل فارس يشحذ حواسه كلها وهو ينظر إليه متسائلاً وهو يقول:
- خير يا دكتور.. قضية مهمة مش كده ؟
أبتسم الدكتور حمدى وهو يهز رأسه موافقاً وقال :
- أهم قضية فى حياتك
طلت النظرات المتسائلة من عينيى فارس ولكنه لم يعقب وترك المجال للدكتور حمدى ليشرح بنفسه فقال:
- فاكر يا فارس لما قلتلك انى بحضرك لحاجة مهمة أوى
هز فارس رأسه وهو يقول:
- أيوا فاكر يا دكتور
أردف الدكتور حمدى متابعاً:
- شوف يا فارس أنا عاوز تسمعنى كويس وتفهمنى ...
أستدار فارس بجسده كله تجاهه وهو ينصت باهتمام وتركيز حيث قال الدكتور حمدى:
- أنا نويت أسيب المكتب واتفرغ شوية لبيتى ومراتى وولادى .. وبينى وبينك زهقت من الفساد اللى بقى متفشى حوالينا فى المهنة دى زى السرطان .. زمان كنت صغير وكنت بناطح وبحارب.. دلوقتى صحتى خلاص مبقتش تستحمل
قاطعه فارس وهو يقول بضيق:
- لا يا دكتور أنا مش معاك فى القرار ده.. لو سيبنا الساحة للمفسدين يبقى كأننا بنساعدهم بالظبط
قاطعه الدكتور حمدى باشارة من يده وقال :
- أنت كلامك صح وده اللى انا فكرت فيه.. ده غير انى مهما كان مهنش عليا أرمى أسمى وتاريخى الطويل ورا ضهرى بسهولة كده واقفل المكتب .. ولما فكرت كويس **** هدانى لفكرة دخلت دماغى أوى وشايفها حل وسط هيريحنى وفى نفس الوقت هتبقى دى بدايتك الحقيقية
جالت بخاطرة أفكار كثيرة متشعبة ومتشابكة كأشجار الغابات , فبداية الحديث غير مبشرة بالمرة ولكن نهايته لغز كبير , قرأ حمدى الحيرة فى عينيه فقال بحسم:
- أنت يا فارس اللى هتمسك المكتب كله بدالى .. ومكتبى ده هيبقى بتاعك والقضايا اللى هتشتغلها هتتوزع على تلاتة تلت ليا وتلت ليك وتلت للمكتب مرتبات ومصاريف
أتسعت عينى فارس من وقع المفاجأة ونهض بغير أرادة منه واقفاً وهو يقول بذهول:
- مش معقول ..انا مش مصدق يا دكتور
وأشار إلى صدره وقد ازدادت قوة نظراته المتسلطة على الدكتور حمدى وهو يقول بعدم تصديق :
- انا ؟!!
أومأ الدكتور حمدى برأسه وقال مؤكداً:
- ايوا يا فارس ..وبعدين مالك مستأل بنفسك كده ليه ..ده انت اقل من شهر وتاخد الدكتوراة
المفاجأة كانت كبيرة جدا على فارس فلم يكن ليصدق ما يسمع هل سيدير المكتب ويجلس خلف مكتب الدكتور حمدى ليأخذ مكانه ويشاركه نسبة الثلث فى أتعاب كل قضية !!
هز رأسه يمنة ويسرة وهو يحاول استيعاب الموقف جيداً ولكن الدكتور حمدى أعاد كلامه مرة اخرى وهو يؤكد له ما فهمه منه وأخبره أنه سينتظره حتى يعود من أجازة زواجة ليبدء مهام عمله الجديد بداخل مكتب الدكتور حمدى شخصياً .
***
أندفعت دنيا معانقةً لـ فارس وهى تهتف بأنفعال:
- بجد يا فارس أنا مش مصدقة .. يعنى المكتب ده كله هيبقى بتاعنا
عانقها بحب وقال ضاحكاً:
- ده انتِ مفرحتيش كده يوم كتب كتابنا ولا حتى يوم الماجيستير
ضحكت وهى تبتعد عنه بنعومة وعينيها تكاد تنطق بالبهجة والسعادة وقالت وكانها لم تسمعه:
- طبعاً التلت ده هيبقى أكتر من مرتبك دلوقتى بمراحل يعنى هنجيب شقة فى حتة حلوه.. ونفرشها بمزاج ونجيب عربية
وصفقت بيديها وهى تقول:
- وبعد شوية نحط أسامينا على اليافطة جنب اسم الدكتور
كان فارس ينظر إليها بتمعن وهى تتحدث عن المستقبل بكل تلك السعادة وتسرح بخيالها الممتد للآفاق الشاسع وهى تنظر إليه ولكنها فى خضم تلك السعادة نسيته تماماً , ولم تتحدث إلا فى الماديات فقط ولم تحلم إلا بها وحدها , أنتزعها من أحلامها وهو يقول :
- أنا مش هسيب أمى لوحدها فى البيت يا دنيا.. ومش هاخد شقة فى حتة تانية إلا لما هى توافق وترحب بكده وتوافق أنها تسيب بيتها وتيجى معانا
توقفت دنيا عن الدوران فى سماء أحلامها وطوت جناحى الأمانى لتعود إلى الأرض مرة أخرى فى هبوط اضطرارى وقطبت جبينها وهى تقول بحنق:
- يعنى أيه الكلام ده ..عاوز تفضل عايش فى الحارة
أختلطت ابتسامته بقسمات حزن وهو يقول متهكماً:
- أنا مش عارف انتِ ليه مصممة أنها حارة ..ما علينا حارة ولا مدق حتى مهما اختلفت المسميات مش هسيب أمى لوحدها
وأخذ نفساً عميقاً وأخرجه ببطء وهو ينوى حسم الأمر قائلاً:
- والأمر ده لازم يتحسم دلوقتى علشان ابدأ فى تجهيز البيت ونجيب أوضة النوم بتاعتنا
نظرت إليه فى ضجر وضيق شديدين وقالت ساخرة:
- كمان مش هتغير غير أوضة النوم بس
أتجه إلى باب غرفة مكتبها ليخرج منه وهو يشعر أن فرحته قد انطفات بكلماتها وقال ببرود:
- لما اروح معرض الفرش مع عمرو هشوف هقدر اجيب أيه.. المهم دلوقتى تعملى حسابك أن الفرح هيبقى بعد مناقشة الرسالة على طول
***
لم تكن عزة لتصدق نفسها وهى تنتقل ببصرها بين أنواع الأثاث الجيدة أمامها وقد أعجبت بتصميمها العصرى الأنيق ومالت على عمرو وقالت بخفوت:
- بس العفش ده هيبقى غالى علينا .. ولا أيه يا عمرو
وضع أصبعه على فمه مشيراً لها بالسكوت وبدأ فى مفاوضاته هو وفارس مع صاحب معرض الأثاث حول الأسعار والقسط المناسب , وجد فارس مبتغاه فى هذا المعرض وقرر أن ياتى بغرفة صالون أضافية لاستقبال الضيوف وعاد لمداولاته مع صاحب المعرض وهو يتمنى أن يرى السعادة فى عينيى دنيا كما رآها فى تصرفات عزة حينما شاهدت الأثاث لأول مرة وأبدت أعجابها الشديد به .
وبدأت رحلة تجهيز البيت وأعداده ونقل الأثاث إليه وقد بذل فارس مجهوداً أضافياً ليستطيع توفير كماليات البيت ليبدوا جديداً فى عينيى زوجته وفى نفس الوقت يضع اللمسات الأخيرة فى رسالة الدكتوراة وقد اطمئن قلبه إليها وخصيصاُ عندما سمع أطراء الدكتور حمدى عليها وعلى المجهود المبذول فيها .
أنتهت جميع التريبات اللازمة فى شقة الزوجية الخاصة بعمرو وكذلك شقة فارس وأصبحت كل شقة منهما جاهزة لاستقبال عروسها الجديد .
لم تكن تفصل بينهما وبين حياتهما الجديدة إلا أيام قليلة , أيام قليلة تفصلهما عن مستقبلهما الذى لم يكن أياً منهما يتصوره ولا يخطر بباله , فالأنسان مهما فعل لا يستطيع أن يمنع الآخرين من الأساءة إليه .. إن أرادوا ! .
***
الفصل التاسع عشر
أنتشت روحه أبتهاجاً وسعادة ما بعدها سعادة ودوت دقات قلبه بين جنباته فى أصرار لترسم خطوطها على قسمات وجهه البسام وعينيه المشعتان أملاً وانتصاراً وهو يعانق الزملاء والمحبين والمهنئين له وقد اقترن أسمه بلقب الدكتور .. وأصبح يدعى الدكتور فارس سيف الدين , جائزته التى طالما أنتظرها طويلاً بعد جهد وعناء ومشقة وسنوات دراسة وبذل وسهر وتعب وأرهاق مضاعف , كم هى مذاقها طيب لذة الأنتصار وكم هو مرهق مشوار النجاح وتحقيق الأهداف , بحث بعينيه كثيراً عنها بين المهنئين فلم يجدها, كيف ذلك وقد وعدته بالحضور لتشاركه أحلامه وسعادته , تلك اللحظة شعر بالقلق حيالها ,هل ربما قد تكون أصابها مكروه , أخرج هاتفه الخلوى وهاتفها سمع صوتها فرد بلهفة:
- أنتِ كويسة؟
أنتفضت دنيا من فراشها هاتفة:
- أيه ده هى الساعة كام دلوقتى
أطاحت المرارة بابتسامة ثغره ووضعت مرارتها على شفتيه واحتلتها احتلالاً وهو يقول:
- أنتِ كنتِ نايمة ؟! ..معلش صحيتك روحى كملى نوم ..سلام
أمسكت الهاتف بكلتا يديها وقالت بلوعة:
- و**** يا حبيبى راحت عليا نومة مش عارفة ازاى ... أصلى نايمة بعد الفجر .. بس أنت غلطان مكلمتنيش ليه قبل ما تنزل الصبح
قال بضيق :
- خلاص خلاص محصلش حاجة يلا سلام
أغلق الهاتف وهو يشعر أن مرارة ابتسامتة قد استعمرت قلبه ورفعت رايتها معلنةً أحكامها وبعثرت غصتها فى حلقه تباعاً لتجبره على الأنصياع لها بلا مقاومة.. ولم يكن ليفعل .. لم يكن ليقاوم ذاك الشعور المرير بأهمالها الدائم له وعدم حرصها عليه وتفكيرها الأبدى فى شخصها وفقط .. كيف يكون ذلك حباً .
عاد إلى بيته وهو يحاول التخلص من تلك المشاعر التى احتلته فلا يريد أن يزعج أحداً بما يعانيه , كل ما كان يفكر به هو أسعاد تلك المرأة الطيبة التى بذلت عمرها لأجله ولم تبقى لنفسها عافية إلا وقدمتها بحب وارتياح وهى تراه يحقق الأنجازات يوماُ بعد يوم فكأنها هى التى تنجح وهى التى تتقدم وهى التى تخطو نحو المستقبل بخطاً ثابتة.
أحضر لها معه بعض الأشياء التى تحبها ورسم ابتسامة سعيدة على محياه ليدخل البهجة على قلبها ..قابلته .. وجدها تقف فى الشرفة تنتظره على أحر من الجمر فابتسم لها وخطى خطوات واسعة نحو المنزل, صعد درجات السلم فى سرعة كبيرة فوجدها قد سبقته ونزلت هى إليه , عانقته وهى تضحك بين دموعها وتحسست وجهه بيديها الواهنتين وهى تقول ببكاء:
- مبروك يا حبيبى.. ألف مبروك يا ما انت كريم **** .. الحمد *** يابنى
وكأن دموعها قد سمحت لدموعه بالإفلات أخيراً من محبسهم وبغزارة وهو يقول :
- أيه يا ست الكل.. أنتِ تفرحى تعيطى تزعلى تعيطى
قبلت كتفه وأحاطها بذراعه وهى تقول:
- دى دموع الفرح يا دكتور
جاءهم صوت مُهرة من خلفهم وهى تقول بصوت يشبه البكاء:
- كده خلتونى اعيط ؟
ألتفتا فوجداها تقف أعلى الدرج وعيناها تلمع بعبراتها السعيدة التى هطلت بغزارة على جنتيها وهى تنظر إليهما بابتسامة كبيرة فأعطت مظهراً يُرسم له لوحة فنية بكل تلك المشاعر المتناقضة على وجهها الدموع المنهمرة بلا توقف والابتسامة الكبيرة السعيدة وتلك الملامح البريئة التى لا تخطئها عين.
هبطت درجتين من السلم حتى اقتربت , ثم توقفت وأخرجت من جيب تنورتها ميدالية مرصعة بفصوص من الفضة مكتوب وسطها وبخط فضى صغير د/فارس سيف الدين , وقدمتها له وهى تقول ببراءة :
- مبروك يا دكتور.. ممكن تقبل منى الهدية دى
أخذها فارس وهو ينظر لها ويقلبها بين يديه متأملاً وقد تملكته الدهشة وقال:
- **** يبارك فيكى يا مُهرة..بس جبتيها أمتى دى وعملتيها ازاى
رفعت كتفيها وقالت بتلقائية:
- من سنة كده وانا عند أبله عبير شفت واحد جنبهم بيعمل حاجات فضة.. طلعت فى دماغى ووصيته عليها ولسه مستلماها منه من أسبوع بس
رفع حاجبيه وقد اندمج مع عباراتها التلقائية ولم يكن حال والدته باقل من حالته وهما ينصتان لكلماتها العفوية وقال متسائلاً:
- من سنة ؟! .. ولسه مستلماها من أسبوع
أبتسمت فى خجل وهى تطرق برأسها وقالت:
- أصل أنا كنت بحوش تمنها ولما خلصت أدهالى
أتسعت ابتسامته وهو يتبادل النظرات مع والدته التى شعرت كأنها تراها لأول مرة , أما هو فقد شعر بمتعة وهو يتسائل مرة اخرى ويقول :
- وانتِ بقى عرفتى منين المعاد بتاع مناقشة الرسالة علشان تظبطيها كده وتخلصى تمنها قبلها بأسبوع
أستندت بذراعها إلى سور الدرج ولوحت بيدها الأخرى بعفوية وهى تقول:
- مرة سمعتك وانت بتتكلم مع طنط
رفع حاجبية مندهشاً وقال :
- سمعتى المعاد مرة .. ومن سنة !!
أومأت بخجل ثم عقدت جبينها ونظرت لأم فارس ثم نظرت إليه وقالت:
- هى معجبتكش ولا أيه
أجاب بدون وعى وبدون تفكير:
- بالعكس ..دى جميلة جدًا
نظرت له والدته فوجدته شارداً أو حائراً وهو ينظر إلى الميدالية فى يده ويقول فى وجوم:
- شكلك كنتِ متأكدة أنى هاخد الدكتوراه حتى من قبل ما أكون انا متأكد
صعدت والدته درجتين وربتت على كتف مُهرة ثم مسحت على ذراعها فى حنان وقالت :
- طول عمرك جدعة يا مُهرة وفاكره الناس اللى حواليكى
ثم نظرت لملابسها وقالت متسائلة:
- أنتِ كنتِ خارجة دلوقتى ولا أيه ؟
نظرت مُهرة لملابسها ومطت شفتاها وهى تقول بحزن:
- انا صحيت بدرى علشان اروح أتفرج على فارس وهو بياخد الدكتوراه بس ماما مرضيتش وقعدت تتخانق معايا .. ومن ساعتها بقى وانا مغيرتش هدومى وقاعدة فى البلكونة علشان لما فارس يرجع اشوفه واديله الهدية.
شعر فارس بكلمات مُهرة تُطيح بالمرارة التى كانت قد احتلت قلبه من قبل وتنزع رايتها وتحررقلبه من القسوة التى كانت تحاول فرض سيطرتها عليه بالقوة وتُميت عواطفه وتكاد تدفنها فى أعماقه فلا تظهر مرة أخرى على السطح , جائت فى الوقت المناسب لتعيد تشغيله وإعادته إلى الحياة مرة ثانية , قبض على هدية مُهرة فى راحته ولا يعلم لماذا شعر فى هذه اللحظة بالذات انه يجب أن يغض بصره عنها لأنها ...لأنها قد كبرت ... كبرت إلى هذه الدرجة .. كبرت النبتة التى زرعها بيديه وزرع ما بها من معانى جميلة وعواطف نبيلة مخلصة لتصبح وارفة الظلال لتظله هو أيضا ببعض ظلالها حينما تسحقه رمضاء الحياة
‘***
ومرت الأيام الخمس ووقف فارس يرتدى سترته الأنيقة السوداء أمام المرآة وهو يستعد لحفل زفافه , لم يكن متحمساً كما كان يظن فى ذلك اليوم , مشط شعره فى عناية ووقف ينظر للمرآة ويتمم على أناقته حينها سمع صوت بلال وعمرو فى الخارج , أبتسم وهو يفتح باب غرفته وسمع عمرو يصيح بمرح:
- وأنا هاخد وقت فى اللبس ليه.. أنا حلو من غير حاجة
خرج فارس ورد عليه قائلاً:
- ده أيه التواضع ده كله
ضحك بلال وهو يضرب على كتف فارس قائلاً:
- نحن السابقون و انتم اللاحقون
نظر بلال إلى فارس وقال متسائلاً:
- أنتوا مسافرين بعد الفرح فعلا يا فارس
أومأ فارس برأسه وقال:
- الدكتور حمدى عزمنا نقضى أسبوع فى شقته اللى فى اسكندرية ..هنقضى ساعة كده فى الفرح ونسافر على طول
وضع عمرو يديه فى خصره وهو يتصنع الحقد وقال:
- ماشيه معاك يا عم مين قدك
- بقولك ايه يا عمرو مابدل الحقد اللى مإلى قلبك ده.. يومين تلاتة كده وتعالوا قضوا معانا يومين فى اسكندرية
حك عمرو رأسه وهو يقول:
- ممم هفكر واخد رأى الحكومة
ضحك ثلاثتهم بينما قال عمرو :
- يالا يا سيدنا العرايس فى الكوافير مستنينا على نااار
نظر فارس حوله وهو يقول متسائلاً:
- هى ماما راحت فين
قال بلال وهو يضع يديه فى جيب بنطاله:
- طلعت تودى الولاد عند مُهرة ونازله على طول ان شاء ****
عقد فارس بين حاجبيه وقال متسائلاً بقلق:
- ليه هما مش جايين معانا
جذبه عمرو من ذراعه وهو يتجه به صوب باب الشقة ويقول :
- ياعمنا يالا بقى هنستناهم تحت الستات دول يومهم بسنة
خرج ثلاثتهم وأغلق فارس الباب خلفة ونزل الدرج خلفهم فى توتر وقلق وهو ينظر للأعلى ثم ينظر أمامه ويكمل طريقه فى الهبوط
وقف الجميع أسفل بنايتهم وتبادلوا العناق والتهنئة مع الجيران والأحبة والمدعوين منهم للحفل , تأخرت والدته قليلاً فقال عمرو:
- ما تطلع تشوف الحجة يا فارس .. عزة عماله تتصل شكلنا بقى وحش أوى
نظر فارس إلى هاتفه فوجد مكالمتين من دنيا لم ينتبه إليهم, كان على وشك أن يهاتفها ليخبرها أنهم فى طريقهم ولكنه وجد يحيى يهبط الدرج بسرعة ويتجه إلى بلال مباشرة وهو يقول:
- لو سمحت يا دكتور ممكن تطلع معانا.. أصل مُهرة تعبانة أوى
لم يتحدث فارس كثيرا , بل لم يسأله من الأصل , توجه للأعلى مباشرة وطرق الباب , فتحت له أم يحيى الباب وفى عينيها أثر البكاء معلنا عن نفسه بوضوح فقال بلوعة:
- فى أيه مُهرة مالها
كان بلال ويحيى قد لحقا به , غض بلال نظره وهو يقول :
- خير يا جماعة مالها
أفسحت لهم أم يحيى الطريق وهى تقول:
- مش عارفة يا دكتور .. سخنه أوى وبتترعش والكمادات مش جايبة نتيجة .. خايفة تكون حمى
قال بلال بسرعة دون أن ينظر إليها:
- طب غطيها وحطى حاجة على شعرها
دخلت أم يحيى سريعاً إلى غرفة مُهرة وخرجت بعد ثوان وهى تقول بلهفة:
- خلاص يا دكتور اتفضل
هم بلال بالدخول ولكنه تفاجأ بفارس يمسك بذراعه يوقفه , فنظر بلال إلى يد فارس الممسكة به ثم نظر إليه فى تسائل ودهشة , فقال فارس بصوت كأنه خرج من شخص آخر غيره ومن حلق آخر غير حلقه وكأنه آتى من بئر عميق وبعيد :
- هو انت بتكشف على بنات؟
شيئاً ما فى عينى فارس جعل بلال ينظر إليه بعمق وهو حائراً من أمره ثم قال:
- انا مش هكشف عليها .. أنا هشوفها بس حمى ولا لاء ..وده مش محتاج كشف زى ما انت فاهم ..علشان لو حمى مش هينفع نستنى أكتر من كده
ثم أشار بلال إلى أم يحيى أن تتبعه , دخلت معه والدتها لغرفتها فوجد أم فارس تجلس بجوارها وتبكى على حالها وما أصابها ومُهرة نائمة والكمادات تغطى جبينها.
وقف فارس حائراً فى الخارج يريد الدخول ولكن لا يستطيع , بعد دقائق خرج بلال وهو يحادث زوجته على الهاتف ويقول:
- خلاص نازلين اهو ..لا الحمد *** كويسة..اه طبعا هجيب الولاد معايا
لم يستطع الأنتظار أكثر , أمسك بلال من يده التى يحمل بها الهاتف وقال :
- طمنى يا بلال
أنهى بلال مكالمته مع عبير ووضع الهاتف فى جيبه وقال لـ فارس وهو يتفرس فى ملامحه:
- متقلقش دى حرارة عادية ...كويس أن والدتها بتعرف تدى حقن انا كتبتلها على حقنة لما تاخدها هتبقى كويسة بأذن ****
مر يحيى من جوارهما سريعاً فى طريقة للخروج ليحضر الحقنة التى طلبها بلال وخرجت على أثره أم فارس من الغرفة وتوجهت إلى فارس وهى تقول:
- انت لسه هنا يابنى ؟ .. يالا انت اتوكل على **** علشان تلحق عروستك فى الكوافير مش عاوزين مشاكل فى ليلة زى دى
جاء صوت رنين هاتف فارس فى هذه اللحظة, فنظر فى الهاتف ليوجده عمرو الذى تكلم بسرعة قائلا:
- انتوا هتباتوا عندكوا يا فارس
قال فارس بدون تردد:
- أمشى انت يا عمرو.. روح خدهم من الكوافير ووديهم القاعة وماما وبلال هيحصلوك
هتف عمرو مستنكراً:
- هما مين اللى أخدهم دول .. أروح اقول لمراتك تعالى معايا وجوزك جاى ورانا ..فى أيه يا فارس
صاح فارس بغضب:
- اعمل اللى بقولك عليه يا عمرو ..ماما هتنزل دلوقتى وهتاخدها معاك من الكوافير وتروحوا على القاعة .. وانا هبقى احصلكوا ..وبعدين كده ولا كده قاعة الرجالة مفصولة عن قاعة الستات يعنى محدش هياخد باله انى هتأخر
أنتزعت أم فارس الهاتف من يده وهى تنظر له بحدة وقالت لـ عمرو:
- فارس نازلك يا عمرو دلوقتى
أغلقت الهاتف ونظرت إليه بصرامة وقالت:
- يالا روح خد عروستك من الكوافير.. وانا هقعد معاها لحد ما تتحسن
زفر فارس بضيق وهو يشعر أن حفل زفافه تحول إلى جبل على صدره يريد التخلص منه , لاحظ بلال الحيرة فى عينيه ونفس الشىء الغامض الذى استشعره سابقاً وهو لا يريده أن يدخل للكشف عليها فتدخل لحل المشكلة قائلاً:
- بص يا فارس السخونية دى حاجة عادية.. بتيجى وتروح ومتقلقش هى هتاخد الحقنة وهتبقى زى الحصان
عاد يحيى سريعاً بالحقنة ودخل غرفة أخته مسرعاً, كانت أم يحيى واقفة تستمع للحوار بجوار باب غرفة ابنتها وقد حقنتها منذ ثوان , حسمت أمرها ورسمت ابتسامة على شفتيها وخرجت مبتسمة وهى تقول:
- الحمد *** الحرارة نزلت شوية وابتدت تتحسن
ألتفت بلال إليها دون النظر لها مباشرة وقد استشعر خدعتها فهو كطبيب يعلم أن الحرارة تحتاج لوقت أكبر من هذا لتعود لطبيعتها.
أنهالت المكالمات على هاتف فارس وبلال واحتالت أم يحيى كثيرا عليهم حتى لا يتأخروا أكثر من هذا على زفافهم بسبب مرض ابنتها, فهم لا ذنب لهم فيما يحدث لها
وبعد مداولات كثيرة استقل فارس السيارة ويكاد يكون فى عالم آخر, يأكله القلق والتوتر والأضطراب وتكاد ان تفتك به أناتها التى كانت تخرج منها عالية فتصل إلى أذنيه وتنهش صدره عن بُعد , وهو ينظر خلفه يكاد أن يراها من خلف الأبواب المغلقة والجدران , والسيارة تبتعد به وتفصله عن عالمه الذى طالما أحبه .
****
خرجت كل منهما إلى زوجها وتأبطت ذراعه إلى السيارة وانطلق الجميع وسط الزغاريد وأصوات أبواق السيارات حتى وصلوا إلى قاعة الأفراح.
كانت قاعة الرجال فى الطابق الأرضى كالعادة بينما قاعة النساء فى الطابق الأول , صعدت النساء للأعلى بينما دلف الرجال إلى القاعة الارضية , مرت عزة بين صفى الدفوف بينما مرت دنيا بين صفى المشاعل , كانت استقبإليه حافلة بين ضرب الدف والإنشاد وبين أنوار المشاعل الملونة, جلست كل منهما فى مقعدها المخصص لها والمزين بالتل والورود والقلوب الحمراء , وبدات الفرقة فى أداء فقراتها المدربة عليها ولكن كل هذا لم يعجب دنيا وكانت تشاهد ما يحدث بملل وكأنهم نساء من كوكب آخر وتنظر إلى عزة بدهشة وتتعجب كيف يبدو عليها السعادة والبهجه بل وتشاركهم الرقص على ضرب الدف هل هذه حفلة زفاف !
أما فى الأسفل عند الرجال وقف عمرو يتضاحك مع أصدقائه ومحبيه ويتبادلون النكات ووقف فارس بجوراه يصافح المهنئين له ويبتسم لهم ولكن عقله كان فى مكان آخر فيتجه إلى ركن ما فى القاعة ويخرج هاتفه ويتصل على هاتف منزلها فيجيبه يحيى و يطمئنه ببعض الكلمات المطمئنة التى لقنته أياها والدته .
ترك عمرو أصدقائه واتجه إلى ركن هادىء بالقاعة واتصل على والدته وقال وهو يتلفت حوله :
- بقولك ايه يا ست الكل.. مش كفاية كده بقالنا ساعتين مش هنروح بقى ولا أيه
ضحكت والدته ثم قالت :
- طيب خلاص ربع ساعة كده وننزل
أنهى عمرو الأتصال ووقف يفرك كفيه ما بين توتر و عجلة وحانت منه التفاته إلى فارس الذى يقف شارداً يضغط أزرار هاتفه فى انفعال ما بين الحين والآخر فاتجه إليه ووضع ذراعه على كتفه وقال مداعباً :
- أنت كمان مستعجل ولا أيه
رسم فارس أبتسامة على شفتيه ولم يجيبه , فقال عمرو :
- مالك يا فارس شكلك مش طبيعى خالص من ساعة ما وصلنا
فارس:
- مفيش يا عمرو.. مفيش
أنتهى حفل الزفاف واستقل عمرو سيارة بجوار عزة فى طريقهما لعش الزوجية بينما لاحظت أم فارس قلقه وعدم رغبته فى السفر , فاقتربت منه وربطت على كتفه وقالت وكانها ترى ما يدور بعقله:
- يابنى اطمن هى خلاص بقت كويسه يلا توكل انت على **** وخد عروستك وسافر
أنحنت دنيا وهى داخل السيارة وأطلت برأسها من زجاجها وقالت بانفعال:
- انا هفضل ملطوعة كده كتير
أضطر فارس إلى استقلال السيارة تحت الألحاح الشديد من والدته وبلال وكلمات دنيا اللآذعة وانطلق بها إلى الأسكندرية
ظلت طوال الطريق تؤنبه وتوبخه على تأخره عليها فى الكوافير وفى السيارة أمام القاعة ولكنه لم يرد, كاد أن يستشيط غضباً وهو يحاول أرضائها ويقدم أعذاره ولكنها لم تقبل بل وازدادت حدة كلماتها القاسية التى تتهمه فيها بالاهمال والتقصير , والبداية الغير المبشرة بحياة سعيدة , وفجأة صمتت وبكت بقوة وانهيار.
****
فتحت والدة عزة باب الشقة ودلفت وهى تطلق الزغاريد المتواصلة وتبعتها عبير وعزة وعمرو , قبلت عبير أختها وعانقتها وهى تتمنى لهما حياة سعيدة وأيام مباركة وانصرفت بسرعة كما أمرها بلال من قبل , بينما ظلت والدة عزة تطلق الزغاريد المتواصلة حتى مال عمرو على عزة وقال هامساً:
- هو النهاردة الزغاريد وبكره الفرح ولا أيه !
ابتسمت عزة خجلاً ولم تجيبه وإنما تمنت أن تبقى والدتها ولا تنصرف أبدا من كثرة خوفها من عمرو الذى كان يتوعدها بهذه الليلة مراراً وتكراراً وهو يداعبها بكلماته عبر الهاتف
صعدت والدة عمرو وجذبت أم عزة من يدها وقالت بمرح:
- يالا بقى أحنا هنبات هنا ولا ايه
فرت دمعتين من عينيى والدة عزة وهى تحتضنها وتقبلها بينما لمعت عينيى عزة بالدموع وهى تودع والدتها على الباب بينما أسرع عمرو وأغلق الباب خلف الجميع وهو يزفر بارتياح قائلا:
- الحمد *** .. أخيرًا ..أيه رايك نقفل بالمفتاح والترباس لحسن يرجعوا تانى ؟!!
أطرقت عزة برأسها ولم تجيبه وشعرت أن الدنيا تميد بها وتكاد أن يغشى عليها , لاحظ عمرو العلامات الجلية على وجهها وشحوبه خوفاً فقال بلامبالاة :
- يلا بقى انا هموت من الجوع أدخلى غيرى واطلعى بسرعة قبل ما اخلص العشا لوحدى
لم تصدق نفسها , هرولت للداخل أغلقت الباب عليها وبدلت ملابسها سريعاً بعد أن تعثرت قليلا وهى ترتديها وتتمتم بصوت خفيض:
- بتتلبس ازاى دى !
بعد قليل خرجت إليه وجدته يأكل بنهم شديد فنظرت إليه باستغراب وقد تناست خوفها قليلاً وهى تسمعه يقول لها دون أن ينظر إليها:
- الأكله دى خلتنى عامل زى اللى واخدين بنج .. شكلى كده هكسف أهلى وانام على روحى
أبتسمت وقد تلاشى أى شعور داخلها بالخوف وجلست على مقعدها تتناول بعض الطعام وتصنعت أن الأمر لا يعنيها وهى تقول:
- كل وادخل خد دش علشان تسترخى ونام.. وأنا هابقى اصحيك الفجر علشان نصلى سوا على فكرة شكلك مرهق أوى أوى
نظر إليها بطرف عينيه وهو يلعق أصبعه من بقايا الطعام وقال :
- أسكتى يا بت انتِ وكلى عيش فى البيت ده وانتِ ساكته احسنلك
أنهى طعامه ودلف إلى الحمام , أغتسل وخرج ليجدها قد استغرقت فى نوم عميق على الأريكة أمام التلفاز
حاول أيقاظها ولكنها لم تستجب , حاول مراراً ولكنها تعمدت الأستغراق أكثر فى النوم , فاتجه إلى الثلاجة وأخرج زجاجة عصير واتجه إليها ووقف بجوارها وهو يفتح الزجاجة بصوت مرتفع وقال:
- ياترى نوع العصير ده لما بيتكب على الشعر بيطلع تانى ولا لاء
أنتفضت عزة واقفةً وهى تقول برجاء:
- لالالالالا بلاش .. أنا صاحية اهو
أشار لها لتسير أمامه للداخل وهو يعقد جبينه قائلا بجدية مصطنعة:
- قدامى ...ناس مبتجيش غير بالعين الحمرا صحيح
***
وأما هناك وفى الأسكندرية وقبل الفجر بدقائق كانت هناك دوى صفعة قوية على وجهها هوت على أثرها أرضاً وهى تصرخ قائلة:
- متظلمنيش يا فارس مكنش بأيدى ... أسمعنى طيب
قبض على ساعديها بقوة وعينيه تشعان غضباً وكأن الشيطان قد سكنهما وأطلق منها قذائف نيرانه فتطايرت فى وجهها ولفحتها وهو يجذبها لتقف مرة أخرى على قدميها وهى تهتز خوفاً وهلعا وهو يقول بصوت يشبه الفحيح:
- مين اللى عمل كده .. أتكلمى ولا هقتلك وادفنك هنا دلوقتى حالاً
قال كلمته الأخيرة وهو يصفعها مرة أخرى لترتطم بالفراش وتسقط عليه بثقلها , وضعت يدها على وجنتها وهى ترتعش وتقول متوسلة له:
- هتكلم.. هحكيلك على كل حاجة بس اسمعنى .. و**** مظلمومة يا فارس
بدأت تتعثر فى كلماتها وتتلعثم وهى تقول:
- فى يوم بعد ما ركبتنى التاكسى ومشيت .. فضل ماشى بيا فى الطريق عادى وقبل ما يدخل على بيتنا دخل فى الشارع الضلمة اللى قصاده اللى كله عمارات فاضية ولسه بتتبنى .. ما انت عارفه و.. و بعدين طلع مطوه وهددنى ومقدرتش افتح بؤى خفت يا فارس.. خفت وبعدين أغمى عليا ولما فوقت لقيت نفسى فى الشارع .. قمت جريت ودخلت بيتنا وماما كانت نايمة ومشفتنيش
قبض على شعرها بقوة وصرخ بها:
- كدااابة ..أنا عمرى ما ركتبتك تاكسى لوحدك أبدا
صرخت وهى تحاول الفكاك منه ومن قبضته حتى شعرت أن روحها تفرقت فى جسدها وهربت من كثرة الألم وقالت وهى تنتفض:
- ايوا .. ايوا ..أنت عمرك ما ركبتنى تاكسى لوحدى بس فى اليوم ده الميني باص اللى ركبتهولى اتعطل والناس نزلت كلها واضطريت آخد تاكسى وحصل اللى حصل
صرخ بها وهو مازال قابضاً على شعرها بقوة :
- ومقولتليش ليه .. ومبلغتيش ليه .. وأمتى كل ده حصل
بكت بشدة وهى تصرخ من الألم وقالت :
- حصل من سنة تقريبا .. وخفت يا فارس خفت اقولك وخفت ابلغ
دفعها على الفراش بقوة فارتطم رأسها به وأخذت تبكى وترتعش بقوة, نظر إليها تسلط عليه الشيطان فى تلك اللحظة فأقدم على قتلها ولكنه تراجع .
كلماتها تفوح منها رائحة الكذب ولكنه لا دليل لديه على شىء آخر , أبتعد عنها ودخل الشرفة فلفحه الهواء بقوة وشعر أنه كان تحت سطح البحر لا يكاد يتنفس وخرج فجأة إلى الهواء العليل فكادت أن تنفجر رئتيه وشعر بدمائه تغلى بداخل عروقه لتلهبها وتحرقها ورأى الماء يندفع بجنون ويرتطم بأمواج عقله فتطحن رجولته وتبعثرها وتنثرها على الشاطىء , شعر أنه سيفقد عقله ورشده .. جلس على الأرض واضعاً وجهه بين كفيه وهو يشعر أن قلبة قد طُعن طعنة غدر من أقرب الناس إليه , لا يصدقها وليس لديه حل آخر, هل يعرضها على طبيبة , هل يفضحها ويقول لوالدتها ويطلقها أم يستر عليها .. صدح صوت اذان الفجر ليتسلل لقلبه المكلوم الممزق , نهض بتثاقل وتوجه للحمام, أغتسل وصلى الفجر وقد انهمرت عبراته الساخنة التى كانت تقفز على الأرض من عينيه لتروى مكان سجوده بماء دموعه ..أنكفأ لونه وارتجفت أوصاله .
عاد الفارس من معركته خاسراً , ولكنه لم يفقد روحه وأنما فقد حكمته وشرفه, ولكن الفارس النبيل مازال بداخله يستصرخه , أن يظل نبيلاً حتى آخر رمق , وإن زهقت روحه تحت راية نبلة , وتذكر حديث النبى صل **** عليه وسلم :
- (من ستر مؤمنا فى الدنيا ستره **** يوم القيامة )
ولكن هل يستطيع ذلك ؟!!
****
الفصل العشرون
أشرقت شمس يوم الجمعة تتسلل بأشعتها الذهبية بين النوافذ والجدران مقتحمةً الأبواب المغلقة لترى ما لا نستطيع أن نراه , ثم تنسحب بهدوء بعد أن قد حملت بين طياتها الكثير والكثير ولكنها لن تفشى الأسرار فهى ليست من بنى البشر .
فتح فارس عينيه قليلاً ووضع يديه عليها ليحميها من أشعة الشمس , فلقد غفى قليلاً على مقعده فى الشرفة المطلة على البحر , نظر حوله وهو يدعو **** أن يكون ما حدث ليلة الأمس كان حلماً مفزعاً فقط , ولكن وضعه وغفوته أنبأته أنه كان حقيقةً بائسةً فلما نظلم الأحلام معنا دائماً .
أعتدل وهو يشعر بألم فى كل خلجة من خلجاته , مسح على رقبته التى شعر بها تؤلمه بشدة من اثر غفوته تلك , نظر للداخل دون أن يتحرك لم يجد لها اثر وباب غرفة النوم مغلق فعلم أنها مازالت نائمة أو أنها تهرب من مواجهته مرة أخرى.
نهض متثاقلاً وبصعوبة توجه إلى الحمام وتوضأ , خرج من الحمام لتقع عينيه على حقيبته التى مازالت أمام باب الشقة .
شرد ذهنه وهو يتذكر ليلة أمس عندما طلبت منه أن يحمل حقيبتها للداخل ففعل ثم تذكر جرأتها الشديدة , فهى التى تقدمت إليه , حتى أنها لم تدعه يتوضا ليصلى بها ركعتين فى بداية حياتهما الزوجية ولم تنتظره حتى يُدخل حقيبته هو الآخر ليبدل ملابسه
تملكه شعور الدهشه والاستغراب وهو يتذكر أفعالها , كيف تكون مرت بما مرت به وتفعل هذا دون خوف مما ينتظرها , كان من الأولى أن تتمنع وتطلب منه أن يمنحها بعض الوقت ,إن كانت كاذبة كانت ستفعل ذلك, وإن كانت صادقة فيما قالت أيضا كانت ستفعل ذلك , ثم تُخبره بالحقيقة وبما حدث لها دون أرادتها , فهى تعلم أخلاقه وأنه لن يظلمها , أم كانت تتصور لأنه عديم الخبرة أنه لن يكتشف الأمر وستستطيع أن تنهى الموقف لصالحها بعد أن تشعل غريزته دون أن ينتبه .
دارت كل تلك التساؤلات فى عقله وقلبه فى لحظة واحدة وهو مازال مصوب عينيه لحقيبته القابعة مكانها منذ ليلة أمس , هز رأسه بقوة ينفض عنه كل تلك الأفكار التى مازالت به لا تفارقه لحظة واحدة لتشعل النار بقلبه من جديد .
عاد إلى الحمام ليتوضا مرة أخرى ليطفأ ما نشب فى صدره من غل وكره وشعور قوى بالأنتقام وما تبعه من وسوسة الشيطان بأن يثار لشرفه ويقتلها لتهدأ رجولته قليلاً لما فعلته به , توضا وعاد وقطرات المياة تتساقط من يديه وخصلات شعره التى تناثرت على جبينه,
أخذ حقيبته ووضعها على الأريكة وأخرج ملابس أخرى ارتداها فى سرعة وأخذ هاتفه ومفاتيحه وخرج ليلحق بصلاة الجمعة.
أنتهى من صلاته وتناول **** من مصاحف التفسير المرصوصة جنباً إلى جنب على أحد الأرفف وقبع بالمسجد يقرأ لعله يجد المرشد له فيما وقع فيه وهو يشعر أن سنوات عمره مضت هباءاً منثورا مع تلك المرأة التى أحبها وخانته ولكن مع الاسف ليس لديه دليلاً على خيانتها, يخاف أن تكون تعرضت فعلا للأغتصاب فيكون بذلك قد ظلمها وحاكمها بما ليس لها فيه شىء, ووسط مشاعره المتلاطمة وقعت عيناه على الآية الكريمة فى سورة النور :
- ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( لا يعلم لماذا شعر أنها رسالة من **** عزوجل إليه يلهمه فيها بالصواب ويرشده إلى الطريق .
أغمض فارس عينيه بقوة يحاول السيطرة على مشاعره المكلومة وقلبه المذبوح, حاول أن يرتقى بنفسه وبصبره إلى اقصى درجة , وتذكر وقتها أيام خطبته بدنيا وتذكر أنه علم الحلال والحرام ورغم ذلك استمرا في الحرام سنة كاملة وظل يغضب ربه من أجلها فجعلها **** عزوجل هى من تشق قلبه وتذبحه فكانت هذه النهاية الحتمية .
إذن فهو أحد المسؤلين عن ما يحدث له معها اليوم فلماذا يحاسبها وحدها , لماذا لا يعاقب نفسه أيضاً وهل سيختار عقاباً رادعاً لنفسه أكثر منها ؟!
خرج من المسجد وقد حسم أمره تماماً واتضحت الرؤية أمام عينيه واتخذ قراراً نهائياً بشأنها , عبر الطريق ووقف ينظر لمياه البحر الهادئة فى شرود , شرد ذهنه بعيداً تماماً عن دنيا , فوجد نفسه كالمسحور يخرج هاتفه ويتصل بوالدته التى تعجبت واصابتها الدهشة عندما سمعت صوته فى الطرف الآخر وهو يسألها عن أحوالها وصحتها وهى تجيبه باختصار متعجبة إلى أن قال بتردد :
- متعرفيش يا ماما مُهرة عاملة أيه النهاردة؟
أتسعت عيناها بعض الشىء وهى تقول بدهشة كبيرة:
- مُهرة ! .. أنت سايب عروستك علشان تسأل على مُهرة !
أرتبك أكثر وقال بتلعثم :
- وفيها أيه يا ماما ..أنا أمبارح سايبها وهى تعبانة .. أيه المشكلة انى أطمن عليها دلوقتى
ضيقت عينيها قليلاً وهى تقول بأرتياب:
- هى مراتك فين يا فارس ؟
شعر بغصة فى حلقة ومرارة على لسانه وهو يقول بصوت مخنوق:
- فى البيت.. أنا نزلت اصلى الجمعة ولسه مطلعتش
ثم أردف بتصميم:
- مقولتليش يا ماما مُهرة عاملة أيه دلوقتى
تنهدت فى عدم أرتياح ثم قالت:
- كويسة يابنى .. لسه نازلة من عندها من شوية وكانت كويسة
شعر أنه لن يأخذ منها أكثر من هذا وأنها مرتابة من سؤاله عنها من البداية فقرر أن يكتفى بما حصل عليه من معلومات , أنهى المكالمة مع والدته ولكن قلبه لم يكن مطمئناً أبداً هناك شىء يخبره أنها ليست على ما يرام , بحث فى هاتفه على رقم بلال وأتصل به ..لم يكن بلال أقل دهشة من والدته فى اتصال فارس به وسؤاله عن مُهرة ولكنه أجاب:
- أنا عندها دلوقتى
أبتلع فارس ريقة من المفاجأة وقال بلهفة:
- ليه هى تعبت تانى ؟
رفع بلال حاجبيه وهو يقول :
- لا أبداً فى دكتور صاحبى جبته يشوفها ..والدتها اتصلت بينا وقالت مبتكلمش ومبتردش على حد ومبتاكلش وبتعيط على طول ..طبعاً انت عارف ان ده مش تخصصى
خفق قلب فارس بقوة وهو يجلس على أحد الصخور وقال :
- الدكتور قال أيه
بلال :
- لسه خارج اهو اقفل وانا هبقى أكلمك
هتف فارس على الفور :
- لالا متقفلش خالينى على الخط وقولى قالك ايه
نظر بلال إلى الهاتف بدهشة ثم أنزله للأسفل قليلاً وهو يتحدث للطبيب الذى قال :
- حالة من حالات الاكتئاب البسيط وان شاء **** هتعدى مع الوقت بسرعة
ثم نظر الطبيب إلى الجميع وهو يقول:
- هو فى حد زعلها ؟
قالت أم يحيى سريعاً :
- هى بقالها كام يوم كده مش عارفة مالها.. أكلها قليل ومبتنامش كويس ومش مركزة
قال الطبيب متفهماً:
- عموماً فى سنها ده الحالة النفسية بتبقى متقلبة متقلقوش مع الوقت هتتحسن وترجع لطبيعتها انتوا بس متضغطوش عليها فحاجة .
وضع بلال الهاتف على أذنه مرة أخرى ليبلغ فارس بما قاله الطبيب , أرهف فارس سمعه لكلام بلال ولكن أم يحيى قطعت عليه كلامه وهى تقول لـ بلال بحرج:
- ممكن بعد أذنك أكلمه اباركله
تفاجأ فارس بكلام أم يحيى ولكنه وجدها فرصة مناسبة تماماً فقال:
- ولا يهمك يا ست ام يحيى مانا كنت موجود وشايف بنفسى ...هو الدكتور قال ايه
قالت بحزن:
- بيقول اكتئاب وهيعدى ان شاء ** ..أنا و** ما فاهمة يعنى أيه اكتئاب أصلا يا أستاذ فارس.. أنا اللى يهمنى أن بنتى تقوم زى الأول بس مش عارفة اعمل ايه
قال فارس بإشفاق:
- أكتئاب !!
ثم قال فى سرعة :
- لو سمحتى خلينى أكلمها
فرت دمعة من عينيها وقالت بأسى:
- ياريت يابنى.. دى لا بتاكل ولا بتتحرك ولا بتتكلم
شعر فارس أن قلبه يعتصر فى صدره وينقبض بقوة على حالها الذى لا يعلم له سبب فقال:
- طب حطى التليفون على ودنها وانا هكلمها يمكن تستجيب لكلامى
نظرت أم يحيى إلى بلال الذى كان يتحدث مع الطبيب الاخر ويحيى يقف معه يستمع لحديثهم فدخلت لغرفة مُهرة , وجدتها كما هى نائمةً على الفراش تنظر لسقف الغرفة دون حراك أقتربت منها ووضعت الهاتف على أذنها وقالت :
- أهى معاك أهى ..
ثم نقلت الهاتف على اذن مُهرة , أخذ فارس نفساً عميقاً وقال بهدوء:
- مُهرة
أنتفض جسدها الصغير بمجرد أن سمعت صوته وأخذ صدرها يعلو ويهبط فى سرعة وهى لا تزال محدقة فى سقف الغرفة وهو يقول ببطء:
- مالك يا مُهرة .. أيه اللى تاعبك ..كلمينى علشان خاطرى ..أتكلمى يا مُهرة
بدأت الدموع تقفز من مقلتيها واحدة تلو الأخرى بغزارة ودون توقف ترسم طريقاً على خديها وما أن ينقطع بها السبل حتى تغير مسارها لتروى وسادتها التى شاركتها لياليها الموحشة من قبل , كلما تكلم كلما أراد أن لا يتوقف أبداً فظل ينادى عليها مراراً وتكراراً بتصميم:
- انا فارس يا مُهرة .. كلمينى قوليلى مالك.. أشكيلى مين اللى ضايقك
قال كلمته الأخيرة ووجد عبراته تقفز هى الأخرى على خديه وبدا صوته يشبه البكاء وهو يرجوها أن تتحدث, أن تقول أى شىء, خالطت دموعه دموعها ولكن عن بُعد , لم يراها ولم يسمع الا صوت شهقاتها التى بدأت فى الظهور أخيراً وهى تبكى . ولم تراه ولم تسمع الا نداءاته المختلطة بالبكاء وكأنه يعتذرعن شىء لا يعرفه أو لا يفهمه ...فقط يشعر به...
هبت أم يحيى واقفةً وهى تمسك بالهاتف خرجت سريعاً وهى تقول للطبيب بلهفة:
- مًهرة بتعيط بصوت عالى يا دكتور صوتها طلع
هتف يحيى بسعادة:
- بجد يا ماما اتكلمت يعنى
قالت من بين دموعها :
- لاء بس بتعيط بصوت عالى
أعطت أم يحيى الهاتف إلى بلال وهى تشكره قائلة:
- متشكره أوى يا دكتور بلال.. الأستاذ فارس أول لما كلمها ابتدت تعيط وصوتها طلع أخيرًا الحمد ***
***
باتت ليلتها مترنحة خائفة تخشاه , تترقب خطواته تضع أذنها على الباب تستمع لصوت أنفاسه , كلما اقترب من الغرفة اهتز جسدها رعباً , تظن أنه سيقتلها , بالتأكيد سيقتلها لن يرضى على رجولته أن يعيش مع امرأة فعلت فعلتها , أذاً ماذا يفعل , لماذا تأخر مصيرها إلى هذا الحد , سمعت صوته يتجه للحمام ويغلقه خلفه
فتحت الباب فى بطء وهدوء ويديها ترتعش وأوصالها ترتجف خوفاً , مشت ببطء وحذر إلى الحمام ووضعت اذنها وتنصت بإضطراب شديد , سمعت صوت المياه فعلمت أنه يغتسل , أغمضت عينيها وكادت أن تزفر بقوة ولكنها وضعت يديها على فمها خشية أن يسمعها , عادت تمشى وكأنها تزحف بحذر إلى غرفتها وأغلقتها مرة أخرى عليها.
ظلت قابعة خلف بابها تترقب خطواته ذات اليمين وذات الشمال حتى سمعته يكبر تكبيرة الأحرام ثم بدأ فى ترتيل الفاتحة فتيقنت أنه يصلى الفجر.
هنا فقط زفرت زفرةً طويلة أخرجت فيها ما كان يجيش بصدرها من خوف وقلق ورعباً , فلو كان ينوى قتلها لما وقف يصلى هكذا
هوت بجسدها على الفراش وهى تلعن اليوم الذى قابلت فيه باسم وتلعن اليوم الذى صدقت فيه كلماته وعباراته المطمئنة لها, كم كانت حمقاء ساذجة , كيف لمثلها أن تقع فيما وقعت فيه وبهذه السهولة.
وكيف اكتشف فارس فعلتها بهذه البساطة وهى كانت تعتقد أنه غِـر ليس لديه خبره , لقد نسجت خيوطها جيداً فكيف رأى الحقيقة بهذا الوضوح , ولكن الذى جعلها غاضبة حانقة أكثر هو كيف فشلت العملية رغم تأكيدات الطبيب أنها عادت لعذريتها كما كانت من قبل ولن يكتشفها أحد مهما كانت خبرته فى عالم النساء , وضعت يدها على خدها تتلمس صفعات فارس الموجعة فلازالت تشعر بخدر فى وجنتيها نتيجة لصفعاته المتتالية ,عادت إليها رهبتها منه مرة أخرى عندما سمعت صوت باب الشرفة يفتح عنوة , نظرت من فتحة الباب مكان المفتاح فوجدته قد دخل الشرفة واسترخى على مقعدها وأغمض عينيه.
زفرت فى ارتياح وحنق وتأكدت من غلق الباب جيداً وعادت إلى فراشها وهى تتوعد باسم وتسبه باقذع الألفاظ وذهبت فى نوم عميق .
أستيقظت فزعة من نومها على صوت صفق باب الشقة بقوة , جلست فى فراشها دقائق وبعد أن تأكدت من مغادرته الشقة فتحت الباب فى هدوء واتجهت للحمام مباشرة اغتسلت وعادت لغرفتها مرة أخرى لتغلقها عليها لتسكت الشعور بالخوف بداخلها ولكنها لم تستطع أسكات الشعور بالجوع الذى مزق معدتها .
****
فتح الباب ودخل بدون سابق أنذار فسقطت الملعقة من يدها بمجرد أن سمعت صوت غلق الباب , دخل عليها ونظر إلى الطعام أمامها ثم نظر إليها بعينين خاليتين من أى تعبير وقال ببرود:
- وكمان ليكى نفس تاكلى
أبتلعت ما كان فى جوفها وتجمدت مكانها كالتمثال وهى محدقة به تحاول استكشاف ما بداخله من خلال تعابير وجه وظلت قابعة مكانها تنتظر رد فعله تجاهها , جلس أمامها حول المائدة وصوب بصره إليها بصرامة وقال :
- مش ناوية تقولى الحقيقة ؟
أبتلعت ريقها بصعوبة وشعرت بجفاف حلقها وشحب وجهها و قالت بصوت خافت مرتعش :
- اللى قولتهولك امبارح هو ده الحقيقة كلها
أومأ برأسه بقوة ونظر إليها ببغض قائلاً:
- وأنا مش مصدق حرف واحد منه ..لكن مع ذلك ...
صمت قليلاً وتعلق بصرها به وخفق قلبها بقوة فقال :
- مع ذلك هستر عليكى ومش هفضحك ..لكن عمرى ما هسامحك وعمرك ما هتبقى مراتى
قفز قلبها من مكانها وهى تستمع له وقد تيقنت أنه لن يثأر منها ولن يفضحها فعادت الدماء تُضخ إلى مجرى وجهها مرة أخرى وهى تنظر له بترقب فنهض من أمامها واشار إليها قائلاً:
- واعملى حسابك أمى مش هتعرف حاجة عن الموضوع ده
ثم نظر إليها باحتقار وهو يقول:
- مش عاوزها تموت بحسرتها عليا
أستدار متوجهاً للخارج مرة أخرى ولكنها وقفت وقالت برجاء:
- أستنى يا فارس ارجوك صدقنى
أستدار إليها بنظرة مخيفة جعلتها تجلس مكانها ثانية بلا حراك وقد شعرت أن الهواء تجمد فى رئتيها فلا تستطيع التنفس أو حتى التألم , فتح الباب وخرج مرة أخرى وهو يشعر بالأشمئزاز من المكان ومنها ومن نفسه .
خرج يمشى رويدا على الشاطىء ثم وقف واستدار للبحر نظر إلى سطحه محاولاً الوصول لأعماقه ومعرفة أسراره متغلغلاً بداخله بعقله واجماً فى تلك المرأة التى أصبحت زوجته والتى لطخت شرفه , وشعر أن مياه البحر تسخر منه وتؤنبه وأعماق البحر تتهكم عليه بل وتحاكمه , كيف لم يكتشف شخصيتها من قبل, كيف لم يرى جرأتها معه , كيف خُدع فيها إلى هذه الدرجة ؟! , هل أحبها إلى أن طُمست عيناه عن حقيقتها , بكل خبرته ودراسته الطويلة واحتكاكه بالبشر لم يعرفها حق المعرفة, بل كانت والدته المرأة الغير متعلمة التى لم تخرج من شارعهم مطلقاً إلا للضرورة تعرفها أكثر منه , ربما ليس بخبرتها ولكن بقلبها, وأحساسها تجاه الآخرين , فكيف كان يستهين بهذا الأحساس الربانى
****
دخل بلال غرفته هو وزوجته فوجدها ترتدى ملابسها مستعدة للخروج فنظر لها متأملاً ثم قال:
- الهانم رايحة فين
ألتفتت له وهى تغلق أزار ملابسها وقالت مبتسمة :
- انت لحقت تنسى ..رايحة مع ماما عند عزة يا سيدى.. الصباحية عقبال ولادك
عقد ذراعيه أمام صدره وقال :
- وعقبال ولادى ليه متقوليلى عقبالك
رفعت رأسها إليه وعقدت حاجبيها وقالت محذرة :
- بلال بقولك ايه .. متخاليش دماغى تودى وتجيب
أقترب منها ببطء وقال بابتسامة :
- مفيش خروج انا بقولك اهو
وضعت يديها حول خصرها وهى تقول متبرمة:
- يعنى مروحش لاختى صباحيتها يا بلال
زفر بهدوء وهو يجلس على الفراش وقال :
- يابنتى انا مش عارف أيه حكاية الصباحية دى ومين اللى اخترعها أصلا ..عريس وعروسه نروحلهم تانى يوم ونضايقهم ليه
لوحت بيدها وقالت بتلقائية :
- وانا مالى.. أنا رايحة معاهم وخلاص يعنى هى جات عليا.. وبعدين يعنى هنضايقهم ليه دى هى نص ساعة ونمشى
لف ذراعه حولها وأسند جبهته إلى جبتهتها وغمز لها بعينه قائلاً:
- أنتِ اللى بتقولى كده
ضحكت وهى تنهض من جواره ثم التفتت إليه قائلة:
- بصراحة معاك حق بس لو مروحتش ماما هتزعل مني
أرتدت أسدالها وشرعت فى وضع غطاء وجهها , حانت منها التفافة إليه فوجدته شارداً تماماً , جلست بجانبه وقالت متسائلة:
- مالك يا بلال أنت مش زى عوايدك
أنتبه إليها وهز رأسه نفياً وهو يقول:
- لالا متشغليش بالك مفيش حاجة
مسحت على رأسه وهى تقول بنعومة :
- مالك يا حبيبى فيك ايه
رفع رأسه ينظر إليها وقال فى وجوم:
- بصراحة يا عبير ..حصلت حاجة النهاردة كده عند ام يحيى ومش هضحك عليكى واقولك مش لاقى تفسير ..لالا .. أنا بس مستغرب
قالت فى اهتمام :
- احكيلى
قص عليها ما حدث بالأمس عندما كره فارس أن يدخل بلال ليرى مُهرة وما حدث أمام قاعة الأفراح عندما رفض فارس السفر إلا بعد أن يطمئن عليها وكذلك المكالمة التى حدثت اليوم أمام الطبيب ..فقالت عبير بشرود :
- وانت مستغرب من أيه.. مش هو اللى مربيها
هز بلال رأسه نفياً وقال مؤكدا :
- لا يا عبير أنا راجل واقدر افهم نظرة الراجل اللى زيى وتصرفاته ..مفيش عريس فى الدنيا يعمل كده
قالت بقلق :
- يعنى أيه يا بلال.. تفتكر يعنى ..
أومأ برأسه موافقاً وهو يقول :
- أنا مش افتكر .. أنا متأكد يا حبيبتى .. بس مستنى فارس لما يحكيلى بنفسه .. طب لما هى الحكاية كده اتجوز مراته دى ليه ...حاجة غريبة أوى
شردت عبير بعيدا أكثر وأكثر وهى تقول بداخلها :
- ياااه يا عزة ده انتِ **** بيحبك ..أهى خطيبته اللى اتجوزها وانتِ افتكرتى أنه فضلها عليكى طلعت فى الآخر برده مخدتش حاجة غير وجوده معاها , لكن قلبه فى مكان تانى خالص مكان ابعد ما كنا نتخيل كلنا .
*****
وقفت عزة أمام الفراش تحاول جاهدةً إيقاظ عمرو بشتى السبل ولكنها تفشل دائماً فما كان منها إلا أن جاءت بزجاجة مياه باردة وسكبت بعضاً منها على رأسه ...هب جالساً فى فراشه وهو يصيح :
- ايه يا ماما شغل المكوجية ده على الصبح
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت ساخرة:
- ماما مين يا حبيب ماما.. وبعدين صُبح أيه أحنا العصر يافندى
نظر إليها وهو يفرك عينيه بقوة وقال متذكرا:
- عزة حبيبتى ..أه صحيح ده احنا اتجوزنا امبارح وزغاريد بقى وحركات
ثم نظر إليها بعين مفتوحة والأخرى مغمضة وقال متسائلا:
- اه صحيح هو حصل ايه بعد الزغاريد انا مش فاكر حاجة
ضحكت وهى تشير للخارج قائلة:
- لو مش فاكر اروح أجيب أزازة العصير افكرك بيها ها
أشار إليها يستوقفها وهو ينهض متثاقلاً ويقف أمامها قائلا:
- خلاص انا صحيت اهو ..
أحاط خصرها بذراعيه وهو يقول :
- صباح الخير يا عروستى
أبتعدت عنه وقالت بحزن مصطنع:
- لا أنا زعلانه منك .. راحت عليك **** الجمعة حتى الضهر مصلتوش واهو العصر كما اذن عليك ..ينفع كده يا عمرو
مطت شفتيه وعقد جبينه وقال معتذراً :
- انا آسف و**** يا حبيبتى.. كنت تعبان أوى معلش .. أوعدك مش هيتكرر ده تانى
ولف ذراعيه حول كتفيها قائلاً بمرح :
- خلاص صافى يالبن
رفعت كتفيها وأستدارت وهى تشير للخارج قائلة بحسم :
- طب اتفضل بقى على الحمام علشان تلحق اللى فاتك
رفع حاجبيه وقال بصرامة مضحكة:
- ده طلب ولا أمر ؟!!
رفعت جابيها مثله وقالت :
- لا أمر
سار امامها مطيعاً وهو يقول :
- اه افتكرت ..ايوة كده اتعدلى معايا
خرج من الحمام وصلى ما فاته من صلوات وبمجرد أن انتهى سمع صوت قرع جرس الباب ووجد عزة تدخل عليه مسرعة وهى تقول:
- عمرو عمرو يالا تعإلى افتح الباب بسرعة
قال بسرعة وهو يتوجه للمطبخ :
- روحى افتحيلهم على ما اضربلى كام سندوشت على السريع كده
قالت بخجل :
- لا يا سيدى افتح انت انا مكسوفة
هز رأسه نفياً وقال :
- يعنى اموت من الجوع علشان سيادتك مكسوفة أمشى يا بت افتحى الباب
****
مضت الأيام المتبقية سريعاً وعاد الطير إلى عشه القديم تهفو نفسه إلى الأهل والأحباب , فتحت أم فارس ذراعيها وهى تعانق ولدها الذى ألقى بنفسه بين ذراعيها على الفور وكأنه يحتمى بها , كما كان يفعل فى الصغر ممن يخفيه , ولسان حاله يعتذر لها عن عدم طاعتها بتمسكه بهذه الدنيا الغادرة , رفع رأسه وقبل رأسها فى شوق كبير وهو يقول بعينين دامعتين :
- وحشتينى أوى يا أمى
قاطعته دنيا من خلفه وهى تقول بترم :
- أنا هفضل واقفة كده كتير
أفسحت لها أم فارس الطريق للدخول وهمت بمعنقتها هى الأخرى مرحبة بها ولكن دنيا اكتفت بمصافحتها ببرود وهى تقول :
- أهلا بيكى
أغلق فارس الباب خلفه واستدار لوالدته يعانقها مرة أخرى ويسأل عن حالها وصحتها بينما نهضت دنيا واقفة بحنق وهى تقول :
- طب هدخل أنا اريح شويه من السفر
ألتفتت لها والدته وهى تقول بابتسامة كبيرة :
- وماله يا حبيبتى ارتاحى انتِ على اعملكوا غدى هتاكلى صوابعك وراه
نظرت لها دنيا ببرود وقالت :
- لا متتعبيش نفسك أنا مش جعانة
نهضت أم فارس واقتربت منها وربتت على ظهرها وهى تقول بود:
- متعبش نفسى أيه.. أنتِ زى بنتى .. قوليلى بس تحبى تاكلى أيه وانا هعملهولك
أبتعدت عنها واتجهت لغرفتها وهى تقول بتثاقل :
- مفتكرش بتعرفى تطبخى الحاجات اللى بحبها
وقبل أن تدير مقبض حجرتها سمعت صوته الهادر وهو يستوقفها بغضب قائلاً:
- دنيااا
ألتفتت إليه لتجد الشرر يتطاير من عينيه وقال بقسوة :
- لما ماما تكلمك تردى عليها كويس
أنكمشت مكانها واستدارت إليه والدته وقالت على الفور:
- مفيش حاجة يابنى .. مقالتش حاجة غلط ...خلاص سيبها على راحتها
والتفتت إليها قائلة :
- ادخلى ارتاحى يابنتى
أسرعت دنيا بالدخول إلى غرفتها متفادية النظر إليه , فانحنى وقبل يد والدته وقال معتذراً:
- متزعليش يا ماما حقك عليا
ربتت على ظهره وهى تقول مبتسمة :
- أعذرها يابنى هى لسه مش متعوده عليا .. بكره لما تاخد عليا وتعرفنى كويس هتعرف انى أمها التانية مش حماتها زى ماهى فاكرة ..وانا بكره ان شاء **** هعزم الست والدتها تتغدى معانا هنا علشان تعرف اننا عيلة واحدة وانى زى أمها .
قبل رأسها وهو يقول :
- **** يديكى الصحة يا ماما
تركها واستدار إلى حقيبته الصغيرة وأخرج منها هاتف محمول صغير باللون الوردى وأعطاه لها قائلاً :
- ماما ممكن تدى ده لـ مُهرة ..هو فيه الخط بتاعه
نظرت والدته إلى الهاتف ثم نظرت إليه متسائلة :
- جايبلها تليفون ليه
قال بحرج :
- يعنى حبيت ارفع روحها المعنوية شوية.. أكيد هتفرح بيه
ثم تابع بارتباك :
- مش كده برضة ولا انا غلطان
أخذت منه الهاتف وأومأت برأسها وقالت ببطء:
- بعد الشر عنك من الغلط يابنى .. خلاص انا هديهولها ..أنا طالعالهم دلوقتى .. أدخل انت ارتاح مع عروستك ..بس انا هقولها انه هدية مني انا .. أتفقنا؟
ابتسم وقال بحرج :
- مش هتفرق يا ماما.. أنا وانتِ واحد .. المهم انها تتبسط وتخرج من حالتها دى شوية
****
نظرت مُهرة إلى الهاتف فى يديها وتأملته قليلاً ثم أعادته إلى أم فارس قائلة :
- أنا آسفه يا طنط .. أنا مش عاوزه حاجة
هتفت والدتها معاتبةً:
- ليه يابنتى ده هدية من خالتك ام فارس .. حد يرد الهدية
ربتت أم فارس على يدها بإشفاق وكأنها قرأت فى عينيها وهى تتفحصه انها علمت من الذى أحضره لها وقالت بهدوء:
- أنا كنت فاكراكى هتفرحى بيه.. كده برضة ترفضتى هديتى
نظرت لها مُهرة نظرة طويلة وقالت بشرود :
- عمرى ما رفضت هدية من ...من حضرتك .. وطول عمرى بفرح بالهدايا بس دلوقتى خلاص مبقتش تفرق معايا كتير
أقتربت منها أم فارس وأحاطت كتفها بذراعها وربتت على يدها الأخرى وقبلتها على وجنتها وقالت بتعاطف:
- تصدقى انك كبرتى فعلا ..بس لو ليا غلاوة عندك خديه
ثم همست فى أذنها:
- يا عبيطة بقولك ده هديتى انا .. ولا انا بقى خلاص راحت عليا مبقتش ليا غلاوة فى قلبك
قفزت دمعة من عينها فمسحتها سريعاً وهى تقول :
- متقوليش كده يا طنط ده انتِ اللى مربيانى
وضعته أم فارس فى يدها وهى تضغط على يدها برفق قائلة :
- خلاص يبقى تاخديه من سكات
قبضت عليه فى يدها وهى تقول :
- متشكرة أوى يا طنط **** يخليكى ليا
ابتسمت أمها بينما قبلتها أم فارس ثانية وقالت متسائلة :
- أخبار التنسيق أيه
نظرت مُهرة أمامها وقالت بجدية :
- لسه النتيجة بتاعته مطلعتش .. بس عموما مش هتفرق .. أى حاجة هتيجى هتعب واذاكر فيها لحد ما ابقى حاجة كبيرة أوى .. أنا دلوقتى ميهمنيش غير مستقبلى وبس.. هو ده اللى هينفعنى مش أى حاجة تانية
عزمت على نسيان ماضيها وحاولت أن تقتلعه من حياتها ولا تفكر سوى فى مستقبلها وفقط ولكن هذه هى طريقة تفكير الحالمون فقط , فالحالمون فقط هم من يعتقدون أن الانسان من الممكن أن ينفصل عن ماضيه وظروفه و بيئته التى كونت شخصيته وأصبحت جزء من تكوينه وبنيانه بل أصبحت جزء لا يتجزء من حاضره ومستقبله أيضاً .
****
اللي اللقاء في السلسله القادمه
وقفت عزة فى حضن والدتها تبكى بمرارة, ولم تكن أمها بها من القوة ما يجعلها تخفف عنها , كل ما استطاعت أن تفعله هو أن تدعو **** بقلبها ألا تكون عبير قد أصيبت بسوء أقترب عمرو منهما وقال لعزة بعتاب :
- مش كده يا عزة المفروض انتِ اللى تقوى مامتك وتخففى عنها
بكت عزة بقوة أكبر وهى تقول :
- مش قادره أمسك نفسى يا عمرو خايفة على عبير أوى
أنتظر الجميع فى الخارج حتى خرج إليهم الطبيب وهو يحمل صور الأشعة وقد ظهرت على وجهه علامات البشرى وقال محاولاً التخفيف من وقع كلماته :
- بصوا يا جماعة.. وقعة زى دى كانت ممكن تأذى العمود الفقرى لكن الحمد *** العمود الفقرى كويس.. محصلش غير كسر بسيط فى الرجل اليمين
ضربت أمها على صدرها وشهقت وهى تقول:
- بنتى رجلها اتكسرت
ربتت عزة على كتفها وهى تكفكف دموعها قائلة:
- الحمد *** يا ماما انها جات على قد كده.. بيقولك العمود الفقرى كان ممكن يتأذى
تابع الطبيب قائلا:
- أحنا دلوقتى هنحط الجبس ومش أقل من شهر علشان نشيله وبعديه لازم تبدأوا فى العلاج الطبيعى.. برضة مش اقل من شهر أو اتنين
شعر والد عبير بوهن شديد ووخذة فى صدره ولكنه تماسك وقال بضعف:
- يعنى دلوقتى هى هتتجبس ونروح على البيت ولا أيه
الطبيب:
- هتفضل هنا يومين وبعدين تاخدوها وتروحوا بالسلامة
***
طرق عمرو باب مكتب إلهام ودخل وأغلق الباب , وكالعادة رأى ابتسامتها الواسعة المرحبة به بشكل دائم وفى كل الأوقات , وقفت أمامها وهو يتسائل:
- خير يا فندم حضرتك بعتيلى
أشارت إليه بالجلوس وهى تقول :
- تشرب أيه الأول
نظر إلى ساعته وهو يقول بحرج:
- أنا آسف مش هينفع أصل عندى شغل هخلصه وهمشى على طول.. عندى ارتباطات مهمة
نظرت إليه متفحصة بجرأة وقالت بهدوء:
- أيه عندك معاد غرامى ولا أيه
رفع نظره إليها بدهشة من جرأتها وتدخلها فى شئونه الخاصة بها الشكل السافر وقال على الفور:
- لا معاد غرامى أيه أنا مش بتاع الكلام ده
ثم اردف سريعاً:
- خير يا بشمهندسة فى حاجة فى الشغل؟
تابعت وكأنها لم تسمعه وقالت:
- أومال رايح فين ؟
زادت دهشته من اهتمامها الزائد به وقال :
- رايح أجيب أخت خطيبتى من المستشفى مع والدها
أتسعت عيناها ونظرت ليده فلم تلحظ الدبلة الفضية فى يده قبل ذلك وقالت متوترة:
- أيه ده هو انت خاطب من أمتى .. أنا مشوفتش دبلة فى أيدك قبل كده
زفر بطريقة لم تلحظها وقال بضيق :
- أنا لسه خاطب من يومين بس
هزت رأسها بحنق وهى تنقر على سطح مكتبها وتقول:
- قصة حب ولا أيه؟
تحرك من مقعده قليلاً وهو ينظر لساعة يده ويقول :
- حاجة زى كده .. طيب انا مضطر استأذن دلوقتى
نظرت إليه بحدة وهى تقول بجدية:
- ساعات العمل الرسمية لسه مخلصتش يا بشمهندس
ثم ابتسمت ابتسامة صفراء وهى تقول:
- لسه نص ساعة
أستند إلى ظهر مقعده وظل صامتا فقالت بحنق:
- هو انت متعود تمشى قبل المواعيد ولا أيه؟
حاول أن يغلب الغضب بداخله وقال دون أن ينظر إليها:
- أنا مكنتش همشى قبل مواعيدى .. أنا قلت لحضرتك فى الأول انى ورايا شغل عاوز أخلصه قبل ما امشى
هبت واقفة وقالت بتعالى:
- طب اتفضل خلص شغلك يا بشمهندس.. أنا عندى اجتماع
نظر إليها متعجبا من تصرفاتها المتناقضة , فهو لم يطلب الدخول إليها أو الجلوس معها من الأساس , فلماذا تفعل ذلك , ولكن على كل حال تنهد فى ارتياح وهو يغادر إلى مكتبه , كسرت القلم بين يديها فى غضب وهى تنظر للفراغ الذى كان يحتله منذ دقائق.
***
دخل عمرو مكتبه وتوجه على مكتبه الهندسى الخاص به تحت نظر زميله نادر الذى كان يرمقه متبرما لاستدعائها المتكرر له فى مكتبها الخاص ووجد نفسه يقول بسخرية:
- أتأخرت ليه يا روميو؟
نظر له كل من عمرو وزميلهم الثالث أحمد وقال عمرو فى انفعال:
- بتكلمنى انا
قال نادر متهكما:
- هو فى روميو تانى هنا
ترك عمرو ما فى يده وقال له محذرا فى غضب شديد:
- أنا بحذرك تكلم معايا بالطريقة دى تانى .. أنت فاهم ولا لاء
كان يتوقع أن يهاجمه نادر ولكنه وجده يقول بسخرية وهو ينظر لـ أحمد:
- شفت يا عم احمد .. طبعا ما هو مسنود من فوق بقى
صاح عمرو بغضب مرة أخرى قائلا:
- بقولك اتكلم معايا كويس أحسن لك
حاول أحمد تهدئة الوضع بينهما ووقف يهتف بهما:
- ميصحش كده يا جماعة
ثم نظر لنادر معاتبا وقال بضيق:
- وبعدين معاك يا نادر ده احنا زمايل وفى مكتب واحد يا أخى مش كده
نظر لهما نادر بسخرية وأعاد نظره إلى عمله مرة أخرى دون أن يتفوه بكلمة أخرى وكأنه كان يختبر أعصاب عمرو, هل هو سريع الغضب أم لا , ربت أحمد على كتف عمرو قائلا بهدوء:
- معلش يا بشمهندس خاليها عليك المرة دى
قال عمرو وهو يرمق نادر بعينيه :
- ياريت الناس كلها فى أخلاقك يا أحمد
دقائق من الهدوء سادت فى المكتب وكل منهم يتابع عمله حتى ينتهوا منه قبل مواعيد الأنصراف
***
عادت عبير إلى منزلها بصحبة عزة وعمرو ووالدها ووالدتها بينما استأذن فارس للعودة إلى عمله مرة أخرى , دخلت غرفتها بصحبة والدتها وأختها عزة , استراحت على فراشها وسمعت عزة تقول:
- أجيبلك تاكلى يا عبير ولا هتنامى
- لا يا حبيبتى انا هنام شوية .. أصلى مكنتش عارفة انام فى المستشفى خالص
تدخلت والدتها قائلة:
- سيبى اختك تنام واطلعى اقعدى مع خطيبك شوية.. ميصحش كده
نظرت عزة إلى عبير تستنجد بها فقالت عبير على الفور:
- يا ماما مينفعش تقعد معاه لوحدها ده لسه خطيبها
نهضت والدتها وجذبت عزة من يدها وهى تدفعها تجاه الباب وتقول:
- أبوكى قاعد معاه بره مش هتقعدى معاه لوحدك .. يالا ياختى وخدى معاكى كوباية عصير فى أيدك الراجل واقف معانا من بدرى
خرجت عزة وهى تنظر تحت قدميها إن صحت العبارة , نظر عمرو إليها بطرف عينيه وشعر بخفقان قلبه كما يحدث له دائما عند رؤياها , وضعت الكوب على الطاولة أمامه وهى تقول بخجل:
- أتفضل
تابعها بعينيه حتى جلست على مقعد آخر يبعد عنه بعض الشىء فقال والدها:
- أختك عاملة أيه دلوقتى
- الحمد *** يا بابا .. سبتها تنام وترتاح
قال الوالد وهو يهز رأسه رأسه بأسى :
- و**** منا عارف هتقعد فى الجبس شهر ازاى .. وبعديهم كمان علاج طبيعى وشغلانة
تدخل عمرو قائلا:
- متقلقش يا عمى من حكاية العلاج الطبيعى دى ..فارس يعرف دكتور كويس أوى وقريب من هنا جدا
خفق قلبها فاشاحت بوجهها بعيدا حتى لا يرى أحد علامات تأثرها بادية على وجهها , ساد الصمت للحظات قطعه والدها قائلا :
- منور يا بشمهندس
تنحنح عمرو بحرج وقال وهو ينهض واقفا :
- طيب استأذن انا بقى
وقفت عزة ووالدها الذى قال بتصميم:
- لا و**** ما ينفع.. ده انت لسه داخل حتى ملحقتش تشرب حاجة
أبتسم عمرو بمودة وهو يقول:
- معلش يا عمى مرة تانية ان شاء ****
نظر إليها والدها وقال آمراً:
- وصلى خطيبك يا عزة
أحمر وجهها بشدة وهى تنظر لوالدها وكادت أن ترفض ولكنها وجدت علامات الجدية على وجهه فتراجعت عن الرفض وقالت وهى تشير لعمرو :
- اتفضل يا بشمهندس
توجه والدها للداخل وتركهم عند باب الشقة المفتوح , وقف عمرو بالخارج وهى بالداخل تنظر إلى الارض, كانت تتصور انه سيلقى السلام ويغادر ولكنه لم يفعل , وقف ينظر إليها وكل خلجة من خلجاته تنطق بالحب , ليس نظراته فقط وما كانت عيناه إلا مرآة يمر الحب خلالهما وينساب بدون أن يشعر ليسكن فى عينيها عندما رفعتهما إليه لترى سبب صمته الذى طال , فأخفضت عينيها حياء منه ومن نظراته وهى تقول بخفوت :
- فى حاجة يا بشمهندس
قال بنفس خفوتها وابتسامته تملأ وجهه :
- على فكرة.. أنا أسمى عمرو ..هه
قالت دون أن تنظر إليه :
- فى حاجة يا عمرو؟
خفق قلبه وابتسم فى سعادة و .. قاطعت نظراته وأفكاره ورفعت رأسها فجأة وقالت بجدية:
- على فكرة مينفعش تبصلى كده ..عن اذنك
تراجع للخلف بدهشة وأغلقت هى الباب وسمعته يقول من خلفه:
- يخرب عقلك .. قطعتى لحظة رومانسية بنت لذينه
وخبط كفا بكف وهو ينزل درجات السلم وهو يهتف:
- أيه شغل الجنان ده
أبتسمت رغما عنها واتجت للداخل , لا تعلم لماذا تزداد أعجابًا به يوما بعد يوم برغم من أنهما لم يتقابلا إلا مرات معدودة ولكنه فى كل مرة يثبت أنه أهلا لها ولتحمل المسؤلية عن جداره تستحق الأحترام رغم صغر سنه بالمقارنة ببعض الرجال الذين تعدوا الثلاثين ولكنهم لا يشغلهم من الحياة إلا أنفسهم ورغباتهم فقط .. فالأيام لا تغير البشر ولكنها فقط تنزع القناع عنهم
***
الفصل الثانية عشر
أنهى باسم جميع متعلقاته فى مكتب الدكتور حمدى مهران وتركه نهائياً وأخذ معه حسن للعمل معه فى مكتبه الخاص, وفى نفس اليوم دخل الدكتور حمدى المكتب ولكنه لم يذهب مباشرة إلى مكتبه وانما مر بالحجرة الأخرى الخاصة بـ فارس , أطل برأسه وقال موجهاً حديثه لفارس:
- تعالى يا فارس شوية عايزك
نهض فارس واقفاً وذهب خلف الدكتور حمدى ودخل حجرة مكتب الدكتور حمدى خلفه وسمعه يقول وهو يجلس خلف مكتبه:
- أقفل الباب وراك يا فارس
أغلق فارس الباب خلفه وجلس قبالته وهو ينظر إليه باهتمام وهو يتوقع التكليف بقضية مهمة من ضمن القضايا التى يكلفه بها ولكنه فوجىْ به يقول:
- أنت هتمسك أدارة المكتب مكان الأستاذ باسم
أتسعت عيناه دهشة فهو لم يكن يتوقع أن تسند إليه مثل هذه المهمة وفى هذا التوقيت المبكر وقال:
- ايوا يا دكتور بس ..
قاطعه الدكتور حمدى قائلا بجدية :
- متقلقش من حاجة.. الموضوع أصلا مش محتاج حاجة يعنى مش مسؤلية زى ما انت فاهم .. وبعدين القضايا مبقتش كتير زى ما انت شايف
أطرق فارس برأسه لبرهة من الوقت صمت خلالها يفكر ثم رفع رأسه وقال:
- بس أنا مش اقدم واحد فى المكتب فى ناس أقدم مني
أبتسم الدكتور حمدى وهو يقول بثقة:
- بس انا بثق فيك انت
ثم نظر أمامه وشرد قليلا وهو يقول:
- وبعدين انا بحضرك لحاجة كبيرة بس مش دلوقتى
حاول فارس أن يتكلم متسائلا عن الأمر ولكنه قاطعه مرة أخرى قائلا:
- أخبار الماجستير أية
فكر فارس قليلاً وكأنها يجمع الأوراق أمام عينيه وقال:
- مش أقل من سنة يا دكتور
هز رأسه مبتسماً وهو يقول:
- طب يالا بقى على مكتبك الجديد
خرج فارس من حجرة الدكتور حمدى بمشاعر مضطربة ما بين السعادة والخوف من المسؤلية الكبيرة التى ألقاها أستاذه على كاهله ووجد نفسه يهتف داخله متضرعاً:
- **** وفقنى أنا محتاجلك أوى ****
دخل حجرته فوجد دنيا تنتظره ونهضت على الفور متسائلة:
- خير يا فارس الدكتور كان عاوزك ليه
أبتسم فارس وهو يأخذ نفساً عميقا ثم قال:
- الدكتور كلفنى بأدارة المكتب بدل الأستاذ باسم
شهقت دنيا فرحاً وهى تضع كفيها على وجنتيها وهتفت بسعادة:
- معقول .. ألف مبروك يا حبيبى
كان قد انتهى من جمع بعض أوراقه وقبل أن يخرج توقف وقد تذكر شيئاً ذات أهمية وقال:
- لو سمحتى يا دنيا تعالي كمان ساعة كده.. عاوزك ضرورى
أبتسمت دنيا وهى تتابعه وهو يخرج من الحجرة بينما توجهت نورا خلفه لتهنئه , طرقت الباب ودخلت عندما سمعته يعطى الأذن بالدخول , وقفت عند حافة الباب المفتوح تهنئه فشكرها بابتسامة هادئة وقد كان يتوقع أن تغادر ولكنه وجدها تقف فى حيرة من أمرها لا تدرى ماذا تقول , فقال فارس بهدوء لا يخلو من الدهشة:
- فى حاجة يا أستاذة نورا؟
تقدمت للداخل وبحركة تلقائية كادت أن تغلق الباب ولكنه استوقفها قائلا:
- لو سمحتى سيبى الباب مفتوح
أومأت برأسها وجلست قبالته وقالت بتوتر:
- أستاذ فارس ..أنا عارفة انك مشغول أوى بس انا.. أنا بجد مخنوقة أوى ومحتاجة اتكلم معاك
ترك فارس مافى يده من ملفات وقال ببطء متسائلا:
- خير فى حاجة مضايقاكى .. فى الشغل
قال كلمته الأخيرة تلك وهو يضغط حروفها بتعمد فرفعت نظرها إليه متعجبة وقالت باستنكار:
- أنت كنت بتسمع لمشاكلى كلها وبتحاول تلاقيلى حل مهما كانت نوع المشاكل دى
أستند فارس إلى سطح المكتب وهو ينظر لكفيه ويقول :
- عارف يا أستاذة نورا.. بس انا عرفت ان ده كان غلط .. مش غلط انى أحل لك مشاكلك ..لكن الغلط فى حد ذاته أنى أخلى زميلة ليا تشوفنى على أنى سوبر مان اللى مفيش مشكلة بتقف قدامه .. أنتِ أغلب مشاكلك متعلقة بخطيبك وبعلاقتكم مع بعض وخصوصا المشاكل العاطفية بيتهيألى لو حكيتى لبنت زيك هيكون أفضل وهنسد باب الفتن دى من أولها لآخرها
قطبت جبينها وقالت فى حرج :
- أنت عمرك ما قلتلى كلمة فيها تجاوز.. ليه تقول كلمة فتن
أبتسم فارس وهو مازال غاضا لبصره عنها:
- مكنتش بقول ..بس الشيطان مش هيسيبك فى حالك .. هيفتحلك ألف باب وباب .. ويهيألِك انى محصلتش فى الناحية العاطفية .. والحقيقة انى بشر زى أى بشر.. بغلط وبتوب بتكلم حلو ووحش زى كل الناس .. لكن لما بنشوف المشكلة من بره بيبقى حكمنا وطريقة كلامنا غير اللى عاشها فعلا
وقفت وهى تقول بحنق وقد شعرت بكلماته تغوص بداخلها لتخرج ما به من انفعالات وقالت بضيق شديد:
- متشكرة أوى يا أستاذ فارس على تنبيهك ده ..عن أذنك
خرجت من حجرته حانقةَ عليه وعلى نفسها , دخلت لتتوضأ وعادت لحجرتها فى المكتب لتصلى فى أحد أركانه وتلكأت فى جلستها حتى نهضت دنيا ودلفت إلى مكتب فارس, وبنفس الطريقة أشار لها أن تبقى الباب مفتوحا, جلست أمامه فى سعادة بالغة وهى تقول:
- مبروك مرة تانية يا حبيبى تستاهلها بجد
أخذ نفساً عميقا وهو يغمض عينيه وزفر فى بطء وهدوء ثم قال:
- دنيا .. أولا متنسيش اننا لسه مخطوبين
مطت شفتاها بتبرم وهى تقول:
- وثانيا ؟
قال على الفور:
- لبسك بقى ملفت للنظر أوى يا دنيا
صاحت فى غضب وهى تهب واقفة:
- ما تقولى ألبسى خيمة أحسن
- أنتِ زعلانه انى بغير عليكى وعاوز لبسك يبقى محتشم أكتر من كدة ؟
تبرمت فى حنق وجلست مرة أخرى ولم ترد أو بمعنى أصح تقلب الأمر فى رأسها , صمتت قليلا ثم قالت:
- طيب سيبنى بس لما اقبض علشان اعرف اشترى لبس يرضيك
أبتسم لموافقتها ثم أخرج بعض المال وقدمه لها قائلا:
- معلش ده مبلغ بسيط .. بس هيكفى ان شاء **** تجيبى طقم بسيط كده على ما نقبض
نظرت للمال ثم نظرت إليه بضيق وهى تقول:
- حتى الكام يوم مش عاوز تسيبنى براحتى فيهم وبعدين شكرا يا سيدى هاخد فلوس من بابا
- أومال ليه بتقوليلى استنى لما اقبض
زفرت فى غضب هاتفةً:
- يووه بقى يا فارس .. حاضر حـــااضر
***
جلست نورا على مقعدها خلف مكتبها وهى تدفن رأسها بين كفيها وتستعيد كلمات فارس الذى ألقاها عليها منذ قليل كمن يلقى دلواً باردا فى ليل الشتاء القارص على قلبها بلا رحمة أو شفقة, ولم تعد تدرى اهو يقصد صالحها كما قال , أم يتهرب منها ومن مشاكلها التى غطت أذنيه منذ عملهما معاً , كانت تريد أن تختلى بنفسها قليلا بعيد عن أعين الناس , نهضت وأخذت حقيبتها وبدون أن تستأذن للأنصراف خطت بسرعة خارج المكتب مسرعة لا تعبأ بالسؤال عنها حين ملاحظة غيابها , كانت مرتبكة قلقة تتردد كلماته على قلبها قبل عقلها فحثت السير أكثر كأن شبحا يطاردها.
تقوقعت نورا فى فراشها وهى تحتضن قدميها إلى صدرها وتفكر فيما قاله لها اليوم وتفكر فيه بعمق وتحادث نفسها قائلة:
- مش عارفه معاه حق ولا لاء .. أنا فعلا فى الأول كنت بتكلم معاه على أنه زميلى وبس لكن مع كل مشكلة كان بيحلهالى كنت بحس أنه هو ده اللى بدور عليه ..وكنت بندم على أنى مقابلتوش قبل خطيبى وقبل ما نكتب الكتاب
أستلقت على أحدى جنبيها وألقت رأسها على الوسادة وهى تفكر فى حل لما وقعت فيه بدون أرادة منها وقالت بضيق :
- ياريتنى كنت حكيت لبنت زيى على الأقل كنت هفضفض معاها من غير ما يحصل اللى حصل ده جوايا
تململت فى الفراش كتململ العصفور المبلل بماء المطر حتى استسلمت للنوم وقد قررت أن تقف مع نفسها بحسم وتصرف عن قلبها صورة فارس الهُلامية التى صنعتها له بيديها, صورة الرجل الذى لا يخطىء أبدا , وتضع مكانها صورة خطيبها وحبه لها لتجعل منه مددا لها لعلها تفيق مما هى فيه وتشعر بهذا الرجل الذى أهملته كثيرا بأوهامها السابقة.
****
كان فارس يجلس بمكتبه حين سمع جلبة بالخارج , حرك جسده قليلا وهو يحاول النظر من الباب المفتوح أمامه فرأى رجلاً يصيح بعصبية قائلا:
- ده مش أسلوب معاملة.. أومال مكتب كبير واسم كبير وخلاص .. وكل ده على الفاضى ومش عارفين تخلصولى حتة قضية يخلصها محامى صغير
هب فارس ناهضا وأثناء خروجه وجد الدكتور حمدى يدخل حجرة مكتبه ويغلق الباب فى وجه الرجل بحدة مما جعل الرجل يشتعل غضبا أكثر ودنيا ونورا يتابعان ما يحدث عن كثب وبعض المحامين يحاولون التحدث للرجل للرحيل بسلام ودون أثارة المشاكل ولكن كان منفعلاً بشدة فلم يستجب لأحد , حاول فارس تهدأته وعرض عليه الجلوس فى مكتبه ليتفاهم معه ومحاولة أصلاح الأمر بصفته مدير المكتب , أستجاب الرجل ودخل حجرة فارس
جلس فارس أمامه على المقعد المقابل له ولم يجلس خلف مكتبه ليستطيع التعامل معه ومع انفعاله وهو يقول :
- أهدى بس حضرتك وقولى أيه الحكاية بالظبط
هدأ الرجل قليلا ثم قال متهكماً:
- حتة قضية شرعى صغيرة قد كده.. يخلصها أى محامى صغير ..جيت للدكتور بتاعكوا وقلت أسم وسمعه وهيخلصها قوام قوام.. لقيته بيرمى الملف ويقولى شفلك محامى غيرى وطردنى من مكتبه
قام فارس بتهدأته مرة أخرى ثم قال:
- ممكن الملف بعد أذنك
أستند فارس لظهر مقعده وهو يقلب فيه سريعاً ثم قال بدهشة:
- والدكتور رفض القضية ليه .. دى قضية طلاق عادية جدا
قال الرجل متهكما:
- أديك قلت.. قضية طلاق عادية جدا ..
مال فارس للأمام وهو يتفحص الرجل وقال بجدية وهو يتكأ بمرفقيه على ساقيه والملف بين يديه:
- ممكن حضرتك بس تجبلى الموضوع من الأول كده علشان افهم واقدر افيدك
- طلقت مراتى وراحت بيت ابوها بالعيال ..رفعت عليا قضية نفقة ليها وللعيال ومؤخر بقى وقايمة والذى منه
حثه فارس على المتابعة قائلا:
- وبعدين
- ولا قابلين .. واحد صاحبى ليه تجربة فى الموضوع ده قبل كده ... شار عليا أنى لو قلت عليها انها ماشيها بطال وجبت شهود وأدله على كده كل حقوقها هتسقط ومش هيبقى ليها حاجة عندى غير نفقة العيال بس
قطب فارس جبينه بشدة وقال مستفهماً:
- وأنت فعلا عندك شهود على كده
ضحك الرجل بسخرية ثم قال:
- أهم مرمين على القهوة قدام المحكمة مش لاقين شغلانة .. كل واحد عشرين جنية و تحفظه كلمتين وخلصت خلاص
شعر فارس بالدماء تغلى فى رأسه ولكنه حاول ضبط أعصابه والتحكم بها وهو يقول:
- شهود زور يعنى ؟!!
- زور ولا مش زور .. المهم الوليه دى متخدش منى حاجة إلا بمزاجى
صمت فارس قليلا ثم قال بعد تفكير:
- وتقبل أن مراتك ام ولادك سمعتها وشرفها يبقى في بؤ كل واحد شوية وانت عارف ومتأكد أنها ست شريفة وكل ده علشان ايه ..علشان خاطر انت مش عاوز تديها حقوقها اللى **** أمرك بيها وأستحلتها كزوجة بعد ما وافقت عليها ومضيت على كده
زفر الرجل فى ضيق وهتف به:
- بقولك ايه يا أستاذ انا مش جاى هنا اسمع مواعظ ..هما كلمتين هتظبطلى القضية دى ولا مش هتعرف
ثم أردف مسرعاً :
- ولو وافقت ليك عليا هتعامل معاك من بره بره من غير الدكتور بتاعك ما يعرف وأتعابك هتبقى ليك لوحدك ...ها قلت ايه
أبتسم فارس وهو يقول:
- قلت أن حضرتك مقرتش اليافطة اللى على المكتب بره كويس ...ده مكتب محاماة مش شقة دعارة
نظر له الرجل بدهشة وقد بدت علامات العبوس على وجهه فتابع فارس قائلا:
- أه و**** مش مصدق ولا ايه ...ماهوأنا لو وافقت على اللى بتقوله يبقى مراتك دخلت عندنا شريفة وطلعت من عندنا مشيها بطال ...تبقى شقة دعارة ولا لاء
ثم هب واقفاً وهو ينظر للرجل باحتقار وقال بهدوء:
- أتفضل حضرتك شوفلك حد تانى يلوث سمعت ام ولادك .. ولو كمان كسبت القضية تبقى علمت على عيالك انهم ولاد حرام وفضحتهم قدام الناس كلها وضيعت مستقبلهم.. وكمان بقى عندك بنات شوف مين اللى هيبصلهم بعد كده.. وخلى بالك انت كده بتقذفها فى شرفها وكمان بشهود زور.. يعنى حسابك عند **** مش بس عقوبة القذف لالا دى كمان شهادة زور والتحريض على شهادة الزور
وغمزله بعينيه وهو يتابع:
- يعنى حسابك هيتقل أوى يا باشا وبلُغة القانون الوضعى ..أعدام .. والأعدام بتاع الآخرة ..على جنهم عدل
ظل الرجل ينظر لفارس ويحدق به وهو يتحدث حتى انتهى من حديثه ثم جذب الملف من يده وهو يشعر بالتوتر من كلماته والإرتباك وقال متلعثماً وهو يغادر بسرعة :
- أنا مش فاهم .. مكتب محاماة ده ولا جامع
أنصرف الرجل وجلس فارس خلف مكتبه وهو يضع رأسه بين كفيه قائلا بأسى:
- لا حول ولا قوة الا ب**** .. معقول توصل للدرجة دى
دخلت دنيا مسرعة وقالت بلهفة:
- أيوا كده يا فارس هو ده الشغل ..ها ظبطت الراجل وهتشتغلها لحسابك صح ..؟؟
رفع رأسه إليها وهو يقول بحزن:
- لاء طبعا يا دنيا اصلك متعرفيش الراجل ده كان عاوز ايه
قطبت جبينها وقالت ضيق:
- ليه يا فارس ليه.. دى فرصة جات لحد عندنا كنت هتطلعلك منها بكام ألف
أبتسم ساخرا وهو يقول:
- حتى لو كانوا كام ألف حرام
صمتت وهى تنظر إليه بدهشة ودخلت نورا لتخبره أن الدكتور حمدى يطلبه ولكنه لم ينتبه لها وهو يقول:
- الراجل طلق مراته وعاوز يدعى عليها انها ماشيها بطال علشان ميديهاش حقها لاء وكمان هيجيب شهود زور على كده ..
وهز رأسه متهكما وهو يقول:
- لاء ويقولى خد القضية لحسابك ...فاكرنى على آخر الزمن هاكل حرام
صمتت دنيا تفكر فى كلماته فبرغم شعورها بالحنق تجاه رفضه للقضية إلا أنها لم تستطع أخفاء شعورها بالأعجاب تجاهه , لم تكن هى الوحيدة التى أعجبت به , بل كانت نورا أيضا التى كانت تقف تنظر إليه باحترام شديد , حانت منه التفاتة إليها انتزعتها من أفكارها وقالت بسرعة:
- الدكتور حمدى عاوزك فى مكتبه
***
نظر فارس إلى وجه الدكتور حمدى فوجده مازال محتقنا بالدماء من كثرة غضبه وانفعاله فقال:
- أهدى يا دكتور الراجل مشى خلاص
قال الدكتور حمدى بعصبية وهو يضرب سطح المكتب بقبضته :
- شفت الراجل الوقح ده كان عاوز ايه
أومأ فارس مجيبا وهو يقول:
- أيوا يا دكتور وعموما أنا اديته اللى فيه النصيب ومشى
نظر إليه حمدى مستفهما فقال فارس:
- أديته كلمتين فى عضمه يمكن يفوقوه ويفكروه ان فى آخره وعذاب وحساب من ****
ضرب حمدى كفيه ببعضهما وهو يهتف متعجباً:
- لاء ومش دى المصيبة يا فارس .. المصيبة أنى كنت فاكر انى مشغل معايا ناس عندهم ضمير لكن للأسف الكام محامى اللى شفتهم بره بيهدوه كانوا موجودين ويقولولى وفيها ايه يا دكتور ده شغل ..تخيل يا فارس انا على أخر الزمن اشتغل بالطريقة دى
نهض فارس واقفا بقلق وهو يقول:
- أنا هروح اجيب لحضرتك كوباية ماية
أشار إليه حمدى مستوقفاً أياه وهو يقول:
- لا متقلقش يا فارس..أنا خلاص هديت وبقيت كويس متقلقش
ثم زفر وهو يعيد ظهره إلى الوراء ويستند إلى ظهر كرسيه وهو ينظر لفارس قائلا :
- الحمد *** أنا كده اتأكدت أنى اخترت صح من الأول
***
أنتهت نورا من عملها وانصرفت من المكتب , وما إن هبطت للأسفل حتى وجدت خطيبها رامى ينتظرها أمام البناية داخل سيارته الصغيرة , أبتسمت ابتسامة صغيرة واستقلت السيارة بجواره فانطلق بها وهو يقول:
- وحشتينى يا نورا .. شكلك مرهق أوى النهاردة
نظرت له وقد بدا عليها الإرهاق بشدة وهى تقول:
- ما أانت عارف يا رامى شغلنا متعب أزاى
- أنا مش عارف أيه اللى جابرك على كده .. منا قلتلك كفاية بقى من زمان بس انتِ اللى مصممة تشتغلى مش عارف ليه ..كان يتوقع أن تتكلم بحدة كعادتها عندما تأتى سيرة عملها ولكنها هذه المرة قابلت الحديث بصمت وهى تستند برأسها للخلف وتقول:
- هبقى افكر فى الموضوع ده تانى
أغمضت عينيها باسترخاء ولكن فجأة فتحتهما وكأنها تذكرت شيئا وقالت باهتمام:
- عاوزة آخد رأيك فى حاجة مهمة
- قولى يا نورا انا سامعك
قصت عليه ماحدث فى المكتب اليوم من شد وجذب مع هذا الرجل ولكنها لم تذكر له رد فعل فارس واكتفت بما فعله الدكتور حمدى ثم قالت تختبره:
- أنت أيه رايك يا رامى.. لو كان الراجل ده عرض عليا القضية أشتغلها لحسابى أوافق ولا لاء ؟؟
قال بسرعة وبدون تفكير:
- لاء طبعا ده راجل معندوش ددمم ولا ضمير.. كويس أن الدكتور حمدى طرده بس .. ده لو كنت انا كنت طبقت فى زمارة رقبته
قالت ببطء:
- حتى لو كان هيدفعلى الفلوس اللى انا عاوزاها
قال بضجر:
- حتى لو كان هيدفع مال قارون دى هتبقى فلوس حرام
أبتسمت نورا وهى تسترخى بجسدها بالكامل للوراء وتسائلت , لماذا إذن لم تكن ترى خطيبها يحمل تلك المشاعر النبيلة والضمير اليقظ من قبل ,هل لأنها لم ترى إلا فارس فقط أم لأنها كانت تحكم على رامى مسبقا دون أن تعرف شيئا عنه أو تحتك به عن قرب كما كان يحدث هذا يوميا مع فارس , تعددت الأسباب والحكم واحد فى النهاية , لا تعلم لماذا بدت صورة فارس أمام عينيها تتلاشى لتحل محلاها صورة رامى الجالس بجانبها خلف عجلة القيادة , حانت منه التفاتة إليها فرأى نظرات الحب التى لم يرها أبدا فى عينيها منذ أن عقد قرانها , فأوقف السيارة جانبا وظل ينظر إليها بحب وشوق لتلك النظرة المطلة من عينيها , فقالت :
- وقفت العربية ليه يا رامى
- أبتسم وهو يقول:
- أصل انا معرفش أحب واسوق فى نفس الوقت بصراحة
***
عاد فارس لمنزله سريعاَ بعد **** الظهر ليلحق بميعاد الغذاء مع والدته حتى لا تأكل وحدها وهو ما يزال مشدوها مما حدث يوم أمس فى المكتب ومما سمع من هذا الرجل , ربتت والدته على رأسه بحنان وهى تهم بالجلوس بجواره حول مائدة الطعام , نظر لها بابتسامتة العذبة فقالت:
- مالك يابنى من ساعة ما رجعت وانت سرحان وبالك مشغول
ما كادت أن تنهى عبارتها حتى سمعت طرقاً على باب الشقة , نهض فارس سريعاً واتجه ليفتح الباب فوجد أم يحيى أمامه ويبدو عليها علامات العجلة والتوتر وقالت:
- أسفه و**** يا أستاذ فارس هى الست ام فارس موجودة
نادتها أم فارس من الداخل فأفسح لها فارس المجال للدخول ولكنها اكتفت بأن تطل برأسها وهى تقول :
- معلش يا ست ام فارس أصل اختى تعبانة شوية ولازم اروحلها دلوقتى
نهضت أم فارس واقتربت منها فقالت بحرج:
- ممكن بس لو مُهرة نزلتلك تخليها عندك لحد ما ارجع.. أصلها عليها واجبات كتير النهاردة ومكنش ينفع اخدها معايا
تدخل فارس قائلا:
- هى لوحدها فوق ولا يحيى معاها
قالت بحرج:
- لا أصل يحيى عنده درس دلوقتى ومعاه زمايله فوق .. وانا سبتها معاهم لحد ما ارجع بس ممكن تضايق لوحدها ولا حاجة .. فلو نزلت معلش يعنى استحمليها لحد ما ارجع .. أنا مش هتأخر ان شاء ****
قاطعها فارس مرة أخرى وقال مؤنباً أياها:
- معقول يا ام يحيى.. سايباها مع شباب لوحدها فوق وكمان المدرس اللى معاهم كده ينفع يعنى
ضحكت أم يحيى وهى تقول:
- شباب أيه بس يا أستاذ فارس .. دول شوية عيال فى ثانوى وهى مقروضة زى ما انت عارف .. وبعدين مفيش حد غريب ده يحيى معاه محمود أخو البشمهندس عمرو ومعاهم أتنين من زمايلهم فى المدرسة
رفع فارس حاجبيه وقال متهكماً:
- شوية عيال ! .. و**** انتِ غلبانة يا ست ام يحيى .. ده محمود ده بالذات عاكسها قدامى فى خطوبة عمرو وجيت اكلمه مهموش وعاد نفس الكلام قدامى .. مابالك بقى بالاتنين التانين
تدخلت أم فارس قائلة :
- خلاص روحى انتِ وانا هبقى اطلع اجيبها
أنصرفت أم يحيى سريعاً وهبطت الدرج على عجلة منها وهمت أم فارس أن تغلق الباب ولكنه استوقفها قائلا:
- أستنى يا ماما لما اطلع اجيبها الأول
قالت بدهشة:
- أتغدى طيب وبعدين انا هبقى اطلع اجيبها
قال وهو يخرج من الباب ويتجه إلى السلم :
- معلش يا ماما هجيبها الأول واهى تتغدى معانا بالمرة
صعد فارس للطابق التالى لهم وطرق الباب ففتح له يحيى وابتسم عندما رآه قائلا:
- أبيه فارس أتفضل
دخل فارس وهو يضع ذراعه على كتفه بود قائلا:
- ها عامل أيه فى المذاكرة
- المستر لسه مجاش.. اتأخر النهاردة وانا قاعد اهو بخلص الواجب اللى كان مديهولنا فى المدرسة
نظر فارس حوله وهو يحدثه , فوجد زملائه يعبثان أمام قنوات التلفاز ويتضاحان بشكل عشوائى ومحمود يقف فى الشرفة يضايق مُهرة كالعادة وهى ممسكة بدميتها المفضلة باربى هدية فارس لها , أشار له فارس باتجاه محمود وقال بغضب:
- أزاى امك تأمنك على اختك وسايب صاحبك واقف يكلمها كده ويضايقها
سمعت مُهرة صوت فارس فأقبلت مسرعة باتجاهه ضاحكة بينما كان يحيى يقول:
- مانا مخلى بإلى منها يا أبيه هو انا عملت حاجة.. وبعدين دى تضايق بلد بحالها
زفر فارس بضيق وقال ليحيى :
- طب خلص الدرس بتاعك وبعدين هبقى اقعد اتكلم معاك فى الحكاية دى بعدين وافهمك
ثم التفت لمهُرة قائلا:
- يالا روحى هاتى شنطة المدرسة علشان تنزلى معايا
أخذها فارس وهبط بها لشقته ووجد والدته تعد لها صحنها التى تحب أن تأكل فيه فابتسمت عندما رأتها بصحبته , ألتف ثلاثتهم حول المائدة وهو يقول :
- كويس انى طلعت على طول
نظرت له والدته متسائله فقال:
- لو سمحتى يا ماما مُهرة تفضل معاكِ معظم اليوم زى ما كانت الأول .. أنا كده هبقى فى الشغل ودماغى بتلف
بعد انتهاء الغذاء أعد فارس الشاى ووضعه أمام والدته على الطاولة المواجهة لمقعدها بينما جلس هو على الأريكة واستندت مُهرة بظهرها إلى أريكته وهى على الأرض بجوار ساقه وتضع كراستها فوق ركبتيها وهى تحل أحد المسائل الحسابية فقالت لها أم فارس:
- يابنتى ما تقعدى على الترابيزة حد يذاكر كده ..هتتعبى
قالت مُهرة دون أن تنظر إليها بحب اذاكر كده يا طنطى
ألتفت فارس إلى والدته وقال:
- سيبيها يا ماما ما انتِ عارفاها دماغها ناشفة
نظرت له والدته وقالت:
- على فكرة .. أنا منستش أنك كنت سرحان وبالك مشغول ..خدتنى فى دوكه فى موضوع مُهرة ده .. قولى مالك
تناول فارس كوب الشاى الخاص به وأخذ منه رشفة صغيرة وقال فارس متعجباً :
- تخيلى يا ماما واحد جالنا المكتب فقضية طلاق ..ومش هتصدقى كان عاوز ايه
قالت والدته بفضول واهتمام وهى تضيق عينيها:
- كان عاوز ايه يابنى
قص عليها تفاصيل ماحدث بينه وبينه الرجل والحوار الذى دار بينهما وما سمعه من الدكتور حمدى عقب خروج الرجل من عنده فقالت وهى تهز رأسها بحزن :
- ومالك يابنى مستغرب كده ليه ده بقى عادى خلاص ..سيرة الناس بقت لبانه فى بؤ كل واحد شوية من غير خشى ولا ضمير.. بالكدب بقى بالباطل مش هتفرق .. ده حتى لو العيوب دى فيه فعلا تبقى غيبة
رفعت مُهرة رأسها من بين كتبها وقالت:
- يعنى لو واحدة صاحبتى قالت عليا لواحدة صاحبتى تانية أن انا أوزعة .. يبقى كده حرام صح يا فارس
نظرا إليها كل من فارس ووالدتها متعجبين وقالت أم فارس :
- أيه ده .. أنتِ واخدة بالك من الكلام وانا اللى فاكراكى غلبانة
ضحك فارس ووجه كلامه لمُهرة قائلا:
صح يا مُهرة وهحكيلك بقى حكاية علشان تفضلى فاكرة الموضوع ده فى دماغك على طول بما أنك بتحبى الحكايات
جلست مُهرة فى انتباه وهى تستمع إليه فقال:
- بصى يا ستى كان مرة الرسول عليه الصلاة والسلام ماشى وكان فى ناس ماشيين وراه بيتكلموا على واحد مش موجود كلام مش كويس .. الرسول عليه الصلاة والسلام شاف حمار ميت مرمى فى الطريق ...عمل أيه بقى الرسول علشان يعلمهم براحة
شاور على الحمار الميت ده وقالهم ياكلوا منه... وبعد ما الناس استغربت وقالوا ازاى هناكل حمار ميت .. الرسول قالهم لو كنتم أكلتم لحم الحمار الميت ده أهون من أنكم تتكلموا على أخيكم وتتكلموا عليه كلام هو ميحبش حد يقولوا عليه
يعنى يا مُهرة لو لقيتى حد بيتكلم على حد بحاجات هو ميحبهاش فى نفسه أتخيلى كده أنهم قاعدين ياكلوا لحم حمار ميت
وضعت مُهرة يدها على فمها متقرفة ثم قالت :
- طب لو انا عملت كده أعمل ايه طيب
ضحكت أم فارس من طريقتها وابتسم فارس وقال:
- استغفرى كتير ليكى وللى اتكلمتى عليها
***
صلى فارس الجمعة ووقف يبحث بعينيه عن بلال وأخيرا وجده فأقبل عليه مسرعاً وصافحه بحرارة فقال بلال:
- هو انا يابنى مش هشوفك غير فى المصايب ولا أيه
ضحك فارس لداعبته وقال مدافعاً:
- لا و**** مفيش مصيبة المرة دى .. دى خدمة بس
ضحك بلال وقال:
- أنا برضة بقول عليك بتاع مصلحتك..ها خير
- شوف يا سيدى الحكاية باختصار ..أخت خطيبة عمرو صاحبى وقعت من على السلم ورجلها اتكسرت والدكتور قال لازم علاج طبيعى بعد ما تفك الجبس واهى فكته من يومين ومن ساعتها واحنا دايخين على دكتورة ست ..مش لاقين .. وبما أنك بقى دكتور علاج طبيعى يبقى مفيش قدامنا غير سيادتك
حاول بلال أن يتكلم رافضاً ولكن فارس قاطعه بسرعة :
- أولا انا عارف أنك بتتعامل مع الرجالة بس ..لكن و**** غصب عننا ومفيش حل تانى يا أما ست يا أما دكتور نضمن خلقه وأمانته
ثانيا انا عارف أنك شهم ومش هترضى نوديها عند أى دكتور منضمنوش ده غير انها رافضة تروح لدكتور لأنها منتقبة ومش عاوزه راجل يلمسها يرضيك بقى يحصلها مشكلة فى رجلها
أطرق بلال برأسه قليلا ليفكر فى الأمر, لقد كان شبه مستحيل بالنسبة له أن يتعامل مع النساء وخصوصا فى هذا المجال الذى يتطلب بعض اللمسات المباشرة , فرفع رأسه وقال متسائلا:
- قلتلى انها رافضة تروح لدكتور راجل ؟
قال فارس مؤكداً:
- أه و**** يا بلال .. ده حتى لما رجلها اتكسرت وراحت المستشفى .. بدل ما تعيط من الألم كانت بتعيط ان الدكتور شاف وشها وهو بيفوقها
قال بلال بعفوية :
- هى منتقبة من زمان ؟
نظر له فارس بدهشة وقال:
- افتكرتك هتسألنى على حالتها الصحية
أنتبه بلال لسؤاله وقال مستدركاً:
- طب ماهى هترفض تجيلى برضة .. مش بتقول رافضة تروح لدكتور راجل
أبتسم وهو يقول:
- لو أنت وافقت هقول لباباها وهو هيتصرف .. مفيش حل تانى ..الدكتور بعد ما فك الجبس قال لو معملتيش علاج طبيعى هيحصل تيبس للعضلات وضمور ومش هتعرف تتحرك تانى
قطب بلال جبينه وهو يعقد ذراعيه أمام صدره ثم ابتسم قائلا:
- هاتهالى المركز بكره .. بس يكون والدها معاها
***
الفصل الثالث عشر
كانت عزة تجلس بجوار أختها عبير ظهراً وهى تساعدها فى ارتداء اسدال الصلاة فسمعت صوت رنين الهاتف فقالت عبير:
- روحى شوفى مين يا عزة خلاص هلف الطرحة واصلى
تركتها عزة وأتجهت للهاتف بعد أن ربتت على كتفها وأجابت على المتصل:
- السلام عليكم
أبتسم عمرو بتلقائية وهو يقول:
- وعليكم السلام ..هى النمرة غلط ولا ايه
قالت عزة باستغراب:
- لا يا عمرو النمرة مش غلط
أتسعت ابتسامته أكثر وأخفض صوته وهو يضع أصابعه على سماعة الهاتف قائلا :
- لما رديتى عليا وسمعت صوتك افتكرت انى اتصلت بمحل العصافير
أنتبهت عزة أنه يداعبها فلم تستطع أن تمنع نفسها من الأبتسام ولكنها قالت بنرة جدية:
- خير يا عمرو فى حاجة
زفر عمرو بقوة شعرت بها عزة على الطرف الآخر وقال:
- أه فى طبعا أومال بتصل علشان اقولك وحشتينى مثلا .. لا يا ماما ده بُعدك
أحمرت وجنتها وقالت بنبرة اكثر جدية:
- لو سمحت يا عمرو قول عاوز أيه وإلا هنادى ماما تكلمك هى بقى
قال على الفور :
- لالالا على ايه يا ستى ..بصى احنا الحمد *** لقينا دكتورعلاج طبيعى كويس أوى ومحترم جدا ومتدين وعلى فكرة هو مش بيتعامل مع ستات .. بس لما فارس قاله ان عبير مش عاوزه تروح لدكتور والكلام ده .. وافق طبعا بس عاوز والدك يروح معاها
قالت عزة بتلقائية وبدون تفكير:
- معرفتك ولا معرفة فارس ؟
تغير صوت عمرو وقال بضيق:
- هتفرق معاكى مش كده ..؟؟
شعرت بالأرتباك وندمت على كلمتها ولكنها قالت بتماسك :
- لا مش قصدى .. قصدى يعنى.. أصلك بتقول متدين و.. محتــ
قاطعها بغضب وغيرة واضحة:
- وأنا معرفش حد متدين ومحترم .. لكن فارس يعرف مش كده.. مش ده قصدك ؟
حاولت أن تتكلم ولكنه قاطعها مرة أخرى قائلا:
- عموما هكلم والدك لما ارجع من الشغل واديله التفاصيل والعنوان..سلام
أنهى عمرو المكالمة بعصبية ومسح رأسه بعنف , حاول أن يعود إلى عمله , ولكن أفكاره جميعها تشتت وغلب عليها عدم التركيز فترك القلم مرة أخرى ووضع رأسه بين يديه وأغمض عينيه واستسلم لشيطانه الذى أخذ يوسوس له ويؤكد له الفكرة التى زرعتها هى بكلمتها تلك ..
تناول القلم مرة أخرى ودون عنوان الدكتور بلال عليه ثم استأذن وانصرف مغادرًا إلى منزل عزة , صعد الدرج سريعاً , طرق الباب وانتظر بعيدا حتى فتحت والدتها الباب وقالت بترحاب لا يخلو من الدهشة:
- اهلا يا بشمهندس ..أتفضل يابنى
أخرج عمرو الورقة من جيبه ومد يده بها إليها وهو يقول:
- معلش يا طنط وقت تانى ان شاء **** .. ده عنوان دكتور علاج طبيعى كويس صاحب فارس مش صاحبى .. فارس كلمه على حالة عبير وهو مرحب بيها فى أى وقت بس لازم يكون والدها معاها.. والأشعة كلها
مدت يدها لتأخذها وهى تقول:
- يابنى تعالى مينفعش على السلم كده
قال وهو يتجه للسلم مسرعاً:
- معلش اصلى مستعجل شوية ..سلام عليكم
عادت والدة عزة للداخل وهى تنظر أمامها متعجبة وتقول:
- سبحان **** ...!!
خرج زوجها من غرفة نومه بعد أن أنهى صلاته وقال وهو ينظر إليها:
- مين يا ام عبير
قالت زوجته وهى تنظر لعزة الجالسة أمام التلفاز شاردة :
- ده عمرو يا حاج
أنتبهت عزة والتفتت إليها وقال والدها متعجباً:
- ومدخلش ليه ؟
نظرت والدتها إليها مرة أخرى باستفهام وقالت:
- مش عارفة يا حاج .. شكله كده مضايق من حاجة
ناولته الورقة وهى تقول:
- كان جايب عنوان دكتور علاج طبيعى لعبير وبيقولى انه صاحب فارس مش صاحبه هو
أخترقت الكلمة أذن عزة وشعرت أن الدماء ستنفجر من رأسها وقالت بداخلها وهى واجمة:
- طالما زعل وعمل كده يبقى أكيد أفتكر أن فى حاجة ..**** استر
هتفت عبير مستنكرة:
- أنا مش هروح يا بابا
نظر لها والدها بحدة لم تعتدها منه وقال:
- هتروحى يا عبير يعنى هتروحى ..ولا عاوزه يحصلك ضمور ومتتحركيش تانى
شعرت بالعبرات تقتحم مجال رؤيتها لتعيقها عنه وهى تقول:
- يا بابا حضرتك عارف يعنى ايه علاج طبيعى .. يعنى ممكن يقول تدليلك وكلام فاضى يرضيك يعنى يا بابا واحد يقعد يدلك رجلى
تدخلت عزة وقالت بخفوت وكأنها تخشى أن يخرج صوتها من حلقها :
- عمرو لما اتصل قال انه متدين ومحترم ومش بيتعامل مع ستات أصلا لكن لما ..
وشعرت بغصة وهى تقول على مضض:
- لما فارس قاله انك مش عاوز تروحلى لدكتور راجل وان احنا مش لاقين دكتور مضمون وافق بصعوبة
نهض والدها وقال موجهأً حديثه لعبير :
- جهزى نفسك هنروح بكره على طول
وقبل أن تتكلم قال آمراً:
- ومش عاوز كلمة زيادة
***
دخلت عبير مركز العلاج الطبيعى وهى تستند لذراعى والدها ووالدتها, جلست تنتظر دورها بجوارهما فى قلق , المكان حولهم ملىء بالرجال لا يوجد امرأة واحدة فى المركز , شعرت بألم فى معدتها وحاولت أن تذكر **** مراراً حتى تهدأ , نهض والدها وتحدث إلى الممرض ثم عاد وجلس بجوارهما مرة أخرى ومال عليهما قائلا:
- خلاص قدامنا حالة واحدة بس الحمد ***
همست عبير مستنجدة به:
- بابا انا عاوزه اروح البيت
نظر لها محذرا وقال:
- عبير ايه شغل العيال ده
وأخيرا جاء دورها فى الدخول له , ولم تكن تطأ إلى غرفته حتى اتسعت عيناها دهشة وهى تنظر إلى بلال ولحيته وسمته الظاهر , غضت بصرها سريعاً عنه وسمعت والدها يلقى السلام وسمعته يرد عليه السلام بود واحترام , ثم هب بلال واقفاً ووضع مقعد الكشف فى وضع مريح لها وابتعد حتى تجلس بأريحية وعاد ليجلس خلف مكتبه مرة أخرى
جلس والديها على المقعدين المقابلين أمام مكتبه وهو ينظر إلى الأشعه بأمعان وتأمل دقيق , ثم رفع رأسه بابتسامة عذبة وبشاشة قائلا:
- ماشاء ** نتيجة الأشعه ممتازة .. باذن كده الموضوع مش صعب خالص على فكرة ...متقلقوش يا جماعة خير إن شاء **
قالت والدتها وقد لانت تعابير وجهها قليلا:
- ان شاء ** .. تسلم يا دكتور و** انت وشك فيه القبول
أردف زوجها على الفور :
- اه و**** يا حجة معاكى حق
أبتسم بلال وهو ينظر للزوج قائلا:
- جزاكم ** خيرا و** ده من ذوقكم بس
تناول أحد الملفات الفارغة وهو يقول:
- انا هعملها ملف بحالتها فى الأول كده علشان نبقى متابعين التطورات أول بأول
لمعت عينيه بنظرة ذات مغزى وهو يدون البيانات , تظاهر بالأستغراق فى كتابة البيانات ووالدها يمليه أسمها والعنوان ورقم الهاتف , توقف فجأة عن الكتابة وسأل بشىء من الامبالاة قائلا:
- أكتب آنسه عبير ولا مدام عبير
قالت والدتها سريعاً:
-آنسه عبير يا دكتور
دون بلال البيانات فقال والدها بتردد:
- هو العلاج الطبيعى ده بيبقى ازاى ..معلش يا دكتور أصلها بصراحة قلقانة أوى ومكنتش عاوزه تيجى علشان يعنى مش عاوزه حد يشوفها
قال بلال وهو ينهض ويتجه إليها قائلا:
- متقلقش يا حاج
وتناول مقعد صغير ووضعه بجوار مقعد الكشف الذى تجلس عليه عبير وما أن جلس عليه أمامها مباشرة وما أن شعرت عبير باقترابه حتى هتفت فجأة:
- مش هكشف ..مش هكشف انا عاوزه امشى ..روحنى يا بابا
هب والدها واقفاً واقترب منها يهدأها بينما قال بلال له:
- لو سمحت يا حاج استنى شوية ..عاوز اتكلم مع الآنسه عبير
أومأ والدها برأسه موافقاً له فاستند بلال بمرفقيه على قدميه وقال لها دون أن ينظر إليها:
- آنسه عبير.. لو سمحتى أهدى علشان اعرف افهمك طبيعة العلاج
غشيت الدموع عينيها ولم ترد , وقالت بصوت متقطع:
- أنا عندى أموت ومفيش راجل يلمسنى
قال بجدية :
- يعنى عمرك ما روحتى لدكتور خالص ؟
قالت بانفعال :
- الحمد *** عمرى ما تعبت إلا ولقيت دكتورة ست .. إلا المرة دى
قال مختبراً :
- اه بس ليه تتكسفى من الدكتور ده شغله يعنى مش أى راجل كده وخلاص
قالت بصوت متقطع من أثر البكاء:
- السيدة عائشة كانت بتشد ملابسها عليها وهى داخله الحجرة اللى ادفن فيها الرسول عليه الصلاة والسلام علشان عمر بن الخطاب كان مدفون جنبه.. يعنى كانت بتستحى من واحد ميت حضرتك بقى مش عاوزنى استحى من راجل عايش لمجرد أنه دكتور
أطرق بلال برأسه ولاحت أبتسامة رضا على شفتيه ثم قال بصوته العذب مطمئناً:
- حالتك أصلا مش محتاجة كشف.. يعنى أنا مكنتش هكشف عليكى اصلا .. زى ما قلتلك حالتك واضحة من الأشعة وكويسة أوى واحب اطمنك العلاج الطبيعى مش هيطول ومش هيحتاج ان راجل يلمسك ...ممكن تهدى بقى علشان نعرف نتفاهم
هدأت عبير قليلا وتبادل والدها ووالدتها النظرات القلقة من المرحلة القادمة , نهض بلال واقفاً وأبعد مقعده قليلا وقال بحزم:
- قومى اقفى لو سمحتى
نظرت إلى والدها الذى كان يقف بجوارها ومدت يدها له ليساعدها ولكن بلال أوقفها قائلا:
- لالالا محدش هيساعدك.. أنتِ هتقفى لوحدك
حاولت عبير النهوض وأخيرا نهضت بصعوبة وهى تتألم فقال بابتسامة :
- ماشاء **** مكنتش متوقع تجيبيها لوحدك فى الأول كده
ثم أشار إلى أحد الأجهزة بعيدا وقال:
- شايفة الجهاز ده.. روحى اقعدى على الكرسى اللى جانبه
كانت تمشى بصعوبة بالغة وهى تكتم آلامها بداخلها وأخيرا وصلت إليه وجلست بصعوبة وحدها , أقترب منها وضغط أحد أزرار الجهاز وهو يقول:
- ده جهاز ممتاز أوى لحالتك ..يالا أرفعى رجلك وحطيها هنا تحت النور ده بالظبط ..
فعلت كما أمرها ثم قالت بتوتر:
- على فكرة لو هتقولى تدليك مش هعمله
أبتسم وهو يتجه لمكتبه وقال:
- تدليك ايه بس.. ده موضة قديمة فى العلاج
جلس خلف مكتبه وهو يكتب فى ملفها ميعاد أول الجلسات فقال والدها:
- هو العلاج ده هياخد كام جلسة يا دكتور
بلال :
- السؤال ده لسه شوية عليه يا حاج.. أحنا لسه بنقول يا هادى
*****
وضعت عزة سماعة الهاتف فى يأس ونظرات الحزن تطل من عينيها وتفصح عن نفسها , جلست والدتها بجوارها وهى تقول :
- مش عاوز يكلمك ليه؟؟
ألتفتت عزة لها متعجبةً وقالت:
- هو مين ده يا ماما
- خطيبك
- مين اللى قالك كده يا ماما ده انا لسه كنت ...كنت بكلمه أهو
أمسكتها والدتها بكتفها ونظرت لعينيها بقوة قائلة:
- ماهو لو مقولتيش هروح أقول لبوكى وهو بقى يقررك بمعرفته
قالت والدتها هذه الكلمة وهمت بأن تنصرف ولكن عزة أمسكتها من يدها وانحنت تقبل كفها قائلة برجاء:
- لا يا ماما **** يخليكى بلاش تدخلى بابا فى الحكاية
أعتدلت أمها فى جلستها وهى تقول:
- قولى يا عزة ايه اللى حصل بينكوا .. اللى جه يدينى العنوان ده مش عمرو اللى احنا نعرفه ده كأنه واحد تانى وانا متأكدة أنك عملتى مصيبة
أطرقت عزة برأسها و روت لها بخفوت ما حدث وما قالت فى المكالمة الهاتفية التى كانت بينها وبين عمرو , نظرت لها أمها بضيق وقالت بغضب:
- أنتِ يابت غبية ولا مبتفهميش
وضربت على قدمها بانفعال وهى تقول:
- و**** أعلم بقى فهم ايه دلوقتى .. ويمكن يروح يقول لأمه على كلامك .. وأمه تيجى تتكلم هنا وتبقى مشكلة
قالت عزة متبرمة:
- هتقول أيه يعنى .. وبعدين هو اللى فهم غلط
قالت أمها بعصبية:
- لاء مفهمش غلط يا عاقلة يا كاملة .. أى عيل صغير يفهم أنك بتبصى لفارس نظرة غير اللى بتبصيها لخطيبك .. ويارب يكون فهم كده وبس والشيطان ميكونش لعب بعقله وفهمه حاجة تانية
هبت واقفة وأمسكتها من يدها بقوة وهى تقول آمره:
- أتفضلى روحى ألبسى علشان نعملهم زيارة ونشوف ميتهم أيه يلا بسرعة.. واسمعى متجبيش سيرة عن حاجة قدام امه .. أتعاملى عادى كأن مفيش حاجة
***
رحبت والدة عمرو بعزة ووالدتها وعانقتهما بحرارة مما جعل والدة عزة تطمئن أن عمرو لم يتكلم معها فى شىء , نهضت والدته وهى تقول بترحاب شديد:
- ثوانى هعمل الشاى وأشوف عمرو صاحى ولا نايم لسه
تبادلت عزة النظرات مع والدتها التى همست لها:
- كده يبقى مقالش حاجة لامه .. اصل أنا عارفاها اللى فى قلبها على لسانها مبتعرفش تخبى
خرج عمرو من غرفته فوقع نظره على عزة ووالدتها تجلس بجوارها, حاول رسم ابتسامة على شفتيه وهو يقول:
- اهلا وسهلا أزى حضرتك يا طنط
ثم قال وكانه يجبر نفسه على الحديث معها قائلا:
- ازيك يا عزة
أبتسمت والدتها وهى تقول له :
- أزيك أنت يا حبيبى أخبار شغلك ايه
جلس دون أن ينظر إليهما وهو يقول:
- الحمد *** تمام
لكزتها أمها فى يدها لتتكلم معه ونظرت لها بحدة فقالت عزة على الفور بصوت ضعيف:
- أزيك يا عمرو
هب واقفاً وهو يقول بجفاء:
- الحمد *** .. طب عن اذنكم بقى علشان عندى مشوار مهم
أوقفته والدتها وهى تقول واقفةً:
- استنى يا عمرو عزة عاوزه تقولك كلمتين
نظرت إلى عزة بضيق وهى تقول :
- قولى لخطيبك اللى انتِ عايزاه على ما أدخل أعمل فنجان القهوة بتاعى مع خالتك يا عزة
تبعتها بنظرها حتى دخلت المطبخ خلف والدته وقالت بأسف :
- عمرو انا آسفه .. أنت و**** فهمت غلط
أشاح بوجهه بعيداً ولم يرد , كانت مشاعره متضاربة كالأمواج المتلاطمة , يريد أن يسامحها ويبتسم لها ويمزح معها كما اعتاد ويزيل نظرات الحزن من عينيها ولكنه لم يستطع , طال صمته فقالت بحزن:
- و**** ما كان قصدى انا كده متسرعة فى كلامى ومبفكرش فيه الاول قبل ما اقوله
ألتفت إليها حانقاً ونطق بما يعتمل بصدره منذ سنوات وقال:
- أنتِ فعلا مفكرتيش فيه .. أنتِ قلتى اللى فى قلبك يا عزة ..أنتِ عمرك ما هتشوفينى راجل محترم وطبعا بما انى مش محترم فاستحاله اعرف حد محترم .. عارفة ليه علشان عنيكى مش شايفة غير واحد بس ..
قاطعته بلوعة:
- أرجوك اسكت .. متقولش كده انت غلطان و**** غلطان
- ماشى أنا غلطان .. بس انا هسألك سؤال واحد .. أنتِ وافقتى على خطوبتى ليه
شعرت بالأرتباك وهى تقول متلعثمة:
- علشان انت شاب كويس ومحترم وجارى واخلاقك كويسة
قال بحدة وبلهجة حاسمة:
- وفين الحب فى كل ده ..أنتِ عمرك ما حبتينى ولا هتحبينى
نظر إلى عينيها بحدة وأشار إلى خاتم الخطبة فى أصبعها وهو يقول:
- الطوق اللى خانقك ده تقدرى تقلعيه فى أى وقت براحتك .. ومتقلقيش محدش هيعرف حاجة .. أحنا كده خلاص
قفزت دمعة من عينيها رغماً عنها وهى تقول بصوت متقطع :
- مش هقلعها يا عمرو
واستدارت وغادرت المكان كله , نظر إلى الفراغ الذى كان يحتله جسدها منذ قليل وهو غير مصدق الكلمات التى خرجت من فمه , والدموع التى انسابت من عينيها بسببه, كل شىء كان له سبب فى عقله , كلامها ورجائها وغضبه منها إلا شىء واحد .. عبراتها !.. دخل غرفته وأغلق الباب بقوة وهوى إلى فراشه غضبان أسفا , يلعن القلب الذى مازال يحبها رغم علمه أنها تحب غيره , ضرب الفراش بقبضته ومد يده يخلع الطوق الذى يحيط بأصبعه والذى شعر أنه يطوق عنقه ويخنقه هو أيضا ويمنع عنه الهواء.
****
خرجت والدة دنيا من غرفتها ليلا وهى فى طريقها إلى الحمام مروراً بغرفة ابنتها سمعت صوت يشبه الهمس آتى من الداخل , نظرت للباب بانتباه ودهشة واقتربت ببطء ووضعت أذنها عليه لتستمع لما يدور بالداخل , خفق قلبها وهى تستمع لابنتها تقول بتوتر :
- لا يا أستاذ باسم مينفعش كده حضرتك كده زودتها أوى ..أنا قلتلك كتير قبل كده انى محبش الكلام ده.. وبعدين انا كل ما احاول افاتحه فى الموضوع بتراجع ..أنا متأكدة أن فارس مش هيوافق وهيعملى مشاكل كتير.. إذا كنت متجرأتش أقوله على حكاية الموبايل دى لحد دلوقتى
وقفت والدتها تفكر ماذا تفعل :
- هل تدخل تسألها ماذا يحدث أم تتركها للصباح , ترددت قليلا ولكنها لم تستطع أن تمنع نفسها حينما سمعتها تقول:
- لا يا أستاذ باسم انا عمرى ما ارضى ابقى زوجة تانية أبدا.. وكمان عرفى .. ليه يعنى أعمل فى نفسى كده ليه
فتحت أمها الباب فجأة فوقع الهاتف من يدها وهى تنظر إليها بخوف, أقتربت منها أمها وقالت بسخط:
- مين باسم ده يا دنيا
أرتبكت دنيا وتلعثمت وهى تقول :
- فى ايه يا ماما مالك كده
أقتربت أمها منها أكثر وتناولت الهاتف قائلة بغضب:
- أنا مش هالوم عليكى.. أنا اللى معرفتش اربيكى من الأول
أخذت الهاتف معها وخرجت من غرفة دنيا , دخلت غرفتها واطمئنت أن زوجها نائماً نظرت للهاتف بحيرة ممزوجة بالغضب ثم وضعته فى خزانة ملابسها الخاصة وأحكمت غلقه بالمفتاح الخاص به وجلست على طرف الفراش بجوار زوجها الذى قد سكن جسده بجوارها
جلست دنيا منكمشة فى فراشها تفكر فى رد فعل والدتها وماذا ستفعل بها , لم تمضى الساعة حتى دخلت عليها والدتها مرة أخرى ولكنها كانت فى حالة انهيار شديد ودموعها تملأ وجهها وهى تصرخ بها :
- أبوكى مات يا دنيا..أبوكى مات
***
وقف فارس أمام باب شقة دنيا يأخذ عزاء والدها بجوار خالها وأولاده , أما ودنيا ووالدتها تجلس مع النساء فى الداخل , أنتهى العزاء وغادر المعزيين وجلس فارس أمامه لا يدرى ما يقول , الموقف فى منتهى الصعوبة لا يحتمل أى كلمات , يرى دنيا تدفن رأسها بين أيديها وتذرف العبرات من عينيها ووالدتها تجلس فى حزن وكأنها قد زاد عمرها أضعافاً وأنحنى ظهرها وكأنه يستعد لحمل المسؤلية من بعد والدها وعينيها شاردة وملامحها واجمة تستمع إلى كلمات المواساة من أخيها وعمة دنيا وأبنائهم ولا يظهر عليها أى رد فعل تجاهها , رفعت رأسها ببطء ونظرت إلى فارس نظرة طويلة أندهش لها فارس قليلا ولكنه تعجب أكثر حينما نهضت بوهن وقالت وهى تشير له:
- من فضلك عاوزاك لحظة يا فارس يابنى
أبتعدت قليلا عن الجالسين معهم وتبعها هو فى صمت ثم الفتت إليه بجسدها كله ونظرت إليه بشرود وهى تقول:
- أنا يابنى عاوزه منك خدمة وعارفة انك مش هترفضلى طلب
ثم أردفت فى حزن:
- انا عارفة أن الكلام ده مش وقته ولا مكانه ومش عاوزاك تستغرب
نظر إليها باهتمام فتابعت برجاء:
- أنا عاوزاك تكتب كتابك على دنيا فى أقرب وقت
***
نظرت له والدته بدهشة وهتفت :
- أزاى أمها تطلب طلب زى ده يابنى وجوزها لسه مدفون
قال فارس بحيرة كبيرة:
- مش عارف يا ماما .. بتقول أنها خايفة على دنيا وخصوصا ان قرايبهم طول عمرهم بعيد عنهم يعنى لو حصلها حاجة دنيا هتبقى لوحدها
نظرت له والدته بتمعن وقالت بشك:
- مش عارفة يابنى مش مطمنة للموضوع ده ...طب كانت تستنى للأربعين حتى
أبتسم فارس وهو يقول :
أربعين ايه بس يا ماما ..مفيش حاجة فى الدين اسمها اربعين وخميس وسنوية كل ده بدع
أتسعت عيناها وهى تقول:
- ازاى يابنى لا فى طبعا ...طب حتى اسأل صاحبك بلال
أبتسم فارس مرة أخرى وهو يربط على يد أمه بحنان ويقول:
- أنتِ تعرفى يا ماما الناس جابت حكاية الأربعين دى منين...؟؟
- منين يابنى ؟
- زمان الفراعنة كانوا بيقعدوا يحنطوا الميتين بتوعهم أربعين يوم وفى اليوم الأربعين بيقفلوا عليه وبيفتكروا أن روحه رجعتلوا تانى ودخلت جسمه وهو قام بقى ولبس الدهب بتاعه وكل الاكل اللى سابينه جانبه.. وبعدين بقى روحه تلف على حبايبه وأهله فلازم يشوف عزا وحداد وإلا هيغضب عليهم ويتحول لروح شريرة
قال فارس كلمته الأخيرة وضحك بشدة وهو يقول:
- كويس ان مُهرة مش موجودة
وتابع ضحكاته الخافتة وهو يردف :
والحكاية بقى دخلت بعد كده فى خرافات والناس نقلوها لبعض جيل ورا جيل لحد ما بقت حاجة عادية .. لكن فى الشرع عندنا الميت بيقوم فى القبر يتحاسب على عمله فى الدنيا مش بيقوم يلبس دهب وياكل ويشرب وروحه تخرج تتفسح شوية
مطت والدته شفتاها وقالت باستغراب:
- و** يابنى ما كنت أعرف بس كويس أنك نبهتنى.. وعموما يعنى دور كلام أمها فى دماغك كويس واستخير **
نهض فارس بارهاق وهو يقول:
- حاضر يا ماما ..انا كده ولا كده مستنى رد دنيا لأنها لسه متعرفش .. أمها قالتلى أنها لسه مفتحتهاش فى الموضوع
***
الفصل الرابع عشر
دخلت دنيا غرفة والدتها ودلفت إليها فى حذر وهى تنظر لوالدتها التى كانت تجلس على طرف فراشها وهى ممسكة ببعض الصور التى كانت تجمعها بزوجها وشريك عمرها فى بداية زواجها وقد لمعت العبرات فى عينيها ولكنها تظاهرت بالتماسك أمام ابنتها وهى تقول بجدية:
- أقفلى الباب وراكى مش عاوزه حد يسمع فضايحنا
خفق قلب دنيا وهى تغلق الباب وتقف خلفه وهى تنظر لوالدتها بخوف وارتياب فقالت أمها بصرامة :
- اسمعى ..أنتِ عارفه أنى مبحبش أكرر الكلام مرتين ...ومش عاوزه أسمع نفسك ..عمتك بره ومش عاوزاها تسمع
وقفت دنيا متربصة فى صمت وبعينين زائغتين تنتظر حديث أمها التى يظهر من بدايته أنه غير مبشر على الأطلاق ..فتابعت والدتها بحسم :
- أنا اتكلمت مع فارس واتفقنا على كتب الكتاب قريب أوى وهو وافق بس مستنى رأيك
أتسعت عينيى دنيا دهشة وهتفت باستنكار:
- بتقولى أيه يا ماما
هبت أمها من مجلسها وتقدمت منها وجذبتها من يدها بعنف وأبعدتها عن الباب, اتجهت بها إلى الفراش وأدارتها مواجهة لها بقسوة وهى تقول بغضب:
- أسمعى يا بت انتِ.. أقسم برب العزة لو قلتى لاء ولا فتحتى بؤك بكلمة.. لكون بعتاكى مع عمتك على البلد وهتقعدى هناك ومش هترجعى هنا تانى وهناك بقى يا عين أمك يبقوا يجوزوكى بمعرفتهم
بكت دنيا بين يدى أمها وهى تتضرع لها قائلة:
- ليه كده يا ماما هو انا عملت ايه علشان كل ده
دفعتها أمها على الفراش وقالت بحزم:
- أنا مش هسيبك لما عيارك يفلت وتعتمدى على أنك ابوكى خلاص مبقاش موجود وسطينا
دفنت دنيا وجهها فى الفراش وهى تبكى بحرقة وتقول بصوت مختنق:
- يا ماما و**** ما عملت حاجة.. الراجل ده كان بيعرض عليا الجواز وانا رفضت والموضوع أنتهى
تابعت والدتها بغضب:
- أنتِ يا بت مش كنتِ بتقولى أنك بتحبى خطيبك ..مش عاوزه تجوزيه ليه .. فهمينى
مسحت دنيا دموعها بكفيها وهى تقول بصوت متقطع:
- مش عاوزه أعيش فى الحاره مع أمه
- خلاص بسيطة.. نكتب الكتاب لحد ما نلاقى شقة إيجار كويسة تعيشوا فيها واهو مرتبة زاد كتير بعد ما اترقى فى المكتب
قالت دنيا بحنق وهى تجفف دمعها:
- إيجار يا ماما ..أنتِ عمرك ما وافقتى على الأقتراح ده قبل كده
نظرت والدتها أمامها وقالت بوجوم:
- كنت غلطانة ..كل حاجة كانت غلط ..لكن دلوقتى خلاص مينفعش اغلط تانى ...أبوكى سابك أمانة فى رقبتى وانا مش هخزله أبدا وافرط فيكى واسيبك تضيعى وتضيعينا معاكى
ثم ألتفتت إليها وقالت محذرة:
- والدته هتيجى تعزينا وهو هيسألك عن رأيك وطبعا انتِ موافقة ..مش كده ولا ايه
قالت دنيا باستسلام :
- حاضر يا ماما هوافق
نهضت أمها واقفة وهى تلقى نظرة على صور أبيها وتقول بشرود:
- أبوكى كان بيقول على فارس راجل وقد المسؤلية ..**** بس يقدر يستحمل بلاويكى
وأعملى حسابك انتِ مش هتخرجى من البيت قبل كتب الكتاب فاهمة ولا لاء
أطرقت دنيا برأسها أرضاً فى تفكير وهى تقول بشرود باحثة عن مخرج:
- فاهمة
***
أنهى بلال **** المغرب وتوجه إلى المركز العلاجى سريعاً وما أن دخل وألقى السلام حتى قال الممرض الذى كان ينتظره خارجا:
- والدة حضرتك مستنياك جوه
عقد بلال ما بين حاجبيه مندهشاً وهو يدلف إلى حجرة الكشف ورأى والدته وهى تجلس على المقعد بجوار مكتبه الخاص تنتظره , أقبل عليها وانحنى بابتسامة يقبل يدها وهو يرحب بها , جلس على المقعد المقابل لها وهو يقول:
- خير يا أمى أيه اللى نزلك وانتِ لسه تعبانة
أبتسمت بمكر وهى تقول:
- جاية اشوف عبير.. مش هى برضة جاية النهاردة
ضحك بلال ضحكة رنانة وقال:
- ينهار أبيض يا أمى.. طب أنا غلطان أنى حكتلك
ضحكت ثم قالت:
- هو انت يعنى كنت عاوز تقول.. ده انا اللى سحبت الكلام منك سحب
مال إلى الأمام وهو يقول بأهتمام:
- أمى **** يكرمك الناس زمانها جاية.. وأنا مش عاوز أحرجهم
ضربته أمه على قدمه وهى تقول:
- أنا هسلم وامشى بس ..كأنى كنت قاعدة معاك عادى
أبتسم وهو يضيق عينيه ناظراً إليها وهو يقول:
- طب وأيه لازمتها لما هتمشى على طول
رجعت للخلف وهى تستند إلى مقعدها قائلة:
- نفسى اشوف مين دى اللى لفتت نظرك يا بلال ..ده انت اتعرضت عليك بنات كتير مفيش واحدة فيهم لفتت نظرك.. وبعدين عاوزه اشوف أهلها.. أنا برضة ليا نظره
طرق الممرض الباب ودخل ووضع الملف أمام بلال على مكتبه قائلا:
- أدخل الحالة يا دكتور ولا استنى شوية؟
قالت والدته على الفور :
- دخلهم يابنى انا ماشية على طول
نهض بلال وجلس خلف مكتبه بينما دخل والد عبير وهو يبتسم له ويمد يده للمصافحة , صافحه بلال بحرارة مرحباً بهم , نظرت أم بلال إلى والد عبير تتفحص هيئته وطريقة حديثه ثم نظرت سريعا إلى الباب وهى تتابع دخول عبير متكأة على يد والدتها بنظرات متأملة متعمقة وتبادلت النظرات معهما ثم قالت لوالدتها :
- ألف سلامة **** يقومهالك بالسلامة ****
قالت أم عبير بابتسامة متسائلة:
- **** يسلمك
قالت والدته وهى تعرف نفسها :
- انا أم الدكتور بلال
صافحتها أم عبير بابتسامة واسعة وحياها والدها مرحباً بيما قالت أم بلال وهى تنظر إليهم :
- الشرف لينا .. أنا مش هعطلكوا على الجلسة .. أنا أصلى نسيت الأدوات بتاعة الحجامة بتاعتى عند بلال وقلت انزل اخدها وطالعة على طول.. أصل أحنا شقتنا فوق المركز على طول
قالت أم عبير بانتباه :
- هو حضرتك بتعرفى تعملى حجامة .. ده انا وعبير بنتى كنا دايخين على حد بيعرف يعملها
نظرت عبير لوالدتها بدهشة فهى لم تسمعها يوما تسأل عن هذا الأمر مسبقاً ولكنها آثرت السكوت .. وسمعت أم بلال تقول :
- تنورونى فى أى وقت .. أيه رأيك تطلعولى بعد الجلسة لحد ما الحاج يروح يصلى العشا ويرجع نكون خلصنا
نظرت عبير ووالدها إلى والدتها وهى تقول بموافقة وحماس :
- خلاص أتفقنا هنطلعلك بعد الجلسة على طول واهو لحد ما الحاج يروح يصلى العشاء مع الدكتور بلال
أبتسمت أم بلال وهى تنظر لأم عبير التى بادلتها النظرات وكأن كل منهما يتبادلان النظرات المٌشفرة التى لا يعلم معناها إلا هن فقط!
خرجت أم بلال تودعهم وأغلقت الباب خلفها بابتسامة كبيرة وهى تشعر انها قد حققت هدفاً فى مرمى حياة ولدها المستقبلية , جلست عبير على الكرسى التى جلست عليه فى المرة السابقة وهى مازالت تنظر لأمها متعجبة , نهض بلال وأخذ نفس المقعد الصغير ووضعه قريب منها كما فعل فى المرة السابقة وهو يقول بجدية مفاجأةً:
- أنتِ مبتسمعيش الكلام ليه ؟؟
نظرت له نظرة خاطفة وقالت بقلق :
- يعنى ايه؟
تابع بنفس الجدية:
- انا مش قلت عاوزك تعتمدى على نفسك فى الحركه ومحدش يساعدك .. ليه شايفك داخلة دلوقتى متسندة على والدتك؟
قالت عبير بخفوت وهى تنظر للأرض:
- ده دلوقتى بس لكن فى البيت لاء
أومأ برأسه ونهض من مكانه , أحضر كرسياً آخر له مسند غير الذى تجلس عليه وقال بحزم:
- تعالى اقعدى هنا علشان نبدأ
شعرت عبير بصعوبة وهى تنهض بمفردها ولكن ليس هذا ما تشعر به فقط, وليس هذا هو سبب توترها, لا تعلم لماذا ترتجف عندما يتحدث إليها بشكل مباشر, هل لأنها غير معتادة على أن رجل غريب يتحدث إليها بشكل مباشر أم لشىء آخر لا تعلمه !
أتجهت إلى حيث أمرها فابتعد عن مقعدها وتركها تجلس وأتى بمقعده ووضعه أمامها ..جلس عليه وهو يقول :
- كل حركة هعملها لازم تعملى زيها بالظبط
أومأت برأسها موافقة ورأته يرفع ساقه ويمدها أمامه ببطء شديد ويعيدها إلى مكانها ببطء مرة أخرى , فشعرت أنها لن تستطيع فعل ذلك, التمرين يبدو سهلا ولكنه بالنسبة لمن يعانى من كسر جديد فى قدمه فهو صعب للغاية
قال متابعاً:
- يالا هتفردى رجلك ببطء على عشر تسبيحات وترجعيها مكانها تانى ببطء برضة على عشر تكبيرات ..أتفقنا ؟
نظرت له بدهشة وقالت:
- ازاى يعنى
قال بابتسامة عذبة :
- يعنى ياستى بدل ما نقول نرفع رجلينا ببطء على عشر عدات أو عشر دقات ..لاء أحنا هنعمل التمرينات على ذكر **** وكده التمرينات يبقى فيها بركة وفى نفس الوقت أخدنا ثوابها
أبتسمت عبير من خلف نقابها وتبادلا أمها وأبيها النظرات وألتفتا مرة أخرى إلى الدكتور بلال وهو يقول:
- شوفى زى كده بالظبط
وبدء فى رفع ساقه ببطء قائلاً:
- سبحان ** ...سبحان ...سبحان ** ....
ثم أعادها إلى حيث كانت مرة أخرى ببطء أيضا وهو يقول:
- ** أكبر... أكبر .... ** أكبر....
جاهدت عبير لفعل ما أمرها به ولكنها كانت خجلة وهى تسبح وتكبر بصوت هامس وخجول
كان بلال يتابعها فى صمت وهو يستمع إلى صوت تسبيحها الهامس وتكبيرها الخفيض شعر بصوتها يسرى بداخله ويتغلل بين جنباته يسبح بين طيات قلبه بانسيابية ويسر, أفاق من شروده على صوتها الخجول وهى تقول بأجهاد:
- خلصت يا دكتور أكرره تانى ولا خلاص
رفع رأسه لها منتبهاً ثم قال وهو ينهض مبتعداً :
- لاء هنكرره تانى ...
جلس خلف مكتبه وتركها تكرر التمرين وحدها وأخرج بعض الصور الملونة المطبوعة بحرفية وقدمها لوالدتها ووالدها قائلا:
- دى صور لبعض التمارين المهمة ..لازم تعملها بمساعدة حد فى الأول
نظر إلى والدتها قائلا:
- حضرتك ممكن تساعديها بسهولة فى البيت .. والورق ده فيه كل الخطوات وهو سهل ان شاء ****.
أنتهت الجلسة على وقت أذان العشاء , ذهب بلال ووالد عبير إلى الصلاة بينما صعدت عبير وأمها إلى أم بلال التى كانت تنتظرهما فى شقتها وقبل أن يطرقوا الباب قالت عبير هامسة لوالدتها:
- هو فى ايه يا ماما من أمتى وانتِ بتحبى الحجامة
طرقت أمها الباب وهى تضغط على يدها قائلة:
- حبتها.. مالكيش دعوة
وضعت أم بلال أكواب العصير مرحبة بالزائرتين وبدأت فى وضع الكاسات الهوائية فى أماكن معينة فى جسد عبير وهى تتفحص وجهها وجسدها بنظرات خبيرة قائلة:
- ماشاء **** يا عبير انتِ زى القمر
أبتسمت عبير فى خجل ولم ترد فقالت أمها و قد لمعت عينيها بسعادة :
- عبير طول عمرها مهتمة بنفسها بس البتاع اللى حاطاه على وشها ده هو اللى مخلى محدش بيشوفها ولا يعرف شكلها ايه
قالت أم بلال وهى تضغط الكاسات الهوائية على قدم عبير:
- اللى يستحق يشوفها ويشوف جمالها هو اللى **** كاتبله يبقى جوزها مش الناس اللى ماشية فى الشارع يا ست أم عبير
ثم رفعت رأسها لعبير قائلة:
- يالا بقى علشان أعملك حجامة على ضهرك كمان بالمرة كده
أحمر وجهها وهى تقول بحياء:
- لا معلش يا طنط مش هينفع اقلع البلوزه
نظرت لها أمها بحدة وقالت آمره :
- دى ست زيك يا عبير هتكسفى من الستات برضه
هزت عبير رأسها وقالت معاندة:
- معلش بجد مش هينفع مقدرش و****
كادت أمها أن تعترض ولكن أم بلال منعتها قائلة بحسم:
- خلاص يا بنتى مفيش مشكلة .. لما نعرف بعض كويس مش هتتكسفى مني
أزالت الكاسات عن قدمها ومسحت بعض الدماء وهى تسمع أم عبير تقول متسائلة:
- هو اللى بيعمل الحجامة دى لازم يكون متخصص ؟
قالت أم بلال باهتمام:
- بلال هو اللى علمهالى بما أنه دكتور .. ساعتها قالى أن فى دورات بتتاخد فيها واللى بيدى الدورات دى دكاترة واللى بياخد الدورات دى بيبقى معاه شهادة معتمدة أنه عنده علم بيها لأن فى أماكن فى الجسم خطر أى حد كده يقرب منها لازم يكون دارس.
بعد أنتهاء **** العشاء عدلت عبير هندامها ووضعت غطاء وجهها وأنتظرت حتى أنتهت الصلاة وانصرفت بصحبة أمها مودعة أم بلال التى ودعتهم بابتسامة متفائلة على وعد باللقاء
***
أحتضنت دنيا أم فارس وهى تقبلها هى ووالدتها و تعزيهما فى فقد الزوج والوالد والركن الشديد ومظلة الحماية لعائلتهم الصغيرة , وبعد وقت قصير باغتتهم والدة دنيا بقولها :
- ها يا فارس حددت معاد مناسب ولا لسه
نظر إليها فارس منتبهاً لكلماتها وتبادل نظرات صغيرة مع والدته ثم نظر إلى دنيا وقال:
- رأيك ايه يا دنيا وأيه المعاد اللى يناسبك
قالت دنيا متلعثمة وهى تتجنب النظر إلى عينين والدتها المصوبة إليها بحدة:
- المعاد اللى ماما تحدده
حاول فارس أن يخفى ابتسامته فهى غير مناسبة للموقف وقال :
- أول ما اخلص امتحانات الماجستير على طول .. كويس ؟
ونظرت والدة دنيا إلى والدة فارس تسألها:
- أيه رأيك يا حجة؟
قالت أم فارس مرحبة ومندهشة فى نفس الوقت :
- كويس أوى
ظهرت علامات الأرتياح على وجه والدة دنيا ونظرت لفارس وقالت بصدق:
- كتب الكتاب هيبقى على الضيق كده.. فى البيت يعنى.. متفتكرش انى طالبة منك فوق طاقتك .. وأنا عن نفسى مش عاوزه غير أنى اطمن على بنتى أنى لو مت وسبتها تبقى مع راجل يقدر يحميها ويتحمل مسؤليتها والحاج **** يرحمه كان دايما بيقول عليك قد المسؤلية
لمعت عينى فارس تأثراً وأطرق برأسه حزناً على فقد هذا الرجل الذى كان يتمنى أن يمتد به العمر أكثر ليثبت له أنه عند حسن ظنه به بينما قالت والدته:
- **** يرحمه
أخبرته والدة دنيا برغبتها فى بقاء دنيا معها هذه الفتره وبعدم رغبتها فى عودتها للمكتب وطمئنها فارس بموافقته وأن الدكتور حمدى ليس لديه أى مانع وأنه يقدر ظروف دنيا بعد وفاة والدها.
***
جلس بلال إلى والدته بعد عودته ليلاً وعلى وجهه سعادة كبيرة لما يسمعه منها عن عبير ووالدتها وقال بلهفة:
- بجد يا أمى يعنى انتِ فعلا حسيتى انها مرتحالى .. طيب افاتحهم فى الموضوع أمتى
ضحكت والدته وهى تقول:
- ومالك مستعجل أوى كده ده انت يدوب شفتها كام مرة
ثم ضحكت مرة أخرى وهى تستدرك:
- قال شفتها قال
ضحك بلال لدعابة والدته وقال:
- أنتِ بتقولى فيها يا أمى ..أنا فعلاً شوفتها بقلبى وعقلى.. متقدريش تتصورى يا أمى هى حيية وخجولة وبتحافظ على نفسها قد أيه.. ودى أول حاجة شدتنى ليها حتى من غير ما اقابلها اصلاً
ربتت على ساقه وهى تقول مطمئنةً:
- متقلقش سيب الموضوع على **** ثم عليا.. لو تحب أروح اخطبهالك النهاردة قبل بكره
فرك كفيه قلقاً وهو يقول:
- أنا بس عاوز أتكلم معاها علشان أعرف شوية حاجات تهمنى كده وده ان شاء **** يحصل فى الرؤية الشرعية
- بس يابنى هنروح نتقدم كده مش نستنى لما تخف الأول طيب
أبتسم بلال ابتسامة ذات معنى وهو يتمتم:
- ماهى لما تبقى مراتى هعرف اعالجها بضمير
***
وقفت عزه ليلا فى نافذتها تتطلع إلى بداية الطريق عن كثب وتتأمل المنعطف الذى يجتازه عمرو يوميا فى نفس الميعاد عائداً من عمله , ظلت تنظر لساعة يدها بين كل دقيقة وأخرى فى قلق وهى تتمتم بقلق:
- أتأخر أوى النهاردة
سمعت صوت أنثوى من خلفها يقول:
- سبحان **** له فى خلقه شئون
ألفتت عزة إلى عبير وعاودة النظر من النافذة مرة أخرى إلى تلك البقعة الفارغة والتى تنتظر عمرو ليمر بها وكانهما على موعد وقالت:
- بطلى التلميحات دى يا عبير
ضحكت عبير وهى تقول:
- صحيح و**** الممنوع مرغوب..الراجل كان بيتمنالك الرضا ترضى وكنتِ حتى مبتفتكريش شغله الصبح ولا بالليل ..أول ما يديكى الوش الخشب تبقى هتموتى عليه وعارفة مواعيد رجوعه بالظبط
قالت عزة بتوتر دون أن تنظر إليها:
- أنا مش هموت على حد على فكرة.. أنا واقفة عادى
قالت عبير وهى تومأ برأسها ساخرة:
- صح وانا مصدقاكى
ثم قالت مردفةً:
- على فكره بقى اللى بيحصل ده فى مصلحتك و****
لمعت عينيى عزة بالدموع وهى تقول بهمس:
- من مصلحتى انه يخاصمنى ومش عاوز يرد على تليفوناتى ويتهرب مني ..من مصلحتى أنه قلع الدبلة وقالى اقلعيها خلاص
هزت عبير رأسها نفياً وهى تقول:
- لاء من مصلحتك انك تعرفى قيمة الراجل اللى هتجوزيه .. أياً كان مين الراجل ده.. من مصحلتك أنك تشيلى من قلبك أى رواسب قديمة كانت هتسبب فى مشاكل بينكوا بعدين وانا شايفة بقى اللى حصل ده هو اللى هيشيل الرواسب دى
قالت عزة بصوت مختنق بالدموع :
- والدبلة اللى قلعها
قالت عبير بثقة:
- ولا تسوى حاجة.. أنتِ عارفة أنه بيحبك والدبلة اللى اتقلعت تتلبس تانى .. المهم قلبك انتِ يكون صفى ومستعد لاستبقال البشمهندس اللى هيجننك ده
وكأن عبير قد استدعته بكلامها عنه , تعلقت عينيى عزة بمنحنى الطريق ورأته وهو يدلف منه واضعاً يديه فى جيبيى بنطاله ويسير ببطء . يركل كل حصى تقابله وكأنه يتعارك معها ويتوعدها ألا تصادفه مرة أخرى وتتنحى أمام قدميه المتحفزتين , يظهر الحزن على قسماته وتعابير وجهه وكأنه فقد شخصاً , أو شيئاً , أو قلباً !
فى كل مرة كانت تقف هكذا تتمنى أن يرفع رأسه ليراها واقفة تنتظره ولكنه لم يكن يفعل أبداً , ولكن هذه المرة وبتلقائية شديدة رفع رأسه وكأنه يتوقع أن يرى نافذتها مغلقة فى هذا التوقيت , رآها تطل عليه بعينين زائغتين معتذرتين دامعتين , تلاقت نظراتهما مع خفقان قلبها وشعوره بالحنين لفقدانها , دار حواراً سريعاً بين عينيهما كان عنوانه الأول والأخير ... أعتـذر منـك ..أشتـاقكِ ..عُـد إلـي
***
الفصل الخامس عشر
دوت الزغاريد فى نفس المنزل للمرة الثانية على التوالى ولكن هذه المرة كانت العروس مختلفة , كانت عبير ,عبير ذات العبير المعتق فى صدفته ينتظر نصفه الآخر المقدر له استنشاقه وملىء رئتيه بنسيم العذراء القابعة أسفل أمواج خجلها .
أحمر وجهها وهى تجذب والدتها من ملابسها لتجلسها مرة أخرى ووالدها يكمم فمها هاتفاً بها:
- أسكتى بقى الناس تقول علينا ايه
جلست أم عبير وهى تلهث من فرحتها قائلة:
- يقولوا عندنا فرح هيقولوا ايه يعنى
نهرها قائلا:
- مش لما العروسة توافق الأول يا ام مخ مهوى انتِ
نظرت إلى أبنتها وهى تقول :
- عبير موافقة طبعاً هى دى عايزة كلام
قالت عزة بحماس وهى تنظر إلى أختها :
- صح يا ماما
صوب الجميع نظره إليها فى انتظار كلمتها وبعد فترة من الصمت قالت بارتباك :
- لما أقعد معاه الأول وبعدين استخير.. ده جواز يعنى لازم يكون منهجنا واحد وإلا هيبقى فيه مشاكل كتير بينا بعد كده.. الحكاية مش حكاية لحية وخلاص
تم تحديد ميعاد للقاء عبير وبلال للرؤية الشرعية بعد يومين وتم تجهيز المنزل لإستقبال بلال ووالدته , لن نستطيع أن نتهم عبير بالسعادة لأنها لم تكن تجرؤ على هذا الأحساس , بل كانت تئده كلما حاول الظهور على السطح , كل ما كانت تشعر به هو التوجس والإنتظار لا تعلم لماذا اختارها هى بالذات للتقدم لطلب الزواج بها , فهى ليست مميزة عن غيرها , نعم هى ملتزمة ولكنه بالتأكيد صادف قبلها كثير من الفتيات الملتزمات وبالتأكيد شاهدهن خلال الرؤية الشرعية وكانت منهم الجميلات والأصغر سناً منها ولكنه لم يتزوج بواحدة منهن , فماذا يميزها عن غيرها ليختارها هى , كانت خائفة بل ووجلة , ليس من تلك الهواجس فقط , ولكن خافت أن يكون على غير المنهج الصحيح الذى اختارته لنفسها ووافق السنة الصحيحة
دخلت عليها والدتها لتجدها على حالها تلك الذى تركتها عليه منذ قليل جالسة على فراشها ترتدى كامل ملابسها التى تخرج بها إلى الطريق لم يختلف شىء غير أنها قد أزاحت غطاء وجهها عنها ليستطيع رؤية وجهها بوضوح وهي تردد بعض الأذكار لتخفف من توترها وارتباكها وخفقان قلبها , وقالت تستعجلها:
- يالا يا عبير الضيوف وصلوا ..
تبعتها عزة التى دلفت خلف والدتها مباشرة وهى تهتف بها :
- يالا يا ستى مامته بتسأل عليكى
وقفت عبير وهى تشعر بالألم فى ساقها الذى لم يتعافى بعد, ورغم أنها رؤية شرعية ولابد أن تكشف عن وجهها ليراها إلا أنها شعرت وهى تخرج أمامه هكذا بوجهها المكشوف كأنها عارية أمامه, فزاد حيائها وخجلها وحمرة وجنتيها وإطراق رأسها أرضاً أكثر وأكثر, هبت والدته واقفة عندما ظهرت عليهم وأقبلت عليها فى ترحاب تقبلها وتعانقها وتساعدها فى الجلوس على أقرب مقعد جواره , هذا الحياء الذى علق قلبه بها فى الأمس هو نفسه من علق عينيه بها اليوم وهو ينظر إليها بشغف ويتأمل أحمرار وجنتيها الصافية وعينيها الخجولة الناظرة إلى أى شىء وكل شىء إلا هو, خوفاً من اللقاء ! , ظل يتأملها قليلا فى صمت وعلى ثغره ابتسامة ناعمة تحمل كل الرضا والقبول
أرادت والدته أن تقطع هذا الصمت أو بالأحرى أرادت أن تعطيه طرف الحديث معها فقالت:
- رجلك عاملة أيه دلوقتى يا عبير
قالت بصوت لا يكاد يكون مسموعاً :
- الحمد *** يا طنط أحسن شويه
تحرك لسانه أخيراً وتحرر من صمته ووجد نفسه يقول:
- بتعملى التمارين ؟
أومأت برأسها إيجاباً ولم تجبه شفاهتاً , وكما فعلوا مع عزة وعمرو فى السابق فعلوا مع عبير, تركوها مع بلال فى الخارج وانتقلوا لغرفة استقبال الضيوف , وجلس والدها نفس المجلس فى المرة السابقة ليستطيع رؤية ما يحدث فى الخارج
كان لهذا أثر كبير على بلال الذى تحرر من خجله لمجرد أن أصبح وحده معها ولكنه فى داخله شكر فعل والدها أنه يحرص عليها مع ترك مساحة من الحرية لا تسمح إلا بالحديث معها فقط, فكم سقط فى عينيه آباء كُــثر أغلقوا الباب عليهما بدعوى حرية الحديث , لولا أنه كان يرفض ويأبى هذا بل ويكون سبب خروجه من البيت بلا عودة .
ظلت عبير صامتة مطرقة الرأس ولكنه لم يظل صامتاً ..قال في حنان وهو يتأملها :
- على فكرة ..الرؤية دى يعنى احنا الاتنين نشوف بعض كويس مش انا بس اللى اشوفك
جاهدت على أخراج صوتها من حلقها وكأنه يعبر الأحبال الصوتية فى مشقة وقالت :
- منا شوفتك قبل كده
لاحت ابتسامة صغيرة على جانبى شفتيه وشعر أن الأمر يتطلب جرأة أكثر فقال:
- طيب ممكن ترفعى راسك شوية مش عارف اشوفك كويس
خفق قلبها بشدة وشعرت أنها لو تركت العنان لنفسها لهبت من مقعدها لتجرى إلى غرفتها وتغلقها عليها لتختبىء من نظراته المصوبة إليها ولكنها تعلم أنه من حقه أن يراها جيداً وينظر إليها , رفعت وجهها ببطء ولكنها لم تقدر على النظر إليه مباشرة , نظر إليها ملياً ثم قال :
- عبير
شىء ما بداخلها لا تعلم ماهو جعلها تخطف نظرة إليه ثم تعيد عينيها إلى حيث كانت , ربما كانت تريد ان ترى ردة فعله وهو ينظر لها, هل أعجبته أم لا ..لم تكن عبير تلك الفتاة الفاقدة الثقة فى نفسها رغم أنها فتاة عادية ليست بارعة الجمال , بل وليست مميزة فى جمالها , فتاة عادية بكل المقاييس, ولكنها أرادت أن ترى نظرة سابحة فى عالمها منصهرة فى وجودها, كانت قد رأتها فى عينيه مرة واحدة حينما كان يستمع لصوتها وهى تسبح وتكبر فى عيادته سابقاً وهى تؤدى التمرين, ولقد وجدتها وعثرت عليها للمرة الثانية واستشفت ما وراءها من قبول ورضا
أستردت نفسها حينما سمعته يقول:
- والدك كان قالى انك عاوزه تتأكدى من حاجات معينة ..أتفضلى انا تحت أمرك
حاولت عبير أن تقذف بخجلها بعيدا بل وترميه خلف ظهرها فهذا زواج لابد أن يكون فيه من المكاشفة ما فيه حتى تستقر سفينة الحياة بهم فى المستقبل على جبل التوافق والرشاد
خرج صوتها بصعوبة وهى تقول:
- كنت عاوزه أسألك على منهجك ..منهج أهل السنة والجماعة ولا حاجة تانية
أتسعت ابتسامته وأشرق قلبه بسؤالها, فهى ليست فتاة خجولة وفقط , بل أنها تعرف ماذا تريد فى زوج المستقبل وتعرف أنه ليس كل ملتحى متبعاً للمنهج الصحيح ..أجابها قائلا:
- أيوا الحمد *** .. أنا على منهج أهل السنة والجماعة
ظلت عبير تسأله وهو يجيب , كأنما يجلس أمام محقق يعرف جيدا كيف يستخرج منه الأجابات الوافية, سألته عن شيوخه ودروس العلم التى يحضرها وكيف بدأت حياته الدعوية وغيرها , وكيف يستطيع أن يوفق بين عمله كطبيب والدعوة
فقال:
- بغض النظر عن أنى ممكن أخطب خطبة أو أتكلم مع حد .. لكن بجد انا شايف أن الدعوة دى بتكون فى أى مكان وفى أى حته ومهما كان الواحد بيشتغل ممكن يدعوا الناس عن طريق شغله
قالت مستدركة:
- قصدك يعنى عن طريق أخلاقه
هز رأسه نفياً وهو يقول:
- مش بس أخلاقه .. الدكتور والمهندس والمحامي وأى موظف فى أى مكان أو صاحب محل .. ممكن يحط قدامه كتيبات وشرايط على المكتب والمريض أو العميل أو الزبون اللى يدخل عنده يديله منها ..الست ممكن تشيلها فى شنطتها وتدى منها هدايا لواحدة قاعدة جنبها فى المواصلات أو زميلتها فى الشغل أو جيرانها ...الواحد يجى يوم القيامة يلاقى جبال حسنات مش عارف جاتله منين .. ممكن واحدة تقرا الكتيب و**** يهديها وتبقى فى ميزان حسناتك وانتِ مش عارفة.. تتفاجئ بيها يوم القيامة فى ميزان حسناتك وهكذا ..علشان كده بقول مفيش حاجة اسمها مش عارف أوفق بين الدعوة إلى **** وشغلى مهما كانت طبيعة الشغل ده.
أخذت نفساً عميقاً وهى تشعر بالراحة النفسية الكبيرة وهى تنصت إليه فى اهتمام حتى انتهى من حديثه وأجاباته النموذجية , كان ينظر إليها وهو يجيبها وكلما أجاب أجابة ابتسمت ابتسامة صغيرة مما جعله يعرف نتيجة الأمتحان سريعاً , مما شجعه على أن يقول :
- ها فى حاجة تانية ولا خلاص ؟
هزت رأسها نفياً أن "لا" , فقال مردفاً بمرح :
- أنا اتعصرت على فكرة
أبتسمت ابتسامة صغيرة وهى تشعر بالقبول تجاهه ولكن قلبها خفق مرة أخرى حينما سمعته يقول:
- ممكن اسأل انا بقى ؟
أومأت برأسها موافقةً وقد كانت تتوقع أن يسألها أسئلة شبيهة بأسئلتها وقد كانت مستعدة تماماً لها ولكنها فوجأت به يقول:
- بتحبى الشعر؟
نظرت له مندهشةً وقالت باستغراب:
- شعر !!
أبتسم وهو ينظر إلى علامات الدهشة التى ملأت قسمات وجهها وأومأ برأسه مؤكداً وهو يقول:
- أيوا .. الشعر .. بتحبيه ؟
ثم قال هامساً :
- أصل انا رومانسى أوى .. وبحب كل حاجة رومانسية
أرتبكت ولم تدرى ماذا تقول, لقد غير مجرى الحوار تماماً , وعاد إليها خجلها مرة أخرى غازياً كل خلجاتها من جديد, وبعنفوانه أصر على تلوين وجهها مجدداً بلونه الوردى بعد أن كانت قد تحررت منه منذ قليل, قاومت فضولها ولكنها لم تستطع ووجدت نفسها تقول:
- وعرفت منين انك رومانسى ..هو كان فى علاقات من أى نوع قبل كده
أسند ذقنه على راحة يده وقال مبتسماً بنبرة خفيضة أربكتها:
- متقلقيش .. أنا شايل كل مشاعرى لحبيبتى وبس
لم تستطع أن تجلس أكثر من هذا , لم تعد تتحمل تلميحاته المتلاحقة والتى جعلت قلبها تتلاحق دقاته هو الآخر ويقفز بجنون بعد أن عاش طويلا يعانى شظف القسوة وتغالب الحرمان .. وجد من يأوى إليه ويستغرقه وينصهر بداخله ليصيرا مكوناً واحداً .
بدأ اللهب يشتعل فى مدفأة الحب , وبعد الأستخاره كانت النتيجة المتوقعة , بالموافقة , وتم تحديد ميعاد عقد القران , كانت عبير تحاول تأخير الميعاد حتى تكون شفيت تماماً ولكن بلال كان مصراً على العقد بعد أسبوع بحجة أن تعود عبير لممارسة العلاج الطبيعى تحت أشرافه مرة أخرى , دون موانع شرعية !
***
فوجىْ عمرو باتصال من والد عزة يخبره بميعاد عقد قران عبير ويطلب منه حضور العقد والشهادة عليه , ولم يستطيع عمرو أن يرفض , وافق على الفور, المشهد الأخير الذى رأى فيه عزة واقفة تنتظره فى نافذتها الصغيرة جعل قلبه يرق لها مرة أخرى ويشعر بقيمته لديها , قيمة الإنسان الحقيقية تتحدد بمن يعنيهم أمرنا وبمن يمثل رضاؤنا عنهم أو جفاؤنا منهم شيئاً ثمينا , غضب منها لأنه لم يستطع أن ينسى جرحها وكلمتها التى ألقتها على أذنيه فى الهاتف , ولكنه يعود ويتراجع ويلين , فإن لم يلن الجانب لحبيبته فلمن يفعل إذن ! , وهو أحبها واختارها منذ البداية وهو يشك فى مشاعرها تجاه صديقه , ولكل اختيار تبعاته التى لابد وأن نتحملها ونتعامل معها راضين بها , لأنها جزء لا يتجزأ من هذا الأختيار.
***
ضرب نادر بقبضته على مكتب إلهام بعنف وغضب وهو يصيح بها غاضباً:
- انا عاوز أعرف بقى ايه حكاية اللى اسمه عمرو ده معاكى
نهضت إلهام وهى تقول بحدة :
- وطى صوتك يا بنى آدم ..أنت عاوز تعملنا فضيحه ولا أيه .. وبعدين وانت مالك ..أنت مجرد حتة مهندس فى شركتى ملكش دعوة بتصرفاتى ولا فاكر نفسك جوزى ؟
قال وهو يشير إليها محذراً:
- أسمعى يا إلهام.. أنا مش هسمح باللى فى دماغك ده أنا فاهمك كويس
أبتسمت إلهام ساخرة وهى تقترب منه وتقف أمامه مباشرة قائلة:
- أنت هتمثل ولا ايه ..عاوز تفهمنى أنك بتغير عليا ...أنا عارفه كويس أوى انت خايف وقلقان منه ليه
ثم وضعت يدها على ذراعه وقالت :
- ومتقلقش الخير كتير ونصيبك محدش هيلمسه فى أى عملية ..خلاص ارتاح بقى ومتقعدش تتنططلى كل شوية وتعملى فيها غيران
تركها وجلس على المقعد أمام المكتب وهو يستند بمرفقه إلى حافته قائلاً:
- أنا عايز اعرف بس انتِ هتحتاجيه فأيه ؟ هو انا مش مهندس برضة وبخلصلك اللى انتِ عايزاه كله وأحسن ..عاوزه تحشريه ليه وسطنا.. ده بدل ما نقول يا حيطة دارينا
قالت إلهام بعصبية :
- أيه الألفاظ دى.. حيطة ايه دى اللى تدارينا .. أنت ناسى احنا بنشتغل مع مين ولا ايه ومالك كده محسسنى اننا بنتاجر فى المخدرات
وقفت خلفه ووضعت يدها على كتفه وقالت بحسم:
- أسمع يا نادر.. أنت متدخلش فى شغلى تانى وملكش دعوة بعمرو .. وبطل تضايقه فى شغله .. أما بقى شغلنا الخاص مش عاوزاك تقلق.. عمرو مش هيدخل فى نصيبك هيبقى ليه نصيب خاص بيه لوحده
هب واقفاً وصاح مرة اخرى:
- وليه كل ده هيعمل أيه زيادة
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت بجرأة:
- بصراحة ....عمرو ذكى أوى وليه لمحات كده فى شغله بتحسسنى انه فنان فعلا مش مجرد مهندس كده وخلاص ومن الآخر عاجبنى وعاوزه أكبره
أبتسم نادر بسخرية ممزوجة بالغضب وهو يهتف :
- آه عاوزه تكبريه على قفايا مش كده
قالت متأففة وهى تجلس خلف مكتبها:
- يووه أطلع من دماغى بقى يا نادر.. أنا جبتلك من الآخر وانت مش عاوز تفهم
أتكأ على المكتب ونظر لها بتحدى قائلا:
- دلوقتى أطلع من دماغك ..طبعا ما انتِ استغنيتى خلاص
قالت بلامبالاة:
- مش زى ما أنت فاهم على فكره
رفع حاجبيه وقال ساخراً:
- كمان مش زى ما أنا فاهم ..
ثم ضحك قائلا:
- يعنى لسه مدوخك ومطلع عينك ..أومال عاجبنى ومش عاجبنى وبعتينى علشانه وهو ولا معبرك
أستندت إلى ظهر مقعدها باستعلاء وهى تضع ساقاً فوق الأخرى وقالت باستفزاز:
- أنا مش هزعل من كلامك ده علشان مقدره حالتك كويس ..لكن متنساش مين هى إلهام ..أنا محدش يقدر يقولى لاء ..لا عمرو ولا غيره ...وأنت مجرب
****
وفى صباح يوم عقد قرآن عبير وبلال كانت أعمال تعليق المصابيح والكهرباء تجرى على قدم وساق فى شارعهم الصغير وسط مباركة ومشاركة من الجميع الذين أبهجهم خبر زواج عبير .
أبتسمت أم يحيى وهى تفتح بابها عندما وجدت فارس واقفاً أمامها فقالت مرحبةً:
- أهلا يا أستاذ فارس أتفضل
قال بسرعة وعلى محياه ابتسامة واسعة :
- لا معلش يا ام يحيى.. مستعجل أوى ..كتب كتاب بلال صاحبى والآنسه عبير النهاردة.. أنتِ مش عارفة ولا ايه
قالت أم يحيى بسعادة:
- لا عارفة طبعا ورايحة كمان شوية.. هو فى أغلى عندى من عبير .. دى هى اللى علمتنى الصلاة ونبهتنى ليها
كان واضعاً يديه خلف ظهره وهو يتحدث وقال:
- أومال مُهرة فين .. مش سامع صوتها يعنى بقالى كام يوم
- بتذاكر
- طب نديهإلى ثوانى بس مش هعطلـــ ..
لم يكمل عبارته حتى وجدها تدفع أمها من الخلف محاولةً أن تخرج رأسها بجوار خصرها بصعوبة هاتفةً باسمه , تنحت أمها جانباً لتمر بجوارها وتراجعت هى قائلة:
- ياريتنا كنا افتكرنا شلن ..
وأستأذنته قائلة:
- طب عن أذنك يا أستاذ فارس اشوف اللى على النار
نظر لها بتمعن وقال بمرح:
- أيه ده مش معقول .. زى ما تكونى طولتى خير اللهم اجعله خير خمسة سنتى
كان يتوقع عاصفة رعدية بعد إنهاء كلمته الأخيرة ولكن العكس هو الذى حدث , نظرت لنفسها ووقفت على أطراف أصابعها وهى تقول بلهفة:
- بجد يا فارس .. أنا طولت بجد
ضحك وهو يقول:
- أه طبعا طولتى وكبرتى وعلشان كده بقى جايبلك حاجة هتعجبك اوى
وأخرج الشنطة البلاستيكية من خلف ظهره وأعطاها لها قائلا:
- أتفضلى يا ستى ده بقى علشان تلبسيه فى كتب كتاب عبير النهاردة
فضت الشنطة فى سرعة شغوفة وأخرجت منها فستان و** , أعادت ال** فى الشنطة مرة ثانية وأمسكت بالفستان بفرح وهى تتامل ألوانه الهادئة المتداخلة فى انسيابيه وضعته على جسدها وقالت بتبرم :
- بس ده طويل يا فارس هيكعبلنى
هز رأسه نفيا وقال بتصميم:
- لا طبعاً ولا هيكعبلك ولا حاجة.. ده يدوب واصل لآخر رجلك
ثم أخرج ال**** قائلاً:
- وده بقى هتلبسيه فوقيه .. شايفه لونهم حلو ازاى على بعض
قالت وهى تمسك بشعرها:
- بس انا كنت عاوزه أسيب شعرى فى الفرح النهاردة
عقد ذراعيه أمام صدره وأشاح بوجهه بعيداً عنها ولم يجيبها , نظرت إليه ملياً وهتفت فجأة:
- طب خلاص متزعلش هلبسه و** ..و** خلاص
ألتفت إليها وقطب جبينه وقال محذراً:
- ولو محمود أخو عمرو ولا أى حد غيره حاول يكلمك مترديش عليه .. ومتجيش تقوليلى وسط الرجالة.. لاء... أدخلى عند البنات جوه وتخليكى جوه على طول فاهمانى
أومأت برأسها بقوة موافقة وهى تقول:
- حاضر يا فارس
تابع حديثه قائلا باهتمام:
- وال**** ده متقلعيهوش تانى ومتخرجيش من غيره .. ولما يكون يحيى عنده درس متخرجيش من أوضتك أبدا إلا وانتِ لابساه
أومأت برأسها بقوة مرة أخرى توافقة ولكنها توقفت فجاة وقالت:
- طب وانا نازله عندكم ألبسه برضة
كان الرد منطقى وطبيعى أن يقول نعم , ولكنه لا يعلم لماذا تردد , ربما لأنه يعتبر نفسه مُربيها وولى أمرها وكأنه أباها أوأخيها الأكبر سناً , ولكن فى النهاية لا يصح إلا الصحيح فقال:
- أيوا طبعاً حتى وانتِ نازله عندنا تلبسيه ..أتفقنا
- أتفقنا
***
كانت حفل عقد القران بسيطاً ولكنه ممتلىء بالبركة ولا عجب من ذلك فإن لم تكن البركة فى الحلال بعد الصبر الجميل فاين تكون , أنتهى المأذون من العقد قائلاً :
- حد يودى الدفتر للعروسة علشان تمضى
لمح والدها عزة تقف بين النساء فنادى عليها فاقبلت سريعاً وكأنها تنتظر هذا النداء لتلقى نظرة سريعة على عمرو الجالس بجوار فارس وبلال , راقب عمرو نظرتها فوجدها تبحث عنه وحده , وابتسمت عندما وجدته , أعطاها والدها الدفتر الكبير وأسرعت هى فى سعادة إلى غرفة أختها التى كانت تحيطها أمها وأم بلال وبعض النساء والجارات المحبات ووضعتها أمامها فى شغف قائلة:
- أمضى يا عروسة.. يالا ولا رجعتى فى كلامك ؟!
ابتسمت عبير وهى تنظر إلى الدفتر وعزة تشير لها على المكان المخصص لتوقيعها وابتسمت أكثر عندما وجدت توقيع بلال وكأنها تراه هو شخصياً وليس توقيعه فقط , شعرت باضطراب وبخفقان شديد فى نبضها وهى توقع بجانبه , وساد الصمت حتى أنها شعرت أن الجميع يسمع صوت نبضاتها المتلاحقة تتسارع أيهما ينبض أولاً , أخذت عزة الدفتر مرة أخرى بعد ان قبلت اختها مهنئةً لها ومباركة لزواجها وسط زغاريد النساء المتعإلية وعادت سريعاً لتلقى نظرة أخرى وهى ترد الدفتر لأبيها ولكنها لم تجده , مقعده فارغاً , بحثت بعينيها سريعاً فى الغرفة فلم تجده , أنتهت الأجراءات بمباركة الجميع وعناق فارس لـ بلال فى سعادة كبيرة.
عادت عزة أدراجها خارج الغرفة والمكان مزدحم , ظلت تبحث عنه وهى تتجنب الصدام بالرجال حتى خرجت خارج الشقة , ألقت نظرة سريعة على السلم , وقبل أن تلتفت لتعود سمعته يقول :
- بتدورى على حد ؟
شهقت وهى تضع يدها على صدرها والتفتت إليه سريعاً قائلة:
- فزعتنى
عقد ذراعيه أمام صدره وقال بجدية:
- سلامتك
أطرقت للأسفل ثم قالت متوترة:
- سامحتنى ولا لسه
- أنتِ شايفة ايه ؟
- أنت لسه مش على طبيعتك معايا
أطل عمرو برأسه داخل الشقة ثم عاد كما كان وهو يقول :
- مش وقته الكلام ده .. بعدين نبقى نتكلم تلاقيهم بيدوروا عليا
كاد ان يدخل ويتركها ولكنه استدار إليها مرة أخرى وأشار إلى وجهها قائلا:
- مش عاوزك تحطى مكياج قدام الناس تانى
وضعت يدها على وجهها بتلقائية وقالت :
- انت عارف انى مبحطش مكياج بس علشان النهاردة فرح عبير وبعدين الرجالة بعيد عن الستات
أومأ برأسه وهو يقول متهكماً:
- اه صح.. يعنى مدخلتيش عند الرجالة مرتين ومخرجتيش دلوقتى بره الشقة مش كده
قالت منفعلة مدافعةً عن نفسها:
- انا خرجت ادور عليك
لاحت ابتسامة صغيرة على جانبى ثغره ولكنه أخفاها سريعاً وقال بجدية مصطنعة :
- عموما يعنى انا ماليش حكم عليكى ... براحتك
قال كلمته ودلف للداخل كادت أن تمسك بذراعه لتوقفه ولكن يدها توقفت فى الهواء , زفرت بضيق فلم تستطيع استخراج ما بداخله وتركها فى حيرة وكادت أن تظن انه نسيها تماماً لولا أخر كلمة قالها وتعليقه على زينة وجهها
تنهدت فى حيرة ودلفت للداخل دون النظر لأحد وقفت أمام مرآة الحمام وأزالت الألوان العالقة بشفتاها ووجنتها وعينيها وأعادة وجهها إلى ما كان عليه فى صفاءه ونضارته الطبيعية
دخلت المراة التى تسببت فى حادثة وقوع عبير فوق السلم هى وابنتها , لا تبارك وأنما لتشمت ولتسخر , شعرت بالحقد وهى ترى عبير فى أبهى صورها , قبلتها ببرود وهى تبارك لها بكلمات خاوية غير صادقة ومن العجيب أن عبير كانت قد نسيتها تماماً ولم تتذكرها إلا عندما سمعتها تسخر وهى تحادث أمها قائلة :
- والعريس بقى عدى الخمسين ولا لسه
كادت أم عبير أن ترد بعصبية ولكن أم بلال قاطعتها قائلة بزهو:
- أبنى الدكتور بلال لسه مكملش ال34 سنة
وأردفت أم عبير قائلة بحدة:
- وملتزم ويعرف ****
نظرت ابنتها إليها بحقد وهى تردد ... دكتور ! , ردت عبير قائلة :
- ده الدكتور اللى عالجنى لما وقعت على السلم ورجلى اتكسرت يا طنط
لا تعلم عبير لماذا قالت ذلك, ربما أنها فعلت ذلك بداعى أنثوى محض لا يعلمه ولم يختبره غير النساء, خرجت المرأة مقهورة هى وابنتها , وبعد أن شاهدت بلال وسط الرجال, زادت قوة سخطها وقهرتها وهى تراه بلحيته المنمقة التى زادته وسامة وجاذبية وضحكته المجلجلة بينهم التى تنم عن سعادته بهذه الزيجة .
أنفض الجمع وخلا الحبيب بحبيبه ولكن هذه المرة بعيداً عن الأعين المراقبة , أعدت أم عبير عشاءً فاخراً لزوج ابنتها وتركتهما وحدهما فى غرفة الصالون وتركت الباب مفتوحاً وانضمت إلى زوجها فى غرفته , بينما كانت عزة تنظف فى المطبخ آثار حفلة زواج أختها فى سعادة وحيرة من أمر عمرو
جلس بلال على المقعد الملاصق لها أمام مائدة الطعام وهو يتأملها بحب , كان يتوقع من نفسه غير ذلك فى تلك الليلة التى كان ينتظرها بشغف , ولكنه وجد نفسه مرتبكأ أكثر منها أخذ يتفحصها فى سعادة كبيرة وفى صمت أيضاً , قطعت هى ذلك الصمت ولكن بهمس وقالت بخجل:
- مش هتتعشى ؟
أنتبه من سُباته وقال على الفور :
- اه هاكل طبعا.. ده انا واقع من الجوع
حاول أن يطعمها فى فمها ولكنها خجلت وامتنعت فقال:
- ايه ده بقى عاوزه تحرمينى الأجر ولا ايه
ألتفتت له متعجبةً وقالت:
- أجر أيه
أبتسم وهو يقول :
- متعرفيش حديث الرسول صل ** عليه وسلم : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه ** إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك (...شفتى بقى يعنى اللقمه اللى هحطها فى بؤك هاخد عليها أجر
أبتسمت بخجل وهو يمد يده و يضع قطعة صغيرة من اللحم فى فمها ولكن احمرار وجنتها طغى وبشدة وكادت أن يغشى عليها حينما وضع أطراف أصابعه التى لامست شفتيها فى فمه وهو يتذوقها متلذذاً و يتأملها قائلا:
- هى صوابعى طعمها احلو كده ليه
أشفق عليها عندما رأى تلون وجهها بعد عبارته فأراد تغير الحديث وقال بجدية :
- أسمعى بقى من هنا ورايح مفيش دلع.. لازم تخفى بسرعة ..عاوزين نخرج مع بعض ونفسى أوى أفسحك ونتمشى مع بعض كده وأدينا فى أيد بعض زى الحبيبة
رأى ابتسامتها فتابع قائلا:
- خلاص اتفقنا من بكره ان شاء **** هنبدأ تمارين مكثفة
قالت عبير بصوت خفيض:
- بس هتكسف أجيلك المركز
رفع حاجبيه متعجباً وقال:
- وتيجى ليه ..أنا اللى هجيلك وهنعمل التمارين هنا ولو احتاجتى للجهاز هبقى اخدك على هناك بنفسى
قالت بحياء وهى تضع خصلة شعرها خلف اذنها :
- هنا فى البيت ؟
مال إلى الأمام وهو يتلمس خصلتها التى نامت على كتفها وقال هامساً:
- اه هنا فى البيت هو انتِ مش مراتى ولا أيه
ثم جعل صوته أكثر عذوبة وهمساً وهو يقول:
- وبعدين كان فى تمارين مش عارفين نعملها قبل كده.. افتكر بقى دلوقتى هنعملها بسهولة
وقبل أن تجيب اعتدل فى جلسته وقال بشغف :
- أمبارح قرأت شعر حلو أوى وحسيت انه مكتوب علشانك انتِ .. قعدت احفظ فيه طول الليل علشان اقولهولك النهاردة
لم يتلقى منها أجابة إلا صمتها الخجول وعينيها الحيية فبدأ فى سرد ما حفظه من شعر يهديه لها بصوت عذب هامس :
أحبــــك ... واحة هـــــــدأت عليها كــــل أحزاني
أحبـــــك ... نسمة تروي لصمت النــاس ألحانــي
و لو أنساكِ يا عمري ..... حنايا القلب تنسـاني
و لو خٌيِّرتٌ في وطن ..... لقلتٌ هواكِ أوطانـي
إذا ما ضعت في درب ..... ففي عينيكِ عنوانــي
أخذت تنصت إليه وهى تشعر أن المكان غير المكان والزمان غير الزمان وكأن الغرفة الصغيرة تحولت لسحابة هادئة تمضى بهما فى رحلة غير مماثلة , إلى واحة هانئة ينفث الحب فيها عطره الفواح.
الفصل السادس عشر
طرق عمرو باب حجرة المكتب الخاص بإلهام ودلف إليها مبتسماً أبتسامة روتينية بعد أن ألقى التحية , أشارت له إلهام بالجلوس وهى تتأمله متفحصة وارتسمت على شفتيها الأبتسامة المعتادة التى تغزوها كلما رأته ثم قالت بنعومة:
- أيه يا بشمهندس .. يعنى محدش بيشوفك
لم يستطع أن يغالب المزاح بداخله فوجد نفسه قائلا:
- وفيها ايه لما يشوفنى يعنى
قطب جبينها وقالت بعدم فهم:
- هو مين ده !!
رفع حاجبيه وهو يقول:
- محدش
أبتسمت وهى تضيق عينيها قليلا ناظرة إليه وقالت:
- ايه ده وكمان دمك خفيف..
وخضعت بنبرة صوتها وهى تردف:
- مش كفاية ذكى ووسيم وجذاب .. كمان دمك خفيف.. لاء كده مش هاستحمل
أبتلع عمرو ريقه وهو حانقاً على نفسه وعلى دعابته, هل أصبحت الدعابة تسرى فى دمه لهذه الدرجة فلا يستطيع وضع احاديثه فى نصابها الصحيح ومع الشخص الصحيح , رآها تنهض من مجلسها وتقف خلفه وقالت :
- عمرو.. أنا عاوزه اتكلم معاك شوية بره الشغل ... أنت بيبقى وراك حاجة بالليل؟
قالت كلمتها الأخيرة هذه وهى تلامس خصلات شعره من الخلف مما جعله ينتفض واقفاً وبحث عن مخرج مناسب لا يتسبب فى أنهاء حياته العملية من الشركة ولكنها لم تنتظره طويلا واعتبرت صمته تفكير فى الأمر فاقتربت أكثر لتحثه على الموافقة وتعده بما ليس له بل وليس من حقه بدنوها منه إلى هذه الدرجة حتى شعر بانفاسها من خلف أذنيه واشتم رائحة عطرها النفاذ تزكم أنفه رغماً عنه لتوقظ بعض مشاعره الدفينة وشعر بدفء جسدها بملامسة ظهره وسمعها تقول بهمس كالفحيح:
- أيه رأيك نتعشى سوا الليلة
وفجأة فُتح الباب ودلف صلاح فى عجلة من أمره , ولكنه توقف أمام ذلك المشهد , عمرو واقفاً فى توتروإلهام تقف خلفه مقتربة منه بشدة , وقف جامداً ينظر إليهما ولكنها كانت فرصة سانحة وجدها عمرو للهروب بدون عواقب كما كان يفكر قبل دخول صلاح عليهما , تنحنح وهو يتحرك فى اتجاه صلاح ووقف بجواره قائلا:
- طب استأذن انا علشان عندى شغل كتير
بمجرد أن خرج عمرو حتى قامت عاصفة إلهام الرعدية وظلت ترعد وتؤنب صلاح على دخوله بغير أذن وبغير ميعاد , وضع صلاح الملف الذى كان يحتاج إلى توقيعها أمامها على المكتب وانصرف على الفور وتركها وسط حممها المتصاعدة وعاد لعمله .
فوجئ بوجود عمرو فى مكتبه ينتظره , ألقى عليه نظرة عتاب كبيرة وهو يجلس خلف مكتبه ويتابع عمله بصمت , وقف عمرو مدافعاًعن نفسه وقال:
- متبصليش كده .. أنا و**** ما عملت حاجة
رفع صلاح عينيه إليه قائلا:
- معملتش اه .. لكن سكت .. و اللى يسكت على الغلط يبقى مشارك فيه ومينفعش بعد كده انه يلوم اللى هيطمع فيه بعد كده نتيجة سكوته وزى ما بيقولوا السكوت علامة الرضا
قال عمرو بانفعال وهو يجلس :
- أنا مكنتش ساكت.. أنا كنت بدور على طريقة مناسبة أهرب بيها من الموقف
- الحكاية مش محتاجه تفكير يا عمرو.. أنت بتخاف على شغلك ومستقبلك أكتر ما بتخاف على أى حاجة تانية ... وأنا حذرتك كتير ونبهتك كتير بس أنت شكلك مش هتتعلم ببلاش ..اللى بيسيب الباب موارب يابنى مايزعلش لما يدخله منه شر بعد كده
خرج عمرو من مكتب صلاح يضيق بنفسه ذرعاً ولا يعلم لماذا يتهاون إلى هذا الحد , هل كما قال صلاح فعلا هو يخاف على مستقبله وعمله أكثر من خوفه من أى شىء آخر , نفض الفكرة عن رأسه مستنكراً لها ولكنه لم يستطع أن ينفض تلك المشاعر التى عاشها والتى أستقيظت بداخله منذ لحظات فى مكتب إلهام , فمازال يشتم عطرها النفاذ ومازال يشعر بلمستها , لم يستطع أن يغالب هذا الشعور الذى يجتاحه فخرج فورا من الشركة عائداً لمنزله تصارعه مشاعر شتى , وبدلاً من أن يدخل منزله وجد نفسه يتوجه إلى بيت خطيبته قاصداً أياها , سيلهى بعض من مشاعره بطلب تحديد موعد لعقد القران ولتذهب الخطبة إلى الجحيم.
****
وبعد موافقتها تم تحديد موعد عقد قران عزة وعمرو بعد أيام ليصبح فارس هو آخر من يتم عقد قرانه بينهما , وفى هذه الفترة كان عمرو يتهرب من أى لقاء يجمعه بإلهام وكان صلاح يساعده على ذلك ويتصدر هو لأى عمل يتطلب وجود عمرو معها فى مكان واحد. وجاء اليوم المنتظر وكان بسيطاً كالذى سبقه تماماً يجتمع فيه الأهل والأحبة والجيران فى منزل العروس ليتم عقد القران بينهم وبحضور الشاهدين , فارس وبلال , ويالها من مفارقة كانت فى يوم من الأيام تتمناه زوجاً وها هو اليوم يشهد على عقد قرانها ويزيل عقدها بتوقيعه المميز .
أجتمعت بعض النساء فى الداخل ينشدون لعزة الأناشيد بقيادة عبير التى كانت قد تحسنت كثيرا بفضل تمارين بلال المكثفة ! كما كان يقول ويبدو أن ضميره هذا قد انعكس على حالتها النفسية كثيراً , فلقد كانت تبدو كما لو كانت هى العروس , وكأنها فى العشرين من ربيعها وهى تغرد بأناشيدها المحببة وتضرب بالدف فى سعادة وقوة وتتنقل بين النساء كالفراشة التى تتنقل بين الزهور فى بستان المودة والرحمة التى نهلت منه منذ أن أصبحت زوجة لـ بلال وحبيبة لقلبه الفياض , وأثناء انشغالها سمعت أمها تهمس فى أذنها أن زوجها يريدها فى الخارج , ربما قد يكون الأمر عاديا لولا أن والدتها أنبئتها أنه يبدو عليه الإنزعاج وربما الغضب , أرتدت ملابسها كاملة وخرجت تبحث عنه فاشارت لها والدتها أنه ينتظرها فى المطبخ ! , دخلت بسرعة إلى مطبخها فوجدته فعلا قد بدا عليه الضيق الشديد فرفعت نقابها ونظرت إليه بقلق وقالت متسألة:
- مالك يا حبيبى
نظر إليها بضيق وقطب جبينه وقال منفعلا:
- مش عارفة فى أيه .. أنتِ فاكرة نفسك بتنشدى فى الصحرا لوحدك ..صوتك واصل بره عندنا يا هانم
أصفر وجهها وشحب واتسعت عيناها وهى تضع يديها على وجهها ثم قالت بأحراج:
- و**** ما كنت واخده بإلى ..
ثم نظرت له معتذرة وقالت :
- أنا آسفه يا حبيبى.. ب**** عليك متزعلش مني
هدأ قليلاً وهو عاقداً ذراعيه خلف ظهره وقال معاتباً:
- أبقى خدى بالك بعد كده ..
ثم مد يده ومسح وجنتها بظهر أنامله وقال بحب:
- ما انتِ عارفه انا بغير عليكى ازاى يا حبيبتى.. صوتك محبش راجل غيرى يسمعه
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت مداعبةً له:
- ده انت أرهابى بقى
أمسك وجهها بين كفيه واحتواها بعينيه ..ثم قال:
- لو ده الأرهاب فأنا أرهابى أصيل...
ثم قبل جبهتها وقال مردفاً:
- ولابس حزام ناسف كمان
أبتسمت فى سكون وهى تمسك بيديه التى تحيط بوجهها فقال :
- أخبار رجلك ايه
نظرت له بدهشة وقالت:
- كويسة الحمد *** بتسأل ليه
مط شفتيه وقال:
- انا بقول نعمل الفرح والدخلة بقى علشان نكمل التمارين فى بيتنا براحتنا.. الواحد يا شيخة مش حاسس انه بيشتغل بضمير فى العلاج
أزاحت يديه ووضعت يديها حول خصرها قائلة:
- كل ده وضميرك لسه مستريحش
أبتسم وهو يرمقها بنظراته المتفحصة:
- كل ده أيه .. ده انا حاسس انى مقصر.. يرضيكى يعنى ضميرى يعذبنى
قالت وهى تعيد ال**** على وجهها مرة أخرى :
- مقصر ..لاء خاليك مقصر **** يخليك
أفلتت من يده وعادت إلى النساء مرة أخرى , أكثر أشراقاُ وجاذبية, فهكذا هى الزهرة , كلما لاقت حباً واهتماماً وعنايةً , كلما زادت إشراقاً وتألقاً وتفتحاً وعبيراً , تفيض على من حولها بشذاها.
أنتهى حفل عقد القران واستأذن بلال والد عبير أن يخرجا سوياً وخرج معها من منزلها أصابعهما متشابكة كما كان يحلم دائماً وهى تقول :
- بلال أنا مكسوفة امشى فى شارعنا واحنا ماسكين أيد بعض كده
قال مشاكساً:
- ليه يا حبيبتى هو انتِ صاحبتى ده انتِ مراتى
***
دفعت عزة عمرو بعيدًا عنها بهدوء وقالت بارتباك :
- أيه يا عمرو ده.. مينفعش كده على فكرة
نظر إليها بضيق وقال متبرماً:
- أيه يا عزة أنا جوزك دلوقتى
تلعثمت وهى تقول بخجل:
- يا عمرو دى أول مرة نقعد فيها مع بعض بعد كتب الكتاب .. أرجوك تراعى الحكاية دى
أسند مرفقيه على مائدة الطعام أمامه وقال معتذرا :
- حاضر هراعى.. بس انتِ كمان راعى انى بحبك وانى شاب زى كل الشباب وطول عمرى بشوف بنات وشباب وعلاقتهم مفتوحة كأنها مراته .. ورغم كده عمرى ما عملت زيهم عارفه ليه ..
وقبل أن تجيب قال :
- علشان بحبك وعمرى ما حبيت أنى ارتبط بواحدة غيرك.. لا فى حلال ولا فى حرام مينفعش بقى تيجى بعد كل ده وتقوليلى مينفعش يا عمرو
كادت عزة أن تبكى وهى تشعر بضغطه عليها بكلماته واستعجاله للأمور بهذا الألحاح المتواصل ومحاولاته المستمرة , ولكنها لن ترضخ له فى أى حال من الأحوال فالعقد له حدودا يجب أن لا يتخطاها أبداً
***
سار بلال بجوار عبير بمحاذاة كورنيش النيل متعانقة أيديهما متشابكة أصابعهما, نظر لها ليرى بعض علامات الضيق والأضطراب ظاهرة بوضوح فى عينيها فقال:
- مالك يا حبيبتى ايه اللى مضايقك
- مش شايف المناظر يا بلال.. هى البنات دى مش مكسوفة وهى واقفة بالشكل ده.. طب مش خايفين من أهاليهم.
هز رأسه باسى وكأن حديثها آثار شجونه وقال:
- يعنى انتِ من مرة واحدة وقلتى كده واضايقتى من المناظر.. أومال انا أعمل ايه اللى على مدار حياتى شفت اضعاف اضعاف المناظر دى.. ده غير الأشكال اللى كنت بقابلها فى شغلى أيام ما كنت بشتغل فى مركز كبير بعد تخرجى .. وكان بيورد علينا رجالة وستات والحاجات اللى كانت بتتعرض عليا ساعتها ورغم كده الواحد كان بيستحمل وبيصبر وبيغض بصره عن الحرام
قالت عبير بحنان:
- وكنت بتقدر تستحمل كده ده ازاى
قال بشجن :
- علشان ** يا عبير .. كنت بصبر وبصوم كتير وبخرج طاقتى فى شغلى والدعوة والرياضة والحمد *** ** عصمنى
ثم نظر لها وقال بحب:
- مش كده وبس ..ده كمان كافأنى ورزقنى بزوجة صالحة زيك
ابتسمت رغم الشجن الذى لمسته من كلماته وحاولت تخفيف ما استعاده من ذكريات قد تضيق بها نفسه وقالت بمرح :
- بس أيه يا عم الكاجوال الخطير ده .. الناس يقولوا أيه.. شيخ ولابس كاجوال
نظر إلى ملابسه وقال بزهو مصطنع:
- لا وكله كوم والتيشرت الفظيع ده كوم لوحده
ضحك كلاهما وهما يسيران عكس اتجاه الطريق ليعودا أدراجهما إلى منازلهما وتركوا خلفهما شباب متسكعة وبنات متخبطة فى شهوات الدنيا وملذات الحياة, متسلقين زورقًا للحب, يتخبط بهم فى بحار عالية الأمواج , بعيدة القاع ذات اليمين وذات الشمال , فهل يُأمل لهم النجاة وقد بعُد المرسى .
***
أستطاعت دنيا أن تتكيف على عالمها الجديد, فلا تدخل ولا تخرج إلا بصحبة والدتهاالتى أشرفت بنفسها على شراء ملابسها الجديدة, فاختارت لها كل ماهو محتشم, تغيرت طريقة ملابس دنيا بالكامل مما جعل فارس يشعر أنهما على بداية الطريق الصحيح وأنها من الممكن أن تتغير فعلا وأنه أحسن الأختيار, ولكنه لم يكن يعرف أنها كانت تجاريهم فقط لتمر الأزمة على خير حتى أنهى فارس اختبارات الماجيستير وتم تحديد يوم حفل عقد القران .
حضر عقد القران عمرو وبلال وعبير وعزة ورغم المحاولات الكثيرة التى قام بها فارس لأصطحاب مُهرة معهم ولكنها بكت و رفضت بشدة , بل وتصنعت المرض لكى لا تذهب معهم.
بعد العقد مباشرة أصرت عزة على المغادرة هى وعبير عزه وعبير, فلقد كانت دنيا تتعامل معهما ببرود وبابتسامة خاوية من أى ترحيب مما جعلهن يشعرن بالوحدة فى بيتها وطلبا المغادرة بعد تهنئتها بالزواج بصحبة والدة فارس , غادر الجميع وتركت والدة دنيا لفارس المجال أن يجلس مع دنيا قليلا على انفراد بعد أن أصبحت زوجته , كانت متوترة وعيناها تفصح عن شىء ما مجهول ولكنها صامتة , عندما حاول بثها شوقه لم تتجاوب معه وتعاملت معه ببرود ثم اعتذرت وكأن الأمر خارج عن سيطرتها , حاول أن يعرف ما بها ولكنها لم تجب بشىء واضح , غادرهو الآخر بعد أن طبع قبلة رقيقة على وجنتها مودعاً أياها.
***
ومرت الشهور تلو الشهور , وسنة يعقبها سنة, تتسابق تتلاحق ,وكأنها فأر يقرض فى عمر الزمن فى سرعة وخفة لم يلتفت لها فارس وهو منهمك فى تحضير الدكتوراة التى نفذت معه طاقته ولقد كان هو أكثر من مرحب وهو يشعر بتباعد دنيا عنه يوما بعد يوم,
ورزقت عبير من بلال بأربع توائم دفعة واحدة وكأن **** سبحانه وتعالى قد صرف لها الأقدار ومنحها دفعة واحدة جوائزه وعطاياه كما لو كانت تزوجت منذ سنوات كثيرة وليس أقل من ثلاث سنوات .
وحاول عمرو إقناع والد عزة بأن يتم الزواج فى شقة والده ولكن والدها رفض نظراً لأن لديه أخ أصغرمنه وهو محمود , والذى ألتحق بالجامعة هو ويحيى صديقه , فكيف ستعيش عزة مع محمود فى منزل واحد! , باءت المحاولة بالفشل وبدأ عمرو فى البحث عن شقة إيجار فى مكان قريب منهم.
وخاضت مُهرة فى مرحلة جديدة وهى مرحلة الثانوية العامة ورحلة بحثها عن ذاتها التى لم تنقطع طوال الفترة السابقة , ولكنها ظلت البنت العنيدة التى لا تستسلم بسهولة ولا تصمت على شىء تراه خطأ من وجهة نظرها, وكانت تحاكى أفعال فارس فى كل شىء , بل وتتحدث مثله وتستمع إليه وتدون النقاط المهمة فى حديثه تحفظها عن ظهر قلب , حتى أن الجميع كان يلقبها بالفارس الصغير! , كانت أنوثتها قد لاحت فى الأفاق بقوة وطالت قامتها فجأة وأصبحت تضاهى أقرانها بجمال بري مشاكس ملفت للأنظار , ولكن فارس لم يراها يوماً إلا طفلته الصغيرة العنيدة التى يفخر بها دوماً.
****
الفصل السابع عشر
طرقت مُهرة باب شقة فارس وهى تمسك بيدها بطفلين صغيرين بالكاد أتما السنتين من عمرهما , أبتسمت أم فارس وهى تفتح لها الباب وتنظر إلى الولدين فى يدها وقالت وهى تنحنى لتأخذ واحدا منهما وتلاعبه:
- تعالى يا ام العيال ادخلى
دخلت مُهرة وهى تضحك لمداعبة أم فارس وجلست ووضعت *** منهما على قدمها وأخذت تهزه وتأرجحه و تقول:
- اه و**** يا طنط .. أنا حاسة انى انا أمهم فعلا
أعطتهم أم فارس أحد قطع الألعاب الصغيرة وهى تقول:
- من يوم ما شوفتيهم بعد ما اتولدوا وانتِ شايلاهم.. بصراحة يا مُهرة انتِ شلتى عبء كبير عن عبير
وضعت مُهرة يديها فى خصرها وهى تقول بمشاغبة:
- يا سلام مش ساعتها كنتوا بتقولوا صغيرة ومش هتعرف تخلى بالها منهم.. وعزة مش مكفيها تاخد منهم واحد ..لا كمان كانت طمعانة فى اللى حطيت عينى عليه
ضحكت أم فارس وهى تقول باستغراب:
- هما طبق كشرى بتفرقى فيهم يابنتى.. دول *****
- بس عرفت اخد بالى منهم ولا لاء؟
قالت أم فارس بإعجاب :
- عرفتى وابصملك بالعشرة
دارت مُهرة ببصرها فى المنزل وهى تقول:
- هو فارس لسه مجاش من الشغل
ضربت أم فارس بيدها على جبينها وهى تقول متذكرة:
- الأكل على النار يخرب عقلك يا مُهرة نستينى
نهضت واقفة وتابعت وهى فى طريقها للمطبخ:
- ده زمانه جاى هو ومراته ..عازمها على الغدا عندنا النهاردة
مطت شفتيها بامتعاض وهى تقول بصوت مرتفع :
- **** يكون فى عونك يا طنط أنا عارفة هتستحمليها ازاى
خرجت أم فارس من المطبخ ونظرت إلى مُهرة بعتاب وقالت:
- لاء يا مُهرة محبش اسمعك بتقولى كده لو فارس سمعك هيزعل أوى.. دى مراته برضة
لوحت مُهرة بيدها وهى تقول معترضة:
- مش مراته .. دى خطيبته بس
أبتسمت أم فارس وهى تقول :
- لاء مدام كتب كتابه عليها تبقى مراته
عادت للمطبخ ثانية تكمل ما بدأته من طعام الغذاء بينما وضعت مهُرة الطفلين على الأريكة وأخذت تلاعبهما وتضاحكهما ببعض الألعاب ثم وضعتهما على الأرض يمرحان بألعابهما ووقفت تنظر لغرفة فارس التى اعتادت الدخول إليها يوميا منذ أن كانت مجرد ****, وقفت وسط الغرفة تتأمل المكان حولها وكأنها تدخل لأول مرة وفعلت كما تفعل يوميا , جلست خلف مكتبه الصغير وفتحت أحد أدراجه وأخرجت بعض من صورها الذى التُقطت لها وهى صغيرة ومازال فارس محتفظا بها فى درج ذكرياته كما يسميه, تأملت صورها قليلا وهى تبتسم تارة لصورتها بشعرها الأشعث المتناثر وصورة أخرى بملابس العيد الجديدة وصورة جمعت بينهما وهما ينظران لبعضهما البعض ويخرج كل منهما لسانه للآخر بمشاغبة وهى تحمل دميتها المفضلة باربى هدية فارس لها, أنتزعها من ذكرياتها صوت ثلاث طرقات على باب الشقة تعرفهم جيدا وتحفظ نغمتهم , أعادت الدرج إلى وضعه سريعاً وخرجت مسرعة فوجدت والدته قد سبقتها وفتحت الباب قبلها ورأت دنيا تدلف من الباب ونظرها مصوب باتجاه مهُرة برغم من أنها تقبل أم فارس وتصافحها , دخل خلفها فارس يلقى السلام فوجد مُهرة واقفة مستندة على حافة باب غرفته المفتوحة , فابتسم لها وقال محذراً بمزاح:
- عارفة لو لعبتى فى شغلى من ورايا هعمل فيكى ايه؟
قالت باندفاع :
- لا و**** ما لعبت فى حاجة
أبتسم فارس وهو يشير لدنيا موجهاً حديثه لمُهرة قائلا:
- مش هتسلمى على دنيا؟
نظرت لها مُهرة فوجدتها تنظر لها ببرود وتبتسم لها ابتسامة صفراء فبادلتها نفس الأبتسامة ونفس النظرة وهى تضغط كلمتها قائلة:
- أهلاً
نظرت لها دنيا بحدة وقالت:
- يصح بنت كبيرة كده تدخل أوضة راجل غريب ..هى مامتك مبتعلمكيش الحاجات دى ولا ايه
نظر لها فارس بضيق ولمعت الدموع فى عينيى مُهرة بينما قالت أم فارس وهى تنظر لها بجدية:
- هى مبتدخلش الأوضة وهو موجود
ثم تابعت بضيق:
- مُهرة غالية عليا ومحبش حد يكلمها كده .. حتى لو كان فارس نفسه
عقدت دنيا ذراعيها أمام صدرها وقالت بتهكم:
- يا طنط انا اللى مرات ابنك مش هيه
جذبها فارس من ذراعها برفق وقال بحسم:
- دنيا ..هنتكلم فى الموضوع ده كام مرة.. مش خلصنا منه قبل كده ولا ايه
تحركت مُهرة بانفعال وهى تحبس دموعها وأخذت الطفلين وتوجهت بهما إلى الخارج واغلقت الباب خلفها بقوة وصعدت لشقتها, دخلت أم فارس المطبخ ودخل خلفها قبل رأسها وقال معتذرا:
- أنا آسف يا أمى بالنيابة عنها.. معلش متزعليش علشان خاطرى
نظرت له أمه بعتاب وقالت :
- فهم مراتك ان مُهرة بنتى واللى مبيحبهاش على الأقل يراعى انى بحبها وانها غالية عليا
أحاط كتفيها وقال بحنو:
- ما انتِ عارفه يا ماما ان مُهرة غالية عندى انا كمان ونفسى و**** دنيا تحبها بس مش عارف هى واخدة موقف عدائى منها كده ليه
لاحت ابتسامة واثقة على شفتيها وقالت:
- انا بقى عارفة
رفع حاجبيه متعجباً وقال:
- عارفة أيه يا أمى
ربطت على كتفيه قائلة:
- مش وقته دلوقتى روح يالا اقعد معاها على ما اخلص الأكل
قبل رأسها مرة أخرى وخرج من المطبخ متوجهاً إليها , لم يجدها فى الصالة الخارجية , بحث بعينيه سريعاً فوجدها بداخل غرفته , دلف خلفها فوجدها تنظر يمنةً ويسرة وكأنها تبحث عن شىء ما لا تعرفه فقال:
- فى أيه بتدورى على حاجة ؟
كانت تظن أن مُهرة ربما تكون قد تركت لفارس رسالة أو شيئاً من هذا القبيل فى غرفته ولكنها قالت له :
- أبداً مفيش هو انا يعنى اللى اوضتك متحرمة عليا ولا ايه
لفها إليه ورفع رأسها ينظر إليها وقال :
- دنيا ..أنتِ اللى محرمة نفسك عليها ..هو فى حد يقعد كاتب كتابه 3 سنين !
أزاحت يديه وقالت حانقةً:
- يوه بقى يا فارس .. أنت كل ما تشوفنى تكلمنى فى الحكاية دى .. وبعدين ماهو عندك صاحبك عمرو مش ده برضه كتب كتابه معانا تقريبا ولسه مدخلش لحد دلوقتى
حاول فارس أن يتحكم بأعصابه وكتم غضبه حتى لا تستمع والدته لما يحدث بينهم فأخفض صوته وقال بضيق:
- وأحنا مالنا ومال عمرو.. وبعدين هو لو عليه كان زمانه دخل من زمان .. لكن ده من ساعة ما كتب كتابه وزى ما يكونوا بينتقموا منه فى شغله ومبهدلينوا فى مشاريع بره القاهرة.. حتى مراته مبيشوفهاش غير مرتين تلاتة فى السنة .
و زفر بقوة ثم تابع قائلاً:
- وبعدين هو عنده مشكلة فى الشقة.. لكن احنا الشقة اللى هنتجوز فيها موجودة أهى وانتِ وافقتى لما كتبنا الكتاب وقلتى معندكيش مانع نقعد هنا
شعرت دنيا بالتوتر يسود بينهما وشعرت أن فارس غضبه يتصاعد فحاولت من تخفيف حدة النقاش قليلاً فغيرت نبرة صوتها وجعلتها أكثر نعومة وقالت:
- مش احنا كنا متفقين لما تخلص الدكتوراة علشان مفيش حاجة تعطلك عن الرسالة وتخلصها بسرعة
وقبل أن يجيب سمع والدته تناديه من الخارج , خرج إليها مسرعاً فقالت:
- الغدا خلص تعالى حط الأطباق معايا على السفرة .. وبعد كده اتكملوا بعيد عن البيت
أنا وحده عندى الضغط ومش ناقصة حرق ددمم
****
أستيقظ بلال من نومه وهو يتململ فى فراشه, نظر فى ساعته بعين مفتوحة وأخرى مغمضة , هب واقفاً فى سرعة ليلحق بصلاة العصر فى المسجد , توضأ وبدل ملابسه وسريعاً للخارج, فوجد عبير تجلس بجوار والدته ويتسامران ..نظر لها بعتاب وقال:
- كده برضوا يا عبير ..أنا مش منبه عليكى تصحينى قبل الأذان بربع ساعة
نهضت وقالت معتذره:
- اسفه و**** يا حبيبى كنت هدخل اصحيك من شوية والكلام خدنا انا وماما
نظر إلى والدته وهى تحمل **** الصغير على قدمها وتلاعبه فقال وهو ينظر حوله:
- **** .. أومال فين باقى الولاد نايمين ولا ايه
ضحكت والدته وهى تقول:
- لا مش هنا أصلاً .. واحد مع عزة واتنين مع مُهرة
نظر لهم متعجباً واتجه إلى الباب وهو يتمتم:
- واحد مع عزة واتنين مع مُهرة.. أنا مش عارف هما دول ولادى ولا علبة ألوان
ألقى السلام وخرج وأغلق الباب خلفه متوجهاً للمسجد , جلست عبير وهى تحمل الطفل عن أم بلال وهى تقول:
- و** يا ماما أنا ما كنت عارفة هعمل أيه فى العيال دى لوحدى .. لولا ان من عليا بعزة ومُهرة وانتِ كمان يا ماما بتتعبى معانا أوى ** يخاليكى لينا
ربتت ام بلال على كتفها برضا وأردفت تقول:
- انا مكنتش مستغربة من عزة لأنها كبيرة ماشاء ** وتقدر تخلى بالها من صغير .. اللى كنت مستغربة منه بجد هى مُهرة .. تعرفى يا عبير لما شفتها فى فرحك حسيت أن البنت دى هتبقى قريبة مننا أوى وحسيت انى اعرفها من زمان ولما ولدتى وجبتى الأربعة ماشاء ***.. صممت تيجى تقعد معاكى وأمها بصراحه مقالتش لاء .. وفى أسبوع واحد كانت اتعلمت تتعامل مع العيال ازاى .. والعيال كمان اتعلقت بيها أوى ..بس تعرفى يا عبير أمها كمان بتحبك أوى
ابتسمت عبير وهى تقول:
- أم يحيى دى غلبانة أوى يا ماما.. هى اللى شايلة بيتها على كتفها.. جوزها أصلا بيخرج الفجر مبيرجعش غير نص الليل ولا يعرف حاجة عن ولادوا ومكبر دماغوا ..لما كلمتها عن الصلاة لقيتها ياعينى متعرفش حاجة ومن ساعة ما اتعلمت وهى مواظبة عليها وبتحبنى أوى من ساعتها
عندما عاد بلال من المسجد وجدهما فى مكانهما كما تركهما , دخل وأغلق الباب خلفه ينظر إليهم بابتسامة وهو يردد دعاء دخول المنزل, أقبلت عبير عليه بابتسامة فقبلها على جبينها واتجه إلى أمه وقبل كفها وحمل عنها الصغير فقالت عبير :
- ثوانى هحضر الغدا ..
أوقفها نداء زوجها فالتفتت إليه متسائلة فاقترب منها قائلاً:
- صليتى العصر
قالت بسرعة وهى تستدير للتوجه للمطبخ مرة أخرى:
- لاء لسه .. هحضر الغدا واروح اصليه
جذبها من ساعدها برفق وقال:
- تعالى يا عبير عاوزك فى كلمتين
أخذها ودخل بها غرفتهما وأغلقها خلفه , أستدار لها ينظر إليها , وابتسم وهو يقترب منها ويتحسس وجنتها بأنامله فى رقة وقال :
- أنا زعلان منك أوى يا حبيبتى
قطبت جبينها وقالت بلهفة :
- ليه يا بلال أنا عملت ايه
قال وهو مازال يداعب وجنتها برفق:
- مش ملاحظة انك من ساعة ما **** رزقنا بالأولاد وانتِ بتأخرى الصلاة
خفضت نظرها فى خجل وقالت :
- معاك حق يا حبيبى بس و**** بيبقى غصب عنى .. بعمل حاجات كتيرة والولاد وشغل البيت بيخلونى بأخرها غصب عنى
قبلها على وجنتها قائلا:
- روح قلبى ..أنتِ عارفة كويس أن مينفعش نقدم أى حاجة على الصلاة.. مهما كانت الحاجة دى أيه ..عارفة لو أول ما سمعتى الأذان سيبتى كل اللى فى أيدك وروحتى اتوضيتى وصليتى .. هترجعى تلاقى الحاجة بتتعمل بسهولة ويسر أكتر من لو أخرتى الصلاة علشانها .. لو بداتى تتهاونى فى مواعيد الصلاة يا عبير هتلاقى نفسك يوم ورا يوم بتصليها قبل الوقت اللى بعدها بخمس دقايق .. و واحدة واحدة هتلاقى نفسك بتجمعى الصلوات مع بعض ..وأنا عارف أن حبيبتى هتاخد بالها بعد كده ولو الولد بيعيط حتى صلى وانتِ شايلاه مفيهاش حاجة
أبتسمت عبير وهى تمسك بيده التى سكنت على وجنتها قالت بحب:
- **** يخاليك ليا يا حبيبى ...أنا مبسوطة بيك أوى يا بلال وانت بتنبهنى وبتقولى الكلام ده وبالطريقة دى
أبتسم وهو ينظر لعينيها وقال بحب:
- لا اعملى حسابك مش كل مرة هتكلم بالطريقة دى ..المرة اللى جاية فى ضرب .. ومش أى ضرب .. ده هيبقى ضرب بضمير.. وطبعا انتِ عارفة ضميرى ..فاهمانى
ضحكت عبير وهى تحمل الطفل قائلة:
- إلا عارفة.. أنت هتقولى على ضميرك برضة ..انا هروح بقى اصلى وبعدين أحضر الغدا
لحق بها عند باب الغرفة وقال:
- لا بلاش تدخلى المطبخ
ألتفتت له بدهشة وقالت متعجبة :
- ليه
قال بمزاح وهو يمسح على شعرها:
- بغير عليكى من عيون البوتاجاز
ضحكت عبير وأحمرت وجنتيها وخرجت مسرعة , توضأت وصلت العصر وأعدت الطعام كأحسن ما يكون, ولم لا فلقد بثها حناناً فأطعمته جمالاً , جعلها ملكةً فوضعته على عرش قلبها وتوجته حاكماً وملكته صكوك غفرانها
***
أخذت عزة الهاتف وسحبت السلك خلفها ودخلت غرفتها وأغلقتها خلفها وهى تضع سامعته على أذنها وتسندها بكتفها وابتسامتها واسعة ثم قالت بصوت خفيض:
- وحشتنى
قال مداعباً:
- أيه الجرأة دى كلها.. وحشتنى مرة واحدة ..**** يرحم
أحمر وجهها وقالت بعتاب:
- كده يا عمرو .. طب انا غلطانة .. مش هقولك حاجة تانى
قال على الفور:
- لالالا بهزر معاكى يا شيخة .. أنتِ ايه ما بتصدقى علشان تمنعى عنى الدعم السنوى
أتجهت إلى فراشها وهى تحمل الهاتف وكأنها تحمل قلبها بين يديها بعناية وجلست عليه وقالت بشوق:
- بجد يا عمرو .. هتيجى أمتى وحشتنى جدا
أستلقى على فراشه ووضع يده تحت رأسه وقال بهمس:
- وانتِ كمان وحشتينى أوى .. بس غصب عنى و**** .. بس عموماً هانت كلها أسبوعين وتلاقينى عندك وساعتها بقى يا جميل هبقى عاوز عشرة يكتفونى زى الراجل ابو عضلات ده اللى بيقعد فى المولد يقول عاوز عشرة يكتفونى وبعدين يعيط ويقول وعشرين يفوكونى
لم تضحك لدعابته بل قالت بعبوس:
- أسبوعين يا عمرو.. لسه أسبوعين كمان .. وياترى بقى زى كل مرة هتيجى يومين وتمشى تانى
أراد عمرو أن يغير مجرى الحديث فهو يعلم أنها ستبكى بعد قليل كعادتها وتطالبه بترك شركته التى أتعبتها شوقاً له منذ عقد قرانه عليها فقال :
- فاكرة يا وزة يوم كتب الكتاب عملتى فيا أيه.. بقى فى عروسة تسيب جوزها زعلان وتقعد تاكل !
ابتسمت وقد تذكرت ذلك اليوم وقالت :
- كنت بهرب منك .. أنت مكنتش شايف شكلك ساعتها
ضحك ضحكات رنانة اختلج لها قلبها وقال:
- معاكى حق .. أنا كنت عامل زى القطر اللى من غير سواق
ضحك مجدداً وخفق قلبها مرة اخرى وهى تستمع لمغازلاته واشواقه التى لا تنتهى
***
وفى الليل دخل فارس فراشه واستلقى فى أرهاق شديد , أمسك جبينه بيديه يشعربألم شديد فى رأسه , نهض مرة أخرى وجلس خلف مكتبه الصغير يبحث عن حبات مسكنة للصداع تناول واحدة منها وشرع فى إغلاق درج مكتبه مرة أخرى فوقع بصره على الصور الفوتوغرافية الصغير مبعثرة داخله , أبتسم وقد علم أن مُهرة كانت تشاهدها وأغلقت الدرج سريعاً بحيث بعثرت ما به , أعادها بعناية كما كانت سابقاً وهو يحاول أن يذكر نفسه بأن يحضر ألبوماً للصور لكى يحافظ عليها من أى أهمال قد يصيبها فهى تمثل حقبة مهمة من حياته منذ أن كان صبياً فى الحادية عشر من عمره, عندما وُلدت مُهرة فى غياب والدها وحملها طوال الليل بعد أن أهملها الجميع , فقد كان الجميع منشغلاً فى والدتها التى أُصيبت بنزيف حاد بعد ولادتها وأعطتها له والدته يحملها ويرعاها ووضعت بجوار كوب به ماءاً مختلطاً بالسكر ليسقيها حتى تعود إليه , ونسيها الجميع معه , كان يسقيها تارة ويتأملها تارة ويدور بها فى الغرفة حتى يسكت بكاؤها الذى لم يطل كثيراً , وأخذ يفكر فى أسم يليق بملامحها البريئة وعينيها الواسعة الخلابة حتى بزوخ فجر يوم جديد كان قد أاتقر على أسمها الجديد والذى استقاه من اسمه وقد كانت مُهرة .
أنتزعه صوت هاتفه المحمول من عالمه الخاص وابتسم وهو ينظر لأسم المتصل وأجابه على الفور:
- حظك حلو لسه كنت هعمل الموبايل صامت وهنام
ضحك عمرو وقال مداعباً:
- و** وعرفنا الموبايلات والصامت والحركات ** يخاليك لينا يا شارع عبد العزيز
ضحك فارس لدعابته وقال :
- و**** عمرك ما هتتغير.. ده انت تستحق البهدلة اللى انت فيها
زفر عمرو بقوة وهو يقول:
- وأى بهدلة يا صاحبى .. أنا مش عارف هو انا مهندس ولا متهم وواخدينه كعب داير
- وأنا مش عارف انت متمسك بالشركة دى كده ليه طالما مطلعين عينك
- أعمل ايه بس يا فارس منا دخت على شغل كتير.. مش لاقى حتى نص المرتب اللى باخده من الشركة دى
- خلاص بقى أستحمل ومتشتكيش
- خلاص هانت.. بابا كلمنى وقالى ان فى شقة على أول شارعنا هتفضى قريب وإيجارها معقول أوى وهو ظبط مع صاحب البيت خلاص .. المهم انت عامل ايه وهتدخل أمتى ..لما تخلل ولا قبلها بشوية ؟!
نظر فارس أمامه وقال بحسم:
- خلاص يا عمرو .. أنا مش هستحمل أعذارها أكتر من كده.. كبيرها معايا شهرين.. أخلص فيها الرسالة ومش هقبل أى تأجيل تانى خلاص
تحدث قليلاً مع صديقه وعاد إلى فراشه مرة أخرى مستعداً للأستغراق فى نوم عميق, ولكن عقله كان شاردأً فى علاقته بدنيا ووضع أمامه علامات استفهام كبيرة , هل حقاً هى التى تؤجل الزفاف بدون أسباب مقنعة ؟ , ام هو الذى كان يوافقها على أسبابها تلك وكأنه يرحب بالتأجيل ! , كيف ستسكن فى شقة واحدة مع أمه وهما مشاعرهما متنافرة تجاه بعضهما البعض, لن يستطيع أن يترك أمه وحدها مهما كانت الأسباب وخصيصاً أنها خلُوقة لا تؤذى احداً بلسانها ولا بافعالها ولا تتطفل على أحد ولن تسبب لهما أى ضيق فى حياتهما الزوجية , هى فقط تريد من يرعاها ويذكرها بدوائها ويتسامر معها قليلا حتى لا تشعر بالوحدة , فهل هذا بكثيرٍ عليها فى مثل هذا العمر .
***
فى الصباح , خرجت مُهرة لتذهب لمدرستها لأختبارات نهاية العام , ولكنها توقفت فجأة أمام باب شقة فارس, كانت تود أن تراه , صعدت مرة أخرى أربع درجات من السلم للخلف , ووقفت تنتظره فهو يذهب إلى عمله صباحاً فى هذا التوقيت , وقفت أكثر من ربع ساعة حتى سمعت مقبض الباب يدور من الداخل, والباب يُفتح , فتصنعت النزول وكأنها قابلته صدفة , أبتسم لها قائلاً:
- صباح الخير يا مُهرة .. رايحة الامتحان ؟
أبتسمت فى خجل وقبل أن تجيبه وجدته قطب جبينه وهو يقول بجدية:
- أيه ده يا مُهرة .. ال**** صغير كده ليه
وضعت يدها على أطراف حجابها ونظرت إليه وقالت:
- مش صغير ولا حاجة.. ده كبير بس بلفوا بطريقة معينة زى صحباتى ما بيعملوا
حك ذقنه قليلاً ثم طرق باب شقته , فتحت والدته ونظرت لهما دهشة فأشار إلى مُهرة وقال بضيق:
- خديها يا ماما لو سمحتى جوه خاليها تظبط حجابها
وقفت مُهرة أمام المرآة تعدل من حجابها سريعاً وهى تتمتم متبرمة:
- يا طنط كل صحابتى بيلفوا طرحتهم كده
كانت والدته تنظر إليها فى صمت وشرود وهى تتحدث وتمط شفتيها وتتمتم فى ضيق وتحرك يديها فى سرعة لتثبت دبابيس ال**** جيدًا , حتى انتهت والتفتت إليها قائلة:
- ها كده كويس؟
أومأت لها والدته وقالت :
- كويس.. يالا بقى علشان متتأخريش على مدرستك أكتر من كده
ألقى فارس نظرة سريعة على حجابها واستدار ليخرج متوجهاً لعمله وهو يقول:
- هجبلك النهاردة وأنا راجع خمارات لف ...شغل الطرح ده مش عاجبنى
حملت مُهرة حقيبتها وخرجت تعدو لتلحق بموعد الأختبار وأغلقت الباب خلفها, ظلت أم فارس تنظر إلى الباب المغلق واجمةُ وبداخلها مشاعر كثيرة ودت لو كانت مخطأة فيها .
***
الفصل الثامن عشر
أستيقظت مُهرة فزعةً من نومها تصرخ باسم فارس وتناديه , جلست على فراشها تلتقط أنفاسها بصعوبة , كانت تبكى وهى نائمة على أثر حلم مفزع ولكنها فوجأت بالدموع تغرق وجهها وكأنها كانت تبكى فى الحقيقة لا فى الحلم, مسحت دموعها التى شقت طريقها فى ثبات على وجنتيها وأخذت تُتمتم بالأستعاذة لتهدىْ من روعها قليلاً وهى تدور بعينيها فى غرفتها لتتأكد أنها وحيدة فيها ولم يسمعها أحد , نهضت متثاقلة من فراشها وهى تحيط جسدها بذراعيها لتبث الأمان فى نفسها , فتحت نافذة غرفتها ليتسلل ضوء القمر إليها ويغمر وجهها مداعباً لوجنتيها , أطلت برأسها للأسفل لعلها ترى خياله فى نافذته أو شرفته التى كانت غارقة فى الظلام, أغلقت نافذتها واتجهت إلى فراشها مرة أخرى ولكنها سمعت صوته يتردد فى عقلها وهو يقول:
- لو شفتى كابوس أتفلى على الناحية الشمال ثلاث مرات واستعيذى ب**** من الشيطان الرجيم ويستحسن تقومى تتوضى وتصلى ركعتين علشان تطمنى
توجهت مباشرة إلى الحمام توضات وصلت ركعتين أدخلا الطمأنينة فى نفسها ثم عادت لفراشها وقد داعب النوم جفونها فتثاقلت واستسلمت لنوم عميق
***
جلس فارس بجوار والدته حول مائدة الغذاء وبدأ فى تناول الطعام وهو يقول:
- مُهرة رجعت من الامتحان ولا لسه يا ماما
هزت والدته رأسها نفياً وابتلعت طعامها ثم قالت:
- عندها درس بعد الامتحان على طول ..بتسأل ليه؟
ترك الملعقة من يده ونظر إلى والدته متسائلاً:
- درس أيه ده وفين
نظرت إليه والدته بتفكير ثم قالت:
- مش عارفة درس أيه بالظبط اللى اعرفه أنها عندها درس ..بطلت أكل ليه
تناول ملعقته مرة اخرى وقال بضيق:
- أنا مبحبش قصة الدروس اللى مالهاش مواعيد دى .. وبعدين ما تاخد الدرس فى بيتها
لازم تروح تتنطط عند الناس بره و**** أعلم بيوتهم عاملة ازاى وشكلها أيه.. وعندهم رجالة ولا لاء.
صمت قليلاً ثم أردف قائلاً:
- لما ترجع ابقى نادى عليها علشان عايزها.. لما نشوف أيه حكاية الدروس دى
شردت والدته قليلاً وهى تقلب طعامها فى طبقها عدة مرات حتى لاحظ هو ونظر إليها وتسائل باهتمام:
- مالك يا ماما مبتكليش ليه
وضعت أمه معلقتها وشبكت أصابعها أمامها وهى تستند بمرفقيها على المائدة ونظر إليه بعمق وقالت:
- تسمح ملكش دعوة بالحكاية دى .. مُهرة كبرت يا فارس ومينفعش تفضل تتعامل معاها كده وبعدين اخوها يحيى كبر وبقى راجل وهو اللى يقولها رايحة فين وجاية منين والكلام اللى انت عاوز تعمله ده
قالت جملتها الأخيرة وهو ينظر إليها بدهشة لا يكاد يصدق ما يسمع فقال باستغراب:
- من أمتى وانا مش مسئول عن مُهرة .. أنتِ قولتيلى الكلام ده قبل كده لما جبتلها الخمارات وانا مركزتش معاكى لكن لما يتعاد تانى يبقى فى حاجة انا معرفهاش
مدت يدها وربتت على يده وقالت بشفقة:
- أنا عارفة انك انت اللى مربيها وبتعتبر نفسك مسئول عنها.. لكن يابنى دلوقتى الوضع اختلف مُهرة كبرت خلاص
ترك ملعقته ونهض وهو يقول بانفعال شديد:
- معنى انها كبرت انى خلاص أشيل أيدى من المسئولية.. وانا عارف أن اخوها مكبر دماغه وبره البيت طول اليوم وابوها مسافر وسايبهم .
أعتدلت والدته وهى تقول :
- طب يابنى تعالى كمل أكلك مالك زعلت كده ليه
أتجه إلى غرفته وهو يقول باقتضاب :
- معلش يا ماما شبعت.. عن أذنك هدخل اريح شوية
هزت والدته رأسها فى عدم رضا وهى تقول بأسف:
- **** يهدى الحال
دخل فارس غرفته متبرماً , ألقى جسده على الفراش كما لو كان يدفع حملاً ثقيلاً عن كتفيه قد أثقله , كيف يتركها وهى , هى التى وُلدت ووُضعت بين ذراعيه مباشرة قبل أن تلامسها يدي والدتها , وقبل أن يراها أخيها وقبل أن يعلم أبيها بأنها قد جاءت إلى الحياة, هى التى كبُرت بين يديه واحتوتها غرفته لسنوات طفولتها ومشاغباتها وألعابها وسعادتها ومرحها بل وبكائها وتبرمها وضجرها , وزرع فيها القيم والأخلاق التى أُحبها وعاداته المفضلة فأصبحت تتوقع تتصرفاته قبل أن يفعلها, وعلم عنها كل شىء , بل وأكتشفها كما اكتشفته فاصبحت كتاباً مفتوحاً أمامه خالى من الألغاز, لاتوجد به علامة استفهام واحدة , ترددت كلمات أمه فى عقله مقتحمة ذكرياته مبعثرة أفكاره وهى تخبره أن أخيها أولى بها لأنها قد كُبرت.. وضع الوسادة على وجهه يريد أسكات هذه الكلمات التى غزت عقله وقال بعناد وبصوت مسموع ..لا لم تكبر !
***
نقر عمرو بخفة نقرات بسيطة باب مكتب صلاح ثم فتحه وأطل برأسه داخله وهو يقول:
- صباح الخيرات
ضحك صلاح وهو ينهض ويتجه إليه ..عانقه بحرارة وهو يقول:
- حمدلله على السلامة جيت أمتى ؟
قال عمرو بمرح:
- لسه نازل من الجتر يا بشمهنديز
أهتز صلاح ضاحكاً وهو واضع ذراعه على كتف عمرو وقال:
- لاء شكلك أخدت الجنسية من كتر قاعدتك هناك
جلس عمرو على المقعد المقابل للمكتب وقال برجاء:
- أبوس أديكوا بقى كفاية.. أنا لفيت جمهورية مصر العربية كلها هو انا عملت فيكوا ايه علشان ترحلونى كل شوية كده
أختفت أبتسامة صلاح وجلس على المقعد المقابل لعمرو وقال بجدية:
- يعنى مش عارف عملت ايه.. حد قالك تتجوز
أستند عمرو بمرفقه على حافة المكتب ولوح بيديه قائلاً:
- هو انا عارف اتجوز.. هى الشركة كل مشاريعها خارج القاهرة ليه نفسى اعرف
مال صلاح للأمام وقطب جبينه قائلاً:
- أسمع يا عمرو.. أنت عارف أنى بحبك زى ابنى بالظبط وبصراحة كده انا مش عاجبنى تصرفاتك .. أنت زى ماتكون عاجبك اللى بيحصل ومبسوط أن فى حد بيجرى وراك وعايزك
عقد عمرو يديه أمام صدره وقال معترضاً:
- هو انا يعنى عاوز أتمرمط كده ..أنا بس و**** عاوز احوش قرشين علشان اعرف اجيب العفش ..ولو سبت الشغل دلوقتى يبقى قول على جوازى يا رحمان يارحيم ..أعمل ايه مضطر استنى واشتغل واسافر واستحمل بُعدى عن أهلى ومراتى لحد ما الاقى شغل تانى على الأقل بنفس المرتب اللى باخده هنا.
أسند صلاح ظهره إلى المقعد وقال متسائلاً:
- يعنى جبت الشقة خلاص؟
قال عمرو بابتسامة واسعة :
- أه الحمد *** حاجة كده إيجار بس حلوه ومش محتاجه توضيب كتير يعنى تقريباً جاهزة
أبتسم صلاح وهو يقول متهكماً:
- يعنى عاوز ثلاث سنين كمان علشان تعرف تجيب العفش ؟!
زفر عمرو بحنق وقال بضيق:
- و**** منا عارف انا شكلى هطلب سلفة .. أنت ايه رايك
حك صلاح ذقنه وصمت قليلاً يفكر ثم قال:
- فى حل تانى غير السلفة اللى انا متأكد ان مدام إلهام مش هتوافق عليها
قال عمرو بلهفة:
- إلحقنى بيه قوام
صلاح :
- عندى واحد صاحبى عنده معرض كبير للأثاث ..هو بيبيع بالقسط .. أنا هروح معاك اعرفك المكان واكلموا وهو هيظبطك فى حكاية القسط دى ان شاء **** متشلش هم
هب عمرو واقفاً وأمسك رأس صلاح وقبلها بقوة وقال:
- **** يخليك لينا يا كبير
ضحك صلاح ثم قال بجدية:
- عاوز نصيحتى ..أمشى دلوقتى قبل ما حد يشوفك ونتقابل بعد المغرب ونروح المعرض سوا .. بكره وبعده أجازة ممكن تاخد مراتك وتروحوا تنقوا العفش .
ثم أشار له محذراً وقال:
- ولما تنوى على معاد الفرح .. أنا اللى هخدلك الأجازة بنفسى علشان محدش يقفلك فيها
عانقه عمرو فى سعادة ثم تركه فجأة وفتح الباب وفر هارباً ! .
***
كان فارس عائداً من عمله فى وقت الظهيرة وقبل أن يأخذ طريق المنعطف إذا به يصطدم بعمرو الذى كان يمشى بخطوات واسعة فى الاتجاه المعاكس وهو على عجلة من أمره, تفاجأ فارس بعودة عمرو وهتف وهو يعانقه فى سعادة :
- عمور جيت امتى حمد *** على السلامة
عانقه عمرو بقوة وربط على ظهره وهو يقول:
- واحشنى يا ابو الفوارس .. أنا لسه جاى طازة
فارس :
- ورايح على فين كده
مسح على شعره وقال بابتسامة واسعة:
- أصلى هروح عند عزة كمان شوية وقلت يعنى اجيبلها هدية بقالى كتير معملتهاش
ضحك فارس وهو يقول:
- أيه ده .. بقى عندك ددمم أخيراً مبروك يا اخى ..
عمرو :
- **** يبارك فيك عقبالك كده لما تتجوز وتريحنا منك
تذكر عمرو مقابلته مع صلاح فقال سريعاً:
- صحيح يا فارس ما تيجى معايا النهاردة ..هروح معرض بيبع عفش بالقسط أيه رأيك تيجى تتفرج .. أستاذ صلاح يعرف صاحب المعرض وهيظبطلى موضوع التقسيط وان شاء **** هيبقى القسط حنين
لمعت عينيى فارس وقال:
- أنت وقعتلى من السما يابنى.. ده انا كنت فى مشكلة بسبب الموضوع ده محتار هجيب العفش منين وبكام
ربط عمرو على ذراعه وهو يقول بغرور:
- خلاص نتقابل نروح سوا ..بس ابقى عد الجمايل بقى ها..
ثم أردف متسائلاً:
- هتناقش الرسالة أمتى ؟؟
قال عبارته الأخيرة وهو يرى فارس ينظر فى الأتجاه الآخر بتركيز , فأعاد عبارته مرة أخرى ولكنه لم يجبه أيضاً , بل وتركه وتحرك بسرعة , تابعه عمرو بعينيه فوجده يتحرك فى اتجاه مُهرة التى تسير بسرعة كبيرة وكأنها تستعد للعدو وأخيه محمود يسير خلفها يحاول أن يتكلم معها ومن الواضح أنه يضايقها, فُزعت مُهرة عندما تفاجأت بفارس مقبلاً عليها مسرعاً والشرر يتطاير من عينيه وهو ينظر لمحمود وقد احتقن وجهه , أصفر وجه محمود عندما رأى فارس فى هذا الوضع وتسمر مكانه , أمسك فارس بتلابيب محمود وقال زاجراً:
- أنت راجل انت ؟! .. ده بدل ما تحميها
أقترب عمرو فى سرعة وخلص أخيه من قبضة فارس وهو يقول:
- معلش يا فارس أمسحها فيا
ثم نظر لمحمود مؤنباً وقال:
- كده يصح يا محمود برضة
شرعت مُهرة فى التدخل ولكن فارس نظر إليها بصرامة أخافتها وصاح بها:
- أمشى اطلعى على البيت وحسابى معاكى بعدين
خافت مُهرة وهرولت إلى المنزل سريعاً , أطرق محمود رأسه أرضاً وهو يقول:
- أنا مكنش قصدى اعاكسها.. أنا كنت عاوز اقولها انى عاوز اخطبها .. وهى كانت مش عاوزه تسمعنى
أمسكه فارس من ملابسه مرة اخرى وقال بعصبية:
- تخطب مين يلا ..مش لما تبقى راجل الأول وتحافظ على بنات الناس
تدخل عمرو مرة أخرى وخلص أخيه وهو يحاول تهدأت فارس الذى أفلته وتوعده بعينين تشعان غضباً وقال بلهجة صارمة :
- أنا مرضتش أمد أيدى عليك علشان خاطر عمرو بس ..لكن لو الموقف ده اتكرر تانى محدش يلومنى على اللى هيحصلك ..على **** تقرب منها تانى ولا حتى تيجى على بالك.. أنت فاهمنى يلا ولا لاء
قال كلمته الأخيره وتركهم وانصرف فى غضب هادر , نظر عمرو إلى أخيه محمود وقال بجدية:
- من أمتى واحنا بنعاكس البنات فى الشوارع يا محمود.. عيب يا أخى ده انت حتى صاحب أخوها يحيى
قال محمود بضجر وهو يلوح بيديه:
- وهو ماله هو أبصلها ولا افكر فيها ..هو كان ولى أمرها وبعدين انا غرضى شريف وهخطبها يعنى هخطبها
دفعه عمرو من كتفه باتجاه البيت وهو يقول:
- طب امشى بقى فورت دمى
وتركه وأنصرف فى طريقه وهو يتمتم :
- أيه البلاوى دى .. أروح للموزة بتاعتى ازاى وانا دمى فاير كده
***
دلفت مُهرة باب شقتها وأغلقت الباب خلفها وهى تضع يدها على صدرها الذى كان يعلو ويهبط بسرعة وقد تلاحقت أنفاسها بشدة كأن أسداً كان يلاحقها , أقبلت عليها والدتها مسرعة وهى تنظر لها بلهفة وقالت :
- مالك يا مُهرة فى حد بيجرى وراكى؟
حاولت ألتقاط أنفاسها وقالت وهى تجلس على أقرب مقعد:
- فارس شاف محمود وهو ماشى ورايا وكان هيضربه
- محمود مين صاحب يحيى؟!.. وكان ماشى وراكى ليه ده وعايز منك ايه
- بيقولى عاوز يخطبنى
جلست أم يحيى أمامها وقالت بتفكير:
- هو قالك كده ؟!.. طب ازاى ده لسه طالب فى الجامعة
نظرت لها مُهرة وقالت متبرمة:
- طالب ولا مش طالب .. أنا أصلا مش طايقاه وهقول ليحيى ميدخلوش هنا تانى
قالت والدتها بسرعة :
- أسكتى انتِ ملكيش دعوة.. أنا هبقى اشوف الحكاية دى
نهضت مُهرة وحملت حقيبتها لتدخل غرفتها وهى تقول بحنق:
- حكاية أيه يا ماما.. ده ولد مش كويس .. وكمان شوفته مرة وهو بيشرب سجاير.. ولو كلمنى تانى هقول لامه
قالت كلمتها الأخيرة بعصبية ودخلت غرفتها , نظرت إليها والدتها وضحكت وهى تردد كلمتها الأخيرة:
- هتقولى لامه !!..هتفضلى عبيطة لحد أمتى يا بنتى
***
خرجت عزة من غرفتها سريعاً عندما استمعت لصوت عمرو فى الخارج وهو يتحدث مع والدها بصوت مرتفع ويضحك بشدة , تلك الضحكات التى تأسرها وتزلزل قلبها , أصطدمت بوالدتها التى كانت متوجهة للمطبخ , أتسعت عينيى والدتها وقالت بدهشة:
- خضتينى يا عزة .. بتجرى كده ليه؟
أرتبكت عزة وهى تقول:
- مفيش يا ماما.. تقريباً كده حد بينده عليا
نظرت لها والدتها بخبث وقالت:
- ياسلام ..يابت اتقلى شوية يقول عليكى ايه
ثم أردفت وهى تتجه للمطبخ :
- تعالى ورايا خدى الشاى علشان تقدميه .. بدل ما تخرجى زى العبيطة كده
تبعتها عزة وبدأت فى صنع الشاى فدخل والدها المطبخ وقال وهو ينظر إليها:
- بتعملى أيه عندك.. يالا اطلعى سلمي على جوزك
لم تنتظر عزة كثيراً وانطلقت فى سرعة إلى غرفة الصالون , وبمجرد أن اقتربت منها وقفت وهندمت ملابسها وشعرها ثم فتحت الباب بهدوء ودلفت للداخل وقد تعلقت عيناها بزوجها الذى نهض واقفاً وعلى شفتيه ابتسامة عذبة مرحة وهو يكاد يلتهمها بعينيه ونظراته المشتاقة, خطت فى اتجاهه ومدت يدها تصافحه فتناول كلتا يديها ورفعها لشفتيه وقبلها بشوق ثم وضعها على وجنتيه وهو يقول:
- وحشتينى جدااا يا حبيبتى
تأملت وجهه وهى تقول بحب:
- وانت كمان
فرت دمعة من عينيها بدون شعور فمد يده ومسحهما وداعب وجنتيها وهو ينظر إلى عينيها التى تحمل الشوق المختلط بالحزن وقال :
- أنا مش هسألك الدموع دى ليه ..أنا عارف انى مقصر معاكى بس و**** غصب عنى
أبتسمت بأسى وقالت :
- حمد *** على سلامتك .. وأوعى تقولى انهم كلفوك بشغل فى حتة تانيهة زى كل مرة
أبتسم وألتفت إلى الأريكة وتناول من فوقها شنطة من الورق الملون المقوى وأخرج منها علبة مستطيلة الشكل صغيرة من القطيفة الحمراء وقدمها لها قائلاً:
- حبيبتى ممكن تقبل منى الهدية البسيطة دى
أخذتها عزة بلهفة وفضتها أمامه واتسعت عينيها وهى تنظر إلى الهدية ثم تنظر إليه
وقالت بسعادة:
- **** .. برفان !
وضعت منه قليلا على يدها وقربتها من أنفها واستنشقتها بنشوى وهى تقول :
- **** دى جميلة أوى يا عمرو ..متشكرة أوى يا حبيبى
أمسك عمرو كفها واستنشقه وهو يغمض عينيه استمتاعاً برائحته ثم نظر لها وقال بشوق:
- البرفان ده ميتحطش غير ليا انا بس.. فاهمة ولا لاء
طرقت والدتها الباب ودخلت تحمل صينية الشاى , أخذها عمرو من يدها ووضعها على الطاولة أمامه فقالت:
- ايه الريحة الحلوه دى
قالت عزة بسعادة:
- شوفتى يا ماما عمرو جابلى أيه
قالت والدتها وهى تنظر إليهما :
- يعيش ويجبلك يابنتى ..
ثم نظرت لعمرو وقالت:
- عمك بيقول انك هتروح تشوف المحل اللى هتجيب منه العفش النهاردة يا عمرو
لمعت عينيى عزة سروراً وهى تنظر إليه فقال:
- النهاردة ان شاء ** هروح اشوفه ولو الأمور مشيت فى موضوع القسط ده هاخدكوا بكره ان شاء ** ونروح نتفرج وعزة تنقى اللى هى عايزاه
ثم قال موجهاً كلامه لوالدة عزة:
- انا عارف انى طولت عليكم فى موضوع الفرح .. محدش بيكتب كتابه كل ده .. بس خلاص هانت .. أحنا نخلص موضوع العفش فى أسبوع إن شاء **** وبعدين نحدد معاد للفرح
وقصد أن ينظر إلى عزة ويتأمل عينيها فى اهتمام وهو يتابع قائلاً:
- فارس قالى أنه احتمال كبير يدخل على أول الشهر بعد ما يناقش الرسالة على طول وممكن نعمل فرحنا مع بعض
لا يعلم عمرو لماذا كان يبحث عن علامة من علامات الحزن أو الأسى فى ملامحها وعينيها وهو يلقى هذا الخبر ولكنه لم يجد إلا السعادة والفرحة التى اجتاحت ملامح عزة وهى تستمع إلى بشرياته واحدة تلو الأخرى وهتفت قائلة:
- بجد يا عمرو
ثم عانقت والدتها واحتضنتها بسعادة, قطع تصرف عزة هذا وسعادتها الكبيرة بما تسمع الشك باليقين فى قلب عمرو تجاه مشاعر عزة نحو صديقه وقال بمرح :
- مش هتغدونا بقى ولا أيه يا جماعة.. أنا واقع من الجوع
***
- تعال اقعد يا فارس
نطق الدكتور حمدى بهذه العبارة وهو يشير إليه بالجلوس وقد بدا عليه الأهتمام الشديد وهو يعتدل فى جلسته ويستند إلى المكتب بمرفقيه ويشبك أصابع كفيه فى بعضهما البعض , كانت طريقته توحى بأنه يستعد لإلقاء حديثاً هاماً مما جعل فارس يشحذ حواسه كلها وهو ينظر إليه متسائلاً وهو يقول:
- خير يا دكتور.. قضية مهمة مش كده ؟
أبتسم الدكتور حمدى وهو يهز رأسه موافقاً وقال :
- أهم قضية فى حياتك
طلت النظرات المتسائلة من عينيى فارس ولكنه لم يعقب وترك المجال للدكتور حمدى ليشرح بنفسه فقال:
- فاكر يا فارس لما قلتلك انى بحضرك لحاجة مهمة أوى
هز فارس رأسه وهو يقول:
- أيوا فاكر يا دكتور
أردف الدكتور حمدى متابعاً:
- شوف يا فارس أنا عاوز تسمعنى كويس وتفهمنى ...
أستدار فارس بجسده كله تجاهه وهو ينصت باهتمام وتركيز حيث قال الدكتور حمدى:
- أنا نويت أسيب المكتب واتفرغ شوية لبيتى ومراتى وولادى .. وبينى وبينك زهقت من الفساد اللى بقى متفشى حوالينا فى المهنة دى زى السرطان .. زمان كنت صغير وكنت بناطح وبحارب.. دلوقتى صحتى خلاص مبقتش تستحمل
قاطعه فارس وهو يقول بضيق:
- لا يا دكتور أنا مش معاك فى القرار ده.. لو سيبنا الساحة للمفسدين يبقى كأننا بنساعدهم بالظبط
قاطعه الدكتور حمدى باشارة من يده وقال :
- أنت كلامك صح وده اللى انا فكرت فيه.. ده غير انى مهما كان مهنش عليا أرمى أسمى وتاريخى الطويل ورا ضهرى بسهولة كده واقفل المكتب .. ولما فكرت كويس **** هدانى لفكرة دخلت دماغى أوى وشايفها حل وسط هيريحنى وفى نفس الوقت هتبقى دى بدايتك الحقيقية
جالت بخاطرة أفكار كثيرة متشعبة ومتشابكة كأشجار الغابات , فبداية الحديث غير مبشرة بالمرة ولكن نهايته لغز كبير , قرأ حمدى الحيرة فى عينيه فقال بحسم:
- أنت يا فارس اللى هتمسك المكتب كله بدالى .. ومكتبى ده هيبقى بتاعك والقضايا اللى هتشتغلها هتتوزع على تلاتة تلت ليا وتلت ليك وتلت للمكتب مرتبات ومصاريف
أتسعت عينى فارس من وقع المفاجأة ونهض بغير أرادة منه واقفاً وهو يقول بذهول:
- مش معقول ..انا مش مصدق يا دكتور
وأشار إلى صدره وقد ازدادت قوة نظراته المتسلطة على الدكتور حمدى وهو يقول بعدم تصديق :
- انا ؟!!
أومأ الدكتور حمدى برأسه وقال مؤكداً:
- ايوا يا فارس ..وبعدين مالك مستأل بنفسك كده ليه ..ده انت اقل من شهر وتاخد الدكتوراة
المفاجأة كانت كبيرة جدا على فارس فلم يكن ليصدق ما يسمع هل سيدير المكتب ويجلس خلف مكتب الدكتور حمدى ليأخذ مكانه ويشاركه نسبة الثلث فى أتعاب كل قضية !!
هز رأسه يمنة ويسرة وهو يحاول استيعاب الموقف جيداً ولكن الدكتور حمدى أعاد كلامه مرة اخرى وهو يؤكد له ما فهمه منه وأخبره أنه سينتظره حتى يعود من أجازة زواجة ليبدء مهام عمله الجديد بداخل مكتب الدكتور حمدى شخصياً .
***
أندفعت دنيا معانقةً لـ فارس وهى تهتف بأنفعال:
- بجد يا فارس أنا مش مصدقة .. يعنى المكتب ده كله هيبقى بتاعنا
عانقها بحب وقال ضاحكاً:
- ده انتِ مفرحتيش كده يوم كتب كتابنا ولا حتى يوم الماجيستير
ضحكت وهى تبتعد عنه بنعومة وعينيها تكاد تنطق بالبهجة والسعادة وقالت وكانها لم تسمعه:
- طبعاً التلت ده هيبقى أكتر من مرتبك دلوقتى بمراحل يعنى هنجيب شقة فى حتة حلوه.. ونفرشها بمزاج ونجيب عربية
وصفقت بيديها وهى تقول:
- وبعد شوية نحط أسامينا على اليافطة جنب اسم الدكتور
كان فارس ينظر إليها بتمعن وهى تتحدث عن المستقبل بكل تلك السعادة وتسرح بخيالها الممتد للآفاق الشاسع وهى تنظر إليه ولكنها فى خضم تلك السعادة نسيته تماماً , ولم تتحدث إلا فى الماديات فقط ولم تحلم إلا بها وحدها , أنتزعها من أحلامها وهو يقول :
- أنا مش هسيب أمى لوحدها فى البيت يا دنيا.. ومش هاخد شقة فى حتة تانية إلا لما هى توافق وترحب بكده وتوافق أنها تسيب بيتها وتيجى معانا
توقفت دنيا عن الدوران فى سماء أحلامها وطوت جناحى الأمانى لتعود إلى الأرض مرة أخرى فى هبوط اضطرارى وقطبت جبينها وهى تقول بحنق:
- يعنى أيه الكلام ده ..عاوز تفضل عايش فى الحارة
أختلطت ابتسامته بقسمات حزن وهو يقول متهكماً:
- أنا مش عارف انتِ ليه مصممة أنها حارة ..ما علينا حارة ولا مدق حتى مهما اختلفت المسميات مش هسيب أمى لوحدها
وأخذ نفساً عميقاً وأخرجه ببطء وهو ينوى حسم الأمر قائلاً:
- والأمر ده لازم يتحسم دلوقتى علشان ابدأ فى تجهيز البيت ونجيب أوضة النوم بتاعتنا
نظرت إليه فى ضجر وضيق شديدين وقالت ساخرة:
- كمان مش هتغير غير أوضة النوم بس
أتجه إلى باب غرفة مكتبها ليخرج منه وهو يشعر أن فرحته قد انطفات بكلماتها وقال ببرود:
- لما اروح معرض الفرش مع عمرو هشوف هقدر اجيب أيه.. المهم دلوقتى تعملى حسابك أن الفرح هيبقى بعد مناقشة الرسالة على طول
***
لم تكن عزة لتصدق نفسها وهى تنتقل ببصرها بين أنواع الأثاث الجيدة أمامها وقد أعجبت بتصميمها العصرى الأنيق ومالت على عمرو وقالت بخفوت:
- بس العفش ده هيبقى غالى علينا .. ولا أيه يا عمرو
وضع أصبعه على فمه مشيراً لها بالسكوت وبدأ فى مفاوضاته هو وفارس مع صاحب معرض الأثاث حول الأسعار والقسط المناسب , وجد فارس مبتغاه فى هذا المعرض وقرر أن ياتى بغرفة صالون أضافية لاستقبال الضيوف وعاد لمداولاته مع صاحب المعرض وهو يتمنى أن يرى السعادة فى عينيى دنيا كما رآها فى تصرفات عزة حينما شاهدت الأثاث لأول مرة وأبدت أعجابها الشديد به .
وبدأت رحلة تجهيز البيت وأعداده ونقل الأثاث إليه وقد بذل فارس مجهوداً أضافياً ليستطيع توفير كماليات البيت ليبدوا جديداً فى عينيى زوجته وفى نفس الوقت يضع اللمسات الأخيرة فى رسالة الدكتوراة وقد اطمئن قلبه إليها وخصيصاُ عندما سمع أطراء الدكتور حمدى عليها وعلى المجهود المبذول فيها .
أنتهت جميع التريبات اللازمة فى شقة الزوجية الخاصة بعمرو وكذلك شقة فارس وأصبحت كل شقة منهما جاهزة لاستقبال عروسها الجديد .
لم تكن تفصل بينهما وبين حياتهما الجديدة إلا أيام قليلة , أيام قليلة تفصلهما عن مستقبلهما الذى لم يكن أياً منهما يتصوره ولا يخطر بباله , فالأنسان مهما فعل لا يستطيع أن يمنع الآخرين من الأساءة إليه .. إن أرادوا ! .
***
الفصل التاسع عشر
أنتشت روحه أبتهاجاً وسعادة ما بعدها سعادة ودوت دقات قلبه بين جنباته فى أصرار لترسم خطوطها على قسمات وجهه البسام وعينيه المشعتان أملاً وانتصاراً وهو يعانق الزملاء والمحبين والمهنئين له وقد اقترن أسمه بلقب الدكتور .. وأصبح يدعى الدكتور فارس سيف الدين , جائزته التى طالما أنتظرها طويلاً بعد جهد وعناء ومشقة وسنوات دراسة وبذل وسهر وتعب وأرهاق مضاعف , كم هى مذاقها طيب لذة الأنتصار وكم هو مرهق مشوار النجاح وتحقيق الأهداف , بحث بعينيه كثيراً عنها بين المهنئين فلم يجدها, كيف ذلك وقد وعدته بالحضور لتشاركه أحلامه وسعادته , تلك اللحظة شعر بالقلق حيالها ,هل ربما قد تكون أصابها مكروه , أخرج هاتفه الخلوى وهاتفها سمع صوتها فرد بلهفة:
- أنتِ كويسة؟
أنتفضت دنيا من فراشها هاتفة:
- أيه ده هى الساعة كام دلوقتى
أطاحت المرارة بابتسامة ثغره ووضعت مرارتها على شفتيه واحتلتها احتلالاً وهو يقول:
- أنتِ كنتِ نايمة ؟! ..معلش صحيتك روحى كملى نوم ..سلام
أمسكت الهاتف بكلتا يديها وقالت بلوعة:
- و**** يا حبيبى راحت عليا نومة مش عارفة ازاى ... أصلى نايمة بعد الفجر .. بس أنت غلطان مكلمتنيش ليه قبل ما تنزل الصبح
قال بضيق :
- خلاص خلاص محصلش حاجة يلا سلام
أغلق الهاتف وهو يشعر أن مرارة ابتسامتة قد استعمرت قلبه ورفعت رايتها معلنةً أحكامها وبعثرت غصتها فى حلقه تباعاً لتجبره على الأنصياع لها بلا مقاومة.. ولم يكن ليفعل .. لم يكن ليقاوم ذاك الشعور المرير بأهمالها الدائم له وعدم حرصها عليه وتفكيرها الأبدى فى شخصها وفقط .. كيف يكون ذلك حباً .
عاد إلى بيته وهو يحاول التخلص من تلك المشاعر التى احتلته فلا يريد أن يزعج أحداً بما يعانيه , كل ما كان يفكر به هو أسعاد تلك المرأة الطيبة التى بذلت عمرها لأجله ولم تبقى لنفسها عافية إلا وقدمتها بحب وارتياح وهى تراه يحقق الأنجازات يوماُ بعد يوم فكأنها هى التى تنجح وهى التى تتقدم وهى التى تخطو نحو المستقبل بخطاً ثابتة.
أحضر لها معه بعض الأشياء التى تحبها ورسم ابتسامة سعيدة على محياه ليدخل البهجة على قلبها ..قابلته .. وجدها تقف فى الشرفة تنتظره على أحر من الجمر فابتسم لها وخطى خطوات واسعة نحو المنزل, صعد درجات السلم فى سرعة كبيرة فوجدها قد سبقته ونزلت هى إليه , عانقته وهى تضحك بين دموعها وتحسست وجهه بيديها الواهنتين وهى تقول ببكاء:
- مبروك يا حبيبى.. ألف مبروك يا ما انت كريم **** .. الحمد *** يابنى
وكأن دموعها قد سمحت لدموعه بالإفلات أخيراً من محبسهم وبغزارة وهو يقول :
- أيه يا ست الكل.. أنتِ تفرحى تعيطى تزعلى تعيطى
قبلت كتفه وأحاطها بذراعه وهى تقول:
- دى دموع الفرح يا دكتور
جاءهم صوت مُهرة من خلفهم وهى تقول بصوت يشبه البكاء:
- كده خلتونى اعيط ؟
ألتفتا فوجداها تقف أعلى الدرج وعيناها تلمع بعبراتها السعيدة التى هطلت بغزارة على جنتيها وهى تنظر إليهما بابتسامة كبيرة فأعطت مظهراً يُرسم له لوحة فنية بكل تلك المشاعر المتناقضة على وجهها الدموع المنهمرة بلا توقف والابتسامة الكبيرة السعيدة وتلك الملامح البريئة التى لا تخطئها عين.
هبطت درجتين من السلم حتى اقتربت , ثم توقفت وأخرجت من جيب تنورتها ميدالية مرصعة بفصوص من الفضة مكتوب وسطها وبخط فضى صغير د/فارس سيف الدين , وقدمتها له وهى تقول ببراءة :
- مبروك يا دكتور.. ممكن تقبل منى الهدية دى
أخذها فارس وهو ينظر لها ويقلبها بين يديه متأملاً وقد تملكته الدهشة وقال:
- **** يبارك فيكى يا مُهرة..بس جبتيها أمتى دى وعملتيها ازاى
رفعت كتفيها وقالت بتلقائية:
- من سنة كده وانا عند أبله عبير شفت واحد جنبهم بيعمل حاجات فضة.. طلعت فى دماغى ووصيته عليها ولسه مستلماها منه من أسبوع بس
رفع حاجبيه وقد اندمج مع عباراتها التلقائية ولم يكن حال والدته باقل من حالته وهما ينصتان لكلماتها العفوية وقال متسائلاً:
- من سنة ؟! .. ولسه مستلماها من أسبوع
أبتسمت فى خجل وهى تطرق برأسها وقالت:
- أصل أنا كنت بحوش تمنها ولما خلصت أدهالى
أتسعت ابتسامته وهو يتبادل النظرات مع والدته التى شعرت كأنها تراها لأول مرة , أما هو فقد شعر بمتعة وهو يتسائل مرة اخرى ويقول :
- وانتِ بقى عرفتى منين المعاد بتاع مناقشة الرسالة علشان تظبطيها كده وتخلصى تمنها قبلها بأسبوع
أستندت بذراعها إلى سور الدرج ولوحت بيدها الأخرى بعفوية وهى تقول:
- مرة سمعتك وانت بتتكلم مع طنط
رفع حاجبية مندهشاً وقال :
- سمعتى المعاد مرة .. ومن سنة !!
أومأت بخجل ثم عقدت جبينها ونظرت لأم فارس ثم نظرت إليه وقالت:
- هى معجبتكش ولا أيه
أجاب بدون وعى وبدون تفكير:
- بالعكس ..دى جميلة جدًا
نظرت له والدته فوجدته شارداً أو حائراً وهو ينظر إلى الميدالية فى يده ويقول فى وجوم:
- شكلك كنتِ متأكدة أنى هاخد الدكتوراه حتى من قبل ما أكون انا متأكد
صعدت والدته درجتين وربتت على كتف مُهرة ثم مسحت على ذراعها فى حنان وقالت :
- طول عمرك جدعة يا مُهرة وفاكره الناس اللى حواليكى
ثم نظرت لملابسها وقالت متسائلة:
- أنتِ كنتِ خارجة دلوقتى ولا أيه ؟
نظرت مُهرة لملابسها ومطت شفتاها وهى تقول بحزن:
- انا صحيت بدرى علشان اروح أتفرج على فارس وهو بياخد الدكتوراه بس ماما مرضيتش وقعدت تتخانق معايا .. ومن ساعتها بقى وانا مغيرتش هدومى وقاعدة فى البلكونة علشان لما فارس يرجع اشوفه واديله الهدية.
شعر فارس بكلمات مُهرة تُطيح بالمرارة التى كانت قد احتلت قلبه من قبل وتنزع رايتها وتحررقلبه من القسوة التى كانت تحاول فرض سيطرتها عليه بالقوة وتُميت عواطفه وتكاد تدفنها فى أعماقه فلا تظهر مرة أخرى على السطح , جائت فى الوقت المناسب لتعيد تشغيله وإعادته إلى الحياة مرة ثانية , قبض على هدية مُهرة فى راحته ولا يعلم لماذا شعر فى هذه اللحظة بالذات انه يجب أن يغض بصره عنها لأنها ...لأنها قد كبرت ... كبرت إلى هذه الدرجة .. كبرت النبتة التى زرعها بيديه وزرع ما بها من معانى جميلة وعواطف نبيلة مخلصة لتصبح وارفة الظلال لتظله هو أيضا ببعض ظلالها حينما تسحقه رمضاء الحياة
‘***
ومرت الأيام الخمس ووقف فارس يرتدى سترته الأنيقة السوداء أمام المرآة وهو يستعد لحفل زفافه , لم يكن متحمساً كما كان يظن فى ذلك اليوم , مشط شعره فى عناية ووقف ينظر للمرآة ويتمم على أناقته حينها سمع صوت بلال وعمرو فى الخارج , أبتسم وهو يفتح باب غرفته وسمع عمرو يصيح بمرح:
- وأنا هاخد وقت فى اللبس ليه.. أنا حلو من غير حاجة
خرج فارس ورد عليه قائلاً:
- ده أيه التواضع ده كله
ضحك بلال وهو يضرب على كتف فارس قائلاً:
- نحن السابقون و انتم اللاحقون
نظر بلال إلى فارس وقال متسائلاً:
- أنتوا مسافرين بعد الفرح فعلا يا فارس
أومأ فارس برأسه وقال:
- الدكتور حمدى عزمنا نقضى أسبوع فى شقته اللى فى اسكندرية ..هنقضى ساعة كده فى الفرح ونسافر على طول
وضع عمرو يديه فى خصره وهو يتصنع الحقد وقال:
- ماشيه معاك يا عم مين قدك
- بقولك ايه يا عمرو مابدل الحقد اللى مإلى قلبك ده.. يومين تلاتة كده وتعالوا قضوا معانا يومين فى اسكندرية
حك عمرو رأسه وهو يقول:
- ممم هفكر واخد رأى الحكومة
ضحك ثلاثتهم بينما قال عمرو :
- يالا يا سيدنا العرايس فى الكوافير مستنينا على نااار
نظر فارس حوله وهو يقول متسائلاً:
- هى ماما راحت فين
قال بلال وهو يضع يديه فى جيب بنطاله:
- طلعت تودى الولاد عند مُهرة ونازله على طول ان شاء ****
عقد فارس بين حاجبيه وقال متسائلاً بقلق:
- ليه هما مش جايين معانا
جذبه عمرو من ذراعه وهو يتجه به صوب باب الشقة ويقول :
- ياعمنا يالا بقى هنستناهم تحت الستات دول يومهم بسنة
خرج ثلاثتهم وأغلق فارس الباب خلفة ونزل الدرج خلفهم فى توتر وقلق وهو ينظر للأعلى ثم ينظر أمامه ويكمل طريقه فى الهبوط
وقف الجميع أسفل بنايتهم وتبادلوا العناق والتهنئة مع الجيران والأحبة والمدعوين منهم للحفل , تأخرت والدته قليلاً فقال عمرو:
- ما تطلع تشوف الحجة يا فارس .. عزة عماله تتصل شكلنا بقى وحش أوى
نظر فارس إلى هاتفه فوجد مكالمتين من دنيا لم ينتبه إليهم, كان على وشك أن يهاتفها ليخبرها أنهم فى طريقهم ولكنه وجد يحيى يهبط الدرج بسرعة ويتجه إلى بلال مباشرة وهو يقول:
- لو سمحت يا دكتور ممكن تطلع معانا.. أصل مُهرة تعبانة أوى
لم يتحدث فارس كثيرا , بل لم يسأله من الأصل , توجه للأعلى مباشرة وطرق الباب , فتحت له أم يحيى الباب وفى عينيها أثر البكاء معلنا عن نفسه بوضوح فقال بلوعة:
- فى أيه مُهرة مالها
كان بلال ويحيى قد لحقا به , غض بلال نظره وهو يقول :
- خير يا جماعة مالها
أفسحت لهم أم يحيى الطريق وهى تقول:
- مش عارفة يا دكتور .. سخنه أوى وبتترعش والكمادات مش جايبة نتيجة .. خايفة تكون حمى
قال بلال بسرعة دون أن ينظر إليها:
- طب غطيها وحطى حاجة على شعرها
دخلت أم يحيى سريعاً إلى غرفة مُهرة وخرجت بعد ثوان وهى تقول بلهفة:
- خلاص يا دكتور اتفضل
هم بلال بالدخول ولكنه تفاجأ بفارس يمسك بذراعه يوقفه , فنظر بلال إلى يد فارس الممسكة به ثم نظر إليه فى تسائل ودهشة , فقال فارس بصوت كأنه خرج من شخص آخر غيره ومن حلق آخر غير حلقه وكأنه آتى من بئر عميق وبعيد :
- هو انت بتكشف على بنات؟
شيئاً ما فى عينى فارس جعل بلال ينظر إليه بعمق وهو حائراً من أمره ثم قال:
- انا مش هكشف عليها .. أنا هشوفها بس حمى ولا لاء ..وده مش محتاج كشف زى ما انت فاهم ..علشان لو حمى مش هينفع نستنى أكتر من كده
ثم أشار بلال إلى أم يحيى أن تتبعه , دخلت معه والدتها لغرفتها فوجد أم فارس تجلس بجوارها وتبكى على حالها وما أصابها ومُهرة نائمة والكمادات تغطى جبينها.
وقف فارس حائراً فى الخارج يريد الدخول ولكن لا يستطيع , بعد دقائق خرج بلال وهو يحادث زوجته على الهاتف ويقول:
- خلاص نازلين اهو ..لا الحمد *** كويسة..اه طبعا هجيب الولاد معايا
لم يستطع الأنتظار أكثر , أمسك بلال من يده التى يحمل بها الهاتف وقال :
- طمنى يا بلال
أنهى بلال مكالمته مع عبير ووضع الهاتف فى جيبه وقال لـ فارس وهو يتفرس فى ملامحه:
- متقلقش دى حرارة عادية ...كويس أن والدتها بتعرف تدى حقن انا كتبتلها على حقنة لما تاخدها هتبقى كويسة بأذن ****
مر يحيى من جوارهما سريعاً فى طريقة للخروج ليحضر الحقنة التى طلبها بلال وخرجت على أثره أم فارس من الغرفة وتوجهت إلى فارس وهى تقول:
- انت لسه هنا يابنى ؟ .. يالا انت اتوكل على **** علشان تلحق عروستك فى الكوافير مش عاوزين مشاكل فى ليلة زى دى
جاء صوت رنين هاتف فارس فى هذه اللحظة, فنظر فى الهاتف ليوجده عمرو الذى تكلم بسرعة قائلا:
- انتوا هتباتوا عندكوا يا فارس
قال فارس بدون تردد:
- أمشى انت يا عمرو.. روح خدهم من الكوافير ووديهم القاعة وماما وبلال هيحصلوك
هتف عمرو مستنكراً:
- هما مين اللى أخدهم دول .. أروح اقول لمراتك تعالى معايا وجوزك جاى ورانا ..فى أيه يا فارس
صاح فارس بغضب:
- اعمل اللى بقولك عليه يا عمرو ..ماما هتنزل دلوقتى وهتاخدها معاك من الكوافير وتروحوا على القاعة .. وانا هبقى احصلكوا ..وبعدين كده ولا كده قاعة الرجالة مفصولة عن قاعة الستات يعنى محدش هياخد باله انى هتأخر
أنتزعت أم فارس الهاتف من يده وهى تنظر له بحدة وقالت لـ عمرو:
- فارس نازلك يا عمرو دلوقتى
أغلقت الهاتف ونظرت إليه بصرامة وقالت:
- يالا روح خد عروستك من الكوافير.. وانا هقعد معاها لحد ما تتحسن
زفر فارس بضيق وهو يشعر أن حفل زفافه تحول إلى جبل على صدره يريد التخلص منه , لاحظ بلال الحيرة فى عينيه ونفس الشىء الغامض الذى استشعره سابقاً وهو لا يريده أن يدخل للكشف عليها فتدخل لحل المشكلة قائلاً:
- بص يا فارس السخونية دى حاجة عادية.. بتيجى وتروح ومتقلقش هى هتاخد الحقنة وهتبقى زى الحصان
عاد يحيى سريعاً بالحقنة ودخل غرفة أخته مسرعاً, كانت أم يحيى واقفة تستمع للحوار بجوار باب غرفة ابنتها وقد حقنتها منذ ثوان , حسمت أمرها ورسمت ابتسامة على شفتيها وخرجت مبتسمة وهى تقول:
- الحمد *** الحرارة نزلت شوية وابتدت تتحسن
ألتفت بلال إليها دون النظر لها مباشرة وقد استشعر خدعتها فهو كطبيب يعلم أن الحرارة تحتاج لوقت أكبر من هذا لتعود لطبيعتها.
أنهالت المكالمات على هاتف فارس وبلال واحتالت أم يحيى كثيرا عليهم حتى لا يتأخروا أكثر من هذا على زفافهم بسبب مرض ابنتها, فهم لا ذنب لهم فيما يحدث لها
وبعد مداولات كثيرة استقل فارس السيارة ويكاد يكون فى عالم آخر, يأكله القلق والتوتر والأضطراب وتكاد ان تفتك به أناتها التى كانت تخرج منها عالية فتصل إلى أذنيه وتنهش صدره عن بُعد , وهو ينظر خلفه يكاد أن يراها من خلف الأبواب المغلقة والجدران , والسيارة تبتعد به وتفصله عن عالمه الذى طالما أحبه .
****
خرجت كل منهما إلى زوجها وتأبطت ذراعه إلى السيارة وانطلق الجميع وسط الزغاريد وأصوات أبواق السيارات حتى وصلوا إلى قاعة الأفراح.
كانت قاعة الرجال فى الطابق الأرضى كالعادة بينما قاعة النساء فى الطابق الأول , صعدت النساء للأعلى بينما دلف الرجال إلى القاعة الارضية , مرت عزة بين صفى الدفوف بينما مرت دنيا بين صفى المشاعل , كانت استقبإليه حافلة بين ضرب الدف والإنشاد وبين أنوار المشاعل الملونة, جلست كل منهما فى مقعدها المخصص لها والمزين بالتل والورود والقلوب الحمراء , وبدات الفرقة فى أداء فقراتها المدربة عليها ولكن كل هذا لم يعجب دنيا وكانت تشاهد ما يحدث بملل وكأنهم نساء من كوكب آخر وتنظر إلى عزة بدهشة وتتعجب كيف يبدو عليها السعادة والبهجه بل وتشاركهم الرقص على ضرب الدف هل هذه حفلة زفاف !
أما فى الأسفل عند الرجال وقف عمرو يتضاحك مع أصدقائه ومحبيه ويتبادلون النكات ووقف فارس بجوراه يصافح المهنئين له ويبتسم لهم ولكن عقله كان فى مكان آخر فيتجه إلى ركن ما فى القاعة ويخرج هاتفه ويتصل على هاتف منزلها فيجيبه يحيى و يطمئنه ببعض الكلمات المطمئنة التى لقنته أياها والدته .
ترك عمرو أصدقائه واتجه إلى ركن هادىء بالقاعة واتصل على والدته وقال وهو يتلفت حوله :
- بقولك ايه يا ست الكل.. مش كفاية كده بقالنا ساعتين مش هنروح بقى ولا أيه
ضحكت والدته ثم قالت :
- طيب خلاص ربع ساعة كده وننزل
أنهى عمرو الأتصال ووقف يفرك كفيه ما بين توتر و عجلة وحانت منه التفاته إلى فارس الذى يقف شارداً يضغط أزرار هاتفه فى انفعال ما بين الحين والآخر فاتجه إليه ووضع ذراعه على كتفه وقال مداعباً :
- أنت كمان مستعجل ولا أيه
رسم فارس أبتسامة على شفتيه ولم يجيبه , فقال عمرو :
- مالك يا فارس شكلك مش طبيعى خالص من ساعة ما وصلنا
فارس:
- مفيش يا عمرو.. مفيش
أنتهى حفل الزفاف واستقل عمرو سيارة بجوار عزة فى طريقهما لعش الزوجية بينما لاحظت أم فارس قلقه وعدم رغبته فى السفر , فاقتربت منه وربطت على كتفه وقالت وكانها ترى ما يدور بعقله:
- يابنى اطمن هى خلاص بقت كويسه يلا توكل انت على **** وخد عروستك وسافر
أنحنت دنيا وهى داخل السيارة وأطلت برأسها من زجاجها وقالت بانفعال:
- انا هفضل ملطوعة كده كتير
أضطر فارس إلى استقلال السيارة تحت الألحاح الشديد من والدته وبلال وكلمات دنيا اللآذعة وانطلق بها إلى الأسكندرية
ظلت طوال الطريق تؤنبه وتوبخه على تأخره عليها فى الكوافير وفى السيارة أمام القاعة ولكنه لم يرد, كاد أن يستشيط غضباً وهو يحاول أرضائها ويقدم أعذاره ولكنها لم تقبل بل وازدادت حدة كلماتها القاسية التى تتهمه فيها بالاهمال والتقصير , والبداية الغير المبشرة بحياة سعيدة , وفجأة صمتت وبكت بقوة وانهيار.
****
فتحت والدة عزة باب الشقة ودلفت وهى تطلق الزغاريد المتواصلة وتبعتها عبير وعزة وعمرو , قبلت عبير أختها وعانقتها وهى تتمنى لهما حياة سعيدة وأيام مباركة وانصرفت بسرعة كما أمرها بلال من قبل , بينما ظلت والدة عزة تطلق الزغاريد المتواصلة حتى مال عمرو على عزة وقال هامساً:
- هو النهاردة الزغاريد وبكره الفرح ولا أيه !
ابتسمت عزة خجلاً ولم تجيبه وإنما تمنت أن تبقى والدتها ولا تنصرف أبدا من كثرة خوفها من عمرو الذى كان يتوعدها بهذه الليلة مراراً وتكراراً وهو يداعبها بكلماته عبر الهاتف
صعدت والدة عمرو وجذبت أم عزة من يدها وقالت بمرح:
- يالا بقى أحنا هنبات هنا ولا ايه
فرت دمعتين من عينيى والدة عزة وهى تحتضنها وتقبلها بينما لمعت عينيى عزة بالدموع وهى تودع والدتها على الباب بينما أسرع عمرو وأغلق الباب خلف الجميع وهو يزفر بارتياح قائلا:
- الحمد *** .. أخيرًا ..أيه رايك نقفل بالمفتاح والترباس لحسن يرجعوا تانى ؟!!
أطرقت عزة برأسها ولم تجيبه وشعرت أن الدنيا تميد بها وتكاد أن يغشى عليها , لاحظ عمرو العلامات الجلية على وجهها وشحوبه خوفاً فقال بلامبالاة :
- يلا بقى انا هموت من الجوع أدخلى غيرى واطلعى بسرعة قبل ما اخلص العشا لوحدى
لم تصدق نفسها , هرولت للداخل أغلقت الباب عليها وبدلت ملابسها سريعاً بعد أن تعثرت قليلا وهى ترتديها وتتمتم بصوت خفيض:
- بتتلبس ازاى دى !
بعد قليل خرجت إليه وجدته يأكل بنهم شديد فنظرت إليه باستغراب وقد تناست خوفها قليلاً وهى تسمعه يقول لها دون أن ينظر إليها:
- الأكله دى خلتنى عامل زى اللى واخدين بنج .. شكلى كده هكسف أهلى وانام على روحى
أبتسمت وقد تلاشى أى شعور داخلها بالخوف وجلست على مقعدها تتناول بعض الطعام وتصنعت أن الأمر لا يعنيها وهى تقول:
- كل وادخل خد دش علشان تسترخى ونام.. وأنا هابقى اصحيك الفجر علشان نصلى سوا على فكرة شكلك مرهق أوى أوى
نظر إليها بطرف عينيه وهو يلعق أصبعه من بقايا الطعام وقال :
- أسكتى يا بت انتِ وكلى عيش فى البيت ده وانتِ ساكته احسنلك
أنهى طعامه ودلف إلى الحمام , أغتسل وخرج ليجدها قد استغرقت فى نوم عميق على الأريكة أمام التلفاز
حاول أيقاظها ولكنها لم تستجب , حاول مراراً ولكنها تعمدت الأستغراق أكثر فى النوم , فاتجه إلى الثلاجة وأخرج زجاجة عصير واتجه إليها ووقف بجوارها وهو يفتح الزجاجة بصوت مرتفع وقال:
- ياترى نوع العصير ده لما بيتكب على الشعر بيطلع تانى ولا لاء
أنتفضت عزة واقفةً وهى تقول برجاء:
- لالالالالا بلاش .. أنا صاحية اهو
أشار لها لتسير أمامه للداخل وهو يعقد جبينه قائلا بجدية مصطنعة:
- قدامى ...ناس مبتجيش غير بالعين الحمرا صحيح
***
وأما هناك وفى الأسكندرية وقبل الفجر بدقائق كانت هناك دوى صفعة قوية على وجهها هوت على أثرها أرضاً وهى تصرخ قائلة:
- متظلمنيش يا فارس مكنش بأيدى ... أسمعنى طيب
قبض على ساعديها بقوة وعينيه تشعان غضباً وكأن الشيطان قد سكنهما وأطلق منها قذائف نيرانه فتطايرت فى وجهها ولفحتها وهو يجذبها لتقف مرة أخرى على قدميها وهى تهتز خوفاً وهلعا وهو يقول بصوت يشبه الفحيح:
- مين اللى عمل كده .. أتكلمى ولا هقتلك وادفنك هنا دلوقتى حالاً
قال كلمته الأخيرة وهو يصفعها مرة أخرى لترتطم بالفراش وتسقط عليه بثقلها , وضعت يدها على وجنتها وهى ترتعش وتقول متوسلة له:
- هتكلم.. هحكيلك على كل حاجة بس اسمعنى .. و**** مظلمومة يا فارس
بدأت تتعثر فى كلماتها وتتلعثم وهى تقول:
- فى يوم بعد ما ركبتنى التاكسى ومشيت .. فضل ماشى بيا فى الطريق عادى وقبل ما يدخل على بيتنا دخل فى الشارع الضلمة اللى قصاده اللى كله عمارات فاضية ولسه بتتبنى .. ما انت عارفه و.. و بعدين طلع مطوه وهددنى ومقدرتش افتح بؤى خفت يا فارس.. خفت وبعدين أغمى عليا ولما فوقت لقيت نفسى فى الشارع .. قمت جريت ودخلت بيتنا وماما كانت نايمة ومشفتنيش
قبض على شعرها بقوة وصرخ بها:
- كدااابة ..أنا عمرى ما ركتبتك تاكسى لوحدك أبدا
صرخت وهى تحاول الفكاك منه ومن قبضته حتى شعرت أن روحها تفرقت فى جسدها وهربت من كثرة الألم وقالت وهى تنتفض:
- ايوا .. ايوا ..أنت عمرك ما ركبتنى تاكسى لوحدى بس فى اليوم ده الميني باص اللى ركبتهولى اتعطل والناس نزلت كلها واضطريت آخد تاكسى وحصل اللى حصل
صرخ بها وهو مازال قابضاً على شعرها بقوة :
- ومقولتليش ليه .. ومبلغتيش ليه .. وأمتى كل ده حصل
بكت بشدة وهى تصرخ من الألم وقالت :
- حصل من سنة تقريبا .. وخفت يا فارس خفت اقولك وخفت ابلغ
دفعها على الفراش بقوة فارتطم رأسها به وأخذت تبكى وترتعش بقوة, نظر إليها تسلط عليه الشيطان فى تلك اللحظة فأقدم على قتلها ولكنه تراجع .
كلماتها تفوح منها رائحة الكذب ولكنه لا دليل لديه على شىء آخر , أبتعد عنها ودخل الشرفة فلفحه الهواء بقوة وشعر أنه كان تحت سطح البحر لا يكاد يتنفس وخرج فجأة إلى الهواء العليل فكادت أن تنفجر رئتيه وشعر بدمائه تغلى بداخل عروقه لتلهبها وتحرقها ورأى الماء يندفع بجنون ويرتطم بأمواج عقله فتطحن رجولته وتبعثرها وتنثرها على الشاطىء , شعر أنه سيفقد عقله ورشده .. جلس على الأرض واضعاً وجهه بين كفيه وهو يشعر أن قلبة قد طُعن طعنة غدر من أقرب الناس إليه , لا يصدقها وليس لديه حل آخر, هل يعرضها على طبيبة , هل يفضحها ويقول لوالدتها ويطلقها أم يستر عليها .. صدح صوت اذان الفجر ليتسلل لقلبه المكلوم الممزق , نهض بتثاقل وتوجه للحمام, أغتسل وصلى الفجر وقد انهمرت عبراته الساخنة التى كانت تقفز على الأرض من عينيه لتروى مكان سجوده بماء دموعه ..أنكفأ لونه وارتجفت أوصاله .
عاد الفارس من معركته خاسراً , ولكنه لم يفقد روحه وأنما فقد حكمته وشرفه, ولكن الفارس النبيل مازال بداخله يستصرخه , أن يظل نبيلاً حتى آخر رمق , وإن زهقت روحه تحت راية نبلة , وتذكر حديث النبى صل **** عليه وسلم :
- (من ستر مؤمنا فى الدنيا ستره **** يوم القيامة )
ولكن هل يستطيع ذلك ؟!!
****
الفصل العشرون
أشرقت شمس يوم الجمعة تتسلل بأشعتها الذهبية بين النوافذ والجدران مقتحمةً الأبواب المغلقة لترى ما لا نستطيع أن نراه , ثم تنسحب بهدوء بعد أن قد حملت بين طياتها الكثير والكثير ولكنها لن تفشى الأسرار فهى ليست من بنى البشر .
فتح فارس عينيه قليلاً ووضع يديه عليها ليحميها من أشعة الشمس , فلقد غفى قليلاً على مقعده فى الشرفة المطلة على البحر , نظر حوله وهو يدعو **** أن يكون ما حدث ليلة الأمس كان حلماً مفزعاً فقط , ولكن وضعه وغفوته أنبأته أنه كان حقيقةً بائسةً فلما نظلم الأحلام معنا دائماً .
أعتدل وهو يشعر بألم فى كل خلجة من خلجاته , مسح على رقبته التى شعر بها تؤلمه بشدة من اثر غفوته تلك , نظر للداخل دون أن يتحرك لم يجد لها اثر وباب غرفة النوم مغلق فعلم أنها مازالت نائمة أو أنها تهرب من مواجهته مرة أخرى.
نهض متثاقلاً وبصعوبة توجه إلى الحمام وتوضأ , خرج من الحمام لتقع عينيه على حقيبته التى مازالت أمام باب الشقة .
شرد ذهنه وهو يتذكر ليلة أمس عندما طلبت منه أن يحمل حقيبتها للداخل ففعل ثم تذكر جرأتها الشديدة , فهى التى تقدمت إليه , حتى أنها لم تدعه يتوضا ليصلى بها ركعتين فى بداية حياتهما الزوجية ولم تنتظره حتى يُدخل حقيبته هو الآخر ليبدل ملابسه
تملكه شعور الدهشه والاستغراب وهو يتذكر أفعالها , كيف تكون مرت بما مرت به وتفعل هذا دون خوف مما ينتظرها , كان من الأولى أن تتمنع وتطلب منه أن يمنحها بعض الوقت ,إن كانت كاذبة كانت ستفعل ذلك, وإن كانت صادقة فيما قالت أيضا كانت ستفعل ذلك , ثم تُخبره بالحقيقة وبما حدث لها دون أرادتها , فهى تعلم أخلاقه وأنه لن يظلمها , أم كانت تتصور لأنه عديم الخبرة أنه لن يكتشف الأمر وستستطيع أن تنهى الموقف لصالحها بعد أن تشعل غريزته دون أن ينتبه .
دارت كل تلك التساؤلات فى عقله وقلبه فى لحظة واحدة وهو مازال مصوب عينيه لحقيبته القابعة مكانها منذ ليلة أمس , هز رأسه بقوة ينفض عنه كل تلك الأفكار التى مازالت به لا تفارقه لحظة واحدة لتشعل النار بقلبه من جديد .
عاد إلى الحمام ليتوضا مرة أخرى ليطفأ ما نشب فى صدره من غل وكره وشعور قوى بالأنتقام وما تبعه من وسوسة الشيطان بأن يثار لشرفه ويقتلها لتهدأ رجولته قليلاً لما فعلته به , توضا وعاد وقطرات المياة تتساقط من يديه وخصلات شعره التى تناثرت على جبينه,
أخذ حقيبته ووضعها على الأريكة وأخرج ملابس أخرى ارتداها فى سرعة وأخذ هاتفه ومفاتيحه وخرج ليلحق بصلاة الجمعة.
أنتهى من صلاته وتناول **** من مصاحف التفسير المرصوصة جنباً إلى جنب على أحد الأرفف وقبع بالمسجد يقرأ لعله يجد المرشد له فيما وقع فيه وهو يشعر أن سنوات عمره مضت هباءاً منثورا مع تلك المرأة التى أحبها وخانته ولكن مع الاسف ليس لديه دليلاً على خيانتها, يخاف أن تكون تعرضت فعلا للأغتصاب فيكون بذلك قد ظلمها وحاكمها بما ليس لها فيه شىء, ووسط مشاعره المتلاطمة وقعت عيناه على الآية الكريمة فى سورة النور :
- ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( لا يعلم لماذا شعر أنها رسالة من **** عزوجل إليه يلهمه فيها بالصواب ويرشده إلى الطريق .
أغمض فارس عينيه بقوة يحاول السيطرة على مشاعره المكلومة وقلبه المذبوح, حاول أن يرتقى بنفسه وبصبره إلى اقصى درجة , وتذكر وقتها أيام خطبته بدنيا وتذكر أنه علم الحلال والحرام ورغم ذلك استمرا في الحرام سنة كاملة وظل يغضب ربه من أجلها فجعلها **** عزوجل هى من تشق قلبه وتذبحه فكانت هذه النهاية الحتمية .
إذن فهو أحد المسؤلين عن ما يحدث له معها اليوم فلماذا يحاسبها وحدها , لماذا لا يعاقب نفسه أيضاً وهل سيختار عقاباً رادعاً لنفسه أكثر منها ؟!
خرج من المسجد وقد حسم أمره تماماً واتضحت الرؤية أمام عينيه واتخذ قراراً نهائياً بشأنها , عبر الطريق ووقف ينظر لمياه البحر الهادئة فى شرود , شرد ذهنه بعيداً تماماً عن دنيا , فوجد نفسه كالمسحور يخرج هاتفه ويتصل بوالدته التى تعجبت واصابتها الدهشة عندما سمعت صوته فى الطرف الآخر وهو يسألها عن أحوالها وصحتها وهى تجيبه باختصار متعجبة إلى أن قال بتردد :
- متعرفيش يا ماما مُهرة عاملة أيه النهاردة؟
أتسعت عيناها بعض الشىء وهى تقول بدهشة كبيرة:
- مُهرة ! .. أنت سايب عروستك علشان تسأل على مُهرة !
أرتبك أكثر وقال بتلعثم :
- وفيها أيه يا ماما ..أنا أمبارح سايبها وهى تعبانة .. أيه المشكلة انى أطمن عليها دلوقتى
ضيقت عينيها قليلاً وهى تقول بأرتياب:
- هى مراتك فين يا فارس ؟
شعر بغصة فى حلقة ومرارة على لسانه وهو يقول بصوت مخنوق:
- فى البيت.. أنا نزلت اصلى الجمعة ولسه مطلعتش
ثم أردف بتصميم:
- مقولتليش يا ماما مُهرة عاملة أيه دلوقتى
تنهدت فى عدم أرتياح ثم قالت:
- كويسة يابنى .. لسه نازلة من عندها من شوية وكانت كويسة
شعر أنه لن يأخذ منها أكثر من هذا وأنها مرتابة من سؤاله عنها من البداية فقرر أن يكتفى بما حصل عليه من معلومات , أنهى المكالمة مع والدته ولكن قلبه لم يكن مطمئناً أبداً هناك شىء يخبره أنها ليست على ما يرام , بحث فى هاتفه على رقم بلال وأتصل به ..لم يكن بلال أقل دهشة من والدته فى اتصال فارس به وسؤاله عن مُهرة ولكنه أجاب:
- أنا عندها دلوقتى
أبتلع فارس ريقة من المفاجأة وقال بلهفة:
- ليه هى تعبت تانى ؟
رفع بلال حاجبيه وهو يقول :
- لا أبداً فى دكتور صاحبى جبته يشوفها ..والدتها اتصلت بينا وقالت مبتكلمش ومبتردش على حد ومبتاكلش وبتعيط على طول ..طبعاً انت عارف ان ده مش تخصصى
خفق قلب فارس بقوة وهو يجلس على أحد الصخور وقال :
- الدكتور قال أيه
بلال :
- لسه خارج اهو اقفل وانا هبقى أكلمك
هتف فارس على الفور :
- لالا متقفلش خالينى على الخط وقولى قالك ايه
نظر بلال إلى الهاتف بدهشة ثم أنزله للأسفل قليلاً وهو يتحدث للطبيب الذى قال :
- حالة من حالات الاكتئاب البسيط وان شاء **** هتعدى مع الوقت بسرعة
ثم نظر الطبيب إلى الجميع وهو يقول:
- هو فى حد زعلها ؟
قالت أم يحيى سريعاً :
- هى بقالها كام يوم كده مش عارفة مالها.. أكلها قليل ومبتنامش كويس ومش مركزة
قال الطبيب متفهماً:
- عموماً فى سنها ده الحالة النفسية بتبقى متقلبة متقلقوش مع الوقت هتتحسن وترجع لطبيعتها انتوا بس متضغطوش عليها فحاجة .
وضع بلال الهاتف على أذنه مرة أخرى ليبلغ فارس بما قاله الطبيب , أرهف فارس سمعه لكلام بلال ولكن أم يحيى قطعت عليه كلامه وهى تقول لـ بلال بحرج:
- ممكن بعد أذنك أكلمه اباركله
تفاجأ فارس بكلام أم يحيى ولكنه وجدها فرصة مناسبة تماماً فقال:
- ولا يهمك يا ست ام يحيى مانا كنت موجود وشايف بنفسى ...هو الدكتور قال ايه
قالت بحزن:
- بيقول اكتئاب وهيعدى ان شاء ** ..أنا و** ما فاهمة يعنى أيه اكتئاب أصلا يا أستاذ فارس.. أنا اللى يهمنى أن بنتى تقوم زى الأول بس مش عارفة اعمل ايه
قال فارس بإشفاق:
- أكتئاب !!
ثم قال فى سرعة :
- لو سمحتى خلينى أكلمها
فرت دمعة من عينيها وقالت بأسى:
- ياريت يابنى.. دى لا بتاكل ولا بتتحرك ولا بتتكلم
شعر فارس أن قلبه يعتصر فى صدره وينقبض بقوة على حالها الذى لا يعلم له سبب فقال:
- طب حطى التليفون على ودنها وانا هكلمها يمكن تستجيب لكلامى
نظرت أم يحيى إلى بلال الذى كان يتحدث مع الطبيب الاخر ويحيى يقف معه يستمع لحديثهم فدخلت لغرفة مُهرة , وجدتها كما هى نائمةً على الفراش تنظر لسقف الغرفة دون حراك أقتربت منها ووضعت الهاتف على أذنها وقالت :
- أهى معاك أهى ..
ثم نقلت الهاتف على اذن مُهرة , أخذ فارس نفساً عميقاً وقال بهدوء:
- مُهرة
أنتفض جسدها الصغير بمجرد أن سمعت صوته وأخذ صدرها يعلو ويهبط فى سرعة وهى لا تزال محدقة فى سقف الغرفة وهو يقول ببطء:
- مالك يا مُهرة .. أيه اللى تاعبك ..كلمينى علشان خاطرى ..أتكلمى يا مُهرة
بدأت الدموع تقفز من مقلتيها واحدة تلو الأخرى بغزارة ودون توقف ترسم طريقاً على خديها وما أن ينقطع بها السبل حتى تغير مسارها لتروى وسادتها التى شاركتها لياليها الموحشة من قبل , كلما تكلم كلما أراد أن لا يتوقف أبداً فظل ينادى عليها مراراً وتكراراً بتصميم:
- انا فارس يا مُهرة .. كلمينى قوليلى مالك.. أشكيلى مين اللى ضايقك
قال كلمته الأخيرة ووجد عبراته تقفز هى الأخرى على خديه وبدا صوته يشبه البكاء وهو يرجوها أن تتحدث, أن تقول أى شىء, خالطت دموعه دموعها ولكن عن بُعد , لم يراها ولم يسمع الا صوت شهقاتها التى بدأت فى الظهور أخيراً وهى تبكى . ولم تراه ولم تسمع الا نداءاته المختلطة بالبكاء وكأنه يعتذرعن شىء لا يعرفه أو لا يفهمه ...فقط يشعر به...
هبت أم يحيى واقفةً وهى تمسك بالهاتف خرجت سريعاً وهى تقول للطبيب بلهفة:
- مًهرة بتعيط بصوت عالى يا دكتور صوتها طلع
هتف يحيى بسعادة:
- بجد يا ماما اتكلمت يعنى
قالت من بين دموعها :
- لاء بس بتعيط بصوت عالى
أعطت أم يحيى الهاتف إلى بلال وهى تشكره قائلة:
- متشكره أوى يا دكتور بلال.. الأستاذ فارس أول لما كلمها ابتدت تعيط وصوتها طلع أخيرًا الحمد ***
***
باتت ليلتها مترنحة خائفة تخشاه , تترقب خطواته تضع أذنها على الباب تستمع لصوت أنفاسه , كلما اقترب من الغرفة اهتز جسدها رعباً , تظن أنه سيقتلها , بالتأكيد سيقتلها لن يرضى على رجولته أن يعيش مع امرأة فعلت فعلتها , أذاً ماذا يفعل , لماذا تأخر مصيرها إلى هذا الحد , سمعت صوته يتجه للحمام ويغلقه خلفه
فتحت الباب فى بطء وهدوء ويديها ترتعش وأوصالها ترتجف خوفاً , مشت ببطء وحذر إلى الحمام ووضعت اذنها وتنصت بإضطراب شديد , سمعت صوت المياه فعلمت أنه يغتسل , أغمضت عينيها وكادت أن تزفر بقوة ولكنها وضعت يديها على فمها خشية أن يسمعها , عادت تمشى وكأنها تزحف بحذر إلى غرفتها وأغلقتها مرة أخرى عليها.
ظلت قابعة خلف بابها تترقب خطواته ذات اليمين وذات الشمال حتى سمعته يكبر تكبيرة الأحرام ثم بدأ فى ترتيل الفاتحة فتيقنت أنه يصلى الفجر.
هنا فقط زفرت زفرةً طويلة أخرجت فيها ما كان يجيش بصدرها من خوف وقلق ورعباً , فلو كان ينوى قتلها لما وقف يصلى هكذا
هوت بجسدها على الفراش وهى تلعن اليوم الذى قابلت فيه باسم وتلعن اليوم الذى صدقت فيه كلماته وعباراته المطمئنة لها, كم كانت حمقاء ساذجة , كيف لمثلها أن تقع فيما وقعت فيه وبهذه السهولة.
وكيف اكتشف فارس فعلتها بهذه البساطة وهى كانت تعتقد أنه غِـر ليس لديه خبره , لقد نسجت خيوطها جيداً فكيف رأى الحقيقة بهذا الوضوح , ولكن الذى جعلها غاضبة حانقة أكثر هو كيف فشلت العملية رغم تأكيدات الطبيب أنها عادت لعذريتها كما كانت من قبل ولن يكتشفها أحد مهما كانت خبرته فى عالم النساء , وضعت يدها على خدها تتلمس صفعات فارس الموجعة فلازالت تشعر بخدر فى وجنتيها نتيجة لصفعاته المتتالية ,عادت إليها رهبتها منه مرة أخرى عندما سمعت صوت باب الشرفة يفتح عنوة , نظرت من فتحة الباب مكان المفتاح فوجدته قد دخل الشرفة واسترخى على مقعدها وأغمض عينيه.
زفرت فى ارتياح وحنق وتأكدت من غلق الباب جيداً وعادت إلى فراشها وهى تتوعد باسم وتسبه باقذع الألفاظ وذهبت فى نوم عميق .
أستيقظت فزعة من نومها على صوت صفق باب الشقة بقوة , جلست فى فراشها دقائق وبعد أن تأكدت من مغادرته الشقة فتحت الباب فى هدوء واتجهت للحمام مباشرة اغتسلت وعادت لغرفتها مرة أخرى لتغلقها عليها لتسكت الشعور بالخوف بداخلها ولكنها لم تستطع أسكات الشعور بالجوع الذى مزق معدتها .
****
فتح الباب ودخل بدون سابق أنذار فسقطت الملعقة من يدها بمجرد أن سمعت صوت غلق الباب , دخل عليها ونظر إلى الطعام أمامها ثم نظر إليها بعينين خاليتين من أى تعبير وقال ببرود:
- وكمان ليكى نفس تاكلى
أبتلعت ما كان فى جوفها وتجمدت مكانها كالتمثال وهى محدقة به تحاول استكشاف ما بداخله من خلال تعابير وجه وظلت قابعة مكانها تنتظر رد فعله تجاهها , جلس أمامها حول المائدة وصوب بصره إليها بصرامة وقال :
- مش ناوية تقولى الحقيقة ؟
أبتلعت ريقها بصعوبة وشعرت بجفاف حلقها وشحب وجهها و قالت بصوت خافت مرتعش :
- اللى قولتهولك امبارح هو ده الحقيقة كلها
أومأ برأسه بقوة ونظر إليها ببغض قائلاً:
- وأنا مش مصدق حرف واحد منه ..لكن مع ذلك ...
صمت قليلاً وتعلق بصرها به وخفق قلبها بقوة فقال :
- مع ذلك هستر عليكى ومش هفضحك ..لكن عمرى ما هسامحك وعمرك ما هتبقى مراتى
قفز قلبها من مكانها وهى تستمع له وقد تيقنت أنه لن يثأر منها ولن يفضحها فعادت الدماء تُضخ إلى مجرى وجهها مرة أخرى وهى تنظر له بترقب فنهض من أمامها واشار إليها قائلاً:
- واعملى حسابك أمى مش هتعرف حاجة عن الموضوع ده
ثم نظر إليها باحتقار وهو يقول:
- مش عاوزها تموت بحسرتها عليا
أستدار متوجهاً للخارج مرة أخرى ولكنها وقفت وقالت برجاء:
- أستنى يا فارس ارجوك صدقنى
أستدار إليها بنظرة مخيفة جعلتها تجلس مكانها ثانية بلا حراك وقد شعرت أن الهواء تجمد فى رئتيها فلا تستطيع التنفس أو حتى التألم , فتح الباب وخرج مرة أخرى وهو يشعر بالأشمئزاز من المكان ومنها ومن نفسه .
خرج يمشى رويدا على الشاطىء ثم وقف واستدار للبحر نظر إلى سطحه محاولاً الوصول لأعماقه ومعرفة أسراره متغلغلاً بداخله بعقله واجماً فى تلك المرأة التى أصبحت زوجته والتى لطخت شرفه , وشعر أن مياه البحر تسخر منه وتؤنبه وأعماق البحر تتهكم عليه بل وتحاكمه , كيف لم يكتشف شخصيتها من قبل, كيف لم يرى جرأتها معه , كيف خُدع فيها إلى هذه الدرجة ؟! , هل أحبها إلى أن طُمست عيناه عن حقيقتها , بكل خبرته ودراسته الطويلة واحتكاكه بالبشر لم يعرفها حق المعرفة, بل كانت والدته المرأة الغير متعلمة التى لم تخرج من شارعهم مطلقاً إلا للضرورة تعرفها أكثر منه , ربما ليس بخبرتها ولكن بقلبها, وأحساسها تجاه الآخرين , فكيف كان يستهين بهذا الأحساس الربانى
****
دخل بلال غرفته هو وزوجته فوجدها ترتدى ملابسها مستعدة للخروج فنظر لها متأملاً ثم قال:
- الهانم رايحة فين
ألتفتت له وهى تغلق أزار ملابسها وقالت مبتسمة :
- انت لحقت تنسى ..رايحة مع ماما عند عزة يا سيدى.. الصباحية عقبال ولادك
عقد ذراعيه أمام صدره وقال :
- وعقبال ولادى ليه متقوليلى عقبالك
رفعت رأسها إليه وعقدت حاجبيها وقالت محذرة :
- بلال بقولك ايه .. متخاليش دماغى تودى وتجيب
أقترب منها ببطء وقال بابتسامة :
- مفيش خروج انا بقولك اهو
وضعت يديها حول خصرها وهى تقول متبرمة:
- يعنى مروحش لاختى صباحيتها يا بلال
زفر بهدوء وهو يجلس على الفراش وقال :
- يابنتى انا مش عارف أيه حكاية الصباحية دى ومين اللى اخترعها أصلا ..عريس وعروسه نروحلهم تانى يوم ونضايقهم ليه
لوحت بيدها وقالت بتلقائية :
- وانا مالى.. أنا رايحة معاهم وخلاص يعنى هى جات عليا.. وبعدين يعنى هنضايقهم ليه دى هى نص ساعة ونمشى
لف ذراعه حولها وأسند جبهته إلى جبتهتها وغمز لها بعينه قائلاً:
- أنتِ اللى بتقولى كده
ضحكت وهى تنهض من جواره ثم التفتت إليه قائلة:
- بصراحة معاك حق بس لو مروحتش ماما هتزعل مني
أرتدت أسدالها وشرعت فى وضع غطاء وجهها , حانت منها التفافة إليه فوجدته شارداً تماماً , جلست بجانبه وقالت متسائلة:
- مالك يا بلال أنت مش زى عوايدك
أنتبه إليها وهز رأسه نفياً وهو يقول:
- لالا متشغليش بالك مفيش حاجة
مسحت على رأسه وهى تقول بنعومة :
- مالك يا حبيبى فيك ايه
رفع رأسه ينظر إليها وقال فى وجوم:
- بصراحة يا عبير ..حصلت حاجة النهاردة كده عند ام يحيى ومش هضحك عليكى واقولك مش لاقى تفسير ..لالا .. أنا بس مستغرب
قالت فى اهتمام :
- احكيلى
قص عليها ما حدث بالأمس عندما كره فارس أن يدخل بلال ليرى مُهرة وما حدث أمام قاعة الأفراح عندما رفض فارس السفر إلا بعد أن يطمئن عليها وكذلك المكالمة التى حدثت اليوم أمام الطبيب ..فقالت عبير بشرود :
- وانت مستغرب من أيه.. مش هو اللى مربيها
هز بلال رأسه نفياً وقال مؤكدا :
- لا يا عبير أنا راجل واقدر افهم نظرة الراجل اللى زيى وتصرفاته ..مفيش عريس فى الدنيا يعمل كده
قالت بقلق :
- يعنى أيه يا بلال.. تفتكر يعنى ..
أومأ برأسه موافقاً وهو يقول :
- أنا مش افتكر .. أنا متأكد يا حبيبتى .. بس مستنى فارس لما يحكيلى بنفسه .. طب لما هى الحكاية كده اتجوز مراته دى ليه ...حاجة غريبة أوى
شردت عبير بعيدا أكثر وأكثر وهى تقول بداخلها :
- ياااه يا عزة ده انتِ **** بيحبك ..أهى خطيبته اللى اتجوزها وانتِ افتكرتى أنه فضلها عليكى طلعت فى الآخر برده مخدتش حاجة غير وجوده معاها , لكن قلبه فى مكان تانى خالص مكان ابعد ما كنا نتخيل كلنا .
*****
وقفت عزة أمام الفراش تحاول جاهدةً إيقاظ عمرو بشتى السبل ولكنها تفشل دائماً فما كان منها إلا أن جاءت بزجاجة مياه باردة وسكبت بعضاً منها على رأسه ...هب جالساً فى فراشه وهو يصيح :
- ايه يا ماما شغل المكوجية ده على الصبح
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت ساخرة:
- ماما مين يا حبيب ماما.. وبعدين صُبح أيه أحنا العصر يافندى
نظر إليها وهو يفرك عينيه بقوة وقال متذكرا:
- عزة حبيبتى ..أه صحيح ده احنا اتجوزنا امبارح وزغاريد بقى وحركات
ثم نظر إليها بعين مفتوحة والأخرى مغمضة وقال متسائلا:
- اه صحيح هو حصل ايه بعد الزغاريد انا مش فاكر حاجة
ضحكت وهى تشير للخارج قائلة:
- لو مش فاكر اروح أجيب أزازة العصير افكرك بيها ها
أشار إليها يستوقفها وهو ينهض متثاقلاً ويقف أمامها قائلا:
- خلاص انا صحيت اهو ..
أحاط خصرها بذراعيه وهو يقول :
- صباح الخير يا عروستى
أبتعدت عنه وقالت بحزن مصطنع:
- لا أنا زعلانه منك .. راحت عليك **** الجمعة حتى الضهر مصلتوش واهو العصر كما اذن عليك ..ينفع كده يا عمرو
مطت شفتيه وعقد جبينه وقال معتذراً :
- انا آسف و**** يا حبيبتى.. كنت تعبان أوى معلش .. أوعدك مش هيتكرر ده تانى
ولف ذراعيه حول كتفيها قائلاً بمرح :
- خلاص صافى يالبن
رفعت كتفيها وأستدارت وهى تشير للخارج قائلة بحسم :
- طب اتفضل بقى على الحمام علشان تلحق اللى فاتك
رفع حاجبيه وقال بصرامة مضحكة:
- ده طلب ولا أمر ؟!!
رفعت جابيها مثله وقالت :
- لا أمر
سار امامها مطيعاً وهو يقول :
- اه افتكرت ..ايوة كده اتعدلى معايا
خرج من الحمام وصلى ما فاته من صلوات وبمجرد أن انتهى سمع صوت قرع جرس الباب ووجد عزة تدخل عليه مسرعة وهى تقول:
- عمرو عمرو يالا تعإلى افتح الباب بسرعة
قال بسرعة وهو يتوجه للمطبخ :
- روحى افتحيلهم على ما اضربلى كام سندوشت على السريع كده
قالت بخجل :
- لا يا سيدى افتح انت انا مكسوفة
هز رأسه نفياً وقال :
- يعنى اموت من الجوع علشان سيادتك مكسوفة أمشى يا بت افتحى الباب
****
مضت الأيام المتبقية سريعاً وعاد الطير إلى عشه القديم تهفو نفسه إلى الأهل والأحباب , فتحت أم فارس ذراعيها وهى تعانق ولدها الذى ألقى بنفسه بين ذراعيها على الفور وكأنه يحتمى بها , كما كان يفعل فى الصغر ممن يخفيه , ولسان حاله يعتذر لها عن عدم طاعتها بتمسكه بهذه الدنيا الغادرة , رفع رأسه وقبل رأسها فى شوق كبير وهو يقول بعينين دامعتين :
- وحشتينى أوى يا أمى
قاطعته دنيا من خلفه وهى تقول بترم :
- أنا هفضل واقفة كده كتير
أفسحت لها أم فارس الطريق للدخول وهمت بمعنقتها هى الأخرى مرحبة بها ولكن دنيا اكتفت بمصافحتها ببرود وهى تقول :
- أهلا بيكى
أغلق فارس الباب خلفه واستدار لوالدته يعانقها مرة أخرى ويسأل عن حالها وصحتها بينما نهضت دنيا واقفة بحنق وهى تقول :
- طب هدخل أنا اريح شويه من السفر
ألتفتت لها والدته وهى تقول بابتسامة كبيرة :
- وماله يا حبيبتى ارتاحى انتِ على اعملكوا غدى هتاكلى صوابعك وراه
نظرت لها دنيا ببرود وقالت :
- لا متتعبيش نفسك أنا مش جعانة
نهضت أم فارس واقتربت منها وربتت على ظهرها وهى تقول بود:
- متعبش نفسى أيه.. أنتِ زى بنتى .. قوليلى بس تحبى تاكلى أيه وانا هعملهولك
أبتعدت عنها واتجهت لغرفتها وهى تقول بتثاقل :
- مفتكرش بتعرفى تطبخى الحاجات اللى بحبها
وقبل أن تدير مقبض حجرتها سمعت صوته الهادر وهو يستوقفها بغضب قائلاً:
- دنيااا
ألتفتت إليه لتجد الشرر يتطاير من عينيه وقال بقسوة :
- لما ماما تكلمك تردى عليها كويس
أنكمشت مكانها واستدارت إليه والدته وقالت على الفور:
- مفيش حاجة يابنى .. مقالتش حاجة غلط ...خلاص سيبها على راحتها
والتفتت إليها قائلة :
- ادخلى ارتاحى يابنتى
أسرعت دنيا بالدخول إلى غرفتها متفادية النظر إليه , فانحنى وقبل يد والدته وقال معتذراً:
- متزعليش يا ماما حقك عليا
ربتت على ظهره وهى تقول مبتسمة :
- أعذرها يابنى هى لسه مش متعوده عليا .. بكره لما تاخد عليا وتعرفنى كويس هتعرف انى أمها التانية مش حماتها زى ماهى فاكرة ..وانا بكره ان شاء **** هعزم الست والدتها تتغدى معانا هنا علشان تعرف اننا عيلة واحدة وانى زى أمها .
قبل رأسها وهو يقول :
- **** يديكى الصحة يا ماما
تركها واستدار إلى حقيبته الصغيرة وأخرج منها هاتف محمول صغير باللون الوردى وأعطاه لها قائلاً :
- ماما ممكن تدى ده لـ مُهرة ..هو فيه الخط بتاعه
نظرت والدته إلى الهاتف ثم نظرت إليه متسائلة :
- جايبلها تليفون ليه
قال بحرج :
- يعنى حبيت ارفع روحها المعنوية شوية.. أكيد هتفرح بيه
ثم تابع بارتباك :
- مش كده برضة ولا انا غلطان
أخذت منه الهاتف وأومأت برأسها وقالت ببطء:
- بعد الشر عنك من الغلط يابنى .. خلاص انا هديهولها ..أنا طالعالهم دلوقتى .. أدخل انت ارتاح مع عروستك ..بس انا هقولها انه هدية مني انا .. أتفقنا؟
ابتسم وقال بحرج :
- مش هتفرق يا ماما.. أنا وانتِ واحد .. المهم انها تتبسط وتخرج من حالتها دى شوية
****
نظرت مُهرة إلى الهاتف فى يديها وتأملته قليلاً ثم أعادته إلى أم فارس قائلة :
- أنا آسفه يا طنط .. أنا مش عاوزه حاجة
هتفت والدتها معاتبةً:
- ليه يابنتى ده هدية من خالتك ام فارس .. حد يرد الهدية
ربتت أم فارس على يدها بإشفاق وكأنها قرأت فى عينيها وهى تتفحصه انها علمت من الذى أحضره لها وقالت بهدوء:
- أنا كنت فاكراكى هتفرحى بيه.. كده برضة ترفضتى هديتى
نظرت لها مُهرة نظرة طويلة وقالت بشرود :
- عمرى ما رفضت هدية من ...من حضرتك .. وطول عمرى بفرح بالهدايا بس دلوقتى خلاص مبقتش تفرق معايا كتير
أقتربت منها أم فارس وأحاطت كتفها بذراعها وربتت على يدها الأخرى وقبلتها على وجنتها وقالت بتعاطف:
- تصدقى انك كبرتى فعلا ..بس لو ليا غلاوة عندك خديه
ثم همست فى أذنها:
- يا عبيطة بقولك ده هديتى انا .. ولا انا بقى خلاص راحت عليا مبقتش ليا غلاوة فى قلبك
قفزت دمعة من عينها فمسحتها سريعاً وهى تقول :
- متقوليش كده يا طنط ده انتِ اللى مربيانى
وضعته أم فارس فى يدها وهى تضغط على يدها برفق قائلة :
- خلاص يبقى تاخديه من سكات
قبضت عليه فى يدها وهى تقول :
- متشكرة أوى يا طنط **** يخليكى ليا
ابتسمت أمها بينما قبلتها أم فارس ثانية وقالت متسائلة :
- أخبار التنسيق أيه
نظرت مُهرة أمامها وقالت بجدية :
- لسه النتيجة بتاعته مطلعتش .. بس عموما مش هتفرق .. أى حاجة هتيجى هتعب واذاكر فيها لحد ما ابقى حاجة كبيرة أوى .. أنا دلوقتى ميهمنيش غير مستقبلى وبس.. هو ده اللى هينفعنى مش أى حاجة تانية
عزمت على نسيان ماضيها وحاولت أن تقتلعه من حياتها ولا تفكر سوى فى مستقبلها وفقط ولكن هذه هى طريقة تفكير الحالمون فقط , فالحالمون فقط هم من يعتقدون أن الانسان من الممكن أن ينفصل عن ماضيه وظروفه و بيئته التى كونت شخصيته وأصبحت جزء من تكوينه وبنيانه بل أصبحت جزء لا يتجزء من حاضره ومستقبله أيضاً .
****
اللي اللقاء في السلسله القادمه