المُخرِج
(قاعة العرض الخاصة في «استودیو» سینمائي … مهندس العرض يُصلح جهاز الميكروفون في أسفل «الشاشة» الصغيرة … يدخل عليه مهندس الصوت وفي يده جريدة.)حسنين : أنت هنا؟ … ألم تمشِ في الجنازة؟
رئيس التحرير : لا يا سيدي … أمر حضرة المخرج! … قال لي العمل أهم من العواطف، وأوصاني بالبقاء هنا في انتظاره لعرض النسخة النهائية للشريط.
مهندس الصوت : رحمة **** على «سمیر ذهني»! … كانت جنازته رائعة كموتته!
مهندس العرض : أتسمي موتته رائعة؟
مهندس الصوت : وهل في هذا شك؟ … إني لو كنت ممثلًا لَما تمنيت أن أموت إلا هكذا … هذا يا صديقي أعظم دليل على أنه أتقن دوره في التمثيل إتقانًا بلغ به …
مهندس العرض : بلغ به الدار الآخرة! … ما علينا، هل نُشر الحادث في الصحف؟
مهندس الصوت (يفتح الجريدة في يده) : طبعًا … اسمع ما نُشر اليوم: «نجم سينمائي يقتل آخر … وقعت صباح أمس جناية عجيبة لم يسبق لها مثيل … فقد رُوِّعت العاصمة بنبأ قتل نجم السينما المعروف «سمير ذهني»، وتفصيل الخبر أن القتيل كان يقوم بتمثيل دور «یاجو» في فيلم «عطيل» الذي يجري إخراجه الآن في استوديو «وادي النيل» … وبينما كان «سمير» جالسًا في أحد المقاهي، إذ مر به زميله النجم المعروف «أحمد علوي» القائم بدور «عطیل» في نفس الفيلم … فما كاد هذا الأخير يرى الأول حتى هجم عليه، وأخرج من جيبه مُدية طعنه بها وهو يصيح: «أليس في السماء صواعق غير تلك التي تصحب الرعود؟! … أيها الوغد أيها الدنيء!» وقد ظهر من التحقيق أن النجم الجاني أُصيب بخلل في قواه العقلية من أثر الإجهاد الفني، والإرهاق العصبي، جعله لا يفرق بين الحقيقة والتمثيل، ويعتقد أنه هو القائد المغربي «عطیل» الذي قتل زوجته الجميلة البريئة «دیدمونة» ظلمًا، من فرط الغَيرة التي أثارها في قلبه إفكًا وافتراء ملازمه الخائن «ياجو» … وقد أُرسل القاتل «أحمد علوي» إلى الطبيب الشرعي لفحصه وتقديم التقرير الرسمي عنه إلى النيابة العمومية».
مهندس العرض : حقًّا، لقد أرهق أعصابه … إني كنت ألاحظ عليه بوادر غريبة في الأيام الأخيرة … ولكني ما كنت أتصور الأمر يصل إلى حد الخطورة … إنه الآن مقبوض عليه … أليس كذلك؟
مهندس الصوت : أتخاف على نفسك؟ … اطمئن … لن يكون لك مثل هذا الشرف!
(تُسمع جلبة في الخارج.)
مهندس العرض : صه! … لقد حضر!
المخرج (يدخل مسرعًا وهو يخلع جاكتته) : هلموا إلى العمل إلى العمل! … كل شيء جاهز؟
مهندس العرض : جاهز … أنبتدئ؟
المخرج : في الحال! … أين المساعد؟
المساعد (يدخل في أعقابه) : موجود … عجبًا … ألم أكن بجوارك دائمًا في الجنازة؟ … من الذي هيَّأ لك فرصة الهرب من المقبرة؟
المخرج : أهذا من واجباتك؟
المساعد : لا، ليس من واجباتي ذلك … إني مكلف فقط أن أهيئ لك أعمال الإخراج في الاستوديو … لا أعمال إخراجك من المقابر!
المخرج : من جميع المآزق! … إني لم أُخلق للسير في الجنازات، وتضييع الوقت في المجاملات.
المساعد : ولكنه ممثلك … ونجمك … وضحية «فيلمك»، أنت ليس لك قلب.
المخرج : يكفيني أن يكون لي عقل.
المساعد : بعد تلك المأساة لم تَعُد لي ثقة في عقل أحد.
المخرج : اخرس … نور … أطفئوا النور … ابدءوا العرض … مشهد «یاجو» و«عطیل».
(يُطفأ النور … ويبدأ عرض مشهد من فيلم «عطيل» … ولا تُرى الشاشة على المسرح، فهي في رُکن مختفٍ بعيد … ولكن يُسمع صوت «ياجو» في الفيلم يمثله القتيل «سمير ذهني» وهو يحاور «عطيل» الذي يمثله القاتل «أحمد علوي».)
ياجو : لو أني أعطيت زوجتي منديلًا …
عطيل : وبعد؟
ياجو : لقد وقع في ملكها … وما دام قد وقع في ملكها … فإن من حقها، فيما أرى، أن تمنحه من تشاء!
عطيل : شرفها أيضًا ملكها؛ فهل يحق لها التصرف فيه؟
ياجو : شرفها جوهر مستور … هنالك كثيرات صاحبات شرف … وهن لا يملكنه … ولكن المنديل …
عطيل : ماذا تقول؟ … تريد أن تقول إن منديلي معه؟
ياجو : نعم … لو أني قلت إني رأيته لأثرت غضبك!
عطيل : المنديل … فليعترف! … وليشنق عقابًا له … ليشنق أولًا … وليعترف بعد ذلك … إني أرتجف … هذا مستحيل … أريد اعترافًا … يا للشيطان!
(المخرج يصفق بيديه في الظلام.)
المخرج : نور! … نور!
(يقف العرض وتضاء القاعة.)
المساعد : ما الذي لم يعجبك؟
المخرج : «ياجو» يبالغ في حركاته.
المساعد : وما العمل الآن؟
المخرج : يجب أن يُعاد المشهد.
المساعد : أي مشهد؟
المخرج (مشيرًا إلى ناحية الشاشة) : هذا!
المساعد : حسبتك تقصد «مشهدًا» آخر … أنسيت أنه الآن راقد في المقبرة؟
المخرج : لا سبيل إذن إلى تغيير شيء … فرض علينا سوء تمثيله فرضًا … وذهب.
المساعد : لست أراه أساء التمثيل … إنه متقمص شخصيته؛ بدليل أنه أثار «عطيل» إلى حدِّ دفعه إلى قتله!
المخرج : قتله على القهوة … لا على الشاشة … إني أريد أن يثيره هنا، بحركاته الطبيعية وتمثيله المتقن … إني مخرج … لا تنسَ أني مخرج … لا يهمني إلا ما يحدث هنا على شاشة السينما!
المساعد : ما حدث في الحياة — خارج السينما — يجب أن يهمك أيضًا، ويقيم لك الدليل.
المخرج : الحياة؟ … الحياة هي هذه … التي أخلقها بيدي هنا … فوق هذه الشاشة! … وإني لا أحاسب الممثلين إلا على ما يصنعونه ها هنا … وما يحدث لهم، ويحدثونه فوق هذه الشاشة.
المساعد : ألك اعتراض آخر على عمل «ياجو»؟ … أقصد «ذهني» خلاف الإسراف في الحركات؟
المخرج : أوَتستهين بالإسراف؟
المساعد (يتنهد) : رحمة **** عليك يا «ذهني» … لقد ترك لك حياتك … وذهب … واستراح … ومع ذلك لم يسلم من نقدك وحسابك!
المخرج : إنه في نظري لم يذهب، إنه هنا دائمًا.
(يشير إلى الشاشة.)
المساعد : نعم … هنا دائمًا، والآن وأنا أسمع صوته، وأرى وجهه، أخذتني رعدة، وقلت في نفسي: ما الذي ذهب منه إذن؟ مواد عفنة في كفن … أما هو بصوته وصورته، فيعيش في ظلام الأبدية؛ كما يعيش أمامنا في ظلام هذه القاعة!
المخرج : على شريط مسجل.
المساعد : نحن أيضًا … جميعنا.
المخرج : من له دور فقط. أطفئوا النور؛ لنرى خاتمة الرواية: الجزء الأول من خاتمة الرواية من فضلك. أطفئوا النور! … مشهد «ياجو» مع زوجته «إميليا» و«عطیل».
(يُطفأ النور في القاعة من جديد ويبدأ العرض.)
إميليا (لزوجها «ياجو») : هو يزعم أنك قلت له إن امرأته خائنة. أعرف أنك لم تقُل ذلك … ما أحسبك شقيًّا إلى هذا الحد؟
ياجو : قلت له ما أعتقد.
إميليا : أقلت له إنها خائنة؟
ياجو : قلت له ذلك.
إميليا : لقد قلت كذبًا … ولفظت إفكًا … كذبًا مروعًا! … كذبًا ملعونًا!
ياجو : أمسكي لسانك.
إميليا : لن أمسك لساني … يجب أن أطلقه بالكلام … إن مولاتي … «ديدمونة»، هنا طريحة على فراشها مقتولة! … وبسببك أنت یا زوجي … تمت هذه الجريمة!
ياجو : إنكِ جننت … اذهبي إلى بيتك!
عطيل : ديدمونة!
إميليا : لقد قتلت یا «عطیل» زوجتك البريئة! … قتلت البراءة في طهارتها وصفائها!
عطيل : كانت مجرمة … ولقد خنقتها بيدي … وإني لأعلم أن هذا فعل قاسٍ فظيع … ولكن «ياجو» يعلم أنها ارتكبت الخطيئة أكثر من ألف مرة، وكانت تكافئ عشاقها بما آثرتها به من هدية؛ ذلك المنديل!
إميليا : أيها المغربي الأحمق، ذلك المنديل! … أنا الذي وجدته بالمصادفة وأعطيته لزوجي؛ فهو الذي كان يُلحِف عليَّ بالرجاء أن أسرقه!
ياجو : يا لكِ من عاهرة!
إميليا : هرب … وطعنني … أمسكوا به … لقد هرب … لقد دفعك أيها الأحمق إلى قتل زوجتك الطيبة!
عطيل : أيها الوغد! … أيها الدنيء! … أليس في السماء صواعق غير تلك التي تصحب الرعود؟
(صوت في القاعة يصيح.)
الصوت : لقد وجدته، لقد قتلته.
المخرج (صائحًا) : من هذا؟ … نور! … نور!
(يقف العرض، وتضاء القاعة.)
المساعد (یری صاحب الصوت فيلفظ صيحة مكتومة) : علوي!
علوي : لقد وجدته … قتلته.
المخرج : كيف جاء هنا؟
المساعد (هامسًا) : فر ولا شك من يد البوليس! … خذه بالرفق.
علوي (متجهًا إلى المخرج متوعدًا) : أين «ديدمونة»؟
المخرج (في حيرة) : ديدمونة؟
علوي : ديدمونة … المسكينة المظلومة أين هي؟ … أين هي؟
المخرج : ألم تخنقها بيديك؟
علوي : أريد أن أطبع على جبينها الطاهر قبلة … أين جثمانها المسجى فوق الفراش؟ … أريد أن أقبلها قبلة الوداع … وأهمس في أذنها أني انتقمت لها من الواشي الدنيء «ياجو» … حذارِ أن تكونوا قد ذهبتم بها إلى القبر. حذارِ أن تكونوا قد دفنتموها في غيبة مني … ما لي أراكم واجمين هكذا؟ … ما لكم قد وقفتم بلا حَراك كأنكم أموات! … ولماذا تنظرون إليَّ هكذا؟ … إنها قد دفنت … أليس كذلك؟ … تكلموا … هل دفنت؟ … (يمسك المخرج من عنقه) هل دفنت؟
المخرج (يخلص نفسه) : لم ندفن أحدًا!
علوي : أين هي إذن؟
المخرج (صائحًا) : أخرجني من هذه الكارثة … حالًا … أيها المساعد!
المساعد (في اضطراب يتقدم) : حاضر … أخرجك حالًا!
علوي (للمخرج) : أين هي؟ … أين هي؟
المخرج (يشير إلى المساعد) : سل هذا … هذا هو الذي يعرف!
المساعد (خائفًا) : نعم أعرف.
علوي (يتجه إلى المساعد) : أين هي؟ … أين هي؟
(يمسك بعنق المساعد بقبضة قوية.)
المساعد : من هي؟
علوي (بصيحة) : «ديدمونة»!
المساعد (يخلص نفسه عبثًا) : ديدمونة … إنها في …
علوي : أين؟ … أين؟
المساعد : في منزلها … «ديدمونة» في منزلها.
علوي : منزلها؟ … أين؟ … أين؟
المساعد : في شبرا … في شارع «الترعة البولاقية» بشبرا.
علوي : أجننت؟
المساعد (يحاول التخلص) : لا! … اترك رقبتي قليلًا … وأنا أتذكر لك رقم بيتها ورقم التلفون.
المخرج (باحثًا حوله عن نجدة) : أين ذهب الجميع؟ … أما من أحد يطلب البوليس؟
المساعد : أو يحضر له هذه النجمة الناشئة! … هذا الوجه الجديد التي مثلت الدور! … إنها تسكن «شبرا» … اسألوا «الريجسير» عن العنوان.
علوي (للمساعد) : مجنون! … يَهْرِف بكلام غير مفهوم!
المساعد : مضبوط! … أنا المجنون اتركني! … أرجوك! … أرجوك يا «علوي» … «علوي».
علوي : من؟ … من تنادي؟
المساعد : علوي! … عطیل! … یا «عطیل»!
علوي : نعم! … أنا عطيل عرفتني الآن؟ … أخبرني أين «دیدمونة»، وأنا أتركك!
المساعد : اسمع يا «عطیل» … أعدك بشرفي أنك ستراها بعد قليل! … استرح لحظة … وأنا أذهب بك إليها.
علوي : لا أريد أن أستريح.
المساعد : ولكن رقبتي تريد أن تستريح … كيف أذهب بك إلى ديدمونة … وأنت تخنقني هكذا؟
علوي (يتركه) : تركتك … هلم بنا إليها.
المساعد : يخرج علبة سجائره ويقدم إلى «علوي» سيجارة.
علوي (يتناول واحدة بحركة آلية غريزية) : هلم بنا.
المساعد : انتظر حتى أشعل لك … (يشعل له سيجارته) هذه «مصري» وأنت يا … «عطيل» لا تدخن عادة إلا «أمريكاني».
علوي : ماذا تقول؟ … أسرع بي إلى «ديدمونة».
المساعد : حالًا … یا مولاي.
المخرج : لماذا تتلكأ؟ … اذهب به في الحال إلى «ديدمونة» … (بصوت خافت) إلى أقرب نقطة للبوليس!
المساعد (يقوده علوي) : هيا بنا يا «عطيل»! إلى زوجتك الطاهرة البريئة! (يخرج به.)
مهندس العرض (يدخل) : انصرف؟
المخرج : انتظرت حتى انصرف؟! … أين كنت طول الوقت؟ … كنت بجوار آلة العرض، تشاهد ما يجري من خلال الثقب!
المهندس : حقًّا لقد رأيت مشهدًا عجيبًا!
المخرج : مشهدًا عجيبًا؟
المهندس : «عطیل» على الشاشة في عصره وثيابه وبيئته … ثم «عطیل» هنا في عصرنا وبيئتنا وثيابنا!
المخرج : هذا الممثل قد فقدناه … ولم يعد يصلح للعمل.
المهندس : نعم … مع الأسف! … لا لذنب جناه سوى أنه أتقن عمله، وأخلص لدوره، فعاش فيه داخل الشاشة وخارج الشاشة!
المخرج : هذا النوع من الإخلاص له اسم آخر عند أطباء الأمراض العقلية.
المهندس : نعم … كل تفانٍ في الإخلاص هو إلى حدٍّ ما نوع من الجنون!
المخرج : يجب على الممثل أن يلبس لكل حالٍ لبوسها.
المهندس : ليس الممثل وحده … كل من نضفي عليه صفة العقل.
المخرج : الفن التمثيلي يقتضي أن نفرق بين عالم الوهم وعالم الحقيقة … وأن نخلع ثوب أحدهما لنرتدي ثوبَ الآخر، وهذا يحتاج إلى فطنة ويقظة ذهن … كل ممثل هو رجل عاقل.
المهندس : وكل رجل عاقل هو ممثل.
المخرج : كارثة «علوي» هي أنه لم يخلع دور «عطیل» … واستمر في عالم الوهم … بعد تركه هذا الاستديو.
المهندس : لقد اعتقد أنه يعيش في عالم حقیقي.
المخرج : هذا خطأ.
المهندس : خطأ مَن؟ … خطؤه هو، أو خطأ المخرج؟ … الذي أمره أن يعيش الدور كما لو كان حقيقة … وأعلن إليه أنه سيحاسبه على هفواته حسابًا عسيرًا؟ … لقد صدَّق المخرج، وعاش دوره واندمج فيه، وأخلص له واستمر عليه.
المخرج : ما هذا الكلام؟ … أتريد أن تقول إني أنا الذي دفعت به إلى هذا الخلط والخبَل؟
المهندس : لا … لا أقصد ذلك … إنما قصدت أنه لا يوجد في الأمر خلط ولا خبَل … هذا الرجل منطقي مع نفسه.
المخرج : أجننت؟ … أنت أيضًا!
(جلبة في الخارج وصوت نسائي رقيق يطلب مقابلة المخرج … ثم تدخل فتاة في نحو الرابعة والعشرين.)
فتاة (داخلة باندفاع) : أين المخرج؟
المخرج : أنا هو … وحضرتك؟
الفتاة : بنت أخت الممثل «علوي» … علمت أن خالي «علوي» هرب من عند الطبيب الشرعي، وقيل لنا إنه جاء إلى هنا!
المخرج : نعم … كان هنا منذ قليل … وانصرف.
الفتاة : انصرف؟ … إلى أين؟
المخرج : إلى الجهة التي جاء منها.
الفتاة : عجبًا! … ذهب إليها هكذا … بقدمَيه؟!
المخرج : طبعًا بقدمَيه، وكيف يذهب إذن؟
المهندس (متدخلًا) : الآنسة تقصد …
المخرج : الآنسة تستطيع عرض ما تريد … دون حاجة إلى مهندس عرض.
المهندس (وهو يتحرك ليخرج) : سأذهب بالشريط إلى «المونتاج»!
المخرج : تحسن صنعًا.
المهندس : لن يقطع منه شيء بالطبع؟
المخرج : لا.
(المهندس يخرج.)
الفتاة : وكيف كانت حالته؟ … ألم يزَل …
المخرج : نعم ولم يزَل … في دور عطیل!
الفتاة : حادث محزن حقًّا … أسرته كلها في حال يرثَى لها من القلق، والانزعاج! … نحن في حيرة … لا ندري ما نصنع.
المخرج : لا تصنعوا شيئًا … دعوا الحكومة تتكفَّل بالأمر … إن وجوده بينكم الآن على هذه الصورة أصبح مستحيلًا.
الفتاة : هذا ما أرى.
المخرج : أغلب ظني أن هذه أول مرة تأتين فيها إلى هذا الاستديو.
الفتاة : نعم.
المخرج : كيف لم يخطر في بالكِ أن تأتي لزيارة خالك أثناء عمله في «الفيلم»؟
الفتاة : كنت مشغولة بعملي في الكلية.
المخرج : تعملين في كلية؟
الفتاة : طالبة في كلية الآداب … قسم الفلسفة.
المخرج : لو رأيتكِ قبل الآن لاقترحت عليكِ عملًا أهم من ذلك.
الفتاة : ما هو؟
المخرج : أن تقومي أنت بدور «ديدمونة».
الفتاة (بابتسامة) : إني أفضل دوري الذي أقوم به الآن … التخصص في التصوف الإسلامي وإعداد رسالة لنيل «الماجستير».
المخرج (يتأملها) : فيلسوفة! … بهذا القوام الدقيق … والوجه «الفوتوجنيك».
الفتاة : إني ممثلة رديئة … في الحياة … لا أعيش الدور، بقدر ما أفكر فيما وراءه … وفيمن يحركه!
المخرج : لا … لا ينبغي أن تفكري إلا في تقمص دورك … لا في المخرج الذي يحركه … لا شأن لكِ بالمخرج … وأنتِ تقومين بالدور … هو الذي يفكر في عملك … أما أنت فلا يجب أن تفكري في عمله.
الفتاة : ليتني أستطيع ذلك.
المخرج : تستطيعين … على عهدتي.
الفتاة : لا أستطيع … إني أعرف نفسي … إني أفكر في المخرج … لا في الدور … إنه هو الذي يشغل بالي وتفكيري وعقلي وقلبي.
المخرج : تحبينه إلى هذا الحد؟
الفتاة : نعم.
المخرج : من هو هذا المخرج؟ … لقد مارست التمثيل إذن؟
الفتاة : نعم … أوَلم أقل لك إني ممثلة رديئة … شأن كل فيلسوف … لأني أترك الدور وأحملق في المخرج!
المخرج : وماذا جرى … بينكما؟
الفتاة : لا شيء … لم أزل أحملق فيه بعيون مشدوهة!
المخرج : وأي عيون! … إن هذا ولا شك يملؤه سرورًا واغتباطًا!
الفتاة : أرجو على الأقل ألَّا يغضبه ذلك.
المخرج : يغضبه ذلك؟ … أن يرى مثلكِ تعنَى به كل هذه العناية … من هو؟ … من هو هذا المخرج المحظوظ؟
الفتاة : لقد بلغ من عنايتي به أني كرَّست حياتي أكتب صفحات وصفحات.
المخرج : ماذا؟ مذكرات … غرامية.
الفتاة : بل … رسالة جامعية … موضوعها «البرهان على وجود ****».
المخرج (مصدومًا) : وما هي المناسبة؟
الفتاة : ألا ترى ذلك مناسبًا؟ … أما أنا فأراه أقل ما ينبغي أن أفعل من أجله!
المخرج : من أجل من؟
الفتاة : لا تنظر إليَّ هذه النظرات … ولا تظن بي الظنون … لا تتعجل … سأجعل عقلك يستريح.
المخرج (وهو ينظر إليها فاحصًا) : عقلي أنا؟ … مستريح … ولكن …
الفتاة : ولكن الموضوع دقيق على الفهم … لست أجهل ذلك.
المخرج : حقيقة … إني … لم أفهم كثيرًا.
الفتاة : فلنحاول تقريب الموضوع إلى أذهاننا … أخبرني أولًا … ما هي فكرتك عن ****؟
المخرج : فكرتي عن ****؟
الفتاة : لماذا تنظر إليَّ هكذا؟ … نعم فكرتك عن ****، أجب!
المخرج : إني … إني لم أره حتى أجيب!
الفتاة : هل من الضروري أن تراه … لتكوِّن عنه فكرة؟
المخرج : وكيف أكوِّن عنه فكرة بدون أن أراه؟
الفتاة (تشير إلى الشاشة المختفية في الركن) : انظر إلى هذه اللوحة … إلى هذه الشاشة … عندما تعرض عليها رواية من إخراجك … مثل رواية عطيل … هل يراك الجمهور؟
المخرج : لا بالطبع … إن المخرج لا يظهر.
الفتاة : ومع ذلك يستطيع الجمهور أن يكوِّن فكرة عنك، وعن إخراجك وأسلوبك وروحك.
المخرج (كمن فطن) : هذا صحيح.
الفتاة : افرض إذن أن شخصًا انصرف بعد مشاهدة الرواية يقول: «لقد أبصرت بعيني ممثلين يتحركون وحوادث تتعاقب، ولكني لم أبصر بعيني ذلك الذي يسمونه المخرج، ويزعمون أنه هو الذي حركهم ونسَّقهم ودبر أمرهم … إن «المخرج هذا … حديث خرافة!» ماذا يكون قولك في مثل هذا الشخص الذي ينكر وجودك؟
المخرج : أقول إنه حمار.
الفتاة : الحمد ***.
المخرج : ومَن هذا الذي يجهل الآن أن المخرِج هو كل شيء في الرواية؟ … تأمَّلي جيدًا أي فيلم سينمائي … هل تظنين حوادثه ومفاجآته تقع بالمصادَفة؟ … أو تتتابع من تلقاء نفسها، وأشخاصه تحيا وتتصرف اعتباطًا أو ارتجالًا؟ … مستحيل أن يكون الأمر كذلك! ولكن الواقع هو أن خلف كل ما ترين فوق الشاشة فكرًا مستترًا، هو الذي وضع الخُطة وربَط الحوادث وحبَك المواقف، وسيَّر كل شخصية في طريقها المرسوم … هذا الفكر المستتر وراء كل ما تشاهدين هو أنا … أي المخرج.
الفتاة : أنت المسئول إذن عن كل ما يجري على الشاشة.
المخرج : طبعًا.
الفتاة : والممثلون؟ … لا ينبغي إذن أن يكونوا موضع ثواب أو حساب.
المخرج : من قال لكِ ذلك؟ … أنسيت أن لي أوامر وتنبيهات وتعليمات؟! … إن من اتبع من الممثلين أوامري ونفَّذ تعليماتي أصاب … ومن أهملها وخالفها خاب!
الفتاة : عليهم إذن يقع جانب من التبعة؟
المخرج : بدون شك … ولو تقدمت في الحضور لحظة لرأيتني غاضبًا على «ياجو» في الفيلم … إنه لم يُحسن الالتفات إلى تنبيهاتي، فجاءت حركاته مبالغًا فيها، لقد أفرط!
الفتاة : و«عطيل» المسكين؟ لقد عاش دوره جيدًا … فيما أعتقد.
المخرج : خالك؟ … لقد غرق في دوره … فلم يستطع الخروج منه ليعود إلينا.
الفتاة (كالمخاطبة نفسها) : ليعود إليك … نعم … كان يجب أن يترك عالم الأشباح، ليعود إلى عالم الحقيقة، ليعود إليك … ويراك!
المخرج : ليراني أنا؟
الفتاة (مستمرة كالمخاطبة نفسها) : كل هؤلاء الأطياف المتحركة على الشاشة الكبرى، يجب أن يعودوا إلى عالم النور والحقيقة؛ ليروا المخرج … في جلاله.
المخرج : إنهم يعودون ليطالبوا بمتأخر النقود.
الفتاة : ولكن أمثال «عطيل» … خالي … يظلون هكذا هائمين ضالين، يتحركون في عالم الحقيقة، ولا يبصرون نورها؛ لأنهم غارقون دائمًا في ظلمات العالم الزائل.
المخرج : حقًّا … لقد رآني الآن خالك «عطيل» ولم يعرفني.
الفتاة : نعم … لم يعرفك، ولم يرَ نورك، وجلالك.
المخرج : نوري وجلالي؟
الفتاة (تفطن) : أقصد … أقصد …
المخرج : لا تقصدي شيئًا … هذا لا يغضبني، بل يسرني كل السرور … استمري في هذا الموضوع.
الفتاة : أتعرف ما الذي يثير العجب في عملك هذا؟
المخرج : ماذا؟
الفتاة : أمر لست أدري هل خطر لك على بال؟
المخرج : خطر لي على بالٍ؟ … تکلمي.
الفتاة : لو أني قمت بدور «ديدمونة» وعشت فيه على الشريط، لكنت طرحت عليك وأنا أشاهده بجوارك في هذه القاعة هذا السؤال: أليست «ديدمونة» في مبدأ الفيلم تجهل ما يخبئه لها القدر؟ … أي المخرج؟ … إنها لا تعلم مصيرها وهو الموت خنقًا بيد زوجها. هذا المستقبل بالنسبة إليها لن يظهر إلا في أواخر الشريط … إن هذا الشريط الموضوع الآن في جعبتك يحوي كل ماضي «ديدمونة» وحاضرها ومستقبلها … شريط يسجل حياة أشخاصك في أزمانها المختلفة ومصائرها المحتومة … إنه «لوح محفوظ» يرقم كل الغيب بالنسبة إلى أبطالك … إن ما يسمونه هم زمنًا متعاقبًا، لا يوجد بالنسبة إليك. إن كل ما حدث لهم ويحدث وسيحدث موجود في هذه العلبة من الصفيح التي تطلقون عليها اسم …
المخرج : «البوبينة»!
الفتاة : نعم … في هذه «البوبينة» ماضي وحاضر ومستقبل كل شخص في الفيلم … كما أن فيها الأماكن والمدن والبحار التي فيها يعيشون … ما موقفك أنت أيها المخرج تجاه هذه العلبة، وما فيها من أزمنة وأمكنة؟
المخرج : ماذا تقصدين؟
الفتاة : إنك لا تخضع لما فيها من زمان ومكان … إنك خارج عن نطاق هذا الزمان والمكان.
المخرج : طبعًا!
الفتاة : وعندما يتحدث هؤلاء الأشخاص عن أمسهم ويومهم وغدهم … تضحك أنت … لأن كل هذا موجود … في جيبك أو علبتك … دفعة واحدة.
المخرج : هذا صحيح.
الفتاة (باسمة) : أرأيت إذن قدرتك وجبروتك؟
المخرج : جبروتي؟
الفتاة (تتحرك للانصراف) : لقد أثقلت عليك بهذا الحديث … اسمح لي الآن بالانصراف.
المخرج : تنصرفين … هكذا … بهذه السرعة؟ … أريد أن أراكِ كثيرًا … وأسمع منك مثل هذا الحديث.
الفتاة : لديك ما هو أجدى عليك منه.
المخرج : ليس لديَّ هنا غير الكلام في شئون المهنة … ومسائلها الفنية … وإصدار الأوامر والنواهي والتنبيهات.
الفتاة : أما من أحد هنا يحدثك هكذا؟
المخرج : عن نفسي؟ … بمثل هذا الحديث … لا … أبدًا.
الفتاة : وماذا يقولون عنك هنا إذن؟
المخرج : يقولون إني أضيع وقتي في إخراج روايات لا فائدة منها!
الفتاة : إنهم لا يفهمون غرضك.
المخرج : وما هو غرضي؟
الفتاة : أن تخلق … أي تنفخ روحك في خليقتك … أي تحقق ذاتيتك!
(تمد يدها إليه مودعة.)
المخرج : أمن الضروري أن تنصرِفي الآن؟
الفتاة : لا بد من ذهابي إلى عملي.
المخرج : عملكِ … وعملي أنا؟ … إني أحس الساعة أنك ألزم الناس لعملي.
الفتاة : لا تبالغ!
المخرج : لعنة **** على «عطیل»، لماذا جن اليوم؟ … أقصد خالك «علوي» … ما أسفت على ذهاب عقله أسفي في هذه اللحظة … لو كان اليوم بعقله لمضيت إليه توًّا أطلب إليه …
الفتاة : ماذا؟
المخرج : يدك!
الفتاة : يدي؟ … انتظر حتى يعود إليه عقله!
المخرج : وإذا لم يعُد إليه عقله؟
الفتاة : في هذه الفترة ربما عاد إليك عقلك أنت!
المخرج : أترفضينني؟!
الفتاة : وداعًا.
المخرج : ألست بي معجبة؟
الفتاة : بالفنان، لا بالإنسان.
المخرج : أولا يعجبك مني الإنسان؟
الفتاة : إني لم أعرفه فيك ولم أره.
(تسلم وتنصرف مسرعة تاركة إياه في مكانه جامدًا، كالغائب عن الصواب.)
المساعد (يدخل مندفعًا) : تمت مهمتي! … أنت تخرجه على الشاشة، وأنا أخرجه إلى مستشفى المجاذيب! … إنه الآن في طريقه إلى «الخانكة».
المخرج : اقترب مني، وأخبرني بكل صراحة …
المساعد : نعم!
المخرج : من ترى أمامك؟
المساعد (ينظر بعيون زائغة) : أين؟
المخرج (يشير إلى نفسه) : هنا … هنا، أمامك … من ترى؟
المساعد : المخرج.
المخرج : فقط؟! … أنت أيضًا؟
المساعد : ومن تريد أن أرى؟
المخرج : أيها الأعمى! … أيها الأحمق! … كنت أنتظر منك أنت أن ترى. أنت المتصل بي من قديم! … ولكن … حتى أنت لا ترى فيَّ غير مجرد مخرج … فنان، ولا شيء غير ذلك! وا أسفاه! … أهو سر مغلق عليكم إلى هذا الحد؟
المساعد : وهل أنت شيء آخر غير ذلك؟
المخرج : ألا تعرف؟
المساعد : لا … أخبرني!
المخرج : وما فائدة إخبارك؟ ما دمت لم تعرف بنفسك ولم ترَ.
المساعد : هل في الأفق مشروع آخر أو عمل جديد؟ … كل معلوماتي عنك حتى آخر لحظة هو أنك مخرج!
المخرج : معلوماتك سطحية تافهة، كان يجب أن تعرف علاوة على أني مخرج … أني …
المساعد : ماذا؟ … بشرني!
المخرج : إنسان!
المساعد : ماذا؟
المخرج : إنسان … إني إنسان!
المساعد (ينظر إليه في ارتياب) : ماذا جرى لك؟
المخرج : كيف لم تعرف ذلك من قبل … ولم ترَ؟
المساعد : أرى الآن!
المخرج : رأيت الآن … فقط؟
المساعد : نعم الآن فقط … إنك في حاجة إلى الراحة … أرى البوادر … إذا كان «عطيل» قد أنهكه الجهد في هذا الفيلم المشئوم … فكيف بك … وبي؟ … أسرع إلى الراحة! … إلى مصحة! … قبل فوات الأوان!
المخرج : ماذا تقول أيها المجنون؟
المساعد (وهو يتقهقر متحفزًا للهرب) : صدقت … لم يبقَ غیري! الدور عليَّ أنا! … إني ذاهب في إجازة … أنا قائم إلى الإجازة … أنا من الآن في إجازة!
(يختفي في الحال.)
المخرج (كالمخاطب نفسه) : هو أيضًا لم يرَ فيَّ الإنسان!