جدو سامى 🕊️ 𓁈
كبير المشرفين
إدارة ميلفات
كبير المشرفين
مستر ميلفاوي
كاتب ذهبي
ناشر قصص
ناشر صور
ناشر أفلام
فضفضاوي متألق
ميلفاوي متميز
ميلفاوي كوميدي
إستشاري مميز
ميلفاوي شاعر
ناشر موسيقي
ميلفاوي سينماوي
ميلفاوي نشيط
ناشر قصص مصورة
نجم ميلفات
ملك الصور
ناقد قصصي
زعيم الفضفضة
مُوزِّع البريد - من كتاب أرني الـله - توفيق الحكيم
عرفته على شاطئ البحر، ذلك الشخص الغريب الذي يحمل محفظة كمَحافظ مُوزِّعي مصلحة البريد. كل شيء فيه ينمُّ عن الكسل والاسترخاء والغباء، حتى نظرته إلى الفضاء، كانت نظرة المخبول الشائعة الخائرة، وجلسته كانت جلسة المُتعب المرهق الضَّجِر من نفسه ومن الدنيا. لقد خُيِّل إليَّ أن قاموس هذا الشخص لا يحوي غير كلمة واحدة «أُف»!
دنوت منه، وقلت له برفق: إذا لم يخِب ظنِّي، فأنت مُوزِّع بريد في الإجازة.
– إجازة!
لفظها الرجل دون أن يلتفت إليَّ، وفي شبه ضحكة غيظٍ مكتوم، فقلت له: ولِمَ لا؟ أليس من حقِّك أن تنال إجازتك الأسبوعية؟
– إني لم أنل إجازةً يومًا واحدًا طول حياتي.
– يا لَظلم مصلحة البريد! أوَليس فيها نظام للإجازات؟!
– مصلحة بريد لا تعرف الإجازات يا سيدي!
– ماذا تقول؟
– تصوَّر يا سيدي الفاضل أني أقوم في كل يوم مع الفجر والطير، فآخذ محفظتي مملوءةً منتفخة برسائل عدد هذا الرمل، كل مَن على الأرض له فيها رسالة، وعليَّ أنا أن أطوف بكل مخلوق أُسلِّمه واحدة، بالعدل والقسطاس، إلى أن ينتهي اليوم، وبانتهائه يجب أن تفرغ المحفظة؛ لتُملأ في اليوم التالي من جديد برسائل جديدة تُوزَّع على الناس واحدةً واحدةً بالعدل والقسطاس، وهكذا دواليك، لا الأيام تنتهي، ولا الناس تفنى، ولا المحفظة تفرغ، لا شيء يفرغ غير صبري، ولكن ما حيلتي؟ لا بُدَّ لي من العمل، وإلَّا تراكمت عليَّ رسائل يومين، فأقع في حيص بيص!
– يا لَلعجب! أوَلا يُوجد في المصلحة موزعون غيرك؟
– لا يوجد غيري، أنا كل المصلحة.
– أهو إهمال أو سوء إدارة؟!
– لست أدري. لطالما تظلَّمت من كثرة العمل، فذهبت صیحاتي في الهواء، وانتهى بي الأمر إلى ما ترى من التواكل وقلة الاكتراث.
– وهل تتمكَّن من توزيع هذه الرسائل في يومك؟!
– إني أُوزِّعها حيثما اتُّفق، ولا يُطالب إنسان بأكثر مِمَّا يستطيع، ولم أرَ أحدًا حاسبني على خطأ ارتكبته، ولا بُدَّ أني ارتكبت بالضرورة كثيرًا من الأخطاء. المهم هو أني لا أرجع آخر الأمر برسالة واحدة في محفظتي.
•••
قالها وهو يفتح محفظته كأنما تذكَّر وجودها، فأبصرت فيها حقًّا عدد الرمل من الرسائل، فقلت له مرتاعًا: متى تُوزِّع كل هذا ونحن الآن في الضحى؟!
– لا تخشَ عليَّ، سأفعل ما أفعله كل يوم.
ومدَّ يده إلى صياد بقربنا ظل من مطلع الصبح لا يصطاد شيئًا، فدسَّ في جيبه عشرًا من الرسائل؛ فإذا شبكته تخرج برزق من السمك أذهله من العجب، وأرقصه من الفرح، وكان على بُعد منَّا جماعة من الصيادين يحاولون عبثًا أن يُخرجوا من البحر سمكة.
فقلت لصاحبي المُوزِّع مُشيرًا إليهم: وهؤلاء؟
فنظر إلى ناحيتهم، وقال مُتبرِّمًا: هؤلاء بعيدون عني. إني كما قلت لك رجل متعب، وما من شيء يضطرني إلى أن أقصد كل واحد منهم لأُعطيه رسالة. لقد أعطيت رسائلهم إلى هذا الصياد القريب.
– أوَتفعل هكذا برسائل الناس دائمًا؟
– طبعًا! وهل أنا من الجنون بحيث أوجع مفاصلي وأقطع أنفاسي جريًا وراء كل حي من عباد ****؟! إني أعطي مَن صادفني رسائل مَن لا يُصادفني، وأنا مُستريح في أمان ****!
•••
ومرَّت بقربه عندئذٍ عجوز حيزبون، كريهة الصوت، سيئة الخلق، تُخرج من ثوبها ورقة «يانصيب»، وتُنادي بائع صُحف لتكشف عن رقمها في الجريدة، وهي تأمره وتنهاه بلهجة دونها السباب وقاحةً، وخلفها غيد كالغزلان في أثواب «البلاج» يركضن على الرمال، ويُلوِّحن بأذرعهن الفضية، ويحملن في أيديهن البضَّة أوراقًا من هذا اليانصيب يُردن كذلك الكشف عنها، فاقتربت العجوز من المُوزِّع العجيب، فأخرج من محفظته ألف رسالة دسَّها في جيبها، فما كادت تكشف عن ورقتها حتى وجدت رقمها هو الرابح للجائزة الكبرى البالغة من الجنيهات ألوفًا، فصاحت بصوتها القبيح صياحَ الظَّفر والفرح والانتصار!
هنا طار صوابي وصحتُ فيه: اتقِ **** يا شيخ! وكُن صاحب نظر، إن لم تكن صاحب عدل. هذه الشمطاء الشوهاء التي يكره أن يضحك لها قبر، تُقبِل عليها أنت وتمنحها هذه النعمة، وعلى خطوات منها هؤلاء المليحات ينضح منهن الصبا فرِحاتٍ بالحياة، والحياة بهنَّ فرِحة، لا تُبصرهنَّ عينك، ولا يضحك لهن وجهك!
فدفعني عنه بيده وقال: اسكت! من فضلك اسكت! لو كان عليَّ أن أميِّز بين الربيع والخريف، والقبيح والمليح، وأن أفرز الذي يستحق مِمَّن لا يستحق، لما كنت أنهي شغلًا في يومي!
– أليس لكل إنسان عندك رسالة بنصيبه المماثل لنصيب أخيه؟
فصرخ في وجهي: قلت لكم لا أستطيع أن أفعل المستحيل! ارحموني! أما من أحد يرحمني أو يعذرني في الأرض أو في السماء؟! إنهم في السماء يقولون لي: «جلبت علينا بإهمالك سخط الناس!» وأنتم في الأرض تصيحون بي: «هذا أخذ وذلك لم يأخذ!» وأنا وحدي المظلوم؛ بصري كلَّ، وعقلي اختلَّ من إرهاقي بالعمل أجيالًا بعد أجيال. احمدوا ربكم أيُّها الناس، إن عيني تُبصر أشباحكم، وإني أنثر عليكم كل ما في محفظتي يومًا بعد يوم، ذلك أقصى قدرتي! مَن دنا مني أو دنوت منه أخرجت له وأعطيته ما لمس أصابعي، ما وقع في قبضتي، ما التقطته من المحفظة، أو ما عرفته وفقًا للمصادفات وتبعًا للظروف، أمَّا أن أُوزِّع بالعدل والقسطاس على كل إنسان نصيبه المُماثل لنصيب أخيه؛ فهذا عمل يحتاج إلى جري لا تحتمله ساقاي، وجُهد تعجز عنه قواي. اتهموني بالكسل ما شئتم، أو بالظلم، أو بالإهمال، فلن أصنع أبدًا غير ما ترون، ومَن له شكوى فليُعلِنها ما شاء، فإن عدد الشكاوى التي تُقدَّم كل يوم في حقي تبلغ عدد هذا الرمل أيضًا.
•••
وانصرف عني وعن الشاطئ ذلك «المُوزِّع العجيب»، وتركني سابحًا في أفكاري، غارقًا في تأمُّلاتي إلى أن نبَّهتني صيحات الفرح من الصياد المحظوظ، وضحكات الغبطة من الرابحة العجوز، فنهضت أركض خلفه كالمجنون: أيُّها الموزع! انتظر، نسيت أن أطلب إليك، أعطني رسائلك، اغرف لي من محفظتك!
•••
لكنَّه كان قد اختفى، وقعدت أنا على الشاطئ يائسًا لا أجد غير رماله تغرف منها قبضتي، وغير بناني أعضه ندمًا وأقول: لعنة **** عليَّ! كان «الحظ» ها هنا إلى جانبي بمحفظته المملوءة؛ يُعطي منها بغير حساب! ولكنَّها الفلسفة، قاتلها ****، شغلتني عن مصلحتي، وشغلته عن إعطائي، فضاع الوقت معه في الكلام، ولم أظفر من لقائه بغير كلام! ولو لم يمتد فكري إليه لامتدَّت يده إليَّ، ولكنتُ اليوم روتشيلد، وروكفلر، وقارون!
عرفته على شاطئ البحر، ذلك الشخص الغريب الذي يحمل محفظة كمَحافظ مُوزِّعي مصلحة البريد. كل شيء فيه ينمُّ عن الكسل والاسترخاء والغباء، حتى نظرته إلى الفضاء، كانت نظرة المخبول الشائعة الخائرة، وجلسته كانت جلسة المُتعب المرهق الضَّجِر من نفسه ومن الدنيا. لقد خُيِّل إليَّ أن قاموس هذا الشخص لا يحوي غير كلمة واحدة «أُف»!
دنوت منه، وقلت له برفق: إذا لم يخِب ظنِّي، فأنت مُوزِّع بريد في الإجازة.
– إجازة!
لفظها الرجل دون أن يلتفت إليَّ، وفي شبه ضحكة غيظٍ مكتوم، فقلت له: ولِمَ لا؟ أليس من حقِّك أن تنال إجازتك الأسبوعية؟
– إني لم أنل إجازةً يومًا واحدًا طول حياتي.
– يا لَظلم مصلحة البريد! أوَليس فيها نظام للإجازات؟!
– مصلحة بريد لا تعرف الإجازات يا سيدي!
– ماذا تقول؟
– تصوَّر يا سيدي الفاضل أني أقوم في كل يوم مع الفجر والطير، فآخذ محفظتي مملوءةً منتفخة برسائل عدد هذا الرمل، كل مَن على الأرض له فيها رسالة، وعليَّ أنا أن أطوف بكل مخلوق أُسلِّمه واحدة، بالعدل والقسطاس، إلى أن ينتهي اليوم، وبانتهائه يجب أن تفرغ المحفظة؛ لتُملأ في اليوم التالي من جديد برسائل جديدة تُوزَّع على الناس واحدةً واحدةً بالعدل والقسطاس، وهكذا دواليك، لا الأيام تنتهي، ولا الناس تفنى، ولا المحفظة تفرغ، لا شيء يفرغ غير صبري، ولكن ما حيلتي؟ لا بُدَّ لي من العمل، وإلَّا تراكمت عليَّ رسائل يومين، فأقع في حيص بيص!
– يا لَلعجب! أوَلا يُوجد في المصلحة موزعون غيرك؟
– لا يوجد غيري، أنا كل المصلحة.
– أهو إهمال أو سوء إدارة؟!
– لست أدري. لطالما تظلَّمت من كثرة العمل، فذهبت صیحاتي في الهواء، وانتهى بي الأمر إلى ما ترى من التواكل وقلة الاكتراث.
– وهل تتمكَّن من توزيع هذه الرسائل في يومك؟!
– إني أُوزِّعها حيثما اتُّفق، ولا يُطالب إنسان بأكثر مِمَّا يستطيع، ولم أرَ أحدًا حاسبني على خطأ ارتكبته، ولا بُدَّ أني ارتكبت بالضرورة كثيرًا من الأخطاء. المهم هو أني لا أرجع آخر الأمر برسالة واحدة في محفظتي.
•••
قالها وهو يفتح محفظته كأنما تذكَّر وجودها، فأبصرت فيها حقًّا عدد الرمل من الرسائل، فقلت له مرتاعًا: متى تُوزِّع كل هذا ونحن الآن في الضحى؟!
– لا تخشَ عليَّ، سأفعل ما أفعله كل يوم.
ومدَّ يده إلى صياد بقربنا ظل من مطلع الصبح لا يصطاد شيئًا، فدسَّ في جيبه عشرًا من الرسائل؛ فإذا شبكته تخرج برزق من السمك أذهله من العجب، وأرقصه من الفرح، وكان على بُعد منَّا جماعة من الصيادين يحاولون عبثًا أن يُخرجوا من البحر سمكة.
فقلت لصاحبي المُوزِّع مُشيرًا إليهم: وهؤلاء؟
فنظر إلى ناحيتهم، وقال مُتبرِّمًا: هؤلاء بعيدون عني. إني كما قلت لك رجل متعب، وما من شيء يضطرني إلى أن أقصد كل واحد منهم لأُعطيه رسالة. لقد أعطيت رسائلهم إلى هذا الصياد القريب.
– أوَتفعل هكذا برسائل الناس دائمًا؟
– طبعًا! وهل أنا من الجنون بحيث أوجع مفاصلي وأقطع أنفاسي جريًا وراء كل حي من عباد ****؟! إني أعطي مَن صادفني رسائل مَن لا يُصادفني، وأنا مُستريح في أمان ****!
•••
ومرَّت بقربه عندئذٍ عجوز حيزبون، كريهة الصوت، سيئة الخلق، تُخرج من ثوبها ورقة «يانصيب»، وتُنادي بائع صُحف لتكشف عن رقمها في الجريدة، وهي تأمره وتنهاه بلهجة دونها السباب وقاحةً، وخلفها غيد كالغزلان في أثواب «البلاج» يركضن على الرمال، ويُلوِّحن بأذرعهن الفضية، ويحملن في أيديهن البضَّة أوراقًا من هذا اليانصيب يُردن كذلك الكشف عنها، فاقتربت العجوز من المُوزِّع العجيب، فأخرج من محفظته ألف رسالة دسَّها في جيبها، فما كادت تكشف عن ورقتها حتى وجدت رقمها هو الرابح للجائزة الكبرى البالغة من الجنيهات ألوفًا، فصاحت بصوتها القبيح صياحَ الظَّفر والفرح والانتصار!
هنا طار صوابي وصحتُ فيه: اتقِ **** يا شيخ! وكُن صاحب نظر، إن لم تكن صاحب عدل. هذه الشمطاء الشوهاء التي يكره أن يضحك لها قبر، تُقبِل عليها أنت وتمنحها هذه النعمة، وعلى خطوات منها هؤلاء المليحات ينضح منهن الصبا فرِحاتٍ بالحياة، والحياة بهنَّ فرِحة، لا تُبصرهنَّ عينك، ولا يضحك لهن وجهك!
فدفعني عنه بيده وقال: اسكت! من فضلك اسكت! لو كان عليَّ أن أميِّز بين الربيع والخريف، والقبيح والمليح، وأن أفرز الذي يستحق مِمَّن لا يستحق، لما كنت أنهي شغلًا في يومي!
– أليس لكل إنسان عندك رسالة بنصيبه المماثل لنصيب أخيه؟
فصرخ في وجهي: قلت لكم لا أستطيع أن أفعل المستحيل! ارحموني! أما من أحد يرحمني أو يعذرني في الأرض أو في السماء؟! إنهم في السماء يقولون لي: «جلبت علينا بإهمالك سخط الناس!» وأنتم في الأرض تصيحون بي: «هذا أخذ وذلك لم يأخذ!» وأنا وحدي المظلوم؛ بصري كلَّ، وعقلي اختلَّ من إرهاقي بالعمل أجيالًا بعد أجيال. احمدوا ربكم أيُّها الناس، إن عيني تُبصر أشباحكم، وإني أنثر عليكم كل ما في محفظتي يومًا بعد يوم، ذلك أقصى قدرتي! مَن دنا مني أو دنوت منه أخرجت له وأعطيته ما لمس أصابعي، ما وقع في قبضتي، ما التقطته من المحفظة، أو ما عرفته وفقًا للمصادفات وتبعًا للظروف، أمَّا أن أُوزِّع بالعدل والقسطاس على كل إنسان نصيبه المُماثل لنصيب أخيه؛ فهذا عمل يحتاج إلى جري لا تحتمله ساقاي، وجُهد تعجز عنه قواي. اتهموني بالكسل ما شئتم، أو بالظلم، أو بالإهمال، فلن أصنع أبدًا غير ما ترون، ومَن له شكوى فليُعلِنها ما شاء، فإن عدد الشكاوى التي تُقدَّم كل يوم في حقي تبلغ عدد هذا الرمل أيضًا.
•••
وانصرف عني وعن الشاطئ ذلك «المُوزِّع العجيب»، وتركني سابحًا في أفكاري، غارقًا في تأمُّلاتي إلى أن نبَّهتني صيحات الفرح من الصياد المحظوظ، وضحكات الغبطة من الرابحة العجوز، فنهضت أركض خلفه كالمجنون: أيُّها الموزع! انتظر، نسيت أن أطلب إليك، أعطني رسائلك، اغرف لي من محفظتك!
•••
لكنَّه كان قد اختفى، وقعدت أنا على الشاطئ يائسًا لا أجد غير رماله تغرف منها قبضتي، وغير بناني أعضه ندمًا وأقول: لعنة **** عليَّ! كان «الحظ» ها هنا إلى جانبي بمحفظته المملوءة؛ يُعطي منها بغير حساب! ولكنَّها الفلسفة، قاتلها ****، شغلتني عن مصلحتي، وشغلته عن إعطائي، فضاع الوقت معه في الكلام، ولم أظفر من لقائه بغير كلام! ولو لم يمتد فكري إليه لامتدَّت يده إليَّ، ولكنتُ اليوم روتشيلد، وروكفلر، وقارون!
التعديل الأخير: