الفصل الأول
(بهو على طراز عربي، له جملة أبواب، أحدها زجاجي متسع يؤدي إلى شرفة على النيل، والمكان بديع التنسيق، باديةٌ فيه يدُ الفن … «عنان» مستلقية بين الوسائد على فراش وثير، تطالع كتابًا، وهي تضع على رأسها عمامة حريرية، وترتدي ثوبًا ذا سراويل، كثياب الجواري في عصر هارون الرشيد …)إدريس (يدخل من باب في الجهة اليسرى) : سيدتي!
عنان (ترفع رأسها) : ماذا تريد يا إدريس …؟
إدريس : سيدي مريض في فراشه.
عنان : مريض في فراشه …؟
إدريس : نعم يا سيدتي.
عنان : ومتى عاد …؟
إدريس : عاد منذ قليل، ودخل غرفته توًّا، وخلع ملابسه.
عنان (تفكر لحظة) : أهو الذي أمرك أن تخبرني بهذا؟
(إدريس يتردد ولا يدري ما يجيب.)
عنان : أجب …!
إدريس : …؟
عنان : اذهب …!
(يخرج إدريس، وتبقى عنان في مكانها تفكر قليلًا، وتنظر إلى الباب الأيسر، ثم تنهض في الحال إلى بيانو كبير على مقربة من باب الشرفة، فتجلس إليه وتأخذ في العزف.)
مختار (يظهر من الباب الأيسر في روب دي شامبر) : أتوسل إليكِ أن تكفي عن هذه الضوضاء …!
عنان (تلتفت إليه ملطِّفة من شدة العزف) : أنت …؟!
مختار (في تقطيب) : نعم! أنا.
عنان : يا للمصادفة السعيدة …!
مختار : ألم يخبركِ أحد أني مريض …؟
عنان : أخبرني إدريس (ثم تعود إلى العزف في شدة).
مختار (يصيح بها) : ألم تسمعي ما قلت أيتها السيدة؟
عنان (تلطِّف العزف كي تتكلم) : ماذا قلت …؟
مختار (في حدة) : قلت لكِ أنْ كُفي عن هذه الضوضاء!
عنان (في رقة) : أتسمي عزفي ضوضاءَ يا عزيزي …؟
مختار (في عبوس) : أسميه ما شئت.
عنان (في رقة) : أأنت مريض يا عزيزي …؟
مختار (في عبوس) : لقد أخبرك إدريس.
عنان : نعم … أخبرني إدريس … (ثم تعود إلى العزف في شدة).
مختار (يتقدم ويدنو منها) : لم أعد أستطيع صبرًا … أغلقي هذا.
(ثم يغلق بنفسه البيانو في قوة.)
عنان (تلفظ صيحة خافتة) : آه …!
مختار (متغير الصوت فجأة) : هل وقع الغطاء على إصبعك؟
عنان : كلا!
مختار : أنت تكذبين!
عنان : إني لم أكذب قط في حياتي!
مختار : أريني إصبعكِ.
عنان (تمد يدها إليه) : ها هي ذي.
(مختار يتناول إصبعها ثم يفحصها ويلثمها.)
مختار : أمحرَّم عليَّ هذا؟!
عنان : نعم.
مختار : لماذا …؟
عنان : لأني لم آذَنْ لك.
مختار : نعم، لقد أخطأت خطأً جسيمًا … أرجو أن تعتبري ما حدث كأن لم يكن.
عنان : لك هذا!
مختار (بعد لحظة) : وأنا وحدي المحرَّم عليه ذلك …؟
عنان : ليس هذا شأنك.
(مختار ينظر إليها طويلًا في صمت …؟)
عنان : لماذا تنظر إليَّ هذه النظرة …؟
مختار (في هدوء) : هنالك لحظات أحس فيها حاجةً إلى أن أنشب أظفاري في هذا العنق البديع … (يشير إلى عنقها).
عنان (باسمة) : أعلم ذلك حقَّ العلم!
مختار (بعد قليل) : عنان!
عنان : ماذا تريد مني …؟
مختار : أريد أن أتحدث إليكِ مليًّا.
عنان : فيمَ …؟
مختار : في موضوع خطير.
عنان : تحدَّث إذن على عجل!
مختار (يجلس بين الوسائد) : تعالي هنا إلى جانبي!
عنان (تتحرك) : كلا … إني مصغية إليك في مكاني.
مختار (في قوة) : قلت لك تعالي واجلسي بجانبي …!
عنان (تلبي وتذهب إلى جانبه) : يا لها من أوامر! … جلسْت!
مختار (يميل إليها) : عنان!
عنان (تتباعد قليلًا) : ماذا بك …؟
مختار (يستنشق) : شذى البنفسج الذي تتعطرين به … ما أجمله … ألَا تذكرين قولي لكِ ذات يوم إنه لو كان للحب شذًى، لكان هذا شذى الحب؟
عنان : أهذا هو الموضوع الخطير …؟!
مختار (ينظر إليها طويلًا) : يا لكِ من امرأة!
عنان : ماذا …؟ أكمل عبارتك …؟!
مختار : لست أجد وصفًا خليقًا بكِ!
عنان (باسمة) : أرى في وجهك أنك تودُّ الآن لو تنشب أظافرك في عنقي!
مختار (كالمخاطب نفسه) : لم أعد أستطيع صبرًا!
(ينهض.)
عنان : خيرًا تفعل بانصرافك … إن هذه الحال لا يمكن أن تدوم بغير أن يحدُث حدَث.
مختار : نعم … إني أخشى ذلك!
عنان : عُد إلى سريرك!
مختار (في قوة وعزم) : بل سأفعل ما هو أجدى من هذا.
(يخرج مختار من حيث أتى … وعنان مُطرِقة لحظة … وفجأةً يُسمع بوق سيارة، فتنهض عنان إلى الباب الأيسر الذي خرج منه مختار، فتغلقه في عجلة وحذر، ثم تتجه إلى باب الصدر تستقبل القادم.)
إدريس (يدخل من باب الصدر في عجلة واهتمام) : سيدي الباشا …!
الباشا (يدخل من خلفه سريعًا) : عنان …! أين مختار؟
عنان (في هدوء) : لماذا تسأل عنه يا أبي على هذا النحو؟
الباشا : أجيبي أولًا … أهنا هو أم مسافر؟
عنان : أهو مسافر …؟
الباشا : ألا تعلمين …؟
عنان (في شبه استدراك) : أجهل القطار.
الباشا : الليلة إلى الأقصر في صحبة.
عنان (هادئة) : امرأة!
الباشا : من أخبركِ …؟
عنان : ليس يهم الذي أخبرني … لماذا جئت الآن تسأل عنه …؟
الباشا : لأن هذا الرجل لا ينبغي أن يبقى لكِ زوجًا بعد اليوم.
عنان : خفِّض صوتك.
الباشا : أهو هنا؟
عنان (في استدراك) : الخدم!
الباشا (ينظر في ساعته) : الساعة الآن السادسة وعشر دقائق، ولم يعُد بعد … لا ريب أنه يأتي عجِلًا كي يأخذ حقائبه ويمضي بقطار السابعة.
عنان : وكيف علمت يا أبي؟
الباشا : هذا أمر لا يخفى على أحد … إنه هو الذي أخبر «كامل» زوج أختك وأخبر كل المتصلين بنا … نعم … إن الغريب المحزن في أمر هذا الرجل أنه يُشيع ما يفعل كأنما هو لا يحفِل بكِ ولا يخشى أن يبْلغُكِ أمرُه …!
عنان : قل إنه يريد أن يبْلُغَني أمره.
الباشا : إلى هذا الحد يسعى في تنغيص حياتكِ …؟!
عنان (باسمة) : لا تخف … لا تخف … لا شيء يؤثر في حياتي.
الباشا : وأنتِ … لأي سبب تسكتين على كل هذا؟! … ألثروته …؟
عنان : هذا شأني!
الباشا (في شيء من الغضب) : وشأننا أيضًا … ألَا تعلمين أن في عمل هذا الرجل امتهانًا لكِ؟
عنان (باسمة) : امتهانًا لمقام ابنة وزير سابق …!
الباشا : نعم … امتهانًا لنا جميعًا.
عنان (تنظر إليه مليًّا) : أُقسم إن لديك أخبارًا عن قرب عودتك إلى الجنة …!
الباشا (في اهتمام) : کيف علمتِ …؟
عنان (باسمة) : عند دخولك شممت رائحة وزير جديد قد انطلقت في البيت …!
الباشا : كلا … إني لا أريد العودة إلى الوزارة.
عنان : أترفض الكرسيَّ لو عُرض عليك اليوم …؟
الباشا : ولِمَ لا …؟
عنان : هذا حلم بعيد المنال!
الباشا : كرسي الوزارة؟
عنان : بل خلاصك من حبه!
الباشا : ومن قال لك إني أحبه …؟
عنان (باسمة) : وهل يخفى الحب …؟
الباشا (باسمًا) : أيتها الشاعرة، لا تسرفي في اللفظ …! ما أنا إلا رجل يحب اليوم أن يعيش في هدوء بين ذويه وذكرياته.
عنان : أي ذكريات …؟ لو أنك تكتب على الأقل مذکرات؟ … ولكنك لا تفعل شيئًا … إنك تنتظر …
الباشا (في رجفة) : أنتظر ماذا …؟ كلا … إني لا أنتظر شيئًا!
عنان (كالمخاطبة نفسها) : حقًّا ما أشقَّ الانتظار …!
الباشا : عنان …!
عنان (كالمخاطبة نفسها) : أنا أيضًا أنتظر …
الباشا (في عجب) : أنت؟!
عنان : نعم!
الباشا : تنتظرين ماذا …؟
عنان : أنتظر يوم الخلاص!
الباشا : الخلاص من ماذا؟
عنان (كالمخاطبة نفسها) : من حبه.
الباشا : كرسي الوزارة …! أنتِ أيضًا …؟!
عنان (في ابتسامة باهتة) : كلا … لست أعني كرسي الوزارة!
الباشا : إني لا أفهم ما تقولين.
(صمت.)
عنان (ترفع رأسها) : ما علينا …!
الباشا : ماذا بكِ يا عنان؟
عنان : لا شيء … (في صوت آخر) إني ما زلت أذكر كلمتك يا أبي يوم رُشحت وزيرًا في المرة الأولى … أذكر: «إذا دخلتُ الوزارة فقد دخلت الجنة …!»
الباشا (في حرارة) : جنة ليست خالدة …!
عنان : ككل جنة على هذه الأرض.
الباشا : قصيرة العمر.
عنان : كجنة الحب.
الباشا : صحيح!
عنان (كالمخاطبة نفسها) : ومع ذلك، هنالك أحوال ينبغي للإنسان فيها أن يبدأ هو بالخروج من الجنة في عزم وشجاعة قبل أن يُطرد منها طردًا.
الباشا : نعم … هنالك أحوال … لكن ليس من السهل دائمًا أن ترى عين الإنسان هذه الأحوال.
عنان (كالمخاطبة نفسها) : عيني أنا ترى دائمًا.
الباشا (مازحًا) : إنها ليست عين وزير!
عنان (كالمخاطبة نفسها) : إني أرى تلك الجنة الزائلة شيئًا مخيفًا، وأتمنى أن تزول بإرادتي أنا … وأخشى أن تذهب دون أن أستبقي منها على الأقل شيئًا جميلًا أو عملًا عظيمًا.
الباشا : عملًا عظيمًا! … هذا كلام الشباب والكتب.
عنان : كلا يا أبتِ … بل كلام قلبي وشعوري. إني ألقي عليك أيضًا هذا السؤال.
الباشا : أي سؤال؟
عنان : لقد دخلت يا أبي الوزارةَ وخرجت منها … فماذا حدث؟
الباشا (يتفكر لحظة) : ماذا تريدين أن يحدث؟
عنان : ألَا يمكن أن يحدث شيء ذو أثر عظيم؟
الباشا : من غير شك، يحدث شيء …
عنان : ماذا يحدث؟
الباشا : يحدث أن الوزير عند دخوله الوزارة يفقد نصف عقله.
عنان : أهذا كل ما يحدث؟
الباشا : ألَا يكفيكِ هذا؟!
عنان : وعند خروجه منها؟
الباشا : يفقد النصف الآخر.
عنان : كلا … لا تقل هذا الكلام … إنك تمزح!
الباشا : دعينا يا عنان مِن كل هذا، عودي إلى شأنكِ أنتِ، وكتبكِ، وزوجكِ.
عنان : أصبت؛ فلأتحدث عن نفسي، أخبرني يا أبتِ، کيف ترى هذه العمامة؟!
(تشير إلى عمامتها الحريرية فوق رأسها.)
الباشا (ينظر إليها وإلى البهو باسمًا) : العمامة والبهو والسراويل! … في أي عصر تعيشين أيتها الفتاة؟!
عنان (باسمة) : إني جارية هارون الرشيد!
الباشا : بل أنت عنان جارية الناطفي … (في صوت آخر) حقًّا ما كان يخطر لي على بال أن شغفي بالشعر والتاريخ ينتقل إلى ابنة لي على هذا النحو؟!
عنان : نعم … تُرى، ماذا كنت أفعل بغير الشعر والغناء؟ … إنهما عزائي في الحياة!
الباشا (في شيء من التأثر) : عِمي مساء يا عنان! … شأنكِ إذن مع زوجكِ! … إنكِ فيما أرى أسمى فكرًا من أن تُعني بحماقات هذا الرجل.
(يخرج وتشيِّعه عنان، ثم تعود إلى الوسائد فتستلقي عليها بكل جسمها الممشوق، وتطالع كتابها، ولا تمر لحظة حتى يُفتح الباب الأيسر ويظهر منه مختار لابسًا أغلب ثياب الخارج، ومنهمكًا في عقد رباط الرقبة.)
مختار (يتقدم ثم ينادي) : يا إدريس!
(ثم يترنم بالغناء في صوت خافت وهو أمام مرآة الجدار.)
(عنان تلقي عليه نظرة سريعة ثم تعود إلى كتابها ولم تلفظ حرفًا.)
مختار (يلتفت إليها) : غريب أنك لا تسألينني لماذا عجلت اليوم بالعودة؟
(عنان تهز كتفيها دون أن تلتفت إليه.)
مختار : لا تهزي كتفيك … سليني لماذا عدت مبكرًا اليوم؟
عنان (وهي ناظرة في الكتاب) : لأنك مريض.
مختار : لست مريضًا كما ترين … ولا إخالك تجهلين السبب الحقيقي.
عنان (في غير اكتراث) : لأنك مسافر.
مختار : نعم … إلى الأقصر.
(عنان تطالع ولا تجيب.)
مختار : ليس يهمك هذا أيضًا؟
عنان : كما ترى!
مختار (يكظم غيظه، وتمضي لحظةُ صمت، ثم لا يتمالك فينادي في حدَّة) : يا إدريس!
إدريس (يظهر) : نعم!
مختار : هيئ حقائبي … سأمضي في سفر طويل.
(إدريس يخرج مسرعًا.)
مختار (يلتفت إلى عنان ويرمقها لحظة) : ماذا تطالعين يا عزيزتي بكل هذا الانهماك؟
عنان (بدون أن تلتفت إليه) : كتابًا.
مختار : لست أعمى … إني أرى أنه كتاب!
عنان : ولماذا تسأل إذن؟
مختار : وأنه لأبي نواس … أليس كذلك؟ … وأنكِ ربما تطالعين في هذه اللحظة قوله لعنان جارية الناطفي …
عنان (تلتفت إليه) : أتصفحته؟
مختار (يستمر مترنمًا) :
عنانُ يا من تُشبه العينا
أنتم على الحب تلومونا
حُسنكِ حُسن لا يُرى مثلُه
قد ترك الناسَ مجانينا
عنان (باسمة في خبث) : إياي تعني بهذا؟
مختار (يشير بإصبعه؛ علامة السكوت) : صه … لا تذكري الشطر الآخر من البيت، إن عنان الأخرى تخابثت على المسكين أبي نواس، وأنتِ اليوم تصنعين معي مثل ذلك، والتاريخ يعيد نفسه دائمًا.
عنان : أي تاريخ؟ … إنك لا تشبه أبا نواس في قليل أو كثير.
مختار : أهذا رأيك فيَّ؟
عنان : تشبهه في لَهْوه … ربما … لا في جِدِّه.
مختار : هذا الاحتقار لي ستدفعين ثمنه غاليًا.
عنان : لا أظن أني أحتقرك.
مختار : إني أحس أنك تبخسينني قدري، وتنكرين عليَّ كل موهبة.
عنان : لست أرى أني أبخسك قدرك.
مختار : وإني لأحس البغضاء التي تضمرينها لي.
عنان (في تهكم) : البغضاء كلمة شديدة.
مختار : إني لست أرتاع لشيء قدْرَ ما أرتاع لهذا النوع من التكبر الصامت والترفع والفتور والابتسامات الباردة والضحكات الهازئة وقلة العناية والاكتراث وعدم الاحتفال الذي ألقاه منكِ، ويكتنفني وُجومٌ في هذا البيت.
عنان (في تهكم) : يا لك من مسكين!
مختار (مستمرًّا) : إني كذلك أُبغضك … ولأكن صريحًا … إلى حد بعيد أبغضك.
عنان (ساخرة) : إنك حقيقةً صريحٌ إلى حد بعيد!
مختار (مستمرًّا) : لكن عبثًا أحاول في نفسي أن أصغِّر من شأنكِ، لم أستطع يومًا إقناع نفسي أنكِ امرأة كأيَّة امرأة لا قيمة لها ولا لعقلها وشخصيتها.
عنان (تطرح كتابها جانبًا وتستوي جالسة) : مختار! … تعالَ إلى جانبي.
مختار (يذهب في الحال إليها ويجلس كما أرادت) : عنان …
عنان : أتشعر أحيانًا بيأس؟
مختار : نعم … وأسائل نفسي عنكِ كثيرًا، وعن علة هذا الفتور منكِ والإعراض منذ زواجنا.
عنان : لست أسألك عن هذا، ألا تشعر بيأس من عملك …؟ من الحياة …؟ من أمر مستقبلك …؟ لقد كانت لك موهبة للكتابة وقرض الشعر، ألا تشعر أنك أضعتها؟!
مختار : أحيانًا أشعر بشيء مثل هذا … ويخيَّل إليَّ أني أصغر منكِ شأنًا، وأني مخلوق عاطل في الحياة، لا يُحسن عملًا، ولم يُخلق ليعمل، ولا قدرة له على شيء، وكنت أفضي بشعوري هذا إلى صديق، فكان يسفِّه من رأيي حتى يملأني اطمئنانًا.
عنان : من هذا الصديق؟ … امرأة؟
مختار : يحزنني أنكِ تلفظين هذه الكلمة بغير غضب.
عنان : ولِم الغضب؟ … إني أعرفك حق المعرفة.
مختار : وأنا للأسف لا أعرفكِ مطلقًا، أريد على الأقل أن أعرف ما تُضمرين لي في أعماق نفسكِ، إنكِ المرأة الوحيدة في حياتي التي لم أستطع معرفة ما تُكنِّينه لي … انقضى الآن عام على زواجنا دون أن أعرف هذا الشيء المغلق المجهول؛ الذي هو أنتِ!
عنان (باسمة) : الشيء المغلق المجهول!
مختار : نعم … وإني لأخافكِ أحيانًا … «لحظة» … أخبريني کيف شعوركِ نحوي؟
عنان : كما ترى!
مختار : لست أرى شيئًا!
عنان (ساخرة) : هذه غلطتك!
مختار : كلا … أنتِ لا تحبينني، هذا كل ما في الأمر … سيان عندك وجودي وغيابي، سفري وإقامتي، ثم حجرتكِ المنفصلة عن حجرتي … لماذا لا تَقبلين أن نعيش في حجرة واحدة كزوجين؟ … حتى لَثْم أصابعكِ تأبينه عليَّ، ها نحن أولاء في خَلوة، فهل إذا التمست منكِ أن تقبِّليني …؟
عنان (مقاطِعة) : لا!
مختار : لماذا؟!
عنان : لأني لست أريد.
مختار (في حزن) : أرأيتِ؟!
(عنان لا تجيب.)
مختار : وإذا التمستُ شم عبير البنفسج في شعركِ (يميل نحوها).
عنان (تنهض هاربة كالرِّيم المنفلت من شبكة) : لا! لا!
مختار : لا تهربي … إني لن أفعل.
عنان : لا فائدة تُرجى منك، عبثًا أحاول حملك على الكلام في شيء مفيد!
(مختار في صوت خافت وهو يتبعها بنظره.)
عنان (تتجه إلى مائدة صغيرة عليها آلة تليفون أوتوماتيكي) : ألو … ألو … أرجو حجز مقصورة في الجانب الأيمن … نعم هذا المساء … حرم مختار بك رضوان … نعم … رقم (٥) … مع الشكر!
(تضع سماعة التليفون في مكانها.)
مختار : أتذهبين إلى السينما هذا المساء؟
عنان (في ابتسام) : كما ترى!
مختار : بمفردكِ؟
عنان : ليس شأنك هذا!
مختار (في حدة) : ليس شأني هذا؟! … ومن شأني ومن حقي أن أسألكِ هذا السؤال … مع من ستذهبين؟
عنان (باسمة في هدوء) : أختي!
مختار : أنتِ كاذبة!
(عنان تهز كتفيها.)
مختار : سأذهب معكِ هذا المساء.
عنان : أوَنسيت أن حقائبك هُيئت … وأنك ماضٍ في سفر طويل … طويل؟
مختار : كلمة منك تبطل السفر، ونذهب معًا هذا المساء حيث تشائين!
عنان : كلا!
مختار : ألَا تريدين؟
(عنان تهز رأسها أنْ لا.)
مختار : عنان! … لماذا لا تريدين؟
عنان : لأني لست أريد.
(إدريس يظهر من الباب الأيسر حاملا حقائب.)
مختار (في حدة) : إدريس! … ضع الحقائب في السيارة، وليستعد السائق … إني ذاهب في الحال.
(ثم يعود إلى استكمال ارتداء ملابسه أمام المرآة.)
(عنان تدنو من البيانو وتعبث بأحد مفاتيحه الصغيرة، فيحدث صوت صغير رفيع.)
مختار (يضحك فجأة ضحكة مصطنعة) : يا لكِ من امرأة! … أحسبت حقًّا أني أبطل السفر من أجل مثلك …؟ أصبتِ في كل هذا الإعراض … إنك لست بلهاء … هذا كل ما عندكِ من مزايا …!
عنان : على النقيض … كل ما عندي من مزايا أني بلهاء!
مختار : أنتِ …؟!
عنان : ألَا تصدق …؟!
مختار : كفى … إني مسافر إلى الأقصر، وسأمكث فيها شهرًا!
عنان : شهر العسل؟!
مختار : نعم … كالشهر الذي قضيناه معًا في الشتاء الماضي!
عنان : لم ترُقْ لي الأقصر كثيرًا في الشتاء الماضي.
مختار : ولا لي أنا … لقد كان عسلًا مريرًا ذلك الشهر الذي قضيته معكِ هناك!
عنان : لست أحب أن أجرعك عسلًا مريرًا.
مختار : لقد تجرعته وقُضي الأمر … ثلاثون يومًا مرت هناك، فما رأيتكِ ابتسمت غير يومين!
عنان : ليست لي الشجاعة أن أبتسم طويلًا.
مختار (كالمخاطب نفسه) : أعرف لماذا!
(صمت.)
مختار (بعد لحظة مستذكرًا) : آه يا عنان! … ومع ذلك لن أنسى أننا كنا نعيش هذا الشهر في حجرة واحدة … نعم … إن مجرد الشعور بأنكِ معي في حجرة أمر غير قليل … إنكِ كنت تنامين ملء عينيك … وكنت أنا أقوم في الليل مرارًا لأضيء الكهرباء فوق رأسك، وأتأمل ذلك الوجه … وأستوثق من كفاية الغطاء … وكانت نفسي تسوِّل لي أحيانًا أن أقبلك، فما كنت أجرؤ … ثم ذلك اليوم الجميل؛ إذ مرضت وكدت أنتحب من وقع الصداع، فجلستِ إليَّ، وأخذتِ رأسي بين راحتيك، وقبَّلتِني هنا.
(يشير إلى خده الأيمن.)
عنان (وهي تعبث بالمفتاح الأوسط فيحدث صوت غير مرتفع) : لست أذكر ذلك.
مختار : طبعًا لا تذكرين … لقد كانت الأولى والأخيرة، وأريتِني بعدها من الاضطهاد ألوانًا … كم أُبغضك أيتها المرأة!
عنان (تضرب بإصبعها على مفتاح كبير، فيخرج صوت هائل ساخر) : يا للهول!
مختار : إني ليلذُّ لي أن أراك يومًا تتألمين … أتصدقين هذا …؟ أقسم لك إني أدفع نصف ثروتي ثمنًا لدمعة تذرف من عينيك أمامي … أتتصورين يا عنان أني ابتهلتُ إلى **** يومًا أن تمرضي حتى أشاهد ضعفك …؟ لكن العام انقضى دون أن تمرضي غير يوم واحد في الصيف، فلزمتِ حجرتكِ، وأغلقتِ الباب، ومنعتِني من الدخول عليكِ … ألَا تذكرين …؟
عنان : تطلب لي المرض …؟
مختار : وماذا تريدين أن أطلب لمثلكِ …؟
عنان : أنا لا أطلب لك سوءًا.
مختار : هذا مع الأسف صحيح … إنك لا تطلبين لي سوءًا.
عنان : مع الأسف؟!
مختار : نعم … مع الأسف …!
عنان (في تهكم) : هذه أول مرة أرى فيها من يأسف لمثل هذا …!
مختار : ليتكِ تطلبين لي الهلاك … ليتكِ تفعلين أي شيء أدرك منه لون عواطفك … لكنك امرأة محاطة بالضباب … أنا الذي ما أذلته قط امرأة … أنا الذي ألقى الطاعة والتقدير والاحترام من كل إنسان … إلا أنتِ أيها المخلوق الممقوت … ثقي أني، إذ ألهو الآن بالنساء، إنما أفعل لا رغبةً فيهن … بل رغبةً في انتهاك حرمة الزوجية … حرمة زوجة مثلكِ. إن مجرد الشعور بإلحاق الإهانة بك وبإذلال شخصك المقدس لَهُو أكبر لذةٍ عندي الآن … هذا كل ما في الأمر.
(عنان تهز كتفيها.)
مختار (في غيظ) : تهزين كتفيك …؟!
عنان : كما ترى …!
مختار (في غضب) : أيتها الخاسرة …! أنا المخطئ؛ إذ أحترمك أكثر مما ينبغي … سأغير منهجي منذ الساعة، وأصارحك بكل شيء!
عنان (في تهكم) : أهناك أشياءُ أخرى تصارحني بها …؟
مختار : إني ما صارحتكِ بعدُ بشيء … الحقيقة العظمى هي الآتية.
عنان (في سخرية) : العظمى …؟!
مختار : نعم … أنت، ولا شك، فهمتِ خطأً لما ترين ملاطفتي أني أحبكِ … أو أني أحببتك منذ تزوجنا … هذا غلط محض يا سيدتي … لو أن الأمر كذلك لَمَا كنت أسافر الليلة إلى الأقصر وأترككِ وحيدة … الحقيقة أني أحب يا سيدتي حبًّا مبرِّحًا … مؤلمًا!
عنان (باسمة ساخرة) : يا للعاشق الولهان!
مختار : وكنت أكتم عنك احترامًا للزوجية!
عنان : يا للتناقض المبين …! منذ دقيقة واحدة كان امتهان الزوجية كل شغلك الشاغل!
مختار : هنالك أشياء لا تقال للزوجة مهما بلغ الأمر، لكني الآن لست أُحجِم عن الإقرار.
عنان : الإقرار بماذا …؟
مختار : بأني في حياتي ما أحببت سوى امرأة واحدة؛ هي هذه … معي صورتها دائمًا … أتريدين رؤيتها …؟
عنان : كلا … لا داعي!
مختار : أحب هذه السيدة إلى حد غير معروف في تاريخ الحب!
عنان : ولماذا تقول لي هذا الكلام …؟
مختار : لأني قد عزمت ألا أكتمَك شيئًا.
عنان : إني ما طلبت إليك الإفضاء إليَّ بأسرارك …؟
مختار (في سرور) : أيؤلمكِ أن تسمعي هذه الأسرار؟
عنان (في تردد) : كلا … ولكن …
مختار : إذن فاسمعي، هذه المرأة يا عنان كانت تستطيع بكلمة أن تدخلني الجنة!
عنان : إن المرأة لا تُدخل الجنة.
مختار : أجل …!
عنان : وظيفة المرأة الإخراج من الجنة.
مختار : هذا كلامك أنتِ.
عنان : ولا وزن له عندك …؟
مختار : بالطبع … أما كلامها هي … أتريدين أن تعرفي من هي التي أفضِّلها عليك …؟
(عنان تهز كتفيها.)
مختار (في غضب) : قلت مرارًا لا تهزي كتفيكِ!
عنان (في هدوء) : أوَتمنعني من إظهار رأيي؟
مختار (في حدة) : هذا ليس إظهار رأي، وإنما هو سوء أدب.
عنان (في صوت خافت) : سوء أدب؟
مختار (في حنق) : نعم!
عنان (في هدوء) : صدقت … إنك لم تعُد تحترمني.
مختار : أكثر من هذا … أراكِ في حاجة إلى التأديب!
عنان : أيضًا؟!
مختار (صائحا) : أنتِ امرأتي، ولي عليكِ حق التأديب، وإني لغافل إذ ألجأ إلى الرفق واللين مع مثلك، مضى اللطف والرفق، وسأنقلب رجلًا خليقًا بتأديب امرأة … إن المرأة مخلوق تافه، وكما ذكر كتاب ألف ليلة: «ينبغي للرجل إذ يدخل على المرأة ألا ينسى أن يُخفي في ثيابه سوطًا.»
عنان (هادئة) : في غرفتك سوط للخيل!
مختار : سآتي به … وسترين أني لا أُحجم الساعة عن استعماله!
عنان (في هدوء غريب) : اذهب إذن وأحضر السوط.
مختار : سأفعل، وسيترك السوط بهاتين الذراعين أثرًا لا يُمحى (يذهب سريعًا إلى حجرته من الباب الأيسر).
عنان (في مكانها جامدة تتنهد) : ماذا أصنع بعدُ يا إلهي! أعطني قوةً اليومَ أيضًا!
مختار (يعود وفي يده السوط) : ها هو ذا.
عنان (تغير صوتها قائلة) : إن كنت حقًّا رجلًا فلتضربني به!
مختار : سأضربك ضربًا مبرِّحًا حتى تذرفي الدمع!
عنان (جامدة تنظر إليه نظرات طويلة فيها معانٍ مختلفة، وقد أرخت أهدابها الطويلة على نحو يَسحَر) : لماذا تجبن؟
مختار (يدنو منها ويرفع السوط) : خذي!
(عنان لا تتحرك.)
مختار (ينزل سوطه دون أن يمسَّ عنان) : ألا تتحركين؟
عنان : لماذا لا تضرب؟
مختار (في هدوء) : من أي شيء أنتِ مصنوعة؟!
عنان (باسمة) : لماذا لا تضرب؟
مختار : أنتِ ميتة القلب لا ينفع فيك ضرب.
عنان : أمَا من وسيلة أخرى لتأديبي؟!
مختار : كنت أحسبكِ تبكين لمرأى السوط!
عنان (باسمة) : كما بكت عنان!
مختار (باسمًا) : جارية الناطفي …
عنان (باسمة) : وقال فيها الأعرابي …
مختار (ينشد) :
إن عنانًا أرسلت دمعها
كالدرِّ إذ ينسل من خيطه
عنان (تنشد) :
فليت من يضربها ظالمًا
تجف يمناه على سوطه
مختار (يُلقي بالسوط من يده على الفراش) : ظالمًا أو غير ظالم …
عنان : أندمت؟
مختار : إني واثق بأني لم أظلمك يومًا!
عنان : أعترف بذلك!
مختار : عنان … أخشى أن يكون قد أغضبكِ مزاحي هذا أو ثقَّل عليكِ … فلنتصافح … هاتي يدك، وخذي من هذه الحلوى.
(يخرج من جيبه صندوقًا صغيرًا من الحلوى.)
عنان : أبعد هذا كله؟
مختار : أوَكنتِ تتصورين غير ذلك؟ … لقد أحضرت الحلوى مع السوط؛ إذ كنت أعلم أني مهما ضربتك فلن أدعك حتى تصفحي!
عنان (باسمة) : أعترف أنك رجل لا تخلو من ظَرف
مختار (ينظر إليها في ارتياب) : أتسخرين؟
عنان : بل أقول الجد.
مختار (يخرج من الصندوق قطعة حلوى) : اقبلي مني هذه!
عنان : أوَتراني جديرةً بقطعة من الحلوى؟
مختار : ولِم لا؟
عنان : إني مخلوق تافه!
مختار : ماذا أسمع؟
عنان : وفي حاجة إلى التأديب!
مختار : من قال هذا الهراء؟!
عنان : قاله رجل!
مختار : لا بد أن يكون عاشقًا أو مجنونًا!
عنان (تضحك عن ثغر من اللؤلؤ ضحكةً رقيقة ساحرة) : بديع!
مختار : لأول مرة تضحكين هذه الضحكة، منذ زمن لا أعيه … كم أنا سعيد! … أتأذنين لي أن أضع قطعة من الحلوى في هذه الكأس من اللؤلؤ؟
(عنان تفتح فمها وتمده إليه.)
مختار : ما أحلى أويقات إشراقك! … وما أقصرها! … أنت في هذا البيت كالشمس في لندن!
(تبتسم ويتناول قطعة أخرى من الحلوى ويلثمها عن بُعد ويضعها في ثغرها.)
عنان : وأنت أيها المخلوق … كيف أصفك! … ألا تحب الحلوى، خذ هذه في فمك!
(تأخذ قطعة من الصندوق وتضعها في فمه.)
مختار : أشكر لكِ هذه اللحظة! … وتقولين، يا عنان، إن امرأة لا تُدخل الرجل الجنة؟
عنان (في شبه رعدة) : لا تذكِّرني بالجنة!
مختار : لماذا؟ … إنكِ مخطئة … أعطيني قطعة أخرى!
(يفتح فمه، وإذ تريد عنان أن تضع في فمه القطعة … يحاول مختار أن يلثم يدها الدانية من فمه … فتجذبها في الحال.)
عنان (تصيح به) : دع هذه اليد! … دع هذه اليد …!
مختار (مرتاعًا) : ممَّ تخافين؟!
عنان (في اندفاع) : إني خائفة!
مختار : خائفة مني؟ … أفصحي! … أتكتمينني شيئًا؟ … ماذا بكِ؟
عنان (تتمالك وتستدرك) : كلا … لا شيء مطلقًا … إني لست خائفة شيئًا … إني أخطأت التعبير … أردت أن أقول خائفة من ضغط يدك … هذا كل ما في الأمر.
مختار : وهل تخيفك يدي بهذا المقدار؟
عنان : نعم!
مختار (يُطرق) : هذا غريب … لست أفهم من أمرك شيئًا … عنان … يخيل إليَّ أنكِ تخافين السعادة وتفرين منها، ولا تُطيقين النظر إليها وجهًا لوجه!
(عنان في إطراق واضطراب.)
مختار : نعم … إني أرى الآن.
عنان (تبتعد قليلًا) : لا!
مختار : أرأيتِ؟ … إنكِ تبعدين كلما دنوتُ منكِ، إنكِ تخشين الجنة! … ولا تجسرين على البقاء فيها طويلًا!
عنان (تملك نفسها) : سأخرجك منها.
مختار (في رعدة) : ماذا تقولين؟
عنان (في عزم) : كما أخرجت حواء آدم!
مختار : إنك، ولا شك، تمزحين يا عنان … وأعترف أن مزاحك يخيفني، ومع ذلك … هل أنا دخلتها؟ … إن كلمتك لم تصدر بعد …؟
عنان : إنك فيها طول حياتك … أنت من أهلها منذ ولدت!
مختار : أنا؟
عنان : نعم … أنت … وهل لأهل الجنة صفات غير صفاتك الثلاث؟!
مختار : أي صفات ثلاث؟
عنان : الشباب، والفراغ، والثراء!
مختار : أنتِ دائمًا تسخرين!
عنان : وهل لأهل الجنة شغل سوى التنقل من هوًى إلى هوًى، ومن هناء إلى هناء!
مختار : کفى مزاحًا يا عنان!
عنان : كل طلب لك مجاب … كم من النساء عرَفت؟! … وكم من النساء هجرت؟! … هل رفضت لك امرأة طلبًا؟ … هل عصى لك أحد أمرًا؟ … كل ثمار الأرض وقلوب الغيد طوع بنانك … إنك منذ ولدت السيدُ الآمِر الجميل! … ها هي ذي الجنة التي أنت فيها دائمًا!
مختار : هنالك امرأة رفضت لي طلبًا.
عنان : من هي؟
مختار : إنكِ لا تجهلينها يا عنان.
عنان : ومن تكون امرأة من بين مئات؟!
مختار : هذه المرأة هي عندي كل شيء!
عنان : أرأيت؟
مختار : ماذا؟
عنان (كالمخاطبة نفسها) : هكذا الرجل دائمًا!
مختار : عنان! … إنكَ لا تعرفين.
عنان : بلى … كل ثمار الأرض لم تكن شيئًا، والثمرة الممنوعة وحدها كانت كل شيء!
مختار (في قلق) : دعينا من هذه التشبيهات والاستعارات … إن المسألة يا عنان لَأبسطُ من هذا كله!
عنان : إن المسألة لَأخطر مما تظن!
مختار (دانيًا) : عزيزتي عنان!
عنان (في تجهم) : ماذا تريد مني؟
مختار : أعُدت إلى التجهم المخيف …؟
عنان (في جد) : إنك تحسن صنعًا لو سافرت الآن!
مختار (مصدومًا) : أتريدين هذا حقًّا؟
عنان : نعم … أريده!
مختار : أجادة أنتِ … احذري! … ستجعلينني أعتقد حقيقةً أنكِ لا …
عنان : إني ضقت بك ذرعًا!
مختار : كذا! … لا بأس! … فلتكن مشيئتك (يتجه إلى باب الصدر وينادي) يا إدريس!
إدريس (يظهر وعلى ذراعه معطف مختار وعصاه) : کل شيء جاهز.
مختار (يشير إليه فيُلبسه المعطف ويتناول منه العصا) : حسن … ها أنا ذا أنصرف.
(يخرج إدريس.)
(عنان مطرقة تعبث بطرف ثوبها.)
مختار : سأسافر طويلًا كما ترغبين! … ولن أعود إلا بعد أن ألقى بقلبي بعيدًا … (لحظة، ولا تجيب عنان بشيء) ولن تطأ قدمي هذا البهو حتى يكون لي قلب جديد لا يتحرك لاسم عنان اللعين، وليتبارك اليوم الذي تصبح فيه هذه المرأة عندي كسائر النساء، لا قيمة لها … (عنان لا تتحرك) إني ذاهب … (يتحرك، ثم يلتفت إليها) ألا تريدين أن تقولي شيئًا …؟
عنان : لا!
مختار : قبل أن أذهب، ألَا تمنحينني؟
عنان (في جفاء) : ماذا؟
مختار : قُبلة!
عنان : لا!
مختار : أهي الفاكهة المحرمة؟
عنان : …؟
مختار (يدنو) : وإذا هجمت عليكِ الآن، وحصلت عليها بالرغم منكِ …؟
عنان (تسرع إلى السوط فوق الفراش فترفعه في يدها وتقول في عزم) : اسمع … إني امرأة إذا قالت فعلت … و**** لئن دنوت مني لأضربن بالسوط وجهك!
مختار (يقف) : إنما أريد لثم يدك!
عنان (في تجهم) : لا سبيل إلى ذلك!
مختار : لن تري لي وجهًا …!
(يخرج بخطًى سريعة دون أن ينظر إليها وتظل هي في مكانها جامدة لحظة، ثم تلقي بالسوط بعيدًا وترتمي على المقعد باكيةً.)
الفصل الثاني
(الشرفة التي على النيل … الباب الزجاجي الكبير يبدو منه جزء من البهو العربي، كما يبدو منه البيانو واضحًا … وبالشرفة مقاعد مما توضع في الشرفات، وبها كذلك مائدة من طراز المقاعد ومصباح كهربائي على الأرض «أباجور» … الوقت أصيل … وعنان غارقة في مقعد كبير وأمامها أختها ليلى في مقعد آخر.)ليلى : لقد أصبح وزيرًا من جديد …! وا فرحتاه …! لو رأيته يا عنان هذا الصباح وهو يفضُّ برقيات التهاني التي ترِدُ في كل لحظة، وقد امتلأ وجهه دمًا وانقلب شابًّا في ليلة واحدة …! لقد وقفت اليوم بالباب سيارة الحكومة، فأطل من خلف النافذة وابتسم … وما إن قدمت عليه حتى ابتدرني قائلًا: «لقد عرضوا على أبيك كثيرًا دخول الوزارة، فقبِلت آخرَ الأمر؛ تلبية لنداء الواجب والوطن.» جملته المعهودة التي يقولها كلما عاد إلى الحكومة، ألا تذكرين؟
عنان (وكأنها لم تُصغِ إلى حديث ليلى) : …؟
ليلى (تلتفت إلى عنان الصامتة) : فيمَ تتأملين يا عنان …؟
عنان (تخرج من تأملاتها) : أريد أن أسألك سؤالًا!
ليلى : سلي!
عنان : ما رأيك في حواء إذ أخرجت آدم من الجنة …؟
ليلى : ما هذا السؤال الغريب …؟
عنان : أجيبي عنه.
ليلى : ما رأيي في حواء إذ أخرجت آدم من الجنة …؟ رأيي أنها جرت عليه وعلى نفسها الوبال …!
عنان : لماذا …؟
ليلى : لست أعرف … إني لم أكن معهما؟
عنان : إن كل امرأة تستطيع أن تعرف.
ليلى : وماذا يهمك من أمر حواء وزوجها؟
عنان : يخيل إليَّ أنها لم ترتكب إثمًا.
ليلى : لعلها سئمت الجنة!
عنان : إن المرأة لا تسأم الجنة أبدًا.
ليلى : إنها خشيت أن يسأم زوجها الجنة.
عنان : ليلى …!
ليلى : لماذا تنظرين إليَّ هكذا …؟
عنان : نعم … إنها فعلت ذلك من أجله.
ليلى : كيف عرَفتِ …؟
عنان : هذا لا ريب عندي فيه.
(لحظة صمت.)
ليلى (تلتفت إلى عنان في اهتمام) : أتريدين أن أسألكِ أنا أيضًا سؤالًا؟
عنان : سلي.
ليلى : كيف أنت ومختار؟
عنان : ككل يوم.
ليلى : أعني: هل تحبينه؟
عنان : لِم هذا السؤال …؟
ليلى : أفيه إحراج …؟ لا بأس … أيحبك هو …؟
عنان : وإذا كان الجواب لا …؟
ليلى : أنت إذن غير سعيدة.
عنان : ربما!
ليلى : البارحة في السينما لحَظت أنكِ متغيرة الوجه، كثيرة الوجوم.
عنان : أرأيتِ ذلك …؟
ليلى : لعل سفره إلى الأقصر!
عنان : ليس هذا هو السبب.
ليلى : حبذا لو أفضيت إليَّ … إني شقيقتك الكبرى التي يعنيها كلُّ أمرك.
عنان : ستعرفين يومًا.
ليلى (تنظر إلى عنان نظرة فاحصة) : أخشى أنكِ تتألمين لشيء يا عنان …؟
عنان : لا.
ليلى : أو أنكِ تبالغين في تقدير الأمور …؟
عنان : لا.
ليلى : لن أُلحَّ أكثر من ذلك … إني أعرف طباعك … شأنك إذن.
(صمت.)
ليلى (تنهض وتتأمل النيل) : ما أجملَ النيل الساعة …! وهذه المراكب والقوارب تسبح فيه كالأسماك …!
عنان (في إطراق) : …؟
ليلى (تلتفت إلى عنان) : دائمًا تفكرين! … دعْكِ قليلًا من تأملاتك، وانظري إلى هذا الماء الفضي الجميل …! حقًّا إن كل شيء في بيتك يوحي بالشعر والخيال …! وهذا النسيم الذي يعبث بشعرك ناقلًا عنه عطر البنفسج، (وفجأة كمن تذكرت شيئًا): عنان؟ أما لحَظتِ البارحةَ في المقصورة المجاورة ذلك الرجل الأنيق الذي حيَّاه زوجي كامل …؟ إنه كان يختلس إليكِ النظرَ طول الوقت … إنه زميل زوجي في وزارة الحربية ويُدعى أحمد بك رفعت … واليوم أخبرني كامل أنه سأل عنك من طرف خفي، فلما علم أنكِ متزوجة أطرق في أسف.
عنان (في غير اكتراث) : لم ألحظ قط.
ليلى : إنه أعزب … على ما فهمت من كامل.
(عنان مطرقة.)
إدريس (يدخل حاملًا برقية) : سيدتي …!
عنان (تمديدها متناولة … ويخرج إدريس) : برقية …!
ليلى : برقية تهنئة، ولا شك!
عنان (تفض البرقية وتقرأ وتبتسم ابتسامة غامضة) : أتعرفين ممن يا ليلى …؟ خذي واقرئي …! (تدفع البرقية إلى ليلى).
ليلى (تقرأ) : يا للعجب …! برقية غريبة …!
عنان (باسمة) : أقرأتِ؟!
ليلى (تقرأ في دهشة) : «أحبك. أحبك. أحبك» … الإمضاء: «مختار» …!
عنان : ماذا تَرينَ في هذا؟
ليلى : أرى … أنكِ كذبتِ عليَّ بقولكِ إنكِ لستِ سعيدة!
عنان : لم أكذب قط.
ليلى : وما كل هذه البرقية إذن …؟
عنان : إنها لا تحل المسألة.
ليلى : أتراكِ غاضبةً لأنه سافر …؟
عنان : على النقيض، أنا التي طلبت إليه السفر.
ليلى (في استغراب) : مستحيل …!
عنان : بلى … إنك لا تتصورين كم أخاف قربه …! وكم يتطلب مني هذا القرب من يقظة مستمرة وجهد دائم … كمن يروض جوادًا وحشيًّا!
ليلى : پدهشني ما تقولين … لكن لست أدرك على التحقيق.
عنان : إنك لن تدركي ما أنا فيه!
ليلى : أعترف بذلك يا عنان.
عنان : يا لها من مصادفة! … ما من اسم ينطبق مدلوله عليَّ كهذا الاسم: عنان!
ليلى : نعم … أرى كأنك تكبحين شيئًا!
عنان : أخشى أن ينقطع العِنان من طول الشد … وإذا أرخى فهناك الهاوية …!
ليلى : أفصحي قليلًا يا عنان!
عنان (في ضيق) : لا أستطيع … إني متعبة … متعبة وخائفة … إني أقضي حياتي خوفًا وفرَقًا … لقد أشرفت على نهاية قواي … كلا … ينبغي أن يقف كل هذا عند حد!
ليلى : هذه أول مرة أسمعك فيها تتكلمين هكذا …!
عنان : وآخر مرة!
ليلى : لو أن في إمكاني أن أفهم … لعلِّي أستطيع لك شيئًا!
عنان : لا يستطيع أحد لي شيئًا!
(لحظة صمت.)
الوصيفة (تدخل) : سيدتي … رجل من قِبَل محل نجيب الصائغ يريد مقابلة سيدتي، وقدم هذه البطاقة (تُقدم إلى عنان البطاقة).
عنان (تقرأ) : محل جواهر «نجيب»!
الوصيفة (تستطرد) : ويقول إن سيدي أرسله بوديعة يعطيها سيدتي يدًا بيد!
(الوصيفة تخرج.)
عنان : أدخليه.
ليلى : أزَوجُكِ في القاهرة الآن …؟
عنان : هذه البرقية تعني أنه لا بد عائد.
الصائغ (يدخل ويقف بالعتبة مترددًا) : ألستِ …؟
عنان : نعم … أنا هي.
الصائغ (يبرز صندوقًا صغيرًا) : مختار بك رضوان!
عنان : أرسلك بهذا …؟
(الصائغ يشير برأسه أنْ نعم ويقدم إليها الصندوق.)
عنان (تتناول الصندوق) : لي أنا …؟
الصائغ (يشير برأسه أنْ نعم) : للست يدًا بيد!
عنان : مع الشكر …!
(الصائغ يحني رأسه تحية واحترامًا، ويخرج.)
عنان (تفض غلاف الصندوق) : ما معني هذا …؟
ليلى : لعلها هدية!
عنان (وقد فتحت الصندوق) : لأية مناسبة …؟ (منبهرة لما في الصندوق) انظري يا ليلى …! هذا قُرطٌ من ماس!
ليلى (في بهرة) : يا *** …!
عنان (لا تتمالك) : أية أُذنٍ تستطيع حمل هذا الماس کله؟
ليلى : الفص الواحد كاللوزة حجمًا …! هذه ثروة يا عنان!
عنان : بالتأكيد.
ليلى : أتعلمين كم ثمنه …؟ أذكر أني شاهدت عين هذا القرط معروضًا في واجهة المحل، وثمنه فوقه مكتوب ألف جنيه، فيما أذكر.
عنان : لا شك عندي في هذا.
ليلى (تلمح وريقةً في قاع الصندوق) : انظري … ما هذه الوريقة في قاع الصندوق؟ … (تأخذ الوريقة وتقرؤها): «إلى عنان؛ معبودتي التي تظلمني وتذلني، عسى أن تبسم مرةً أخرى»!
عنان (تضع الصندوق بغير عناية على المائدة) : من أجل هذا القُرط …؟
ليلى : ما أغلاها ابتسامةً!
عنان : أنت مخطئة يا ليلى، لو تعلمين الحقيقة لوجدت هذا الثمن بخسًا … آه لو علمت كم تكلفني الابتسامة!
ليلى (تنظر إليها مليًّا) : أإلى هذا الحد أنت …؟
عنان : لا تحاولي فهم الموقف، فهو عسير الفهم، ولا يدركه أغلب الناس؛ لأن طبيعتي ليست كطبائع الناس، كذلك أفكاري وتصرفاتي!
ليلى : هذا صحيح.
عنان : ومع ذلك … قلت لك إن الساعة قد دنت فيما أرى.
ليلى (في قلق) : أية ساعة؟
عنان : ما علينا … أرأيت والدتي اليوم يا ليلى …؟
ليلى (لا تزال تنظر إليها في قلق) : نعم … وهي مغتبطة … طبعًا، وكانت تود رؤيتك … لماذا لم تذهبي يا عنان هذا الصباح …؟
عنان : سأذهب.
ليلى : إنك لم تهنِّئي بعدُ والدَك!
عنان : سأفعل.
ليلى (تنظر إلى ساعة بمعصمها ثم تنهض) : ينبغي أن أنصرف الآن.
عنان : ليلى …! قبِّليني …!
ليلى (تتأملها قليلًا في قلق ثم تعانقها وتنصرف) : إلى الغد.
عنان (كالمخاطبة نفسها) : الغد …!
(ليلى تخرج، وتبقى عنان واقفةً لحظةً بلا حراك، ثم تعود إلى مقعدها فتغرق فيه، ثم تتناول كتابها فوق المائدة التي بجوارها، وتضيء المصباح الكهربائي القائم خلف رأسها، فينبعث منه ضوء وردي خلال مظلته الحريرية وينعكس على شعر عنان، ويُشع على نحرها وجسمها، وتتلاعب الظلال والأضواء في أشكال جميلة على رسمها البديع … وبعد أن تلقي نظرة في الكتاب تلقي به على المائدة … وتتناول صندوق القرط من مكانه وتفتحه، وتتأمل ماسه الثمين، ثم تقفله وتعيده إلى المائدة في إهمال، وتسمع عندئذٍ صوت بوق سيارة، فترفع رأسها قليلًا وترهف السمع … ثم تعود إلى الاستلقاء؛ شأن غير الحافل.)
الوصيفة (تدخل في عجلة كمن تحمل بشرى) : سيدي عاد بحقائبه يا سيدتي …!
عنان (لا تتحرك) : عاد؟!
(ثم تغمض عينيها؛ فكأنها للناظر في سِنةٍ من النوم … يداعب شعرها النسيم.)
(الوصيفة تنظر إليها في دهشة ثم تخرج.)
(لحظة صمت.)
مختار (من الخارج) : عنان!
(ثم يدخل مندفعًا فيراها نائمة، فيقف فجأة)
مختار (يهمس) : نائمة؟!
(ويقف يتأملها لحظةً غير مجترئ على إيقاظها.)
عنان (لا تتحرك أهدابها الطويلة وتفتح عينيها قليلًا) : أعُدت؟
مختار (في رقة وشبه حياء وقد فاجأت نظراته) : نعم يا عنان!
عنان : إن غيبتك قد طالت!
مختار : لا تتهكمي يا عنان!
عنان : يا له من سفر طويل … طويل!
مختار : إنك تَرينَ أني لا أستطيع دائمًا تنفيذ ما أعتزم في شأنك!
عنان : لماذا؟
مختار : لأني …
عنان : ماذا؟
مختار : المسألة عندي الآن أخطر مما تتصورين … إني أعود الآن كي أضع تحت قدميك نفسي يا عنان … إلى الأبد … لأني تعبت.
عنان (في تهكم خفيف) : أنت أيضًا!
مختار : نعم … تعبت … وإن عامًا كاملًا كافٍ أن أتعب!
(يخلع طربوشه ويضعه على مقعد.)
عنان : من غير شك.
مختار : أنا أعلم أني أتعرض لاستهزائك … وأتجرد من كل سلاح في المستقبل؛ إذ أعترف لكِ الآن بأن كل خطوة كان يخطوها القطار البارحة بعيدًا عن هذا المكان، كانت تنقبض لها نفسي، وأود لو أثِبُ من النافذة قائلًا … علامَ المكابرة؟ … أنتِ لي كلُّ شيء في الحياة … ولئن فقدتك لأفقدن الحياة قاطبة.
عنان : أنت؟
مختار : ألا تصدقين يا عنان! … أرجو أن تصدقي … إن مجرد رائحة البنفسج في أي مكان تكفي وحدها لزيادة دقات قلبي! … إن زوجًا لا يحب زوجته على هذا النحو يا عنان … إني لست زوجًا … إنكِ استطعتِ أن تجعلي مني عاشقًا … كنت أردد هذا في القطار، وأقول إني، ولا ريب، جُننت … أيمكن أن أمسي مشغوفًا بامرأتي بهذا المقدار؟ … وثَم اعتراف آخر يا عنان أشد خطرًا؛ أتصدقين أني ما عرفت الحب في حياتي قبل اليوم، أعني ذلك الحب الخليق أن يُجنَّ رجلًا … ذلك الذي نقرؤه في أخبار الشعراء، لا ذلك اللهو والعبث الذي تمرغت فيه منذ الصغر … نعم، لقد تأكدت واستوثقت أن هذا هو الحب الأول والأخير، وأن حياتي بدونكِ مستحيلة … إني أحس أني قد سلَّمتكِ كل نفسي بعد هذا الاعتراف … فماذا تريدين بي الآن بعد أن عرفتِ أن حياتي بدونكِ مستحيلة؟
عنان : أفرغت؟
مختار : لا أريد أن أفرغ … إني خائف يا عنان مما ستقولين!
عنان (كالمخاطبة نفسها في تهكم خفيف) : أيمكن أن تعرف أنت الخوف؟!
مختار : أرجو ألا تكوني قاسية!
عنان : اطمئن!
مختار (في فرح) : أحقًّا أستطيع أن أطمئن!
عنان : لن أقول شيئًا.
مختار (مصدومًا) : لن تقولي شيئًا؟
عنان : ماذا تريد أن أقول؟
مختار : بعد كل الذي سمعتِ؟
عنان : أينبغي أن أقول شيئًا؟
مختار : …؟
عنان : ماذا دهاك؟
مختار (في صمت وإطراق) : وبرقيتي … ألم تقرئيها؟
عنان : تلك البرقية الفكهة … نعم قرأتها.
مختار : الفكهة؟!
عنان : أعني أنها كذلك في نظر «عامل التلغراف» على الأقل … ألم يبسم أو يضحك عندما اطلع عليها؟ … قل!
مختار : أشكركِ يا عنان!
عنان : لست أنكر أنها بدعة جديدة في تاريخ الغرام … ألا ترى معي؟
(مختار مطرق.)
عنان : اعترافات لاسلكية!
مختار : …؟
عنان : كم أرثي لك! … لقد كلفتُك اليوم مبلغًا جسيمًا من المال … إني أكثر معشوقاتك استنزافًا لمالك بلا مراء.
(مختار يرفع رأسه قليلًا وينظر إليها، ثم يعود إلى الإطراق.)
عنان (تشير إلى صندوق الماس) : نعم … قرط ثمين حقًّا. لكن لن أقبله منك مع الأسف الشديد.
مختار (يرفع رأسه) : لن تقبليه!
عنان : لن أستطيع دفع الثمن … ألست تطلب فيه ابتسامة؟
مختار : إلى هذا الحد يا عنان!
عنان : هذه الابتسامة التي لا تكلفني شيئًا … تشقُّ عليَّ حين وجودك.
مختار (في يأس) : إني آسف!
عنان : هذا ليس ذنبك.
(لحظة صمت.)
عنان (تقصي بأطراف أناملها صندوق الماس) : أرجع هذا الماس إذن إلى محل الجواهر … ولا تنسَ أن تنزع وريقة الثمن هذه … إلى «معبودتي التي تظلمني» … معبودتك التي تظلمك؟! … إنك تجيد التعبير أحيانًا … اذهب!
مختار : سأذهب!
عنان : خير لك أن تسترد الألف … فالنقود مضمونة … أما أنا … (لحظة) وبعد … ألا تتحرك؟ … قلت لك اذهب … لست أحب أن أطيل النظر إلى هديتك الغالية.
مختار (يتجه إلى الباب وينادي) : إدريس!
إدريس (يظهر) : نعم!
مختار (بصوت خافت ثائر) : أحضر الهاون!
إدريس (في استغراب) : الهاون!
مختار : أسرع!
(إدريس يخرج على عجل.)
عنان : ماذا طلبت من الخادم؟
(مختار يقف جامدًا ووجهه إلى النيل.)
عنان : منظر بديع حقًّا! … هذا النيل الفضي اللون! … والمراكب البيضاء تسبح فيه كأنها طيور الماء!
إدريس (يدخل حاملًا الهاون) : سيدي!
عنان : ما هذا؟
(مختار يأخذ الهاون من إدريس ويأمره بالخروج في إشارة.)
(مختار يضع الهاون على طرف المائدة … ويتناول صندوق الماس ويفتحه ويُخرج القرط الثمين ويلقي به في قاع الهاون ثم يسحقه سحقًا، ويطحنه طحنًا … وتنظر عنان إلى فعله صامتة مشدوهةً أولَ الأمر … وبعد أن يفرغ مختار من طحن الماس حتى يصير مسحوقًا أبيض، يأتي بكتاب عنان من فوق المائدة، ويضع على جلدته هذا المسحوق، ثم يرفعه في يديه وينظر إلى عنان، وينفخ مسحوق الماس الثمين فيتطاير في الهواء، ويرمي بالكتاب إلى مكانه.)
(عنان تهز كتفيها استخفافًا.)
(مختار يستند إلى جدار الشرفة متجهًا إلى النيل كما كان.)
عنان (بعد لحظة) : حبذا القلب أيضًا يُصنع به مثل هذا!
مختار (ينتفض قليلًا ثم يتمالك) : سوف أصنع به مثل هذا!
عنان : بعض التواضع! … أترى له من القيمة ما يماثل هذا القرط؟
مختار : أهذا تقديركِ لي يا عنان؟
عنان : لست أحب أن أكذب من أجلك … نعم!
مختار : دائمًا؟
عنان : منذ تزوجنا.
(مختار يطرق.)
عنان : أفهمت الآن؟
(مختار يشير برأسه أنْ نعم.)
عنان : لهذا تراني لم أجد ما أقول جوابًا على اعترافاتك.
(مختار يطرق.)
عنان : ما أنت إلا شيء واحد!
مختار : …؟
عنان : عاشق بارع قد أتقن الإفضاء بالاعترافات الخطيرة!
(مختار يخرج من المكان في الحال دون أن ينبس بحرف.)
(عنان تبهت قليلًا لحركة خروج مختار على هذه الصورة … وتتبعه بنظرها حتى يختفي فتطرق لحظة … ثم تعبث بصفحات الكتاب.)
الوصيفة (تظهر مسرعة وتهمس) : سيدتي … سيدتي!
عنان (تلتفت إليها) : ماذا؟
الوصيفة : سيدي دخل حجرته يبکي!
عنان (بعد لحظة وجوم) : وأي شأن لكِ في هذا؟
الوصيفة (في حيرة) : سيدتي!
عنان : اذهبي لعملك!
(الوصيفة تخرج … وتلبث عنان لحظةً مطرقة … ثم تنهض فجأةً وتتجه إلى البيانو الظاهر قرب باب الشرفة الواسع وتجلس إليه وتأخذ في التوقيع.)
الوصيفة (تعود) : سيدتي!
عنان (تبطل العزف) : ماذا تريدين؟
الوصيفة : سيدي أمر بوضع حقائبه في السيارة من جديد!
عنان : هذا حسن … انصرفي لعملك!
(تعود عنان إلى الشرفة وتتكئ ناظرة إلى النيل طويلًا في تفكير عميق، وبعد لحظة يدخل مختار في ملابس الخروج عاري الرأس.)
عنان (في شيء من التلطف والرفق وهي تشير إلى طربوش مختار على المقعد) : عدت تريد الطربوش طبعًا؟
مختار : نعم!
عنان : أنت مسافر من جديد إذن؟
مختار : نعم!
عنان : أتحبني حقيقة؟
مختار : …
عنان : لماذا لم تقل «نعم» في هذه المرة أيضًا؟
مختار : وما الفائدة؟
عنان : تقصد أنك عبرت عن ذلك بطرق أخرى غير كلمة «نعم»؟
مختار : بل أقصد أن التعبير لا معنى له … ولأني ذاهب.
عنان : ذاهب إلى أين؟
مختار : لست أدري … لا يهم المكان!
عنان : للنزهة والترويح؟
مختار : أرجو أن تكوني جادةً قليلًا معي في هذه اللحظة الأخيرة … إنك تعرفين جيدًا أني لن أذهب للنزهة والترويح … بل لأنك طردتني!
عنان : أنا؟! … هذا بيتك … أأطردك من بيتك؟!
مختار : بل طردتني من حياتك … من الحياة!
عنان : يا ***! … من الحياة؟ … أتدرك معني هذه الكلمة؟
مختار : إني عندكِ *** دائمًا … لا يدرك معنًى لكلمة أو معنًى لشيء!
عنان : لا تبالغ يا مختار.
مختار : لست أبالغ في وصف منزلتي عندك!
عنان : بل لا تبالغ في استعمال كلمة «الحياة» … إن حياتي ليست حياتك، وإنك لَتستطيعُ أن تعيش بدوني عيشًا كله سرور وسعادة، وتحيا بعيدًا عني حياة كلها متعة وهناء.
مختار : أتظنين ذلك؟
عنان : بل أجزم.
مختار : ما أعظم سروري! … أنتِ التي كنت أومن دائمًا بصواب ما تفعل خطأً وما تقول … معبودي الذي لا يخطئ، ها هو ذا يخطئ أولَ مرة خطأً فاحشًا.
عنان (في جد) : لم أخطئ.
مختار : إصرارُكِ لا يَزيدني إلا اغتباطًا، أنا أدرى بما في نفسي، أنتِ التي تدَّعين معرفتي، کم تظهرين الآن قاصرةً عن النفوذ إلى دخيلتي … مرحى مرحى … تكلمي أيضًا، استمري في الغلط!
عنان (دهشة) : إنك واثق من نفسك؛ على ما أرى!
مختار (في قوة) : في هذا الأمر … نعم!
عنان : أظنني لا أخطئ إذا قلت إنك لم تكن كذلك دائمًا.
مختار : …
عنان : أجب.
مختار : لن تصدقي ما أقول، ولن تأخذي قولي على سبيل الجد.
عنان : بل إني أفعل.
مختار : إنكِ خُلقت كي تُعبدي.
عنان (مبتسمة) : وكي يكفر بي المشركون أمثالك!
مختار : نعم … لست أنكر أني لم أكن أفهمك كل الفهم فيما مضى … لقد كنت في الواقع كأهل الجاهلية أمام النور الجديد، كنت حقيقة أكبرك بسنتين عمرًا، ولكنكِ تكبرينني بعشرة أعوام فكرًا وعقلًا، ومع ذلك كنت أحس نحوك إحساسًا غريبًا لم أعلِّلْه إلا اليوم … كل تصرفاتي معك حتى تلك التصرفات الضارة بك المؤذية لكِ؛ ما صدرت إلا عن اهتمام جنوني، لم أكن أدري لماذا كنت أشعر بلذَّة غريبة إذ أُوقع بك ألمًا، وإذ أتخيل أني أمقتك؛ نعم … لا أظن هذا كان انتقامًا من فتورك وتفوقك بقدر ما كان لذةً أجلبها لنفسي بتعذيبك، ومع ذلك يا عنان لو أنكِ تعلمين كيف كنت أنظر إلى غيرك من النساء، لأيقنت أني بريء من كل ظن سوء … نعم … اليوم أستطيع أن أقسم لك إنني لم أشرك بك أحدًا في قلبي، هذا الصباح اتضح لي ذلك، لقد بلغت «الأقصر» منقبض الصدر متعبًا بعد ليلة تضعضعت فيها حواسي؛ تفكيرا فيكِ وفي شأني معكِ، فما إن وطئت قدماي رصيف المحطة حتى نظرت شزرًا إلى شمس «الأقصر» الجميلة وهتفت بي نفسي: ماذا جئت تصنع هنا بغيرها؟ … وحتى متى هذه الأكذوبة الطويلة؟ … وهل تمضي حياتك تعذب نفسك بحجة أنك تعذب تلك التي هي حياتك؟ … ثم من أدراك أنها تتعذب.
عنان : آه … هذه الفكرة الأخيرة هي التي أتت بك.
مختار (تعبًا) : نعم … لا … إني لست أطلب منك حبًّا مماثلًا لحبي، لقد تعبت في النهاية، إني أحبك أكثر مما ينبغي.
عنان : أتظن ذلك؟
مختار (تعبًا) : وساعة أن جاءتني هذه الأفكار في المحطة كنت قد أيقنت أن حياتي بدونك مستحيلة (يريد الجلوس فتقدم له الكرسي)؛ لذلك هرعت أبعث إليك برقيتي «الفكهة» بجميع ما معي من نقود لو أن النقود تستطيع بعض التعبير! … ولم يكن معي سوى بضعة قروش هي التي دفعتها.
عنان : هذا أنت حقيقةً الذي يفعل ذلك؟ … وبعد؟ … عدت إلى مصر؟
مختار : في أول قطار يتهيأ للسير.
عنان : والأمريكية … ماذا جرى لها؟
مختار : تركتها مع الدليل وبعض السائحين تلوِّح بيدها في الهواء دهشة؛ وأنا أقفز إلى قطار العودة.
عنان (ضاحكة) : ترى ماذا تقول فيك الآن؟! … لم يبقَ أحد، ولا ريب، لم يتهمك بالجنون والهوس.
مختار : حتى أنت؟
عنان (باسمة) : لماذا تريد رأيي؟
مختار : رأيك وحده له عندي كلُّ القيمة.
عنان : لولا جنونك وهوسك هذا لَمَا تزوجتك.
مختار (بفرح) : عنان …! ماذا تقولين؟
عنان : نعم … هذا حقيقي … انتظرت الزوج الذي أريده زمنًا، وكنت أرفض الكثيرين، وكدت أنت تكون ضمن المرفوضين، لولا تردد والدي قليلًا أمام ثروتك، وعندئذٍ تقدمت ليلى أختي وتقدم زوجها کامل، وأرادا أن يقنعاني بوجوب الرفض، قائلين إنك شاب سفيه متهوس … هنا أورد كامل حكاية هي التي رجحتك عندي بدون أن يقصد … قال إنك كنت في جمع من أصدقائك يومًا، وجلهم معتمد عليك في السهرة، وقد نفِد ما معك من إيراد الشهر إلا مبلغًا في جيبك، وإذا بائع تماثيل صغيرة يمر بكم في المقهى … فأعجبك تمثال حمامتين صغيرتين تلتقطان الحَب، فبلغ بك الإعجاب أنْ أخذت التمثال من الرجل وأعطيته كل ما معك من نقود، وتركت أصدقاءك يتميزون من الغيظ.
مختار (مستذكرًا) : نعم … نعم … كان ذلك في يوم خميس.
عنان : ليس يهمني اليوم … إنما منذ تلك الساعة وأنا أوقن أن لك طبيعةَ شاعر.
مختار (مستذكرًا) : شاعر!
عنان : الجنون والهوس هما الأمل الوحيد فيك كشاعر.
مختار : كنت قد نسيت هذه الكلمة!
عنان : صدقت، ألم تقرأ الصحف اليوم؟
مختار : من أين لي الوقت لأفكر في الصحف؟
عنان : حسنًا فعلت، إنهم يأسفون لضياع مواهبك … آه يا مختار … يا مختار … لا ينقصك إلا شيء واحد.
مختار : ما هو؟
عنان : حتى تبلغ العظمة!
مختار : لست أريد العظمة … بل أريد قلبكِ.
عنان : وا أسفاه!
مختار (مرتجفًا) : ماذا؟ أحقيقي إذن! أهو بعيد عليَّ كثيرًا؟
عنان (في شبه يأس) : إنك لم تتقدم خطوة.
مختار (في خوف) : لا تقولي ذلك.
عنان : وأنا التي حسبت أنك اقتربت وكدت تصل.
مختار : إلى قلبكِ؟
عنان : لا … لست أتكلم الآن عن قلبي … مختار … أنت هوائيٌّ متقلب … لا تثبُت على عمل ولا تستطيع أن تثابر إلى غاية … أفهم أن يكون الشاعر هوائيًّا في الأمور التافهة … أما في الغرض الأسمى … في سر وجوده …
مختار : أنتِ سر وجودي.
عنان : لا … لا … لست أنا … ليس هذا ما أقصد الآن.
مختار : بلى … أنتِ … متى كنت متقلبًا معك؟ أوردي حادثة واحدة … أو قدِّمي دليلًا واحدًا … هجرْتُكِ؟ نعم! قصدت تعذيبك؟ نعم! … أما أني أحببت سواكِ؟ …
عنان : ليس في رأسك إلا أنا الساعة؟
مختار (في صوت التوسل) : نعم يا عنان! دائمًا!
عنان : نعم … ومع ذلك من يدري … بعد أسبوع …
مختار : لا تتهكمي … لا لزوم للتهكم … إنكِ تشعرين جيدًا أني اليوم رجل آخر لا حياة له إلا بجواركِ.
عنان : نعم … كهارون الرشيد؛ كلما أعجبته جارية انقطع إلى جوارها أسبوعًا لا يخرج إلى الناس، ولا يأذن لأحد بالدخول عليه … حتى إذا ما فرغ من الأسبوع …
مختار : لست هارون الرشيد … دعينا مما في الكتب … ومع ذلك … إذا شئتِ فأنا … أنا المجنون.
عنان (ضاحكة) : نعم … هذا ما تقوله دائمًا.
مختار : كلا … بل أريد قيس «مجنون ليلى»، وأنتِ ليلى.
عنان : آه لو أن لك شِعره!
مختار : شعر قيس؟
عنان : لم لا؟ قد يكون لك لو أن لك آلامه!
مختار (في قلق) : عنان!
عنان : لا ينقصك إلا هذا.
مختار : ألا يمكنكِ أن تفكري في شيء آخر … أحقيقة ليس لديكِ ما تقولين لي؟ أم أنكِ تضنِّين عليَّ بالكلام؟ إني لم أجرؤ مطلقًا على سؤالك، هل تحبينني بعض الشيء؟ … كلا … لست أريد أن أعرف جوابكِ الآن، لا تكلفي نفسك المراوغة والتهرب … شأنك في كل مرة … قلت لكِ لست أطلب مماثلة … هذا مستحيل … فقط … ومع ذلك لِم العجلة؟ … حسبي أني بجواركِ إلى الأبد … نعم … طول الحياة أولًا … ثم بعدها، ما دام هناك خلود! … «عنان»! … نسيت أن أقول لك إني منقبض الصدر كئيب النفس! … وأريد أن أبكي … أن أبكي كثيرًا لغير ما سبب!
عنان : منذ متى هذا؟
مختار : منذ لحظة، والآن مر بخاطري بغتةً ذلك الزمنُ الذي أنفقته بعيدًا عنك، عن حمق وجنون! … لو أنه نقود، أو جزء عظيم من مالي، لألقيت به هباءً لكنه هناء محسوب عليَّ … «عنان»! … إني لست مطمئنًّا عليكِ وعلى دوام قربي منكِ! … يخيل إليَّ أن ما مضى كان كل شيء! … وأنه قد فرغ نصيبي من … من … أتراني سأموت شابًّا! … في الوقت الذي بدأت أجدك فيه! … أجد سعادتي … التي عميت عنها … طمئنيني! … ما معنى هذا الانقباض؟ … إني لست مريضًا، وسأعيش! … «عنان»! … ماذا بكِ؟ … ما لكِ شاحبة الوجه؟
عنان (صفراء) : لا شيء!
مختار (مضطربًا) : عنان! … أنتِ تحبينني ولم تتحملي فكرة موتي!
عنان : تكلم في موضوع آخر!
مختار : صدقتِ … لست أريد تكديركِ، لقد أمسيتُ غير قدير على ذلك! … إني الآن أخاف عليك، وأُشفق عليكِ كروحي، ولا أطيق فكرة خدش أنملة من أناملك! … أنا الذي كنت ألتذ بألمك وعذابك … قاتلني ****! … «عنان»! … أتعلمين بماذا أقتل الآن؟ … بفكرة الابتعاد عنك! … لماذا ترتجفين؟
عنان (تشير إلى النيل) : برد المساء! … لو تحضر لي «نفيسة» رداءً ثقيلًا من حجرتي؟!
مختار (ينهض في الحال، ويخلع رداءه، ويضعه على كتفيها) : أدفئتِ الآن؟
عنان : نعم! … أشكرك! … وأنت … أتظل هكذا؟
مختار : لا تهتمي لأمري!
عنان : فليحضر لك أحد رداء أو معطفًا من حجرتك!
مختار : كلا … لست أريد! … حجرتي وحجرتك؟! … أنحن نعيش في حجرتين، منفصلة إحداهما عن الأخرى؟ … منذ متى كان ذلك؟ … ومن قال منا بهذا؟ … لست أقدر أن ألبث منفصلًا عنكِ ساعةً بعد اليوم! … قومي، ولننقل أمتعتنا إلى حجرة واحدة … حجرتان؟ … هذا أمر غير معقول! … هذا لا يصدق! … هيا بنا يا «عنان»!
عنان : مستحيل!
مختار : لماذا؟
عنان : لا يمكن لحجرة واحدة أن تتسع لنا … أدوات زينتي، وأثوابي العديدة، وأحذيتي … إن حجرتي لا تَسَع كل هذا إلا بشق الأنفس.
مختار : شكرًا لك!
عنان : ماذا دهاك؟
مختار (في سخرية مُرة) : إنكِ حقيقةً تحبينني إلى حد أنك تفضلين عليَّ أدواتِ زينتك، وأثوابَك، وأحذيتك! … حب إلى درجة التضحية … نعم … إلى درجة أن تضحي بعواطفي كلها، وإحساساتي وقلبي من أجل أثوابك العديدة وأحذيتك!
عنان : أرجو منك ألا تُدخل كلمة التضحية في مثل هذه الأشياء!
مختار : لا بأس!
عنان : ومع ذلك إذا سألتك أنت التضحيةَ من أجل حبي، فما عساك أن تقدم لي؟
مختار (بصوت خافت هادئ لكنه خطير) : حياتي!
عنان (متهكمة) : حقًّا إنك شاعر في استعمال الكلمات الهائلة … كلا! … لست أطلب حياتك … بل حياتي أنا.
مختار (بصوت مخنوق) : ماذا تقولين؟
عنان (في جد وخطورة) : أريد أن تطلقني.
(صمت.)
مختار (مشدوهًا كمن لا يصدق ما يسمع … ثم يُفيق من بغتته ويتضاحك ضحكة المرتجف خوفًا) : لا … لا يا عنان … دعي هذا المزاح … إنكِ أرعبتني حقيقة!
عنان (في جد) : لست أمزح.
مختار (وهو ينظر إلى وجهها مستفسرًا في هلع، وصوته يتوسل) : عنان … أقسم لك إنكِ تستطيعين إيلامي بوسيلة أخرى غير هذه … إذا كنت تثأرين فإنك تسرفين وتتجاوزين … ليس من الألم ما تحدَّثين الآن … إنما هو … إنما هو … إنما هو شيء مخيف … إنكِ تخيفينني إلى حد قاتل … إن لم أكن الآن مريضًا بالقلب … فإن هزةً كالتي كادت تخلع قلبي الآن كافيةً أن تورثني هذا المرض … وفِّري ذلك عليَّ يا عنان.
عنان (تغالب التأثر) : أريد أن … أريد أن …
(مختار في شبه ذهول.)
عنان (تتماسك) : مختار! … مختار! … إني جادة كلَّ الجد … إني أطلب إليك أن تفعل هذا!
مختار (بصوت يأس هائل) : أفعل هذا؟
عنان : نعم … أريد أن تطلقني في الحال.
(مختار شاحب لا يقوى على الكلام.)
عنان (في لطف وهي تغالب التأثر والضعف) : نعم يا مختار … هذا هو الشيء الوحيد الذي أريده منك … التضحية الوحيدة … ألم تقل الآن إنك مستعد أن تعطيني حياتك؟ … برهن لي على حبك بأن تفعل ما أريد … «مختار» … أريد أن تطلقني طلاقًا لا رجعة له! … أفتُلبي، أم أن حبك كله أثرة، لا فائدة منه ولا خير فيه؟
(مختار مطرق مغمض العينين!)
عنان : أعترف أن التضحية كبيرة.
(مختار دموعه تتساقط في سكون!)
عنان : لا تبكِ … تفعل ذلك لأني أريد … نعم إني أريد (تدير وجهها خشيةَ أن يرى دموعها)!
الفصل الثالث
(بهو في منزل بسيط، له باب واسع الصدر وأبواب في الجهتين، اليمنى واليسرى، وهو أقرب إلى المكتبة منه إلى بهو لمجرد الجلوس والاستقبال؛ إذ به خزائن مملوءة بالكتب المكدسة … رجل وسيدة جالسان بصبر نافد.)عمر (يخرج ساعة) : مضت ساعة ونحن ننتظر!
(علية لا تريد أن تجيب.)
عمر : كدت أعتقد أنه ليس هنا حقيقة، وأن خادمه قد صدقنا القول!
علية : هنا … أو ليس هنا … لا بد من مقابلته!
عمر : إذن؛ فلننتظر حتى الليل، ولنترك أعمالنا!
علية : …
عمر : أسامعة؟ … ولنترك أعمالنا؟!
علية : نترك أعمالنا أو لا نتركها؛ لن أنصرف حتى أراه.
عمر : أبشري إذن بضياع الليلة سدًى! … إنه لن يراكِ ولو مكثت هنا أسبوعًا!
علية : أتعني لا يحفل بي إلى هذا الحد؟ … من هو حتى يصنع معي ذلك؟
عمر : يصنع معك ما يصنع مع الناس أجمعين!
علية : خسئت!
عمر : هو لا يحب أن يرى أحدًا!
علية : لماذا؟ … ألأنه عظيم الشهرة؟
عمر : بل لأنه يفزع من الناس.
علية : لأي سبب؟
عمر : طبيعة فيه! … ولعله مرض عصبي!
علية : إنه لم يتزوج طبعًا!
عمر : أظن أنه لم يفعل! … إنه لا يحب النساء، ويهرب منهن خاصة!
علية : صحيح … هذا ما لحَظته أنا أيضًا!
عمر : هل سبق أن رأيتِه؟
علية : نعم … مرةً واحدة في حياتي!
عمر : في الصحف؟ … تقصدين صورته؟
علية : بل هو نفسه … قدَّموني إليه منذ شهر!
عمر : وهل حادثك؟
علية : طبعًا!
عمر : عبارة واحدة لا أكثر: لي الشرف بمعرفتك أيتها الآنسة؟!
علية : بل تحدث إلى مليًّا!
عمر : لا تبالغي! … مليًّا؟ … إنكِ لا تعرفين ما تقولين!
علية : إنك مغفل!
عمر : إني أزن كلماتي!
علية : أتراني لست جديرةً أن يحادثني رجل كهذا؟ … لقد حادثني أعظم الناس قدرًا ومقامًا! … لقد حادثني وزراء وكبراء!
عمر : وزراء وكبراء! … هذا جائز! … وأغنياء وظرفاء! … جائز أيضًا! … يرتمون على أقدامك! … كل هذا جائز! … أما صاحبنا فلم يسمع أنه حادث أحدًا أكثر من كلمتين أو ثلاث؛ سواء أكان يحادث رجلًا عظيمًا، أم امرأة جميلة.
علية : أنت أبله! … إنه حادثني عن دوري في روايته!
عمر : كذبت أيضًا حتى في هذا، فهو لا يتكلم كثيرًا، وإلا كنت أنا أولى منكِ بالحديث، يوم جئته أتلقى تعليمات عن الرواية، وأنا المخرج الفني!
علية : أولم يقل لك شيئًا؟
عمر : كلمتين.
علية (في اهتمام) : ماذا؟
عمر : قال «افعل ما شئت … افعل ما شئت! …» ثم غرق في صمت أحرجني، فاستأذنت وانصرفت!
علية : هل كان عابس الوجه؟
عمر : إنه دائمًا كذلك … حتى في صوره.
علية (كمن تخاطب نفسها) : نعم … يخيل إليَّ أن هذا الرجل لا يمكن أن يبتسم!
عمر (يعود إلى النظر في ساعته) : أتعرفين كم الساعة الآن؟ … الخامسة! … أي إن أمامنا أقل من ساعة على رفع الستار! … أنسيتِ أن اليوم حفلة نهارية؟
علية : هذا لا يهمني!
عمر (ينظر إليها محدقًا) : هذا لا يهمك؟!
علية : نعم … لا يهمني!
عمر : هذا يهم من؟! … أتستطيعين أن تجيبي؟!
علية (في ضيق) : لا تحرج صدري!
عمر (بعد لحظة) : هل من الضروري رؤيته الآن؟
علية : نعم.
عمر : أتستطيعين إخباري … ما وجه الضرورة؟
(علية تبدي إشارة ضيق وغضب!)
عمر : لا تغضبي! … سحبت سؤالي.
علية : إذا كنت تريد الانصراف فانصرف أنت.
عمر : وأترككِ وحدكِ ها هنا؟
علية : وأي ضرر في ذلك؟
عمر (في تخابث) : صدقت … ولا ضرر؟ … على العكس … الفائدة كلها في ذلك!
علية : أي فائدة تعني؟
عمر : طبعًا … تفضلين أن تلاقيه على انفراد!
علية : ما الذي يحملك على هذا الاعتقاد؟
عمر (باسمًا في خبث) : يا سيدتي العزيزة! … إن الفقير الواقف أمامك، مدير فني منذ عشرة أعوام! … منذ كنتِ **** تلعبين … وكم رأى من ممثلات! … وكم شاهد من أطماع وأحلام لممثلات؟ … لا سيما الكواكب منهن والنجوم!
علية (في تقطيب) : ماذا تقصد؟!
عمر : أقصد أن الذين حدثوكِ عن «رضوان» قد خدعوك.
علية (في جفاء) : لم يحدثني أحد عنه، ولم أسأل أحدًا أن يحدثني عنه.
عمر : إلا البارحة، حيث لم تتركي مخلوقًا حيًّا في المسرح دون أن تسأليه عن المؤلف … حتى خُيِّل إليَّ أنكِ كنتِ ترقبين ليلة الأمس منذ زمن طويل … لقد كنت، ولا شك، تعتقدين أنه لن يتخلف عن الحضور، في مثل هذه الليلة!
علية (كاظمة) : وبعد؟
عمر : وبعد … فلما علمت أنه لم يحضر شحب لونُكِ واضطربت أعصابك، وكدت تضربين «سالم» الملقن؟
علية : وبعد.
عمر : وبعد، لا شيء طبعًا، سوى أنكِ عدت إلى بيتكِ في كآبة … وما إن أصبح الصباح حتى لبِستِ وجئتِ هنا، فلما قيل لك إنه غير موجود انصرفت، وأتيت العصر وانتظرت … وها أنت ذي تنتظرين، وستنتظرين إلى ما شاء ****!
علية : وأخيرًا، ماذا تريد أن تقول؟
عمر (باسمًا) : ليس لي أن أقول شيئًا … إني فقط أسرد وقائع بريئة!
علية (متضاحكة) : هذا الشيخ المسن المكتئب؟!
عمر : سن الرجل لا يهم الممثلة الطَّموح.
علية : إنك لا تفهمني أيها المدير الأحمق!
عمر : إني أفهمك أيها الكوكب الساطع كما فهمت من قبل بقية الكواكب!
علية : إنك مخطئ إذا حسبتني كبقية الممثلات.
عمر : إن غرضك على كل حال شريف، ويدهشني منك أنك تخفينه؛ حيث تتباهى بإعلانه الأخريات.
علية : اخرس!
عمر : أقسم لك بشرف مهنتي، إني مهتم بالأمر غاية الاهتمام … لأني أرى غرضك إنما هو في سبيل الفن!
علية : قلت لك اخرس!
عمر (في حركة تمثيلية) : خرست، وأُسدل الستار يا مولاتي! … لكن نسيت كلمة! … أن أقول إن «مختار رضوان» ليس مثريًا … يقال إنه كان فيما مضى ذا ثروة ورثها عن والدته … ولكنها ذهبت، وهو يعيش الآن على ربع بسيط، وعلى ما يأتيه من عمله … هذا ما أردت أن أنبهك إليه، حتى تكوني على بينة من أمرك!
علية : لا شأن لي بثروته!
عمر (في دهشة) : ماذا أسمع؟! … أتريدين القول بأنكِ تنتظرين هنا لسبب آخر؟!
علية : كفى!
عمر : ولكنكِ قلتِ الساعة، أنت نفسك، إنه كهل مسن مكتئب!
علية (في حنق) : ألا تريد أن تكفَّ عن الكلام في هذا؟
عمر : الآن، مستحيل! … لقد بدأ الشك يخالجني! … لو أنه على الأقل أصغر من ذلك سنًّا! … ولو لم تكن في ملامحه هذه الصرامة والكآبة.
علية : «عمر» اسکت!
عمر : سكت، وأُسدل الستار! (لحظة صمت.)
علية (مطرقة) : إنني أحترم هذا الرجل … هذا كل ما في الأمر … احترامًا عميقًا! … نعم … وأُحس نحوه شيئًا من العطف … إني لم أره سوى مرة، لكن صورته ووجهه الحزين انطبعا في نفسي دائمًا، وهذه القصة التي كتبها … أقسم لك يا «عمر» إن فيها سطورًا تُبكيني لغير ما سبب، وكم أتلوها وحدي كل مساء، وأردد كلماتها الحزينة، وأنظر من نافذتي والشمس تغيب، فلا أتمالك! … إني ما تأثرت في حياتي مثل هذا التأثر!
عمر : شيء جميل!
علية : إنك تتهكم!
عمر (في تمثيل) : حاشا ***! … إني لم أكن يومًا جادًّا أكثر مما أكون الساعة! … (ينظر في ساعته ثم ينهض) إلى اللقاء في المسرح … لا تتأخري عن السادسة!
علية : أتذهب؟
عمر : ينبغي أن أكون هناك قبل الميعاد بمقدار نصف ساعة على الأقل! … حسب التعليمات!
علية : أوَتتركني هنا وحدي؟
عمر : طبعًا … وأي ضرر في ذلك؟
علية : «عمر»! … ابقَ!
عمر (ينظر إليها محدقًا) : أخائفة؟
علية (بصوت خافت) : نعم!
عمر : مم تخافين؟
علية : لست أدري! … ابقَ معي اليوم!
عمر : يا للعجب العجاب! … «علية حمدي»، التي تخفق لها القلوب، وهي جامدةٌ، ترتجف الآن خوفًا في هذا المنزل؟!
علية (في كبرياء) : لست خائفة … اذهب حيثما شئت.
عمر : نعم! تجلدي!
علية : خسئت!
(عندئذٍ يُسمع صوت في حجرة داخلية ينادي: يا إدريس.)
علية (تشير إلى جهة الصوت، في همس) : عمر!
عمر (ينظر إليها محدقًا) : هذا هو! … يا ***! … ما هذا الاحمرار والاخضرار، كأنما كل مصابيح الإضاءة قد تسلطت بألوانها على مسرح وجهك!
علية (ناظرة إلى جهة الصوت) : صه!
(الصوت ينادي مرة أخرى: يا إدريس.)
عمر (يتحرك) : إني ذاهب.
علية : لا تذهب.
عمر : ماذا؟ … أعدت إلى …
علية (هامسة) : عمر! … ألا تسلم عليه وتسأله عما منعه من الحضور البارحة؟
عمر : لا … الوقت أزف لانصرافي … افعلي أنت ذلك نيابةً عني وعن الفرقة … إلى الملتقى! (ينصرف بسرعة).
(يُفتح باب بالجهة اليسرى، ويسمع صوت نداء واضح: يا إدريس، أين الكراوية؟)
إدريس (يظهر مسرعًا وقد كبِرت سِنُّه بعض الكِبَر عن ذي قبل) : فنجان الكراوية!
(عندئذٍ يظهر مختار من الباب الأيسر وهو لابس رداء للمنزل من الصوف، وعلى رأسه قلنسوة منزلية … وقد ابيضت سوالفُه قليلًا وتجعَّد وجهُه بعضَ الشيء.)
مختار : نعم … كالمعتاد! (إدريس يخرج … ويستدير مختار فيلمح علية) مَن هنا؟
علية (واقفة في شيء من الاضطراب) : أنا يا سيدي الأستاذ! … جئت کي …
مختار (صارخًا من غير قصد) : أنتِ من؟
علية : ألا تذكرني يا سيدي؟ … أنا «علية حمدي» ممثلة الدور الأول في رواية «الخروج من الجنة»، ألا تعرفني؟ … إني تقدمت إليك مرةً قبل الآن! … كان ذلك قرب قصر النيل، في عصر خميس!
مختار : نعم … أذكر التاريخ … كان هذا من نحو شهر.
علية : نعم … منذ شهر!
مختار : نعم!
علية : سيدي الأستاذ لا يسألني لماذا جئت؟ … ولا يريد أن يعرف السبب الذي أتى بي؟
مختار (يشير إلى مقعد) : بالطبع!
علية (تجلس) : لقد لقيت الرواية نجاحًا لم يسبق له نظير في مصر.
مختار (في غير حماسة) : حقيقة؟
علية : أوَما كنت تتوقع لها هذا النجاح يا سيدي الأستاذ؟ … إن اسمك على رواية لَكفيل أن يرفعها إلى السماء.
مختار (في غير اكتراث) : لا شأن لنا الآن بالسماء.
علية (تنظر إليه ولا تفهم عبارته) : لا تحسب يا سيدي أني جئت أزفُّ إليك البشرى! … إني منذ قرأتها وأنا أعرف النتيجة! … إحساسي وحده، وقلبي وما تركتْه فيه تلك الصفحاتُ من أثر جعلني أقدر مبلغ وقْعها في نفوس الناس! … (في تردد) ولعل من الناس من بكى لكلماتك، مثلما …
(مختار يجلس.)
علية : على كل حال! … إني جئت يا سيدي لأمر آخر! … جئت أعتب عليك … لماذا لم تحضر؟
مختار : أين؟
علية (في حرارة) : في مقصورتك بالمسرح! … إنك لا تهتم لشيء، لكن لو تعلم كيف كنت البارحة في حاجة إليك، إلى كلمة نصح منك أو تشجيع! … لقد تألمت كثيرًا … نعم … تألمت ألمًا شديدًا … لماذا لم تحضر أمس؟
مختار : لست أخرج في المساء.
بلية : لا تخرج في المساء؟ … لماذا؟ … أنت لست مسنًّا! … أنت رجل في كمال القوة والشباب!
مختار (في تهكم مرير) : أشكرك!
علية (تنظر إليه مستفسرة) : سيدي الأستاذ لا يرى في حديثي ما يثقل عليه؟
مختار : لا … استمري!
علية : ليت كلامي يسرُّك قليلًا!
مختار (في فتور) : إني مصغٍ إليك!
علية : سيدي الأستاذ … ألا تنوي مشاهدة الرواية يومًا ما؟
مختار : نعم … يومًا ما!
علية : اليوم حفلة نهارية!
مختار : قد يأتي يوم أذهب فيه!
علية : إني أعلم أنك تفضل السير على الأقدام وحدك، وأنك تكره الناس والضجيج، لكني أراك تبالغ في ذلك بعض الشيء!
مختار : ماذا تريدين أن أفعل؟ … الناس والضجيج! … فرغت من هذا كله منذ أمد طويل!
علية : لماذا؟
مختار : إنكِ حديثة السن؛ لهذا تستغربين!
علية : وأنت أيضًا لست كهلًا فانيًا إلى الحد الذي تظن!
مختار : يخيَّل إليكِ هذا!
علية : كيف تملأ إذن فراغ حياتك؟
مختار : ليس عندي فراغ!
علية : عمل طول الوقت؟
مختار : نعم!
علية : العمل فقط؟ … لا شيء غير العمل؟
مختار (في نغمة عميقة غريبة) : إنه نعمة كبرى وعزاء جميل.
(بعد لحظة كأنما يخاطب نفسه): ماذا كانت تصبح الحياة بدونه؟
علية (وهي تنظر إليه) : عزاء جميل!
(مختار يغمض عينيه.)
علية : لماذا تغمض عينيك؟
مختار : تکلمي.
علية : إنك لا تُصغي إليَّ … أنت تفكر في شيء آخر!
مختار : إني مصغٍ!
علية (تنظر إليه في تردد ودهش) : لا!
مختار (وهو مغمضٌ نصفَ إغماض) : من أين اشتريت عطر البنفسج هذا الذي تتعطرين به؟
علية : إنه قُدم إليَّ هدية! … أتراه جميل الشذى؟
مختار : نعم!
علية (في انتعاش) : كم أنت لطيف المعشر! … والناس يقولون عن جهل وحمق إنك جاف نَفور! (لحظة صمت … ثم تلتفت حولها): أتعيش وحدك … هكذا دائمًا؟
مختار : أوَتتعطرين به منذ زمن طويل؟
علية : عطر البنفسج؟ … أتعجبك رائحته كثيرًا؟!
مختار : لا بأس به.
علية : عندي زجاجة منه … أكون سعيدة لو تقبلتها مني!
مختار : لا … لا تفعلي!
علية : سأرسلها إليك غدًا … أو إذا أحببت فإني أقدمها إليك بيدي غدًا؟
مختار (في جفاء) : لا!
علية : لماذا؟
مختار : لا تفعلي! … قلت لك!
علية : لِم لا أفعل؟!
مختار (في شدة) : لا أحب هذا العطر!
علية (مأخوذة) : عجبًا!
مختار (ناهضًا) : لست أريد هذه الرائحة في منزلي!
علية (مصدومة مرتبكة) : سيدي الأستاذ!
مختار : لماذا أتيتِ أيتها السيدة؟
علية (في وجل) : ما الذي جرى يا سيدي؟
مختار : إنك لا تدركين إلى أي حد أسأت إليَّ!
علية : إني لم أسئ إليك قط!
مختار : …!
علية : لست أفهم … لكني على أي حال سأنصرف، ولن أعود.
(مختار مطرق.)
علية : أود لو تخبرني، على الأقل، بماذا أسأت إليك؟
مختار : آسف إذ أضطر الآن ملازمة حجرتي أيتها السيدة … عِمي مساء!
علية (وهي تنصرف) : لن أمثل بعد اليوم قصتَك يا سيدي، ولن تراني أبدًا!
(تخرج مسرعة، ويقف «مختار» بلا حراك لحظة، ويدخل «إدريس» وفي يده جريدة.)
إدريس : سيدي!
مختار (يرفع رأسه) : أخرجت السيدة؟
إدريس : أية سيدة؟
مختار : التي كانت هناك الساعة.
إدريس : نعم … وركبت سيارة كانت تنتظرها بالباب!
مختار (يشير إلى الجريدة شاردًا) : ما هذا؟
إدريس : صحيفة المساء!
مختار : ضعها قرب فراشي كالمعتاد.
إدريس : فيها يا سيدي خبر، قرأه لي سائق الجيران!
مختار (في فتور) : أي خبر؟
إدريس : أحمد بك رفعت، مسافر في وظيفة كبيرة إلى بلاد العجم مع أسرته!
مختار (برغمه يخطف الصحيفة) : أرني! … (وبعد أن يفرغ من قراءة الخبر يلقي بالصحيفة إلى إدريس) هذا لا شأن لي به!
إدريس (يطوي الصحيفة ويذهب إلى حجرة مختار) : سيدي يريد فنجان الكراوية الآن؟
مختار (شاردًا) : نعم!
(ولا يكاد إدريس يتحرك حتى يسمع صوت الجرس في دهليز المنزل.)
إدريس : من هذا؟
مختار (لإدريس) : لست أقابل أحدًا!
(إدريس يخرج مسرعًا، ويتجه مختار إلى حجرته مطرقًا.)
إدريس (يعود وهو يلهث) : أتعرف يا سيدي من الزائر؟
مختار (يقف مضطربًا في صوت متغير) : لا أريد أن أعرف!
إدريس : سيدتي «ليلى هانم»!
مختار : ماذا تقول؟
إدريس : هذه سيدتي «ليلى هانم» التي جاءت!
(تدخل ليلى في الحال بدون تردد أو انتظار.)
ليلى (ترى مختارًا واقفًا مأخوذًا) : مختار!
(مختار ما زال في دهش، ويخرج «إدريس» وهو ينظر إليهما في حب استطلاع.)
ليلى : تدهشك زيارتي بعد هاته السنوات! … لكنها لن تسوءك فيما أعتقد! … إنك لست ناقمًا علينا … أليس كذلك؟
مختار (يتمالك) : لا يا سيدتي!
ليلى : أود لو أحادثك قليلًا!
مختار (يشير إلى المقعد) : تفضلي!
ليلى : لا إخالك ناقمًا على أختي «عنان» لأنها تزوجت!
مختار : على النقيض يا سيدتي، إني تمنيت لها السعادة يومًا ما، ولم أزل!
ليلى (تنظر إلى أنحاء المكان) : نعم! … لكن حياتك بمفردك، هذه الحياة حتى الآن مما يزيد المسألة دقة!
مختار : أية مسألة؟ … إنما أحيا بمفردي هذه الحياة؛ لأني لا أستطيع أن أحيا مع شخص آخر!
ليلى : نعم … هذا هو الفرق بين الرجل والمرأة! … إن المرأة لَتستطيع أن تحيا مع آخر وتلد منه، دون أن تجد مع ذلك الحبَّ أو السعادة!
مختار : ربما!
ليلى : إن أختي «عنان» سيئة الحظ يا «مختار»!
مختار : في زواجها الثاني أيضًا؟
ليلى : إنها امرأة قد مات قلبها!
مختار (في تهكم خفيف) : أهذا حادث جديد؟
ليلى : أنت مخطئ! لقد ذهبنا البارحة نشاهد قصتك، ولست أكتمك أنها بكت بكاء مرًّا، ولقد أدركت من بكائها أنها امرأة خرجت من الجنة إلى الأبد!
مختار (في تهكم خفيف) : هي أيضًا؟
ليلي : إني أعلم الآن!
مختار : تعلمين ماذا؟
ليلى : لقد أخرجت «حواء» «آدم» من الجنة حقيقة؟ … ولكن أشَقِي هو مِن دونها؟! … أو أنهما هبطا معًا إلى …
مختار : «حواء»! … «آدم»؟ … كدت أنسى هذه الكلمات!
ليلى : نعم! … لقد أفضت إليَّ هذا الصباح بأشياء عجيبة، لو أردت العلم بها!
مختار : لقد طويت تلك الصحائف منذ أمد بعيد!
ليلى : وما الضرر من أن تنشر مرة أخرى؟ … إنك، ولا شك، تحكم على «عنان» حكمًا ظالمًا!
مختار : لا يا سيدتي!
ليلى : بلى … كما حكم الزمن على «حواء»! … أتريد عقيدتي يا «مختار»؟ … عقيدة المرأة التي تفهم المرأة! … إن «حواء» أخرجت «آدم» من الجنة؛ لأنها خافت ذلك اليوم الذي يقول لها فيه «سئمتك»! … كذلك فعلت «عنان»، وطلبت الطلاق منك كارهة؛ لأنها خشيت تلك الكلمة! … ليس ذلك كبرياءً منها، بل هو حرص على الحب! … إن ما يسمونه يا «مختار» كبرياء المرأة ليس في حقيقة الأمر إلا الحرص على حياة الحب! … إن «حواء» قد خلَّدت بفعلها الحب، وأنقذته من الفناء! … كذلك فعلت «عنان» بما كان بينكما من … أريد ألفظ الكلمة!
مختار : افعلي!
ليلى : لست أنا التي تستطيع.
مختار : من إذن؟
ليلى : هي نفسها إذا أذنْت … إنها منتظرة في السيارة!
مختار (مضطربًا) : ماذا تقولين؟
ليلى (تنهض) : لحظة واحدة حتى أدعوها!
(تخرج مسرعة غير منتظرة جواب «مختار».)
مختار (بلا حراك، ثم يلفظ همسًا) : «عنان»!
(تمضي لحظةٌ أخرى، ثم تظهر «عنان» وحدها وقد غيَّر منها الزمن ما غيَّر من «مختار»، لكن جمالها لم ينل منه الزمن … أما أناقتها فغير بالغة الحد الذي كانت عنده فيما مضى، فهي في ثياب بسيطة.)
عنان (تقف قليلًا بالعتبة مترددةً مضطربة، ثم تلفظ بصوت خافت) : «مختار»!
(مختار يرتجف قليلًا ولا يَحير جوابًا!)
عنان (تتقدم خطوة) : أنسيتني؟
مختار : …
عنان : ألا تسرك رؤيتي قليلًا بعد هذه الأعوام؟
مختار (متماسكًا) : سيدتي تشرفني اليوم بالزيارة لأية مناسبة؟
عنان (متألمة) : أهكذا تخاطبني؟
مختار : …
عنان : لا بأس! … إني جئت بعد تردد كثير؛ إذ ليس من السهل المجيء بعد هذا الزمن! … لكني رأيت من واجبي المجيء، فهذا اليوم كنت أنتظره طول حياتي! … يوم أستطيع أن أقنع نفسي أن شخصي الصغير كان له يومًا في حياتك بعضُ الأثر! … إنك لا تدرك مقدار سعادتي حين رأيت مواهبك الدفينة قد بُعثت فيك، واستيقظت دفعة واحدة … أليس من حقي أن أهنئك اليوم يا «مختار» مع مصر كلها، قائلة لك: مرحى أيها الشاعر العظيم!
مختار : إني أشكر لسيدتي عطفها النبيل وثناءها الجميل!
(صمت.)
عنان (تتململ في ألم، ثم تتجلد، وتتأمل المكان) : إنك تقطن هذا المنزل منذ زمن طويل؟
مختار : منذ خمسة أعوام يا سيدتي!
عنان : نعم! … نعم! … جميل على بساطته! … وتركت إذن منزلك الفخم ﺑ «الجيزة» أمام النيل؟ … أين ذهبت ثروتك؟ … لا … ليس لي حق في سؤالك مثل هذه الأسئلة! … إنك بخير إذن؟ … ها هنا؟
مختار : نعم!
عنان : نعم! … جميل هذا المنزل برغم أنه خُلوٌ من الشرفات! … وصغير طبعًا! … غير أني أرى هذا البهو يقع من هذا المنزل عين موقع البهو الآخر، ولعل حجرتك هنا، في هذه الجهة أيضًا (تشير إلى الجهة اليسرى)، أما حجرتي، أقصد في المنزل الآخر، فكانت في هذه الجهة! … (تشير إلى الجهة اليمنى) طراز البهو وحده، وما فيه من أثاث هو الذي تغير! … هذه الكتب وهذه الخزائن! … فلا وسائد، ولا فرش، ولا «بيانو»! … هنا مكان «البيانو» قديمًا (تشير إلى ركن) … ألَا تذكر؟ … إني ما زلت أذكر الأنغام التي كنت أعزفها، بالرغم من مر الزمن! … (صمت عميق … ثم تنظر إلى «مختار» الجامد!) … إني أراك لم تتغير كثيرًا، عدا هذا الشيب القليل في شعرك! … وأنا هل تراني تغيرت؟
مختار (بدون أن ينظر إليها) : لا.
عنان : نعم! … إني لم أتغير كثيرًا أنا كذلك! … غير أن عنايتي بالزينة والأزياء لم يعُدْ لها وجود، ورغبتي في التعطر والتجمل قد زالت، وعمامتي وسراويلي قد ذهبت! … إني لم أعُد «جارية الرشيد»!
مختار (مطرقًا) : …
(صمت.)
عنان : اليوم فقط بدا لي أن أعود إلى عطر البنفسج المحبوب! … لست أدري لماذا تنقُلني هذه الرائحة إلى جو قديم جميل؟! … (صمت) أرى أن زيارتي تثقل عليك!
مختار : لا.
عنان : أرجو ذلك (لحظة صمت … ولا تجد عنان ما تقطع به الصمت) إنك تقطن هنا منذ خمسة أعوام! … هذا حسن! … نعم … لا بأس بهذا الحي! … إنه هادئ، خصوصًا في فصل الشتاء، وفي الصيف أيضًا! … نعم! … (لحظة صمت … وكأنما قد فرغ منها الكلام، وتريد ألا يكون صمت.) جميلة هذه الخزائن، وهذه الكتب! … نعم! … جميلة هذه الكتب وهذه الخزائن! … (فجأة بعد لحظة حيرة منها) مختار أريد أن أقول لك شيئًا … أتسمع مني؟
مختار : تفضلي يا سيدتي!
عنان : لا … لا تقل يا سيدتي! … لست أريد أن أصدق أنك تعاملني حقيقةً هكذا! … أنت، ولا شك، ناقم عليَّ! … وتتعمد هذا الفتور کي تؤلمني! … أليس كذلك «يا مختار»؟ … إنك تظلمني … أنت لا تعلم شيئًا مما حدث … أريد أن تُصغي إليَّ لحظة … أريد أن تستمع إليَّ …
مختار : قلت لكِ تفضلي!
عنان (تتمالك في حزن) : ومع ذلك، أيُّ نفع في أن أقول لك الآن؟
مختار : حقيقةً … لا نفع!
عنان : وا أسفاه!
مختار : على كل حال، إني شاكر لك هذه الزيارة!
عنان (في ألم) : مختار! … لا تهزأ بي … إنك حقيقةً فعلت شيئًا عظيمًا! … وإني لفخور بك و … بنفسي!
مختار : نعم! … افخري بنفسك يا سيدتي!
عنان : حقيقةً لست أنت وحدك الذي … لن أقول أكثر من هذا … إني أجد لذةً وفخرًا في الصمت! … دعنا مني، كلمني أنت نفسك! … إني فخور بك! … إني لم أكن أتصور قط أن يحدث منك كلُّ هذا! … وأنك كنت تحمل في نفسك كل هذا! … إني أرى، على ما قرأت وسمعت وشاهدت من قصة البارحة، أنك قاسيت كثيرًا تلك الأعوام بما لم يخطر لي على بال … لا تندم! … لا ينبغي أن تندم! … كل شيء سيفنى … لكن الحب باقٍ! … لقد ارتفعنا إلى ما فوق الأيام الزائلة! … إن عاطفتنا الآن ملك التاريخ … قل لي … لو لم يحدث كل ذلك كيف كنا نصل إلى هذا؟ … أنت الذي كنت لاهيًا في شباب وفراغ وثراء، أي قوة كانت تستطيع إبقاء هذا الحب في قلبك طويلًا؟!
مختار (في شبه تهكم) : الحب؟!
عنان : نعم!
مختار : لست أفهم مع الأسف ما تقولين.
عنان : لا تسخر مني يا «مختار»! … أتوسل إليك ألا تسخر مني.
مختار : ما الذي يهمك اليوم من أمري؟ … ولماذا تتكلمين اليوم هذا الكلام؟ … لقد مضى كل شيء! … مضى!
عنان : لا يا «مختار»! … لم يمضِ شيء … إن ما في قلبَينا لا يمكن أن يزول … قد يتفرق شملنا وتفنى أجسامنا، وما بيننا باقٍ ما بقيت للبشر قلوب!
مختار (في قسوة) : هراء!
عنان (تُطرق وتنحدر من عينيها دمعة) : لا بأس!
مختار : أتبكين؟!
(عنان تخرج منديلها، وتجفف دمعها!)
مختار : هذه الدموع تأخرت عن حينها عشرة أعوام!
(عنان يتساقط دمعها ولا تستطيع جوابا!)
مختار (يترنم كما كان يفعل قديمًا!) :
إن عنانًا أرسلت دمعها
كالدرِّ إذ ينسلُّ من خيطه
عنان (تجيب) : فليت من يضربها ظالمًا! (ولا تستطيع الإتمام، وتشهق بالبكاء).
مختار : أكملي!
عنان (في نغمة رجاء أن يكف) : مختار!
مختار : أصبتِ! … لا ينبغي أن أذكِّرك بأويقات رجل كنت ترين السعادة في الخلاص منه!
عنان (تتمالك وتترنم) : فليت من يضربها ظالمًا! … لا … لست أريد أن تجفَّ يمناه على سوطه!
مختار (بلسان لاذع) : مهما يكن من أمرك، فأنتِ الآن سيدة تعيش في هناء مع زوج وأبناء!
عنان (في زفرة مكتومة) : هذا صحيح!
مختار : ما شأنكِ والماضي إذن؟!
عنان : احكم عليَّ يا «مختار» حكمًا ظالمًا أو غير ظالم … إنك لن تصدق الحقيقة، وليس يعلم غيرُ **** كيف أعيش! … إنك لا تعرف المرأة … إنك لا تعرف المرأة! … إني أستطيع أن أتزوج، وألد، وأؤدي واجبي كزوجة وأم؛ دون أن أنسى أني امرأة قد خرجت من الجنة إلى ما شاء ****! … إننا ما كنا زوجين يا «مختار»! … تذکر قليلًا ما كان بيننا … إن تصرفات أحدنا قبل الآخر ما كانت تصرفاتِ زوج قِبل زوجه! … لقد قلتها أنت يومًا … إنا كنا نسير على منطق آخر! … تلك ما كانت الزوجية، ولأعترف لك الآن بدوري اعترافات!
مختار : خطيرة!
عنان : لا تنتقم يا «مختار» … ولا تكن لك هذه النفس الناقمة … إنك برغم كل شيء تشعر، ولا ريب، في أعماق قلبك بالحقيقة … إني أرتضي حكم قلبك! … سَلْه ينبئك أن الذي كان بيننا أسمى عاطفةٍ عرَفتْها الأساطير؛ لهذا مضى ذلك وشيكًا، وكان ينبغي له أن يُطوى كما تُطوى الأساطير! … لا بأس! … فلنعش تجلُّدًا … ولنمُتْ تبلُّدًا! … إني مع ذلك صابرة؛ فلقد تحققت أحلامي … حسبي هذا ظفرًا من الحياة! … ماذا يهم أن تعرف أنت الثمن؟
مختار (في تأثر) : عنان!
عنان : الوداع يا «مختار»!
مختار : «عنان»! … (يسمع بوق سيارة ينفخ مرات للتنبيه.)
عنان : دعني أذهب! … هذه «ليلى» تنبهني إلى الوقت!
مختار (في توسل) : لا تذهبي! … لا تذهبي الآن!
عنان : أنسيت أن ورائي واجبًا يدعوني؟!
مختار (كمن يفيق) : واجبًا؟
عنان : نعم! … بيتي! … إننا سنبرح غدًا إلى «طهران»!
مختار : «طهران»! … نعم! … نسيت! … سامحيني! … ما أنا إلا أحمق … حسبت أننا عدنا إلى …
عنان : سوف نعود إليها في السماء!
مختار : اذهبي إذن!
عنان : لا تحزن يا «مختار»!
مختار : لا!
عنان : أحسِنْ ظنك بي قليلًا، أو لا تفعل! … ماذا يهم؟! … المهم عندي أن تغيِّر حياتك قليلًا … أدخل على نفسك شيئًا من السرور! … صحيح أن الحياة لا تساوي شيئًا، ما دمنا قد أخذنا منها أسمى ما فيها، إلا أني أتوسل إليك أن تعيش عيشًا خيرًا من هذا … اترك هذه الوَحدة وهذا الصمت حولك! … اقلب كل هذا ضجةً وأُنسًا … لو أن لك أحدًا يواسيك! … كم أرثي لك يا «مختار»! … ليت لك أولادًا يلعبون حولك، في هذا الشطر من حياتك! … ولكنك وحيد … لا بأس! … تشجَّع!
مختار : لا تهتمي بأمري! … إني أعيش كما أعيش!
عنان (في ألم) : مختار! … (تمد يدها له)!
مختار (يمد يده لها) : الوداع يا «عنان»!
(يشيعها حتى باب الصدر، فتخرج دون أن تجرؤ على النظر إليه نظرة أخيرة! … ويظل مختار واقفًا لحظةً بالباب حيث تركها، ثم يتنبه ويتحرك ذاهبًا إلى حجرته قاطعًا البهو على مهل وهو مطرق، إلى أن يبلغ باب الجهة اليسرى، فيسند كفه إليه، ويقف لحظة، ثم يرفع رأسه بعد إطراق ويمسح دمعة لمعت في عينيه!)