𝙷𝚄𝙻𝙺 𝙼𝙸𝙻𝙵𝙰𝚃
HULK MILFAT THE LEGND OF KILLER
مستر ميلفاوي
عضو
ناشر قصص
ناشر صور
ناشر أفلام
ميلفاوي متميز
ناشر موسيقي
ميلفاوي سينماوي
ناشر قصص مصورة
ناشر محتوي
مترجم قصص
ناقد قصصي
-------------------------
(الجزء الاول)
مرّت عصور لا تحصى وحدثت ظواهر غريبة جعلت السحرة حائرين ومندهشين، ولكنّهم لم يشهدوا ولم يسمعوا عن شيء كهذا.كانت السماء ساطعة بشدّة حتّى جعلت الليل نهارا بالعالم الواهن بأجمعه، وتزعزعت الأرض في جميع النواحي دون أن تترك مكانا لأيّ شخص للهروب.
فزع الناس في مختلف المدن وانكمشوا في أماكنهم بينما يحضنون أعزّاءهم كما لو أنّها نهاية العالم.
شاهدوا انشقاق الأرض وانقلاب الجبال، فبكى الأطفال، وارتعدت قلوب النساء والرجال، إذ ما سبق لهم أن رأوا مثل تلك الأهوال.
كانت استجابات سكّان العالم الواهن في تلك اللحظات موحّدة بدون استثناء، إذ غمرتهم الدهشة والرعب، كونهم يعلمون أنّ النور الذي يزيّن سماءهم ويضيء عالمهم ما هو إلّا نذير شؤم إذا صحّ التعبير بالتفكير في ما سيأتي بعده من أحداث.
كانت الملاجئ تعجّ بالناس وبالكاد استطاع الجميع الاحتماء، ففي الأشهر الأخيرة حامت فرق عديدة من السحرة حول العالم وقطعوا العالم طولا وعرضا ونشروا الخبر بوثائق مرسومة من طرف الأباطرة أنفسهم وحرصوا على أن يعلم كلّ شخص في العالم بالحدث العظيم القادم.
تكلّف زعماء القرى ونبلاء المدن بتسجيل كلّ كبير وصغير حتّى يُتأكَّد من حضور كلّ شخص في الملاجئ.
اتُّخِذت المدن الكبرى التي حكمها الجنرالات كملاجئ، لذا يمكن القول أنّها كانت آمنة أكثر من أيّ مكان آخر أصلا بحراستها الشديدة وغناها الوفير.
وفي منزل ما بعاصمة الشعلة القرمزيّة، اختبأ أحد الأطفال في حضن أمّه بينما يحدّق من تحت ذراعها إلى السماء عبر النافذة: "أمّاه! أمّاه! أمّاه!"
عانقته أمّه بشدّة وردّت: "نعم يا بنيّ، أمّك هنا، لا تقلق، سيكون كلّ شيء على ما يرام. ما هذه إلّا عاصفة وستمرّ؛ هل تعلم لمَ أنا متأكّدِة؟ ذلك لأنّ بطل عالمنا، جنرال شعلتنا القرمزيّة الأعلى، قد قال ذلك."
قبض الطفل ذراعيها بشدّة وقال مشكّكا: "حقّا؟ بطل الأبطال باسل قال ذلك؟"
ربّتت الأمّ على رأسه وأجابت بينما تعتلي وجهها ابتسامة خافتة: "هل سبق أن كذبت أمّك عليك يا بنيّ؟"
هزّ الطفل رأسه واستقام ثمّ أحكم قبضتيه وقال بوجه مشرق: "إذن لن أخاف بعد الآن يا أمّي."
سقط بعد ذلك على الأرض من شدّة اهتزازها، فصرخ من الخوف وعاد ليختبئ في حضنها، فضحكت الأمّ بشكل خفيف وقالت: "حسنا، حسنا، بنيّ 'حسن' ولد شجاع، مثل باسلنا حامي عالمنا."
انضّم إليهما الأب الذي شاهد بصمت تزيّنه ابتسامة تظهر مدى اعتزازه بأسرته، لكنّه سرعان ما غمره ذلك الهاجس الذي نتج عن خفقان قلبه من الرعب، فوجد أنّ الأمّ تشاركه نفس الشعور بعدما رأى نظرتها الحزينة التي أخفتها عن صغيرهما.
كان حال الناس لا يختلف كثيرا عن هاته العائلة الصغيرة؛ ففي مكان آخر، وقف *** يبدو في السابعة من عمره بينما يرتعد بسبب الأرض الهزّازة وبسبب الخوف: "لا تقلقي يا والدتي، أنا، 'عماد'، أعدك أن أحميك مهما حدث، فأنا شخص سيعمل تحت خدمة بطل البحر القرمزيّ مباشرة عندما يكبر كما فعل والدي عسى أن ترقد روحه في سلام."
كان صوته يهتزّ بشكل متناسق مع اهتزاز الأرض، لكنّ كلماته كانت شجاعة ومليئة بالفخر. نظرت إليه أمّه وابتسمت قبل أن تردّ: "نعم، أعلم ذلك يا عزيزي، فأنت ابن أبيك بعد كلّ شيء."
دمعت إحدى عينيْ الفتى لكنّه جمع شتات نفسه وقال: "ذلك صحيح، أنا عماد بن أشرف، عاهدت أبي أن أحميك يا والدتي، مهما كانت الظروف. لن أترك أيّ شيء يحدث لك ما حييت."
نظرت الأمّ بحنان إلى طفلها الذي يبذل ما في استطاعته ثمّ فتحت ذراعيها على مصراعيهما وقالت: "كلّ ما أريده منك هو ألّا تسبقني كما فعل أبوك وأن تبقى معي في هذه الدنيا. تعالَ يا عزيزي، أمّك تشعر بالوحدة، أيمكنك أن تمنحها عناقا؟"
ابتسم عماد ورمى نفسه في حضن والدته، فزال أحد السببين اللذين كانا يجعلانه يرتعد.
استعدّ السحرة في مواقعهم بالمدن الكبرى بينما قاد آخرون الناس وطمأنوهم وحرصوا على عدم اندلاع الفوضى. كان العالم الواهن حاليا موحّدا قلبا وجسدا.
ظلّت القلوب مرتعدة ولم يعلم أحد متى سينتهي هذا الأمر، فمرّ اليوم الأوّل على ذلك الحال ولم يصب الأذى أحدا.
وفي اليوم الثاني، انفجرت البراكين المجاورة وسمع الناس الوحوش السحريّة في المناطق السحريّة تصرخ وتزمجر بينما تبعث نيّات قتلها عبر العالم كلّه.
كانت هناك مدن جاورتها براكين أصبحت هدفا للمقذوفات البركانيّة والحمم الجاريّة والمتفجرات التي زحفت تحت الأراضي.
صرخ حرّاس تلك المدن وكانت ردود أفعالهم متشابهة، إذ استعدّوا تماما لمواجهة خطر الطبيعة الذي تشكلّ في صورة صخور بركانيّة تسقط من السماء كالنيازك.
انفجار
ولكن، قبل أن تبلغهم تلك النيازك، توقّفت فجأة في السماء، أو يجب القول اصطدمت بشيء ما لصحّة القول، فعبس السحرة وراقبوا بحذر ما يحدث.
"ما الذي يحدث بالضبط؟"
تساءل أحد جنرالات إمبراطوريّة الرياح العاتيّة بينما يشاهد تلك القبّة المضيئة التي ظهرت فجأة فوق مدينتهم وغطّتها بأكملها.
كان الحال نفسه مع باقي الجنرالات وأتباعهم في مختلف المدن التي تجابه نفس المشكلة. لم يستطيعوا أن يصدّقوا أنّه يوجد حاجز سحريّ-أثريّ حول مدنهم بهذا الشكل.
لم يسبق لأحد منهم أن رأى شيئا كهذا. كان الحاجز السحريّ-الأثريّ يمتدّ عبر الحائط المحيط بكلّ مدينة نحو المساء مكوّنا بذلك قبّة من الطاقة السحريّة التي تزيّنت برسومات بدت كدوائر عديدة بخطوط تقطعها بأنماط متنوّعة. شكّلت الدوائر في النهاية دائرة كبيرة باتّصال بعضها مع بعض.
بلع الجنرالات أرياقهم في شتّى الأنحاء ورفعوا أسلحتهم الأثريّة نحو الأعلى وصرخوا كما لو أنّهم يتشاركون نفس الأفكار بالرغم من المسافة بينهم: [يحيـــا بـــاسل!]
تبعهم بعدئذ كلّ الجنود: [يحيـــا بـــاسل!]
تردّدت تلك الجملة على مسامع الجميع فعلموا أخيرا ما كان يفعله باسل في تلك الشهور حينما كان يبني مصفوفاتٍ كما أعلن الإمبراطور كريمزون أكاغي.
صعدت القشعريرة مع أجساد الناس الذين شهدوا ما حدث قبل قليل، وارتفع ضغط دمهم من شدّة الحماس، وصرخوا: [يحيـــا بـــاسل!]
كانت تلك الجملة كتعويذة سحريّة تغذّي أرواحهم؛ ففكرة دعم باسل لهم هكذا جعلت قلوبهم المرتعدة تضخّ الدم إلى شرايينهم بسرعة أكبر ولكن هذه المرّة بسبب سعادتهم، فلم يسعهم سوى أن يهتفوا باسمه، باسمه فقط بدون أيّ لقب.
استطاعت تلك الحواجز حمايتهم من المتفجّرات التي زحفت تحت الأرض، فذلك الحاجز كان يحمي الملجأ بينما يغطّيها ككرة نصفها على سطح الأرض والنصف الآخر تحت الأرض.
لم تتوقّف البراكين حتّى بعد مرور يوم كامل واستمرّت في الهيجان، ولكنّ المصفوفات لم تتأثّر بذلك ولم تضعف مهما مرّ من الوقت، كما لو أنّ مصدر طاقتها غير محدود.
وبحلول اليوم الثالث، هاجت البحار وارتفعت الأمواج وانطلقت لتغزو اليابسة من كلّ الجهات. لم يكن هناك ساحل إلّا وسُحِق سحقا.
اختفت الأراضي شيئا فشيئا وغزت المياه العالم، فعاد الرعب ليسكن قلوب الناس مرّة أخرى.
"هل يمكن أنّ هذه نهاية العالم في الواقع؟"
كان العديد من الأشخاص الذين فكّروا بذلك بعدما مرّوا باليومين الماضيين وما زالوا يختبرون حاليا ما لم يختبره أحد قطّ في تاريخ عالمهم.
كانت هناك فيضانات بأمواج بحر هائلة سحقت العديد من المدن المهجورة وحولّتها إلى أنقاض في غضون ثوان، ولكن حتّى بعدما ازدادت شدّة تلك الأمواج مع الوقت إلّا أنّها لم تستطِع اختراق مصفوفات باسل التي أحاطت الملاجئ.
مرّت الأمواج عبر تلك المدن بعدما محقت المناطق المحيطة بها تماما، فتغيّرت تضاريس العديد من المناطق، إذ صارت بعضُ الجبال سهولا، ووديانٌ أنهارًا، وغاباتٌ أراضٍ مجرّدةً.
حلّ اليوم الرابع فتساقطت الصواعق كالمطر الغزير من السماء وأحرقت بعضا من الغابات التي نجت من الأضرار السابقة، وخلّفت وراءها صدوعا على الأرض في جميع أنحاء العالم. كانت تلك الصدوع في الواقع كوديان سحيقة عند النظر إليها عن كثب، ممّا أوحى إلى قوّة تلك الصاعقات.
وبدءا من اليوم الخامس حتّى نهاية اليوم السابع، تزلزل العالم وهاجت البراكين وفاضت المحيطات وتساقطت الصاعقات بدون توقّف فجعل ذلك الناس تتيقّن من أنّ هذه نهاية عالمهم حقّا. لم يسع بعضهم تحمّل الرعب الذي يحيط بهم خارج الملاجئ التي حمتهم من كلّ تلك المصائب وفقدوا الوعي.
بلع جنرالٌ ريقه في أحد الملاجئ وحدّق إلى الحاجز الذي يحيط بالمدينة وقال: "فقط ما الذي كان ليحدث لو لم يشيّد بطل البحر القرمزيّ هذه الملاجئ؟ هل كان لينجو سحرة القسم الأوّل من مستويات الربط حتّى؟ كان هذا ليسبّب إبادة جماعيّة لكلّ شخص تحت المستوى الثامن على الأقلّ، وأعني بالإبادة أي بدون مقاومة، لأنّه حتّى لو قاوم ذلك سحرةُ المستوى الثامن فما فوق فلا أظنّ أنّهم سينجون أيضا."
كان حال باقي الجنرالات في مختلف المدن مثله تماما، إذ شهدوا قوّة ورعب التحوّل الروحيّ لعالمهم.
كان هناك بعض الجنود الذين راودتهم بعض الأسئلة حول ما سيحصل تاليا: "يا أيّها الجنرال آو، هل كان يعلم الجنرال الأعلى يا ترى ما سيحدث عند التحوّل الروحيّ؟ أعني هذه الكوارث الطبيعيّة."
كان المخاطَب هو رئيس عائلة آو، آو لان من إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، والذي حدّق إلى تابعه ثمّ نظر إلى الحاجز الذي يحيط بالمدينة مرّة أخرى: "هل تظنّ أنّه لو كان يعلم سيخفيه عنّا؟"
أحسّ الجنديّ بالهلع بما أنّ الجنرال قد أبدى تعبيرا سيّئا وتكلّم بنبرة صوت مهدِّدة، فسارع الجنديّ بالاعتذار: "اعتذاراتي يا سيّدي، لقد كان هذا التابع جاهلا."
ظلّ الجنرال آو ينظر إلى الحاجز باهتمام شديد ودهشة كبيرة، قبل أن يحدّق إلى تابعه ويجيب: "حتّى الجنرال الأعلى لا يعلم؛ فعلى ما يبدو، تحوّل العوالم الروحيّ يختلف من عالم إلى آخر والظواهر المصاحبة لذلك ليست ثابتة، ولكنّنا نعلم على الأقلّ أنّ مثل هذه الكوارث الطبيعيّة كانت أكيدة بالرغم من أنّنا لم نعلم عن الترتيب الذي ستحدث عليه أو الشكل الذي ستتّخذه."
تصنّت التابع رفقة زملائه بصمت ونظروا إلى الحاجز أيضا بتعجّب.
انتهت ليلة اليوم السابع وحلّ فجر اليوم الثامن، فرأوا الهواء يتموّج ويصدر اهتزازات غريبة أينما حطّت أنظارهم، فلاحظوا بعض التشوّهات الغريبة في الفضاء كالضبابيّة التي تراها العين تحيط بالنيران.
كانت تلك الضبابيّة في الهواء تحدث في العديد من الأماكن، وبدت مخيفة كونها جعلت الناس يحسّون بالهواء ثقيلا، إذ صارت في الواقع جاذبيّة العالم أقوى مع مرور الوقت كما لو أنّها تحاول سحق كلّ شيء.
لم يعلم أحد عمّا كان يحدث للوحوش السحريّة نظرا لكونهم محتجزين في الملاجئ، وكون المناطق المحظورة كلّها معزولة عن العالم تماما بسبب التغيّر المفاجئ في حواجز الحماية السماويّة.
كانت هناك حواجز حماية سماويّة تتغيّر تدريجيّا مع مرور الوقت إذ كانت طاقتها السحريّة تصير أنقى أكثر فأكثر بينما تبعث طاقاتها إلى أعماق المناطق المحظورة لتتخلّل التربة والأشجار والأحجار.
كلّ شيء في تلك المناطق المحظورة صار يتوهّج بطاقة تبدو أقوى وأنقى بكثير من الطاقة السحريّة، تلك كانت طاقة روح العالم الواهن.
فلو كانت الطاقة السحريّة هي طاقة الحياة التي تتمثّل في الجسد والدم والعقل، فالطاقة الروحيّة هي الطاقة التي تنبع من الروح نفسها.
مثلما يصير الساحرُ ساحرًا روحيًّا والوحوشُ السحريّةُ وحوشًا روحيّةً، كذلك العوالم السحريّة تغدو عوالمَ روحيّةً؛ كانت هذه إحدى قوانين الوجود.
والآن عندما بلغ العالم الواهن هذه المرحلة، لم يكن هناك عودة. وطيلة الأسبوع القادم، استمرّت تلك الظواهر بالحدوث دون توقّف حتّى حان الوقت الذي تفكّكت فيه المصفوفات التي صنعها باسل واحدة تلو الأخرى.
***
كان الأسبوع الماضي مرعبا للغاية من الأسبوع الذي سبقه، إذ لاحظ الناس عالمهم يتغيّر حرفيّا وخصوصا عندما ازدادت قوّة تلك الجاذبيّة لدرجة تؤثّر فيها على التضاريس مثلما فعلت تلك الكوارث الطبيعيّة الأخرى، حتّى صار العالم الواهن مختلفا عمّا اعتادت عليه الأعين.
انقسمت القارّات وانهدمت الجزر وتغيّرت مواقعها فصارت خريطة العالم الحالية بدون فائدة. كان الشرق قد غدا غربا، والجنوب شمالا، وبدأ الناس يشكّون في حقيقة كون السماء فوقهم أم أسفلهم.
حدث كلّ هذا ولكنّ المصفوفات التي صنعها باسل جعلت الملاجئ منيعة ضدّ كلّ هذه التحوّلات والتغيّرات، فحتّى عندما انقلبت الجبال وزحفت القارّات وتساقطت المقذوفات البركانيّة وغرقت الأراضي تحت المحيطات، صمدت الملاجئ وحافظت على استقرارها ولم تتغيّر مواقعها.
فعندما غرقت المناطق المجاورة كانت الملاجئ بارزة فوق المياه، وعندما تحرّكت الأراضي تحرّكت الملاجئ معها محافظة على نفس البقعة التي كانت عليها كما لو أنّها تتكيّف مع كلّ تغيّر يحدث.
تدمّر العالم الواهن تماما بحلول اليوم الرابع عشر، وتوقّفت كل تلك الظواهر أخيرا مريحةً قلب الناس الذين اسودّت ملامحهم لمّا لاحظوا المصفوفات تختفي بدءا من مركزها في السماء وتبدّد في الهواء مندمجةً مع الجزيئات السحريّة.
ارتعب الناس لكنّ الجنرالات أكّدوا بعدما دقّقوا الملاحظة لوقت طويل: "لقد انتهى الأمر، لقد انتهت تلك الظواهر المخيفة."
وفي هذه الأثناء، في الأرض المسالمة المباركة، وقفت أنمار بحرص شديد بالقرب من البحيرة المباركة، برفقة قادة التشكيل والجنرال منصف والتاجر ناصر والجنرال رعد وبعض الكيميائيّين والحدّادين، وترقّبوا الشيء الأخير المتوقّع حدوثه.
ردّدت أنمار: "ستبدأ نهاية تحوّل العالم الروحيّ، أو يمكنك القول تحوّل العالم الروحيّ الحقيقيّ."
استغرب التاجر ناصر فسأل: "التحوّل الروحيّ الحقيقيّ؟ ما المقصود بذلك يا سيّدتي أنمار؟"
عبست أنمار وردّت بعد لحظات من الصمت: "الآن، سيتحوّل جوهر العالم السحريّ إلى جوهر روحيّ بشكل كامل، وبذلك يتجدّد العالم كما لو أنّه يُصلح ويعالج نفسه، وتبدأ بعد ذلك الوحوش السحريّة بقمّة المستوى الرابع عشر الاختراق إلى المستويات الروحيّة."
بلع العديد من الأشخاص أرياقهم عند التفكير في هذا الأمر، فبالرغم من أنّهم قضوا على معظم الوحوش السحريّة بذلك المستوى، إلّا أنّه ما يزال هناك وحوش أخرى وخصوصا بقارّة الأصل والنهاية، وسيأتي وقت وتُنعش فيه من جديد كلّ تلك الوحوش التي قضوا عليها.
أكملت أنمار: "الآن، ستختفي كلّ المصفوفات التي صنعها باسل، والتي بُنِيَ أساسها على أوردة الطاقة السحريّة التي ستتعرّض لتغيّرات بعد التحوّل روحيّ."
بالفعل، كان باسل قد استخدم الحكمة السياديّة ليجد هذه الأوردة، وأوّلها كان الوريد الذي تتبّعه انطلاقا من مدينة العصر الجديد برفقة العالم المجنون. كانت هذه هي الغاية من رحلة باسل، لكنّه لاحظ اتّصال ثلاث مناطق بمنبع ذلك الوريد ذاته الذي كان في نهر ددمم التنين، إذْ كانت المناطق الثلاث هي مدينة العصر الجديد والأرض المسالمة المباركة ووكر الوحش النائم.
أراد باسل في ذلك الوقت أن يكتشف حقيقة الوريد، لكنّه ظلّ بدون تأكيدات لقلّة الدلائل، واستمرّ ذلك حتّى اكتسب الرخصة من الوحش النائم وعلم عن السبب الذي جعل ذلك الأخير يضع وكره في ذلك المكان بالتحديد.
وبالطبع، اكتشف لمَ وضع معلّمه أساس أكاديميّة الاتّحاد العظمى في الأرض المسالمة المباركة، ومدينة العصر الجديد في ذلك المكان بالتحديد؛ كان ذلك لأنّ تينك المنطقتين، مثل الوكر، كانتا متّصلتين بشكل مباشر بمنبع الوريد في نهر ددمم التنّين.
ارتحل في العالم بعدئذ ووجد بعض الأوردة الطبيعيّة التي توجد في أيّ عالم، وربط المصفوفات التي صنعها بها حتّى يستمدّ منها الطاقة اللازمة، وبذلك كان قد انتهى من عمله بمساعدة أوبنهايمر فرانكنشتاين.
كان هذا ما عناه عندما سأله أوبنهايمر فرانكنشتاين عن سبب رحلتهم عند مغادرتهم لمدينة العصر الجديد وأجابه باسل: "ليس صعبا، سنبحث عن أشياء، ونضع أشياء، ثمّ ننتظر، وبذلك سنصنع أشياء."
حدّقوا بعد كلام أنمار إلى السماء والمناطق المحيطة بهم، ثمّ قال كين نبيل: "وماذا عن هذه المنطقة؟ فعلى عكس المصفوفات التي بناها السيّد باسل، هذه الأرض المباركة أصلا حصنٌ خام احتاج أن يُصقَل وذلك ما حصل عند بناء الأكاديميّة، ولكن ماذا سيحدث عند التحوّل الروحيّ الحقيقيّ؟"
ترقّب الجميع الردّ من أنمار، فلا أحد غيرها امتلك الإجابة في نظرهم، لكنّها تنهّدت وقالت: "هذا أمر مجهول أيضا. فهذه الأرض المباركة ستتعرّض للتغيّر بدون شكّ عند التحوّل الروحيّ الحقيقيّ، لكنّني لا أعلم كيف سيكون لك، وبالطبع باسل أيضا لا يعلم، وإلّا كان ليخبرنا بذلك."
حكّ الجنرال رعد ذقنه وقال: "إذن حال هذا مثل حال الكوارث التي حدثت في الأيّام الأربعة عشر الماضية. فحتّى لو علمنا أنّ التحوّل الروحيّ الحقيقيّ هو المرحلة الأخيرة، يبقى التغيّر الذي سيحدث لبعض المناطق يختلف من منطقة إلى أخرى."
أومأت أنمار إليه: "نعم، للأسف."
شبك تورتش ذراعيه على صدره بينما يضع يده اليسرى على ذقنه وقال: "ومتى سيحدث هذا بالضبط؟ أعني، قد مرّ الأسبوعان."
أومأت أنمار: "صحيح، قد مرّت الأيّام الأربعة عشر، لذا لن يطول هذا، وفي أيّ لحظ..."
لم تكمل أنمار كلامها حتى تزلزلت الأرض من جديد. شعروا كما لو أنّ صاعقة ما نزلت على رؤوسهم من الدهشة؛ لاحظوا أنّ هذا الزلزال مختلف تماما عن تلك الزلازل السابقة.
فبعدما مرّ العالم بكلّ تلك الظواهر الكارثيّة وسُحِق تحت تأثير الجاذبيّة، لاحظوا أمام أعينهم الفضاء يتمزّق وينفتح كفم عملاق. بدأ ذلك يحدث في شتّى أنحاء العالم الذي سطع فأصبح الكوكب بكامله يبدو ككرة مشعّة من الضوء الأزرق الفاتح؛ صار يبدو كنجم أزرق في الفضاء الشاسع.
لم يفهم أيّ أحد ما كان يحدث، وغاب البشر عن الوعي قبل أن يفكّروا في ذلك حتّى، ولحقهم في ذلك السحرة حتّى المستوى السابع، وبالكاد حافظ السحرة من المستوى الثامن حتّى المستوى الثالث عشر على وعيهم فلم يقدروا أن يستوعبوا بعقولهم المشوّشة وأرواحهم المضطربة ما يحدث، وظلّ سحرة المستوى الرابع عشر صامدين أمام انكسار الزمكان.
وقفت أنمار صامدة برفقة الجنرالين رعد ومنصف، وقائديْ تشكيل بطل البحر القرمزيّ تورتش وشي يو، وبعض الحدّادين والكيميائيّين الذي بلغوا المستوى الرابع عشر، من بينهم الكيميائيّون الثلاثة والحدّاد سميث واثنين من معاونيه الذين علّمهم باسل تقنياته عندما قدم إلى عائلة كريمزون أوّل مرّة. وأخيرا، وقف أوبنهايمر فرانكنشتاين بعيدا عنهم بدون صعوبة بينما يقترب من صفاء الغائبة عن الوعي بين ذراعيه.
كان هؤلاء هم سحرة المستوى الرابع عشر الموجودين هنا واستطاعوا الصمود. فالجنرال رعد امتلك موهبة مدهشة مكّنته من مواكبة سرعة أنمار وتورتش وشي يو اللذين تعلّما على يد باسل وأنمار جنبا إلى جنب مع القادة الآخرين. أمّا الجنرال منصف فقد استهلك حبّة الولادة الجديدة السحريّة ولحقهم، بينما ظلّ الكياميائيّون والحدّادون في المستوى الرابع عشر منذ مدّة طويلة منتظرين تحوّل العالم الروحيّ حتّى يستطيعوا الاختراق إلى المرحلة التاليّة.
أمّا أوبنهايمر فرانكنشتاين، فقد كان شخصا ذو موهبة مرعبة، ولولا ضعف اهتمامه بالسحر مقابل اهتمامه الشديد بالتجارب والخيمياء وتطوّر المخلوقات لكان قد بلغ مرحلة الصاعد الحقيقيّ منذ مدّة طويلة، لكنّه كان يصرف وقته في تجربة العديد من الأشياء على جسده وعلى مخلوقات أخرى.
حدّقت شيرايوكي إلى أنمار بصعوبة بينما تجثو على ركبتيها وتتنفّس بصعوبة، محاولةً الحفاظ على وعيها في ظلّ هذه الظروف المتقلّبة حرفيّا.
فمهما حاولوا فهم ما يحدث لم يستطيعوا، فتارة كانوا يجدون الشخص الذين يرونه أمامهم خلفهم أو بجانبهم كما لو أنّ صورهم تنعكس وتختفي باستمرار.
شعروا بالغثيان الشديد وآلمتهم رؤوسهم فشعروا أنّها ستنقسم لأجزاء، وتغيّرت درجة حرارة أجسادهم حتّى اختفى إحساسهم بالحرارة وصاروا لا يفرّقون بين البرودة والسخونة.
ومع ذلك، حصل هذا فقط للسحرة بالمستوى الثامن وما فوق، ولم يتأثّر الأشخاص الغائبين عن الوعي، كما لو أنّ غيبوبتهم أنقذتهم من العناء الذي لم يكونوا ليتحمّلوه لو اختبروه.
صرخ الجنرال رعد: "فليخبرني، أحد، عمّا، يحدث، اللعنة، هل هذا، من، المفترض، أن يحدث، هكذا؟"
لم يحصل الجنرال رعد على أيّ إجابة، وذلك لأنّه لا أحد قد فهمه أصلا، فكلامه في الواقع قد تجزّأ بطريقة غريبة.
فهو حقّا قال الكلام بشكل عادي، لكنّ بعضهم سمعوا جزءا من كلامه فقط بينما آخرون سمعوا الكلام معكوسا أو عشوائيّا كما لو أنّ الكلمات غير متّصلة لتكوّن جملا مفيدة.
عبست أنمار وحاولت التحدث: "هذه، التشوّهات، الفضائيّة، تحدث لأنّ، فضاء، العالم بنفسه، يتغيّر. فبعدما ينتهي، كلّ، هذا، لن يكون عالمنا، كما كان، عليه بشكل، كلّيّ."
بالطبع، بالرغم من أنّها حاولت الشرح، إلّا أنّ بعضا من كلماتها فقط ما استطاعوا استقباله.
كان هناك شخص آخر فهم الحالة جيّدا بدون أن يشرح له أحد، وأوّل ما فعله هذا الشخص عندما بدأ التحوّل الروحيّ الحقيقيّ هو الذهاب للاجتماع بـ"الشخص"... لا... بل للاجتماع بـ"الشيء" الأكثر أهميّة عنده حاليا.
كان ذلك أوبنهايمر فرانكنشتاين، والذي حمل صفاء وأمّنها عنده حتّى لا تفترق عنه ولو بتشوّه الفضاء.
لاحظت أنمار ذلك أيضا فاقتربت من شيرايوكي وحاولت إمساكها، لكنّها وجدت نفسها تمدّ يدها للفراغ فجأة، وعندما استدارت رأت شيرايوكي خلفها. لم تعلم ما إذا كان ذلك بسبب الهلوسات الناتجة عن الصداع الذي يشقّ رأسها أم بسبب تشوّه الفضاء جعل مسار تحرّكاتهم عشوائّيا.
استمرّت بالمحاولة حتّى نجحت أخيرا في إمساك شيرايوكي بالصدفة، فلاحظت أنّ لا تفترق عن صديقتها بالرغم من كلّ ما يحدث.
لاحظ تورتش ما حدث عندما كانت أنمار وشيرايوكي تختفيان في نفس الوقت، ففعل نفس الشيء مع شي يو، فلاحظ الآخرون الأمر وقلّدوهم بالرغم من أنّ ذلك استغرق وقتا طويلا، واستمرّ ذلك حتّى استطاعوا أن يتّحدوا كلّهم لتشرح أنمار ما يحدث من خلال ما فهمته.
كان معلوما أنّ العالم سيتوسّع بشكل عجيب عندما يتحوّل روحيّا، ولكن اختلفت طريقة حدوث ذلك من عالم لآخر، لذلك كانت أنمار تشرح لهم ما يحدث حاليا حتّى لا يهلعوا.
أصبح العالم مضطربا وساكنا في نفس الوقت، إذ غاب معظم المخلوقات فيه عن الوعي وظلّ قلّة فقط مستيقظين ليروا مدى عجزهم عن فعل شيء أمام القوة الغامرة التي تصحب التحوّل الروحيّ.
كان هناك سحرة اعتقدوا أنّ الغيب عن الوعي حاليا يُعدّ نعمة بدل مواجهة هذه العشوائيّة في الزمكان.
دار النجم الأزرق في الفضاء حول نفسه بسرعة كبيرة وبدا كما لو أنّه يكبر بينما يزداد ضوؤه إشعاعا، أو كما لو أنّ الفضاء حوله يتموّج بطريقة غريبة ويجعله يبدو أكبر ممّا كان عليه.
كانت هناك أراضٍ تظهر من تحت البحار وأخرى تنبثق في السماء، ولكن ذلك لم يكن بسبب الدمار، بل بدا الأمر كما لو أنّ تلك الأراضي قد نُقِلت آنيا إلى هناك بدون إحداث أيّ ضرر.
همدت أمواج البحار فقط لتهيج في مكان آخر، كما لو أنّ الأمواج الهائجة استُبدِلت بالهادئة، أو بالأحرى، كما لو أنّ بحرا قد استُبدِل بآخر.
لم يستطع أحد تفسير هذه الأشياء مهما حاولوا، وفقط اقتنعوا بحقيقة تحوّل العالم لعالم روحيّ؛ كان مثل هذا الأمر لغزا محيّرا لهم، لكنّهم استسلموا عن محاولة فكّه؛ علموا أنّ هذا من ألغاز الكون التي لن يستطيعوا كشفها مهما مرّ الزمن.
كانت هذه أقوى عجائب الأساطير في العوالم الروحيّة، فليس هناك عالم روحيّ وإلّا اختبر أشياء لا يتقبّلها العقل عند تحوّله.
لماذا يتحولّ العالم إلى عالم روحيّ؟ لأنّه يستجيب لحاجة السحرة الروحيّين للطاقة الروحيّة. لماذا هناك سحرة روحيّون؟ لأنّ العالم ينتج الطاقة الروحيّة. كان وما زال هذا الأمر غامضا، وبسبب ذلك قد لا يكون هناك في كلّ العوالم ولو شخص واحد لا يزال يبحث ويحاول كشف الستار عن ذلك الغموض؛ لقد كان هذا يفوق قدرات السلاطين حتّى.
هل وُجِد العالم الروحيّ أوّلا أم كانت الأسبقيّة للسحرة الروحيّين؟
بالرغمّ من أنّ باسل قد وجد ذلك العالم الثانويّ واستطاع أن يستمدّ الطاقة الروحيّة منه، إلّا أنّه بدون ذلك حتّى فالعالم الواهن كان سيستجيب لرغبة الصاعد الحقيقيّ في بلوغ المستويات الروحيّة وينتج طاقة شبه روحيّة في بعض المناطق قبل أن يتحوّل إلى عالم روحيّ حتّى، وعندما ينقّي الصاعد الحقيقيّ طاقته السحريّة لدرجة معيّنة ويدمجها بالطاقة شبه الروحيّة سيُنتج الطاقة الروحيّة.
أمكن تسمية الطاقة شبه الروحيّة بالطاقة الروحيّة المزيّفة، لأنّها ليست طاقة روحيّة حقيقيّة بل مجرّد طاقة سحريّة نقيّة لدرجة نقاوة الطاقة الروحيّة.
ومع ذلك، يظل اللغز دائما محيطا بمن كانت له الأسبقيّة – العالم الروحيّ أم السحرة الروحيّون؟
مرّت مدّة لا يعلم أحد عن طولها، فتضاءلت سرعة دوران النجم الأزرق حول نفسه حتّى صارت غير ملحوظة، وبدأ الضوء الأزرق ينقشع كسحابة تبدّدها رياح عاصفة، فصارت السماء طبيعيّة من جديد، إلّا التضاريس التي كانت بشكل محدّد وأصبحت في شكل آخر تماما.
في هاته اللحظات، كان الكوكب يبدو أكبر بكثير عمّا سبق لدرجة لا يمكن فيها الغفل عن الفرق، فحتّى الأراضي والبحار التي كوّنته ذات مرّة اختفت بين أراضٍ جديدة وبحار أخرى.
طالت غيبوبة الغائبين عن الوعي، ورسّخ المستيقظون أقدامهم على الأرض ونظر بعضهم إلى بعض بأوجه بلهاء توصف درجة جهلهم بحالتهم.
بلع تورتش ريقه وقال: "هـ-هل انتهى الأمر أخير؟"
لم يجبه أحد لمدّة كونهم كانوا بمثل درجة اندهاشه وروادهم نفس السؤال، حتّى استطاعت أنمار التيقّن أخيرا: "هذا ما يبدو عليه."
استغرب الجنرال رعد لمّا هدأت الاوضاع ورأى الوضع حوله، فانتبه الآخرون أيضا لمحيطهم لتعتليهم نفس التعبيرات. قال بينما يتحسّس الجوّ بيديه: "ما هذا الضباب الغريب؟"
كان يحاول اكتشاف سبب امتلاء المنطقة حولهم بذلك الضباب الذي غطّى مدى شاسع للغاية.
"هذا؟!" حتّى أنمار تعجّبت: "نحن بالتأكيد ما زلنا في نفس المكان الذي كنّا فيه قبل أن يبدأ ما حدث. هذه أرض الأكاديميّة من دون شكّ، فأنا ما زلت أستطيع الشعور بالأكاديميّة والبحيرة المباركة والمناطق المحظورة التي تحيط بهذا المكان. ولكن هذا الإحساس...!"
اقتربت شي يو من أنمار لتسألها عن الإحساس الذي شعرت به: "هل سبق لكِ أن مررت بمثل هذه التجربة؟ أعني هذا الضباب."
"لا أعلم..." كانت أنمار متفاجئة للغاية من الفكرة التي طرأت في بالها: "هذا الشعور، هذا يذكّرني بالإحساس الذي يراودني لمّا أحلّق في السماء وأخترق السحب بوحشي المستدعى."
"ماذا؟" فتح الجنرال عينيه على مصراعيهما وقال: "معك حقّ. الآن بعدما قلتها، حقّا هذا يبدو مثل المرّة التي حلّقنا فيها بوحشك المستدعى."
هزّ يده في الهواء كما لو أنّه يحاول إزاحة الضباب وقال: "إذن... هذا... هل هذا ممكن؟"
نظرت أنمار إلى شيرايوكي التي ما زالت تجد صعوبة في الوقوف ثمّ إلى الآخرين قبل أن تقرّر: "سأذهب لأتحقّق من شيء ما."
"انتظـ..."
أراد الجنرال أن يوقفها حتّى يعرف ما نيّتها، لكنّ أنمار كانت قد رحلت بالفعل واختفت بعيدا.
تجاوزت الأرض المسالمة المباركة ودخلت إلى المناطق المحظورة التي تحيط بها. استطاعت أن تدخل إلى المناطق المحظورة كالعادة لكنّها لم تضِع وقتها هناك لترى الاختلافات التي حصلت بما أنّها كانت مستعجلة.
لم يكن هناك ذلك الضباب في بعض المناطق التي مرّت بها لكنّه كان موجودا في مناطق أخرى.
لم يبدُ على أنمار أنّها تنوي التوقّف بالرغم من أنّها قطعت مسافة طويلة جدّا. بدا الأمر كما لو أنّها تريد أن تصل لمكان ما لكنّها لا تعلم أين هو. جرت وجرت لمدّة طويلة وقطعت مسافة طويلة للغاية، لكنّها لم تلمح شيئا غريبا.
كانت ملامحها جادّة، وأصبحت حادة عندما لمحت شيئا ما أخيرا. بدت كما لو أنّها بلغت ما أرادت، فتحوّلت نظراتها الجادّة والحادّة ببطء إلى نظرات تعجّب تامّ.
أمام عينيها، لم يكن هناك أرض لتجري فوقها، كما لو أنّها تقف عند جرف، إلّا أنّه لم يكن بجرف فعلا نظرا لانعدام الطرف الثاني من الأرض أمامها، كما لو أنّها وصلت إلى حافّة العالم.
كانت تقف هناك بينما تحّدق إلى الضباب الذي يحيط بها من كلّ جهة، فبلعت ريقها ونظرت إلى الأرجاء من جميع الجهات لتتيقّن أخيرا من شكّها.
"هذا...! لقد حدث فعلا. هذا الضباب، إنّه ليس بضباب في الواقع وإنّما سحاب!"
بلعت ريقها وصرّحت لنفسها الحقيقة المذهلة: "الآن، قد أصبحت الأرض المسالمة المباركة والمناطق المحيطة بها عبارة عن جزيرة عائمة في السماء!"
***
(سعيد لأنّ خواتم التخاطر تعمل الآن، يبدو أنّ غدوّ عالمنا عالما روحيّا لم يؤثّر على عملها.)
تحدّث الجنرال رعد عبر خاتم تخاطره مع شخص ما. بدا سعيدا للغاية أنّه لم يواجه مشكلة في الاتّصال بمن يريد، وكان أسعد بعدما سمع الشخص الآخر يقول له: (لقد اتّصلت بسيّدي تشارلي ويبدو أنّه والعاصمة بخير وعلى ما يرام.)
كان هذا هو الجنرال براون، معلّم الجنرال رعد وتلميذ الجنرال تشارلي.
(هذا مفرح حقّا، انتظر من فضلك...)
قوطعت محادثة الجنرال رعد من تورتش الذي أبلغه بالتالي: "ليس هناك أيّ ضحايا في الأرض المسالمة المباركة، إلّا أنّ هناك من لا يزال فاقدا للوعي وهناك من تلازمه آلام في الرأس، ولكن لا يبدو أنّ هناك خطر على حياتهم. إنّ 'شي يو' و'هيل' يقدّمان المساعدة بعنصر العلاج."
كان هيل من بين الشخصيّات المهمّة حاليا في العالم الواهن، وأتى إلى هنا مرافقا العائلة الإمبراطوريّة للأمواج الهائجة، عائلة أزهر.
ارتفعت معنويّات الجنرال رعد: "حقّا؟ هذا جيّد. الآن كلّ ما علينا أن نأمله هو ألّا يكون هناك ضحايا في مختلف بقاع العالم."
كانت شي يو قد أسرعت إلى المنزل الذي تقيم فيه عائلة باسل وأنمار حتّى تطمئنّ على لطيفة والأُخريَيْن، وكذلك فعل بقيّة قادة التشكيل، وغادر الكيميائيّون والحدّادون للاطمئنان على الأباطرة برفقة الجنرال منصف، وظلّ هنا تورتش والتاجر ناصر برفقة الجنرال رعد فقط.
كان تورتش يريد معرفة ما الذي جعل أنمار تهرع بذلك الشكل، لكنّه كان قلقا على عائلة باسل لذا أرسل الآخرين بينما انتظر عودة أنمار. كان حال التاجر ناصر نفسه، إذ كان مهتمّا للغاية في تصرّف أنمار والجنرال رعد سابقا.
أكمل الجنرال رعد بعد ذلك كلامه مع معلّمه: (يا سيّدي، يبدو أنّ كلّ شيء على ما يرام هنا أيضا. قد يكون بإمكاننا الشعور بالسعادة كما نشاء الآن ونخفّف من شدّة توتّرنا.)
أجابه الجنرال براون بعد صمت وجيز: (لقد انتهى إذن. انتهى التحوّل الروحيّ لعالمنا أخيرا! هل يجب أن نفرح لأنّ هذا الأمر انتهى بدون مأساة أم نفكّر في المستقبل الذي ينتظرنا مجهّزا لنا معارك ضاريّة؟)
(هاهاها،) ضحك الجنرال رعد بصوت مرتفع وقال: (لطالما كنتَ هكذا يا معلّمي، دائما تفكّر في الأخطار القادمة فقط.)
تنهّد الجنرال براون وردّ بجدّيّة: (أولستَ الشقيّ الذي يعامل الأمور برخاء دائما؟ لقد اعتقدت أنّك تعلّمت درسك وأصبحت جادّا، فما بال استهتارك هذا الآن؟)
كانت معنويّات الجنرال رعد مرتفعة حتى أنّه لم يسمح لمعلّمه أن يبدأ بمحاضرته الآن، فقال: (هيّا، هيّا، لا تكن صارما هكذا يا معلّمي. إنّني جادّ ومجتهد طوال الوقت، فأنت يجب أن تعلم ذلك أكثر من أيّ شخص آخر. في ذلك اليوم، عندما جابهنا ذلك الشيطان، تغيّرت حياتي تماما.)
حدّق إلى الأفق وأكمل: (ولكن، ما لا تعلمه يا معلّمي هو، أنّه كما تغيّرت حياتي بلقائي بذلك الشيطان وغرقت في ظلام عميق بسببه، تغيّرت حياتي مرّة أخرى بلقائي بشقيّ قرمزيّ مغرور.)
ضحك الجنرال براون قبل أن يجيب: (هاهاها، ما هذا؟ ما هذا يا ترى؟ أو لم تكن العنيد الذي عارض فكرة الاتّحاد معه وعائلة كريمزون؟ فما هذا الذي أسمعه من فمك؟ هل حقّا تخبرني الآن أنّ السيّد باسل جعلك ترى النور في ذلك الظلام العميق؟)
احمرّ وجه الجنرال رعد وندم على قول ما قال. لقد ذلك بدون أن يشعر أو يكفر فيه كثيرا. قال بسرعة: (لـ-لا، لا تفهمني بشكل خاطئ من فضلك. أعني فقط أنّ وجود شقيّ مزعج مثله يجعل الحياة مشغولة وينسيك في بعض الأشياء.)
استمرّ ضحك الجنرال براون لمدّة وجيزة بسبب طريقة استجابة تلميذه على إغاظته له، وقال بجدّيّة بعدما اكتفى من الضحك: (ولكن معك حقّ يا رعد، لقد فقدتُ الأمل في ذلك اليوم حقّا وظننت أنّنا ميّتين لا محالة إذا حدث وظهر ذلك الشيطان مرّة أخرى، لكنّني استطعت رؤية الأمل عندما التقيت بالسيّد باسل. في الواقع، لم أهتم أبدا بعائلة غرين آنذاك عندما قرّرت مساعدته، فما جعلني أنضمّ إليه كان هو رغبتي في رؤية ما يمكن أن يصل إليه؛ كانت تلك أمنيّتي الأنانيّة أن أرى شخصا قادرا على الوقوف في وجه ذلك الشيطان الذي لم نكن قادرين على فعل شيء ضدّه.)
ضيّق الجنرال رعد عينيه بينما ينظر إلى الأفق ويفكّر في كلام معلّمه. ابتسم بعد ذلك وقال بينما يحكّ رأسه: (إنّني حقّا تلميذك في نهاية المطاف يا سيّدي.)
فهم الجنرال براون لمَ قال تلميذه مثل هذا الكلام؛ لقد كان الجنرال رعد يشعر تماما مثله لكنّه لم يرِد أن يقول ذلك بشكل صريح.
قال الجنرال براون: (بالمناسبة، أين هو السيّد باسل الذي نتحدّث عنه؟ ألم يصل إلى هناك بعد؟ هل استطعتم الاتّصال به على الأقلّ؟)
(ذلك...)
أراد الجنرال رعد أن يجيب معلّمه لكنّه رأى أنمار عائدة بسرعة، فجعل معلّمه ينتظر مرّة أخرى وأسرع للقائها: "ماذا حدث يا أيّتها الفتاة الشقراء؟"
أجابت أنمار عن سؤال الجنرال رعد مباشرة: "يبدو أنّ شكّنا كان في محلّه... نحن نطفو في السماء الآن."
نزل فكّ الجنرال رعد السفليّ حتّى كاد يصل لصدره. لقد شكّ في الأمر لكنّه ما زال مفاجئا حقّا عندما يسمع أنّه حدث فعلا.
تحمّس بعدما جمع شتات نفسه من الصدمة: "نحن الآن في السماء؟ إذن هذا الضباب، إنّه سحاب! هذا... هذا مذهل! رائع للغاية!"
نظرت أنمار إلى الأكاديميّة ثمّ قالت: "لنتحدّث عن هذا عندما نجتمع بالآخرين، فأنا أريد أن أطمئنّ على عائلتي والآخرين بسرعة."
ابتسم الجنرال رعد: "لا تقلقي، لم يُصَب أحد بأذى. لقد سمعت أن السيّدة لطيفة وأمّك برفقة جدّة الفتى القرمزيّ بخير. أمّا تلك الفتاة الصغيرة، إنّها بخير بجانب أخويها اللذين أسرعا إليها وأبعداها عن ذو الوجه الطفوليّ. أمّا الإمبراطور وعائلته، فلا حاجة لك للقلق بشأنهم، فهم بتمام الخير جنبا إلى جنب مع الشخصيّات المهمّة الأخرى من بينهم الفتاة البيضاء التي التحقت بعائلتها."
نظرت أنمار إلى عينيْ الجنرال رعد مباشرة وظلّت على ذلك الحال لمدّة كافيّة حتّى جعلت الرجل يستغرب ويسأل: "ماذا هناك؟ هل هناك شيء ما على وجهي؟"
ابتسمت أنمار ابتسامة خفيفة كما لو أنّها قد اكتشفت شيئا مثيرا للاهتمام وقالت: "السيّدة لطيفة."
ضيّق الجنرال رعد عينيه وقال: "مـ-ماذا؟"
قالت أنمار مرّة اخرى: "جدّة الفتى القرمزيّ، الفتاة الشقراء، الفتاة البيضاء، الفتاة الصغيرة..."
بدت أنمار مستمتعة.
زاد استغراب الجنرال رعد: "كما قلت، ماذا؟ ما هذا فجأة؟"
حدّقت أنمار إليه بطرف عينيها وقالت: "جدّة الفتى القرمزيّ والفتاة الشقراء والفتاة البيضاء والفتاة الصغيرة، لكنّها 'السيّدة لطيفة'."
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما وفهم أخيرا ما ترمي إليه الفتاة الشقراء. أصبح متوتّرا وأراد أن يقول شيئا: "هـ-هذا... لـ-ليس ما تعتقدين."
ضحكت أنمار واقتربت من الجنرال رعد أكثر وهمست: "لا تقلق، ليس لديّ مشكلة بتاتا، وحتّى باسل لن يكون ضدّ الفكرة إذا كان ذلك سيجعل أمّه سعيدة، ولكن المشكلة تكمن هناك بالضبط، "إن كان ذلك سيجعل أمّه سعيدة". لو اعتقد ولو قليلا أنّك ستكون خطرا عليها ولو بشكل غير مباشر، فلن يقبل أبدا وسيكون ضدّ الفكرة، وخصوصا إذا كانت لا تشعر هي بشيء من جهتك."
وضعت يدها على وجنتها وأغمضت عينيها ثمّ أمالت رأسها قبل أن تقول متحسّرة لكن راضية في نفس الوقت: "فكما ترى، باسلي لديه 'عقدة الأمّ'، وبشكل حادّ."
سرحت أنمار بأفكارها بعيدا لبعض الوقت واحمرّت وجنتاها وبدت تستمتع لوحدها قبل أن تعود للواقع، فتحرّكت للأمام لتصبح بجانب الجنرال رعد وهمست: "حسنا، لا تجعل هذا يحبطك، فلو جعلتها تقع في شراكك، حتّى باسل لن يجد عذرا، لأنّه سيكون بذلك 'هو بنفسه' يقف في طريق سعادتها."
لم يستطِع الجنرال رعد قول شيء، وفقط حدّق إلى هذه الفتاة المرعبة التي استطاعت ملاحظة هذا الشيء بالرغم من أنّه أخفاه عن الجميع.
سألت أنمار: "منذ متى؟"
سمعها الجنرال رعد تسأل فاستفاق من دهشته. لم يحاول المراوغة لأنّه علم أنّ ذلك سيكون مشينا له فقط أمام هذه الفتاة التي تقرؤه كالكتاب المفتوح وأجاب بصدق: "عندما كان الفتى القرمزيّ في تلك البيضة المشعّة الغريبة. لقد ذهبتُ لأرى ما أصابه، والتقيت بالسيّدة لطيفة هناك."
حكّ وجنته بسبّابته بينما يحاول تجنّب التقاء عينيه بنظر أنمار.
أومأت أنمار ثمّ قالت: "لن أسألك عن السبب الذي جعلك تقع في حبّها، لأنّك على الأغلب وقعت في حبّ تلك الابتسامة الحنونة التي في نفس الوقت تبدو حزينة وتجعلك تريد حمايتها وإزالة جزء "الحزن" منها، هذا بدون ذكر جمالها الباهر الذي سيجعل ذلك حتميّا."
"كـ-كـ-كيف عرفتِ هذا؟"
كان الجنرال رعد متوتّرا للغاية.
ابتسمت أنمار وقالت مغمضة العينين: "حدس المرأة."
تحرّكت للأمام لكنّها توقّفت فأضافت: "إنّها حبّك الأوّل، أليس كذلك؟ فوفوفو♪"
تركته مذهولا هناك واتّجهت نحو الاكاديميّة بسرعة. كان مزاجها جيّدا في الواقع؛ فلِوقت طويل، اهتمّت والدتُها ووالدةُ باسل بطفليهما فقط ونسيتا نفسيهما وقيّدتا روحهما بالماضي، لذا شعرت أنمار أنّ هذه خطوة جيّدة يمكنها أن تجعل قلبيْهما يُشفيان قليلا. فلو تقدّمت والدة باسل خطوة للأمام، قد تفكّر أمّها في فعل نفس الشيء أيضا.
ليس كما لو أنّها لا تتفهمّ جرحهما بفقدانهما الحبيب، لكنّهما في نظرها تستحقّان أن تحظيا بالسعادة والهناء لما تبقّى من عمرهما كامرأتين عاديتين. ليس كما لو أنّهما ستنسيان جاسر وأكاي بفعلهما ذلك على كلّ حال. وبالطبع، كلّ هذا يتوقّف عند خيارهما؛ فإن لم تريدا هذا فالأمر ينتهي هناك.
نظر الجنرال رعد إلى أنمار وتنهّد ثمّ أغمض عينيه ورفع كتفيه بينما يهزّ رأسه أفقيّا: "لربّما هي الفتاة الوحيدة التي يمكنها التعامل بشكل مثاليّ مع ذلك الشقيّ المزعج بعد كلّ شيء."
فتح عينيه ليرى أنمار من جديد، ثمّ حاول الاتّصال بمعلّمه مرّة أخرى، لكنّه لاحظ شيئا غريبا يحدث فجأة. لم يستطِع أن يعلم ما هو، لكنّه عندما رأى خيوطا من الضوء تظهر في السماء كاد لا يصدّق عينيه.
تصدّعت السماء كقطعة من الزجاج تعرّضت لصدمة، فبدت التصدّعات كخيوط من الضوء، ثمّ انكسر الفضاء وظهرت شروخ فضائيّة عديدة في السماء.
"مـ-ماذا؟!"
هلع الجنرال رعد فهرع إلى أنمار التي توقّفت أيضا لترى ما كان يحصل.
سأل الجنرال رعد بصوت مرتفع: "مـ-ما الذي يحدث؟! هل تعلمين عن هذا؟ لقد ظننت أنّ كلّ شيء انتهى؟ اعتقدت أنّ التحوّل الروحيّ اكتمل!"
ولكن بالرغم من أنّه سأل بصوت مرتفع، إلّا أنمار بدت لا تفقه شيئا أيضا ومتعجّبة مثله ممّا يحدث.
تمتمت أنمار ولم تقدر على رفع صوتها من الصدمة: "لا أعلم... هذا... كيف لهذا أن يحدث؟ لماذا؟!"
بلعت ريقها وقالت: "حتّى باسل لم يتوقّع هذا... هذا لا يجب أن يحصل أبدا، فلماذا؟ ما الشيء الشاذّ الذي سبّب هذا؟"
فكّرت أنمار لوقت طويل لكنّها لم تستطِع المعرفة، فليس هناك أيّ تفسير منطقيّ لما يحدث أمام عينيها.
راقبت أنمار والآخرين تلك الشروخ الفضائيّة بفارغ الصبر وانتظروا ليعرفوا ما تأثيرها. لقد كانوا حاليا يواجهون "المجهول"، لذا كانوا حذرين بشان التعامل معه.
وكما لو أنّ "المجهول" يتلاعب بقلوبهم وأحاسيسهم، حرص على جعل صدمتهم فريدة ولا مثيل لها، إذْ رأوا قدما تزحف من أحد الشروخ، فاقشعرّت أجسادهم مباشرة.
ارتعبوا فقط من حقيقة ظهور تلك القدم، وليس بسبب أيّ هالة أو نيّة قتل موجّهة نحوهم، لأنّهم كانوا يعلمون أنّ هذا دخيل، وليس أيّ دخيل؛ لقد كان ذلك دخيلا على عالمهم.
تشوّشت أفكار أنمار وازداد ضغط دمها وتسارعت ضربات قلبها، وكلّ ما كانت تفكّر فيه في الوقت الحالي هو شخص واحد، ولسبب ما، كان هو نفس الشخص الذي يفكّر فيه الجنرال رعد أيضا.
بلعت ريقها ثمّ اسودّت تعابيرها لمّا تذكّرت اليوم الذي مات فيه معلّمها.
تذكّرت الشخص... لا... بل الشيطان الذي كان سببا في ممات معلّمها، فصرّت على أسنانها وانتظرت الدخيل حتّى يظهر.
فمجرّد لحظات وجيزة منذ ظهور القدم حتّى ظهور الجسد مرّت عليها كعصور عندما فكّرت في ذلك الشيطان.
***
قبل انتهاء التحوّل الروحيّ للعالم الواهن بحوالي ثلاثة أيّام، في قارّة الأصل والنهاية، أو بالأحرى في العالم الثانويّ الذي دخل إليه باسل.
كان باسل مستلقيّا على الأرض بالرغم من أنّ جسده بدا سليما معافى، بينما يراقب 'الرمح الطاغيّة' حالته باستمرار.
"اللعنة، لقد مرّ أكثر من عشرة أيّام يوما وما زال لم يستيقظ. ظننت أنّ حالته تحسّنت عندما تعافى جسده من تلك الجراح القاتلة، لكنّه ظلّ هكذا بعد ذلك لمدّة أربعة أيّام."
كان الرمح يخاطب نفسه: "ولكن حقّا... كيف لهذا البرغوث أن يمتلك مثل هذا الجسد؟ هل ذلك اللعين فعلا هو من كان السبب في امتلاك هذا الغرّ جسدا كهذا؟ إنّ قدراته الشفائيّة تتجاوز قدرة سيّد روحيّ بامتيّاز. لقد كانت تلك جراحا قاتلة لساحر بمستويات الربط لكنّه صمد أمامها، وفوق ذلك تماثل جسده للشفاء في أسبوع فقط."
بالطبع كان السارق الخسّيس السبب الرئيسيّ في امتلاك باسل جسد يجذب طاقة العالم بلا حدود، حتّى أنّ جسده كان مميّزا عن باقي البشر، إذ كان أقوى وسرعة شفائه أكبر ونموّه أسرع؛ كانت تلك إحدى قدرات عشيرة النار القرمزيّة التي توارثها أبناؤها وصارت أقوى جيلا بعد جيل حتّى بلغت كمالها في باسل، ولكن سرعة الشفاء التي شهدها الرمح الطاغيّة لم تكن بسبب السارق الخسّيس، وإنّما اكتسبها باسل عندما ذهب إلى وكر الوحش النائم.
طفا الرمح بجانب باسل بعدما كان مستلقيّا على الأرض، ثمّ اقترب منه وبدا كما لو أنّه يحدّق إليه بعمق، وبدا في نفس الوقت يفكّر لوقت طويل.
تحرّك فجأة بسرعة كبيرة واتّجه نحو باسل مستهدفا إيّاه كما لو أنّه ينوي اختراقه، ولكن فجأة توقّف، لكنّه ليس بإرادته بل لأنّ يدا كان تقبضه وتحرمه من التحرّك.
تكلّم الرمح: "كما توقّعت، إنّك مستيقظ بالفعل يا أيّها الوغد. لماذا تستلقي هناك برخاء؟"
وضع باسل يده على جبهته ثمّ رفع ظهره عن الأرض ليجلس. تنهّد وقال: "لقد استيقظت قبل قليل فقط. لا تكن مستعجلا هكذا."
انزعج الرمح مرّة أخرى: "لقد أخبرتك مرارا وتكرارا ألّا تخبرني ألّا أكون مستعجلا. لماذا أصلا ظللت مستلقيا هناك بعدما استيقظت؟"
ابتسم باسل كما لو أنّه قد رأى الاستجابة التي توقّعها، ثمّ قال: "حسنا، حسنا. لا داعٍ لكلّ هذا الغضب. لقد كنت أراقب ما تفعل فقط."
"أنت..." سخن رأس الرمح حتّى انفجر منه الدخّان وصرخ: "يا أيّها اللعين! وأنا الذي كنت..."
توقّف الرمح فجأة عن التكلّم كما لو أنّه كان على وشك نطق شيء لا يجب عليه قوله.
ارتفعت حافّة فم باسل فقال مبتسما مغمضَ العينين: "مررت بفترة عويصة لمدّة طويلة كما تعلم، لذا كنت بحاجة للترفيه عن نفسي، ولكن من كان يتوقّع أنّك ستكون قلقا عليّ♪"
"سأقتلك!"
صرخ الرمح لكنّه لم يستطِع فعل شيء. فبالرغم من أنّه سابقا حاول مهاجمة باسل إلّا أنّه فعل ذلك علما أنّه لا يستطيع إيذاء باسل الذي يُعدّ سيّدا عليه حاليا، لكنّه أراد أن يؤكّد ما ظنّه –استيقاظ باسل.
"هوهوهو،" ضحك باسل ثمّ وقف: "تعلم تمام العلم أنّ ذلك مستحيل عليك، على الأقلّ حاليا."
استنكر الرمح كلام وباسل وردّ: "همف... سيأتي وقت وأخترقك؛ ليس هناك ما لا أستطيع اختراقه في هذه العوالم. وأيضا، لا تسئ الفهم يا أيّها الشقيّ الكريه، بالطبع كنت قلقا، ولكن ليس عليك، فإنّما كنت قلقا على نفسي. لقد كنت محاصرا هنا لوقت طويل، وظننت أنّني سأخرج أخيرا لكنّك نمت هناك كالميّت فاعتقدت أنّني سأمضي وقتا أطول في هذا العالم المملّ. فكما تعلم، لا يمكنني الخروج من هذا العالم بإرادتي."
نظر إليه باسل وشعر أنّ الرمح يبدو كفتاة غير صريحة مع نفسها: "حقّا؟"
لم يستطِع باسل منع نفسه من إغاظة الرمح أمامه.
انزعج الرمح: "لا تغتّر بنفسك يا شقيّ، فأنا..."
أراد الرمح أن يبدأ في سرد سيرته الذاتيّة فقاطعه باسل: "حسنا، هذا كافٍ كتخفيف لتوتّري. والآن أخبرني، كم مرّ من الوقت وأنا على ذلك الحال؟"
لقد كان باسل يقاتل من أجل نجاته، لكنّ إحساسه بالوقت اختفى تماما. كان للألم دور في ذلك أيضا.
كان الرمح منزعجا من طريقة تصرّف باسل: "يا أيّها...!"
لم يجد كلمات ليقولها لهذا الشقيّ الذي يتصّرف كما يحلو له، فيُزعج الآخرين عندما يريد التخفيف من توتّره والترفيه عن نفسه.
بدا الرمح كما لو أنّه تنهّد وأجاب بدون أن يطيل ذلك النقاش: "لقد مرّ أكثر من عشرة أيّام."
"هذا..!" تفاجأ باسل قليلا.
بالطبع توقّع أنّ أيّاما ستكون قد مرّت، لكنّه لم يشعر بهذه الأيّام التي مرّت بتاتا.
تذكّر شيئا فسأل: "بالمناسبة، هل طول اليوم هنا مثل طوله في العالم الواهن؟"
ردّ الرمح: "صحيح. هذا العالم متزامن مع العالم الثانويّ بالفعل."
وضع باسل يده على ذقنه ثمّ قال: "إذن لم يتبقَّ وقت طويل على التحوّل الروحيّ الحقيقيّ. لا يمكنني الاتّصال بالآخرين حاليا حتّى لو خرجت من هذا العالم والمجال الذي يحيطه لأنّ العالم سيكون يتعرّض للتحوّل ولن تعمل خواتم التخاطر أثناء ذلك، لذا يجب أن أدعوَ لسلامتهم فقط."
فكّر لقليل من الوقت قبل أن يقرّر: "حسنا، سأمكث هنا للأيّام القادمة حتّى ينتهي التحوّل الروحيّ وأستحوذ على روح ذلك الوحش، ثمّ أنطلق عائدا إلى أكاديميّة الاتّحاد، ففي الوقت الذي ينتهي فيه التحوّل الروحيّ لن يسعني التحمّل لمدّة أطول بدون أن أجعل روحي الكاملة مكتملة."
استغرب الرمح من كلام باسل فسأل: "ما الذي تقصده بلن يسعك التحمّل بحلول ذلك الوقت؟"
تنهّد باسل: "إن لم أستحوذ على روح وحش ما فسأموت. حالتي ليست مستقرّة الآن، لذا سأمكث هنا محاولا ضبطها قدر المستطاع ريثما يحين وقت الاستحواذ على روح الوحش."
زاد استغراب الرمح: "انتظر، انتظر... حالتك غير مستقرّة؟ أعلم أنّ الروح الكاملة تكون غير مستقرّة وتحتاج لروح وحش روحي حتّى تغدو روحا كاملة مكتملة، ولكنّ عدم الاستقرار هذا لا يُعدّ خطرا على الساحر الروحيّ إلّا بعد مرور حوالي شهر، فكيف لك أن تكون في هذه الحالة العويصة بالرغم من مرور ثلث الوقت العاد... انتظر... هذا له علاقة بما حدث لك بعدما انتهيت من الاختراق!"
عبس باسل ثمّ قال: "نعم. لقد اعتقدتُ لوهلة أنّ روحي ستندثر حقّا، لكنّني نجحت في ما لم يسبق لأحد النجاح فيه أو التفكير في محاولة تطبيقه حتّى."
أثير اهتمام الرمح حتّى أنّه اقترب من باسل وبدأ يدور حوله ببطء محاولا اكتشاف ما حدث لهذا الشقيّ، لكنّه لم يلحظ شيئا شاذا.
قبضه باسل وأوقفه ثمّ قال: "أمم... مثير للاهتمام، إذن حتّى أنت الذي تُعدّ مرتبطا بي نوعا ما لا يمكنك ملاحظة شيء."
ارتفعت زاوية باسل ثمّ قال بينما يحدّق إلى يديه: "لا أعلم إن كان السارق الخسّيس يخطّط لفعل نفس الشيء لو نجح في سلب جسدي منّي، لكنّني أفهم أخيرا سبب امتلاك ذلك الوحش السحريّ الحكمة بالرغم من أنّه لم يصر وحشا روحيّا بعد. مثير للاهتمام، هذا مثير للاهتمام كثيرا! إنّني متحمّس لرؤية ما سأصل إليه. لربّما أريد الآن معرفة ما سأصل إليه أكثر من أيّ وقت مضى، أكثر من بعض الألغاز الكونيّة حتّى."
كانت نظرات الفضول التي تعتلي وجه باسل عادةً أكثر حدّة هذه المرّة حتّى أنّ ابتسامته أصبحت عريضة للغاية.
كان الرمح مستغربا من تصرّفات باسل، فلم يستطِع الصبر أكثر: "هيا، أخبرني يا أيّها اللعين. عمّ تتحدّث؟ ما الذي حدث؟"
أكمل باسل التحدّث مع نفسه بينما يضحك بصوت منخفض: "لا، انتظر، لولا التقائي بالوحش النائم وغدوّ جسدي هكذا لما نجحت في هذا الأمر أصلا. نعم، هذا أمر اعتُقِد مستحيلا أن يحدث في المقام الأوّل، لذا لا يمكن لجسد ليس مثل جسدي الحالي أن ينجوَ من هذا ويستطيع تحمّله."
"وبالطبع، لا يمكن لهذا أن يحدث في وقت لاحق لأنّ التوازن سيختلّ بشكل لا يمكن ضبطه حتّى لو صار الجسد جاهزا عندئذ. يجب أن يكون الجسد جاهزا عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة لأنّ هذا الأمر لا يمكن أن ينجح إلّا بعد الاختراق مباشرة."
حاول الرمح جذب انتباه باسل له: "أنت..."
حاول الرمح التكلّم مع باسل لكنّ هذا الأخير استمرّ في التكلّم مع نفسه كما لو أنّه يقول ما يفكّر فيه بصوت مرتفع من شدّة حماسه: "إذن هذا مؤكّد. لم يكن السارق الخسّيس ينوي فعل ما فعلت، فجسدي، الجسد الذي أعدّه، لم يكن جاهزا لِما فعلتُ، لكنّ الوحش الذي أعدّه من أجل نفسه يصلح تماما لي."
"يا أنت..."
أحكم باسل قبضتيه وقال بعدما ضحك: "هوهوهو، هذه ستكون سرقتي الأولى لك يا أيّها السارق الخسّيس، أو ربّما يجب أن أقول الثانيّة إن احتسبت هذا الأبله أمامي؟ سأستغّل ما أعددته لنفسك جيّدا، هوهوهو... هوهوهو..."
كان باسل يتصّرف بشكل هيستيريّ، وذلك أوضح فقط حجم وروعة ما فعل. لقد كان منغمسا في أفكاره بشكل تامّ.
"إنّني أناديك يا أيّها الشقيّ الوسخ!"
صرخ الرمح وحاول اختراق وجه باسل، لكنّه توقّف كما لو أنّ هناك شيئا يمنعه بشكل غريزيّ من التسبّب في الضرر لباسل.
رفع باسل رأسه ونظر إلى الرمح الذي يهتزّ في مكانه بشكل عنيف بينما يحاول اختراقه لكن بلا جدوى، فقال بلا مبالاة: "يا أبله، أما زلت تحاول قتلي؟"
زاد اهتزاز الرمح بشكل عنيف بعد كلام باسل، وانفجر الدخان من رأسه الساخن بينما يصرخ: "يا أيّها اللعين...!"
لم يكن باسل يدري أنّ الرمح كان يناديه باستمرار لكنّه تجاهله، وعامله كالأبله فوق ذلك.
كان الرمح يعود لهدوئه كلّما انفجر الدخّان من رأسه كما لو أنّه يفرغ غضبه المكبوت.
تنهّد الرمح: "لم ألتقِ شقيّا كريها مثلك من قبل."
لم يهتمّ باسل بما قاله الرمح وقال: "حسنا، هذا لا يهمّ حاليا. سأتدبّر خلال هذه الأيّام الثلاثة، فانتظر ريثما أنتهي. قريبا ستخرج من هذا العالم الذي مللتَه."
لم يجبه الرمح، فجلس باسل بمكانه بينما يتدبّر لثلاثة أيّام.
كلّ يوم مرّ عليه أشدّ وأصعب من الذي سبقه، وبدأ يبلغ حدود صبره شيئا فشيئا لكنّه صمد؛ كان عليه أن يصمد مهما كلّفه الأمر.
عام الرمح حول باسل في هذه الأيّام الثلاثة محاولا اكتشاف ما حصل له، لكنّه لم يستطِع فهم شيء. بالطبع كان باسل مختلفا عن السحرة الروحيّين لأسباب عدّة وكان مثيرا للاهتمام كفاية، لكنّ الرمح كان مهتمّا أكثر بعدما شهد تصرّفات باسل سابقا.
لقد تعرّف على هذا الفتى لمدّة قصيرة لكنّه علم أنّ باسل يحبّ حلّ الألغاز وتثير الأمور الغامضة اهتمامه، ومع ذلك لم يسبق له أن شهده يتصرّف هكذا مهما كان الموضوع الذي تحدّثا عنه.
بالأحرى، لم يتصرّف باسل هكذا حتّى عندما التقاه، فانزعج الرمح عندما تذكّر هذا لوهلة.
"ولكن حقّا... فقط ما الذي فعله هذا الشقيّ الملعون؟ إنّه يستمرّ في مفاجئتي، أنا الرمح الطاغيّة."
قال الرمح ذلك جهرا ولم يخشَ سماع باسل له كون هذا الأخير كان في حالة الصفاء الذهنيّ الروحيّ بشكل كلّيّ.
باسل حاليا يمكنه استخدام تقنية 'انقسام الوعي' التي تسمح للشخص بالتدبّر والتدرّب في نفس الوقت، أو بمعنى آخر تجعله قادرا على الدخول في حالة الصفاء الذهنيّ الروحيّ بينما يظلّ واعيا بما يحصل حوله، لكنّه لم يكن في وضع يسمح له بفعل ذلك حتّى. كان عليه بذل كلّ جهده في ضبط استقرار حالته.
وأخيرا، بعدما اكتمل تحوّل العالم الواهن الروحيّ الحقيقيّ، كان باسل قد بلغ حدوده بالفعل، وكان عليه الإسراع بالاستحواذ على روح الوحش وإلّا واجه الموت. لقد كانت حياته مهدّدة أكثر أيّ وقت مضى.
فتح عينيه ونهض عازما، ثمّ قال: "لنتحرّك!"
طاف الرمح بجانبه: "لنتحرّك يا أيّها الصعلوك! أخيرا سأخرج من هنا. فافافا، انتظريني يا أيّتها المؤخّرات، أنا آتٍ لاختراقك♪ انتظرنَني يا أيّتها الجميلات، أنا آتٍ لمواساتكنّ♪ فافافا!"
نظر باسل إلى الرمح الذي يبدو نشيطا بنظرات ملولة، وفكّر في داخله: (هذا الأبله، هل كان كلّ هذا الوقت يريد الخروج من هنا من أجل هذا فقط؟ قد يكون التحكّم في رغباته الجامحة صعبا.)
تنهّد باسل وأكمل التحرّك بدون التعليق جهرا على كلام الرمح.
***
عندما تحرّك باسل والرمح بنيّة الخروج، حلّق فجأة الباب الذي أتى بباسل إلى هنا وذهب إلى جانبهما وبالضبط إلى جانب قدميْ باسل كما لو أنّه يخبره أن يركب فوقه.
فقط عندما نوى باسل الخروج من هذا المكان ظهرت وسيلة خروجه، وبالطبع كان هذا بفضل امتلاكه لمفتاح هذا العالم.
وضع باسل قدمه على الكلمات العتيقة التي تُقرأ 'أنا السلطان' ثمّ حلّق إلى الأفق، وفجأة أشعّ الضوء بشكل شديد من الباب حتّى اختفت المناظر التي كان باسل يراها، فقط ليتحوّل الضوء بعد ذلك إلى ظلمة غير محدودة.
استمرّت الظلمة في إحاطتهما لوقت غير معلوم حتّى وجدا نفسيهما أمام المدخل الذي دخل منه باسل إلى هنا والذي صار مخرجا لهما الآن.
نزل باسل والرمح فانغلق الباب وراءهما بشكل صعوديّ على عكس الدخول عندما نزل للخلف، والتصق بعد ذلك في مكانه كما لو أنّه لا يمكن فتحه.
نظر باسل بعد ذلك إلى الباب لوقت طويل فلاحظ الرمح ذلك وعلم أنّ تينك العينين هما عينا الفضول والاهتمام الشديد.
بالطبع كان باسل مهتمّا في هذا الباب؛ لم يُلقِ له بالا سابقا لأنّ اهتمامه بالكوخ نفسه والعالم الثانويّ كان أشدّ، ولكن بعدما أشبع فضوله نوعا ما بخصوص ذينك الاثنين، صار اهتمامه موجّها نحو الباب.
قال بعينين جدّيتين: "هذا الباب... هل هو حقّا باب؟"
استغرب الرمح من كلامه: "ما الذي تقصده؟ بالطبع هو باب، ألم ترَ ذلك بنفسك؟"
حدّق باسل إلى الباب بنفس العينين لكنّه لم يستطِع تخمين شيء، فاستسلم للآن كونه يملك شيئا أهمّ ليفعله.
اهتمّ الرمح بالأحرى في شكّ باسل؛ لا يعلم لماذا، لكنّه بدأ يكوّن ثقة غريبة تجاه أحاسيس هذا الغرّ الذي كشفّ طنّا من الأسرار من أبسط التلميحات.
سأل الرمح باسل بعدما جُذِب اهتمامه: "لماذا اعتقدت ذلك؟ ما الذي أثار شكّك؟"
كان باسل ينوي التحرّك لكنّه توقّف ثمّ أجاب: "ذلك... قد يبدو هذا غبيّا في نظرك، لكنّني وجدت قصصا عندما زرت غرفة أحد أعدائي السابقين، ولسبب ما هناك شيء مشابه لما فعله هذا الباب عندما نقلنا في إحدى تلك القصص."
قال الرمح: "أمم... عمَّ تتحدّث هذه القصّة؟ ما اسمها؟"
لم يخبر الرمح باسل أنّ هذا شيء غبيّ وسأله باهتمام على عكس ما توقع باسل، والذي بدوره حكّ وجنته بسبّابته وردّ: "لا أعلم عن اسمها الأصليّ، لكنّني أطلقت عليها اسم 'الفانوس السحري'. تتكلّم عن فتى فقير وجد فانوسا سحريّا فصار غنيّا وقويّا، واكتسب بعض الكنوز أثناء ذلك، وأحد هذه الكنوز سمح بالتنقّل بكلّ سهولة، وذاك هو الكنز الذي ذكّرني بهذا الباب عندما نقلنا."
لم يقل الرمح شيئا فأكمل باسل: "جعلني ذلك أشكّ نوعا ما، لكنّني أيضا أظنّ أنّ القصّة التصقت بذهني بعدما أعجبتني وهذا تأثيرها فقط. لا تهتمّ بذلك."
لم يردّ الرمح فتحرّك باسل للأمام ونزل الأربع عشة درجة بدون مشقّة، فتحرّكت التماثيل فجأة عندما وصل إليها وانحنت له بالضبط مثلما فعلت عند دخوله. ومباشرة بعد ذلك صدى صوت: [الصناديد في انتظار السلطان!]
كان الرمح متفاجئا من هذا المنظر وتذكّر ما حدث عندما انحنت له التماثيل عند دخوله أيضا. لقد صُعِق في ذلك الوقت تماما عند حدوث ذلك، لكنّه نسي السؤال بشأن ذلك بعدما تفاجأ بأشياء أخرى صعقته أكثر، مجازيّا وحرفيّا.
لم يستطِع منه نفسه من طرح السؤال: "لماذا ينحنون لك؟ لماذا ينادونك بالسلطان؟ لا أظنّ أنهّم سينحنون لك هكذا حتّى لو امتلكت المفتاح. كيف فعلتها؟ كيف جعلت هؤلاء الصناديد العبيد ينحنون لشخص آخر غير سيّدهم؟"
نظر باسل إلى الرمح لبعض من الوقت ثمّ ردّ: "الصناديد العبيد قلتَ... لا أحبّذ سماع هذا. من الآن فصاعدا، نادهم 'الصناديد' فقط."
ردّ الرمح بسرعة: "من يهتمّ بهذا الشيء التافه! هيّا فلتجبني على سؤالي فقط."
كان باسل يبدو يحترم أولئك الملقّبين بالصناديد العبيد، ولم يرد سماعهم ينادون بهذه الطريقة أبدا.
لقد علم عنهم بسبب النظرة التي اختلسها على السارق الخسّيس عندما نقل له معلّمه الحكمة السياديّة. لقد كانوا كلّهم أبطالا جدراء ولم يحقّ لأحد مناداتهم بالعبيد في نظره.
أجاب باسل: "إنّي لم أجعلهم ينحنون لي كما قلت. إنّهم يفعلون هذا من تلقاء أنفسهم."
صرخ الرمح: "لا تمزح معـ..."
قاطعه باسل بإكمال كلامه السابق: "أنا فقط... تحدّثت معهم. كلّ ما فعلته هو تبادل حوارات صريحة معهم."
تفاجأ الرمح كما لو أنّه لم يتفاجأ بسبب باسل من قبل؛ فهذا الشقيّ أمامه حقّا كان يفعل في كلّ مرّة شيئا استثنائيّا.
قال بسرعة: "تحدثتَ معهم؟ هل تخبرني أنّهم يفعلون كلّ هذا فقط لأنّك تحدّثت معهم؟"
تنهّد باسل وأجاب: "إنّك تعلم أنّ مصفوفة هذا العالم الثانوي تقوم على هذه التماثيل، على هؤلاء الصناديد. الأمر هو، عندما كنت أحاول إيجاد المفتاح بشقّ الأنفس باستخدام الحكمة السياديّة وما اكتشفته من السارق الخسّيس، عندما كنت أحاول فكّ هذه المصفوفة، استطعت لوهلة الشعور بإرادات عديدة تلتمس العون منّي."
"كانت تنادي 'يا من كان الأوّل في بلوغ هذا المدى، حرّرْنا، وأعدْ لنا فخرنا.' وبصراحة، شككت أنّه ربّما يكون فخّا من المصفوفة لذا تردّدت لوقت طويل قبل أن تصبح الأصوات أقوى فأقوى حتّى رأيت فجأة بعضا من الذكريات العتيقة. ذكريات مُحِقت فيها قبائل وشعوب بينما قاتل هؤلاء الصناديد بكلّ فخر، ولكن في نفس الوقت امتلأت هذه الذكريات بحسرة وحزن شديديْن جعلاني أختبر مآسي تحطّم الروح لا القلب فقط."
"فعلا كنت شاكّا، لكنّني وثقت بتلك الحسرة وذلك الحزن. تلك المآسي لم تكن شيئا يُستخدَم لإغوائي؛ لقد كانت شيئا حقيقيّا؛ شيئا كان لا بدّ لي من الاقتناع به؛ هكذا جعلني هؤلاء الصناديد أقبل نداءهم. لو كان أحدهم مضطرّا لإغوائك بنوايا سيّئة بأسرع وقت ممكن، فلن يستخدم هذا، بل سيحاول بكلّ جهده تحفيز جشعك وطمعك بشتّى الطرق."
تنهّد باسل مرّة أخرى وأكمل: "لقد علمتُ عنهم بسبب السارق الخسّيس فيما قبل، ولكن عندما رأيت تلك الذكريات عبر إراداتهم فهمت ما شعروا به أخيرا. ولا أعلم عن السبب بالضبط لكنّنني أظنّ أنّه بسبب تفهّمي لهم... هم، أو إراداتهم، بدأت تخاطبني."
***
قالوا: "يا أيّها الشجاع الذي بلغ هذا الحدّ، كما فهمت مشاعرنا استطعنا بلوغ مشاعرك، وإنّما فعلا نتشارك الهدف. حيواتنا الفخورة ما هي إلّا أرواح مستعبدة الآن، لكنّنا بكلّ جهدنا، وبعصارة أملنا، انتظرنا أن يظهر شخص مثلك."
أكملوا: "بالرغم من أرواحنا المستعبدة إلّا أنّنا استطعنا الإبقاء على جزء بسيط من وعينا وإراداتنا كملاذنا الأخير، معلّقين آمالنا على ظهور شخص شجاع وقادر على بلوغ هذا الحدّ. واليوم، فعلا قد ظهر المنتظر، وفعلا قد تحقّقنا من مشاركتك لنا نفس الهدف."
ردّ باسل عليهم بينما ما يزال مندهشا: "هل تخبرونني أنّكم حتّى في هذا الموقف ما زلتم لم تفقدوا الأمل؟! حتّى وأنتم على هذا الحال ما زلتم تقاتلون؟!"
فقط ما قدر الشجاعة والصبر والأمل الذي يجب أن يتحلّى به الشخص حتّى ينتظر عصورا فقط من أجل لحظة كهذه، بينما روحه مستعبدة؟ حتّى باسل كان مصعوقا بهذه الحقيقة، وازداد احترامه لهؤلاء الصناديد أكثر فأكثر.
قالوا: "لقد فشلنا وليس يئسنا. لربّما تظلم الشمس في جهتنا، لكنّها تشرق في جهة أخرى."
بلع باسل ريقه وصعدت معه القشعريرة؛ فقط إلى أيّ مدى سيستمرّ هؤلاء في القتال من أجل العوالم؟
غُمِر باسل بتلك المشاعر الجيّاشة ولم يستطِع أن يقف هناك متفرّجا.
ضرب بيده على صدره وصرّح: "لطالما احترمت الشجاع، ولكنّ شجاعتكم فريدة. لطالما تشبثت بالأمل، لكنّكم أعطيتم الأمل مفهوما جديدا. ولهذا، أنا، باسل بن جاسر ولطيفة، والابن الروحيّ لإدريس الحكيم وخليفته، أعدكم أن أردّ لكم حقّكم وفخركم وأحرّر أرواحكم. سأربط نفسي بشجاعتكم وأغطيها بأملكم حتّى يحين اليوم الموعود."
بدت الأصوات متفاجئة إذ قالوا: "هل تخبرنا أنّك ستحملنا على عاتقك طوال الطريق؟ هذا المسار الروحيّ لم يقدر عليه أّيٌّ منّا حتّى؛ حِمْلُ كلُّ واحد منّا كان كافيا لسحق صاحبه، وأنت ها هنا تريد حَمل كلّ أحمالنا وإكمال المسار الروحيّ؟"
وقف باسل شاخصا وقال: "ذاك مساري الروحيّ."
صمتت الأصوات لفترة قبل أن تنبثق مرّة أخرى: "سمعنا واكتفينا. وكما قررّت أن تحرّرنا، وتعيد لنا فخرنا، فقسما لك ولاءنا."
شعر باسل بالشرف والفخر بسبب تلك الكلمات التي تلّقاها وأقسم بدوره: "وأنا بدوري، يا أيّها الصناديد، ستكون هذه الخطوة الأولى نحو القمّة، نحو السيادة العظمى. بصفتي حامل أعبائكم في مساري الروحيّ، أعدكم أن أحرّركم من لعنتكم الأبديّة. لأقطعنّ لسان من يلقّبكم بالعبيد مرّة أخرى، ولأخلدنّ أسماءكم كالأبطال الذين قاوموا وقاتلوا من أجل العوالم."
كان هذا هو ما كرّر باسل قوله عندما كان يعبر الطريق الذي صنعه الصناديد عند دخوله.
***
كان الرمح يستمع بهدوء فقال فجأة: "ماذا إذن؟ هل ستقطع لساني؟ فافافا! للأسف، أنا لا أملك لسانا."
حدّق باسل إليه بعينين ملولتين وقال: "على كلّ، بسبب حدوث ذلك استطعت النجاح بشكل أسهل عبر مساعدتهم المستميتة في حل المصفوفة. يوما ما يا أبله، عندما تصير هاته الأرواح من جديد أولئك 'الصناديد الأحرار'، لن تجرؤ على مناداتهم بذلك الاستحقار."
"همف..." استنكر الرمح كلام باسل وقال: "ذلك لا يهم، كلّ ما عليّ هو اختراق مؤخّراتهم وستراهم خاضعين لي."
تنهّد باسل بسبب تفكير الرمح وبسبب أنّه لم يفهم الفكرة الرئيسيّة.
لم يعنِ باسل أنّهم سيحاولون فرض سيطرتهم وطغيانهم، لكنّه لمّح إلى شجاعتهم التي شهدها والتي تجعل القلب يرفرف.
تحرّك باسل للأمام فقال الرمح: "إذن أنت تقول لي أنّهم ما يزالون يملكون القدرة على فعل شيء كهذا لشخص غير سيّدهم؟ فتلك كانت مجرّد شظايا من إراداتهم ما زالت سليمة، فكيف لهم أن يستطيعوا أن يفعلوا هذا بها فقط؟"
فكّر باسل في ذلك وسرح بأفكاره بعيدا. بالفعل سؤال الرمح كان في محلّه، لكنّ الرمح لم يعلم شيئا عن شجاعة هؤلاء ولا عن الأمل الذي يتحلّون به؛ لذا حتّى لو كانت مجرّد شظايا، كانت إراداتهم قويّة لدرجة لا توصف حتّى أنّهم استطاعوا القيام بذلك شرط أن يكون الشخص الذي ينحنون له ويقرّون به يملك المفتاح على الأقلّ.
لم يجب باسل الرمح وبدل ذلك قال: "إن لم تفهم كلامي السابق فلن تفهم ما سأجيبك به. هيّا بنا، هناك مسألة هامّة في انتظارنا."
انزعج الرمح: "ها؟! لا تغترّ بنفسك يا أيّها الشقيّ، أنا الرمح الطاغيّة..."
بدأ الرمح يروي سيرته الذاتيّة كعادته واستمرّ في ذلك طوال الطريق حتّى خرج باسل من العالم الثانوي ووجد نفسه بالمجال الذي يحيطه.
كان هذا المجال يعزل هذا المكان عن العالم الواهن بالرغم من أنّه جزء منه في الأصل، وبسبب ذلك لا تعمل خواتم التخاطر حتّى الآن. فعندما سقط باسل في غيبوبة بعد قتال الأقدم الكبير فالتشر، لم تستطِع أنمار الاتّصال بمعلّمها إلّا بعدما خرج من هذا المجال.
وبالطبع باسل حاول الخروج من هذا المجال، إلّا أنّه في طريقه لاحظ وجود كائن يتربّص به.
كان هذا الكائن يستطيع إخفاء حضوره في الواقع وحتّى أنّه لم يسمح لنيّة قتله بالتسرّب منه. كان متخفّيا بشكل مثاليّ، إلّا أنّ باسل كان لديه إحساس كلّيّ بهذا المجال في هاته اللحظات بما أنّه شخص يملك مفتاح العالم الذي وُضِع هذا المجال من أجله.
ارتفعت حافّة فمه ثمّ التفت إلى الجهة التي يختبئ فيها ذلك الكائن وقال: "نعم، ليس هناك وحش آخر قد يكون اخترق إلى المستويات الروحيّة قبلك في هذا العالم. وبالطبع، بالرغم من أنّك كنت واثقا في قوّتك الحاليّة التي جعلتك تأتي إليّ وحدك إلّا أنّك ما زلت حذرا كما كنت."
"أو ربّما أتيتَ لوحدك وتركت الآخرين بعيدا حتّى لا أستطيع كشف حضورهم نظرا إلى كونهم لا يستطيعون الهروب من استشعاري الروحيّ الآن. نعم، هذا يبدو أقرب للحدوث. اعتقدتَ أنّك لن تُكشف أبدا إن كنت لوحدك بمستواك الحالي."
لم يستقبل باسل إشارة من الجهة التي يتحدّث إليها، فرفع يده وقال ساخرا: "حقّا... إنّك حذر للغاية. لا تقلق، إنّني لا أعتقد أنّك هناك وأجرّب الأمر، بل إنّني متأكّد أنّك هناك وأنتظر ظهورك؛ فأنا على الأقلّ أريد إلقاء نظرة عميقة عليك قبل أن أبدأ القتال معك."
انتظر باسل للحظات بعد أن قال ذلك، فبدأ ظلّ ذلك الكائن يتحرّك كما لو أنّه وجد كلام باسل يخلو من الكذب واقترب ببطء حتّى ظهرت صورته الكاملة.
"إذن هذا هو شكلك."
***
كانت هناك أسطورة في العالم الواهن من بين أساطير عدّة تتعلّق بالوحوش السحريّة المرعبة التي ترقد في قارّة الأصل والنهاية، وكان يُعتقد بأنّ فحوى هذه الأسطورة مجرّد خيال خالص بلا أيّ ذرّة من الصدق.
فالأساطير الأخرى مثل أساطير طائر الرخّ وطائر الفتخاء ونمر الضوء الخاطف والسلحفاة التنّينيّة كانت أقرب للواقع بعد شهادات من أشخاص زاروا القارّة وأقرّوا أنّهم وجدوا علامات توحي لوجود هاته الوحوش وحملوا معهم دلائل ولو بسيطة على ذلك، ولكن في المقابل تلك الأسطورة ظلّت محض أسطورة.
فبالرغم من أنّ هناك أقاويل تدور حول وجود ذلك الوحش، إلّا أنّه ليس هناك أيّ شهادات موثوقة وإنّما كلمات اعتُقِد أصحابها مجانين بعدما عادوا من القارّة.
وفي الواقع، كان هؤلاء الأشخاص ذوي نسب وأصل معلوم، إلّا أنّهم عندما عادوا كانت حالتهم العقليّة مزريّة وبدؤوا يمزجون الواقع بالخيال بسبب الصدمة التي مرّوا بها في القارّة، وبسبب ذلك لم تزن كلماتهم شيئا.
اختلفت الأقاويل والإشاعات عن هذا الوحش السحريّ، فأحد المجانين قال أنّه تنّين ينفث ويتغذّى على النيران، وآخر قال أنّه سحليّة مجنّحة تملك خواصّ التنانين، وآخر قال أنّه بدا كهجين بين عنقاء وتنّين، وآخر قال أنّه من فصيلة قريبة للتنّين إذْ امتلك ساقين وجناحين فقط على عكس التنانين التي تملك أربع سيقان وجناحين.
كلّ هذه الاختلافات جعلت من الأسطورة بلا أساس فهجر السحرة في العالم الواهن فكرة وجود هذا الوحش وأقرّوا بعدم صحّتها بتاتا، واعتقدوا أنّ كلّ شخص يعود من قارّة الأصل والنهاية يقول مثل هذه الأشياء مجنون.
وكما لو أنّهم مريضون بمرض ما، أعطِيَت لهذه الحالة اسما خاصّا، ألا وهي 'جنون التنين'.
وبالطبع، علم باسل عن هذه الأسطورة كأيّ ساحر في العالم الواهن، وعندما قاتل حشد الوحوش السحريّة بقيادة ذلك الوحش السحريّ الغامض في المرّة الأخيرة في هذه القارّة، بدأت الشكوك تتملّكه بشأن حقيقته، إلّا أنّ شكّه بالطريقة التي تحصّل بها على تلك الحكمة كان أقوى ممّا جعله يتناسى أصل الوحش السحريّ.
والآن، بعدما نودِيَ العديد من السحرة بالمجانين سواءً كانوا فعلا مجانين أم لا، أكّدت عينا باسل حقيقة تلك الأسطورة التي تناقلت لأجيال عديدة في العالم الواهن بدون أن يصدّقها أحد.
صدر صوت من الوحش: "كن فخورا يا بشريّ، إنّك أوّل بشريّ يرى شكلي الحقيقيّ بوضوح، بالرغم من أنّ شكلي الحالي يختلف عمّا كان عليه سابقا بكثير."
ابتسم باسل وقال: "فعلا، مثير للاهتمام. لم أكن أظنّ أنّني سأرى سلالة الوايفرن في العالم الواهن في الوقت الحالي قبل مرور سنين عديدة على التحوّل الروحيّ وحدوث طفرات في تطوّر الوحوش، أو على الأقلّ قبل أن تنتقل إلى هنا وحوش من العال آخر. حقّا مثير للاهتمام!"
حدّق باسل بعمق إلى الوحش الذي اتّخذ شكل التنين لكنّه كان أصغر حجما، وامتلك أربع سيقان إلّا أنّ ساقيه الأماميّتين كانتا قصيرتين كما لو أنّهما في طريق النموّ على عكس ساقيه الخلفيّتين اللتين بدتا ناضجتين، وغطّت قشور صلبة جسده من رأسه إلى حافّة ذيله.
كان لونه الأسود الحالك يدبّ الرعب في القلوب، وتوهّجت عيناه بضوء برتقاليّ كما لو أنّهما نجمين في ظلام الفضاء الفسيح، واستطاعتا أن تحرقا الشخص بالنظر إليه فقط.
تكلّم الوحش: "عدّ نفسك محظوظا يا بشريّ، لأنّك ستكون خطوتي الأولى نحو سيادة هذا العالم. لقد رقدت هنا لعصور لا تُحصى، وانتظرت هذا اليوم بفارغ الصبر، انتظرت اليوم الذي يمكنني فيه أخيرا الاختراق إلى المستويات الروحيّة والتغذّي على روح ساحر روحيّ."
بالفعل، كما كان يستحوذ السحرة الروحيّون على أرواح الوحوش الروحيّة، كانت هذه الأخيرة بدورها تتغذّى على أرواح السحرة الروحيّين.
لم يزح باسل الابتسامة عن وجهه وقال: "تخبرني أن أكون محظوظا لأنّني سأكون أوّل ساحر روحيّ تتغذّى على روحه إذن... تبدو واثقا للغاية، ولكن لا عجب، فبعدما رأيتك يمكنني تفهّم ثقتك تلك."
رفرف الوحش جناحيه فجعل عاصفة تهبّ بالأرجاء وحلّق في السماء بينما يقول: "لم أرَ لي مثيلا في هذا العالم لذا لا أعلم إن كان أصلي هو هذا العالم، لكنّني بدون شكّ وُلِدت هنا. ومنذ أن وُلِدت كنت متميّزا عن باقي الوحوش السحريّة، فنموت أسرع منها بكثير وبلغت المستويات العليا قبل أيٍّ منها. وعندما وصلت إلى المستوى الرابع عشر أخيرا، توهّج حجر أصلي وأرشدني إلى ذلك المكان حيث استطعت ان أكسب حكمة خوّلتني التفوّق على أيّ وحش في كلّ العوالم وليس هذا العالم فقط."
قال باسل: "هل تظنّ أن تلك الحكمة التي كسبتها هديّة؟"
ضحك الوحش وقال: "لا تكن سخيفا، بالطبع كنت أعلم أنّها فخّ من أحدهم، لكنّني وفوق ذلك قبلت بها. لو مُنِحت لي أكلة مسمومة لكن لذّتها خياليّة، فسآكلها عندما أكون متيقّنا أنّ جسدي يستطيع التفوّق على السم."
هزّ باسل رأسه أفقيّا وقال: "للأسف، إنّك تجهل السمّ الذي بلعته. ولكن لا تقلق، فأنا يمكنني أن أعفيك من ذلك السمّ، لأنّني بالفعل مثلك؛ أكلت الأكلة بالرغم من علمي بالسمّ الذي فيها. الفرق الوحيد بيننا هو أنّني أعلم عن السمّ ومخاطره أكثر ممّا تظنّ نفسك تعلم عنه، ولهذا قلت لك تقلق، فأنا واثق أنّك ستفرح عندما تكمل روحك روحي."
ارتفع باسل إلى السماء وابتعدّ الرمح الطاغيّة عنه في هذه الأثناء.
لقد كان باسل لا يستطيع استخدام الرمح الطاغيّة في الواقع بالرغم من امتلاكه له. فكما فعل إبلاس عند مواجهته لإدريس الحكيم باستخدامه لذلك الصحن الفخّار الذي كان سلاحا روحيّا من مستوى سلطان أصليّ وتسبّب في استدعاء 'ممتحني الظلام'، كذلك يمكن أن يحدث لباسل إذا استخدم الرمح الطاغيّة.
لم يكن في وضع يخوّله القدرة على مواجهة ممتحنِي ظلامٍ اُستُدْعُوا بسبب سلاح روحيّ بمستوى شاهق كالرمح الطاغيّة، حتّى لو كان هذا الرمح في أضعف حالاته حاليا.
حاليا، كان باسل في مرتبة السيّد الروحيّ، أي في نطاق الأرض الواسعة، لكنّه كان لا يزال لا يملك سلاحا روحيّا خاصّا به، وهذا لا يمكن حدوثه في الواقع إلّا بعد اكتساب روح الوحش؛ فالسلاح الروحيّ يندمج مع الروح، لكنّ الروح يجب أن تكون كاملة مكتملة.
أخرج باسل رمح الخشبيّ الذي أهداه معلّمه له وقال بعدما نظر إلى الوحش بعينين تحلّلان الوضع: "أرى أنّك من سلالة الوايفرن لكنّك تطوّرت. بالطبع ستتطوّر عندما تكون تتأصّل عند اختراقك للمستويات الروحيّة، لكنّني أشعر أنّ ذلك ليس كلّ شيء."
صمت للحظات قبل أن يطرح السؤال الذي يراوده منذ فترة: "ما الذي منحته لك تلك الحكمة؟"
لم يكن الوحش مرحِّبا كما كان متوقَّعا: "لمَ عليّ أن أحكي لك هذا؟ لنُنْهِ هذا الأمر يا بشريّ، فأنا لا أطيق الانتظار هنا أكثر ممّا انتظرت بالفعل."
تنهّد باسل: "إنّني أقابل قليلي الصبر فقط مؤخّرا. أتريد الخروج من المنطقة المحظورة لهذه الدرجة؟ حسنا، ليس كما لو أنّني لا أتفهّم شعورك، فلو تقيّدتُ في مكان واحد لأشهر فقط أشعر أنّني سأموت من الملل."
"همف..." استنكر الوحش كلام باسل: "لقد حان الوقت أخيرا لأحكم هذا العالم كما خطّطت منذ أن علمت عن تميّزي وانفرادي. لن يتسيّد هذا العالم البشر لكن الوحوش."
لم يضف باسل شيئا وشحن طاقته السحريّة في الرمح الخشبيّ الذي تحوّل بعد ذلك إلى رمح أبيض حرارته تجعل العظام تذوب من مسافة بعيدة.
لقد كانت تلك إمكانيّة عنصر النار بالدرجة الرابعة، بلونها الأبيض.
رفع باسل الرمح الأبيض للأعلى وقال: "حسنا، لنجرّب شيئا."
تضخّم الرمح فجأة بأضعاف كثيرة وصار ضخما للغاية بسبب طاقة عنصر التعزيز، وقلّص باسل حجمه بعد ذلك كثيرا كما لو أنّه يركّزه حتّى صار الرمح الأبيض مجرّد نصل صغير.
كان هذا هو نفس الهجوم الذي ابتكره باسل عند مقاتلته شهاب سعير. لقد كان يستخدم إمكانيّة عنصر النار ويضخّمها بعنصر التعزيز ويتحكّم فيهما بالتحكّم المثاليّ. لم يكن أيّ ساحر أو حتّى ساحر روحيّ يمكنه أن يقوم بمثل هذا الأمر.
رفع إصبعه للأعلى فتحرّك النصل الأبيض طبقا لذلك وارتفع عاليا في السماء، ثمّ أخفض إصبعه فظهر نصل آخر بنار بيضاء بطول الوحش فوق هذا الأخير ونزل بسرعة كبيرة حتّى يقطعه.
لقد كان هذا هو الامتداد الكلّيّ لعنصر تعزيز باسل، أوّل إمكانيّة يكتسبها باسل لعنصر سحريّ، حيث كان بإمكانه إرسال طاقته السحريّة عبر امتداد أساسه الطاقة المعزّزة.
هجوم كهذا يمكنه محق ساحر بالمستوى الرابع عشر حتّى في الواقع، فحتّى لو كانت تلك مجرّد طاقة سحريّة إلّا أنّ الذي كان يتحّكم فيها كان ساحرا روحيّا، بدون ذكر قوّتها التي تُقدّر بقوّة صاعد حقيقيّ.
رفع الوحش رأسه للأعلى وفتح فمه واستقبل النصل الناريّ بصدر رحب، فعبس باسل كما لو أنّه لاحظ أنّ ما أراد التأكّد منه كان على وشك الحدوث.
وبالضبط، بدل أن يجرح النصل الناريّ الوحش، استطاع هذا الأخير بأعجوبة أن يبلع هجوم باسل كما لو أنّه وجبة خفيفة بمضغة واحدة.
اعتلى وجه باسل تعبيرا جدّيّا: "إذن النار لا تنفع معه بتاتا إذا كانت بهذا المستوى، وبالأحرى تكون تغذيّة جيّدة له. لقد شككت في قدرة دفاعه ضدّ النيران لكن هذا تجاوز التوقّعات. فقط كم تأصّل من مرّة حتّى لا يتأثّر بنار سحريّة بهذه القوّة؟."
كانت الوحوش السحريّة تتأصّل عندما تقترب تكون تخترق إلى المستويات الروحيّة، واختلف بعضها عن بعض بسلالة الدم الذي يجري في عروقها وعدد المرّات التي يمكن للوحش التأصلّ فيها من أجل أن يكتسب خواصّ وقوى الدم الأصليّ الذي يجري في عروقه.
كان الوايفرن عبارة عن سلالة قيل أن ددمم التنانين يجري في عروقها، إلّا أنّ ندرتها كانت عظيمة للغاية في العوالم الروحيّة.
كانت إمكانيّة الوحوش الروحيّة في الارتفاع إلى مستوى أعلى تكمن في عدد المرّات التي استطاعت التأصّل فيها؛ فوحش تأصّل عدّة مرّات يمكنه بلوغ مستويات عليا بسرعة وسهولة كُبرَيَيْن.
كان عدد المرّات التي يمكن للوحوش الروحيّة التأصّل فيها مجهولا، وكانت هناك أقوال على أنّه لا ينتهي أبدا؛ فحتّى عندما ينجح الوحش في اكتساب جسد السلالة الأصليّة ودمها وقدراتها، يبقى قادرا على التأصّل وهذه المرّة يحاول أن يعود إلى أصل كينونته.
بالرغم من أنّ الوحوش السحريّة لا تؤسّس عالمها الروحيّ كما يفعل السحرة الروحيّون، فهي أيضا تملك نظام نموّها الروحيّ.
كانت ألقاب السحرة الروحيّين هي نفس ألقاب الوحوش الروحيّة بجميع المستويات إلّا المستوى الأخير منها، لكنّ تسميّة النطاقات اختلفت نظرا لاختلاف نظام نموّ كلّ طرف.
فمقابل كلّ نطاق بلغه السحرة الروحيّون قابله نطاق بلغته الوحوش الروحيّة، وكانت مستوياتها كالتالي:
نطاق تأصيل الدم – سيد روحيّ"
"نطاق تأصيل اللحم – حاكم روحيّ"
"نطاق تأصيل العظم – ملك روحيّ"
"نطاق تأصيل الروح – إمبراطور روحيّ"
"نطاق الروح المبارَكة – روحانيّ مبارَك"
"نطاق الروح الساميّة – روحانيّ سامٍ"
"نطاق الروح الأسطوريّة – روحانيّ أسطوريّ"
"نطاق الحجر الروحيّ الحقيقيّ – سلطان روحيّ"
"نطاق الحجر الروحيّ المقدّس – سلطان مقدّس"
"نطاق أصل الحجر الروحيّ – سلطان أصليّ"
"حجر الروح الأصليّ – روح أصليّة."
وكما اتّبع السحرة طريق إنشاء عالمهم الخاصّ، ناشدت الوحوش الروحيّة أصل روحها وكينونتها فقط، ولم يكتمل الاثنين إلّا عندما اجتمعا معا؛ فاستحوذ السحرة على أرواح الوحوش، وتغذّت الوحوش على عوالم السحرة.
***
كان الوحش أمام باسل في نطاق تأصيل الدم، كما كان باسل في نطاق الأرض الواسعة، لكنّهما كانا مختلفين تماما عنّ أيّ أسياد روحيّين في كلّ العوالم.
شحن الوايفرن طاقته السحريّة حتّى جعل المناطق المحيطة به تحترق فقط بهالته الساخنة، ثمّ ركّز الطاقة التي استجمعها في نقطة واحدة أمام فمه، والتي اتّخذت شكلا معيّنا جعل باسل يندهش، إذْ كان الشكل هو النصل الناريّ الأبيض الذي أطلقه تجاه العدوّ سابقا.
فتح الوايفرن فمه فانطلق النصل الناريّ بسرعة كبيرة جعلت باسل يفتح عينيه على مصراعيه.
لقد كانت تلك السرعة تفوق توقّعات باسل إذ كانت في الحقيقة تساوي ضعف سرعة النصل الذي أطلقه تجاه الوايفرن في المقام الأوّل.
أحاط نفسه بحاجز من الريّاح المعزَّزة وشحذ رمحه الخشبيّ ثمّ جابه النصل الناريّ وجها لوجه.
انفجار
تبخّر الهواء وانتشرت الشرارات في جميع النواحي وظهر باسل بعد لحظات من تبدّد البخار سليما.
صرّح مندهشا: "إذا لقد اكتسب إحدى قدرات التنانين بشكل كامل!"
كانت هذه القدرة هي امتصاص نار العدوّ وإعادة إلقائها بقوّة تصل لأضعاف قوّتها الأصليّة.
كان هجوم باسل قادرا على قتل ساحر بالمستوى الرابع عشر، لكنّ هجوم الوايفرن كان قادرا على جرح سيّد روحيّ أعزل.
لاحظ باسل أنّ هذه ستكون معركة طويلة الأمد لذا قرّر ألّا يضحيّ بقدراته الشفائيّة حاليا.
اختفى الاثنان فجأة بدون الانتظار للحظة أخرى وبدآ يتبادلان الضربات بينما ينتقلان من مكان إلى آخر يبعد عن المكان السابق بأميال في لحظات.
انفجار انفجار انفجار
كلّ اصطدام منهما خلّف دمارا وكوّن حفرا عميقة وواسعة.
تجنّب باسل استخدام عنصر النار تماما، واعتمد على عنصريْ التعزيز والريّاح، بينما استمرّ الوايفرن في استخدام عنصر النار وقدراته الجسديّة المرعبة.
كلّ ركلة من الوايفرن كانت قادرة على سحق جبل، كما أمكنها سحق سحرة مستويات الربط بسهولة.
كان هذا هو أقوى وحش يجابهه باسل من ناحيّة القوّة الجسديّة، دون ذكر قدراته الأخرى.
اهتزّت الأرض تحتهما بشدّة بعدما تبادلا الضربات لدقائق معدودة، قبل أن يتراجعا للاستعداد لهجومهما الثاني.
ظهر حول باسل خمس نسخ نتيجة لإمكانيّة عنصر التعزيز، وكلّ نسخة حملت سيفا أثريّا بالدرجة السابعة فاندهش الوايفرن من هذا الأمر.
ابتسم باسل ثمّ قال: "ما زال الأمر مبكّرا على الاندهاش."
أشعّت الأسلحة الأثريّة بالدرجة السابعة في نفس الوقت وتحوّلت بعد ذلك إلى أنصال شفّافة يحيطها ضوء أزرق.
اتّسعت عينا الوايفرن أكثر بسبب المنظر أمامه؛ لقد كانت تلك خمسة أسلحة أثريّة بالدرجة السابعة يُتحكّم فيها مثاليّا في آن واحد، دون نسيان سلاح باسل الرئيسيّ.
تعجّب الوايفرن من قدرة هذا الشابّ في استغلال إمكانيّة عناصره لأقصى درجة، واعتقد أنّ عنصر السحر لا يهمّ بتاتا إذا كان المستخدم باهرا في عمله حقّا.
انطلقت النسخ الخمس وأحاطت الوايفرن من جميع الاتّجاهات بسرعة ثمّ ظهر بعدئذ باسل فوق عدوّه بعيدا ببضعة أمتار.
شحنت النسخ الخمسة طاقاتها السحريّة في الأسلحة الأثريّة بتزامن مع سلاح باسل الرئيسيّ، فتكوّنت خمس عواصف أغلقت كلّ ممرّات الفرار أمام الوايفرن، ثمّ رمى باسل رمحه بكلّ قوّته وتحكّم فيه عن بعد.
حلّق الرمح حول العواصف وربط بعضها ببعض فكوّن بعد ذلك حقلا كرويّ الشكل تتضارب بداخله الريّاح وتتكهرب من شدّة احتكاكها.
"دعني أجرّب عليك إمكانيّة عنصر الرياح التي أتقنتها مؤخّرا."
كان ذلك الهجوم عبارة عن كرة ضخمة جدّا من الرياح المتكهربة والمعزَّزة يمكنها صنع وديان إذا ما لامست الأرض.
لم تقطع تلك الريّاح المتكهربة الأشياء فقط ولكن بخّرتها ببرقها الذي توهّج بين الحين والآخر بينما تتراقص أنصال لا متناهيّة مخلّفة أصوات رنّانة كموسيقى موت مرعبة.
ظلّ الوايفرن في مكانه ولم يحاول الهروب عندما وجد نفسه محاطا، ثمّ شحن طاقته السحريّة وفجأة توهّجت قشور جلده بضوء أزرق فاتح جعل دكنة جسده تبدو كعدّة من الجواهر يرتديها كحليّ.
أغلق باسل يده اليمنى فأغلِقت كرة الرياح المتكهربة من الداخل حتّى لامست هدفها فزادت سرعة الرياح وصدت الأصوات الصاخبة في جميع الأنحاء قبل أن يفتح باسل يده مرّة أخرى لتنفجر كرة الرياح المتكهربة
انفجار انفجار انفجار
بعدما أطلق باسل ضغط تلك الكمّيّة الهائلة من الطاقة، كلّ انفجار حدث ولّد انفجارا آخر فصنع بذلك سلسلة انفجارات تكسر حاجز الصوت باستمرار وأمطار من الأنصال تخترق الهواء بسرعة البرق.
بالطبع كان باسل والعدو يستخدمان الطاقة السحريّة حتّى الآن، ولكن ذلك كان فقط لأنّ الطاقة الروحيّة التي خزّناها ما زالت قليلة للغاية كونهما بلغا المستويات الروحيّة للتوّ، ولكن هذا لم يخفّض من درجة الرعب التي وصلت إليها هجماتهما وقدراتهما الدفاعيّة حتّى لو استخدما الطاقة السحريّة فقط.
عاد الرمح إلى يد باسل كما فعلت الأسلحة الأثريّة الخمس بعدما اختفت النسخ الخمس التي كانت تحملها، إذ استنزفت كلّ قوّتها في هذا الهجوم.
نظر باسل إلى البخار والنتاج عن سلسلة الانفجارات منتظرا رؤية ما حلّ بالوايفرن، لكنّ نظراته كانت جدّيّة كما لو أنّه اكتشف بالفعل ما حصل.
وبعدما تبدّد البخار وظهرت صورة الوايفرن رأى باسل الأمر بعينيه، إذ كان العدو سليما معافى، فجعل زاوية فم باسل ترتفع بعدما وجد الأمر ساخرا؛ فالشعور الذي يحسّ به الآن هو تماما ما أحسّ به أولئك الذي تفاجؤوا بسلامته بعدما ظهر بدون أيّ خدش على جسده بعدما تلقّى هجماتهم.
ولكن ما جعل الأمر ساخرا أكثر بالنسبة له هو أنّ السبب في سلامة هذا الوايفرن من ذلك الهجوم لم تكن قدراته الشفائيّة، بل قدراته الدفاعيّة الطبيعيّة؛ لقد كان جسده صلبا لدرجة مخيفة.
اختفى توهّج قشور جلد الوايفرن وعاد جسده لطبيعته، فنظر بعد ذلك إلى باسل ثمّ قال: "لربما فاجأتني بما فعلتَ، لكنّ ذلك لم يعنِ أنّه باستطاعتك جرحي. جسدي هو أقوى جسد بين الوحوش في هذا العالم، وسيصير أقوى جسد في الوجود بدون شكّ."
كان باسل مبتسما بالرغم من هذه الحالة التي وجد نفسه فيها، فضاقت عينا الوايفرن: "ما الممتع يا بشريّ؟"
ردّ باسل بوجه مشرق: "هل تمزح معي؟ إنّني أرى وايفرن استطاع التأصّل لهذه الدرجة واكتسب مثل هذه الخواصّ المدهشة التي تميّزت بها التنانين من الأساطير، فكيف لي ألّا أتحمّس؟ خصوصا عندما أفكّر في الوقت الذي أستحوذ على روحك به."
زمجر الوايفرن وحملق إلى باسل بنظراته الشرسة كالعادة: "للغرور حدود يا شقيّ، لاسيّما أمامي."
ارتفعت حافة فم باسل الذي هزّ كتفيه قبل أن يردّ: "لن تجده غرورا عندما يحدث. ثق بي، ذات يوم، ستشكرني لأنّني استحوذت على روحك وجعلتها جزءا منّي، جزءا من شيء أعظم."
جعلت ابتسامة وكلام باسل المستفزّ الوايفرن ينزعج كثيرا، فاختفى ذلك الأخير فجأة من أمام عينيّ باسل الذي لم يدرك شيئا حتّى وجد نفسه محلّقا في الأفق بقوّة هائلة جعلته يشعر كأنّما جبال لا تُحصى تدفعه وتحاول سحقه.
عانى من العديد من الإصابات لكنّه كان يُشفى تلقائيّا بينما تظهر جروح جديدة، وعندما استطاع إيقاف نفسه في السماء بعدما حلّق لعشرات الأميال، كان جسده خاليا من الجروح كما لو أنّه لم يُصب بها في المقام الأوّل.
عبس وفعّل عيني الحكيم ثم نظر إلى الوايفرن البعيد مباشرة من أجل يرى ما يخفى. لم يعد متردّدا في استخدام أوراقه الرابحة بعد تلك الضربة العنيفة التي لم يجد لها تفسيرا حتّى الآن.
"ذلك لم يكن سحرا، ولا قدرة طبيعيّة للوحوش، ذلك كان شيئا أشبه بـ..."
لم يكمل باسل تمتمته حتّى وجد الوايفرن أمامه، لكنّ عيني الحكيم قدرتا على تتبّع مسار الوحش فاستطاع باسل المراوغة في آخر لحظة، فإذا بالهواء يتموّج وحاجز الصوت يتفرقع بتكرار تحت ضغط وقوّة ركلة الوايفرن التي رواغها باسل.
لم يمنح الوايفرن باسل وقتا للتفكير واختفى مباشرة بعد ذلك كما فعل في المرّتين السابقتين، فتساقطت الضربات على باسل الذي راوغ معظمها قبل أن تصيبها إحداها فسحقت بطنه وكسرت أضلاعه وقفصه الصدريّ.
كانت تلك ركلة مباشرة قويّة للغاية أكثر من التي تعرّض لها سابقا.
جعلته الركلة هذه المرّة يخترق الأرض أسفلهما بعمق شديد مخلّفا بعد اصطدامه بها وديانا سحيقة.
زمجر الوايفرن وقال بفخر: "يبدو أنّك نسيت شيئا مهمّا يا بشريّ؛ في المناطق المحظورة، الوحوش الروحيّة لها الأفضليّة بدون شكّ، فالمنطقة المحظورة ذاتها تصبح أرض تغذيّتنا، وحتّى لو فقدت بعضا من طاقتي يمكنني تجديدها عبر حاجز الحماية السماويّة."
بالفعل، كان حاجز الحماية السماويّة يجدّد طاقات الوحوش السحريّة الميّتة، ولكن عندما كان الوحش الروحيّ يظهر في المنطقة المحظورة، كان يستطيع استمداد الطاقة من الحاجز إلى حدّ ما حتّى يجدّد طاقته الخاصّة أو يشفي جراحه.
أكمل الوايفرن: "هذا دون ذكر أنّني ما زلت في قمّة حيويّتي. أنا كائن سيبلغ ما لم يبلغه أحد في العوالم الروحيّة، لذا إنّني رحيم بنفس الدرجة. هاكَ ماهيّة الأمر، سلّمْني روحك تجدْ الطمأنينة في موتك، عاندْ حتّى النهاية تعانِ الأمرّين قبل موتك."
كان الوايفرن يتكلّم بالرغم من أنّ باسل تحت الأرض كما لو أنّه كان يعلم أنّ عدّوه سينهض من جديد كما لو أنّ شيئا لم يحدث.
وبالفعل، ظهر باسل محلّقا من أعماق الأرض إلى السماء فنفض الغبار عن ملابسه وقال: "كفانا من هذا الكلام المبتذل. إنّك تعلم أنّ هذه ستكون معركة نقاتل فيها حتّى آخر رمق منّا كالساحر والوحش الروحيّين الأوّليْن."
"همف،" استنكر الوايفرن كلام باسل وقال: "إنّك لا تعلم شيئا يا بشريّ؛ لقد أخبرتك عن حالي في المنطقة المحظورة وأفضليّتي فيها عنك، لكنّ ذلك ليس كلّ شيء، فهذا المجال الذي أتيت لأقاتلك فيه بنفسه يُعدّ منطقة داعمة لي."
حدّق باسل إلى الوايفرن وقال: "تحسب نفسك تعلم كلّ شيء فقط لأنّك عشت عصورا مديدة، ولكن اكتساب المعرفة لا يعمل بذلك الشكل. دعنِ أشرح الأمر بدلا عنك."
أشار باسل إلى الوحش وأكمل: "الحكمة التي اكتسبتها قبل تحوّلك الروحيّ جعلتك تكسب قدرات فهم عميقة للطبيعة وقوانينها، ولهذا كنت قادرا على تطوير عقلك وقدراتك. أصلا، قيل أنّ الحكماء القدماء اكتشفوا الفنون القتاليّة عن طريق قدرات الوحوش الخاصّة التي تكسبها في المستوى الثامن، لذا لو امتلك وحش ما حكمة أولئك الأشخاص بجانب كونه 'وحش'، فالنتيجة واضحة."
صرّح باسل: "لقد وجدت ما فعلته سابقا مشابها للفنون القتاليّة وطريقة عملها، وها أنا ذا متأكّد من ذلك كلّيّا؛ لقد أصبحت وحشا روحيّا قادرا على استخدام الفنون القتاليّة. وعلى ما يبدو، فإنّ فنّك القتاليّ يملك خواصّا تجعلك سرعتك ووزنك أكبر بأضعاف عدّة."
"هوهوهو،" ضحك باسل وقال: "يبدو أنّ السارق الخسّيس قد استطاع بطريقة ما اكتساب حكمة أولئك العظماء عبر التاريخ وصنع شيئا يمكنه منح هذه القدرات المدهشة إلى الوحش الروحيّ الذي سيستحوذ على روحه."
نظر باسل بجدّيّة إلى الوايفرن: "كلّما اكتشفتُ شيئا جديدا عن رعب ما جهّز له السارق الخسّيس أصبحتُ أكثر تشوّقا لرؤية وجهه بعدما أسرق كلّ ذلك منه."
ضاقت عينا الوايفرن: "ما الذي تتحدّث عنه يا أيّها الشقيّ؟ هل تظنّك تملك الوقت لمخاطبة نفسك؟"
اختفى الوايفرن مرّة أخرى وسقطت ركلاته العنيفة على باسل بثقل جبال عديدة وسرعة البرق.
انفجار
تصدّعت الأرض ولحقها انفجارات صوتيّة في كلّ مكان، إلّا أنّ حدقتا الوايفرن كانتا متّسعتين، وليس فقط لأنّ باسل راوغ هجومه، بل لأنّه لم يستطع معرفة مكان عدوّه.
صدر صوت من فوقه فجأة: "يبدو أنّك تحاول إثبات شيء ما باستخدامك لفنّك القتاليّ فقط، لكنّك لا تعلم شيئا عن الفنون القتاليّة بقدر ما أفعل. توقّف عن إحراج نفسك."
كان الوايفرن سيصرخ من شدّة الغضب ويحاول أن يلتفّ ليضرب باسل لكنّه وجد نفسه مقموعا تحت قبضة باسل التي حرّكها بقوّة دفع هائلة عبر فنّه القتاليّ "خطوات الريّاح الخفيفة"، وذبذبها بفنّ "سحق الأرض" فجعلها تخترق كل ما تلامس.
سقط الوايفرن من السماء قبل أن يفعل شيئا وحدث له بالضبط كما فعلَ لباسل عندما جعله يخترق الأرض بشكل عميق.
***
"هيّا، أعلم أنّ مجرّد ضربة كهذه لا يمكنها فعل شيء لك."
قالها باسل بينما ينظر إلى أعماق الأرض بعينيه الحكيمتين، إذْ كان في الواقع قادرا على رؤية الوحش الذي لم يكن بمقدوره فعل نفس الشيء.
وبالطبع، كان الوايفرن سليما معافى كما قال باسل، ولكن في الواقع لم تكن تلك "مجرّد ضربة". لقد كانت تلك الضربة إحدى الضربات التي قضى بها باسل على الوحوش عندما قدم لإنقاذ أبطال الأجيال. قوّة تلك الضربة لوحدها كانت قادرة على سحق وحوش المستوى العاشر حتّى تماما.
انتفاض
انبثق الوايفرن من أعماق الأرض بسرعة خاطفة وحدّق إلى باسل بتعجّب قبل أن يقول: "لم أستطع التأكّد في المعركة التي واجهك فيها أتباعي آنذاك، لكنّني أرى الأمر بوضوح الآن. أنت... إنّك قادر على استخدام فنّين قتاليّين!"
ابتسم باسل وتحرّك خطوة واحدة في السماء، فتشوّهت صورة رجله التي كان يراقبها العدوّ وبدت كما لو أنّها سوط يتحرّك، ثمّ أصبح جسده بالكامل ضبابيّا وظهر في عدّة أمكنة.
كلّ هذا حدث في لحظة قصيرة جعلت الوايفرن يرتعش إذْ طرأت في باله فكرة مرعبة للغاية.
ظهر باسل فوقه مرّة أخرى وأسقط عليه نفس اللكمة السابقة ليعود بذلك الوايفرن إلى أعماق الأرض من جديد.
قال باسل ساخرا: "نعم، لقد حزرتَها بشكل صحيح في اللحظة الأخيرة. إنّها ثلاثة فنون قتاليّة وليس اثنين."
استخدم باسل عند تحرّكه فنّه القتاليّ الثالث، اختراق السماء، وألقى اللكمة بفنّيه القتاليّين الآخريْن، خطوات الرياح الخفيفة وسحق الأرض.
نظر إلى الأعماق وقال من جديد: "هيّا، انهض. يبدو أنّني سأستمتع بالقتال أخيرا بعد مدّة طويلة. ولكن أوّلا..."
ركّز باسل على أنفه وفمه فأغلق حاسّة الشمّ لديه وقال: "لماذا يجب أن يكون القتال ضدّ خصم جيّد ممتعا هكذا بينما لا أطيق رائحة الدماء؟ قد يكون هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يسعني تجاوزه مهما تدرّبت."
كان باسل يمكنه قمع حواسّه بهذا الشكل الآن بكلّ سهولة، وليس فقط لسبب واحد بل العديد؛ لقد كان يتدرّب على حواسّه منذ بداية تعلّمه على يد إدريس الحكيم، وأتقن "انقسام الوعي" المزيّف ضدّ فضيلة كرم. وبدون كلّ ذلك، قد بلغ الآن المستويات الروحيّة التي تسمح له باستخدام انقسام الوعي الحقيقيّ، لذا كان قمع حاسّة من الحواسّ الخمس شيئا بسيطا، هذا بدون الإشارة إلى امتلاكه الحكمة السياديّة.
برز الوايفرن بدون ضياع للوقت وصرخ تجاه باسل: "لا تغترّ بنفسك يا أيّها الغرّ. لربّما تملك بعض الأوراق الرابحة في جعبتك، لكنّها لا تنقصني أيضا. ولا تقلق بشأن الدماء، لأنّ الدماء الوحيدة التي ستغرق فيها هي دماؤك فقط."
لم يكن كلام الوايفرن من فراغ؛ فحتّى الآن، لم يذرف قطرة من الدماء على عكس باسل الذي سالت دماؤه بغزارة عندما تعرّض لهجمات الوايفرن. لقد كان جسد هذا الأخير صلبا لدرجة مخيفة حقّا.
حدّق باسل إليه: "لقد أغلقتُ حاسّة شمّي لسبب."
اختفى الوايفرن من مكانه، لكنّ باسل اختفى أيضا في نفس الوقت، ولم تكن هناك عين عادية يمكنها ملاحقة تحرّكاتهما حاليا، إذ قطعا عشرات الأميال في ثوانٍ، وكان الدمار الذي خلّفاه وراءهما هو كلّ ما جعل الشخص يعلم أنّهما مرّا من مكان معيّن، إذْ تشتّت الجبال لقطع صغيرة وتغيّرت تضاريس الأرض أسفلهما.
كان باسل يستخدم عنصريْ التعزيز والرّياح والفنون القتاليّة كلّها، بينما كان الوايفرن يعتمد على قواه الناريّة وفنّه القتاليّ وجسده الصلب.
كانت الأغلبيّة لباسل بشكل واضح؛ فالوايفرن لم يستطِع ضرب باسل بالرغم من سرعته الجنونيّة، وتلقّى ضربات باسل باستمرار، ولكن حتّى لو كانت الأفضليّة لباسل لم يعنِ ذلك أنّه قدِر على جرح الوحش.
ابتعدا عن بعض وفكّر باسل لقليل من الوقت مع نفسه: "يبدو أنّه يجب عليّ القيام بترقية بسيطة حتّى أنجح في اختراق دفاعه ذاك. لا بأس، لقد اعتدت على المخاطرات والمغامرات."
ما أن قال ذلك حتّى أطلق العنان لهالته كسيّد روحيّ وطافت التعاويذ الذهنيّة الروحيّة دائرةً حوله، والتي تلاقى بعضها ببعض بينما يتردّد صوت كصوت قرع الكؤوس نتيجة لذلك، وفجأة بدأت التعاويذ تزداد عددا وتتوهّج بضوء فضّيّ-أزرق ساطع.
بدأت الحروف الرونيّة التي تتكوّن منها التعاويذ تتحوّل وتكوّن أنماطا مختلفة عن السابق مع حفاظها على بعضٍ من شكلها دون تغيّر.
حدّق الوايفرن إلى ما يحدث مع باسل وضاقت عينيه وأصبح أكثر حذرا من السابق. لم يعلم ما كان باسل يفعله بالضبط، لكنّه لاحظ أنّ ذلك له علاقة بتعاويذ الفنون القتاليّة.
فتح باسل يديه على مصراعيهما فإذا بالتعاويذ تتوغّل جسده ثمّ روحه وتبدأ في التغذّي على طاقة الأرض الواسعة الروحيّة.
"هل يمكن...؟!"
فهم الوحش ما الذي كان يفعله باسل أخيرا وصرخ: "هذا... أن يستخدم المرء فنّين قتاليّين لأمر مستحيل في المقام الأوّل، لكنّ هذا الشقيّ يستخدم ثلاثة، والآن تخبرني أنّه يحاول استخدام مراحل عليا من فنونه تلك؟ فقط من هذا الغرّ؟"
صرّ الوايفرن على أسنانه وقال: "كما تميّزتُ وانفردتُ عن باقي الوحوش، يبدو أنّ هذا الشقيّ لا مثيل له بين السحرة أيضا. يا له من قدر؛ إذن الفائز هنا سيكون المخلوق الفريد الذي يتفرّد بسيادة العوالم! ذلك لن يكون أحدا غيري!"
اهتزّ جسد باسل ونبض بشدّة فظهرت بعض الأطياف أمامه، ثلاثة أطياف بالضبط، وبدت كما لو أنّها ظهرت من جسده.
لقد كانت هذه الأطياف شيئا معروفا عند الفنّانين القتاليّين، إذْ تحتّم عليهم مواجهتها عند محاولة استخدام الدرجة الخامسة من كلّ مرحلة من مراحل الفن القتاليّ. لقد كانت تلك الأطياف هي اختبار العالم.
في المرحلة الأثريّة، ظهر هذا الاختبار أمام الفنّانين القتاليّين عند محاولة استخدام الفرع الكبير جدّا، أي الغصن الخامس من المرحلة الأثريّة التي تتكوّن من سبعة أغصان.
وغاية هذا الاختبار كانت هي نفس الغاية التي وُجِدت كلّ اختبارات العالم من أجلها؛ ألا وهو اختبار جدارة المرء.
ابتسم باسل ثمّ استعدّ لهجوم الأطياف الذي كان يتوقّعه، وما أن انتهى من ذلك حتّى اختفى الطيف الأوّل وظهر خلفه مباشرة كما لو أنّه انتقل عبر الفضاء، ثمّ اخترق الطيف الثاني الهواء بقوّة تسحق الأشياء بتذبذب يحوّل الجبال لغبار، بينما ابتعد الطيف الثالث قبل أن يعود بزخم أكبر وقوّة دفع هائلة.
لقد كان كلّ طيف تجسيدا لأحد الفنون القتاليّة الأثريّة الثلاثة التي يملكها باسل.
راقب الوايفرن بحرص حتّى تحرّكت الأطياف، ولم تمرّ حتّى لحظة واحدة بعد حدوث ذلك فكان قد فهم وقرّر ما يجب فعله.
تحرّك بسرعة خاطفة مستخدما فنّه القتاليّ وشحن طاقته الروحيّة حتّى يستخدمها ضدّ العدوّ الذي كان في مأزق. لقد كان يعلم أنّ هذه هي الفرصة المثاليّة لاستخدام بعضا من الطاقة الروحيّة القليلة التي يملكها.
كانت يد الطيف الأوّل عبارة عن شرخ في الفضاء بدا متمكّنا من فصل الجسد عن الروح، وأنشأت قبضة الطيف الثاني قوّة متذبذبة عبر الهواء وحاولت السقوط على باسل بوزن عظيم، وتبدّدت صورة الطيف الثالث من شدّة سرعته والذي فجّر الصوت بتكرار في طريقه.
وأخيرا، قدم الوايفرن من الأعلى بسرعة وقوّة أكبر من سرعة وقوّة الطيف الثالث حتّى.
مع العلم أنّ الطيف الأوّل مَثَّل فنّ "اختراق السماء"، والطيف الثاني مَثَّل فنّ "سحق الأرض"، ومَثَّل الطيف الثالث فنّ "خطوات الرياح الخفيفة".
لقد كان هذا هو أسوء موقف يمكن لشخص يقاتل عدوّا مكافئا له أن يجد نفسه فيه.
زنين
ذبذبة
انفجار
توالت الأصوات واحترق الهواء من شدّة النار التي صنعها الوايفرن بطاقته الروحيّة وجعل الجوّ حارّا كما لو أنّ الشمس أقرب بضعفين عمّا هي عليه.
باام باام باام باام
تردّدت أربعة أصوات مباشرة بعد الاصطدام بين الهجمات السابقة فظهر باسل بعدما تجلّى البخار ببعضٍ من الكدمات والجروح على جسده، والتي كانت تتماثل للشفاء بالفعل.
وفي نفس الوقت، وجد الوحش نفسه يحلّق عشرات الأميال بعيدا، لكنّه هذا المرّة صُعِق تماما، وليس فقط لأنّه كان يحلّق بعدما ضُرِب، بل لأنّ الدماء كانت تسيل من جنبه وفمه.
ظلّ سارحا في أفكاره لمدّة طويلة غير مصدّق لما حدث. لقد كان متيقّنا من أنّه أصاب باسل وسبّب له جرحا عظيما. لقد كان واثقا أنّ الأفضليّة قد أصبحت له بشكل كلّيّ. ومع ذلك، ها هو يجد نفسه محلّقا مجروحا بشدّة على عكس عدوّه الذي لا يبدو مصابا بجراح خطيرة.
صرخ الوايفرن من بعيد: "ما الذي فعلته يا أيّها اللعين؟"
تنهّد باسل ثم قال: "يبدو أنّ هذا نجح. لقد كان تأجيل استخدام درجة كبرى من الفنون القتاليّة الأثريّة كلّ هذا الوقت يستحقّ. فالآن، أمكنني هزيمة تلك الأطياف اللعينة بكلّ سهولة بمستواي الحالي."
لقد كان باسل يقف عند الغصن الرابع من كلّ فنّ أثريّ، ولم يشأ أن يتجاوز ذلك حتّى لا يضطرّ لمجابهة تلك الأطياف التي لا تتأثّر في الواقع سوى بالفنون القتاليّة ولا شيء آخر.
أكمل: "لقد انتظرتُ حتّى أبلغ المستويات الروحيّة وأصبح قادرا على استخدام المرحلة الروحيّة من تلك الفنون. فبدل أن أنتقل إلى الغصن الخامس من الفنّ الأثري، انتقلت مباشرة إلى المرحلة الروحيّة وتغلّبت بذلك على تلك الأطياف بسهولة."
ابتسم باسل ثمّ قال: "الآن، يمكنني أذيّة جسدك الذي تفتخر به، وأذيّته بشدّة."
"المرحلة الروحيّة من كلّ فنّ؟! هل تمزح معي يا أيّها اللعين؟ كيف لك أن تعلم عن أسرار الدرجات السابقة وفهمها وإدراك ألغازها وأعماقها حتّى تتجاوزها هكذا؟ لا يمكن لأيّ شخص أن يفعل كلّ هذا في تلك اللحظات القصيرة."
أجاب باسل: "صحيح. أنا لم أحاول أفهمها، ولم أحاول إدراكها أو تجاوزها، أنا فقط سمحت لنفسي باستخدام المرحلة الروحيّة من كلّ فنّ. لقد كنت قادرا على ذلك من البداية. فالمعرفة التي أحتاجها لترقيّة مستوى فنوني القتاليّة حتّى منتصف المرحلة الروحيّة موجودة في أعماق روحي."
لقد كانت تلك هي المعرفة والخبرة التي اكتسبها معلّمه إدريس الحكيم طوال حياته، وكان باسل قادرا على اكتسابها عن طريق الحكمة السياديّة.
تمتم الوايفرن: "مستحيل... هذا لا يُعقل... ما التفسير؟!"
بدأت أفكار الوحش تتضارب: "ثلاثة فنون قتاليّة أثريّة، بل روحيّة الآن، ثلاثة عناصر سحريّة، قدرات غريبة مثل التي يستخدمها بعينيه، وجسد فريد يستطيع الشفاء ذاتيّا في لحظات وجيزة. فقط ما الذي ما زال يخبّئه في جعبته؟ فقط من هذا اللعين؟ لقد انتظرت لعصور، فلمَ يجب أن يظهر شخص مثله في هذا العصر بالضبط؟ في هذا العصر الذي يُفترض أن يكون عصري!"
رفع باسل حاجبه ثمّ قال: "أنت يا أنت... لا تخبرني أنّك هلعت؟ المرح بدأ لتوّه، فحافظ على تصرّفك المتعجرف من فضلك وإلّا صار هذا مملّا."
تراجع وحش الوايفرن للخلف قليلا بعد سماع كلام باسل وبدأ خيار "الهرب" يومض في عقله بعدما كان واثقا تمام الثقة أنّه سيكون الفائز.
تحرّك باسل للأمام فتراجع وحش الوايفرن للخلف أكثر، واستمرّ ذلك بالحدوث حتّى تعثّر باسل فجأة وسقط على ركبتيه ساعلا الدماء.
توقّف وحش الوايفرن واندهش ممّا حدث.
ردّد باسل بينما يعاني من الألم: "اللعنة، لقد بدأ الأمر... ولكنّي قمت بذلك آخذا حدوث هذا في الاعتبار."
كشّر الوايفرن عن أنيابه فجأة وقال بصوت مرتفع بعدما ضحك: "كـ-كما توقّعت، لا يمكن أن تفعل شيئا كاستخدام ثلاث فنون قتاليّة روحيّة وتنجو بفعلتك هذه ببساطة."
حملق باسل إلى وحش الوايفرن الذي فهم الأمر بشكل خاطئ.
لقد كان باسل يعلم أنّ هذا سيحدث، ولكنّه لم يحدث بسبب استخدامه لثلاثة فنون في الواقع، بل كان هذا بسبب الخلل الذي كان يواجهه منذ أن اخترق إلى المستويات الروحيّة، وكلّ ما فعله استخدامه لثلاثة فنون روحيّة هو زيادة الضرر الذي يتلقّاه وتقليل المدّة التي كان يملكها قبل أن يختلّ توازن روحه بشكل كلّيّ ويموت؛ كانت هذه هي المخاطرة التي قصدها سابقا بقوله ذاك.
تقدّم وحش الوايفرن للأمام هذه المرّة وقال: "تريدني متعجرفا؟ دعني أريك ذلك يا أيّها الشقيّ اللعين. لقد أخبرتك مرارا وتكرارا أنّك لا تعلم حدودك، وها أنت ذا تجد نفسك بلا حول ولا قوّة منتظرا حكمي القاسي عليك. فلتمت!"
استعدّ الوايفرن للانقضاض على باسل، والذي بالرغم من أنّه كان في هذه الحالة كانت الابتسامة ما تزال تعتلي وجهه الدامي: "هذا ما أردته يا أيّها الوغد. هذا ما أسمّيه قتالا ممتعا! لا تحاول الهرب مرّة أخرى."
***
"لم ولن أهرب! لقد تفاجأت قبل قليل فقط، والآن هدأت أعصابي، ولهذا قرّرت. لقد قرّرت أن أجعلك تعتزّ بموتك عندما تعلم أنّني استخدمت قوّتي الكاملة في قتلك."
شحن الوايفرن طاقته الروحيّة فأحاطت به نيران زرقاء، ما جعل باسل يندهش من مقدرة وحشٍ على استخدام إمكانيّة عنصر سحريّ.
قال الوايفرن بثقة: "لو كنت أستطيع على فهم قوانين العالم واكتساب القدرة على استخدام الفنون القتاليّة، فإمكانيّات السحر شيء بسيط."
توهّج بعد ذلك صدره بضوء أزرق فاتح فصرّح باسل: "ينوي استخدام حجره الأصليّ إذن!"
كانت الوحوش تملك شيئا يميّزها عندما تبلغ المستويات الروحيّة؛ فبينما يؤسّس السحرة عوالمهم الروحيّة وينشئون أسلحتهم الروحيّة، كانت الوحوش تنشد أصل حجر الأصل، والذي كان يُعدّ جوهر روحها.
ولهذا، عندما كانت الوحوش الروحيّة تريد إنشاء سلاح خاصّ لها، كانت تعتمد على حجر أصلها كما يعتمد السحرة على العالم الذي يبنونه والذي يبدأ بالأرض الواسعة.
وقف باسل ثمّ فتح ذراعيه على مصراعيهما وقال بينما يبصق الدماء: "نعم، أرني كلّ ما لديك؛ فأنا أريد أن أختبر كلّ قوّتك بلحمي ودمي قبل أن تصبح ملكي. هيّا، استخدم سلاحك الروحيّ غير الكامل وتعال."
كانت الوحوش الروحيّة قادرة على استخدام الأسلحة الروحيّة بسبب الحكمة التي تكون قد اكتسبتها، وكانت قادرة على استخدامها مباشرة بعد الاختراق بالرغم من أنّها تكون غير مكتملة نظرا لنقص روح الساحر التي يُفترض التغذّي عليها.
كانت هذه إحدى أفضليّات الوحوش الروحيّة على السحرة الروحيّون. لقي العديد من السحرة مصرعهم بسبب تلك الأسلحة الروحيّة غير المكتملة التي لم يكونوا يملكونها عندما اخترقوا لتوّهم إلى المستويات الروحيّة.
امتدّ الضوء الساطع من صدر الوحش إلى باقي جسده وغلّفه ثمّ التصق بجسده من كلّ حرف وزاوية، فإذا بالضوء ينقشع تدريجيّا بينما تظهر قشرة صلبة جديدة على الجسد.
أصبح الوحش عبارة عن وايفرن مدرّع بدرع ساطع يبدو كألماس أزرق، وكانت أطراقه تبدو كمناجل مخصّصة لحصد الأرواح إذ بدت قادرة على قطع الأسياد الروحيّين بكلّ سهولة.
لقد كان هذا الوايفرن استثنائيّا بدون شكّ؛ ففي العوالم الروحيّة، وجود وايفرن نجح في التأصّل لهذه الدرجة كان نادرا للغاية في حدّ ذاته، فما بالك بوايفرن مثل هذا قادر على استخدام الفنون القتاليّة وإمكانيّات السحر وقدرته الطبيعيّة هي جسد صلب لا يُخترق إلّا بقوّة عارمة وله قدرة طبيعيّة أخرى تجعل النيران عديمة النفع تجاهه؟
تكلّم الوايفرن: "أتعلم ماذا أطلقتُ على هذا الشكل؟ سمّيته 'حاصد الأرواح الأصلي'. هذا يعني أنّه لا أحد سينجو منّ حكمي بعد رؤية هذا الشكل."
قال باسل مبتسما: "إنّك استثنائيّ بدون شكّ. ربّما لو لم تصادفني لاستطعت التهام أرواح العديد من السحرة والسحرة الروحيّين وبلغت مستوى شاهقا وحكمت به العالم الواهن. ولكن وا أسفاه، تحتّم عليك لقائي، وأيضا وا حسرتاه، حتّى أنا لا يمكنني تخيّل حدوث الأمور بشكل مختلف؛ إنّنا مرتبطين ببعض كثيرا، وأشعر أنّه كان لا بدّ من إكمال أحدنا للآخر. أشعر أنّ هذا اللقاء كان حتميّا."
كان كلاهما واثقا من نفسه كثيرا، فقال الوايفرن مجيبا: "أتّفق معك في الجزء الأخير، أمّا عن الجزء الأوّل، فأنا الذي سيكون الفائز."
وبالرغم من أنّه كان واثقا إلّا أنّه ما زال حذرا من خدع هذا البشريّ وما يمكن أن يكون ما زال يخبّئه في جعبته، وخصوصا بعدما كان يرى تلك النظرات الواثقة في عينيه التي تشعره أنّه في الجانب الخاسر دوما.
تحرّك الوايفرن بعدما بدّد تلك الأفكار من عقله وانطلق تجاه باسل مباشرة من الأمام دون أيّ مراوغات كما لو أنّه يتحدّاه، كما لو أنّه يقول: "نعم، أستطيع حصد روحك وأنت تراني."
وفي الجهة الأخرى، توهّجت عينا باسل ودرات النجوم الثلاثة بسرعة خاطفة ثمّ ظهرت فوق رأسه ثلاث كرات فضّيّة تبدو تحمل بداخلها مجرّات لا تُحصى تشمل حكمة سيّاديّة تستطيع رؤية وتحليل كلّ شيء والتحكم فيه بشكل سليم.
تفاجأ الوايفرن في منتصف طريقه بما حدث لكنّه لم يتوقّف بل وزاد من سرعته حتّى تردّد صوت احتكاكه مع الهواء وأطلق صفيرا تبعته أصوات انفجارات صوتيّة عديدة. كان الأوان قد فات على التراجع، وكلّ ما كان بمقدوره فعله هو التقدّم للأمام حتّى لو لاحظ أنّ البشريّ أمامه بالفعل كان ما يزال يخفي ورقة رابحة.
وفي اللحظات الأخيرة، وكما لو أنّ الزمن تباطأ، سمع الوايفرن باسل يتمتم له: "دعني أريك ورقتي الرابحة الحقيقيّة."
كان باسل في طور الحكيم السياديّ بشكل كامل وبدا في عينيه كلّ شيء بطيئا، إذ كان بإمكانه رؤية مسار الأشياء برؤيته الحكيمة السحيقة، وتوقّع تحرّكاتها التالية بتحليله الحكيم الشامل، والسيطرة على كلّ ذرّة من جسده وطاقاته بالتحكّم الحكيم السليم.
لم يعلم الوايفرن ما حدث حتّى كان باسل يقف أمامه مُشفى تماما ويبدو في أتمّ صحّته، وعلى استعداد تامّ لمواجهة هجومه الخاصّ.
انفجار
انشقّت الأرض أسفلهما وانفلقت السماء فوقهما.
انشقّت الأرض عندما حدث الاصطدام فاهتّزّت مئات الأميال المحيطة بهما، لكنّ السماء انفلقت لسبب آخر، وما أدرك الوايفرن السبب حتّى وجد نفسه يكاد يخرج إلى الفضاء الخارجي.
عندها، علم أنّ السماء انفلقت بسببه، أو بالأحرى بسبب اللكمة التي تلقّاها من باسل وجعلته يعكس مساره تماما ويعود من حيث أتى ويتجاوز ذلك بكثير.
أراد تحليل ما حصل بالضبط لكنّه لم يفهم شيئا، وظلّ في حالة صدمة بينما يغيب عقله عن الوعي ويعود لرشده مرارا وتكرارا، قبل أن يتوقّف عن الارتفاع في السماء ويبدأ في السقوط أخيرا، ليشعر بتلك الصاعقة تمرّ في كلّ عرق وعصب من جسده؛ كانت تلك الصاعقة هي الألم الذي لم يحسّ به إلّا بعد مرور بعض من الوقت من إدراكه للضربة التي تلقّاها.
نظر إلى جسده فوجد درعه متصدّعا من كلّ مكان، لكنّه صُعِق مرّة أخرى عندما وجد صدره مُخترَقا.
كان هناك ثقب على صدره لم يصل عمقه للجهة الأخرى من جسده، لكنّه بالتأكيد ددممّر أكثر مناطقه الحيويّة، وبالتحديد حجره الأصليّ الذي كان فيه شقّ يمتّد على منتصفه.
سقط بلا حول ولا قوّة. حاول الطيران لكنّه كان عاجزا. حاول تغيير مساره لكنّ جسده لم يستجب له.
تجاوز السحب فاستطاع أن يلاحظ باسل ينتظره بالأسفل بنفس الابتسامة التي كانت تعلو وجهه طوال الوقت، فلم يسعه هذه المرّة أن يكون حتّى متعجرفا ويستخفّ بتلك الابتسامة التي صار يراها نذير شؤم.
ما الذي حدث؟ كيف فعلها؟ لماذا؟ متى؟
لخبطت التساؤلات عقله لكنّه لم يجد تفسيرا مقنعا.
بالطبع لم يجد؛ فهو لم يعلم شيئا عن الحكمة السياديّة التي تمنّى كلّ شخص في العوالم الروحيّة امتلاكها، وحتّى السلاطين كان يسيل لعابهم عندما يفكّرون في احتماليّة اكتسابها.
استطاع باسل بحكمته السياديّة أن يوازن الخلل في روحه بعدما استخدمها لأقصى قدراتها، وبذلك صار قادرا على استخدام الفنون القتاليّة بالمرحلة الروحيّة بسلاسة، إلى جانب طاقته الروحيّة التي جعلت من عنصريّ التعزيز والرياح يبلغان مرحلة لم يبلغاها من قبل. وكلّ هذا جُمِع في لكمة واحدة.
قال باسل بينما ينتظر وصول الوايفرن إلى الأرض: "ما رأيك بأقوى لكمة أملك؟ حتّى لو كانت بدون عنصر النار، ما تزال قوّيّة لهذه الدرجة. حسنا، سأطلق عليها 'لكمة انفلاق السماء'."
اصطدام
سقط الوايفرن في أعماق الأرض في أحد الوديان التي صنعتها هذه المعركة، وطلّ عليه باسل بينما يقول: "حسنا، لن أخبرك هذه المرّة أن تنهض هذه المرّة، فأنا لست عديم الرحمة، ولكن بالرغم من أنّ المعركة ممتعة إلّا أنّني على عجل للذهاب، فما رأيك أن تستسلم بما أنّ النتيجة صارت واضحة وضوح الشمس؟"
لم يجبه الوايفرن مباشرة، وبدا كما لو أنّه يفكّر فمرّت عدّة ثوانٍ قبل أن يصرخ بشكل هيستيريّ: "أنا خسرت؟ هذا لم يحدث ولن يحدث أبدا! أنا سليل التنانين العظيمة الذي سيحكم العوالم الرئيسيّة والثانويّة ويبلغ الأصل! لقد انتظرت لعصور، وها قد حان وقتي أخيرا. هذا لا يمكن أن يحصل أبدا. لا يمكن أن يحدث هذا! أبدا، أبدا! أنا سيّد هذه المنطقة المحظورة، فدعني أريك ما يمكنني فعله يا أيّها الشقيّ اللعين!"
لاحظ باسل بعينيه الحكيمتين أنّ طاقة حاجز الحماية السماويّة يستجيب لرغبة الوايفرن في الحصول على الطاقة الكافية لعلاجه وتجديد طاقته السحريّة والروحيّة.
كانت تلك العمليّة بطيئة لكنّها كانت خطيرة. فحتّى أقلّ قدر من الطاقة يمكن أن يستفيد بها الوايفرن في هذه المعركة.
قال باسل بعدما تنهّد: "يبدو أنّك تُصعّب الأمور عليّ حقّا. حسنا، لا مفرّ، سأجعلك ترى ما يمكنني فعله في هذا المجال."
ضحك الوايفرن في الأعماق وقال: "هل تمزح معي يا لعين؟ لقد أخبرتك سابقا، فهل نسيت أنّني اكتسبت تلك الحكمة في هذا المجال الذي تحكمه تلك النيّة الساميّة؟ إنّني أكثر نفوذا هنا أكثر من أيّ مكان آخر في هذه القارّة."
ارتفع حاجب باسل الأيسر وقال: "نيّة ساميّة؟ آه، تتحدّث عن الأبله. لقد كدت أنسى أنّ ذلك ما كنتُ حتى أنا أشير إليه به. حسنا، حسنا، دعني أريد شيئا مثيرا للاهتمام."
التفت باسل ولاحظ ذلك الرمح يتسكّع في الأرجاء، ولسبب ما شعر أنّ الرمح يشعر بالملل حتّى أنّه كان يستكشف المناطق المحيطة ويتبع بعض الحشرات النادرة.
"يا أبله، تعال إلى هنا."
رنّ صوت باسل في عقل الرمح، فتصرف هذا الأخير كما لو أنّه لم يسمع شيئا واستمرّ في بحثه عن الحشرات النادرة بينما يهمهم.
حملق باسل إليه: "هوهو، تتجاهلني، حسنا، تجاهلني كما تريد."
مدّ باسل يده كما لو أنّه يحاول إمساك شيء ما، وفي تلك الأثناء صاح الرمح بحماس: "أووه! لقد وجدتها، حقّا وجدتها!"
وفجأة، وجد الرمح نفسه يُجذب قسرا إلى ناحية باسل حتّى وصل إلى يده.
صرخ الرمح من شدّة الغضب: "يا أيّها اللعين! كيف لك أن تعاملني هكذا أنا الرمح الطاغيّة؟ هل تريدني أن أفرمك؟ لمَ تقاطع بحثي عن كنوز مهمّة؟ لقد كنت قريبا للغاية من إمساكها. اللعنة! كنت قريبا حقّا!"
"كنوز مهمّة؟" تعجّب باسل: "ألست كنت تبحث عن بعض الحشرات فقط؟"
"هااااه؟!" صاح الرمح: "بعض الحشرات فقط؟ هل تمزح معي؟ الحشرات التي أبحث عنها تُعدّ من أندر الحشرات في العوالم الروحيّة."
ردّ باسل عليه بعينين ملولتين: "لكنّها تبقى مجرّد حشرات. لا يهمّ إن كانت نادرة أم لا."
"يا أيّها اللعين،" غضب الرمح: "لن يسعني إيجادها الآن مهما حاولت بعدما استشعرت حضوري سابقا. حتّى لو بحثت لسنين لن أجدها. إنّها تختفي تحت الأرض عميقا و..."
قاطعه باسل قائلا: "كفانا حديثا عن الحشرات اللعينة."
أنت...!"
أكمل باسل: "على كلٍّ، هناك أحدهم يريد لقاء النيّة الساميّة التي تتسيّد هذا المجال، فما رأيك أن تلقي التحيّة؟"
"هيهي،" ضحك الرمح بعدما تغيّر مزاجه لمّا سمع 'النيّة الساميّة' وقال بصوته الخشن الذي اعتاد التكلّم به في الخفاء: "حسنا، حسنا، هذا السيّد العظيم سيمنح الشرف لهذه الروح الفقيرة أن تلتقيه. هيّا، أين أنت؟"
يبدو أنّ الرمح الطاغيّة اشتاق للعب دور السيّد العظيم الذي افتقده بعدما التقى باسل.
مرّت مدّة ولم يسمع الرمح ردّا، فالتفت إلى باسل وصرخ: "يا أيّها الوسخ القذر، هل كنت تخدعني؟"
تنهّد باسل: "هدّئ من روعك، فإنّي لست في مزاج لأخدعك الآن. أظنّ أنّ أحدهم عاجز عن الكلام فقط."
نظر الوايفرن إلى الرمح من الأعماق ولم يسعه قول أو فعل شيء سوى التعجّب: "هاه؟! إِه، إِيــــــــــه!"
***
"هوهوهو،" ضحك باسل على ردّة فعل الوحش الغريبة وقال: "هل تفهم ماذا يعني هذا؟"
ارتعب الوحش في الأعماق بينما يقول: "هذا... هذا غير ممكن... كيف لك أن تملك كلّ هذه الامتيازات؟ كيف لغرّ بدأ حياته للتوّ أن يملك ما لا يملكه سلاطين العوالم الروحيّة حتّى؟ كيف للعين مثلك أن يملك سلطة على حاكم هذا المجال؟"
ابتسم باسل وردّ بصدر رحب: "لا تقلق، ستكتشف كلّ هذا عندما أستحوذ على روحك. ثق بي، لربّما لستَ سعيدا لأنّني سأسلب روحك، بمعنى سأقتلك، وهذا طبيعيّ للغاية، أو بالأحرى عليك أن تقاتلني من أجل حياتك، ولكنّك ستعلم أنّه لا يمكنك بلوغ عظمة مثل التي ستبلغها معي."
رفع باسل الرمح فوق رأسه ثمّ اخترق به الأرض فإذا بالوايفرن يشعر بانقطاع اتّصاله بطاقة الحاجز السماويّ.
كان هذا المجال قادرا على استنزاف طاقة قارّة الأصل والنهاية من أجل المصفوفة والعالم الثانويّ، ولهذا بإمكان هذا المجال عزل الطاقة الخارجيّة تماما أيضا.
لقد كان هذا المجال مُعدّ خصّيصا من أجل العالم الثانويّ الذي دخله باسل، والذي كان يحكمه الرمح الطاغيّة، ولهذا كان باسل حاليا يستطيع فعل ما يشاء في هذا المجال كونه يملك سلطة على الرمح الطاغيّة بنفسه.
فزع الوحش أكثر لمّا حدث ما حدث، وفهم أخيرا لمَ كان باسل واثقا طوال الوقت بالرغم من أنّه يُفترض أنّه وجد نفسه في منطقة العدوّ المفضّلة.
"مستحيل...!"
نهض الوايفرن بتلك الطاقة القليلة التي قدر على تحصيلها وثقب أعماق الأرض فبدأ يهرب.
كان هدفه واحد: "يجب أن أخرج من هذا المجال بأقصى سرعة حتّى أستطيع أن أحتمي بأتباعي. يجب أن أهرب من هذه القارّة وألتهم أرواح السحرة قدر المستطاع. اللعنة، لماذا لم أفعل هذا ما أن اخترقت إلى المستويات الروحيّة؟ تبّا...!"
كان الوايفرن واثقا للغاية، وكان ذلك لسبب جيّد، إلّا أنّ وجود شخص مثل باسل لم يكن في وضع الحسبان.
ترك باسل الرمح مغروسا في الأرض وتحرّك متتبّعا حركة الوايفرن من فوق الأرض. لقد كان يستطيع أن يشعر به بتحكّمه الحكيم السليم الذي جعله قادرا على التحكّم في استشعاره الروحيّ لدرجة مخيفة، إذ صار قادرا على معرفة عدد النمل والدود الموجود تحت باطن الأرض حتّى.
قفز باسل فجأة ثمّ اندفع بسرعة فائقة نحو الأرض من جديد وقبضته تتقدّمه، فإذا به يخترق الأرض التي تزلزلت وانشقّت وصُنِع نفق يؤدّي مباشرة إلى مكان الوحش.
اهتزاز
وجد الوايفرن نفسه فجأة تحت قوّة غامرة لم يستطِع مراوغتها بسرعته البطيئة.
كسر
تحطّم درعه المتصدّع وانكسرت عظامه وفُرِم بعضا من لحمه تحت قوّة لكمة انفلاق السماء، وشُلّ جسده تماما لقليل من الوقت.
فتح عينيه ليجد باسل بجانبه، فإذا به يصرخ من الهلع ويتسارع دمه بشكل مذهل، فتوهّج حجر الأصليّ المشقوق وعصر كلّ ما يملك من طاقة متبقّيّة واستخدمها كلّها من أجل تزويد التعاويذ الذهنيّة الروحيّة بالطاقة اللازمة لتفعيل الفنّ القتاليّ.
فرقعة
تفرقع الصوت في المرّة الأولى فاختفى الوايفرن قبل أن يتفرقع الصوت عدّة مرّات متتالية بدون أيّ وجود للوحش.
كان باسل على أهبة الاستعداد نظرا لكونه يعلم أنّ كلّ ما يجول في خاطر العدوّ هو الهرب حاليا، لذا ما أن اختفى الوحش حتّى كان باسل خلفه بالضبط.
كانا هذه المرّة في السماء.
كانا سريعين لدرجة جعلت فيها كلّ تحرّكاتهما السابقة تبدو بطيئة.
انشقّ حجر الوحش الأصليّ أكثر وكان ذلك علامة على تجاوزه حدود طاقته، فهو لم يعد يستخدم الطاقة الروحيّة بشكل عادي، بل بدأ يستخدم الطاقة التي تكوّن الحجر الأصليّ نفسه؛ كلّ هذا من أجل نجاته.
تكلّم باسل بروية بينما يتبع الوحش: "أخبرني، لقد قلت سابقا أنّك وُلِدت هنا، كيف ذلك؟ هذا العالم لا يملك سلالة الوايفرن التي تفضّل العوالم الروحيّة الغنيّة بالطاقة. هل تعلم شيئا عن كيفيّة وصولك إلى هنا؟"
كان الوحش في حالة يُرثى لها، سواء جسديّا أو ذهنيّا أو روحيّا، لكنّ هذا الشقيّ يسأله مثل هذا السؤال في مثل هذا الوقت. هل يعبث معه الآن؟
كان غضب الوحش بنفس درجة خوفه، لكنّه عجز فعل شيء غير الهرب.
صرخ يائسا: "ستندم على هذا يا أيّها اللعين. أقسم لك أنّك ستندم على هذ-"
انقطع كلام الوحش فجأة، ولمّا علم عن السبب وجد جسده مثقوبا، وحجره الأصليّ غير موجود.
حدّق إلى باسل فوجد الحجر الأصليّ بيده، فقال بصعوبة شديد بينما يضعف صوته شيئا فشيئا: "ذلك... إنّه يخصّني... أعد..ه إلــ...ـيّ..."
سقطت جثّة الوحش بعدما مات، فظهر في مكانها طيف أزرق فاتح اتّخذ شكل الوايفرن لكنّه كان صغيرا للغاية، وبالضبط بحجم القبضة.
نظر باسل بعد ذلك إلى الحجر الأصليّ في يده ثمّ اقترب إلى الطيف وقال: "حسنا، لنجمع روحك الآن."
كان ذلك الطيف هو روح الوايفرن، والتي استطاع باسل، بعدما صار صاعدا، رؤية مثلها عند العديد من الوحوش السحريّة بالرغم من اختلافها قليلا كاختلافها مثلا من حيث كثافة طاقتها وقوّة إرادتها.
والآن بعدما صار سيّدا روحيّا، كان قادرا على لمس تلك الأرواح، ولهذا وضع يده على روح الوايفرن التي كانت ما تزال هناك، ودمَجها بالحجر الأصليّ، فدخلت إلى الحجر الأصليّ كما لو أنّها تعود إلى مكانها الطبيعيّ.
نبض قلب باسل بسرعة كبيرة وبدأت الجروح تظهر على لحمه وشحُب وجهه كثيرا؛ كانت تلك علامة على بلوغه حدوده. لم يعد احتواء الضرر ممكنا حتّى بالحكمة السياديّة وشفاء جسده الذاتيّ المذهل.
لقد كان يجب عليه البدء في عمليّة الاستحواذ حالا.
ظهرت الأرض الواسعة تحت قدميه، فوضع عليها الحجر الأصليّ، فإذ به يُمتصّ تدريجيّا حتّى اختفى تماما بها، فأعاد باسل الأرض الواسعة إلى روحه وبدأ عمليّة الاستحواذ على روح الوحش.
كان يجب على الشخص دمج طاقة الحجر الأصليّ بنفسها مع طاقة الأرض الواسعة، ودمج روح الوحش مع روح الساحر بأكملها، ولهذا توجّب إزالة الشوائب الضارة من طاقة الحجر الأصليّ والروح على حدّ سواء.
لم يكن لباسل مشكلة في هذا في الواقع، بل كان هذا هو الجزء الأسهل بالرغم من صعوبته وأهمّيته للعديد من السحرة، ولكن باسل كان عليه الآن أن يستغلّ هذه الروح التي أعدّها السارق الخسّيس من أجل موازنة الاضطراب.
تمتم باسل: "والآن، فلنجعل العوالم تشهد أو ساحر روحيّ يملك روحين."
كانت الأرض الواسعة التي ظهرت في بحر روح باسل تُعدّ روحا بذاتها، ولهذا عندما كان يكوّن روحه الخاصّة بينما يخترق إلى المستويات الروحيّة، كان عليه فصل تلك الأرض الواسعة عن الأرض الواسعة التي سينشئها بنفسه كساحر روحيّ.
وبسبب هذا أصبحت لديه أرضين واسعتين، وبمعني آخر، أصبح يملك روحين.
كان هذا غير اعتيادي أبدا، فلا جسد كان قادرا على احتواء روحين، ولا روحين كانتا قادرتين على الوجود بتناغم في جسد واحد.
ولكن باسل حصل على جسد مذهل عند لقائه بالوحش النائم، لذا أتمّ شرط وجود جسد قادر على احتواء روحين، وتبقّى له الشرط الثاني، ألا وهو مناغمة الروحين.
فهم باسل أنّ السارق الخسّيس قد أعدّ روح هذا الوحش حتّى يناغم بين الروحين، لكنّه لم يكن متأكّدا مئة بالمئة. فالتناغم الذي سعى السارق الخسّيس كان مختلفا تماما عن التناغم الذي يحاول هو فعله.
فالسارق الخسّيس كان يحاول فقط دمج أرض واسعة بالأخرى، أيّ جعلهما أرضا واسعة واحدة من جديد، واحتاج لروح وحش قادرة على الارتباط بكلا الأرضين الواسعتين، لكنّ باسل كان يحاول الحفاظ على استقلاليّة كلّ أرض واسعة بينما يحافظ على تجانسهما معا.
ظهر الحجر الأصليّ من الأرض الواسعة فجأة، لكنّه كان في الواقع نصفا فقط. طاف هذا النصف في المجال الروحيّ والتصق بالأرض الواسعة الثانيّة التي كانت أصغر من الأولى.
مرّ بعض الوقت بينما يعاني باسل، فبدأت الأرض الواسعة الثانيّة تكبر حجما بينما تصغر الأرض الواسعة الأولى، واستمرّ ذلك حتّى أصبح حجمهما متساويا.
توهّجت الأرضان الواسعتان في نفس الوقت فحلّقت طاقات العناصر السحريّة من الأرض الواسعة الأولى مرورا إلى الثانيّة، واندمجت معها، فتكوّنت هناك ثلاثة عناصر مماثلة للأصليّة في الأرض الواسعة الأولى.
صار جسد باسل ليّنا كما لو كانت عظامه تنصهر تحت لحمه الذي احمرّ من السخونة حتّى اشتعل وبدأ يحترق.
أسرع باسل وكوّن حاجز يربط الروح الأولى بالثانيّة، وكان هذا الحاجز مكوّنا من تعاويذ الحكمة السياديّة وحروفها الرونيّة. فعل هذا حتّى يحاصر بقايا السارق الخسّيس التي كانت تسكن الروح الثانيّة.
وعندما نجح في هذا أخيرا ظهرت روح الوايفرن تطفو بين الأرضين الواسعتين، بينما تتوهّج بضوء أزرق فاتح يمتدّ منها على جهتين، ويرتبط بكلّ أرض واسعة.
توهّج جسد باسل وانطلقت الطاقة تصاعديّا من جسده بعدما صنعت دويا من شدّة قوّتها.
كانت تلك الطاقة كثيفة للغاية حتّى أنّها جعلت العديد من الوحوش السحريّة تهرب إلى أبعد مكان ممكن بالرغم من أنّها أصلا بعيدة عن المجال الذي يوجد فيه باسل.
تجلّت صورة باسل بعدما تبدّدت تلك الطاقة التي أحاطت جسده قبل قليل، فإذا به يظهر على خير وسلام، مشفى معافى كما لو أنّ شيئا لم يحدث.
أحكم قبضتيه وصرخ: "لقد نجحت! لقد فعلتها! يا معلّمي، لقد فعلتها حقّا! لقد كانت روح الوايفرن بتلك الحكمة التي تلقّتها قادرة على الارتباط بكلا الروحين والمساهمة في مناغمتهما حقّا. وهذا لم يكن لينجح في النهاية بدون الحكمة السياديّة. لم أخب ظنّك بي يا أيّها المعلّم!"
شعر باسل بسعادة لا توصف، وليس فقط لأنّه نجح في فعل ما لم يسبق لأحد النجاح فيه، بل أيضا لأنّه أحسن استخدام الحكمة السياديّة التي تلقّاها من معلّمه. لقد كانت السعادة تغمره لأنّه لم يضع تضحيّة معلّمه هباء.
ابتسم ثمّ قال: "حسنا، الآن يمكنني فعل ذلك أيضا."
مدّ يده فإذا بالرمح ينقلع من الأرض ويأتي محلّقا إلى يده.
كان الرمح ليصرخ بسبب هذا في العادة، لكنّه كان متحمّسا للرحيل أخيرا بعدما انتهى باسل.
"هيّا، أخيرا سنذهب. لا تخبرني أنّك ستبدأ بصنع سلاحك الروحيّ أيضا. ذلك سيتطلّب وقتا طويلا ولا يسعني تحمّل دقيقة أخرى هنا."
قال باسل بينما يحافظ على ابتسامته: "لا تقلق، سنخرج في وقت قريب، لكنّني بالفعل سأصنع سلاحيّ الروحيّ قبل ذلك."
"هاه؟" صرخ الرمح: "لا تعبث معي يا أيّها اللعين. صنع السلاح الروحي يستغرق أسابيع حتّى ينتهي كلّيّا، فكيف لك أن تخبرني أنّنا سنذهب في وقت قريب؟ دعني من هذا الكلام، أنا أريد الذهاب الآن، حالا، توّا، فورا."
كانت ابتسامة باسل ما تزال تعتلي وجهه: "سترى. فأنا لن أصنع سلاحا روحيّا من البداية، بل فقط سأجعل سلاحا روحيّا سلاحيّ الروحيّ."
ضحك الرمح الطاغية: "فافافافهمت، وكيف ستفعل ذلك بالضبط؟ هل تظنّ أنّه فقط لأنّك تملك الحكمة السياديّة يمكنك فعل ما تشاء؟ فافافا!"
ضحك الرمح باستمرار: "وأصلا، أين يمكنك أن تجد سلاحا روحيّا جاهزا؟ هل نسيت أنّك الساحر الروحيّ الوحيد في هذا العالم؟"
حدّق باسل إلى الرمح ولم يزح تلك الابتسامة عن وجهه، فلم يسع الرمح سوى أن يقول: "لماذا تستمرّ بالابتسام بهذا الشكل. إنّ هذا مقزّ..."
لم يكمل الرمح كلامه حتّى استوعب كلام باسل أخيرا. لقد استبعد نفسه من لائحة الأسلحة الروحيّة التي يمكن السيطرة عليها بسبب غروره وقوّته، لكنّه تذكّر أخيرا أنّ هذا الشقيّ يملك سلطة عليه.
"انتظر، لا تخبرني... لا تفعل هذا! إنّك تمزح، أليس كذلك؟ دعنا نهدّئ أعصابنا، حسنا؟ لنتكلّم بروية ونفهم ما يدور هنا."
قال باسل: "الوحيد الفاقد أعصابه هنا هو أنت. إنّني في كامل هدوئي ورزانتي حاليا."
صرخ الرمح وحاول الابتعاد عن باسل لكن بدون جدوى: "هيّا، لا تكن سخيفا، هذه إحدى خدعك القذرة، أليس كذلك؟ إنّك تحاول أن تعبث معي فقط، أليس كذلك؟"
ابتسم باسل في وجهه فصرخ الرمح: "اللعنة، تلك الابتسامة من جديد. إنّها الابتسامة اللعينة التي تفعلها عندما تخطّط لفعل شيء خبيث."
توهّجت جبهة باسل الذي بدأ يردّد: [ما العالم الواهن إلّا جزء لا يتجزّأ من سيادة الفلّاح الفاطن. من حاول حلّ اللغز والهروب من النكران ضاع في بحر السلوّان، كلٌّ ارتهن في هوان وامتهان، حتّى يحين أوان كشف البهتان وجلب الأمان والاطمئنان، ببرهان السلطان ذو الطغيان.]
[أنا السلطان!]
توهّج الرمح الطاغيّة حتّى تحوّل هو بنفسه إلى ضوء اندمج بعد ذلك مع الضوء المنبعث من جبهة باسل.
لم يسع الرمح فعل شيء بينما تخضع روحه لسيطرة باسل، وفجأة أحسّ بشيء غريب، شعر كما لو أنّه يذوب كحديد يُصهر ليُخلط بعنصر آخر. كان ذلك الإحساس مشمئزّا بالنسبة له بما أنّه لطالما امتلك سلطة متفرّدة، ولكنّ ذلك الشعور كان دافئا في نفس الوقت نظرا لكونه قد اختبر وحدة قاسية لعصور مضت.
"ما الذي تفعله يا أيّها الشيطان الصغير؟! توقّف...!"
كان الرمح مذعورا كونه وجد نفسه يُجذب إلى أعماق روح باسل، بلا حول ولا قوّة.
ابتسم باسل نفس الابتسامة التي بدت للرمح شيطانيّة، وردّ بشكل ساخر: "ماذا؟ أظننتني سأخضعك لي ببساطة؟ بالطبع لا! لقد أخبرتك، إنّني عزمت على تحدّي السارق الخسّيس ولو عنى ذلك سرقة كلّ شيء منه والتعرضّ لخطر سلبه جسدي وروحي منّي، ووفقا لذلك، سأجعلك تصاحبني في رحلتي."
صرخ الرمح: "إنّي ألعنك ما حييت يا أيّها الشقيّ القذر...!"
***
لم يمرّ وقت طويل حتّى كان الرمح الطاغيّة مندمجا بروح باسل الثانيّة، والتي كانت هي الروح التي يسكنها السارق الخسّيس. كان لا بد من دمجه بالروح الثانيّة حتّى يتمّ ذلك بنجاح كون طاقة تلك الروح مألوفة لطاقة الرمح كثيرا.
جعل هذا الأمر دمج الرمح بالروح سلسا، لكنّه جعله خطرا للغاية على باسل، إذ كان الرمح سلاح السارق الخسّيس الروحيّ، وقد يستغلّه هذا الأخير من أجل أخذ السيطرة.
كان باسل يعي بهذه المخاطر، ومع ذلك فعلها؛ أراد أن يحطّم كلّ ما بناه السارق الخسّيس كلّيّا. أراد أن يسرق منه كلّ شيء.
صرخ الرمح في أعماق باسل: "يا أيّها الشقيّ، إن لم تجسّدني في الخارج حالا، فسأجعل حياتك مريرة."
تنهّد باسل ثمّ قال: "لا تقلق، لم أكن أنوي فعل ذلك أصلا. لن يسعني تحمّل ثرثرتك في أعماق روحي."
توهّج جسد باسل وانبعث منه ضوء تشكّل على شكل رمح؛ كان ذلك هو الرمح الطاغيّة.
شعر باسل أنّ الرمح يحملق إليه، فقال: "ماذا هناك؟"
ردّ الرمح: "لقد فعلتها حقّا. لقد تجرّأت وفعلتها اخيرا يا أيّها اللعين. تذكّر، إنّك ستندم على هذا."
تجاهل باسل كلام الرمح ثمّ توجّه نحو خارج المجال.
كانت سيطرته على المجال أكثر قوّة بكثير عمّا كانت عليه، لكنّه لم يكن يستطيع استخدام قوّة هذا المجال ولا قوّة ذلك العالم الثانويّ ببساطة لأنّه ذلك سيجعل من نفوذ السارق الخسّيس داخل روحه الثانيّة أقوى فقط.
لاحظ باسل أنّ هناك وحوش سحريّة تنتظره في الخارج، فعلم أنّ هذه وحوش قد أتت إلى هنا بناء على طلب الوايفرن لكنّها لم تستطِع ولوج هذا المجال لوحدها.
كانت هذه الوحوش بالمستوى العاشر فما فوق، فكلّ الوحوش التي كان مستواها أضعف هربت بعدما نجح باسل في مناغمة الروحين وانفجرت طاقته.
كانت الوحوش تحمل نيّة قتل شرسة تجاه باسل، لكنّه ما أن حدّق إليها حتّى تجمّدت في مكانها. لقد كان عددها يصل إلى الآلاف إّلا أنّها لم تستطِع تحريك شعرة من أجسادها.
كان هناك سببان رئيسيّان، فباسل كان سيّدا روحيّا وليس أيّ سيّد روحيّ، بل سيّد روحيّ بروحين، وهذا أمر غير طبيعيّ ولم يُشهد له مثيل في كلّ الأزمنة والأمكنة، فكانت الهالة التي يبعثها شديدة للغاية. أمّا السبب الآخر، فقد كان حقيقة استشعار هاته الوحوش لروح سيّدهم في أعماق روح باسل.
لم تتزحزح الوحوش السحريّة من مكانها وظلّت منتظرة مغادرة باسل بسلام، آملةً ألّا تُقتل على يديه.
لم يهتمّ باسل لها بعد ذلك واتّصل مباشرة بأنمار تخاطريّا؛ لقد خرج أخيرا من المجال الذي كان يمنع اتّصاله.
عبس فجأة وقال: "لمَ هذا لا ينجح؟"
حاول مرّة أخرى لكنّه لم يستطع الاتّصال بها: "هذا غريب!"
غيّر اتّجاه اتّصاله إلى تورتش لكنّ نفس الامر حدث، فحاول الأمر مع باقي قادة التشكيل والكبير أكاغي إلّا أنّه لم يستطع التواصل مع أحد.
قال باسل مستغربا: "ما الذي يحدث بالضبط؟ هل هناك خلل بخواتم التخاطر بعد التحوّل الروحيّ للعالم؟ لا، هذا غير محتمل. إذن..."
وفجأة، تلقّى باسل اتّصالا من شخص لم يتوقّع أنّ يتلقّى اتّصالا منه أبدا. لقد ربط خاتم تخاطره بخاتم تخاطر هذا الشخص فقط من أجل العمل، لكنّهما لم يتكلّما تخاطريّا أبدا.
لقد كان ذلك الجنرال كاميناري رعد.
(ماذا هناك أيّها الرجل الأشقر؟ هل هذا له علاقة بسبب عدم قدرتي على التواصل مع أنمار والبقيّة؟)
لم يقل الجنرال رعد شيئا إلّا بعد مرور قليل من الوقت، لكنّ كلامه لم يكن ردّا على سؤال باسل،
بل مجرّد كلمات متفرّقة، ومتردّدة، ومذعورة: (أ-أ-أ-أنـ-أنا آس-آسف)............يتبع!!!!!!
(الجزء الثاني)
فجأة، تلقّى باسل اتّصالا من شخص لم يتوقّع أنّ يتلقّى اتّصالا منه أبدا. لقد ربط خاتم تخاطره بخاتم تخاطر هذا الشخص فقط من أجل العمل، لكنّهما لم يتكلّما تخاطريّا أبدا.
لقد كان ذلك الجنرال كاميناري رعد.
(ماذا هناك أيّها الرجل الأشقر؟ هل هذا له علاقة بسبب عدم قدرتي على التواصل مع أنمار والبقيّة؟)
لم يقل الجنرال رعد شيئا إلّا بعد مرور قليل من الوقت، لكنّ كلامه لم يكن ردّا على سؤال باسل، بل مجرّد كلمات متفرّقة، ومتردّدة، ومذعورة: (أنـ-أنا آسف... لديّ خبر سيّئ... أرجوك أنصت بهدوء...)
اقشعرّ جسد باسل. لم يكن الرجل الأشقر ليبدأ كلامه بالتأسّف أبدا عندما يتحدّث معه. كان هذا دليلا على جدّيّة الوضع، وخصوصا بعدما أتبعه بقوله 'خبر سيّئ' و'أرجوك'.
(أيّ خبر سيّئ؟)
***
قبل فترة طويلة، وبالضبط عندما انتهى تحوّل العالم الروحيّ الحقيقيّ، في أكاديميّة الاتّحاد المباركة العائمة في السماء.
ترقّبت أنمار والآخرون بحذر أحد الشروخ الفضائيّة التي ظهرت في أنحاء العالم، وخصوصا أنمار التي جعلت حذرها في أقصى الدرجات الممكنة. لقد علمت من باسل أنّ العوالم مختومة عن بعضها لذا لا يمكن لأحد من عالم آخر أن يأتي لعالمهم، لكنّ ما يحدث أمامها ددممّر تلك الفكرة تماما.
ظهر صاحب تلك القدم بالكامل من الشرخ الفضائيّ، فتعجّبت أنمار وحدّقت إليه كما لو أنّها تحاول اكتشاف هويّته، إلّا أنّه كان مجهولا لها، فذلك لم يكن الشيطان الذي توقّعت ظهوره.
"من تلك...؟"
سأل الجنرال رعد لكنّه لم يتلّق إجابة كما لم يتوقّع أصلا أن يتلقّاها. كان ذلك سؤالا خرج من فمه بالفطرة بعدما شاهد شخصا اتخذت هيئته شكل مرأة ارتدت فستانا أحمر يشتعل بلهب أحاط جسدها وركب كتفيها فتشكّل على هيئة عنقاء لوهلة قبل أن يختفي مخلّفا وراءه شرارات ترقص على شعرها الذهبيّ.
كان فستانها المشتعل يغطيّ جسدها لكنّه كان يكشف عن ذراعيها النحيلتين والناعمتين مثلما كان مفتوحا من جهة الفخذين لتظهر ساقيها الرفيعتين. جعل الفستان منحنيات جسدها تُرسَم بأناقة وأبرز صدرها وردفيها فأظهر جمالها بدل أن يخفيه.
كانت الهالة حولها جليلة وكان من الواضح أنّها امرأة عليلة، فالهواء حولها أصبح عطرا طيّبا فقط بوجودها فيه، وانتعشت الأرض عندما نزلت عليها كما لو أنّها تفرح بوجودها. كانت طاقة حياتها مدهشة لدرجة أثرت فيها على المنطقة التي تحيط بها، فالأزهار زهت، والتربة خصبت، والأوجه نضرت.
حدّقت أنمار والآخرين إليها عندما نزلت على الأرض باندهاش، ولم يعلموا عن نواياها إذ كانت مغمضة العينين حتّى الآن.
كانت تحرّكاتها سلسة وراقية، فكلّ خطوة منها جعلتها تبدو في حلّة جديدة.
مشيت فجأة نحو أنمار والبقيّة، فاستعدّ أولئك الأربعة وشحنوا طاقاتهم السحريّة، لكنّ المرأة اختفت من أمام أعينهم دون أن يلاحظوا، وبالرغم من أنّهم حاولوا استشعار حضورها إلّا أنّهم فشلوا.
"&@&@-&&@&@&@&-&&@&@&@-@&@"
سمعت أنمار كلاما من ورائها فجأة فاستدارت وتراجعت في نفس الوقت بضعة خطوات للوراء بسرعة، وذلك ما فعل الجنرال رعد ثمّ تورتش ثمّ التاجر الناصر.
تقطّر وجه أنمار بالعرق بالضبط كما حدث للثلاثة الآخرين؛ لقد وصلت تلك المرأة إلى خلفهم دون أن يشعروا بتاتا بها، حتّى أنّهم لم يدركوا أنّها خلفهم إلّا بعدما تكلّمت.
أمالت المرأة رأسها للجانب قليلا كما لو أنّها مستغربة، ووضعت سبّابتها اليمنى على ذقنها وبدت تفكّر في شيء ما. مرّت لحظات قبل أن تزيل سبّابتها عن وجهها وتشير بها للأعلى كما لو أنّها تذكّرت شيئا، فأظهرت خاتما يبدو أثريّا من خلال النظر إلى الرموز المنقوشة عليه، ثمّ نظرت إلى أنمار.
"نسيت وضع خاتم اللغة. هل تفهمونني الآن؟"
تكلّمت المرأة من جديد لكنّ كلامها هذه المرّة كان مفهوما.
"من أنت؟"
قالتها أنمار بينما تتّخذ أقصى درجات حذرها كالعادة.
حدّقت المرأة إلى أنمار بعمق وقالت: "يبدو أنّكم تفهمونني، إذن لا شكّ في أنّ هذا هو العالم الواهن. لن تعرفوني حتّى لو أخبرتكم عن هوّيتي، لذا سأتجاوز كلّ ذلك وأسألكم عمّا أريد."
تيقّنت المرأة من أنّها في العالم الواهن بعدما علمت أنّ الأشخاص أمامها يفهمونها بعدما وضعت خاتم اللغة على إصبعها.
لم يستطِع أحد من الأربعة قول شيء، فعقولهم ما زالت تحاول مواكبة ما يحصل حاليا.
"هناك عنصر العلاج في العالم الواهن، صحيح؟ أريد أن أسألكم عن سحرة العلاج في هذا العالم. هلّا أخبرتموني أين يمكنني إيجاد أحدهم؟ من الأفضل أن يكون أفضلهم."
تفاجأ الأربعة من السؤال غير المتوقّع على الإطلاق، فومضت صورة شي يو في عقل تورتش، والذي سأل بعدئذ، عابسا: "ما الذي تريدينه منهم؟"
نظرت المرأة إلى تورتش كما لو أنّها تقرأ تعبيراته ومشاعره ثمّ قالت: "أمم... يبدو أنّكم تعلمون أين يمكنني إيجادهم. أنت..."
وجّهت سبّابتها نحو تورتش فانتبه لها، لكنّه وجدها أمامه دون أن يعلم متى تحرّكت.
"أخبرني."
قرّبت وجهها من وجهه وحدّقت بعينيها إلى عينيه عن كثب، فتوتّر تورتش وتجمّد في مكانه عندما وجد نفسه مقيّدا بجمالها الخلّاب؛ فعيناها البرتقاليّتان التهبتا من حين إلى آخر عندما رمشت برموشها الطويلة، والتصقت الشرارات بحاجبيها المحدّ*** اللذين بدوا كما لو كانا مرسوميْن، فأنار وجهُها الناضرُ العقولَ كما تنير الشمس العالم بلهبها.
. وفي نفس الوقت، وجد تورتش بها شيئا غريبا؛ كانت أذناها طويلتين بشكل غريب عن آذان البشر، إذ امتدّتا للجانبين، لكنّهما فقط تناسقتا مع تركيبة وجهها وزادتاها جمالا.
"تورتش!"
صرخت أنمار وأرسلت نيّتها وإرادتها وهالتها في نفس الوقت، فعاد النور إلى عينيْ تورتش بعدما اختفى منهما، فابتعد عن المرأة بضع خطوات، ثمّ هز رأسه أفقيّا وردّ عليها: "لا أعلم."
أمالت المرأة رأسها وابتسمت مغمضة العينين بلطف، فاختفت من أمام ناظر الأربعة لتظهر من جديد أمام تورتش، والذي رأى إصبعا يقترب من جبهته، لكنّه لم يدرك في الواقع أنّ ما اقترب من جبهته كان إصبعا حتّى فات الأوان.
نقرة
حلّق تورتش طائرا لعشرات الأمتار بينما يحتكّ جسده مع الأرض حتّى اصطدم بحجر ضخم بجانب البحيرة المباركة.
اتّسعت أعين الثلاثة الآخرين لمّا رأوا تورتش يحلّق بذلك الشكل بسبب مجرّد نقرة على الجبهة من وسطى يد المرأة اليمنى.
"تورتش!"
صرخت أنمار وأسرعت لترى حال تورتش، فتلك النقرة كانت غير طبيعيّة. لقد كان تورتش ساحرا بالمستوى الرابع عشر لكنّه عومِل كحشرة لا تحتاج لمجهود كبير من أجل القضاء عليها، ومجرّد إصبع واحد كافٍ لسحقها.
وضعت المرأة سبّابتها اليمنى على خدّها وأمالت رأسها قبل أن تقول: "هذه الأخت الكبرى تكره الكذّابين لعلمك♪"
كانت نظراتها عادية، كما لو أنّ ما يحصل حاليا لا يحتاج أن يؤثّر عليها بأيّ شكل من الأشكال.
أكملت بعدما أزالت إصبعها عن وجهها: "لكن لا تقلق، كلّ ما فعلته هو تحذيرك. لم أقتلك 'بعد'. والآن، هل أنتم مستعدّين لإجابتي بصدق؟"
بالرغم من أنّ أنمار ذهبت لترى حول تورتش، إلّا أنّ المرأة لم تحاول فعل شيء لها وظلّت واقفة هناك بصمت كما لو أنّها تنتظر الإجابة التي تنشدها فقط.
حملت أنمار رأس تورتش من رقبته وحاولت إيقاظه: "يا تورتش، أجبني. هيّا، استيقظ. لا يمكن أن تكون هذه نهايتك."
سعل تورتش الدماء مع عودة تنفّسه وحاول فتح عينيه إلّا أنّ الصداع شوّش دماغه وشلّ جسده. كان يحسّ كما لو أنّ هناك صاعقة سقطت عليه من حيث لا يدري. لم يسعه أن يحرّك إصبعا واحدا لبعض الوقت.
أصبحت نظرات أنمار حادّة فالتفتت إلى المرأة وحدّقت إليها بنيّة قتل شرسة جعلت المرأة تندهش حتّى أنّها أخرجت صوتا: "أووه.."
ابتسمت المرأة وقالت: "لديك عينان جيّدتان أيّتها الفتاة الصغيرة. هذه الأخت الكبرى تمدحك♪ أنت تجعلينني أريدك أيضا، لكن أوّلا أريد سحرة العلاج."
لم تُوقف أنمار نيّة قتلها تجاه المرأة، لكنّها مع ذلك كانت قادرة على التفكير بشكل سليم؛ لقد كانت تعلم أنّ الشخص الذي أمامها يمكنه سحق سحرة مستويات الربط بكلّ سهولة ولو اجتمعوا بالمئات والآلاف عليه.
حلّلت الموقف وخصوصا كلمات المرأة، فتلك الكلمات حتّى الآن كانت دليلها الوحيد.
(سحرة العلاج؟ هدفها الأوّليّ؟ خاتم اللغة؟)
فكّرت أنمار فاتّسعت عيناها فجأة بعدما أدركت ما يحصل.
(لا شكّ في أنّ هذه المرأة من عالم آخر، ولكن لا يبدو أنّ هدفها هنا هو العيث فسادا، وإنّما البحث عن سحرة العلاج؟ لماذا إذن؟ لأنّها تحتاج إليهم؟ ولكن لماذا؟)
(تقترب ندرة عنصر العلاج من عنصر التعزيز، وهذه حالته في العالم الواهن، إذن ماذا عن العوالم الأخرى؟ هل باقي العوالم تملك عنصر العلاج أصلا؟)
أدركت أنمار شيئا آخر: (هذه هي، لو أتت للعالم الواهن فقط لتبحث عن سحرة العلاج، فلا بدّ وأنّ عالمها ينقصه عنصر العلاج أو على الأقلّ هو نادر بشكل أكبر من ندرته في العالم الواهن، أو قد تكون فقط تبحث عن ساحرِ علاجٍ واعدٍ بعدما لم تجد موهبة جيّدة في عالمها؟)
(إذن... هي هنا حتّى تأخذ معها سحرة العلاج؟)
(هذا... تبّا، هذا سيّئ للغاية. ذهبت شي يو لتطمئنّ على عائلتي، ويبدو أنّها برفقة هيل، لذا أفضل ساحريْ علاج في العالم الواهن مجتمعين معا. لو أدركت هذا الأمر ستتّجه إلى هناك وتختطفهما، ولكن سوء الأمر لا يتوقّف عند ذلك الحدّ، بل يزيد عندما أفكّر في مقاومة ذينك الاثنين والآخرين. لا أعلم حتّى الآن عنها شيئا لذا لا أضمن عدم قتلها لأيٍّ منّا. حتّى تورتش أصبح على هذا الحال فقط لأنّه كذب عليها.)
(اللعنة، ماذا يجب أن أفعل؟ هل أكذب عليها؟ لكنّها ستعلم بدون شكّ كما حدث مع تورتش.)
(لماذا استطاعت المجيء لعالمنا أصلا؟ أليس الاتّصال بين العوالم مختوما؟ ما الذي حدث...؟)
توقّفت أنمار عند تلك الفكرة فجأة كما لو انّها اكتشفت شيئا، وأعادت ترتيب أفكارها مرة أخرى: (نعم، الاتّصال بين العوالم مقطوع حاليا، ولكن ذلك الختم وُضِع على عالمنا عندما كان سحريّا، فما الذي سيحصل عندما يتحوّل إلى عالم روحيّ إذن...؟)
"أخبريني أيّتها الفتاة الصغيرة، أين يمكنني إيجاد سحرة العلاج؟"
قوطِع تفكير أنمار الذي بدا طويلا للغاية لكن في الواقع لم يستغرق سوى لحظات وجيزة. كانت أنمار في قمّة حذرها وشغّلت دماغها لأقصى درجة، لذا استطاعت أن تفهم الكثير حتّى الآن في مدّة قصيرة جدّا.
والآن، وجدت نفسها بلا خيارات، فهي لا يسعها الكذب ولا تستطيع إخبارها بالحقيقة كذلك؛ لا يمكنها أن تضحّي بـشي يو وهيل، أو ربّما حتّى أشخاص آخرين.
(ماذا أفعل؟ تبّا، ما أفعل؟ يا باسل...)
شعرت بأنمار بضعف الحيلة، فلا شيء كان سينفعها أمام قوّة غامرة كهذه. لقد كانت تعلم أنّ هذه المرأة يمكنها الرؤية عبر وهمها بسهولة كما يمكنها الرؤية عبر أكاذيبها، ويمكن للمرأة أن تقتلها بسهولة أيضا لذا لا يمكن لأنمار محاولة قتالها.
أمالت المرأة رأسها للجانب قليلا: "أمم... لا أظنّ أنّك لم تسمعيني، فلماذا لا تجيبينَني؟ هل..."
رأت أنمار المرأة ترفع قدمها بينما تتكلّم، وفجأة أصبح صوتها البعيد قريبا بدون أن يقتطع كلامها: "...يمكن أنّك تفكّرين في إخفاء الحقيقة عنّي؟"
كانت المرأة أمام أنمار، ومرّة أخرى وصلت بدون أيّ إشعار؛ لقد كانت سرعتها جنونيّة وملاحظتها لم تكن ممكنة.
بلعت أنمار ريقها: "أنا... أنا لن..."
حاولت أنمار قول شيء ما لكنّها توقّفت فجأة عندما رأت المرأة تنظر إلى اتّجاه آخر. نظرت أنمار إلى نفس الاتّجاه فلاحظت نفس الشيء يحدث بأحد الشروخ الفضائيّة كما حدث عند ظهور هذه المرأة، إذ ظهرت قدمٌ أوّلا قبل أن تتجلّى صورة الشخص الذي خرج من الشرخ.
عبست المرأة عندما رأت ذلك الشخص وأصبح تعبيرها جدّيّا بعدما كان عاديا.
"نيهاهاها! يبدو أنّني بالفعل وصلت إلى العالم الواهن. إذن العوالم الأربعة عشر الرئيسيّة أصبحت كلّها عوالم روحيّة الآن. مثير للاهتمام، بالفعل مثير للاهتمام. هل يا ترى توقّع الملك الأصليّ حصول ما يحصل الآن أم لا؟ حسنا، ذلك لا يهمّ. إنّني متشوّق لرؤية التغيّرات التي ستحدث على العوالم الروحيّة الآن، نيهاهاها!"
كان هذا الشخص يبدو قصير القامة للغاية، وكانت أذناه طويلتين لكنّ طولهما امتدّ للأعلى، وارتدى درعا غطّى جسده بأكمله لكنّه لم يستطِع إخفاء تلك العضلات الزاخرة وذلك الجسد العريض الذي بدا بمقدوره حمل جبل بكلّ سهولة بالرغم من قصره.
كانت لحيته الكثيفة والطويلة تزيد من رجولة منظره الرجوليّ، وظهر شعر رأسه المضفور من تحت خوذته التي كان لها قرنان بدَوَا كنابيْن من أنياب تنّين ما.
زادت تعبيرات المرأة سوادا عندما سمعت الرجل القصير يتكلّم، ولم تحاول كبح نيّة قتلها التي كانت ترسلها باتّجاهه منذ ظهوره.
وبالطبع، شعر الرجل القصير بذلك فالتفت ليجد المرأة تحملِق إليه، فاسودّ وجهه هو الآخر ونظر باستحقار إليها.
"هذا يا هذا♪ أوَ ليست هذه شمطاء الوباء؟ أوه، أوه، إنّها حقّا شمطاء الوباء! إذن سبقتني إلى هنا أيّتها الشمطاء. نيهاهاها! يا للقدر♪ لم أظنّ أنّني سأجتمع بك بهذه السرعة بما أنّ الاتّصال بين العوالم مقطوع، لكن الشخص لا يمكن أن يعلم ما يمكن أن يحصل في هذا العالم الفسيح. آنا مخطئ يا شمطاء الوباء؟"
بدأ الرجل القصير يخاطب المرأة وكان من الواضح أنّه يعرفها وتعرفه.
انزعجت المرأة أكثر بعدما سمعته فتكلّمت معه بنبرة معاديّة: "تشه، إنّ فمك قذر وثرثار كعادته يا أيّها الفاصولياء المشعَّرَة."
ردّ الرجل القصير عليها: "هذا يا هذا♪ لستُ بمستواك بعد. لربّما بعد عشرة آلاف سنة قد أصبح بمثل قذارتك وخبثك، نيهاهاها!"
***
لم تعلم أنمار في هذه الأثناء إذا كان ظهور الرجل القزم علامة جيّدة أم سيّئة، إذ خشيت أن يكون هدفه يشابه هدف المرأة الغامضة.
راقبت ما يحدث بين هذين الاثنين بينما تحاول مساعدة تورتش على جمع شتاته، لكنّها لم تستطع أن تتحرّك قيد أنملة في حضور تلك المرأة.
كانت محادثة المرأة والرجل القزم مفهومة للحاضرين نظرا لاستخدام كلّ منهما خاتم لغة العالم الواهن.
كانت هذه الخواتم يمكنها جعل الشخص يفهم أيّ لغة في العالم الذي صُنِعت من أجل فهم لغته، فهذه الخواتم استغّلت الموجات السحريّة من أجل ترجمة الأفكار المنطوقة إلى كلمات مفهومة.
بالرغم من أنّ العالم الواهن يملك لغة واحدة حاليا، فهو لم يكن كذلك في الماضي البعيد، ومع ذلك، حتّى لو تعدّدت لغاته كانت خواتم اللغة لتجعلها كلّها مفهومة لمالكها.
اختُرِعت خواتم اللغة بناء على نفس مبدأ فكرة خواتم التخاطر، فهذه الأخيرة جعلت الموجات السحريّة تنقل الأفكار بين شخصين ربطا روحيهما، بينما اقتصر دور خواتم اللغة على ترجمة الفكرة التي يحاول الشخص تبليغها عبر كلماته عن طريق الموجات السحريّة.
قالت المرأة بنبرة حاقدة: "ما الذي أتى بكرَة مشعّرة مثلك إلى هنا على أيّ حال؟ ألم تعزل نفسك منذ مدّة طويلة؟"
"نيهاهاها،" أجاب الرجل القزم: "لماذا تهتمّين بشؤوني هكذا يا أيّتها الشمطاء؟ هل ربّما تخافين أن أفسد عليك الأمر الذي أتيت من أجله إلى هنا؟ لا تقلقي، فالآن بعدما رأيتك، سأجعل كل درب تقطعينه أضيق من شرجك."
بصق
بصقت المرأة بعدما لم تتحمّل سماع كلامه وقالت: "لو تدخّلت في أموري فسأجعلك..."
قاطعها الرجل القزم ولم يسمح لها بإكمال كلامها وقال: "دعينا لا نقل العبارات المبتذلة، فليس كلّ شخص هنا يستطيع تحمّل الهراء والخراء كما تعلمين."
بالفعل كان الرجل القزم بذيئا في كلامه.
عبست المرأة بشدّة وأرادت قطع حنجرة الرجل القزم حالا.
نظر الرجل القزم إلى أنمار وتورتش ثمّ إلى الآخرين بينما يداعب لحيته، فارتفعت زاوية فمه وقال: "يبدو أنّك تحظين بوقت ممتع هنا، لمَ لا تشاركيني ذلك قليلا؟"
قالت المرأة بنظراتها العبوسة: "اهتمّ بشؤونك الخاصّة. لو أتيت إلى هنا لغرض ما فاذهب لقضائه. لست متفرّغة لنزواتك حاليا."
استمرّ الرجل القزم في مداعبة لحيته الطويلة بهدوء وقال: "أتيت إلى هنا لغرض واحد، وهو العودة ببعض الثمار التي تحتاج للرعاية المناسبة، وبلا شكّ ذلك هو نفس الغرض الذي أتيتِ من أجله، فلا داعٍ للمراوغة."
وضعت المرأة يدها تحت شفتها السفلى وقالت ساخرة: "فوفوفو، لم أكن أعلم أنّك مهووس بي لهذه الدرجة♪"
ضحك الرجل القزم مباشرة بعد ذلك وردّ: "نيهاهاها، ألا تعلمين أنّ كاره الشخص يعلم عنه أكثر من محبّه؟"
عمّ الصمت فجأة ولم يتكلّم أيّ منهما، لكنّ تلك النظرات التي كانا يتبادلانها عنت أكثر من ألف كلمة. لقد كانت الكراهيّة تتملّك كلّ واحد منهما تجاه الآخر.
اصطدام
دوي
لم تعلم أنمار والآخرين ما حدث إلّا بعدما ذلك الصوت الذي هزّ طبول آذانهم ودوّخ عقولهم وزعزع رزانة أرواحهم.
حدّقوا إلى السماء فوجدوا قبضة المرأة ملتقيّة بقبضة الرجل القزم، بينما تغطّي هالتهما الأرض المباركة بأكملها. لقد كان واضحا أنّهما كانا في مستوى شاهق بالمستويات الروحيّة.
كان عقل الجنرال رعد مشوّشا ولم يسعه سوى أن يتذكّر شعوره بالعجز الذي أحسّ به عندما التقى بذلك الشيطان في يوم الدمار الشامل.
أصبحوا كلّهم مجرّد شخصيّات ثانويّة في حدث يقوده ذانك الاثنان. كانوا مجرّد تحليّة في حضور الطبق الرئيسيّ.
***
ظهرت الشروخ الفضائيّة في مختلف أنحاء العالم، وحدث في بعضها كما حدث بالضبط في الشرخين اللذين ظهرا فوق أرض الأكاديميّة.
ظهرت امرأة من أحد الشروخ الفضائيّة كانت ترتدي الأسود من رأسها إلى أخمص قدميها، إذ غطّى معظم جسدها فستان أسود تزيّنت زواياه بشكليْ القمر والشمس، ووصل شعرها الأسود بطوله إلى ركبتيها.
كانت عيناها سوداوين حالكتين، وبدتا تحملان ظلاما غير محدود، بدون أيّ إشارة لبعض من الضوء فيهما.
ظهر بجانبها رجل ارتدى بدلة سوداء هو الآخر، وامتلك شعرا أسود ربطه على شكل ذيل حصان، وعينيْن خضراوين تألّقتا عندما انعكس فيهما الضوء كأرض الطبيعة المسالمة التي تزيّنها الورود والزهور.
نطق الرجل: "هل حقّا تظنّنين أنّ النصف الآخر موجود في هذا العالم يا ملكتي؟"
كانت نظرات المرأة جامدة كما لو أنّها جثّة متحرّكة، وحتّى الرمش لم ترمشه، وأجابت دون أن تغيّر تصرّفها ذاك: "لقد دلّتني المرآة إلى هنا قبل سنين، لكنّني لم أستطِع المجيء بسبب الملك الأصليّ. الآن، يمكنني فعل هذا."
ظهرت أمامها مرآة بيضويّة الشكل، وبلغ طولها طول الشخص الطبيعيّ، وتزيّنت زخرفتها بنقوش تنانين على إطارها. كان هناك تنّينان أفعويّان على الجانبين وتنّينان مجنّحان في الأعلى والأسفل.
حدّقت المرأة إلى المرآة وأطالت في ذلك كما لو أنّها تستمتع بالنظر إلى نفسها، بالرغم من أنّ تعبيراتها كانت جامدة.
قالت أخيرا بعد مدّة طويلة: "مرآتي يا مرآتي، اعكسي روحي وجدي لي نصفيَ الآخر."
مرّت بعض اللحظات قبل أن يتموّج سطح المرآة كبركة من الماء وتختفي صورة المرأة عليها وتبدأ بعض الألوان في التشكّل لترسم في النهاية شيئا آخر.
كان الشيء المرسوم عبارة عن شخص في الواقع، كان هذا الشخص شابّة تبدو في مقتبل العمر، وبدت معاكسة تماما للمرأة التي تحدّق إلى المرآة، إذ كانت تملك شعرا أبيض وعينين بيضاوين ووجها ناضرا مفعما بالحيويّة.
لقد كانت هذه الشابّة هي أزهر شيرايوكي!
قال الرجل بعدما تنهّد: "وأخيرا، أخيرا بعد سنين مديدة يمكن لأمنيّتك أن تتحقّق يا ملكتي! إنّني في غاية الشوق إلى رؤية حلمك يصير حقيقة!"
لم تنظر المرأة إليه حتّى وقالت: "إنّني أعلم أين أتّجه بالتحديد الآن. اتبعني يا 'وفيّ'."
"سمعا وطاعة يا ملكتي."
تحرّك الاثنان بسرعة فائقة واختفيا في الأفق.
***
في مكان آخر، ظهر أحدهم بدا هادئا لكن مختلفا عن المرأة التي ظهرت سابقا. فهذا الرجل لم يكن جامدا بتعبيراته ولكن رزين فقط. كانت عيناه حادّتين للغاية وعندما أغمضهما لم يفتحهما بعد ذلك إلّا نادرا كما فعل عندما ظهر في العالم الواهن.
لبس رداء ذا قلنسوة لونه أسود فلم يظهر شعره بسبب ذلك، وسروالا بنفس السواد ممّا جعله يبدو غامضا ومريبا.
التفت إلى جهة محدّدة بعدما بدا كما لو انه أدرك شيئا وتمتم: "معركة بهذا الاتّجاه؟ إذن هذا لم يحدث بين هذا العالم وعالمنا فقط. يبدو أنّ تحوّل هذا العالم الروحيّ جعل الختم يختلّ بسبب الطاقة الهائلة التي تصاحب التحوّل."
فكّر لبعض من اللحظات قبل أن يقرّر: "حسنا، لمَ لا نذهب لنرى ما الذي يتصارع من أجله هؤلاء."
انطلق بسرعة كبيرة كما فعلت المرأة والرجل سابقا.
***
في إحدى أراضي إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، ظهر شخص يركب تيّارا مائّيا ويصنع خلفه أقواس قزح كلّما تقدّم بعضة أمتار. كان لديه عينان زرقاوان وشعر أسود طويل بدا حريريّا وسلسا.
سُحِر الناس بمنظره عندما رأوه، فأغرمت به البنات وتطلّع إليه الرجال، وجعل وقاره العجائز يكنّون له الاحترام. بدا كصورة قدمت إلى الحياة.
نزل الرجل في إحدى المدن ثمّ اقترب من فتاة وسألها بصوت عذب وحنون: "أيمكنني سؤالك من هو أقوى شخص في هذا العالم؟"
ذابت الفتاة تحت نظراته وأمالت رأسها ثمّ اجابت برقّة: "بالطبع، إنّه جنرال إمبراطوريّتنا الأعلى، السيّد باسل."
ابتسم الرجل بوجهه البشوش فتسارعت ضربات قلب الفتاة أمامه وحسدها باقي الفتيات حولها.
لقد كان جميلا لدرجة جعل فيها النساء يعجبن به من النظرة الأولى. كان جماله هادئا على عكس باسل الذي كانت وسامته مشتعلة.
سأل الرجل الفتاة مرّة أخرى: "إذن أين يمكنني إيجاده؟"
ردّت الفتاة كما لو أنّها تحت مخدّرة: "لا أعلم، لكن يشاع أنّه في أكاديميّة الاتّحاد المباركة."
"أكاديميّة الاتّحاد المباركة؟" تساءل الرجل مع نفسه قبل أن يسأل مرّة أخرى: "أيمكنك الإشارة بيدك إلى الاتّجاه الذي يؤدّي إليها؟"
رفعت الفتاة يدها ثمّ أشارت بها بينما تحدّق إلى الشابّ. لم ترد إزاحة نظرها عنه. بالرغم من أّنّ وجهها كان محمرّا نظرا لخجلها، إلّا أنّ رغبتها في رؤيته تفوّقت على خجلها.
ابتسم الرجل ثمّ قال: "كما كان مقدّرا لنا الالتقاء اليوم، آمل أن يجمعنا المصير في يوم آخر. طاب يومك."
قال ذلك واختفى ولم يعلم ذلك الناس إلّا بعدما لاحظوا قوس قزح في الأفق.
اقترب بعض الجنود بسرعة كبيرة أخيرا ليروا ما حدث في هذه الأرجاء التي غمرتها صرخات البنات، لكنّهم وجدوا مصدر ذلك قد اختفى.
وبعدما استقصوا عن الأمر، تعجبّوا من طريقة سؤال ذلك الشخص. قال واحد من بينهم: "ولكن، ألم يتغيّر عالمنا كثيرا بعد التحوّل الروحيّ الذي شهدناه؟ هل ما زالت الأكاديميّة في نفس موقعها المعهود؟ وحتّى لو كانت كذلك، موقع هذه المدينة بنفسه تغيّر لذا لا يجب أن تكون إجابة تلك الفتاة دقيقة."
كان هؤلاء مجرّد جنود بسطاء لذا لم يعلموا حتّى الآن عمّا حدث للأكاديميّة.
ردّ شخص آخر: "من يهتمّ؟ لنعد إلى مواقعنا."
***
ظهر هذه المرّة شخصان بالقرب من الأكاديميّة، وشعر كلاهما بالمعركة التي كانت تحدث هناك.
كان الأوّل يرتدي رداء بدا مصنوعا من الجليد، وكان على رأسه تاج صغير بدا مصنوعا من الألماس ومزيّنا بأحجار كريمة بدت مغمورة بالطاقة الروحيّة.
كان الثاني شاحب الوجه بشعر شائك وعينين فارغتين من الحياة، كما لو كان شبحا وليس شخصا.
اتّجه كلاهما في نفس الوقت تجاه الأكاديميّة فوجدا منظرا مثيرا للاهتمام، ولم يسعهما سوى أن يقولا نفس الشيء: "التنين الصغير يقاتل عنقاء الشفاء!"
توقّف الرجل القزم الذي لُقِّب بالتنين الصغير وتلك المرأة التي لُقِّبت بعنقاء الشفاء عن القتال فجأة ونظرا إلى من ظهر فجأة.
ضحك التنين الصغير وقال: "نيهاهاها، أهلا وسهلا♪ يبدو أنّ هذا اليوم سيكون مشوّقا للغاية."
ظهرت بعد ذلك مباشرة المرأة التي بدا أنّها تبحث عن شيرايوكي برفقة الشخص الذي بدا خادما لها.
عبست عنقاء الشفاء وقالت بينما تنظر إلى المرأة التي أتت برفقة خادمها: "انظر إلى من أتى، أو ليست هذه الملكة الشريرة وخادمها 'وفيّ'."
أطلقت عنقاء الشفاء لقب الملكة الشريرة على تلك المرأة، والتي لم تنزعج ولم تحاول الردّ عليها حتّى.
قال التنين الصغير بابتسامة: "إذن، هل يمكنني تخمين أنّكم كلّكم أتيم إلى هذا العالم من أجل الغرض نفسه؟"
تكلّم الرجل ذو التاج الألماسيّ: "إنّها قاعدة غير مكتوبة أن تذهب للبحث عن المواهب الصاعدة في العالم الذي يتحوّل إلى عالم روحيّ."
فهم الشخص ذو التاج الألماسيّ ما قصده التنين الصغير لذا أجاب طبقا لذلك.
قال التنين الصغير: "هذا ما قاله أمير مملكة الصقيع، فماذا عنك يا شبح أرض الموتى؟"
يبدو أنّ الرجل ذو التاج الألماسيّ كان يُلقّب بـ'أمير مملكة الصقيع'، بينما كان يطلق على الرجل ذي الشعر الشائك 'شبح أرض الموتى'
أومأ شبح أرض الموتى رأسه فقط ردّا على التنين الصغير.
نظر التنين الصغير بعد ذلك إلى الملكة الشريرة ثمّ تنهد وقال: "أظنّ انّه لا حاجة لسؤالك أنت."
يبدو أنّه استطاع معرفة سبب قدومها إلى هنا بدون الحاجة للسؤال حتّى، وكان السبب هو معرفته لها.
كان كلّ هؤلاء الأشخاص عبارة عن سحرة روحيّين مشهورين للغاية في العوالم الروحيّة، وكلّ واحد منهم علم الكثير عن الآخر.
ظهر شخص آخر من جديد، وقد كان ذلك الشخص صاحب الرداء ذي القلنسوة.
قال التنين الصغير: "يبدو أنّهم يستمرّون في الانضمام إلينا."
ابتسم صاحب الرداء ذي القلنسوة عندما رأى التنين الصغير وقال: "ما أخبارك يا أيّها العجوز؟ لقد ظننت أنّني لن أراك إلّا بعد عشرة آلاف سنة بعدما سمعت أنّك عزلت نفسك."
"نيهاهاها،" ضحك التنين الصغير ولم يأخذ كلام ذلك الشخص كإهانة، ثمّ ردّ: "وأنا كذلك، لكن ماذا أفعل عندما تظهر بوّابة زمكانيّة وأنا عازل نفسي؟ بالطبع لم يكن لديّ خيار آخر سوى عبورها."
ضحك صاحب الرداء ذو القلنسوة وقال: "إنّني أشتاق لمعركة ضدّك يا أيّها العجوز."
ضحك التنين الصغير وردّ: "أنا اشتقت أيضا لرؤية مهارة 'القوّاس النجميّ'."
***
جعلت المعركة التي حدثت بين التنين الصغير وعنقاء الشفاء بعض الشخصيّات الغامضة تظهر، ولهذا كان من الغريب ألّا ينتبه لها الأشخاص الذين كانوا في أرض المعركة.
ظهر قادة التشكيل رفقة شيرايوكي بسرعة وذهبوا ليتأكّدوا أوّلا من سلامة أنمار.
لاحظت شي يو حالة تورتش فشحُب وجهها وهرعت إليه، لكن اسودّ وجه أنمار لمّا لاحظت هذا.
كانت شي يو هي هدف عنقاء الشفاء لذا لم يكن من الجيّد تركها تعالج تورتش حاليا وإلّا كُشِف أمرها.
ما أن وصلت شي يو إليهما حدّقت أنمار إليها بعمق وهزّت رأسها بشكل طفيف محاولةً إخبارها ألّا تفعل شيئا، فتعجّبت شي يو من طلب أنمار الغريب، لكنّها أطاعت الأمر بالرغم من غرابته؛ لقد علمت أنّ هناك سبب خلف فعلها ذاك.
"عالجيه."
اقشعرّ جسد أنمار لمّا سمعت تلك الكلمة، وذلك لأنّ الشخص الذي قالها لم يكن سوى عنقاء الشفاء بنفسها.
رفعت عنقاء الشفاء سبّابتها بهدوء ثمّ أشارت بها إلى شي يو وقالت: "أنتِ... إنّك ساحرة علاج، إذن عالجيه."
علمت عنقاء الشفاء بالفعل عن هوّيّة شي يو فقط برؤيتها، وعندما أدركت أنمار هذا أومأت لـشي يو حتّى تفعل ما طلبت عنقاء الشفاء منها.
لقد ظهرت كلّ هذه الوحوش حولهم فجأة، ولم يعد بإمكانهم سوى انتظار ما ستقرّره تلك الوحوش بشأنهم. كان عليهم فعل ما يقول أولئك الأشخاص الغامضون، وإلّا كانت العواقب وخيمة.
بدأت شي يو تعالج تورتش تحت مراقبة عنقاء الشفاء التي بدت تحلّل شي يو بدقّة كبيرة. ارتفعت زاوية فمها بعد قليل من الوقت كما لو أنّها رأت ما كانت تبحث عنه.
نزلت على الأرض ثمّ اقتربت ببطء من أنمار والآخرين، وجلّ تركيزها مصوّب تجاه شي يو ولا أحد غيرها.
عبست عنقاء الشفاء فجأة، وكان ذلك بسبب ملاحظتها لتورتش يقف بينما ينظر إليها باعثا نيّة قتله تجاهها.
وضع تورتش شي يو خلفه وقال: "ابقي خلفي رجاء يا شي يو، أنا لن أسمح لأيٍّ كان أن يلمسك."
ظهر قوس أثريّ في يده، فشحن طاقته السحريّة به فسطع القوس بضوء فضّيّ كهلال في سماء مظلمة.
وضع يده على الوتر الذي لم يظهر إلّا عندما وضع تورتش إصبعه هناك، فتشكّل سهم من الضوء، ولم تمرّ سوى لحظة واحدة قبل أن يلتهب السهم الضوئيّ بنار زرقاء.
بدا القوّاس النجميّ يراقب ما كان يفعله تورتش باهتمام رغما أنّ عينيه كانتا مغمضتين.
قالت عنقاء الشفاء باستياء: "هل يمكن أنّك تحاول مقاتلتي؟ أنا لا أفهم، كيف لك أن تصل لهذا القرار؟"
ما لم تفهمه عنقاء الشفاء هو محاولة تورتش قتالها مع علمه بتفوّقها الهائل عليه.
"اخرسي!"
سحب تورتش الوتر وصرخ في وجهها وقال: "إنّي لا أهتمّ بأيٍّ من ذلك، لكنّني لن أسمح لك أبدا أن تمسّي من أعزّهم في قلبي."
ضحك التنّين الصغير فجأة ضحكة مكبوتة، فتغيّر اتّجاه نظر عنقاء الشفاء إليه مباشرة، لكنّه لم يهتمّ بذلك، وبالأحرى لم يستطيع كبت ضحكه أكثر فصرخ: "نيهاهاهاها، لقد أخبرها أن تخرس، ولقد جعلها حقّا تخرس. هذه قطعة فنّيّة."
حملقت عنقاء الشفاء إلى التنين الصغير بكره كعادتها، لكنّها أرجعت اتّجاه نظرها إلى تورتش وقالت بينما تبعث نيّة قتلها: "أطلق!"
شعر تورتش بضغط رهيب ضدّ نيّة قتلها الغامرة، فبلع ريقه واستجمع شجاعته كلها حتّى يستطيع إطلاق ذلك السهم فقط.
أفلت الوتر فانطلق السهم بسرعة خاطفة، فانقسم السهم بعد ذلك لسبع أسهم كلّ واحد منها انطلق في اتّجاه مختلف لتجد عنقاء الشفاء نفسها محاصرة من جميع الجهات.
انفجار
سقطت الأسهم السبعة على عنقاء الشفاء، واحدا تلو الآخر، لكنّ تورتش لم يستطِع أن يفرح لأنّه علم ما كان قادما. وبالفعل، ظهرت عنقاء الشفاء تقف في مكانها كما لو أنّ شيئا لم يحصل.
صرّ تورتش على أسنانه وركّز على سلاحه الأثريّ، فبدأ القوس يتموّج ويتغيّر شكله، فصار القوس هلالا فضّيّا صغيرا، وهذه المرّة وضع تورتش إصبعين على مكان الوتر الذي تشكّل عندما وضع تورتش إصبعيه هناك.
ظهرت التعاويذ الذهنيّة بعد ذلك وأحاطت القوس والسهم، ثمّ اندمجت معهما حتّى تطبّق عليهما القوانين التي تغيّر طبيعة العالم حولهما.
ابتسم القوّاس النجميّ وصرّح: "مثير للاهتمام؛ تحكّمٌ مثاليٌّ في سلاح أثريّ بالدرجة السابعة، وفنٌّ قتاليٌّ أثريٌّ بالغصن الرابع."
أطلق تورتش السهم الذي اخترق الهواء بصفير يصمّ الآذان والذي لم يكن شكله واضحا في الواقع من شدّة سرعته، ولكن لم تكن السرعة لوحدها هي السبب في ذلك، بل حتّى إمكانيّة عنصر الضوء التي استخدمها تورتش والتي سمحت له بجعل السهم يختفي تماما.
أدار القوّاس النجميّ رأسه إلى الاتّجاه الذي أطلق تورتش السهم ناحيّته وبدا كما لو أنّه يتتبّعه بعينيه بالرغم من أنّهما مغمضتين، فقال: "إذا يمكنه استخدام نار زرقاء وإمكانيّة التمويه من عنصر الضوء، ويجعل فنُّه القتاليُّ أسهمَه تنزلق بدون أيّ احتكاك طبيعيّ بينما يجعل وزنها أثقل ممّا هي عليه بأضعاف. لقد سبق وأن رأيت هذا الفنّ القتاليّ، ولكن من الغريب جدّا أن يكون شخص من العالم الواهن يملكه."
حدّق أولئك الأشخاص الغامضون باهتمام أيضا، فموهبة تورتش كانت جيّدة جدّا بالفعل، والأشياء التي كانت في حوزته أثارت شكوكهم في مستوى المعرفة في العالم الواهن الذي كان يُفترض أن يكون ضعيفا.
وقفت عنقاء الشفاء هناك بدون أيّ تحرّك، وتلقّت الهجوم الذي ولّد انفجارا أكبر بكثير من الذي سبقه، ومع ذلك ظهرت مرّة أخرى بدون أيّ تغيّر عليها ولو طفيف.
نظرت إلى تورتش وقالت بنبرة ملولة: "هل انتهيت؟"
صرخ تورتش: "أنا لم أنتهِ بعـ..."
قوطِع كلامه عندما وجد عنقاء الشفاء أمامه بدون سابق إنذار بينما تقول: "ذلك لم يكن سؤالا حقّا."
رفعت يدها ثمّ نزلت بها على تورتش، وفي تلك اللحظة الوجيزة علم تورتش ورفقاؤه أنّه سيُقسم إلى قطعتين لا محالة.
بالرغم من أنّ أنمار والآخرين لم يكونوا مقصودين بذلك الهجوم، إلّا أنّهم شعروا بالموت يحوم حولهم.
صفعة
توقّفت يد عنقاء الشفاء فجأة، أو بالأحرى شيء ما جعل يدها ترجع للخلف كما لو أنّها صُفِعت، فضاقت عيناها بشدّة والتفت إلى جهة القوّاس النجميّ وقالت: "ما الذي تفعله الآن؟"
كان القوّاس النجميّ مغمض العينين كعادته، فردّ على عنقاء الشفاء بهدوء: "حاولي أن تهدئي قليلا. لا تنزعجي لهذه الدرجة فقط لأنّ طفلا تكابر عليك."
حملقت عنقاء الشفاء إليه ثمّ قالت بصوت حادّ: "لقد سألتك عمّا تفعله!"
لم تفهم أنمار والآخرون ما حدث، فقبل قليل اعتقدوا أنّ تورتش في عداد الموتى، لكن نظرا إلى ردّة فعل المرأة أمامهم، يبدو أنّ صاحب الرداء ذو القلنسوة من كان السبب في عيش تورتش لمزيد من الوقت.
حافظ القوّاس النجميّ على هدوئه وقال بعدما فتح عينيه الحادّتين: "لقد أثار الفتى اهتمامي."
حملقت عنقاء الشفاء إلى القوّاس النجميّ الذي كان قد أغمض عينيه، ثمّ أنزلت يدها لمكانها وعدمت نيّة قتلها ثمّ قالت: "حسنا، كما ترون♪ هذه الأخت الكبيرة تريد أمهر سحرة العلاج بهذا العالم الواهن، فلِمَ لا نسهّل الأمور علينا وتسلّموهم لي؟"
لم ترد عنقاء الشفاء قتال القوّاس النجميّ لأنّ ذلك لم يكن هدفها من المجيء إلى هنا، وكان بمقدورها تجاوز ما فعله تورتش لو عنى ذلك عدم مقاتلة القوّاس النجميّ حاليا.
صرخ تورتش بعدما ضربت عنقاء الشفاء الوتر الحسّاس: "كما لو أنّنا سنطأطئ رؤوسنا لك ببساطة ونسلّم لك أعزّ الناس إلينا!"
أمالت عنقاء الشفاء رأسها وقالت: "مرّة أخرى♪ ذلك لم يكن سؤالا حقّا."
اقتربت من شي يو بعد ذلك فتأهّبت أنمار والآخرون واستعدّوا لمواجهتها بكلّ ما يملكون.
انضمّ الجنرال رعد والتاجر ناصر إلى أنمار وقادة التشكيل وشيرايوكي ووجّهوا نيّات قتلهم نحو عنقاء الشفاء مجتمعين.
كانت نيّات قتلهم مصحوبة بالخوف في قلوبهم، وذلك لأنّهم علموا أنّ تجمّعهم ضدّها هكذا لم يغيّر شيئا، لانّ النتيجة ستكون نفسها مهما زادوا من عددهم.
شحنوا طاقاتهم السحريّة، وفعّلت أنمار والجنرال رعد وقادة التشكيل تعاويذ فنونهم القتاليّة، ثمّ استعدّوا لإطلاق هجوم مشترك.
استخدمت أنمار وفانسي عنصر الوهم ليمهّدا الطريق أوّلا، فوجدت عنقاء الشفاء نفسها تسقط في ظلام غير محدود، وفي نفس الوقت استخدم الاثنان إمكانيّةً لعنصر الوهم قد أتقنتها أنمار وتعلّمها فانسي بعدئذ.
سمحت لهما هذه الإمكانيّة بتطبيق أوهام داخل أوهام.
فبعدما يظنّ الشخص أنّه تخلّص من الوهم أخيرا، يجد نفسه في وهم آخر أوقع نفسه بنفسه فيه.
بمعنى آخر، كلّما حاولَ الشخص الهروب من الوهم زادَ من سهولة وقوعه في وهم آخر، كما لو أنّه في متاهة.
أثير انتباه شبح أرض الموتى لمّا لاحظ هذا وقال: "مثير للإعجاب أنّهما أتقنا إمكانيّة متاهة الوهم."
فعّلت أنمار سحر الاستدعاء، فظهرت بعد تضحيّتها بطاقتها السحريّة عشر وحوش سحريّة، كان واحد منها بالمستوى الثالث عشر، وخمسة بالمستوى العاشر، وأربعة بالمستوى الثامن.
كان ساحر الاستدعاء يستطيع استحضار وحش سحريّ بنفس مستواه على الأقلّ، واعتمد رفع عدد الوحوش المستدعاة على إتقانه لإمكانيّةٍ لعنصر الاستدعاء.
تفاجأ الأشخاص الغامضون كلّهم لمّا فعلت أنمار ذلك فقال أمير مملكة الصقيع: "من هذه الفتاة؟ ما حصانة عقلها حتّى تستطيع استدعاء كلّ هاته الوحوش بمستواها هذا؟"
كان استدعاء وحوش سحريّة أكثر يتطلّب طاقة سحريّة كافيّة، ولكن ما كان أهمّ أكثر من ذلك كان قوّة إرادة وعقل الساحر، إذ فقد بعض السحرة عقولهم بعدما استدعوا وحوشا أكثر بكثير من العدد الذي يستطيعون التحكّم فيه والحفاظ على سلامة عقولهم أثناء ذلك.
لاحظ شبح الموتى شيئا وابتسم بإظهاره لأسنانه التي كانت كلّها أنيابا وقال: "هذا استثنائيّ! إنّها تستخدم إمكانيّة أخرى لعنصر الوهم حتّى تستطيع النجاح في استدعاء كلّ تلك الوحوش."
نظر الآخرون إلى أنمار بحرص فقال أمير مملكة الصقيع: "هذا... إنّها تستخدم الإمكانيّة المسمّاة بـ'الوهم الذاتيّ المعزِّز' حتّى توهم عقلها أنّه يمكنه تحمّل ما هو أكثر فتعزّز بذلك قدرته الاستيعابيّة. بجدّيّة، من تكون هذه الفتاة؟"
لقد كانوا مستغربين للغاية؛ أوّلا فاجأهم تورتش بموهبته التي أظهرت عبقريّته، والآن يشاهدون هذه الفتاة تقوم بأشياء يفعلها سوى فئة ضئيلة في العوالم الروحيّة؛ مجرّد فتاة من هذا العالم الواهن.
ومض بعض الضوء في عينيْ شبح أرض الموتى اللتين كانتا خاليتين من الحياة، وتمتم: "أتساءل متى أكملت ربط نقط أصلها."
هذا ما عناه الأمر أن تكون 'ملكا بالمسار الروحيّ'. فأيّ شخص أكمل ربط نقطه الأصليّة بالمستوى الثامن من مستويات الربط أظهر موهبة فائقة في العوالم الروحيّة.
راقب الأشخاص الغامضون بعد ذلك قادة التشكيل والجنرال رعد، فقال أمير مملكة الصقيع: "يبدو أنّنا ربحنا الجائزة الكبرى بقدومنا إلى هنا؛ فعلى ما يبدو، هذا هو المكان الذي تجمّعت فيه أفضل المواهب في هذا العالم."
بدأ كلّ واحد منهم يضع عينا بالفعل على الشخص الذي أثار اهتمامه، وبدؤوا يفكّرون في الطريقة التي يتحصّلون بها عليه إذا ما حدث وشارك معهم شخص آخر نفس الاهتمام في نفس الشخص.
وكلّهم فكّروا في نفس الأمر: "تلك الفتاة قد أثارت اهتمام الجميع."
بعدما وجدت عنقاء الشفاء نفسها في ظلام غير محدود، لم تستطِع أن تشعر بشيء كما لو أنّ حواسّها قد قُمِعت، لكنّها لم تحاول فعل شيء بشأن ذلك ووقفت في مكانها فقط.
نزلت الصواعق والعواصف والجليد والنيران وركبت وحوش أنمار المستدعاة الموجة وأطلقت العنان لقدراتها وأسحارها في وقت واحد، ثمّ تبع ذلك هجوم الفنون القتاليّة المشترك الذي كان معزّزا هائلا للهجوم الكلّيّ.
بدا الأمر كما لو أنّ كارثة طبيعيّة شملت كلّ أنواع الكوارث الطبيعيّة قد تشكّلت في هذا المكان فقط لتتخلّص من شخص واحد.
انفجار انفجار انفجار
تسلسلت الانفجارات لمدّة طويلة بدون توقّف حتّى أصبحت الأرض المحيطة بعنقاء الشفاء شبه ميّتة. لو كانت هذه أرض أخرى غير الأرض المباركة لكانت قد أصبحت ميّتة بالفعل.
هذه المرّة، أملوا ان يكونوا قد جرحوا عنقاء الشفاء ولو بشكل طفيف، لكنّها ظهرت من جديد كما لو أنّ شيئا لم يحدث.
كان هذا متوقّعا، ولكن حتّى لو كان مُتوقّعا كان الأمر ما يزال صادما للغاية.
***
حدّقت عنقاء الشفاء إلى أنمار والبقيّة، فلوحّت بيدها بعد ذلك لتنطلق نار بيضاء نحو تلك الجماعة على شكل قذائف عديدة تستهدف كلّ قذيفة واحدا من الجماعة باستثناء تورتش وشي يو.
لم يفعل القوّاس النجميّ شيئا هذه المرّة بالرغم من أنّه صار مهتمّا في أنمار أيضا؛ كان ذلك لأن أحدا آخر سبقه بالفعل.
ظهرت الملكة الشريرة وخادمها وفيّ بجانب شيرايوكي، فبدّد وفيّ كلّ تلك النيران بصفعة بطاقته الروحيّة ببساطة.
نظرت عنقاء الشفاء إلى الملكة الشريرة وقالت بعدواة: "ماذا الآن؟ هل أثار أحدهم اهتمامك أيضا؟"
لم ترد الملكة الشريرة عليها، وأجاب وفيّ بدلا من ذلك: "ما أتت ملكتي إلى هنا إلّا للحصول على ما يخصّها."
"همف..." استنكرت عنقاء الشفاء كلامه: "كلّنا يعلم ماذا يحدث عندما تتحرّكان أنتما خارج قصركما، فلا داعٍ لتزيين الأمر بكلمات مثل الحصول على ما يخصّكما."
نظرت الملكة الشريرة إلى شيرايوكي بعمق لمدّة طويلة قبل أن تقول: "لقد طال انتظاري، وهذا أنا ذا أتلقي بكِ أخيرا."
كانت تلك كلمات عاطفيّة، لكن لم يعتلِ الملكة الشريرة أيّ تعبير، وبدت كدمية تتكلّم.
استغربت شيرايوكي كثيرا بسبب ما قالته المرأة أمامها وتراجعت بضع خطوات للخلف بعدما أحسّت بشعور سيّئ.
ظهر في هذه الأثناء أشخاص آخرون من ناحيّة الأكاديميّة، من بينهم الجنرال منصف وأخويا القطع والأباطرة الثلاثة وقائدا الأكاديميّة الآخران وورثة العائلات المرموقة في إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة.
لاحظوا جميعهم أنّ الأجواء محمومة ولم يحتاجوا لتفسيرٍ حتّى يفهموا ما كان يحصل. راقبوا الوضع بهدوء وانتظروا ليروا مجرى الأمور فيقرّروا ما يفعلون.
نظرت عنقاء الشفاء إلى الأشخاص الغامضين وقالت: "كما ترون♪ هذه الأخت الكبيرة تعاني الأمرّين مع هؤلاء الأطفال، ولا يمكنها تحمّل شغبهم بعد الآن، لذا أنصح أيّ أحد منكم بأخذ الشخص الذي أثار اهتمامه، لأنّني لن أراعي لأحد أكثر من هذا."
حملق إليها أمير مملكة الصقيع: "هل تحاولين افتعال القتال يا امرأة؟"
ابتسمت عنقاء الشفاء وردّت: "أوه، يبدو أنّك لاحظت ذلك، إنّك أذكى ممّا تبدو عليه يا رجل."
عبس أمير مملكة الصقيع للحظة قبل أن يتمالك نفسه بلحظة بعدها ويقول: "كلّنا يعلم عن القواعد، فما الذي يجعلك تعتقدين أنّه يمكنكِ تجاهلها؟"
"قواعد؟" أمالت عنقاء الشفاء رأسها: "منذ أن خُتِمت العوالم عن بعضها لم تعُد هناك أيّ قواعد يا رجل، وستتأكّد من كلامي جيّدا عندما يتجدّد الاتّصال مرّة أخرى."
قال الأمير: "هذه القواعد كانت منذ الأزل. من المعلوم أنّه ستكون هناك منافسة على المواهب الصاعدة في العالم الروحيّ الجديد، لذا يجب التنافس بعدل. نحن هنا لنمنح هؤلاء فرصا عظيمة في توسيع مدى رؤيتهم وآفاقهم بأخذهم معنا إلى عوالم أنضج بأضعاف من هذا العالم، ويجب أن يتقرّر هذا بإنصاف، لا أن يفعل كلّ شخص ما يحلو له."
حملقت عنقاء الشفاء إليه وردّت بنبرة حادّة: "لقد أتيت إلى هنا من أجل سحرة العلاج، وسأعود ومعي سحرة العلاج، ولن يمنعني من هذا أحد. تتكلّمُ عن القواعد كما لو كانت مقدّسة، لذا دعني أذكّرك بشيء مهمّ. الختم الذي قطع الاتّصال بين العوالم لم يكن سوى علامة واضحة على ما ينتظرنا في المستقبل، وأنا لست غبيّة كفاية لأتخلّى عن أدوات جيّدة بسبب قواعد تافهة قرّرها أسلاف لا يتذكّرهم التاريخ حتّى."
تدخّل التنين الصغير: "هذا يا هذا♪ انظر إلى هذه الشمطاء تتحدّث بجرأة كبيرة الآن؛ من كان ليتوقّع حدوث هذا قبل ختم العوالم؟"
ابتسمت عنقاء الشفاء وردّت عليه: "على الأقلّ لم أتملق أيّ أحد كما اعتاد أحدهم أن يفعل طوال الوقت. آه♪ أظنّك لهذا السبب عزلت نفسك؛ حتّى تفكّر في شخص آخر لتتملّق له."
عبس التنّين الصغير وقال: "لا تحاولي تفسير علاقتي بجلالته يا أيّتها الشمطاء بلسانك القذر ذاك. سمّيه تملّقا أو أيّا كان، فصاحب الجلالة استحّق احترامي، فأعطيته له. إنّني مختلف كثيرا عن شمطاء أينما تحلّ تنشر الوباء ولا تعلم شيئا عن الولاء."
حملق الاثنان إلى بعضهما قبل أن يتغيّر اتّجاه نظرهما إلى جهة أخرى، وليس هما فقط، بل كلّ الأشخاص الغامضين نظروا إلى نفس الجهة.
كشّر شبح أرض الموتى عن أنيابه وقال: "يبدو أنّ هذا سيصير أكثر تعقيدا."
كان في الجهة التي ينظرون إليها بضعة أشخاص أتوا في نفس الوقت لكن متفرّقين.
كانت هناك ثلاث مجموعات، وتكوّنت المجموعة الأولى من ثلاثة أشخاص لم يبدوا بشرا من خلال هيئتهم.
كانوا عبارة عن أشخاص بمواصفات الحيوانات، أو للدقّة، بمواصفات الوحوش.
امتلكوا هيكلا بشريّا، لكنّ الفرو غطّى معظم أجسادهم، فكان الأوّل يشبه الأسد والثاني يشبه النمر والثالث يشبه الفهد.
كانت المجموعة الثانيّة تتكوّن من شخصين بدا جلدهما أحمر اللون وامتلكا قرنين بطول اليد يبرزان من جبهتهما، وأجنحة كأجنحة الخفّاش.
أمّا المجموعة الثالثة، فقد تكوّنت من شخص واحد فقط أخفى جسده بمعطف أسود ذي قلنسوة وبدا غامضا حتّى لأولئك الأشخاص الغامضين.
تكلّم هذا الشخص ذو المعطف الأسود: "إنّ العنقاء معها حقّ يا ناس. كلّ شيء سيتغيّر من الآن فصاعدا، لذا عليكم أن تحذوا حذوها."
اهتزّت عينا القوّاس النجميّ المغمضتان كما لو أنّه أدرك شيئا ما.
حدّق الآخرون إلى المجموعات التي ظهرت فقال التنّين الصغير: "سيكون الأمر مريحا للغاية ألّا يظهر أمثالكم، صحيح؟"
تكلّم الشخص ذو مواصفات الأسد: "لقد أتينا إلى هنا لسبب واحد؛ ينقصنا العبيد."
أكمل بعده أحد الشخصين المجنّحين: "هذه فرصة لا مثيل لها. فبعدما قُطِع الاتّصال بين العوالم، صارت وتيرة أعمالنا بطيئة لقلّة العبيد الجدد."
حملق أمير مملكة الصقيع إليهم وقال: "هل تنون العيث فسادا في هذا العالم مرّة أخرى؟"
تكلّم الشخص ذو المعطف الأسود: "هذا ما نفعله، فنحن 'الشياطين'."
أكمل بعدما توقّف للحظات: "ودعني أصحّح كلامك. نحن لم نعث فسادا هنا قبل سبعة عشر عاما، وإنّما ألقينا التحيّة على هذا العالم الواهن فقط."
قال شبح أرض الموتى بعينيه الميّتتين: "تتكلّم كما لو أنّك كنت هنا في ذلك اليوم."
وضع الشخص ذو المعطف الأسود يده على القلنسوة ثمّ أزاحها عن رأسه وقال: "هذا لأنّني بالفعل كنت هنا."
صعدت القشعريرة مع الجميع لمّا رأوا وجه ذلك الشخص، والذي قال: "جيّد، جيّد، رأيت النظرات التي أردت رؤيتها. يبدو أنّ وضع القلنسوة كان له معنى. يمكنني أن أفهم السبب الذي جعل حكيم يتنكّر أينما ذهب."
عبس الجميع وأصبحت الأجواء متوتّرة للغاية وعجزوا عن الكلام، بينما كان الشخص الآخر مرتاحا وبدا مستمتعا: "هناك مصير غريب يربطني بهذا العالم؛ فحتّى بوجود ذلك الختم اللعين وجدت السبيل إلى هنا. هذه علامة، علامة تشير إلى وجوب إكمال ما لم أنهِه."
نطق القوّاس النجميّ: "يبدو أنّ الأمور لن تسير بشكل مريح. إذن، ما الذي أتيت لفعله تحديدا يا شيطان اليأس؟"
بالفعل، لم يكن ذلك سوى شيطان اليأس، إبلاس.
كانت أنمار والجنرال رعد في حالة صدمة من الهلع والرعب. فقط التفكير في احتماليّة مجيئه جعلتهما سابقا يفزعان، لكنّه ظهر الآن حقّا بدون أيّ سابق إنذار، كما يفعل في كلّ ظهور له.
نظر إبلاس إلى أنمار فصعدت القشعريرة معها، ثمّ قال بدون تغيير اتّجاه نظره: "لقد تأخّرتُ قليلا لأنّه وجب عليّ القيام ببحث بسيط حتّى أعلم أين أتوجّه، ويبدو أنّني وصلت إلى المكان الصحيح."
نظر بعد ذلك إلى القوّاس النجميّ والآخرين وأكمل: "لم آتِ هذه المرّة لقضاء مهمّة ما، وإنّما قدمت بناء على رغبتي الشخصيّة."
قال التنّين الصغير بنظرات جدّيّة: "لا خير في رغباتك الشخصيّة اللعينة، وقد تكون أسوء من المهمّات التي تُوكّل إليك."
ابتسم إبلاس وردّ: "شهرتي تسبقني. لقد وجدت لعبة جديدة في آخر زيارة لي، وأريد البدء في تطويرها حتّى أستخرج منها كلّ المتعة التي يمكنني اكتسابها منها."
نظر شبح أرض الموتى إليه وقال: "يبدو أنّ هذه اللعبة الجديدة لها علاقة بهؤلاء الأطفال."
أومأ إبلاس رأسه: "لا يمكنني إيجاد اللعبة الرئيسيّة للأسف، ولكن بالفعل لها علاقة بهؤلاء."
سأل أمير مملكة الصقيع: "إذن، ما الذي تنوي فعله الآن؟"
رفع إبلاس حاجبه مستغربا وقال: "ليس جيّدا، ليس جيّدا؛ حتّى الأطفال يعلمون الغرض من وجود الألعاب أيّها الأمير."
عبس الأمير وقال بنبرة حادّة: "وماذا إن قلت لك أنّ هذا غير مسموح؟"
ابتسم إبلاس: "هذا لا يهمّ، فهو لن يغيّر شيئا."
حملق إليه الأمير والبقيّة بينما كان اهتمام عنقاء الشفاء طفيفا بشأن هذه المسألة جنبا إلى جنب مع الملكة الشريرة وخادمها وفيّ.
قال الأمير: "هل تعتقد أنّه يمكنك تفعل ما يحلو لك في حضورنا مجتمعين؟"
قال إبلاس بوجه خالٍ من التعابير: "بلى."
قال التّنين الصغير هذه المرّة: "هل تقول هذا علما بقوّتنا يا أيّها الشقيّ؟"
ضحك إبلاس وقال: "هاهاها، لا تسِئ فهمي، أنا أتحدّث هنا عن متعتي الخاصّة. نعم، إنّني قادر على الاستمتاع بلعبي ولو كان ملكك الأصليّ هنا."
علم هؤلاء الأشخاص أنّ إبلاس يقصد كلامها كلّه، وهذا ما جعل الأمر عصيبا بالنسبة لهم.
لقد كان شخصا لا يهتمّ بأيٍّ كان، وسيفعل ما يحلو له في أيّ مكان وزمان.
والآن، كلّ ما كان يدور في بال هؤلاء الأشخاص هو من يسعى إبلاس وراءه. لقد وجدوا بعض المواهب النادرة للغاية أخيرا ولم يكونوا مستعدّين للتخلّي عنها ببساطة، وفوق ذلك، لقد كان هذا شيطان اليأس، ولا يمكنهم صرف النظر عنه والتصرّف كأنّ شيئا لم يكن.
فتح إبلاس ذراعيه على مصراعيهما وقال بنظرات متحمّسة: "فلنبدأ العرض يا ناس."
اختفى إبلاس ثمّ ظهر خلف أنمار مباشرة ثمّ وجّه قبضته نحو رقبتها كما لو أنّه يحاول إمساكها، لكنّه وجد نفسه محاطا فجأة بالتنّين الصغير وأمير مملكة الصقيع وشبح أرض الموتى والقوّاس النجميّ.
وفي نفس اللحظة التي ظهر فيها هؤلاء الأربعة حوله وجد إبلاس نفسه تحت هجوم من كلّ واحد منهم.
راوغ إبلاس فظهر في السماء، والتقت طاقاتهم الروحيّة في نقطة واحدة كانت هي المكان الذي اعتاد قلب إبلاس الوجود فيه.
رنين
تلاحمت طاقاتهم الروحيّة وأصدرت أصواتا كتلاحم السيوف. كانت تلك الطاقات بالفعل متشكّلة كأنصال روحيّة.
انفجار
كان ذلك الانفجار كفيلا بصمّ آذان أنمار والآخرين لثوانٍ طويلة.
ضحك إبلاس وقال: "هذا سيكون ممتعا. لنلعب دور البطل ودور الشرير. أنا أحاول القتل وأنتم حاولوا الحماية."
نظر التنّين الصغير إلى الملكة الشريرة التي وقفت هناك دون فعل شيء، وقال بنبرة حادّة: "هل ستقفين عندك مثل الشمطاء أم ستنضمّين إلينا؟"
حدّقت الملكة الشريرة إليه بعينيها الجامدتين، فردّ وفيّ على السؤال بدل منها: "إنّ ملكتي لا ترغب في هذا. ستأخذ الآن ما أتت من أجله، ما يحقّ لها، ونشدّ رحالنا عائدين."
حدّق إبلاس إلى الملكة الشريرة فوجدها تحدّق إلى شيرايوكي بعد كلام وفيّ، فقال: "لن يغادر هذا المكان أيّ شخص حتّى أنتهي ممّا أتت لإنهائه."
رفعت الملكة الشريرة رأسها ونظرت إلى إبلاس، فتكلّمت لأوّل مرّة منذ أن قدمت إلى هنا: "لا تجعل مزاجيّ عكرا يا أيّها الشقيّ."
استغرب إبلاس: "ماذا؟! هل لديك أيّ مزاج أصلا؟"
تحرّكت الملكة الشريرة نحو شيرايوكي فارتعبت هذه الأخيرة. لقد كانت تشعر أنّها تغرق في ظلام عميق كلّما التقت عيناها بعينيْ تلك المرأة، كما لو أنّها تُلتهم بدون القدرة على المقاومة.
وقفت أنمار بجانب شيرايوكي ثمّ حملقت إلى الملكة الشريرة وقالت: "إنّك تخيفين صديقتي، فهلّا تراجعت؟"
تكلّم وفيّ مباشرة بعد ذلك وبلسان حادّ: "ملكتي تفعل ما تشاء. لا أحد يأمر ملكتي. تنحيّ عن الطريق يا ****، وإلّا كانت العواقب وخيمة."
بالفعل كانت أنمار قيِّمة للجميع هنا بسبب الموهبة التي أظهرتها، لكنّ هدف الملكة الشريرة من المجيء إلى هنا كان شيرايوكي أصلا.
حدّقت أنمار إلى وفيّ ولم تتراجع بالرغم ممّا قاله.
كانت أنمار تفكّر هكذا: "ممّا لاحظت، هؤلاء الأشخاص سيفعلون كلّ ما بوسعهم لإنقاذ من أثار اهتمامهم، ولحسن الحظ يبدو أنّني أثرت انتباههم، وهذا أكِّد لي بعدما اقترب منّي ذلك اللعين."
فهمت أنمار وضعها الحاليّ بسرعة كبيرة وبدأت تنفّذ خطّتها في استغلال كلّ ما يمكنها استغلاله. لو كان هناك شخص آخر في الخطر، فما عليها سوى وضع نفسها في نفس الخطر وستنجو هي وذلك الشخص.
حدّق إبلاس إلى ما كانت تفعله أنمار ثمّ ابتسم وقال: "لا أتوقّع شيئا أقلّ من تلميذة حكيم."
صُعِق التنّين الصغير والآخرون تماما عندما سمعوا ما قاله إبلاس للتوّ.
فتحوا أعينهم على مصارعها فقال أمير مملكة الصقيع بتردّد: "هل... هل قال تلميذة الحكيم السياديّ؟"
قال التنّين الصغير: "لقد قال حكيم، وهو الشخص الوحيد الذي يشير للحكيم السياديّ بهذا في العوالم الروحيّة."
قال شبح الموتى: "غير معقول! لهذا السبب هي استثنائيّة لهذه الدرجة!"
فتح القوّاس النجميّ عينيه الحادّتين ونظر إلى أنمار كما لو كان يحلّلها قبل أن يقول: "إذن لقد كان ذلك فنّ سحق الأرض القتاليّ الذي استخدمته حقّا."
نظرت عنقاء الشفاء والملكة الشريرة وخادمها وفيّ والشياطين إلى أنمار كما لو أنهم ينظرون إلى مخلوق نادر للغاية.
ابتسم إبلاس بعد ردّة فعل الجميع وقال: "لقد أتيت إلى هنا حتّى أرى لعبتي الجديدة. أخبريني يا تلميذة حكيم، أين هو تلميذ حكيم المفضّل؟"
***
حدّق التنّين الصغير والآخرون إلى إبلاس بشكل غريب فقال أمير مملكة الصقيع: "ما الذي تتحدّث عنه؟ هل يمكن أنّ فاخر الفخور، وريث عشيرة الينبوع الذهبيّ هنا؟"
كانت هذه المعلومات صادمة للغاية. أّوّلا ينادي شيطان اليأس أنمار بتلميذة الحكيم السياديّ، والآن يلمّح إلى وجود تلميذه المفضّل هنا؟ كيف لذلك أن يحصل؟ منذ متى؟ ما الذي أتى فاخر ليفعله هنا؟ وقبل ذلك، متى أتى الحكيم السياديّ إلى هنا حتّى يملك تلميذة أخرى؟
ضحك إبلاس مستمتعا بينما ينتظر الجميع إجابته بفارغ الصبر.
صاح التنّين الصغير: "أجب عن السؤال اللعين أيّها الشقيّ!"
نظر إبلاس إلى التنين الصغير وقال: "هذا مضحك حقّا. إنّكم لا تعلمون شيئا كما لو أنّكم الأعداء بالرغم من أنّ عدوّ الحكيم السياديّ اللدود، خصمه ومنافسه الأبديّ يعلم. هل حقّا كنتم حلفاء؟"
لم يستطِع أحد منهم قول شيء، لكنّ عينيْ القوّاس النجمي المغمضتيْن اهتزّتا كما لو أنّه وجد شيئا غريبا في كلام إبلاس.
قال إبلاس: "ما أحاول قوله هو أنّني لم أعنِ بكلامي فاخر عندما قلت تلميذ حكيم المفضّل."
فتح القوّاس النجميّ عينيه الحادّتين كما فعل الآخرون وحدّقوا إلى أنمار بعد ذلك محاولين استيعاب ما سمعوا للتوّ.
لربّما لم يكن الحكيم السياديّ بمستوى شاهق في المستويات الروحيّة، لكنّه كان قادرا على مواجهة سحرة روحيّين بمستويات أعلى منه، والأكثر أهمّيّة من ذلك، لقد عنى الأمر الكثير أن يتدرّب الشخص على يد الحكيم السياديّ.
ففي العوالم الروحيّة، يقال أنّه لا أحد يفهم المسار الروحيّ والقوانين العالميّة أكثر من الحكيم السياديّ، ولو لم تكن موهبة إدريس الحكيم الطبيعيّة ضحلة للغاية لكان قد صار سلطانا منذ زمن بالفعل حسب أقوال بعض الهرمى المقموعين.
صرّح شبح أرض الموتى كما لو أنّه يسأل: "هناك تلميذ ثالث أيضا، وهذا التلميذ هو المفضّل للحكيم السياديّ؟ هل هذه مزحة؟ لماذا الآن بعد كلّ هذا الوقت؟"
ابتسم إبلاس وقال: "نعم، هذا هو السؤال الأهم حقّا. لماذا الآن؟"
نظر إبلاس إلى عنقاء الشفاء وأكمل: "هناك أشخاص قد بدؤوا يستعدّون لما هو قادم، لأنّهم يعلمون أنّ الفوضى ستعمّ العوالم الروحيّة لا محالة في المستقبل، وبالطبع نحن من سيكون السبب في هذه الفوضى."
حدّق أمير مملكة الصقيع إليه وقال: "ما الذي تلمّح له؟ هل تقصد أنّ الحكيم السياديّ مثله مثل هذه المرأة صار محتاطا بشأن المستقبل وقرّر تلمذة أشخاص آخرين؟"
رفع إبلاس كتفيه وقال: "من يدري؟"
عبس الأمير كما لو أنّه يخبر إبلاس أن يجيبه، فقال شيطان اليأس: "ليس جيّدا، ليس جيّدا، أشخاص مثلكم لا يجب عليهم تلقّي المساعدة منّي. هل نسيتم بهذه السرعة؟ إنّني الشرير هنا، وأنتم الأبطال. فلنترك الأمر على هذا الحال."
كانت هناك أمور مخفيّة كثيرة لا يعلمها هؤلاء الأشخاص عن الحكيم السياديّ، لكن إبلاس كان على علم بها، ولربّما كان السبب هو المصير الذي جمع إدريس الحكيم بإبلاس منذ صغرهما.
قال إبلاس بعدما سكت الآخرون: "حسنا، لنكمل متعتي الخاصّة."
"قبل ذلك،" قال التنّين الصغير: "أجب عن هذا السؤال. لو كانت هناك تلميذة للحكيم السياديّ وتلميذ آخر في هذا العالم، هل هذا يعنيّ أنّ الحكيم السياديّ بنفسه هنا؟"
نظر إبلاس إلى التنّين الصغير لكنّه لم يردّ عليه، فهو قد أخبر هؤلاء أنّه لن يجيبهم أكثر ممّا فعل. لقد كان يريد أن يستمتع بسرعة بدون ضياع أيّ وقت.
حملق التنين الصغير إليه بعدما لم يتلقَّ إجابة وقال: "حسنا، لك هذا يا هذا. لقد أخطأتَ بفعلك عندما أخبرتنا عن هوّيّة هذه الفتاة، لأنّنا صرنا الآن كلّنا مهتمّون فيها حقّا."
لقد كان هؤلاء على معرفة بالحكيم السياديّ بشكل شخصيّ، وقد سبق أن طلبوا منه تعليم بعض الأشخاص لكنّه رفض في كلّ مرّة. ومثل التنّين الصغير، كان هناك من يفكّر أنّه لو حما تلميذة الحكيم السياديّ فقد يكسب شيئا من ذلك من الحكيم السياديّ.
ابتسم إبلاس وردّ على التنين الصغير: "إنّك لا تفهم شيئا يا أيها العجوز. أنا أخبرتكم بهذا عمدا وليس سهوا، لأنّ الامور ستكون أمتع بكثير بهذا الشكل."
تشكّلت مطرقة يبلغ حجمها نصف حجم الشخص في يد التنّين الصغير اليمنى، والتي نُقش عليها حروف رونيّة عتيقة توهّجت ما أن رفع حاملها يده للأعلى.
همس التنّين الصغير للمطرقة كما لو أنّه يتحدّث إليها: "اسحقي رأسه يا ميولنير."
تحرّكت الحروف الرونيّة في المطرقة بشكل غريب وبسرعة كبيرة كاستجابة لكلام التنّين الصغير.
رمى التنّين الصغير المطرقة فجأة في اتّجاه عشوائيّ، والتي اختفت كما لو أنّها انتقلت لبعد آخر. لم تصنع أيّ صوت أو ضوضاء أثناء ذلك، كما لو انّها فقط اختفت من الوجود ببساطة.
وقف إبلاس منتظرا لبعض الوقت قبل أن يتفاجأ بظهور المطرقة بجانب رأسه من اللامكان.
رنين
تردّد صوت الصدمة الناتجة عن ضرب المطرقة لشيء ما، لكن إبلاس كان لها في الواقع بالمرصاد، إذ عكس مسارها بسلاحه الروحيّ بسرعة كبيرة للغاية بعدما التفّ حول نفسه في الهواء.
اختفت المطرقة بعد ذلك في الأفق كما لو أنّها لم تكن.
قال إبلاس مبتسما: "تعلم أنّ عينيْ الحقيقة يمكنها رؤية مثل هذه الألاعيب، أليس كذلك؟"
داعب التنّين الصغير وقال: "تعلم أنّ ميولنير لن تتوقّف إلّا بعدما تنفّذ ما أمليته عليها، أليس كذلك؟"
تحرّك إبلاس بد ذلك مباشرة بدون أيّ تأخّر وانطلق مستهدفا جماعة أنمار، فاعترض طريقه سيف أبيض تزيّن زهرة اللوتس قبيعته. لقد كان ذلك سيف أمير مملكة الصقيع، لكنّ إبلاس كان قد رأى حدوث هذا بالفعل فردّ الهجوم وراوغ بمهارة قبل أن يكمل طريقه نحو جماعة أنمار.
ظهر شبح أرض الموتى فجأة بدون أن يصنع حسّا وحتّى إبلاس كان متأخّرا في ردّة فعله كما لو أنّه رأى حدوث هذا بشكل أبطأ من المرّتين السابقتين.
قال إبلاس: "لم يلقّبوك بالشبح من فراغ يا أيّها اللعين."
ومع ذلك استطاع شيطان اليأس مراوغة المنجل الذي أحاط رأسه وكاد يقطعه.
وأخيرا، وجد إبلاس نفسه تحت ضغط رهيب، إذ رأى بعيني الحقيقة ذلك السهم الذي بدا قادرا على اختراق النجوم وتدميرها قادما إليه.
شحن سيفه الهلاليّ بطاقته الروحيّة وضرب السهم، فتولّد انفجار هزّ الأرض المباركة بأكملها.
لم يكن هناك عائق بينه وبين جماعة أنمار، وفقط عندما اقترب منها ظهرت المطرقة 'ميولنير' بجانبه مرّة أخرى ليصّدها بسيفه لكنّه حلّق بعيدا من قوّتها.
استمرّ التنّين الصغير في مداعبة لحيته وقال: "إنّك لا تظنّ بصدق أنّك قادر على فعل ما تشاء في حضرتنا مجتمعين، أليس كذلك؟"
تنهّد إبلاس وقال: "أنت والآخرون لا تفهمون شيئا حقّا. يبدو أنّني بدأت أشتاق لحكيم بالفعل."
لم يكن الأمر منوطا بقدرة إبلاس على مواجهتهم بالنسبة له، بل كان متعلّقا بقدرته على الاستمتاع بهذه الظروف وبلعبه لأقصى درجة ممكنة.
"حسنا،" قال إبلاس: "لنجعل مهمّة الأبطال أكثر صعوبة."
التفت إلى المجموعتين اللتين أتتا معه وقال: "ما رأيكم؟"
قال ذو مواصفات الأسد: "مثير للاهتمام، يبدو أنّنا سنحصل على عبيد ذوي جودة جيّدة."
أكمل أحد الشخصين المجنّحين: "عدّني مشتركا."
حملق التنّين الصغير والآخرون إلى الشياطين واستعدّوا للدخول في معركة جادّة.
***
كانت الأحداث في أكاديميّة الاتّحاد المباركة مجرّد جزء ممّا كان يحدث في بقيّة العالم الواهن.
ففي الوقت الحالي، كان العالم الواهن فوضويّا للغاية.
صدت صرخات الناس في بعض المناطق وسط أنواع متعدّدة من الهجمات.
كان هناك شياطين بمختلف أنواعهم يهاجمون الناس في بعض المدن ويخطفون السحرة والأطفال، وكان هناك أشخاص آخرون أجبروا الناس على الذهاب معهم، كما كان هناك من حاول التفاوض.
كان هدف هؤلاء هو العودة ببعض المواهب إلى عوالمهم التي أتوا منها عبر الشروخ الفضائيّة التي ظهرت في شتّى أنحاء العالم.
كان هناك شيطان بهيكل يشبه هيكل البشر إلّا أنّه كان أقصر قليلا وامتلك ذراعين ضخمتين مقارنة بجسده وأنفا طويلا بالرغم من أنّ وجهه كان صغيرا.
اقترب هذا الشيطان من أحد العائلات وفحص طفلا بعدما كسر ساقيْ والديْه أمام عينيه، فقرّر بعد ذلك أن يأخذه.
صاحت الأمّ: "أعد إليّ ابني، لا تأخذ ابني منّي. أرجوك، أرجوك، أرجوك..."
التفت الشيطان ووجه عابس كما لو انّه كان منزعجا من كثرة ترجّي الأمّ بصوت مرتفع، فلوّح بيده وقال: "اخرسي!"
كان تلويح من يده كفيلا بجعل جسد المرء يحلّق لعشرت الأمتار محطّما تماما مسبّبا في موت الشخص.
كادت هذه اليد تضرب المرأة، لكنّ الأب اعترض لها وحاول المقاومة بكلّ ما يملك لكنّه أرسِل محلّقا بجسد محطّم كما يُفترض أن يحصل.
نظرت الأمّ إلى الجهة التي رُمي زوجها إليها فوجدت عينيه تحدّقان إليها ولكن بدون أيّ حياة فيهما، فصرخت مرتعبة بشدّة وبكت بينما تقول: "أنقذونا، أين أنتم يا أيّها السحرة، أين أنتم يا تشكيل القائد الأعلى باسل؟ أين أنت يا بطل عالمنا؟ أنقذوا ابني."
حملق الشيطان إليها بعينين خاليتين من الاهتمام بترجّيها وقال: "لن ينقذكم أحد، فهذا مجرّد عالم واهن. لقد قتلنا كلّ السحرة القريبين من هنا قبل أن نبدأ عملنا حتّى."
سكتت الأمّ ونظرت إلى ابنها وقالت: "لا تقلق يا حسن، لقد اخبرتك أنّ بطل عالمنا سيأتي لإنقاذنا، أنا متأكّدة أنّه باستطاعته علاج والدك حتّى. لقد..."
لم تكمل كلامها حتّى كانت قد رُميت لتصطدم بزوجها.
كان الطفل حسن يحدّق إلى ما يجري بدون أن يستوعبه، ولم يصرخ حتّى؛ لقد كان يعتقد أنّ ذلك كان كابوسا.
***
حدثت أمور مشابهة لهذا في العديد من الأنحاء، ففي عائلة أخرى، كان هناك *** يقف مستقيما فاتحا ذراعيه على مصراعيهما أمام أحد الشياطين الذي كان يشبه السحليّة بالرغم من هيكله البشريّ.
كان الطفل يحاول الوقوف في وجه الشيطان بكلّ شجاعة ليحمي أمّه التي حاولت جذبه إلى الوراء لكن بدون فائدة؛ لقد كان طفلها عازما على حمايتها.
صرخ الطفل: "تراجع أيّها الشيطان اللعين، أنا عماد بن أشرف، لن أسمح لك أن تضع إصبعا واحدا على والدتي."
تحرّكت كل عين من عينيْ ذي مواصفات السحلية في اتّجاهين متعاكسين، ولم ينبس ببنت شفة. حرّك ذيله فجأة فرأى الطفل عماد ذيل الشيطان يعود لمكانه حاملا شيئا ما، وعندما علم ماهيّة ذلك الشيء فرغت عيناه من الحياة، إذ كان ذلك رأس أمّه معلّقا على ذيل الشيطان.
***
كان كلّ الأعداء سحرة روحيّين، لذا كان من المستحيل على أيّ ساحر من العالم الواهن التصدّي لهم.
لم يصل الدمار لدرجة الدمار الشامل قبل سبعة عشر سنة بما أنّ عدد الأشخاص الذين أتوا إلى العالم الواهن لم يكن كبيرا للغاية، لكنّه كان كافيا ليتسبّب في مآسي في العديد من الأماكن.
كلّ هذا حدث لأنّ العالم الواهن صار عالما روحيّا؛ فعندما يحدث شيئا كهذا لعالم ما، تتغيّر العديد من الأمور سواء بالنسبة للسحرة أو البشر.
فالسحرة يجدون موارد أفضل بكثير من السابق، وتظهر مواهب فذّة بين البشر لها إمكانيّات هائلة، لأنّ الطاقة الروحيّة في العالم تجعل بعض البشر متميّزين وموهوبين، وخصوصا الطاقة الروحيّة التي تصاحب التحوّل الروحيّ.
***
تحوّلت أرض الأكاديميّة لفتات بعد مرور دقائق قليلة فقط من دخول الشياطين كلّهم إلى المعركة بجوار إبلاس ضدّ الآخرين.
لم يبلغ القتال ذروته حتّى لكنّ الضرر الذي تسبّب فيه هؤلاء لما حولهم تخطّى المعقول.
ولكن كلّهم لم يهتمّوا بهذا، فإبلاس اهتمّ بمتعته الخاصّة، والشياطين الآخرون اهتمّوا بأخذ العبيد فقط، والتنين الصغير والآخرون اهتمّوا بحماية المواهب لا الأرض.
ولكن للأسف، صدق إبلاس في كلامه كما سلف وأخبرهم، ونجح في الاستمتاع كما أراد، وحاليا، كان التنّين الصغير والآخرون يعضّون شفاههم بسبب ما حدث.
كانت أنمار في قبضة إبلاس!
كان يحملها في السماء من رقبتها بينما ينظر إلى عينيها مباشرة. لم يستطِع أيّ شخص القيام بأيّ شيء بعدما وضع إبلاس يده عليها، وانتظروا فقط حدوث الأمر.
***
كان التنّين الصغير والثلاثة الآخرون مشغولين مع مجموعتيْ الشياطين الأخريين بينما استغلّ إبلاس الفرصة من أجل القبض على أنمار.
لقد كان مجموعة ذوي مواصفات الوحوش ومجموعة الشخصين المجنّحين تملك أشخاصا أقوياء كفاية لعرقلة من كان هنا على ما يبدو.
أطال إبلاس التحديق إلى عينيْ أنمار فأمال رأسه قليلا وقال مبتسما: "إنّك حقّا تلميذته، فأنا لا يمكنني رؤية اليأس في عينيك أبدا. ربّما هناك خوف، لكنّك تغلّبت عليه وهذه هي الشجاعة الحقيقيّة. أمّا اليأس، فلا يسعني إيجاده."
حملقت أنمار إليه بدون الردّ عليه، كما لو أنّها تتحدّاه.
قال إبلاس: "لقد أتيت من أجل لعبتي الجديدة، لذا كنت أنوي البدء في تطويرها بقتل كلّ شخص يعزّه، لكن اهتماماتي قد تغيّرت قليلا، فالآن صرت أرى أنّ وجود لعبة أخرى لن تضرّني بشيء. ألا تتّفقين معي؟"
نظر شيطان اليأس بعد ذلك إلى قادة التشكيل والآخرين ثمّ إلى أنمار من جديد وقال: "هناك، لقد لمحته. لقد رأيت للتوّ جذر اليأس في أعماقك. سيكون هذا مثير للغاية، فقد مرّ وقت طويل منذ آخر لعبة طوّرتها."
كان قادة التشكيل والآخرون في موقف عصيب إذ كان عليهم التفكير في طريقة ما لإنقاذ أنمار من يد إبلاس، لكنّهم لم يفكّروا في خطّة قد تنجح.
صرخ تورتش: "لا تهمّني الخطط حاليا، سنقذ السيّدة الصغيرة بأيّ ثمن ولو عنى ذلك مقتلنا جميعا، وإلّا لن نقدر أبدا على مواجهة سيّدنا. هل سمعتم؟"
ابتسم إبلاس وقال: "انظري إليهم، مفعمون بالحيويّة، ممتلئون بالرغبة في إنقاذك بأيّ ثمن، ولو كان الثمن حياتهم. أتساءل كيف ستشعرين عندما تتحطّم رؤوسهم واحدا تلو الآخر أمام عينيك دون قدرتك على فعل شيء؟ لربّما تكونين تلميذة حكيم، لكن حتّى هو رضخ لي عندما تعلّق الأمر بأحبّته."
اتّسعت عينا أنمار وقالت: "لا تفعل ذلك، ليس لديهم علاقة بكلّ هذا. أنت تريدني، أنا تلميذة الحكيم السياديّ، أليس كذلك؟ إذن لا تدخل الآخرين في هذا."
هزّ إبلاس رأسه أفقيّا وقال: "ليس جيّدا، ليس جيّدا، إنّك لا تعلمين أنّه عندما يتعلق الأمر بمتعتي الخاصّة، عندما يتعلّق الأمر بتطوير لعبي، فكلّ شخص وكلّ حدث يكون له كلّ العلاقة."
صرخت أنمار بصعوبة: "لا تعبث معي! توقّف، اللعنة!"
انطلق قادة التشكيل والجنرال رعد وشيرايوكي والتاجر ناصر تجاه أنمار، وكلٌّ منهم استخدام طريقة في التحليق، فهناك من استخدم عناصر السحر وهناك من اعتمد على الفنون القتاليّة وهناك واعتمد على شخص آخر في هذا.
كان هدفهم الوحيد هو إنقاذ أنمار من يد العدوّ، ولم يشمل هذا الهدف بقاءهم أحياء بعد ذلك.
كانت الابتسامة تعتلي وجه إبلاس في هذه الأثناء، وانتظر بصبر بينما يستمتع بوجوههم الآملة التي كان يتخيّلها كيف ستصير بعد لحظات.
أدار أنمار لتراهم قادمين وقال: "انظري بعناية، احرصي على مشاهدة جماجمهم تتحطّم. نعم، هكذا سأقتل كلّ واحد منهم، سأحطّم جماجمهم وأعصّر أدمغتهم، فتذكرّي وجوههم قبل فوات الأوان، لأنّ هذه ستكون آخر مرّة ترينهم فيها."
كان كلام إبلاس ثقيلا للغاية على قلب أنمار، وخصوصا عندما كان عاجزة عن فعل شيئا حقّا.
رفع إبلاس يده بينما يقترب أولئك، ثمّ داعب أصابعه يده اليسرى ببعضها كما لو أنّه يجهّزها لما قال أنّه سيفعله.
استخدم قادة التشكيل والجنرال رعد فنونهم القتاليّة، لكنّ شيرايوكي سُحِبت قسرا فجأة فوجدت نفسها تحت قيد الخادم وفيّ.
ونفس الأمر حدث مع شي يو التي كانت في حيازة عنقاء الشفاء.
لقد علمت الملكة الشريرة وعنقاء الشفاء أنّ مصير قادة التشكيل واضح فلم تريدا من ذلك أنّ يشمل ما جاءتا من أجله.
تردّد تورتش والآخرون لوهلة بعدما حدث هذا لكنّ الأوان كان قد فات على التراجع الآن، وبالأحرى كان عليهم إنقاذ أنمار أوّلا لأنّها كانت تبدو في خطر أكبر من شيرايوكي وشي يو.
قال إبلاس: "بمن تريدينني أن أبدأ؟ هل هو الشخص الذي يقودهم؟"
"اللعنة!"
صرخت أنمار لكن بدون فائدة، وفقط عندما شاهدت يد إبلاس اليسرى تمتدّ لإمساك رأس تورتش، ظهر أمامها قوس قزح وشخص يركب تيّارا مائيّا كما لو أنّه يتزلّج بلباقة عليه.
صنع هذا الشخص حاجز مائيّا بين إبلاس ومجموعة تورتش ثمّ ظهر بعد ذلك خلف إبلاس كما لو أنّه انتقل عبر الفضاء حتّى وصل بتلك السرعة، فحاول قطع اليد التي تقبض عنق أنمار، لكنّه لم ينجح إذ كان إبلاس قد راوغ بالفعل.
ولكن، كانت أنمار قد تحرّرت من يده، فقال ذلك الشخص مبتسما بينما يحملها: "هل أنت بخير يا صغيرتي؟"
لقد كان هذا هو الشخص الجميل الذي ظهر في أحد الأرضي يبحث عن أقوى شخص في هذا العالم.
قال هذا الشخص: "يبدو أنّني تأخّرت عن الحفلة يا جماعة؛ اعذروني، فما كان هذا إلّا قدر."
توقّفت معركة الشياطين والآخرين فجأة عندما ظهر هذا الشخص وفعل ما فعل.
صاح التنّين الصغير: "أووه، حتّى أنت جئت يا أيّها الشقيّ الوسيم، هذا جيّد جدّا. ساعدنا هنا."
فتح القوّاس النجميّ عينيه وقال: "هذه ليست أوّل مرّة تصل متأخّرا. لقد بدأت أشعر أنّك تفعلها عن قصد حتّى تبدو بطلا يا أيّها الوسيم."
حدّق ذلك الشخص إلى الحاضرين وقال: "يبدو أنّ تجمّعا مثيرا للاهتمام يحصل هنا."
حدّق أمير مملكة الصقيع إليه وقال: "يا خليفة التيّار اللامحدود، هل ستساعدنا أم لا؟"
نظر خليفة التيّار إلى الأمير وقال: "طبعا، طبعا، ألم أفعل هذا قبل قليل؟ الأمر بسيط، أليس كذلك؟ نحن الأبطال، والشياطين هم الأشرار. هيّا، لنفعل هذا."
كان هذا الشخص الوسيم مرحا.
رفع يده كما لو انّه يطلب الإذن للتكلّم وقال: "ولكن قبل ذلك، أخبروني، لقد أتيت إلى هذا المكان بعد بحث طويل، قاصدا أقوى شخص في العالم الواهن، فهل وجدتموه؟"
عبس الآخرون وفكّر كلّ واحد منهم في الشخص الأقوى بهذا العالم. هل هو أحد هؤلاء؟ أمّ أنّه الشخص الذي قيل أنّه التلميذ الثالث للحكيم السياديّ؟
قال التنّين الصغير: "لا أعلم عن ذلك بالضبط، لكن هناك خبر سينال إعجابك يا أيّها الشقيّ. أترى الفتاة التي تحملها الآن؟ يبدو أنّها تلميذة للحكيم السياديّ."
"هاهاها." ضحك خليفة التيّار: "لا تمزح هكذا يا أيّها العجوز، حتّى أنا لن أنخدع هكذا."
نظر خليفة التيّار إلى التنين الصغير والآخرين فوجد نظراتهم في قمّة الجدّيّة، فقال: "بـ-بجدّيّة؟"
لم يجبه أحد لكنّ ذلك كان تأكيدا على سؤاله.
نظر إلى أنمار ثمّ قال: "هل أنت هي أقوى شخص في هذا العالم؟ لا، انتظري، لقد أخبِرت أنّ اسمه باسل. كيف يمكن لتلميذة الحكيم السياديّ ألّا تكون أقوى شخص في هذا العالم الواهن؟ هذا غريب للغاية. هل يمكن أنّك تخفين قوّتك عنهم؟"
تدخّل إبلاس هنا وقال: "ذلك بسيط يا أيّها التيّار، باسل ذلك أيضا تلميذ للحكيم السياديّ."
"هاا؟!"
صاح خليفة التيّار: "هل تخبرني أنّ ذلك العنيد الذي لم يتّخذ سوى تلميذا واحدا طوال الألف السنة الماضية قد جعل اثنين من العالم الواهن تلميذين له؟ هل هذه مزحة القرن؟"
لم يرد على سؤاله أحد مرّة أخرى لكن ذلك كان بمثابة الإجابة.
تدخّل إبلاس وقال: "والآن، دعنا نكمل. أيّها التيّار، يا ترى هل يمكنك حمايتها وحماية الآخرين منّي في نفس الوقت؟"
"هو ليس لوحده،" قال التنّين الصغير بعدما اقترب من خليفة التيّار: "سأساعده في هذا أيضا، فما رأيك الآن؟"
يبدو أنّ التنّين الصغير ترك القوّاس النجميّ يغطّي عنه فأتى إلى هنا حتّى يوازن الأمور.
ابتسم إبلاس وقال: "سيكون هذا صعبا، لكن ليس مستحيلا. ومع ذلك، يمكنني دائما جعل مهمّة الأبطال أصعب ممّا هي عليه. فمثلا، أترى ذلك الجمهور هناك؟ من سيحمي أولئك؟ لديّ شعور قويّ للغاية أنّ أولئك قيّمون لها."
تحرّك إبلاس تجاههم بسرعة كبيرة بينما يضحك.
ظهر أمام الأباطرة الثلاثة والآخرين، فتفاجؤوا كلّهم بظهوره المفاجئ وتراجعوا بضع خطوات للوراء بدون أن يشعروا بذلك؛ كانت تلك غريزة أجسادهم.
نظر بعد ذلك إلى أنمار من جديد وحدّق إلى عينيها مباشرة فابتسم ثمّ غيّر اتّجاه نظره إلى الكبير أكاغي وقال: "أنت، سأبدأ بك أنت."
تسارع التنّين الصغير بعدما حدث هذا مباشرة، فوضع إبلاس يده على رأس الكبير أكاغي الذي لم يستطِع هو الآخرون المقاومة تحت ضغط إبلاس.
ظهرت مطرقة التنّين الصغير بجانب رأس إبلاس، لكنّه كان قد رأى حدوث هذا بالفعل فراوغ واختفى بعدما كان قد تحرّك بسرعة فائقة؛ كان يستخدم فنّه القتاليّ بجانب طاقته الروحيّة.
ظهر هذه المرّة خلف تورتش والآخرين وحمل هذه المرّة شينشي وقال مبتسما: "هل تظنّ أنّه يمكنك هزيمتي في لعبتي الخاصّة؟"
حاول إبلاس الضغط على رأس شينشي لكنّ سهما بسرعة الضوء جعله يبتعد بأقصى سرعة يملك. كان ذلك سهم القوّاس النجمي الذي استهدف رأس شيطان اليأس بالرغم من أنّه كان منشغلا بمواجهة الاثنين المجنّحين في الآن ذاته.
ضحك إبلاس بينما يقول: "أتساءل إلى متى يمكنكم الاستمرار في هذا."
استهدف بعد ذلك عدّة مرّات برودي وتورتش والأباطرة الثلاثة ومن يرافقهم، لكنّ التنّين الصغير والآخرين كانوا يكونون له بالمرصاد في كلّ مرّة.
ومع ذلك، لم يتوقّف إبلاس عن محاولته التي صارت تبدو كما لو أنّ العشرات منها تحدث خلال ثوانٍ فقط من شدّة سرعة إبلاس وأعدائه.
وفي النهاية، وجد إبلاس تلك الثغرة التي كان يبحث عنها، ثغرة لم يظنّ أولئك السحرة أنّهم سيتركونها.
لقد كانت عينا الحقيقة بمقدورهما رؤية الخبايا وتحليل أرض المعركة ورؤية وتوقّع تحرّكات الآخرين، وبالطبع كانت عاداتهم في التحرّك التي حُفِرت فيهم لآلاف السنين ظاهرة له تماما.
بالرغم من أنّ هؤلاء كانوا سحرة روحيّون مهرة للغاية وحرصوا على عدم إظهار خطوتهم القادمة إلّا عند أوان وقتها، لم يستطيعوا خداع عينيْ الحقيقة الخاصّتين بإبلاس.
بدا الزمن بطيئا في عينيْ إبلاس، وأبسط الحركات صارت تصنع مجرى من الطاقة الروحيّة يوحي للخطوة القادمة.
وفي النهاية، كان إبلاس يحمل الكبير أكاغي مرّة أخرى، وهذه المرّة كان الجميع بعيدا عليه وكان له وقت كافٍ حتّى يفعل ما يريد برهينته.
تكلّم إبلاس بينما يحدّق إلى أنمار ويحمل الكبير أكاغي في السماء من رأسه: "انظري إلى عينيه، انظري إليهما تخرجان من مكانهما ببطء شديد بينما أسحق رأسه."
اتّسعت عينا أنمار بشدّة وصرخت مرارا وتكرارا: "توقّف! ألست تريدني؟ ها أنا ذا. فلتأتِ، أعدك أنّني لن أسمح لأيٍ من هؤلاء بحمايتي."
ضحك إبلاس وقال: "إنّك لا تعلمين شيئا عن هؤلاء يا صغيرتي، فهؤلاء سيحمون تلميذة الحكيم السياديّ بعناية شديدة ولو عنى ذلك التخلّي عن حياة أشخاص آخرين لا تزن قيمة حياتهم نفس قيمة حياتك."
"توقّف، أرجوك! إنّه جدّي!"
ابتسم إبلاس وردّ: "نعم، لهذا السبب أنا أفعل هذا، لأنّه جدّك الغالي."
ابتسم الكبير أكاغي في هذه الأثناء وقال بصوت مرتفع: "اسمعي يا صغيرتي أنمار، لقد عاش هذا العجوز بما فيه الكفاية واطمأنّ على مستقبل هذا العالم. إنّني أعلم أنّ ما خلّفته في أيدٍ أمينة، وهذه كانت أمنيّتي منذ أن التقيت باسلنا. عيشي، ابقي على قيد الحياة، ورافقي الشخص الأحبّ إليك في المسار الروحيّ، تذكرّي هذا."
التفت بعد ذلك إلى الجنرال منصف ثمّ قال: "اهتمّ بعائلتنا يا بنيّ."
ابتسم إبلاس وقال: "حسنا، يكفي هذا كـكلمات أخيرة، بورِكت على إكمال المسرحيّة."
ضغط إبلاس بيده على رأس الكبير أكاغي ببطء، فصرخ هذا الأخير بينما يعاني من ألم شديد.
أحسّ بصداع يشقّ الرأس في الأوّل، ثمّ شُقَّت جمجمته حقّا، ثمّ تكسّرت، فانغرست أصابع إبلاس بين فتات العظام ليعصر أخيرا الدماغ، فخرجت عينا الكبير أكاغي من مكانهما.
كانت أنمار تنظر إلى ما كان يحدث مكذِّبة لذلك، ولكنّها كانت تعلم في صميم قلبها أنّ ذلك كان حقيقة.
صرّ الجميع على أسنانهم وصرخوا بعدما كانت أفواههم خرساء.
"الإمبراطور أكاغي!"
"سيّدي الإمبراطور!"
"جلالتك!"
صرخ الجنرال منصف: "لماذا؟ لماذا؟ اللعنة! لقد فعلنا كلّ شيء حتّى لا يحصل هذا. لقد استعددنا جيّدا حتى لا نجد أنفسنا في هذا الموقف، والآن أبي قد مات، اللعنة! أين أنت يا باسل؟!"
صرخوا بكلّ قوّتهم، فقد رأوا شخصا عزيزا على قلوبهم يموت بتلك الطريقة القاسية.
نزلت الدموع من عيني أنمار اللتين تملؤهما الكراهيّة تجاه إبلاس.
اندفعت نحوه بجنون بينما تصرخ: "سأقتلك، سأقتلك، سأذبحك يا أيّها الشيطان اللعين!"
أوقفها خليفة التيّار عن التحرّك ولم تستطِع الإفلات منه مهما حاولت.
"اتركني! اللعنة، لقد قلت لك اتركني حالا!"
قال إبلاس: "أرأيت؟ لقد أخبرتك أنّهم لن يسمحوا بموتك، لكن لا تلوميهم، فليس بيدهم خيار، فهم عليهم الاختيار بينك وبين هؤلاء الذين يُعدّون قمامة مقارنة بك. وأيضا، لا تلومي نفسك، فذلك سيكون غير مثير للاهتمام بتاتا، بل لوميني."
صرخت أنمار: "إبلاس!"
ضحك وقال: "نعم، هكذا. حسنا، حان دور الثاني."
وضع عينيه بعد ذلك على الجنرال منصف.
***
اهتزّ جسد أنمار بشدّة بعدما رأت إبلاس ينظر إلى جهة الجنرال منصف والآخرين وعلمت أنّه سيفعل ما فعل بالكبير أكاغي مرّة أخرى.
صرخت في وجه خليفة التيّار اللامحدود: "اتركني! هل تحرمني من محاولة إنقاذ عائلتي؟ أبعد يديك اللعينتين عنيّ!"
نظر خليفة التيّار إليها بدون الردّ عليها.
"لو نجوتُ اليوم ومات من أعزّ وأنا عاجزة عن فعل شيء بسببكم، فلأنحرّن عنوقكم واحدا بواحد. أفلتني!"
صرخت مرارا بينما تحاول الهرب من قبضة خليفة التيّار، لكنّها لم تستطع الإفلات منه مهما حاولت؛ لقد كان عازما على عدم تركها.
لم يحاول الاعتذار ولم يشعر بالذنب أبدا كما لو أنّه يظنّ أنّه يفعل الشيء الصحيح.
حاول التنّين الصغير منع شيطان اليأس من بلوغ الآخرين، لكنّه كان يفشل في النهاية تماما كما حدث مع الكبير أكاغي، وهذه المرّة كان إبلاس يحمل الجنرال منصف كما فعل مع حماه.
ابتسم إبلاس بينما يقول: "انظري إليه، ها هو الثاني."
سحق
بتلك البساطة، بدون أيّ وزن، بلا قيمة، كـكابوس، مات الجنرال منصف بعدما سُحِق رأسه قبل أن يعلم أنّه قبض عليه من شدّة صدمته بموت الكبير أكاغي.
صرخت أنمار وانهمرت دموعها، لكن إبلاس لم يتوقّف، بل ازداد حماسا مع مرور الوقت بينما يرى عينيْ أنمار تفرغان من الأمل وتمتلئان يأسا.
أشار بإصبعه إلى أخويْ القطع ثمّ قال: "أنتما التاليين."
حاول قادة التشكيل والآخرون مساعدة الكبير أكاغي والجنرال منصف لكنّهم لم يستطيعوا، وهذا لم يتغيّر الآن أيضا، فتوجّب على أخويْ القطع رفقة الآخرين الاعتماد على أنفسهم.
شحنوا طاقاتهم السحريّة وشحذوا أسلحتهم الأثرية، وحاول كلّ شخص منهم اعتراض طريق إبلاس بالرغم من الصدمات التي تلقّوها قبل قليل، إلّا أنّ فارق القوّة كان كبيرا لدرجة لا توصف. لم يكن هناك فرصة لهم في المقاومة أصلا.
حمل إبلاس كلا الأخوين في السماء، كلّ واحد بيد، ثمّ نظر إلى أنمار وقال: "هذا لن ينتهي أبدا حتّى تعلمين أنّني اليأس بحدّ ذاته، حتّى أصبح أنا كلّ ما يجول في خاطرك، حتّى يكون الهدف الوحيد من حياتك هو الانتقام منّي."
"توقّف!"
توقّع الجميع أنّ أنمار ستكون الشخص الذي سيصيح بذلك، لكنّها لم تنطق بشيء.
التفت شيطان اليأس ليجد **** تبدو في الثانيّة عشر من عمرها تحملق إليه بعينين خاليتين من الخوف.
صاح الأخ الأكبر، غايرو: "لماذا أتيتِ إلى هنا يا صفاء؟ عودي من حيث جئتِ حالا!"
ابتسم إبلاس وقال: "ليس جيّدا، ليس جيّدا، أو لم تأتِ كلّ هذا الطريق إلى هنا من أجلكما؟ كيف لكما أن تكونا بهذه القساوة؟ دعونا نستقبلها جيّدا."
صرخت أنمار: "ابتعد عن أخوَيّ!"
نظر إبلاس إليها بعينيْ الحقيقة للحظات طويلة قبل أن يضيق عينيه ثمّ يقول: "هذا... ليس سيّئا، ليس سيئّا. مثير للاهتمام! إنّ هذا العالم الواهن ما يزال يبهرني حقّا."
استغرب التنّين الصغير والآخرون من طريقة تصرّفه قبل أن يسمعوه يكمل كلامه: "من كان ليتوقّع وجود مخلوقا نادرا مثلك هنا؟ متى كان للعالم الواهن معرفة كافيّة حتّى يُصنع فيه هجينا هكذا؟"
عبس القوّاس النجميّ والآخرون بعدما سمعوا ما قاله وحدّقوا إلى صفاء بعناية كما لو أنّهم يحلّلونها بعيونهم الروحية، فوجدوا طاقتها السحريّة غريبة للغاية، إذ كانت كثافتها وكمّيّتها كبيرة جدّا بالرغم من أنّ تلك كانت مجرّد فتاة في الثانيّة عشر من عمرها، هذا بدون ذكر اليشم القرمزيّ الغريب البارز في جبهتها.
حملقت صفاء في هذه الأثناء إلى إبلاس ثمّ شحنت طاقتها السحريّة التي توهّجت بشكل غريب، إذ بدا الأمر كما لو أنّ هناك طاقتيْن سحريّتين متعارضتين لكن منسجمتان في نفس الوعاء.
لم تختلط الطاقتان ببعضهما لكنّ كلّ طاقة دعمت وعزّزت قدرات الطاقة الأخرى فنشأ بسبب ذلك طاقة جديدة تماما تحمل كلا مواصفات الطاقتيْن.
كانت تلك طاقة حياة الساحر، وطاقة حجر أصل الوحوش السحريّة، وكلاهما كوّنا طاقةَ ما كان يُدعى في العوالم الروحيّة بـ'الهجين الروحيّ'.
فتح التنّين الصغير عينيه على مصراعيهما مثل ما فعل الآخرون بعدما كادوا لا يُصدّقون ما يرون.
قال شبح أرض الموتى: "كيف لهذا العالم أن ينجح في صنع هجين روحيّ؟ هذا نادر للغاية حتّى في العوالم الروحيّة ولا يوجد سوى قلّة قليلة من يملك المعرفة الكافيّة من أجل هذا!"
ضحك شيطان اليأس وقال: "لكن ليس ذلك ما فاجأني، فهجين روحيّ ليس بذلك الشيء المميّز بالنسبة لي. ما أثار اهتمامي هو حجر الأصل الموجود فيها."
أعاد الآخرون النظر وركّزا هذه المرّة على الحجر الأصليّ، فتفاجؤوا أكثر من السابق، إذ لاحظوا هذه المرّة ما لم يسبق لهم رؤيته أو السماع به في العوالم الروحيّة.
قال أمير مملكة الصقيع مندهشا: "كيف لهذا أن يكون ممكنا؟ هذا يجب أن يكون مستحيلا. كيف لهم أن ينجحوا في صنع هجين روحيّ بحجر أصل بالمستوى الرابع عشر؟"
علّق القوّاس النجميّ: "من المعلوم أنّ الهجين يُصنع بحجر أصلٍ بالمستوى الأوّل ولا يمكن النجاح في العمليّة أبدا بحجر بمستوى أكبر، ولكن هذا العالم نجح في هذا. هذا يطرح العديد من التساؤلات، وأهمّها حاليا هو من كان وراء نجاح هذه العمليّة أصلا؟"
تمتم الشبح: "هل يمكن أنّ للحكيم السياديّ علاقة بهذا أيضا؟ لو اتّبعنا النمط حتّى الآن فسنجد أنّـ..."
قاطعه التنّين الصغير: "توقّف هناك يا هذا. هل تظنّ أنّ الحكيم السياديّ شخص قد يُقدم على مثل هذا الفعل الشنيع؟"
عبس الشبح لكنّه اتّفق مع التنّين الصغير.
لم يهتمّ إبلاس بمن كان وراء هذا الفعل، بل كان فقط مهتمّا بمتعته الشخصيّة حاليا. قال بينما ينظر إلى صفاء: "هذان سيموتان، ولا شيء سيمنع حدوث ذلك، فما الذي ستفعلينه يا هجينة؟"
انفجرت طاقة صفاء السحريّة الفريدة قبل أن يبدأ شكل جسدها يتغيّر تدريجيّا، إذ نمت عليها قشور صلبة كقشور التنّين، ونما لها ذيل وجناحين فكانت قد صارت تبدو كتنّين اتّخذ هيئة بشريّة.
صُدِم الحاضرون بأجمعهم، ولم يهم إن كانوا سحرة روحيّون أم مجرّد سحرة؛ فالسحرة اندهشوا فقط من مظهر صفاء الحالي والطاقة السحريّة التي انبعثت منها، بينما انذهل السحرة الروحيّون من الشكل الذي تحوّلت إليه وأصله.
بلع الشبح ريقه ثمّ قال: "هل... هل ذلك التحوّل بسبب ددمم التنانين؟!"
عبس التنّين الصغير وردّ بسرعة: "هذا مستحيل. ذلك على الأغلب ددمم الوايفرن، ولكن متى كان للعالم الواهن حجر أصل ودم وايفرن؟ هذا غير طبيعيّ. هذا كثير على أن يكون محض صدفة. فقط ما الذي حدث في العالم الواهن طيلة السنوات الماضية دون علمنا؟"
"حجر أصل ودم وايفرن! هجين روحيّ بحجر أصل وحش الوايفرن ودمه؟" لم يصدّق أمير مملكة الصقيع الأمر كذلك.
اندفعت صفاء نحو إبلاس في السماء بينما تبعث نيّة قتلها وهالتها في كلّ مكان؛ كانت هائجة وغاضبة لدرجة لا توصف. لم يكن أحد ليتخيّل أنّ تلك الطفلة الهادئة يمكنها أن تصير هذا المخلوق المفزع.
ضحك إبلاس وقال: "إنّك في المستوى الرابع أصلا، لكنّ الطاقة السحريّة التي اكتسبتها عند تحوّلك فجأة جعلتك تبلغين المستوى السابع من مستويات الربط، هذا منظر مدهش حقّا."
نظر أخوا القطع إلى وجه إبلاس المتحمّس فـعَلِما ما ينتظر أختهما الصغيرة، لذا صرخ بكلّ ما بوسعهما: "لا تقتربي يا صفاء! ابتعدي! أرجوك استمعي إلى أخويك هذه المرّة فقط. فلينقذها أحد من فضلكم. اللعنة!"
رفع إبلاس يده للأعلى ثمّ استعدّ ليخفضها من جديد حتّى تنفّذ ما خشي أخوا القطع حدوثه.
صرخ كاي: "اللعنة، أين أنت يا أيّها اللعين؟ ألست تتبعها في أيّ مكان؟ ألا يجب أن تكون حاضرا الآن وتمنع موتها؟"
عبس إبلاس كما لو أنّه لاحظ شيئا، وفي اللحظة التالية تغيّر مسار صفاء.
كان المنظر عجيبا، وخصوصا عندما لمح الجميع أنّ هناك شخص يبدو كنسخة كبرى من صفاء بشكلها الحالي.
لقد كان ذلك أوبنهايمر فرانكنشتاين!
ابتسم العالم المجنون وقال بدون مراعاة: "لقد أخبرتكما، أليس كذلك؟ أخبرتكما أنّكما ستندمان على جعلي أبتعد عنها."
بكى الأخوان بعدما تأكّدا من سلامة أختهما أخيرا وابتسم غايرو ثمّ خاطب إبلاس: "بؤسا لك يا أيّها اللعين. لن يسير كلّ شيء كما تريد."
التفت إليه إبلاس ثمّ قال: "هل تظنّني لم أكن قادرا على قتلها فقط لأنّ ذلك الشخص تدخّل؟ أنا فقط أردت رؤية تطوّر الأحداث بظهور الشخصيّة الجديدة."
حدّق أمير مملكة الصقيع إلى العالم المجنون ثمّ قال: "انتظر... انتظر، انتظر، هل هذا هجين روحيّ آخر؟ وبدم الوايفرن؟"
عبس التنّين الصغير وقال بعد فترة طويلة من الحيرة: "هناك اختلاف، فذلك الشخص لا يملك على الأقلّ حجر أصل بداخله كتلك الفتاة."
قال القوّاس النجميّ دون أن يفتح عينيه: "هذا يزيد الأمور تعقيدا فقط. كيف له أن يكتسب تلك الخواصّ إذن؟"
لم يجبه أحد على سؤاله المحيّر.
نظرت صفاء بغضب إلى أوبنهايمر فرانكنشتاين الذي كان يقيّد ذراعيها ويضغط عليها بمستواه السحريّ الذي كان يساوي ضعف مستواها. حاولت الإفلات من قبضتيه بينما تصرخ: "اتركني، يجب عليّ مساعدة أخويّ."
لم يجبها العالم المجنون، وقال غايرو بدل ذلك: "اثبتي في مكانك يا صفاء. اسمعي جيّدا، يجب عليك البقاء هناك مهما حدث. وأنت اسمعني يا أيّها المتربّص، لا تطلق سراحها أبدا. اهرب من هنا حالا."
ضغط إبلاس على رقبة غايرو وقال: "أنا من يحدّد من يمكنه المغادرة أم لا."
ضحك كاي وقال: "لقد أخبرناك، لن نجعل الأمور تسير كما تريد."
ابتسم إبلاس وقال: "لا، في الواقع، لقد قرّرت إعادة الترتيب. سأقتلكم وأجعلها تشاهد هذا قبل أن أقتلها وأجعل ذلك الشخص الذي ظهر يشاهد هذا. هذا سيكون ذلك مثيرا للاهتمام أكثر."
بدأ إبلاس يضغط على رأسيهما في نفس الوقت، فصرخ الأخوان بشدّة من قساوة الألم. صرخ غايرو في نفس الوقت: "تذكّري يا صفاء، لا تثقي في أيّ أحد سوى من وضعنا نحن ثقتنا فيه."
صرخت صفاء وثابرت حتّى تتحرّر لكنّها لم تنجح. نظر أوبنهايمر فرانكنشتاين إلى الأخوين مرّة أخيرة قبل أن يهمّ مغادرا كما أُخبِر.
سُحِق رأسا أخويْ القطع في الآن ذاته فانتهت معاناتهما، فانهمرت الدموع من عينيْ صفاء بينما تضرب العالم المجنون بجنون.
"لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لقد أخبرتك أن تتوقّف، قلت لك حرّرني. إنّهما عائلتي الوحيدة. لقد كانا عائلتي الوحيدة. سأقتلكم! سأقتلكم!"
لم يتوقّف العالم المجنون بالرغم من كلّ هذا، لكنّه توقّف أخيرا وذلك لأنّ شيطان اليأس ظهر أمامه.
تفاجأ العالم المجنون لأنّه كان واثقا في سرعته المدهشة إلّا أنّ إبلاس تفوّق عليها بكلّ بساطة.
أشار إبلاس إلى صفاء وقال: "لقد حان دورها الآن."
عبس العالم المجنون وقال: "لن أسمح بذلك."
اختفى إبلاس قبل أن يظهر أمام أوبنهايمر فرانكنشتاين، فحاول هذا الأخير التراجع إلّا أنّه علم أنّ الأوان قد فات وأنّ صفاء ستُؤخذ منه ليشاهد موتها.
وفي تلك اللحظة، ظهرت المطرقة 'ميولنير'، لكن هذه المرّة ظهر معها صاحبها الذي لوّح بها فنزلت صاعقة من السماء مصحوبة بهدير رعد هزّ الأرض المباركة. لم يحدث لإبلاس شيئا بالرغم من أنّه تلقّى تلك الصاعقة، لكنّها أجبرته على التراجع.
تكلّم التنّين الصغير بعدما جعل إبلاس يتراجع: "لقد قرّرت. هذان يعودان لي الآن."
تكلّم العالم المجنون فجأة: "لست أعود لأحد يا عجوز، وهذه الفتاة تعود لي أنا."
"هذا يا هذا♪" ضحك التنّين الصغير: "إذن، هل يمكنك حمايتها وحماية نفسك ضدّه؟"
قطب العالم المجنون لكنّه لم يستطِع الردّ على ذلك السؤال.
قال إبلاس: "هل يمكن أنّك نسيت أنّه يمكنني جعلك تلاحقني في الأرجاء مرّة أخرى بلا فائدة قبل أن أمسك بفريستي في نهاية المطاف؟"
استنكر التنّين الصغير كلام شيطان اليأس وقال: "ألاعيبك تنتهي هنا. لقد قرّرت أخذ هذين، ولن أسمح لك بمسّهما."
"جيّد، جيّد!" ضحك إبلاس بصوت مرتفع وقال: "هل تلمّح إلى أنّك لم تعد مهتمّا بما قد يحلّ بالآخرين طالما يمكنك حماية هذين؟"
لم يجبه التنّين الصغير ونظر إلى الشروخ الفضائيّة التي أتوا منها وقال: "أنا فقط أظنّ الوقت لألاعيبك لن يكون متاحا لفترة طويلة. هل تظنّ أنّ مكوثنا هنا غير مقيّد؟"
نظر إبلاس إلى الشروخ الفضائيّة وقال: "بالطبع لا أظنّ ذلك. لقد علمت منذ قدومنا إلى هنا أنّ هذه الممرّات الشاذة ستُقفل بعد فترة بعدما يستقرّ الختم الذي وضعه ذلك اللعين. ولكن هذا لا يهمّ، ما زال هناك وقت كافٍ لي."
صاح التنّين الصغير: "هل سمعتم يا رفاق؟ علينا المماطلة فقط حتّى يحين أوان المغادرة."
أومأ الأربعة الآخرون له.
تحرّكت الملكة الشريرة وخادمها وفيّ الذي يقبض شيرايوكي بعدما بدت كما لو أنّها قد رأت ما يكفي، ونوت المغادرة.
كان الحال نفسه مع عنقاء الشفاء، لكنّها اتّجهت نحو مجموعة الإمبراطورين. كان نظرها يركّز على الشخص الذي ظهر متأخّرا. لقد كانت تراقب هيل، ساحر العلاج من إمبراطوريّة الأمواج الهائجة.
لم تضع عنقاء الشفاء أيّ أحد في عين الاعتبار ولم تسمح لأّي شخص بالوقوف في طريقها قبل أن تقبض على هيل وتقيّده كما فعلت لشي يو بقيد روحيّ حولهما.
التفتت إلى جهة التنّين الصغير وإبلاس ثمّ همّت مغادرةً بعدما حقّقت هدفها.
صرخ تورتش: "انتظري أيّتها اللعينة! أين تظنّين نفسك ذاهبة؟ أعيديهما إلى هنا."
حاول الذهاب إليها لكنّ خليفة التيّار اللامحدود اعترض طريقه فصاح تورتش: "ماذا؟ هل ستعترض طريقنا مرّة أخرى؟ هل حقا تريد منّا المكوث هنا دون فعل شيء؟"
حملق خليفة التيّار إليه وقال: "لا يمكنني السماح بفقدان التوازن الحاليّ وإلّا ستموتون كلّكم هنا." أشار إلى إبلاس وقال: "لو سمحت لك بالمغادرة، فسيتلاعب ذلك اللعين بنا كما يشاء."
صرخ تورتش بعدما فقد رشده: "هل تظنّني أهتمّ بهذا الآن؟ ابتعد عن الطريق اللعين وإلّا أقسم لكم أنّني سأجعل حياة كلّ واحد منكم جحيما ولو مرّ على هذا آلاف السنين."
لم يتكلّم خليفة التيّار بعد ذلك وقيّد جماعة أنمار فقط منتظرا نهاية هذا الأمر.
غادرت الملكة الشريرة وخادمها بصحبة شيرايوكي، فصرخ الإمبراطور هاكوتشو: "ما الذي تفعلانه بأخذكما لأختي الصغيرة؟"
انطلق برفقة بعض السحرة الذي رافقوه إلى هنا، وبالرغم من أنّهم لم يكونوا جنرالات كانت مستوياتهم مرتفعة، إذ كان أضعف واحد منهم بالمستوى العاشر.
حملقت الملكة الشريرة إليهم ثمّ نظرت بعد ذلك إلى خادمها وفيّ الذي أومأ رأسه بعد رؤية عينيها وقال بعدما انحنى واضعا يده على صدره: "كما تتمنّين يا ملكتي."
التفت الخادم وفيّ إلى الإمبراطور هاكوتشو الذي يلاحقه برفقة الآخرين، وقال: "تراجعوا حالا. لا أضمن نجاتكم إن اقتربتم أكثر."
صرخ الإمبراطور هاكوتشو: "ما الذي تتحدّث عنه يا هذا؟ ما بالكم يا جماعة؟! كلّكم تتوقّعون منّا عدم رفع إصبع واحد بينما نشاهد أحبّاءنا يُخطفون!"
حدّق الخادم وفيّ إليه غير مهتمّ بكلامه، فلمحت شيرايوكي تلك النظرات على محياه فإذا بها تصرخ بكلّ ما تملك: "أخي الكبير، تراجع من فضلك! لا تأتِ، رجاءً!"
توقّف الإمبراطور هاكوتشو فجأة: "ما الذي تتحدّثين عنه؟ هل غسلوا دماغك ربّما؟ ما الذي فعلتماه لها يا أيّها..."
قاطعته شيرايوكي: "لم يفعلا شيئا يا أخي. لقد رأيت ما حصل للآخرين على يد ذلك الشيطان، وهؤلاء لا يختلفون عنه كثيرا. أنا لا أريد منكم أن تموتوا هباءً."
كان الإمبراطور حزينا للغاية. لقد كان كلام أخته الصغرى صحيحا، لكنّه لم يستطِع تقبّل الواقع: "ولكن..."
"أرجوك!" صرخت شيرايوكي: "لا أعلم ما الذي يريدونه منّي؟ لكنّني أعلم أنّهم سيقتلونكم لو اقتربتم أكثر. دع الأمر وشأنه. أرجوك استمع لي وعدّها أمنيتي الأخيرة لك."
نظر الإمبراطور إلى شيرايوكي لوقت طويل ثمّ أحكم القبض على سيفه الأثريّ ولم يقل شيئا. لم يستطِع أن ينبس ببنت شفة؛ لقد كانت أخته محقّة، لكنّه شعر أنّه عليه الذهاب إليها مهما كلّفه الأمر.
حدّق الخادم وفيّ إليه لبعض اللحظات قبل أن يستدير ليغادر.
صرخ الإمبراطور هاكوتشو: "تذكّروا كلّكم، سيأتي الوقت الذي ينتقم فيه عالمنا من كلّ شروركم اللعينة. تذكّرا أنتما، سأنقذ أختي الصغرى وأعيدها إلى هنا، وذلك بعد أن أدمّركما تماما. تذكّرا هذا، اللعنة!"
انهمرت الدموع من عينيه وخارت قواه بسبب الحقيقة القاسيّة؛ لقد كانوا ضعفاء للغاية مقارنة بهؤلاء.
اقتربت عنقاء الشفاء من الشرخ الفضائيّ الذي أتت منه، فتمتمت: "يبدو أنّ الممرّ ما زال مستقرّا حتّى الآن ولن يشكلّ خطرا كبيرا عليهما."
التفتت بسرعة كبيرة ثمّ دافعت بذراعها في آخر لحظة قبل أن تصدمها ذراع أخرى على وجهها.
قطبت عنقاء الشفاء وقالت: "هل تنوي التدخّل في أموري يا أيّها الشقيّ اللعين؟"
ابتسم إبلاس وقال: "لقد أخبرتك، لا أحد سيغادر هذا المكان إلّا بعد إذني، والذي لن أمنحه لأحد حتّى أكتفيَ تماما."
حملقت العنقاء إليه وقالت: "هل تظنّ أنّك قادر على منعي؟"
أمال إبلاس رأسه وأجاب: "لوحدك؟ لديّ تمام الثقة في ذلك."
أحاطها اللهب وتراقصت الشعلات حول جسدها وثارت طاقتها السحريّة واندفعت إلى السماء كبركان منفجر.
"لن ألعب معك لعبة المطاردة هنا." حملقت إلى إبلاس وقالت: "كن على استعداد للموت."
ابتسم إبلاس وقال: "لنفترض أنّه يمكنك قتلي، فهل يمكنك فعل ذلك بينما تحمينهما يا ترى؟"
ضاقت عينا العنقاء أكثر لمّا سمعت ذلك وحرصت على شي يو وهيل أكثر. لقد كانت تعلم كيف تسير ألاعيب هذا اللعين أمامها.
قالت بصوت بارد: "يبدو أنّ ملككم اللعين سيحتاج للبحث عن مدبّر حروبٍ آخر."
ردّ عليها إبلاس: "لا تقلقي، لا يمكنني رؤية نفسي أموت اليوم إطلاقا."
كانت رؤية إبلاس للأمور عميقة للغاية بسبب امتلاكه عيني الحقيقة، ولهذا كان لكلامه وزن كبير عندما قال أنّه لا يرى قدوم موته اليوم.
مرّت بعض اللحظات، وفقط عندما اقترب الاثنان من الاشتباك معا استشعرا، كما استشعر الآخرون، اقتراب شخصين يبعثان طاقة رهيبة عمدا كما لو أنّهما يخبران الجميع: "نحن قادمان."
حدّق إبلاس إلى تلك الجهة فاتّسعت عيناه الصفراوين وقال متحمّسا للغاية: "هذا... جيّد جدّا، جيّد جدّا!"
استطاع الآخرون معرفة هويّة الشخصين القادمين بعد لحظات، فقال التنّين الصغير: "هذا يا هذا♪ من كان يتوقّع ظهور شخصيّة كهذه هنا؟ وأنا الذي ظننت أنّه لا أحد من 'الطاولة المستديرة' سيظهر."
ترقّب الجميع وصل ذينك الاثنين، ولمّا ظهرت صورتهما علّق إبلاس: "هذا يوم عظيم! لقد كنت أريد مقابلتك حقّا في الآونة الأخيرة. إنّ هذا العالم الواهن رائع حقّا؛ ها أنا ذا ألتقيك أخيرا يا أيّتها الملاك ملاك."
كان ذلك الشخصان امرأة ورجل، وكان إبلاس يخاطب المرأة التي كان قوامها مثاليّا رفقة وجهها الناضر الذي أنار بجماله المكان الذي حلّته. كان شعرها الطويل يبدو كتدفّق من الحبر الأسود الذي لم تشُبْه شائبة.
لقد كانت هذه هي المرأة التي اشتُهِرت باكتسابها لمقعد في 'الطاولة المستديرة' بكلّ جدارة واستحقاق، وذاع صيتها كواحدة من بين أجمل عشر نساء في العوالم الروحيّة. تلك كانت الملاك ملاك!
نظرت الملاك ملاك إلى إبلاس ثمّ قالت: "إنّه لأمر محزن أن ينجح أمثالك في الوصول إلى هذا العالم الواهن. ما الذي أتيت لفعله هنا يا شيطان اليأس؟ ألا يجب أن تكون منشغلا بدراسة ختم ملكنا الأصليّ برفقة ملككم اللعين؟"
ابتسم إبلاس وقال مستمتعا: "أنا في عطلة. ألا تسافرين في عطلك يا ملاك؟"
أغمضت عينيها وقالت: "اعفني من هذا يا هذا. ليس هناك خير في عطلك. دعني أسألك، ما الذي تنوي فعله؟ وقبل ذلك، ما الذي فعلته حتّى الآن؟"
ابتسم إبلاس وقال: "هل أنت حقّا بحاجة للسؤال؟ أليس ذلك واضحا؟ أنشر اليأس بالطبع."
بدا إبلاس مستمتعا بكلامه مع هذه المرأة، ونسي أمر عنقاء الشفاء كما لو أنّها لم تكن هناك أصلا، وعندما تذكّرها أخيرا لوّح بيده وقال: "آه، أنت... انصرفي، انصرفي. إنّني لست مهتمّا فيك بعد الآن."
حملقت عنقاء الشفاء إليه بحقد شديد قبل أن تهدأ عندما فكّرت في استغلال هذه الفرصة وتهمّ مغادرة كما فعلت الملكة الشريرة.
حاولت أنمار والآخرون فعل ما بوسعهم من أجل إنقاذ شيرايوكي والآخريْن لكنّ النتيجة كانت متوقّعة؛ لم يستطيعوا الفرار من قبضة مجموعة التنين الصغير التي كانت تحميهم وتمنعهم من محاولة حماية أعزّ الناس إليهم.
لم تتوقّف دموع الإمبراطور هاكوتشو بينما كان يرى أخته الصغرى تختفي في الأفق، وصر على أسنانه وعض شفّته السفلى وتذوّق دمه ثمّ صرخ: "اللعنة!"
كانت عنقاء الشفاء هي أوّل شخص يغادر هذا العالم، فصرخ تورتش والآخرون وعيونهم ممتلئة بالكره والحقد تجاه كلّ شخص هنا. لم يهتمّوا إن كانوا يفكّرون لمصلحتهم أم لا، فهؤلاء كلّهم لخبطوا حياتهم في فترة وجيزة للغاية.
بالفعل، كلّ هذا حدث في وقت لا يتجاوز الساعتين، لكنّه كان متخِما كثيرا.
نظر إبلاس إلى الملاك ملاك ثمّ قال: "حسنا، إليك آخر الأخبار. أترين تلك الفتاة الشقراء هناك؟ تلك الفتاة تلميذة لِـحكيم."
عبست الملاك ملاك مباشرة بعدما سمعت إبلاس ينطق الاسم 'حكيم' ثمّ قالت: "تلميذة إدريس؟ كيف... انتظر، هل يمكن أنّه كان هنا طوال الوقت؟"
ابتسم إبلاس وقال: "نعم كان، لقد كان هنا."
عبس القوّاس النجميّ بعد سماع هذا الكلام، وفعلت الملاك ملاك نفس الشيء، إلّا أنّ هذين الاثنين كانا يفكّران في شيئين مختلفين تماما.
تسارعت ضربات قلب القوّاس النجميّ وتذكّر عندما قال إبلاس تلك الجملة: "هل حقّا كنتم حلفاء؟"
لقد سمع إبلاس يكرّر نفس طريقة الكلام، إذ قال 'كان' كلّما تحدّث عن الحكيم السياديّ.
ولكن في الجهة الأخرى، كانت الملاك ملاك تظنّ أنّه يقصد أنّ إدريس لا يوجد بعد الآن في هذا العالم، وهذا ما ظنّه الآخرون أيضا.
قالت الملاك ملاك بنبرة متعالية: "أخبرني أين هو الآن؟"
بدا إبلاس كما لو كان يعلم موقع إدريس الحكيم، فأرادت أن تعلم أين، إذ غاب لسنوات بالفعل.
ضحك إبلاس وقال: "كيف يمكنني قولها؟ أممم... البرزخ؟"
فتحت الملاك ملاك عينيها على مصراعيهما وقالت بعدما ضيّقتهما من جديد: "لطالما أردت قول هذا لك يا شيطان اليأس؛ إنّ مزحك سيّئة للغاية. حاول أن تعمل على تحسينها ولربّما ستجد بعض المعجبين بك."
ضحك إبلاس أكثر فأكثر بدون توقّف لمدّة طويلة، بينما زادت سرعة ضربات قلب القوّاس النجميّ، واعتلت نظرات الاستغراب الآخرين.
قال إبلاس بعدما وازن تنفّسه بعد ضحكه الشديد: "بالطبع ستكون سيئّة، لأنّها ليس مزحة أصلا."
قالت الملاك ملاك واثقة: "إن كنت تحاول القيام بألاعيبك هنا، فلا تحاول أكثر من هذا. لقد فشلتَ."
تنهّد إبلاس وقال: "هذا يؤلم حقّا يا ملاك. لقد ظننت أنّ كلماتي لها وزن."
ردّت الملاك ملاك عليه: "التفاهة لا تزن شيئا."
"ليس جيّدا، ليس جيّدا، كان حكيم ليصدّقني؛ لطالما صدّقني عندما صدق كلامي."
التفتَ إلى أنمار وقال: "حسنا، لمَ لا نجعل تلميذته تؤكّد الأمر؟"
حدّق الجميع إلى أنمار وانتظروا كلمة منها بفارغ الصبر، إلّا أنّها لم تقل شيئا ونظرت إلى الأسفل فقط بعدما تذكّرت موت معلّمها. لقد كانت حالتها مزريّة لكنّها أجبِرت على تذكّر أنّ الشخص الي أدّى إلى موت معلّمها هو نفس الشخص الذي قتل أعزّاءها، فلم يسعها سوى أن تُحبَط أكثر بينما تحاول حبس دموعها.
"هذا...!" قال التنّين الصغير بنبرة متفاجئة بعد استجابة أنمار بتلك الطريقة: "ما الذي يعنيه صمتها هذا؟ هذا غير معقول! هل... هل حقّا مات الحكيم السياديّ؟!"
تسارعت نبضات قلب كلّ واحد منهم، فقال شبح أرض الموتى: "متى؟ أين؟ كيف؟!"
صرخ أمير مملكة الصقيع: "ما الذي تعلمه عن هذا يا أيّها الشيطان اللعين؟"
ضحك إبلاس وقال: "ما الذي أعلمه؟ هذا مضحك حقّا. هل تدرك أنّك تسأل الشخص الذي قتل حكيم؟ ألم تستطِع فهم هذا من كلّ التلميحات من المحادثات السابقة؟"
صرخ خليفة التيّار: "لا تهرأ يا لعين! لم يكن ذلك العنيد ليخسر أمامك ولو بعد مليون سنة."
ابتسم إبلاس وقال: "للأسف، لقد خسر بالفعل."
ظلّت الملاك ملاك تحدّق إلى إبلاس بنظرات ممتلئة بالشكّ. لقد سمعت للتوّ خبرا صادما بالنسبة لها للغاية. لقد صُدِمت لدرجة لم ترد فيها التصديق فقالت: "هذا مستحيل. إنّك مخطئ لو لم تكن تكذب."
نظرت إلى أنمار وقالت: "وتلك، حتّى لو كانت تلميذة إدريس كما قلت، أنا متأكّدِة أنّها مخطئة فقط. إدريس حيّ لا محالة."
حملق إبلاس إلى وجهها البشوش الذي اعتلته نظرات الشكّ والتكذيب، وقال: "هذا يكفي. لقد حدث هذا بعد فسخ الاتّفاقيّة بين ملكنا العظيم وملككم المزيّف. زرت ها العالم فوجدت حكيم هنا، وبالطبع تقاتلنا كأيّ مرّة نلتقي فيها، إلّا أنّني كنت مقرّرا منذ زمن طويل أنّ المرّة القادمة التي سألتقيه فيها ستكون آخر مرّة بعدما يموت على يدي."
تنفّست الملاك ملاك بسرعة كبيرة واستمرّت في الصراخ: "توقّف عن قول الهراء. إنّك تفعل هذا فقط لأنّك تعلم عن علاقتي بإدريس. إنّك فقط تريد رؤية النظرات التي تعشقها تعتلي وجهي."
ردّ إبلاس: "بالطبع أريد رؤيتها، لكنّني أعلم أنّ الخدع لن تنطلي على شخص بمستواك. الحقيقة فقط ما يمكنها التأثير."
أكمل إبلاس بعد استراحة قصيرة: "لقد مات من أجل أن يحمي تلميذيْه. هذا من شيمه حقّا. أوه أجل، هناك تلميذ آخر أيضا، ويبدو أنّ حكيم يفضّله بشكل خاصّ."
كانت كلّ هذه المعلومات كثيرة للغاية على الملاك ملاك التي ظهرت لتوّها، وبالطبع لم تكن سهلة على الآخرين أيضا.
ولكن لا أحد من هؤلاء صُعِق بهذا الخبر مثل الملاك ملاك، إذ كانت علاقتها بإدريس الحكيم قريبة للغاية، حتّى أنّ العديد اعتقدوا أحيانا أنّهما كانا متزوّجيْن.
لقد كانت الملاك ملاك هي المرأة التي وقع إدريس الحكيم في حبّها.
***
حلّلت الملاك ملاك مصداقيّة كلام إبلاس فوجدتها كاملةَ الصدق، لكنّها لم ترد الاعتراف بالأمر وتقبّل حقيقة موت إدريس الحكيم؛ فهي كانت تعتقد أنّه ما تزال هناك احتمالية أن يكون شيطان اليأس مخطئا.
قالت: "لربّما تكون تلك الفتاة تلميذته، ويمكنني التأكّد من صحّة هذا بسرعة كبيرة، لكنّ موت إدريس لا يوضع في عين الاعتبار حتّى. لا أعلم أين هو الآن، لكنّني أومن أنّه حيّ يرزق."
تنهّد إبلاس وخاب ظنّه بعد سماعها ثم قال: "لا بأس، سيكون عليّ الصبر لوقت أطول فقط ريثما تعلمين أنّ ما قلته حقيقة."
"والآن،" أكمل إبلاس بعدما نظر إلى أنمار: "بالرغم من أنّني قتلت بعض الأشخاص الذين تعزّهم تلميذة حكيم تلك، فإنّي ما زلت أرى نورا في عينيها له مصدر آخر."
عبست الملاك ملاك وقالت: "هل ستفعل هذا حقّا؟ هل تنوي تركها في الظلمة فقط؟"
ابتسم إبلاس وردّ: "ذاك صحيح. عندما تغمرها الظلمة كلّيّا، لن تعلم أيّ طريق تتبع، فأكون أنا الشعلة التي تقودها عبر طريق واحد – طريق الانتقام منّي. سأكون أنا حينئذ بوصلة مسارها الروحيّ."
رفعت الملاك ملاك حاجبها وقالت: "وهل تظنّني سأسمح لك بذلك؟ إن كانت تلك تلميذة إدريس فعلا، فهي من دون شكّ ابنته الروحيّة. هل اعتقدت لوهلة أنّني سأترك ابنة إدريس تقع في الظلمات بينما أشاهد بصمت؟"
ضحك إبلاس وردّ: "بالطبع لا، ولكن ذلك بالضبط ما أحتاج منك أن تفعليه، لأنّ هذا سيكون مملّا بدون القليل من التشويق."
أوووم
ضجيج
استشعر إبلاس والملاك ملاك فجأة طاقات بعض الأشخاص الروحيّة التي كانت قادمة من مختلف الجهات، وعندما ظهر أولئك أخيرا اتّضح أنّهم كانوا بشرا وشياطين وآخرين من متخلف الأعراق.
كان هناك مخلوقات كالبشر لكنّ بشرتهم بدت شاحبة كما لو أنّها صنِعت من الثلج. كان هناك جنّ الغاب كـ'عنقاء الشفاء' وأقزام كـ'التنّين الصغير'، وكان هناك 'عفاريت' و'بشر متوحّشون' كـ'المستذئبين' والسحالي البشريّة والثيران البشريّة وأعراق أخرى.
قال إبلاس بعدما رأى تلك التجمّعات في مختلف الأنحاء: "يبدو أنّ الأمر سيزداد تعقيدا. أتساءل الآن إذا كان بإمكان بعض الأشخاص حماية من يريدون حمايتهم."
نظر بعد كلامه ذاك إلى التنّين الصغير والآخرين وأكمل: "لقد قمتم بعمل جيّد حتّى الآن، لكن أظنّ أنّ دفّة الأمور غدت تسير في صالحي كلّيّا الآن."
صرّ التنّين الصغير على أسنانه بينما ينظر إلى كلّ من ظهر. لقد كان أولئك أشخاص مهمّين من العوالم الروحيّة، ولم يبدُ أنّهم قدموا ليقدّموا لهم المساعدة، بالرغم من أنّ بعضهم كان بشرا.
فهناك العديد منهم من كانوا أعداء للشياطين، إلّا أنّهم لم يلقوا بالا لذلك حاليا وكلّ ما شغل بالهم كان الحصول على مواهب جيّدة والعودة إلى أوطانهم. كان الكثير منهم يفكّر في مصالحهم الشخصيّة فقط.
صاح إبلاس: "مرحبا بالضيوف الكرام. لندخل في صلب الموضوع. سأجعل من عملكم أقلّ شقاوة، ويمكنكم شكري بفعل ما تشاؤون فقط."
علمت مجموعة التنّين الصغير نيّة شيطان اليأس. لقد كانت الفوضى هي هدف إبلاس. لم يهتمّ أبدا بأيّ طرف سينحاز إليه هؤلاء طالما تعمّ الفوضى.
أشار إلى جهة أنمار: "أترون تلك الجماعة هنا؟ تلك المواهب هناك تُعدّ أفضل المواهب في هذا العالم. هناك أيضا تلك الهجينة الروحيّة والمخلوق النادر معها. لقد أتيتم في الوقت المناسب حقّا. لقد كان أولئك ينوون سرقة هذه المواهب كلّها والهرب بها قبل أن تأتوا حتّى."
عبست مجموعة خليفة التيار، والذي قال: "هذا اللعين! إنّه ينوي استخدام الفوضى لمصلحته. إذا عاث أولئك فسادا هنا، فلن يستطيع أيّ أحد رؤية مجرى الأمور إلّا شيطان اليأس الذي يملك عيني الحقيقة."
التفت خليفة التيّار إلى القوّاس النجميّ وقال: "هل تعتقد أنّه يمكنك رؤية مآل الأمور مثله؟"
ردّ القوّاس النجميّ: "ذلك مستحيل. لقد كان الحكيم السياديّ هو الشخص الوحيد في هذه العوالم من يمكنه منافسة شيطان اليأس في هذا المجال. أستطيع أن أركّز على هدف محدّد ولا يمكنني رؤية ما يمكن وصفه بـ'مجرى الأمور' مثلهما. إنّه لا ينادى بـ'مدبّر الحروب الشيطانيّ' من فراغ."
"اللعنة!"
تكلّم التنّين الصغير: "يجب أن نرحل حالا."
اتّفق الجميع معه واستعدّوا للمغادرة ولم يهتمّوا لإرادة أنمار والآخرين. لقد كانوا يعلمون أنّه عليهم الإسراع وإلّا فقدوا هذه المواهب العظيمة لأشخاص آخرين، ولربّما للشياطين حتّى.
توقّفت مجموعة التنين الصغير فجأة، وكان ذلك بسبب عدد السحرة الروحيّين الذي أحاطوهم من كلّ زاوية.
تكلّم رجلٌ سحليّة بدا أقرب إلى تنين بشريّ وصفا: "هذا غير جائز يا أيّها التنين الصغير."
أكمل بعده رجل ثور: "لم التسرّع؟ أو ليس 'تحوّل العالم الروحيّ' حدثا يجب فيه إظهار الإخلاص والاحترام؟"
أضاف أحد آخر امتلك جلدا أزرق وقرنين كقرنيْ الثور: "لقد كنت أعتقد أنّنا، نحن الشياطين، من كان وقحا وغير عادل. والآن، انظر إلى هذه الحثالة تحاول سرقة سلعتنا أمامنا."
اسودّت وجوه مجموعة التنّين الصغير وجعلت نيّات قتلهم الجوّ ثقيلا للغاية، حتّى أنّ مجموعة أنمار كانت بالكاد تتنفّس.
تجاهل التنّين الصغير هؤلاء ونظر إلى بعض الأقزام والبشر ثمّ قال: "ما الذي تظنّون أنفسكم فاعلين؟ هل تتّكئون على أكتاف الشياطين الآن؟"
داعب قزم لحيته وردّ بنبرة حادّة: "اللعنة على الشياطين. أنا فقط أريد بعض الموارد الجيّدة. في مثل هذه الأوقات، صقل المواهب ضرورة قصوى إن أردت النجاة. كيف يمكننا السماح لك بأخذهم هكذا؟"
نظر التنين الصغير إلى جهة البشر فقال أحدهم: "نفس الرأي. لا نعلم متى ستفتح العوالم مرّة أخرى، لذا هذه فرصتنا الأخيرة في تقويّة أنفسنا. مواهب كهذه محدودة في العوالم كلّها. فكما تعلم، قليل من السحرة يبلغون المستويات الروحيّة، وقليل من السحرة الروحيّين يمتازون بالجدارة لبلوغ المستويات العليا. قد تمرّ مدّة طويلة للغاية قبل أن نحصل على موهبة تصل إلى نطاق أرض العالم حتّى، وهذا سيعود علينا بالضرر. ستنمو قوّات أخرى بينما تضعف قوانا."
نظر أمير مملكة الصقيع إلى بعض الأشخاص الذين كانوا متجمّعين حول بعضهم، وتميّزوا كلّهم بأرديتهم التي كانت تبدو كأنّها مصنوعة من الجليد.
لقد كان هذا هو عرق إنس الثلج، وقد قيل أنّ دمهم اختلط بدم الجنّ واكتسبوا خواصّ الجليد والثلج ونشؤوا كعرق جديد. كان أمير مملكة الصقيع شخصا من هذا العرق، وحاول تسويّة الأمور مع الأشخاص من عرقه.
خاطب امرأة برداء أبيض ناصع جعلت الجوّ حولها باردا: "يا فويومي، تعالي إلى جانبنا. ألا تعلمين أنّ مساعدتي تمثّل مساعدة عالمنا؟"
غطّت فويومي فمها بكمّها ونظرت شزرا إلى الأمير: "يا! انظر إلى هذا الطفل اللطيف يظنّ نفسه حاكم العالم فقط لأنّه أمير مملكة الصقيع. كيف لك أن تلمّح إلى أنّك تمثّل عالمنا كلّه؟"
تنهّدت وأكملت: "أصلا، الآن بما أنّ العوالم قد ختمت، كل شخص سيصير أكثر حذرا من باقي الممالك والإمبراطوريّات في عالمه الخاصّ، فلمَ عليّ أن أقدمّ لك المساعدة فقط لأنّك من عالمي؟ تعلّم التواضع قبل أن تتحدّث معي يا فتى."
لقد كانت نبرة أمير الصقيع متعالية، حتّى أنّه بالفعل لمّح إلى أنّ مملكته تمثّل عالمه. وفي الجهة الأخرى، كان واضحا أنّ فويومي لم تضعه في عين الاعتبار، لا هو ولا مملكته برمّتها.
نظر باقي مجموعة التنين الصغير إلى الآخرين لكنّهم علموا أنّ إجاباتهم ستكون نفس الإجابات السابقة، لذا لم يحاولوا أن يسألوا حتّى.
اسودّ وجه التنّين الصغير فقال: "هذا يا هذا. فليكن. كلّ شخص يحصد ما يزرع، فلا تلوموني."
كان التنّين الصغير متحسّرا، لأنّه كان قريبا من الملك الأصليّ، وعلم أنّ الملك الأصليّ لم يكن ليريد حصول مثل هذه الخلافات بين أشخاص يُفترض بهم أن يكونوا قوّة موحّدة ضدّ الشياطين وحلفائهم.
أجاب القزم الآخر مرّة أخرى: "انظر، انظر♪ ضربني وبكى فسبقني واشتكى. لا يمكن للسخافة أن تبلغ علوّا أكثر من هذا!"
عمّ الصمت بعد ذلك للحظات بدت كالدهر، قبل أن ينطلق فجأة الأشخاص المحيطين بمجموعة التنين الصغير من كلّ جهة.
هاجت الطاقات الروحيّة وأصبح التنفّس أصعب بكثير على أنمار والآخرين، ولولا حماية مجموعة التّنين الصغير لماتوا فقط من تلك شرارات الطاقات الروحيّة الهائلة. احتدّت المعركة مباشرة بعد بدئها بين مجموعة التنين الصغير وأعدائهم.
التقت اللكمات والركلات التي زلزلت الأرض وفجّرت الجوّ كالرعد. كان همّ مجموعة التنين الصغير هو حماية مجوعة أنمار والمغادرة من هذا العالم في أقرب وقت.
ضحك إبلاس بينما يشاهد هذا المنظر مستمتعا بما آلت إليه الأمور. لقد كان كل شيء يسير كما يريد.
استدار ثمّ حدّق إلى الملاك ملاك التي وجدت نفسها برفقة الرجل الذي معها محاصريْن من كلّ الجهات. كان هناك دزينة من الشياطين تحيطهما، حاملين الكراهيّة الخالصة في أعينهم. كانت جلودهم حمراء أو زرقاء أو سوداء وامتلك بعضهم قرونا وبعض آخر أذيال. كان من بينهم أشخاص ببشرة بيضاء أو بألوان أكثر غمقا كالبشر لكنّ حدقات أعينهم كانت تشعّ بألوان مختلفة مع اسوداد ما يفترض أن يكون بياض العين.
"كيكيكي!" قال أحدهم بعدما ضحك بقذارة: "من كان يظنّ أنّنا سنلتقي بالهجينة اللعينة هنا؟ هذه فرصة لا تُعوّض للقضاء على واحدة من الطاولة المستديرة. كيكيكي!"
"فوفوفو!" قال شيطان آخر: "لا تضغط على الوتر الحسّاس، فالمسكينة قد عانت حياتها كلّها فقط لأنّها هجينة."
أكمل أحد آخر: "لو كانت مجرّد هجينة لكانت قد عانت بشكل عادي، لكنّها هجينة خائنة."
قال أحد آخر: "مخلوق قذر مثلك تجرّأ على خيانة الشياطين لا يجب أن يعيش. إنّك وصمة عار!"
لم تتغيّر نظرات الملاك ملاك بالرغم من كلّ الكلام الشائن الذي تعرّضت له. بدت غير مهتمّة بتاتا، حتّى أنّها كانت تعير انتباهها لإبلاس وليس لهم.
ارتفع ضغط ددمم دزينة الشياطين لمّا لاحظوا تجاهلها لهم فانطلقوا كلّهم مرّة واحدة تجاهها غاضبين.
"فلتموتي يا أيّتها اللعينة! سنعود بخبر سارّ بعدما نقضي على وصمة عار مثلك."
"وصمة عار وعضوة في الطاولة المستديرة. سيكون هذا خبرا مزلزلًا عندما نبلغه لإخواننا."
تحرّك الرجل الذي يرافق الملاك ملاك خطوة إلى الأمام ثمّ قال: "هل نلاحقه يا سيّدة ملاك؟"
لقد كان يعلم أنّ الملاك ملاك تراقب إبلاس، فأراد أن يعلم ماذا تنوي أن تفعل بشأنه.
نظرت الملاك ملاك إلى جهة أنمار ثمّ قالت: "أريد التأكّد من تلك الفتاة أوّلا. لا تسمح لهؤلاء بالاقتراب حاليا."
ارتسمت نظرات الفرح على وجوه الشياطين الذي كانوا يحاولون مهاجمة الملاك ملاك، وعندما اقتربوا منها ضحكوا وصرخوا بأصوات غريبة من شدّة الحماس، لكن...
طننن
بووف
اصطدموا فجأة بشيء في الهواء وأرسِلوا محلّقين لعشرات الأمتار بعيدا، لكنّهم لم يتضرّروا. نظروا إلى جهة العدوّ فوجدوا حاجزا غير مرئيّ يحيط بالملاك ملاك ومساعدها.
بصق أحد الشياطين الدم ثمّ قال بعبوس: "إذن أنت هو 'فاصل'."
لم يلقوا له بالا في البداية، لكنّهم علموا عن هويّته لسببين؛ أوّلهما هو عنصر السحر الذي استخدمه، وثانيهما هو وجوده مع الملاك ملاك.
كان وجه فاصل جامدا فقال بصوت يخلو من التردّد: "لا أحد منكم سيقترب من السيّدة ملاك."
قال أحد الشياطين: "قد تكون مشهورا كأفضل ساحر حواجز في هذا الجيل، لكن هل تظنّ أنّه يمكنك صدّنا كلّنا؟"
تجاهلهم فاصل وحرص على حماية سيّدته ثمّ نفسه.
لاحظت الملاك ملاك في هذه الأثناء أنّ أنمار كانت تراقب إبلاس. كانت نظرات أنمار تبدو مرعوبة أكثر ممّا هي غاضبة. ظنّت الملاك ملاك في البداية أنّ سبب خوف أنمار طبيعيّ لأنّ ذلك كان شيطان اليأس، لكنّها فوجئت للغاية عندما اتّجهت أنمار فجأة نحو إبلاس ملاحقةً إيّاه باستماتة.
***
كانت أنمار متضرّرة نفسيّا بشكل وخيم؛ فهي قد فقدت الكثير من الأشخاص الأعزّاء على قلبها، وكانت تفكّر في شعور باسل عندما يعلم عن هذا.
لقد كانت تعلم أكثر من أيّ شخص كم قدّر باسل الأشخاص القريبين منه. كانت تدري أنّ كلّ شيء فعله من أجل العالم الواهن كان في الواقع من أجل أولئك من يعزّهم، وعلى رأسهم أمّه.
عاشت أنمار حياتها كاملة بجانب باسل، وعلمت عن درجة حبّه لأمّه. لقد كانت تدري أنّ رغبة باسل في أن يصبح ساحرا لم تكن تنبع فقط من رغبته في الاستكشاف والمغامرة، بل لأنّه كان يريد أن يحمي أمّه من كلّ خطر ممكن. أراد أن يجعل تلك الدموع التي ذرفتها في العديد من الليالي تختفي.
كبر باسل بينما يشاهد أمّه تبكي في غالب الليالي بسبب فقدانها لزوجها الذي ضحّى بحياته في يوم الدمار الشامل من أجل عائلته. لم يرد باسل أن يشاهد معاناة أمّه هذه، ولهذا قرّر أن يصير قويّا.
كان باسل ينادى بالعديد من الألقاب ويُنصَر كبطل مذهل في العالم الواهن، لكنّ أنمار كانت تعلم أنّه لم ينشد أيّا من ذلك، بل أحسّ أنّ كلّ ذلك مجرّد وسيلة لتحقيق غايته–حماية أمّه.
بالفعل، كلّ ما فعله باسل من نعومة أظافره حتّى يومه هذا كان محاولة توفير بيئة آمنة لأمّه، وعندما علم عن الخطر المحدّق بعالمه من معلّمه، استنتج أنّ الطريقة الوحيدة لضمان نجاة أمّه بشكل كامل هي تقويّة العالم كلّه وتنميّته.
وبينما يحاول تحقيق مسعاه، صار لديه روابط عديدة مع الكثير من الأشخاص وزاد عدد من يريد حمايتهم، فاشتدّت عزيمته أكثر.
كانت أنمار خائفة من الضرر الذي يمكن أن يتعرّض له باسل عندما يعلم أنّ أشخاصا فعل كلّ ما بوسعه لحمايتهم ماتوا بتلك البساطة بدون أن يكون قادرا على فعل شيء، في غيابه.
وفي تلك اللحظة، لمحت شيطان اليأس يتحرّك نحو مكان معيّن، ففتحت عينيها على مصراعيهما وصعدت معها القشعريرة وتسارعت ضربات قلبها بشكل عنيف وشعرت أنّه سينفجر بداخل جسدها.
ارتفع ضغط دمها بشكل رهيب بينما تنظر إلى إبلاس وسخن جسدها حتّى صارت بشرتها حمراء؛ لقد علمتْ عن وجهته. لقد كانت وجهته هي أكاديميّة الاتّحاد المباركة!
علمت أنمار عن نوايا إبلاس مباشرة. لقد كان هذا أكثر شيء تخشى حدوثه، لذا حاولت تجنّب حتّى النظر إلى الأكاديميّة كي لا يعلم إبلاس عن وجود عائلتها هناك.
فعلت أنمار كلّ ما بوسعها، لكنّها للأسف كانت في مواجهة شيطان اليأس، ولم يكن ليخفى شيء كهذا عن عينيه المميّزتين اللتين تريان الحقيقة.
استغلّت أنمار انشغال مجموعة التنّين الصغير بالأعداء وتملّصت بعدما استخدمت عنصر الوهم بأقصى قوّتها. لم يكن هذا الوهم في الأصل ليخدع شخصا في مستوى خليفة التيّار اللامحدود الذي كان يحميها، لكنّه كان مشغولا تماما مثل باقي مجموعته بالعدد الكبير من الأعداء
لم تستطع مجموعة خليفة التيّار ملاحظة ذهاب أنمار إلّا بعد فوات الأوان، إذ كانت حوالي ثلاث ثوانٍ قد مرّت وأنمار ابتعدت كثيرا. أراد خليفة التيّار ملاحقتها لكنّه لم يستطِع أن يتجاهل الأعداء الذين أحاطوا به ومجموعته وكانوا سعداء بهروب أنمار.
تمتم متفاجئا: "استطاعت أن تخفي حضورها لتلك الدرجة وتنشِئ حضورا وهميّا في محلّها؟ أيّ غرائز طبيعيّة تملك؟ كيف لي أن أخدَع هكذا حتّى لو كنت مشغولا ولو كان هذا لثلاث ثوان؟ تلميذة ذلك العنيد...!"
لقد كانت موهبة أنمار مذهلة للغاية، وخير دليل كان حقيقة غدوّها تلميذة إدريس الحكيم. بالرغم من أنّ إدريس الحكيم علّمها من أجل باسل لأنّه أراد أن يكون هناك شخص يمكنه مرافقة باسل في المسار الروحيّ، إلّا أنّ هذا القرار بحدّ ذاته عنى أنّ أنمار كانت جديرة بمرافقة باسل في مساره الروحيّ.
لاحقت أنمار إبلاس بسرعة كبيرة راكبةً على ظهر وحش سحريّ له أربعة أجنحة كأجنحة الخفّاش وجسد تمساح بطول أربعة أمتار.
كانت سرعتها مذهلة للغاية وكان واضحا أنّ ذلك الوحش السحريّ له مستوى مرتفع. استخدم الوحش السحري قدرته التي جعلته يتسارع في كلّ مرة يرفرف بها جناحين بتناوب، ودعمت أنمار تلك السرعة بفنّها القتاليّ عبر ضغط الهواء واستغلال الانفجار الذي يحدث لزيادة السرعة.
لاحظت أنّ المسافة بينها وبين إبلاس تصغر، فوجدت الأمر غريبا للغاية. لقد كانت مجرّد ساحرة وكان من غير المعقول أن تستطيع اللحاق بساحر روحيّ مهما فعلت، فما بالك بإبلاس؟
وفي تلك اللحظات التي كانت مشوّشة فيها، التفت إبلاس ونظر إليها ثمّ ابتسم بشكل ساخر.
هاجت أنمار وصرخت: "يا أيّها اللعين...! توقّف!"
لقد كان يتلاعب بها. شعرت كما لو أنّه يخبرها أن تلحق به. أحسّت أنّها دمية يتحكّم فيها. لقد كانت تعيش أسوء كوابيسها.
كانت تلك الفوضى الذي افتعلها إبلاس فقط من أجل أن يجعل أنمار تلحق به. كان واثقا من أنّها ستستطيع التملّص من أيدي مجموعة التنين الصغير واللحاق به وسط كلّ هذه الفوضى.
لقد كان واثقا فيها لأنّها كانت تلميذة حكيم، لا غير.
***
عبست الملاك ملاك عندما شاهدت أنمار تلاحق إبلاس بذلك الشكل، وفهمت أخيرا أنّ خوف أنمار لم ينبع من قوّة من إبلاس أو لأنّه سيقتلها، بل كانت خائفة لأنّه كان ينوي سلب نورها وتركها تعيش في الظلمة.
علمت الملاك ملاك أنّ إبلاس كان ينوي تطبيق ما قاله سابقا. لقد كان ينوي جعل أنمار تيأس يأسا حقيقيّا.
قرّرت الملاك ملاك بعد ذلك أن تذهب لمساعدة أنمار مباشرة، لكنّها وجدت نفسها برفقة فاصل محاطة بأعداء ازداد عددهم عن قبل. فهذه المرّة، انضمّت المجموعتان اللتان أتيتا برفقة إبلاس إلى هنا.
تكلّم ذو مواصفات الأسد: "هل ما زلت تتذكّريني يا لعينة؟!"
أمالت الملاك ملاك رأسها مستغربة.
قال أحد الشخصين المجنّحين من المجموعة الثانيّة: "اليوم سأردّ الصاع صاعين يا خبيثة!"
رفعت الملاك ملاك حاجبها ثمّ قالت: "من أنتم؟"
لقد كان واضحا أنّ هؤلاء الشياطين لهم عداوة خاصّة تجاه الملاك ملاك، إلّا أنّها لم تتذكّرهم، ما جعل دماءهم تغلي. لم يكونوا قليلي الأهميّة لهذه الدرجة، ونسيانهم كان شيئا لا يُغتفر، لا سيّما بعد العناء الذي مرّوا به ضدّها في الماضي.
صرخ أحد المجنّحين من المجموعة الثانيّة: "اقتلوا هذه العاهرة!"
تحرّكوا كلّهم في نفس الوقت من أجل قتل الملاك ملاك. هناك من أراد الانتقام، وهناك من أراد التلذّذ بقتل الهجينة، وهناك من أراد اكتساب الشهرة بقتل عضوة في الطاولة المستديرة.
ومع ذلك، ظلّت الملاك ملاك هادئة أمام كلّ هؤلاء الأعداء. لقد كانت عضوة في الطاولة المستديرة، أقوى القوّات التي خدمت الملك الأصليّ.
***
بينما كانت أنمار تلحق إبلاس، التفت هو إلى جهة أخرى ثمّ عبس، لأنّه لاحظ أنّ هناك شخص آخر يلاحقه. لم يعجبه أن يتدخّل أحدهم في متعته الخاصّة، لكنّه لم يهتمّ، لأنّه حكم أنّ الشخص الذي يلاحقه غير أنمار لا يستحقّ الاهتمام.
كان ذلك الشخص هو الجنرال رعد.
لقد كان الجنرال رعد مرتبطا نوعا ما بشيطان اليأس منذ الدمار الشامل. فإبلاس كان الشخص الذي جعل الجنرال رعد يصبح ما هو عليه.
بسبب الرعب الذي زرعه إبلاس فيه في ذلك اليوم، اجتهد الجنرال رعد أكثر من أيّ شخص آخر من جيله وحطّم رقما قياسيّا كأصغر جنرال في تاريخ العالم المسجّل.
كلّ ما كان يدفعه ويحثّه على المضيّ قدما كان خوفه من ذلك الشيطان، ورغبته الشديدة في التغلّب على ذلك الخوف وعلى الشيطان بحدّ ذاته.
واليوم، كان عاجزا تماما مثلما كان قبل سبع عشر سنة. شاهد إمبراطوره يموت بلا حول ولا قوّة، وشاهد زملاءه يموتون ببساطة واحدا تلو الآخر.
كان الأسى وخيبة الأمل ولوم الذات يأكلون روحه ببطء شديد، وصار كرهه لشيطان اليأس أعظم بكثير.
ومنذ أن ظهر إبلاس، لم تفارق عينا الجنرال رعد صورته. كان يراقبه باستمرار. كان يريد أن يجد شيئا ليفعله حتّى يستطيع المساعدة بشيء أو إيجاد نقطة ضعف للتغلّب على ذلك الشيطان ولو حدث هذا بعد آلاف السنين.
وبعدما نشبت الفوضى، مثله مثل أنمار، استطاع التسلّل من قبضة مجموعة التنين الصغير وملاحقة شيطان اليأس.
استطاع أن ينجح في هذا بعدما تشوّشت مجموعة التنّين الصغير للحظات بعدما هربت أنمار.
استغلّ تلك اللحظات بشكل جيّد للغاية وفرَّ.
انطلق كصاعقة برقيّة في السماء.
***
مهما كانت قوّة السحرة، فهم مجرّد حشرات أمام السحرة الروحيّين. 'سيّد روحيّ' يمكنه سحق 'صاعد' بكلّ سهولة، ورجع السبب لاختلاف كمّيّة الطاقة السحريّة التي تتضاعف بشكل كبير عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة، والطاقة الروحيّة التي لا يملكها السحرة.
قيل أنّه لو اعتُبِرت الطاقة السحريّة والطاقة الروحيّة كسائلين، فإنّ قطرة من الطاقة الروحيّة تعادل عشرات آلاف القطرات من الطاقة السحريّة. ومع ذلك، يبقى هذا مجرّد تشبيه، إذ أنّ قيمة الطاقة الروحيّة تكمن في كونها تنبع من الروح بينما تنبع الطاقة السحريّة من طاقة حياة الشخص.
مفهوم 'الروح' كطاقة عند السحرة عنى الروح التي يكوّنها الساحر عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة، بينما عنى مفهوم 'حياة الشخص' طاقة المخلوق الحيويّة التي يمكن أن تُستنزف وتتجدّد مع مرور الوقت.
ولهذا، كثافة ونقاوة الطاقة الروحيّة تجاوزتا الخاصّتين بالطاقة السحريّة بأضعاف مضاعفة.
وبسبب هذا، ما كان الساحر ليهزم الساحر الروحيّ مهما فعل، وهذا شمل جميع النواحي، من حيث القوّة والسرعة والطاقة وحتّى طول العمر.
كان عجز أنمار والبقيّة أمرا طبيعيّا للغاية، لكن ما جعلها تتحسّر أكثر كان التفكير في أنّه حتّى لو كان باسل هنا، كانت الأمور لتؤول إلى هذا المنحى. نعم، وهذا بالرغم من أنّها علمت أنّه اخترق إلى المستويات الروحيّة.
ما الذي يمكن لسيّد روحيّ مبتدئ أن يفعله ضدّ وحوش عاشت لآلاف السنين تنمّي أرواحها؟ لقد كان المستوى بين الطرفين مختلفا كاختلاف النهار والليل، ولم يمكن تعويض ذلك بإشعال مجرّد شمعة أملًا في إنارة الظلام الذي يغطيّ العالم، أو استعمال غربال للتظلّل به من الجرم السماويّ الذي ينير العالم.
ولكن حسرة أنمار لم تتوقّف عند هذا الحدّ. بالفعل كان ألمها الأشدّ هو موت أعزّائها، لكنّها عانت أيضا من تلك الفكرة التي جعلت أفكارها تتضارب بشكل مستمرّ وتجعل رأسها يكاد ينفجر من الصداع.
شعرت بهذا لوهلة فقط، فقط للحظة وجيزة، لكنّها بالفعل 'اطمأنّت' عندما فكّرت في عدم وجود باسل في هذه الأثناء هنا.
لو كان باسل هنا، وشاهد بعينيه أولئك الذي بذل كلّ ما في وسعه لحمياتهم يموتون بينما هو عاجز عن فعل شيء، فسلامة عقله لن تظلّ كما هي.
كانت هذه هي الفكرة التي جعلتها تطمئنّ للحظة وجيزة للغاية قبل أن يشغل عقلها إنقاذ عائلتها. لقد كانت أنمار تعشق باسل منذ صغرها، ولطالما فكّرت لصالحه، وبسبب هذا فعلت بعض الأشياء بدون علمه، ما عاد عليها بردّ فعل عكسي في الماضي، لكنّ هذا لم يجعلها تبعد نفسها عن باسل بالرغم من أنّه حاول إبقاء مسافة آمنة بينهما.
عندما تقرّبت منه تلك الفتاة في صغرهما، أو عندما هاجمهما بعض السحرة عندما كانا يتدرّبان قبل أن يقرّرا الذهاب إلى العاصمة وآل الأمر لمجزرة، أو عندما اختطف حلف ظلّ الشيطان شيرايوكي... كانت أنمار ترمي بنفسها في وجه الخطر بدل باسل، والذي استشاط غضبا كلّما رأى هذا يحدث. وفي نهاية المطاف، بالرغم من أنّ باسل لم يدلِ به مباشرة، إلّا أنّها فهمت أخيرا سبب غضبه.
ولكن... كانت أنمار هي أنمار. في تلك اللحظة الوجيزة، ارتاح قلبها لأنّ باسل لا يمرّ بهذه المعاناة واقتصر الأمر على مرورها هي بهذه الأحداث الأليمة.
وأخيرا، أمام عينيها، اختفى إبلاس بعدما جعلها تقترب بشكل كافٍ، ليظهر بعد ثوانٍ معدودة أمامها مرّة أخرى طافيا في السماء.
حبست أنمار أنفاسها ونظرت إلى الأشخاص الذين كانوا في حوزة إبلاس. كانت لطيفة وسميرة وجدّة باسل، ليندا، مصلّبات في السماء وبالكاد استطعن الحفاظ على وعيهن.
كانت النساء الثلاث مقيّدات بطاقة إبلاس السحريّة ببساطة.
نظر إبلاس إلى أنمار وحدّق إلى عينيها اللتين كانتا تخلوان من الضوء بمرور الوقت، ثمّ قال بهدوء: "لطالما تساءلت عن ماهيّة اليأس. هناك من يقع في الهاوية بعدما يُسلب منه أحباؤه، وهناك من يفقد الأمل بعد خسران قواه، وهناك أيضا من يغرق في الظلام بعد فقدان ثروته. ولكن أتعلمين ما المشترك في كلّ هذا؟ نعم، كلّهم ييأسون بعدما يخسرون أعزّ ما يملكون."
ابتسم شيطان اليأس وقال ساخرا: "ولكن حتّى اليأس له درجات واختلافات، وكشيطان جعل اليأس مساره الروحيّ، النوع المفضّل من اليأس لديّ هو ذاك الذي ينبع من فقدان الأعزّاء. أتعلمين لمَ؟ لأنّ خسارة الشخص العزيز لا تُعوّض. لأنّ الموت هو الحقيقة المطلقة في هذا العالم. ولهذا، اليأس الناتج عن فقدان العزيز لهاوية حقيقيّة، على عكس خسارة القوّة أو المال أوّ أيّ كان، إذ تبقى هناك دائما -أو على الأقلّ في الكثير من الحالات- فرصة لاكتساب شيء كذلك مرّة أخرى."
"انظري!"
سمعت أنمار إبلاس يصرخ ليشدّ انتباهها قبل أن يقول: "شاهدي أحباءك يموتون، والعني نفسك وكلّ ما آل بك لمثل هذا المصير. العني العالم وتعلمّي اليأس عبر الحقيقة المطلقة في هذا العالم. واعلمي، أنّني أنا، شيطان اليأس إبلاس، مالك عينيْ الحقيقة، هو الشخص المؤهّل لجعل الحقيقة المطلقة يأسا ثابتا!"
"توقّف! لا علاقة لهنّ بأيّ من هذا. أطلق سراحهن! أفلتهن! أرجوك...!"
لم تكن أنمار واقفة بمكانها، فهي فعلت كلّ ما بوسعها لتبلغ هدفها لكنّها كانت ضعيفة للغاية أمام إبلاس. لم تنفعها صرخاتها ولا ترجّيها، إذْ لم يتغيّر تعبير شيطان اليأس الهادئ.
انتقلت بأقصى سرعتها حتّى تنقذ عائلتها لكن مئات الأمتار التي تفرقها عن عائلتها بدت كملايين الأميال. شعرت أنّ الوقت يمرّ بشكل بطيء للغاية بينما تشاهد طاقة إبلاس الروحيّة تتخلّل أجساد الثلاث.
وبالطبع، بذل الجنرال رعد كلّ جهده لمنع الأمر، لكن كيف لساحر أن يوقِف 'روحانيّ مبارك'؟
صارعت 'الملاك ملاك' الشياطين المحيطين بها رفقة مساعدها فاصل، وتوتّرت أكثر عندما فكّرت في أنّ تلك الفتاة، تلميذة إدريس، ستضطرّ لتحمّل مستقبل تتحمّل فيه مسؤوليّة موت أحبائها.
نظرت الملاك ملاك إلى جهة إبلاس بعبوس ثمّ تمتمت بغضب: "اللعنة...!"
لم تكن تريد أن تترك إبلاس يفعل ما يشاء مع تلك الفتاة، لذا كان عليها إنقاذ أولئك النساء الثلاث اللاتي كنَّ مهمّات للغاية بالنسبة للفتاة. وإلّا كان على الفتاة العيش متقبّلة تلك الحقيقة المطلقة.
صرخت بجهة مساعدها فاصل: "يا فاصل، استخدم كلّ ما لديك لتعزل أولئك المزعجين."
"ذلك..."
كان فاصل يعلم ما كانت الملاك ملاك تنوي فعله، لذا تردّد قليلا، لكنّه سرعان ما حسم أمره وردّ عليها: "حظّا موفّقا يا سيّدتي. سأحرص على عزل كلّ شيء."
لقد كان العمل المطلوب منه صعبا للغاية، لكنّه لم يهتم بذلك إذ كان عليه توفير الوقت الكافي وحسب.
أومأت الملاك ملاك رأسها ثمّ صفّق فاصل فجأة واستجمع طاقته الروحيّة في يديه فأثار انتباه كلّ الشياطين الذين كانوا يحيطونهما.
تموّجت الطاقة الروحيّة حول يديه قبل أن تتّخذ شكلا ليظهر حاجز فوق حاجز فجأة حتّى تراكمت مئات الحواجز فوق بعضها، ففتح فاصل ذراعيه على مصراعيهما ثمّ امتدّت الحواجز التي صارت حاجزا واحدا بسرعة فائقة لم تتح للشياطين أيّ فرصة باستدراك الأمور.
كان الحاجز قد أحاطهم كلّهم من جميع الجهات وسجنهم تماما.
مدّ فاصل يده بعد ذلك تجاه إبلاس ثمّ أحكم قبضته فتشكّل حاجز كرويّ ليحجز إبلاس في الداخل عندما كان مشغولا بـ'متعته' الخاصّة، ولكن بالرغم من ذلك، إلّا أنّه لم يسجن كما أراد فاصل.
كادت لطيفة والأخريان تفقدن الوعي، لكنّهنّ قاومن بكلّ مجهودهن. لقد كنّ يعلمن عن الحالة التي وجدن أنفسهن فيها بدون الحاجة لشرح أيّ شيء.
وبالرغم من كلّ ما تعرّضن له من ضغط نفسيّ وجسديّ، حدّقت النساء الثلاث إلى أنمار وابتسمن في نفس الوقت.
"اهتمّي بـ–"
وفقط عندما استطاعت لطيفة استجماع قواها وحاولت التكلّم، اختفى الضوء من عينيها، كما حدث لسميرة وجدّة باسل.
وفي نفس الوقت، كان الضوء المتبقّي في عينيْ أنمار يختفي تدريجيا بينما تستوعب الحقيقة المطلقة. لم تستطِع الصراخ حتّى، كما لو أنّها بكمت. لقد كانت تشعر في تلك اللحظة أنّ روحها تُكسر لقطع صغيرة كزجاجة تُسحق تحت حجر.
***
"اللعنة!"
صرخت الملاك ملاك بعدما تأخّرت. لم تكن في الواقع متأكّدة من إنقاذ أولئك الثلاث حتّى لو لم تتأخّر. لقد كنّ ثلاث 'نساء عاديات' في حوزة روحانيّ مبارك، فكيف لها أن تمنعه من قتلهنّ، لا سيّما وهو ليس بأيّ روحانيّ مبارك عادي؟
أمّا الجنرال رعد، فقدْ فقدَ عقله بالفعل ورمى نفسه على إبلاس بينما تنهمر الدموع من عينيه بغزارة. لقد كانت لطيفة هي أوّل امرأة يقع في حبّها في حياته بأكملها، لكنّ حياتها انتهت بهذا الشكل قبل أن يستطيع فعل شيء.
لم يسعه فعل شيء قبل سبع عشر سنة، فعاش وكلّ ما يجول في خاطره هو اليوم الذي يلتقي فيه بذلك الشيطان مرّة أخرى. تخلّى عن الرفاهيّة واللعب اللذين كانا يشغلان غالب وقته، وكرّس حياته كلّيّا من أجل الغدو أقوى كفاية.
وها قد أتى اليوم المنشود أخيرا، لكنّه هذه المرّة شعر بالضعف أكثر من المرّة السابقة. هذه المرّة فقد شخصا عزيزا على قلبه.
لقد كان يكنّ كرها عميقا لذلك 'الشخص'. كان يريد قطعه لقطع صغيرة ومحوه من الوجود. لقد كان يريد إنهاء حياته. وذلك 'الشخص' كان هو الجنرال رعد بنفسه!
لقد كره نفسه بشكل عميق لأنّه كان ضعيفا هكذا، سواء في الماضي أو الحاضر، وارتعب من فكرة احتماليّة كونه ضعيفا في المستقبل أيضا، فأراد أن ينهي كلّ شيء هنا والآن.
أيّ حياة يجب عليه أن يعيش من الآن فصاعدا؟
هل كانت كلّ هذه السنوات الماضيّة التي أغلق فيها قلبه بلا معنى؟
نكر إبلاس كلّ مجهوداته بهاته البساطة، فكيف له أن يحيا بعد هذا؟ هل هناك معنى؟
بالرغم من أنّه أخمد عواطفه ومشاعره لسنوات عدّة، إلّا أنّ ظهور ذلك الفتى القرمزيّ جعله يسترخي قليلا، ما جعل الحب يدفئ قلبه الذي اعتاد أن يكون جامدا، لكنّ حتّى ذلك الحبّ قد اختفى الآن.
وحتّى لو نجى وعاش ليرى المستقبل، سيجد نفسه أضعف ممّا هو عليه كما حدث اليوم بكلّ تأكيد. إذن، مرّة أخرى، هل هناك معنى لنجاته؟
لا، ليس هناك معنى، ولهذا يجب أن تنتهي حياته هنا والآن، تلك الحياة الواهنة التي لم ولن تقدر على حماية شيء.
صرخ الجنرال رعد بينما تنهمر دموعه، وتملّكه العار الذي كان يشعر به، ولم يسعه سوى أن يتأسّف ويطلب الغفران من أعماق قلبه: "أنا آسف يا أيّها الفتى القرمزيّ. يبدو أنّ نزالنا لن يحدث. حسنا، ليس كما لو أنّ شخصا مثلي يستحقّ منازلتك أصلا."
التفت إبلاس إلى جهة الجنرال رعد ثمّ حملق إليه بعينيه اللتين توهّجتا بضوء أصفر امتدّ كهالة أحاطت بالجنرال رعد وجمّدته في مكانه.
تعرّق الجنرال رعد وضاق نفسه حتّى شعر بالاختناق ووهن جسده بعدما تسارعت دقّات قلبه بشكل غير مسبوق، فظهر بخار حوله نتيجة لتسارع الدماء في جسده.
لم يفهم الجنرال رعد ما حدث إلّا بعدما تكلّم إبلاس وجعله يستيقظ من أوهامه. نعم، كان الجنرال رعد مقيّدا بأوهام، لكنّها لم تكن نتيجة لعنصر الوهم.
"أو لست الفرخ الذي اضطررت للعفو عنه عندما أتيت إلى هنا أوّل مرّة؟"
علم الجنرال رعد أخيرا ما حدث له. كلّ ما فعله هو مواجهة نظر إبلاس وكان مشرفا على الموت بالفعل.
لطالما استمتع إبلاس بالضحايا الذين يميّزهم كـ'لُعَب'، لكنّه لم يهتم إطلاقا بالآخرين، إذ كان يعدّ كلّ مخلوق -غير قلّة معدودة- مجرّد حشرات لا تستحقّ اهتمامه، ولا عفوه إذا حدث وتجرّأت على إزعاجه.
فمثلا عندما قدم إلى العالم الواهن أوّل مرّة، أزعجه صوت صبيّين فقتلهما ببساطة، ولكن عندما التقى بساحر بالمستوى الرابع في عالم افتُرِض أن يكون أعلى مستوى سحريّ به هو المستوى الثالث، أثير اهتمامه وبدأ يلعب مع ذلك الساحر ومعلّمه.
والآن، عندما كان يستمتع بلعبته، تجرّأت هذه الحشرة على التدخّل في أهمّ اللحظات، فكان سيقتلها ببساطة، إلّا أنّ اهتمامه أثير بعدما أدرك أنّ هذه الحشرة كانت لعبة قد سبق ونجت منه فيما سبق، ولو بالحظ.
كان هذا هو السبب الذي جعله يتوقّف عن هجومه الذي لم يستخدم فيه سوى نيّة قتله.
نعم، أدرك الجنرال رعد أنّ كلّ ما احتاج إبلاس لقتله هو أن ينوي ذلك. لقد كان هذا يفوق مجرّد اختلاف في المستويات بينهما!
لقد كانت تلك إحدى قدرات عيني الحقيقة، إذ سمحت له هذه القدرة بجعل نيّته، أو نيّة قتله في هذه الحالة، حقيقة. بالطبع كانت هذه القدرة مقصورة على أشخاص ضعفاء للغاية كالسحرة ولم تنفع ضدّ السحرة الروحيّين أو أشخاص بقدرات خاصّة.
نظر إبلاس إلى الجنرال رعد ثمّ إلى جثّة لطيفة بعد ذلك وفهم شيئا ثمّ قال: "أمم... تحب هذه المرأة. إنّها والدة تلميذ حكيم على حدّ علمي. أمم... حسنا، حسنا. لقد قرّرت."
أشار إبلاس بسبّابته إلى الجنرال رعد وقال: "أنت... ستكون مرسولي."
لم يفهم الجنرال رعد ما كان يتحدّث عنه ذلك الشيطان، لكنّه كان يعلم أنّه لم ينوِ خيرا.
استجمع الجنرال رعد قواه بالكاد حتّى يستطيع التكلّم: "اقـ-اقتلني. قاتلني!"
لم تتغيّر تعبيرات إبلاس وقال: "الحقّ في اختيار طريقة الموت، والحقّ في طلب القتال... كلاهما شيء لا يحقّ سوى للجدراء."
ارتفعت حافّة فمّ إبلاس قليلا ثمّ قال: "يبدو من المثير للاهتمام إبقاء حياة شخص مثلك يريد الموت بشدّة على يديّ بدل إنهائها. أتساءل، كيف ستعيش بذلك اليأس؟ كيف ستعيش كلّ يوم بينما تتمنّى لو قتلتك اليوم؟ أتساءل، كيف سيصير فرخ مثلك مستقبلا؟ ليس سيّئا، ليس سيّئا."
تستمر القصة أدناه
مدّ إبلاس يده كما لو أنّه يحاول إمساك شيء ما، فشعر الجنرال رعد بالاختناق كما لو أنّ هناك يدا غير مرئيّة تحكم الخناق عليه وتسحبه ناحيّة شيطان اليأس.
أمسك إبلاس الجنرال رعد ثمّ قال ببرودة: "حسنا، ابقَ معي لفترة ريثما أنتهي، فأنا لا أريد لأولئك أن يأخذوك. إنّني أريد مرسولا جيّدا يمكنه تبليغ الرسالة بجميع حذافيرها."
نظر بعد ذلك إلى أنمار التي كانت تنظر إلى الفراغ بعينيها الخاليتين من الضوء، ثمّ نظر إلى الملاك ملاك التي كانت حريصة على إبقاء أنمار قريبة منها وابتسم بعدما وجدها تحملق إليه بغضب.
كانت أنمار تشعر أنّ عالمها أظلم فجأة ولم تعلم ما الذي يجب فعله. لقد كان وعيها يتلاشى ببطء في ذلك الظلام لكنّه كان شعورا مريحا في نفس الوقت.
لربّما عليها التخلّي عن كلّ شيء واللحاق بعائلتها فقط. أحسّت أنّها كانت تتحرّر من القيود التي تربطها بهذا العالم وتجعلها تعاني، نعم، القيود التي تربطها... القيود... تربطها...
ومضت تلك الأفكار في عقل أنمار الخاوي وغمرته بالكامل حتّى زاد ذلك من رغبتها في التحرّر من تلك الآلام، إلّا أنّه كان هناك شيء يصرّ على تقييدها، شيء جعل ارتباطها بالعالم أقوى كلّما حاولت الابتعاد أكثر.
كان ذلك شعورا محفورا في أعماق روحها ولم تستطِع التخلّص منه بتلك البساطة، وأخيرا عندما تجرّأت واستجمعت شجاعتها لتتساءل عن ماهيّة الشيء الذي يقيّدها، آملةً في إيجاد طريقة للتخلّص منه، بدأت تلك القيود تتراخى وتتجمّع أمامها لتشكلّ صورة شخص.
"باسل..."
تمتمت أنمار فتفاجأ شيطان اليأس.
نظر إلى أنمار التي كان يظنّ أنّها وقعت في يأس عميق، فلاحظ أنّ الدموع كانت تتساقط بغزارة من عينيها، لكنّ ذلك لم يكن مهمّا. لقد كانت حدقتا عينيْها بالضبط ما أثار دهشته. تانك الحدقتان اللتان كانتا خاليتين من الضوء قبل مدّة قصيرة فقط صارتا مفعمتين بالحياة أكثر من أيّ وقت مضى.
صرخت أنمار: "إبـــــلاااااس! سأقتلك مهما كلّفني الأمر. سأجعلك تعيش أسوء كوابيسك مليارات المرّات حتّى تتحطّم روحك! سأدمّرك!"
كان إبلاس ما يزال مندهشا. لم يكن يتوقّع أن تعود هذه الفتاة إلى هذا العالم بعد وقوعها في ظلام عميق بهذه السرعة. ما السبب؟ ما كان المحفّز؟ هل فعلت الملاك ملاك شيئا؟
تساءل إبلاس لوقت طويل قبل أن يفهم أخيرا من نظرات أنمار وما تمتمت به قبل قليل عندما عادت إلى رشدها: "آه... هكذا إذن. فهمت، فهمت. يبدو أنّها لن تيأس يأسا حقيقيّا إلّا عندما أزيل مصدر نورها، وذلك للأسف هو تلميذ حكيم."
نظر إلى الفتاة التي كانت تشحن طاقتها السحريّة وتستعدّ لشنّ هجوم كامل بكلّ قوّتها ثمّ قال ساخرا: "لا أعلم كيف ستجعلين شخصا لا يحلم يرى كوابيسَ، لكن ها أنا ذا، فلتأتي."
لربّما لم يكن قادرا على جعلها تيأس تماما، لكنّ كلّ هذا كان أصلا من أجل تلميذ حكيم، لذا لا بأس. لقد كان ينوي أخذها معه حتّى يجعل تلميذ حكيم يخسر نفسه تماما، لذا لم يهم إذا كانت في رشدها قليلا. كلّ ما عليه فعله هو اللعب معها لوقت أطول عندما يعود بها إلى عالمه.
كيف ستكون قصّة فتى يحاول إنقاذ حبيبته من الشيطان الذي قتل كلّ أحبابه؟ وكيف ستكون ردّة فعل الفتى عندما يجد أنّ حبيبته التي كان يحاول جاهدا إنقاذها مجرّد وعاء فارغ من الحياة بالرغم من أنّ قلبها ينبض؟ ستكون قصّة رائعة عندما ينتهي المطاف بالفتى محاولا إنهاء حياة حبيبته المثيرة للشفقة حتّى يريحها من آلامها. ستكون قصّة مذهلة عندما يترجّى الفتى الشيطانَ أن ينهي حياته المثيرة للشفقة أيضا. أو ربّما ستكون القصّة الأروع عندما يصير الفتى ما يتمنّاه إبلاس...
اتّسعت ابتسامة إبلاس بعدما فكّر في كلّ الأمور الممتعة التي تنتظره، وتوهّجت عينا الحقيقة في نفس الوقت، فأدرك شيئا.
لقد حان الوقت ليغادر هذا العالم على ما يبدو، لكنّه لم يكن ينوي المغادرة خاوي اليدين كما أتى.
لاحظت مجموعة التنّين الصغير نفس الشيء بعدما شاهدوا عدم استقرار الشروخ الفضائيّة. لقد كان الختم الذي يفصل العوالم عن بعضها يشدّ وتره من جديد بعدما ارتخى بتحوّل العالم الروحيّ.
كان إبلاس يتّجه نحو أنمار مبتسما، وكانت سرعته فائقة ولم تستطع أنمار ملاحظته قطّ. لم تدرك أنمار أنّه كان خلفها إلّا بعدما لاحظت موجة متذبذبة جعلت الفضاء نفسه يتآكل، أو بشكل أدقّ، يُسحق.
تلك الموجة المتذبذبة امتدّت من قبضة الملاك ملاك نحو كفّ شيطان اليأس الذي كان ينوي خطف أنمار.
"هذا...!"
اتّسعت عينا أنمار للغاية. كيف لها ألّا تُصدم؟ لقد كانت ترى مرحلة متقدّمة للغاية من الفنّ القتاليّ الذي تعلّمته من معلّمها يستخدم من هذه المرأة المجهولة.
لقد كانت متأكّدة. لقد كان هذا وبلا شكّ المرحلة الروحيّة للفن القتاليّ الأثريّ 'سحق الأرض'.
"سحق الخلق."
صرّحت أنمار بذلك الاسم من كثرة دهشتها، ونظرت إلى المرأة التي كانت تقف أمامها كملاك حارس لها. لقد كانت متأكّدة الآن. هذه المرأة لها علاقة وطيدة بمعلّمها. هذا هو التفسير الوحيد لامتلاكها فن قتاليّ سامٍ كـ'سحق الخلق'، والذي سبق وقال لها معلّمها أنّ هناك ثلاث أشخاص يتدرّبون عليه وهي بنفسها من ضمنهم.
كان الشخص الأوّل هو إدريس الحكيم بنفسه، وكان الشخص الثاني هو أنمار، والآن ظهر أخيرا أمامها الشخص الثالث.
***
شعرت الملاك ملاك وإبلاس باقتراب أحدهم في هذه الأثناء، لكنّهما علما من يكون ولم يحتاجا أن يلتفتا لجهته حتّى.
لقد كان ذلك الشخص هو خليفة التيّار اللامحدود الذي استطاع أخيرا المجيء لمساعدة أنمار والجنرال رعد اللذين هربا من مجموعته. لم يكن قادرا على القدوم إلّا بعدما قضت مجموعته على بعض الأعداء واستطاعوا تغطيّة مكانه الفارغ.
لم يكن هناك وقتا للتحيّة لذا دخل في صلب الموضوع مباشرة: "ما المعمول الآن يا ملاك؟ بصراحة، لا أريد الاستسلام عن ذلك الفتى. سيكون عونا عظيما في المستقبل."
كان خليفة التيّار اللامحدود يعني بكلامه الجنرال رعد الذي كان في قبضة إبلاس. لقد كانت موهبة الجنرال رعد جيّدة للغاية وسيكون من المضيعة التخلّي عنه.
نظرت الملاك ملاك إليه ثمّ قالت: "استسلم. لن يمكننا استرجاعه في هذا الوقت الوجيز المتبقّي. ولا يبدو أنّه سيقتله أيضا."
ابتسم الخليفة بامتعاض ثمّ نظر إلى أنمار التي كانت تقف هناك منتظرة الفرصة للانقضاض على إبلاس وقال: "لن تستطيعي الانتقام حاليا مهما حاولت. ستكونين مجرّد لعبة يتحكّم فيها ذلك الوغد كما يشاء."
نظر الخليفة إلى الملاك ملاك ثمّ تنهّد وقال: "اذهبي مع ملاك. لو أردتِ حقّا الانتقام فعليك أن تذهبي مع ملاك وتنمّي قوّتك. أنا متأكّد أنّك ستصيرين شيئا مذهلا بالمستقبل بما أنّ ذلك العنيد اتّخذك تلميذة له."
لقد كان الخليفة في الواقع يريد أخذ أنمار معه، وليس هو فقط، بل كلّ من علم عن هويّتها وشاهد موهبتها، التي على الأغلب لا يملكها سوى الملوك بالمسار الروحيّ، ولكن بما أنّ الملاك ملاك ظهرت، قرّرت مجموعة التنّين الصغير التنازل عن هذه الفكرة.
لقد كانت الملاك ملاك أكثر من جديرة بأخذ أنمار معها، هذا بدون ذكر العلاقة الحتميّة التي تجمعهما.
عبست أنمار ثمّ قالت: "لن أغادر هذا المكان."
ارتفع حاجبا الخليفة بعدما سمع كلام أنمار ونبرتها الغاضبة، فظنّ أنّ حسّها السليم لم يكن موجودا، لذا حاول إقناعها بما هو في مصلحتها: "اسمعي، حتّى لو بقيت في هذا العالم، فما هو إلّا عالم روحيّ بدءا من اليوم، وليس به الكثير من الموارد التي ستساعدك على اللحاق بأقوياء العوالم الروحيّة. وفي الوقت الذي يختفي فيه الختم العالميّ، ستجدين نفسك في نفس الحالة التي وجدتِ نفسك فيها اليوم."
حدّقت أنمار إليه ثمّ قالت بنبرة عازمة ونظرة حاسمة: "لقد قلت أنّني لن أغادر هذا المكان. لا يمكنني المغادرة. كيف لي أن أغادر؟ كيف يمكنني تركه يواجه كل هذه المصائب لوحده بعدما تنزل عليه كالصاعقة من حيث لا يدري؟ إنّه لا يعلم شيئا عمّا يجري. يجب عليّ أن أكون في جانبه عندما يعلم بما حصل. يجب علينا أن نكون معا مهما كان."
ومضت صورة إدريس الحكيم في عقل أنمار ثمّ قالت بعدما تذكّرت ما قاله لها فيما سبق: "أنا رفيقة مساره الروحيّ."
نظرت الملاك ملاك والخليفة إلى أنمار باستغراب وتساءلا لوهلة عمّن تقصد بكلامها، ففهما أخيرا عندما فكّرا في التلميذ الآخر لإدريس الحكيم في هذا العالم.
لا! انتظر. انتظر، انتظر. ألم تكن هذه الفتاة فاقدة الرشد حاليا واستولى عليها غضبها؟ كيف لها أن تقول شيئا كهذا في حالتها هذه؟ هل يمكن أنّ هناك خطب ما في عقلها؟
ومضت هذه الأسئلة في عقل الخليفة والملاك ملاك بينما يراقبان أنمار. لقد فقدت هذه الفتاة عائلتها للتوّ وكانت تبدو كما لو أنّها سترمي بجسدها على إبلاس مهما حدث. لقد كانت لتوّها تبدو مجنونة تماما، فكيف لها أن تفكّر في شخص آخر؟ كيف لها أن تستطيع تذكّره حتّى؟
لم تطل تساؤلاتهما.
"والآن، ابتعدا عن طريقي. يجب أن أقتل ذلك الوغد اللعين مهما كلّفني الأمر."
لم تعد هذه الفتاة إلى رشدها قطّ. لا، بل لم تفقد رشدها منذ البداية حتّى تعود إليه. لقد كان غضبها هائلا، لكنّها كانت ما تزال قادرة على التفكير بشكل سليم، ومع ذلك، لم يسعها أن تظلّ واقفة هناك بينما قاتل عائلتها وأحبابها يوجد أمام عينيها.
ولكن...
(يا لها من نيّة قتل. ما مصدر هذه العزيمة؟ كيف لها أن تملك حضورا كهذا وهي مجرّد ساحرة؟ كيف لها أن تملك مثل هذه الإرادة بعمر كهذا؟ ما الذي فعله ذلك العنيد الوغد بالضبط حتّى ينمّي وحشا مثلها؟)
كانت أفكار الخليفة مشوّشة بسبب الجوّ المرعب الذي أحاط بالفتاة الصغيرة. كانت الملاك ملاك بنفس دهشة الخليفة.
ولكن ما لم يعلمه هذان الاثنان هو أنّ هذا الحضور المرعب الذي كان مصدره أنمار، وتلك الهالة الخانقة التي تبعثها، ونيّة قتلها التي تبدو كنيّة قتلٍ لشخص اختبر معارك وحروب لا تُحصى ضدّ مختلف المخلوقات–كلّ ذلك كان شيئا امتلكته أنمار من البداية، ولم تكسبه عن طريق التعلّم على يد أحدهم ولا من خلال مرورها بملاحم أسطوريّة.
لقد كانت هذه الهويّة الحقيقيّة التي اكتشفها باسل بعد عشر سنين من عيشه بجوارها، والتي كانت سببا آخر في ابتعاده عنها في تلك الفترة. لم يستطِع أن ينسى الابتسامة الشيطانيّة التي اعتلت محيّاها، محيّا **** صغيرة لطالما اعتقد أنّها نقيّة وبريئة كالملاك.
حملقت الملاك ملاك بعد ذلك إلى إبلاس الذي كان يقف بهدوء. لقد كانت تعلم أنّه كلما يكون لا يتحرّك، يكون يخطّط لشيء ما. وكان واضحا أنّه كان يخطّط لأخذ أنمار من قبضتهم.
تمتمت الملاك ملاك: "هذا يجعل الأمور أكثر صعوبة. اذهب، سأتكلّف بهذا الأمر."
عزمت الملاك ملاك على خطوتها القادمة وطلبت من الخليفة المغادرة بما أنّه حان الأوان للمغادرة.
نظرت بعد ذلك إلى أنمار ثمّ قالت: "سأحميك إلى آخر لحظة يمكنني البقاء فيها هنا... لا، سأبقى هنا حتّى يغادر ذلك اللعين، فلا تجعلي الأمور صعبة أكثر ممّا هي عليه."
فهم الخليفة كلامها كما فعلت أنمار. لقد كانت تعني أنّها ستلبّي طلب أنمار عندما قالت أنّها لن تغادر هذا المكان، ولكن لا يجب أن تحاول أنمار فعل شيء متهوّر كمحاولة قتال إبلاس.
أضافت الملاك ملاك: "هذا بالطبع إذا كنت حقّا تريدين انتظاره هنا، حيّة وليس جثّة هامدة."
لاحظت الملاك ملاك ارتفاع حاجب أنمار الذي استجاب لتحذيرها. لقد علمت الملاك ملاك بالفعل كيف تتعامل مع أنمار في حالتها هذه.
لقد كان غضبها شديدا لدرجة أنّها كانت تريد مقاتلة إبلاس بالرغم من أنّها كانت تعلم فارق القوّة بينهما، إلّا أنّها كانت ما تزال قادرة على التفكير في شخص آخر. لقد كان ذلك الشخص هو المفتاح للتعامل مع هذه الفتاة.
ومضت صورة باسل في عقل أنمار. لقد كانت تعلم. كانت تعلم أنّ كلّ ما حصل سيحطّم باسل تماما. كانت تعلم أنّه سيتطلّب وقتا طويلا حتّى تشفى الجراح التي سيتلقّاها. وكانت تعلم أنّه لا بدّ وأن تكون هناك بجانبه.
لقد كانت محطّمة أيضا، ولهذا علمت كيف سيشعر باسل.
"حظّا موفّقا!"
استدار الخليفة وركب تيّارا مائيّا امتدّ عبر الأفق كقوس قزح، فاندفع منزلقا على باطن قدميه وأمسك شينشي الذي كان مع مجموعة التنّين الصغير وجرّه معه.
"سآخذ هذا الفتى معي؛ لا أظنّ أنّ هناك مانع."
اختفى خليفة التيّار في الأفق بينما يحاول بعض الأشخاص ملاحقته.
ابتسم التنّين الصغير وقال: "ذلك الشقيّ الوسيم، دائما يصل متأخّرا لكنّه أوّل من يغادر."
نظر التنّين الصغير إلى صفاء والشابّ الذي كان يحرص على البقاء بجانبها كحارسها الشخصيّ وقال: "هل تودّان المغادرة معي؟ أظنّ أنّ موهبتكما يمكنها الازدهار لأقصى درجة لو رافقتماني."
التفت بعد ذلك إلى الأشخاص الذين ما يزالون يحيطون بمجموعته من كلّ جهة. هؤلاء لم يهتمّوا بالشخص الذي هرب مسبقا وركّزا على من بقي.
أكمل التنّين الصغير كلامه بينما ينظر إلى الأعداء: "أو يمكنكما أن ترفضا ويقبض أولئك عليكما فتعيشان فئران تجارب وعبيد حروب."
حدّقت صفاء إلى التنّين الصغير الذي كان يستغلّ هذا الوضع في صالحه، لكنّها لم تستطع إنكار كلامه. بالفعل يبدو من الأفضل الذهاب مع هذا العجوز القزم على أن يُقبض عليها وتعيش أسوء كوابيسها من جديد.
هل يجب عليها أن تكون فأرة تجارب أحدهم من جديد؟ هل عليها أن تمرّ بتلك الآلام الوخيمة مرّة أخرى؟ هل يجب عليها أن تترك الآخرين يلعبون بجسدها وروحها ليشبعوا فضولهم ويحقّقوا أهدافهم من جديد؟
لا، لن تتركهم يفعلون هذا بها مرّة أخرى. لن تمرّ بتلك الأيّام القاسيّة التي اختبرت كلّ أنواع الآلام الجسدية والروحيّة.
نعم، لقد أصبحت مختلفة الآن. لم تعد تلك الفتاة الصغيرة التي اعتادت أن تعتمد على أخويها الكبيرين. الآن عليها حماية نفسها بنفسها، ومعاقبة أيّ شخص تجرّأ على إضمار نيّة خبيثة تجاهها.
ستقتل أيّ أحد يفكّر في استغلالها.
نظرت بعد ذلك إلى الشابّ الذي من المفترض أنّه يراها مجرّد أداة وينوي استغلالها أيضا، لكن في نفس الوقت يحاول فعل كلّ ما بوسعه لحمايتها.
وجدته يبتسم بوجهه الذي كان يبدو بالغا بعدما تحوّل إلى هيئة الوايفرن. شعرت أنّه علم ما كانت تفكّر فيه.
التفت أوبنهايمر فرانكنشتاين بعد ذلك إلى التّنين الصغير ثمّ قال: "يا عجوز، سأقول هذا مرّة واحدة، لذا استمع جيّدا واحرص على تذكّر هذا دائما. سنذهب معك، ولكن إن حاولت استغلالنا بأيّ طريقة من الطرق، فاعلم أنّني سأحرص على جعل حياتك جحيما لا يطاق."
لقد كان أوبنهايمر فرانكنشتاين تعبا للغاية من كلّ من حاول استغلاله. لقد عاش حياة بائسة لم يتلقَّ فيها ذرّة حبّ من الوالد الذي كان من المفترض منه رعايته. بالأحرى، ذلك الوالد بنفسه كان مجنونا كفاية حتّى يجعل ابنه الخاصّ فأر تجارب.
لقد شاهد والده الغبيّ يحاول مرارا وتكرارا تعديل جسده حتّى اختفى شعوره بالألم. سمع والده الغبيّ يقول له في كلّ مرّة 'هذا من أجلك. هذا حتّى تصبح كيانا أسمى. ستكون تحفتي الفنّيّة!'.
لم يفعل شيئا في البدايّة لأنّه لم يهتمّ. لم يهتمّ بحياته من موته. لم يهتمّ بأيّ شيء لأنّه لم يحبّ شيئا ولم يثر فضوله شيء، لكنّ اهتمامه ازداد نحو التغيّرات التي طرأت على جسده مع مرور الوقت، فقرّر أن يُري والده الغبيّ كيف تتمّ الأمور.
صرف والده، الذي من المفترض أنّه 'عالم'، أكثر من سبع سنوات بدون الوصول إلى نتيجة، بينما احتاج هو فقط لثلاث سنين لفهم تلك الأبحاث التي قيل أنّها لشخصيّة أسطوريّة مصدرها هو قارّة الأصل والنهاية.
في تلك الأثناء، عندما وجد هدفا له أخيرا، قرّر أنّه لن يترك أيّ أحد آخر يحاول استغلاله. أصلا، كلّ شخص غيره غبيّ، فكيف له أن يترك مخلوقات دنيئة تتلاعب به؟
ابتسم التنّين الصغير وقال: "أعدك. بالأحرى، ستشكرني لاحقا."
التفت بعد ذلك إلى باقي مجموعته فوجد أن كلّ شخص كان يمسك بمن وضع عليه عينيه.
كان شبح أرض الموتى يمسك بـفانسي بينما كان أمير مملكة الصقيع يمسك برودي، وأخيرا كان القوّاس النجميّ يحمل تورتش والتاجر ناصر.
صرخ عندئذ التنّين الصغير: "لنلتقِ بعدما تتّصل العوالم من جديد لو كنتم على قيد الحياة."
استدار شبح أرض الموتى بينما ما يزال ممسكا بـفانسي، ثمّ صارت صورتهما شفافيّة حتّى اختفيا كأنّهما لم يكونا هناك، فتحرّكت مجموعة أخرى من الأعداء في الاتّجاه الذي افترضوا أنّ الشبح هرب ناحيّته.
أحاط الجليد بأمير مملكة الصقيع وبرودي كطبقة أخرى من الجلد، فانكسر الجليد بعد ذلك، لا، انكسر شكلهما وانتشرت قطعهما في الأنحاء قبل أن تتبخّر.
صرّت فويومي على أسنانها ثمّ أحاط بها وباقي إنس الجنّ الجليد كما حدث للأمير وبرودي واختفوا بنفس الطريقة أيضا.
بقي القوّاس النجميّ والتنّين الصغير، اللذيْن توهّج جسديهما برفقة الأشخاص الذين معهما. كان الوهج الذي يحيط القوّاس النجميّ وتورتش والتاجر ناصر خفيفا وبدا كطبقة من الضوء النجميّ، بينما كان الوهج الذي أحاط بالتنّين الصغير وصفاء والعالم المجنون نشطا، إذْ كان تيّارا برقيّا يدور حول أجسادهم بسرعة كبيرة.
"لا يبدو أنّه يمكننا تبادل بعض الضربات هذه المرّة يا عجوز. لنجعلها تحدث في المرّة القادمة."
ردّ التنّين الصغير على كلام القوّاس النجميّ الودود: "هذا يا هذا♪ لو كان نزالا ضدّ القوّاس النجميّ، فحتّى هذا العجوز سيبذل جهده. وداعا."
اختفى الاثنان ومن معهما بعد ذلك وكلّ ما بقي في مكانهما هو بقايا أضوائهما التي اختفى أحدها في شرخ فضائيّ بينما بلغ الثاني الأفق بالفعل.
وبالطبع، تبعهما أغلب من تبقّى، لكن هناك من قرّر الاستسلام عن الملاحقة والتركيز على أشخاص آخرين. نعم، مثل أولئك الخمسة الذين ظهروا في ساحة المعركة في مرحلة ما.
كان أولئك الخمسة هم 'كين نبيل و'كورو هيسي' و'كورو يامي' و'براون زونغ' و'يين يينغ'.
كان هؤلاء من أثار الآن انتباه من تبقّى هنا فتسابق إليهم كلّ من هبّ ودبّ.
وفي هذه الأثناء، بلغ فاصل حدوده في احتواء أولئك الشياطين وعاد إلى جانب سيّدته التي كان برفقة أنمار.
لقد حان وقت مغادرتهما أيضا، لكنّه لم يجرؤ على قول شيء بعدما لاحظ أنّ الملاك ملاك كانت عازمة على البقاء هنا حتّى تضمن سلامة أنمار.
انضم الشياطين الذين كانوا يقاتلون فاصل والملاك ملاك إلى جهة إبلاس، والذي كان هادئا. لقد بلغ الأمر ذروته، لكنّه لم يكون ينوي المغادرة بهذه البساطة.
لقد كان يعلم أنّ الملاك ملاك وفاصل سيقدرون على إبقاء أنمار تحت جناحهما حتّى اللحظة الأخيرة، لذا قرّر خطوته القادمة.
لقد انتهت عطلته وكان يجب عليه العودة حقّا من أجل استكمال عمله في المساعدة لفكّ الختمّ الذي وضعه ذلك اللعين وإعادة الاتّصال بين العوالم، لكنّه لم يرد أن يعود خاوي اليدين. لو ترك أنمار هنا فلن ينجح في جعل تلميذ حكيم ييأس تماما، ولكن إذا لم يستطِع أخذها معه، فما هناك إلّا خيار واحد-يجب أن تموت أنمار.
ظهرت أرض واسعة امتدّت كقارّة تحت السماء الشاسعة، لتختفي بعد ذلك بسرعة كبيرة وتتشكّل كسيف هلاليّ يتوهّج بضوء أزرق.
لم تمرّ لحظة على حدوث هذا، لا، بل في نفس الوقت الذي حدث فيه، امتدّت أرض واسعة أخرى كقارّة، وكانت الملاك ملاك في مركزها. لم تخسر أرضها ضدّ أرض إبلاس من حيث القوّة ونقاوة الطاقة الروحيّة، ولا من ناحيّة جلالها.
اختفت القارّة وتشكّلت كسيف طويل توهّج بضوء أزرق أيضا لوّحت به الملاك ملاك فـرفرف فستانها بالرياح الناتجة عن تلك الحركة.
بلع أحد الشياطين الذين كانوا يحاولون قتال الملاك ملاك سابقا ريقه وارتعشت أعين الباقين غير إبلاس. لقد كانت حقّا عضوة في الطاولة المستديرة.
لقد كانت روحانيّة مباركة مثلما كان إبلاس روحانيّا مباركا. بمعنى أدقّ، لقد كانت موهبتها لا تقلّ عن موهبته. بالأحرى، كان واضحا أنّها بلغت نطاق نهر العالم قبل أن يبلغه شيطان اليأس بمدّة طويلة.
ولكن تفاجأت الملاك ملاك عندما فكّ إبلاس قبضته حول رقبة الجنرال رعد وأمسكه بطاقته الروحيّة بدل ذلك، ومدّ كفّه فظهر عليه صحن فخّار.
اتّسعت عينا أنمار بشدّة؛ ذلك الصحن الفخّار، لقد رأته سابقا. كيف لها أن تنسى؟ لقد كان ذلك الصحن، أو بالأحرى ما بالصحن، هو ما تسبّب في جرح بليغ للغاية لمعلّمها، وكاد يقتل باسل.
أمال إبلاس الصحن الفخّار فسقطت قطرة من السائل الأحمر على سيفه الهلاليّ. توهّج الضوء الأزرق الذي يحيط بالسيف الهلاليّ بشكل كبير كالنار التي أضيف لها الزيت.
عبست الملاك ملاك بعدما استشعرت تلك الهالة المشؤومة التي انبعثت من السيف الهلاليّ الذي ظهر في وهجه الأزرق خطّا أحمرا بين الحين والآخر. بدا الخطّ الأحمر كشريان ينبض بالحياة.
قال إبلاس بصوت هادئ بعدما قبض الجنرال رعد من رقبته من جديد: "والآن، لنُنهِ هذا الأمر."
لم يسع الجنرال رعد سوى الارتجاف ولعن روحه وكره نفسه العاجزة. لم يستطِع أن يفعل شيئا بينما قاتلت الملاك ملاك وفاصل من أجل حماية أنمار، وانتظر هو نهاية الأمر فقط، حتّى يكون ذلك المرسول.
***
"آآآه!"
استفاق الجنرال رعد مرعوبا فجأة، كما لو أنّه رأى كابوسا، لكنّه كان يعلم، هو لم يرَ كابوسا خلال نومه، بل عاشه في يقظته.
لم يعلم الجنرال رعد كم مرّ من الوقت، لكنّه بمجرّد ما أن استيقظ حاول القيام بالمهمّة الموكّلة له. المهمّة التي أجبِر على إتمامها حتّى لو لم يرد ذلك. كان يجب عليه أن يبلغ ذلك الشخص بكل ما حدث، عليه أن يخبره بالحقيقة، وعليه أن يطلب منه شيئا.
ولكن... هل حقّا سيلبّي الفتى القرمزيّ طلبا لشخص مثله؟ ولو عنى هذا الطلب قتله. أو ربّما سيجد الفتى القرمزيّ الإبقاء على حياته المثيرة للشفقة أفضل كما فعل ذلك الشيطان حتّى يتعذّب لما بقي من عمره؟
ولكن كلّ هذا لم يهمّ الآن. حاليا، عليه إخباره بكلّ ما حدث.
نهض من مكانه واتّصل.
حاول الاتّصال مرارا وتكرارا، لكنّ الفتى القرمزيّ لم يجب. حاول بدون توقّف، وتعذّب في كلّ مرّة ظنّ أنّ الفتى القرمزيّ سيجيبه. كيف له أن يصارحه بتلك الحقيقة؟
ومع ذلك، يجب عليه أن يخبره بتلك الحقيقة.
(ماذا هناك أيّها الرجل الأشقر؟ هل هذا له علاقة بسبب عدم قدرتي على التواصل مع أنمار والبقيّة؟)
نجح الاتّصال!
كان ذلك الصوت كالصاعقة.
لم يقل الجنرال رعد شيئا إلّا بعد مرور قليل من الوقت، لكنّ كلامه لم يكن ردّا على سؤال باسل، بل مجرّد كلمات متفرّقة، ومتردّدة، ومذعورة: (أنـ-أنا آسف... لديّ خبر سيّئ... أرجوك أنصت بهدوء...)
تنفّس الجنرال رعد بصعوبة بينما يفكّر في الكيفيّة التي سيقول بها ما حصل. هل سيختلف شيء أصلا لو قالها بطريقة أو بأخرى؟ لا كلام يمكنه تغيير واقع ما حدث. لا شيء يمكنه التخفيف من قسوة تلك الحقيقة المطلقة.
(أيّ خبر سيّئ؟......................يتبع!!!!!!
(الجزء الثالث)
خبر سيّئ. ما الذي يمكن أن يحدث؟ العوالم مختومة ولا يمكن لأحد التنقّل إلى هنا من عالم آخر. هل يمكن أنّ خلافا ما حدث في أكاديميّة الاتّحاد؟ ألهذا السبب لا تجيب أنمار والآخرين؟ ولكن كيف لأحد من هذا العالم أن ينافسهم؟(لقـ... لقـ-لقد قتلوا وسلبوا كلّ شيء.)
كلّ شيء.
ارتعش جسد باسل لمّا سمع هاتين الكلمتين. كلّ شيء. لم يقل باسل شيئا، لا، لم يقدر أن يقول شيئا وانتظر الخبر يأتي من الجنرال رعد الذي كانت أفكاره متبعثرة.
(لقد جاؤوا مرّة أخرى... و... لقد قتل ذلك الشيطان... ذلك الشيطان... قتلهم كلّهم. لقد قتل جلالة الإمبراطور...)
بووم
دقّ قلب باسل بقوة كبيرة كما لو أنّه سينفجر من مكانه. تسارعت بعد ذلك دقّات قلبه، وهذا بسبب أنّه علم أنّ جلالة الإمبراطور هو الكبير أكاغي من طريقة كلام الجنرال رعد. ومع ذلك، لم يقدر أن يقول شيئا، وهذا لأنّ ما سمعه تاليا جعل من جسده يهِن لدرجة لم يقدر فيها على تحريك شفتيه.
(وقتل الجنرال منصف.)
كان صوت الجنرال رعد في ذهن باسل واهنا للغاية، لكن ما كان يقوله كان ثقيلا بشكل لا يوصف. الكبير أكاغي والجنرال منصف. الشخصان اللذان عدّهما باسل كجدّ وعمّ. الشخصان اللذان حسباه جزءا من عائلتهم وعاملاه كواحد منهم.
ماتا؟ قُتِلا؟ ما الذي يتحدّث الجنرال رعد عنه الآن؟ ذلك الشيطان قتلهما؟ أيّ شيطان في هذا العالم المعزول؟
(لقد قتل أخويْ القطع.)
الشابّان اللذان اتّسخت أيديهما بسبب الأميرة شارلوت التي استعملت أختهما الصغيرة حتّى تتحكّم فيهما. الشابّان اللذان وثقا فيه وتبعاه. الشابّان اللذان جعلاه يتمنّى لو امتلك أخيْن أكبرين مثلهما.
اهتزّ جسد باسل بعنف شديد وارتعشت عيناه. تنفّس بسرعة كبيرة بينما يحاول استيعاب ما يقال له. ألم يكن من المفترض أن يخرج من هنا ويذهب إلى أكاديميّة الاتّحاد المباركة حتّى يلتقي بهؤلاء الأشخاص؟ ألم يكن يُفترض أن يبدأ في الاستعداد لتنميّة هذا العالم الروحيّ كفاية لمواجهة أخطار باقي العوالم الروحيّة؟
قال باسل بتردّد: (مـ-ما الذي...)
لم يكمل باسل كلامه. أضاف الجنرال رعد بعد ذلك ما كان يخشى باسل سماعه. لقد قُتل الكبير أكاغي والجنرال منصف وأخوي القطع. من قُتِل أيضا؟ تورتش والآخرين؟ عائلته؟
(عائلتك... هو... ذلك اللعين... شيطان اليأس، إبلاس.... لقد قـ-قتل عائلتك!)
"هااااااااا............؟؟؟؟؟؟؟؟؟"
لم يفهم باسل شيئا. لا، بل لم يرد أن يفهم أيّا من هذا. الكبير أكاغي، والجنرال منصف، وأخويْ القطع، وعائلته. ما الذي يسمعه؟ شيطان اليأس؟ إبلاس؟ هل يمكن أنّ الجنرال رعد قد حلم بكابوس وما يزال يعتقد أنّه يحلم؟
(ما الذي تقوله؟ هل تحلم؟ ها... أخبرني... يا أيّها الرجل الأشقر...)
صرخ باسل بينما ينقل كلامه للجنرال رعد: "أخبرني أنّك حملت كابوسا كهذا! اللعنة!"
ما سمعه باسل كان شهيق الجنرال رعد المملوء باليأس.
(أنا آسف... أنا آسف. أنا آسف... أنا... لم أقدر أن أحميهم. لم أستطع إنقاذهم. لم أستطع إنقاذ السيّدة لطيفة، وأمّ الفتاة الشقراء، وجدّتك. لم أستطع حماية أحد. آسف... آسف...)
نظر باسل إلى يديه اللتين كانتا ترتجفان. لقد كان جسده بالكامل على ذلك الحال. يجب أن يكون هذا مجرّد حلم. عليه أن يذهب إلى هناك للتأكّد من أنّ هذا حلم. عليه أن يقابل الجنرال رعد حتّى يجعله يقول أنّ كلّ ما قاله مجرّد حلم اعتقد أنّه حقيقة.
مدّ باسل يده بسرعة فسُحِب إليها الرمح الطاغيّة من بعيد بسرعة كبيرة.
صرخ الرمح: "مـ-ما الذي تفعله الآن يا لعين؟"
نظر إليه باسل شزرا، وقال شيئا واحدا: "اخرس!"
لو كان للرمح جسدا، لكان يبلع ريقه الآن. اختار السكوت بعدما لاحظ مزاج باسل السيّئ للغاية، وجدّيّة وضعه.
ظهرت المخطوطات الثلاث في يد باسل اليسرى، فجعلها تطفو أمامه وتحكّم فيها بطاقته الروحيّة. شكّلت المخطوطات الثلاث مثلّثا شعّت رؤوسه وامتدّ منها ضوء بنفسجيّ التقى في المركز لتتشكّل شعلة بنفسجيّة هنا.
قال باسل بدون النظر إلى الرمح: "ليس لديّ الطاقة الكافيّة لاستخدام قدراتك بشكل مريح، لذا سأستخدم هذه المخطوطات كوسيطة."
اهتزّ الرمح قليلا بشكل مطيع كما لو كان يومئ رأسه لو كان يملكه.
لقد كان يعلم ما كانت هذه المخطوطات، أو بالأحرى، لقد كانت هذه المخطوطات الثلاث مبنيّة بمساعدته. لقد كان هو المسؤول عن زرع فيها قدرة التلاعب بالفضاء. لم يتذكر هذا، لكنّه علم عنه لمّا شاهدها.
استعمل باسل هذه المخطوطات للتنقّل من أجل مساعدة الجنرال منصف والآخرين بالفعل، وكان يعلم أنّ عدد مرّات استخدامها محدود، لكنّه لم يهتمّ بهذا الآن. حاليا، عليه أن يسرع حتّى يسمع من الجنرال رعد يقول أنّ ما قاله سابقا كان مجرّد ما شاهده في كابوس الليلة الماضيّة.
امتدّت طاقة باسل الروحيّة نحو الرمح الذي اهتزّ بعد ذلك بشكل طفيف. لقد كان يشعر بهالة باسل والضغط القادم منها. فقط ما الذي كان يجري مع هذا اللعين؟ لماذا صار 'حضوره' قويّا هكذا؟ نعم، مثل تلك المرّة التي جعله فيها يرضخ. لا، بل أكثر من ذلك بكثير.
أحكم باسل القبض على الرمح واتّخذ وضعيّته مستعدّا لاختراق مركز المثلث. شحن الطاقة الروحيّة الكافيّة ثمّ طعن تجاه المركز مباشرة.
صرير
التقى الرمح بالشعلة البنفسجيّة، لا، اخترقه واختفى رأس الرمح داخل الشعلة البنفسجيّة. تموّجت الشعلة بعد ذلك وازداد حجمها فجأة حتّى غطّت مساحة المثلّث بالكامل. حدّق باسل إلى المثلّث البنفسجيّ وبدأ يستخدم الحكمة السياديّة بعدما تراجع للخلف قليلا.
ظهرت ثلاث كرات ضوئيّة فضيّة فوق رأسه فبدأ يستخدم الدرجات الثلاث التي يمكنه استخدامها من الحكمة السياديّة.
دارت الكرات الفضّيّة حول محاورها الخاصّة وحول مدارها المشترك الذي كان مركزه رأس باسل.
كان باسل ما يزال متّصلا بالجنرال رعد، لذا استخدم هذا الاتّصال من أجل ربط هذا المكان بمكان الجنرال رعد، واستخدم رؤيته الحكيمة السحيقة وتحليله الحكيم الشامل وتحكّمه الحكيم السليم من أجل النجاح في هذا. كان هذا ممكنا فقط لأشخاص يمكنه اتّباع مسار الموجات السحريّة والروحيّة وتحليلها والتحكّم فيها من أجل حساب الموقع المفترض الانتقال إليه.
كان يعلم أنّ مكان الأكاديميّة سيكون قدّ تغيّر على الأغلب، لذا بذل مجهودا كبيرا محاولا اتّباع مسار اتّصاله بالجنرال رعد. ولحسن الحظّ، لم يكن موقعها بعيدا للغاية. بل على العكس، يبدو أنّه صار أقرب إلى قارّة الأصل والنهاية ممّا كان عليه.
فهم باسل حالا أنّ القارّة العظيمة وقارّة الأصل والنهاية قد اقتربتا من بعضهما عمّا كانتا عليه. وبالطبع، فهم هذه الأشياء تلقائيّا، وليس لأنّه اتهمّ فيها حاليا. لم يكن لديه وقت ليفكّر بأشياء كهذه.
سحب الرمحَ ثمّ وضعه أمامه بشكل عموديّ، قبل أن ينطلق بعدما وجّه رأس الرمح تجاه الثلّث البنفسجيّ.
اخترق الرمح المثلّث البنفسجيّ، أو حاول ذلك، لكن ما حدث كان مختلفا. امتدّ المثلّث البنفسجيّ كالمطّاط بسبب اختراق الرمح له حتّى صار هناك مكانا كافيا لباسل داخل المثلّث.
كان هذا الرمح يتحكّم في الفضاء كمادّة ملموسة.
غلّف الضوء البنفسجيّ باسل وعادت المخطوطات إليه، فوجد نفسه ينتقل عبر مسار سلس عبر بعد آخر.
لم يمر وقت طويل قبل أن يلاحظ مثلّثا كالذي جاء منه. لقد كان هذا المثلّث أبيضا. كان ذلك يشير إلى الضوء القادم من الجانب الآخر.
***
توقّف الاتّصال بباسل فجأة، فاستعجب الجنرال رعد. لم يستطع أن يقول شيئا واحدا بدون أن يتلعثم. لم يقدر على تنفيذ مهمّته الوحيدة.
كان الجنرال رعد يائسا.
صرير
انشقّ الفضاء فجأة مرّة أخرى أمامه.
"ها..."
لهث الجنرال رعد وسقط على ركبتيه: "ماذا الآن؟ ما الذي يمكن أن يحدث مرّة أخرى؟ ألم تأخذوا منّا كلّ شيء بالفعل؟"
كان يعتقد الجنرال رعد أنّ نفس الشيء يحصل كما حدث عندما ظهروا أولئك الملاعين، لكنّه لاحظ أخيرا أنّ تخمينه كان خاطئا.
ظهر ذلك الفتى القرمزيّ من ذلك الشرخ الفضائيّ. لم تظهر تلك المخلوقات الفظيعة.
حدّق الجنرال رعد إلى باسل الذي كانت عيناه متّسعتين بشدّة. ليس لأنّه رأى دموع الجنرال رعد التي لم يمكن إيقافها، بل لأنّه رأى الأرض التي كان يقف عليها شبه مدمّرة.
لقد كانت هذه الأرض جانب البحيرة المباركة.
تلك البحيرة التي اعتادت أن تكون خلّابة وموقّرة حتّى اعتُقِد أنّها مباركة... لقد كانت مغطّاة بالوحل ومستنزفة من الطاقة السحريّة والروحيّة.
كانت التربة تحته ميّتة وصارت مجرّد غبار لا يحمل ذرّة من طاقة العالم.
كان بناء الأكاديميّة يبدو كقلعة مهجورة.
كان الناس المنتشرين في كلّ مكان يبدون كجثث هامدة، لا، بالفعل كانت هناك جامدة بينهم، إلّا أنّ الحيّ والميّت كانا سيّان.
"لم يكن حلما..."
كان هذا أوّل ما قاله باسل بعدما رأى الكارثة التي حلّت عند غيابه.
"الكبير أكاغي."
بدأ يردّد الأسماء التي سمع بخبر موتها.
"العمّ منصف."
تحرّك خطوة كلّما نادي اسما. تجاوز الجنرال رعد ومدّ يداه نحو الفراغ كما لو أنّه يحاول إمساك شيء.
"غايرو وكاي."
ولكن مهما أمِل، لم يكن هناك شيء ليمسكه. كان هناك فقط الخراب.
الخراب والعذاب.
"أمّي... أمّي... أين هي أمي؟"
ارتفع كلام باسل: "أين أمّي؟"
صرخ: "أخبروني أين هي أمّي؟!"
ولكن، لا أحد أجاب. لم يكن للجثث شيئا لتقوله.
"عائلتي... لقد تركتها هنا في رعايتكم. اللعنة! أين تخبّؤونهن؟"
التفت باسل بعد ذلك إلى الجنرال رعد، الشخص الوحيد الذي بدا ما يزال حيّا، وقال بعينين مضبّبتيْن: "صحيح... أنت... الرجل الأشقر. أنت واحد من قادة الأكاديميّة الثلاثة. أنت تعلم أين هن، أليس كذلك؟ هاها، بالتأكيد تعلم."
سارع باسل عائدا إلى الجنرال رعد ثمّ قال: "هيّا... أخبرني. أين خبّأتهن؟"
وضع باسل يديه على كتفيْ الجنرال رعد وهزّه بشكل عنيف بينما يكرّر نفس الكلام: "أخبرني، لقد خبّأتهن في مكان آمن، صحيح؟ كما هو متوقّع منك. كنت أعلم أنّ هذا حلم سيّئ."
بالرغم من أنّه كان يسأل عن مكانهنّ، إلّا أنّه ما زال يريد من هذا أن يكون حلما.
لقد أدرك أنّ الجنرال رعد لم يحلم عندما شاهد ما حصل هنا بعدما جاء.
"سأستفيق بعد قليل وأجد نفسي بالمنزل. نعم، سأرى عندئذ أمي، والعمّة سميرة، وجدّتي ليندا. هاها... سأراهنّ. نعم، لنستيقظ من هذا الكابوس."
لذا كان يعتقد أنّ هذا كابوسه الآن. لقد كان يأمل أنّ يكون مجرّد كابوس.
"آسف..."
حدّق الجنرال رعد إلى دموعه الخاصّة التي نزلت على الأرض بدون أن يكون قادرا على رفع رأسه. ظلّ هناك يردّد نفس الشيء كما لو أنّه فقد القدرة على قول شيء آخر.
"آسف... آسف... آسف... آسف."
"ها" لهث باسل لهثةً كالضحكة وقال: "ما الذي تقوله؟ إنّك مزعج حقّا حتّى في الأحلام. ما الذي تتأسّف بشأنه؟ انتظر، هذا مجرّد حلم. ما الذي أحاول مناقشته معك في حلم؟"
دوو
استغرب باسل لمّا وجد قبضة الجنرال رعد تبتعد عن وجهه بعد أن لمسته. هل حاول لكمه قبل قليل؟
لم يحاول، بل فعلا لكمه.
حدّق الجنرال رعد إلى باسل في المقابل ثمّ صرخ بينما تنهمر دموعه بلا توقّف: "إنه ليس حلما، اللعنة!"
"حسنا، حسنا، إنّه ليس حلما."
أكمل باسل ساخرا: "إذن لمَ لا أشعر بأيّ ألم بالرغم من أنّك بدوت كما لو أنّك لكمتني بكلّ قوّتك؟ ها؟ أليس من المفترض أن أشعر بالألم إن كان هذا واقعا؟"
لقد كان فقط اختلافا في المستويات. لقد كان باسل سيّدا روحيّا بالفعل، وليس أيّ سيّد روحيّ، بل شخص نجح في تحقيق ما لم يسبق لأحد النجاح فيه. لقد كان شخصا رائدا لمسار روحيّ فريد عبر العصور.
لكنّه لم يفكّر حتّى في هذا الأمر البسيط. لقد أراد من كلّ هذا أن يكون مجرّد حلم.
نظر الجنرال رعد إلى باسل الذي ما زال لا يريد تصديق ما قاله حتّى الآن. هذا ما كان يخشاه. لم يكن يريد تكرار قول تلك الحقيقة مرارا. مرّة واحدة كانت صعبة بالفعل، لكن كان عليه الآن أن 'يقنع' الفتى القرمزيّ بتصديق كل هذا.
"عندما انتهى تحوّل العالم الروحيّ، وفاضت طاقته الروحيّة، ظهرت شروخ فضائيّة. أولئك الملاعين بدؤوا يظهرون واحدا تلو الآخر."
بدأ الجنرال رعد يروي ما حدث. لقد كانت هذه هي المهمّة الموكّلة له. لقد كان هو المرسول. مرسول الشيطان.
نظر الجنرال رعد إلى باسل الذي كان يهزّ جسده باستمرار. كانت قبضتا باسل محكمتين بشدّة حتّى شعر الجنرال رعد أنّ كتفيه سيُكسران، لكن لم لكن ذلك ما آلمه حتّى عضّ شفتاه وغرس أظافره في كفّيْه؛ لقد كانت الكلمات التي يجب عليه أن يستخدمها حتّى يقنع الفتى القرمزيّ هي ما تجعله يتألّم. كان عليه تذكّر كلّ ما حدث بتفاصيله حتّى يخبر باسل... تذكّر تلك اللحظات...
كلّ كلمة جعلته يسترجع الأحداث التي عرف فيها حقّ المعرفة عن ضعفه وعدم نفعه.
ولكن لم يكن هو الشخص الوحيد الذي كان يعاني. لقد كان يعلم. هو شخص علم عن ضعفه بعدما 'حاول'. هو شخص 'يئِس' بعدما 'أمِل'. إذن ماذا عن الشخص الذي لم تُتَح له فرصة ليقاتل أو يحمي أحبّاءه؟ ماذا عن الشخص الذي فاته الأوان على التحلّي بالأمل حتّى؟
كان يعلم أنّ الفتى القرمزيّ أمامه يتعذّب بكلّ كلمة ينطقها، فكيف له أن يرضخ هو لآلامه ويلازم الصمت؟ ألم يشعر بالعار بشكل كافٍ؟
أليس عليه أن ينفّذ مهمّته الأخيرة بشكل جيّد على الأقلّ؟
وصل الجنرال إلى الجزء الأصعب: "لقد سحق رأس جلالته وحرص على أن تشاهد الفتاة الشقراء عينيه تخرجان من مكانهما."
كانت روحه تتآكل بينما يقول ذلك بالتفصيل. وفي الجهة الأخرى، كان باسل يتمتم بشكل غير مسموع، لكن علم الجنرال رعد عمّا كان يردّده باسل، 'هذا حلم. يجب أن يكون حلما.' ومع ذلك، قرّر الجنرال رعد المواصلة بدون نسيان شيء.
وصل إلى جزء مقتل الجنرال منصف، ورأى باسل يتلعثم في تمتمته.
ذكر مقتل أخويْ القطع فأكّد باسل لمرّة واحدة بصوت مرتفع على أنّ هذا حلم قبل أن يستأنف تمتمته، متشبّثا بكتفيْ الجنرال رعد.
وصل الجنرال رعد لأصعب جزء. الجزء الذي تيقّن فيه من ضعفه وعدم نفعه. الجزء الذي فقد فيه روحه وليس فقط كرامته.
"ذلك اللعين... ذلك الشيطان اللعين." بكى الجنرال رعد وقال: "لم يسمح لها بتوديع الفتاة الشقراء حتّى. لم يتركها تكمل كلماتها الأخيرة حتّى. هو لم يهتمّ لها أصلا. كان مهتمّا بالفتاة الشقراء فقط. قتلها بالرغم من أنّه لم يهتمّ بها. اللعنة! تبا...!"
كان هذا الجزء من رواية الجنرال رعد هو ما جعل تمتمة باسل تصبح صراخا: "اخرس! اخرس! اخرس! لماذا لا أستيقظ، لماذا؟! اللعنة!"
ضعفت يدا باسل وارتخت قبضتاه حول كتفيْ الجنرال رعد، فسقط على ركبتيه ويديه.
لو كان هذا حلما، فليوقظه أحد، لكن باسل بدأ يدرك أنّه ليس حلما.
لو كان هذا حلما، لكان قد استيقظ منه مسبقا.
أراده أن يكون حلما، لكنّه لم يكن حلما.
لقد كان يعلم. حتّى بدون الحكمة السياديّة، كان يعلم بكلّ حواسّه أنّ هذا واقع.
كانت الأرض التي يلمسها حقيقيّة ولو كانت تربتها ميّتة.
علم أنّ السماء التي رآها فوقه واقعيّة ولو كانت رؤيته ضبابيّة.
استطاع شمّ رائحة الدماء التي يكرهها كثيرا في الأرجاء.
تذوّق ملوحة دموعه التي بدأت تنهمر بالفعل من عينيه.
وسمع... سمع التفاصيل المؤلمة من فم الجنرال رعد ذي الصوت المهتزّ.
لم يكن هذا حلما وإنّما واقع. واقع لم يرده أن يحصل. واقع أمِل ألّا يحصل. واقع فعل كلّ ما بوسعه حتّى لا يحصل. واقع غيّر العالم من أجله حتّى لا يحصل.
لكن... حصل!
في النهاية حصل. حصل! لقد حدث حقّا! كلّ ما قاله الجنرال رعد واقع. إبلاس قتل الكبير أكاغي والجنرال منصف وأخويْ القطع. شيطان اليأس قتل أمّه والعمّة سميرة وجدّته.
وعندما أدرك... لا، عندما 'تقبّل' باسل الواقع، تذكّر شيئا.
أنمار.
أين هي؟
أين تورتش والآخرين؟
نظر إلى الجنرال رعد بعينين أكثر حمرة من عادتهما. كانت الشرايين فيهما تكاد تنفجر.
نهض باسل ثمّ وقف أمام الجنرال رعد وقال بصوت بارد، بارد كثيرا لدرجة شعر فيها الجنرال رعد بالقشعريرة بالرغم من أنّ الصوت كان خاليا من الحياة لقلّة ارتفاعه وحدّته.
"أكمل."
"حـ-حسنا."
لقد أراد أن يعلم. ما الذي حدث لها؟ هل فقدها أيضا؟ هل فقد كلّ شيء؟
حكى الجنرال رعد عمّا حصل مع تورتش والآخرين، حتّى وصل إلى الجزء الذي الأسوأ بين الأسوأ مرّة أخرى.
"لا أعلم ما مصير الفتاة الشقراء حاليا. بالرغم من أنّ تلك المرأة والرجل الذي كان معها دافعا ضدّ إبلاس والشياطين، بالرغم من أنّهما نجحا في ذلك حتّى آخر لحظة..."
نظر الجنرال رعد إلى باسل، إلى عينيه اللتين لم يعد يرى فيهما بياضا. كانتا حمراوين باحتقان الدم فيهما. بدتا كعينين لشخص يريد سفك الدماء حالا وأبدا، لكنّهما أيضا جعلتاه يرى انعكاس الآلام التي يشعر بها باسل حاليا.
بلع ريقه وأكمل: "عندما ظنّنا أنّه استسلم وقرّر الجميع المغادرة، استخدم قوّة غريبة كانت عبارة عن سائل أحمر في صحن فخّار. لم تستطع المرأة ولا الرجل ملاحظة أنّ السائل الأحمر كان مختلطا بدماء أعدائهما التي التصقت بهما."
كان السائل الأحمر بنفسه كالدماء، ولكن بما أنّ شخصا في مستوى الملاك ملاك لم يلاحظه، فلا بدّ أنّ ذلك السائل شيء خاصّ وفريد للغاية. وكيف لا؟ لقد كانت تلك قوّة سلطان أصليّ.
ومع ذلك، لم يستخدمه إبلاس هذه المرّة مباشرة كما فعل ضدّ إدريس الحكيم. هناك اختبار جدارة لأيّ شيء يخالف قواعد وقوانين هذا العالم. فإذا أراد شخص إخلال التوازن، عليه أن يكون مستعدّا لتجاوز اختبار العالم حتّى يكون جديرا بذلك.
واستخدام قوّة سلطان أصلي، كيان يعد في حد ذاته إخلالا بالتوازن الطبيعي، سينشّط اختبار الجدارة لا محالة.
في ذلك الوقت ضدّ إدريس الحكيم، قرّر إبلاس استخدام قوّة سلطان أصليّ، وكان مستعدّا لمواجهة اختبار العالم، لكنّه هذه المرّة لم يملك الوقت ولا الحاجة للقيام بذلك.
كلّ ما احتاج لفعله هو استخدام جزء بسيط للغاية. فقط قطرة صغيرة جدّا.
"يبدو أنّها تعرّضت للعنة ما بسبب شيطان اليأس، فاضطرّت تلك المرأة في النهاية اصطحابها معهما. كان وجه المرأة شاحبا عندما علمت عمّا أصاب الفتاة الشقراء، بينما كان وجه إبلاس مشرقا، كـ-كما لو أنّ كلّ شيء حدث كما أراد."
فقط جزء صغير من تلك القوّة الملعونة التي كانت تستمرّ في أكل روح إدريس الحكيم بالرغم من أنّ الهجوم كان قد انتهى. ذلك الجزء الضئيل كان كافيا ليضع إبلاس لعنة على أنمار بدون أن تستطيع الملاك ملاك وفاصل ملاحظة شيء في الوقت المناسب.
نظر الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ.
لقد كان يعلم الجنرال رعد معنى كلامه.
قد تكون أنمار ماتت أيضا.
حدّق الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ الذي ظلّت عيناه الحمراوان متّسعتين بشدّة كما لو أنّه يحاول استدراك الأمور.
بالفعل، كان عقل باسل مشغولا بشيء واحد. هل فقد حقّا كلّ شيء؟ من أجل ماذا فعل كلّ ما فعل حتّى الآن؟
ألن يرى ابتسامة أمّه؟ انس الابتسامة... حتّى لو بكت كلّ ليلة كعادتها، فقط أعدها له.
ألن يرى العمّة سميرة التي ربّتت على رأسه ودافعت عنه في كلّ مرّة أتى بها متّسخا ووبّخته أمّه.
ألن يرى جدّته التي تكلّمت عن عشيرة النار القرمزيّة بكلّ فخر وفرح؟
ألن يرى بعد الآن أنمار التي لاحقته في كلّ مكان وسخّرت نفسها له منذ نعومة أظافرهما؟
الكبير أكاغي، والجنرال منصف، وأخويْ القطع. كلّ هؤلاء الأشخاص الذين تقرّب منهم كثيرا.
تورتش والآخرين اختفوا كذلك.
كلّهم... فقدهم كلّهم.
تكلّم الجنرال رعد فجأة. لم يتوقّع باسل أنّ الجنرال ما زال يملك ما يقول.
لكن الجنرال رعد كان مرسولا، وأيّ مرسول يحمل رسالة.
لم يبلغ الجنرال رعد رسالته بعد.
تذكّر باسل أنّ الجنرال رعد قد قال شيئا عن إمساك إبلاس إيّاه. شعر أنّ ما سيقوله الجنرال رعد تاليا هو ما فعل إبلاس كلّ هذا من أجله.
"أخبَرَني أن أبلغك رسالة بعدما أخبرك بكلّ ما حدث بالتفصيل."
علم باسل عمّن كان يتكلّم الجنرال رعد بدون ذكر اسمه.
تعب الجنرال رعد من ترديد اسم ذلك اللعين.
"هذا ما قاله ذلك اللعين، 'البارحة قتلت معلّمك. اليوم أبدت عائلتك وأحبابك. فماذا، يا ترى، سآخذ منك غدا؟ متشوّق للقائنا القادم يا تلميذ حكيم، لا، يا باسل.' كان هذا آخر شيء أتذكّره قبل استيقاظي هنا."
***
احمرّت عينا باسل لدرجة كبيرة، حتّى اعتقد الجنرال رعد أنّ الدم سيسيل منهما.
اهتزّت الأرض حولهما بشدّة. علم الجنرال رعد أنّ هذا كان بسبب طاقة باسل الروحيّة. طاقة روحيّة شعر لسبب ما أنّها أثقل وأنقى من الطاقات الروحيّة التي بعثها بعض تلك الوحوش اللعينة.
صرخ باسل فجأة: [إبــــــــلااااااااااااااااااااااااااس!!!]
كان صراخه صاخبا للغاية حتّى بدون استخدام أيّ معزّز.
بلغ صوته كل الجثث الهامدة في جميع الأنحاء. تحرّكت بعض الجثث أخيرا بعدما عادت الحياة إليها.
كلّهم نظروا إلى الشابّ القرمزيّ الذي كان يتصرّف بشكل غريب للغاية.
بعدما صرخ باسل، هدأ فجأة، لكنّه صرخ بعد ذلك بشدّة: [لا أريد أن أهدأ، اللعنة!]
لم يفهم أحد ما الذي يقصده.
لكنّه هدأ من جديد. كان ذهنه يصير صافيا. كان عقله يصبح سليما.
ومع ذلك صرخ: [اللعنة! لقد قلت أنّني لن أهدأ! لا تجعليني أهدأ!]
تردّدت صرخاته في الأنحاء بدون توقّف. اعتقد الجنرال رعد والأشخاص الذين عاد إليهم بعضا من الرشد أنّ باسل فقد رشده.
لم يعلموا عمّا كان يحدث.
كيف لهم أن يعلموا عن شيء كالحكمة السياديّة؟
ذات حين، تخاصم باسل والعالم المجنون عندما كانا في أرخبيل البحر العميق، فحاول العالم المجنون التلاعب بمشاعر باسل، لكنّ باسل لم يفقد رشده. كان هناك سبب واحد–الحكمة السياديّة.
كلّما بلغت به الأمور لحد يفقد فيها رشده ومنطقه السليم، جعلته الحكمة السياديّة يهدأ ويترزّن كإجراء اضطراريّ. كان ذلك أثرا جانبيّا للدرجة الثالثة من الحكمة السياديّة، التحكّم الحكيم السليم.
كان يهدأ، لكنّ غضبه كان شديدا للغاية. حتّى لو جعلته الحكمة يهدأ، كان يتذكّر الأحداث التي حصلت في غيابه ويغضب بجنون من جديد.
كان يتذكّر أوجه أحبابه، ويتقبّل حقيقة موتهم. كان هذا يجعل روحه تضطرب بشدّة، لكنّ الحكمة السياديّة أتمّت دورها بشكل مثاليّ.
كان تلك حلقة لا نهائيّة. كان هذا معذّبا أكثر. لم يستطِع أن يغضب بشكل مناسب حتّى.
كانت هذه أوّل مرّة يكره فيها باسل الحصول على الحكمة السياديّة من معلّمه.
لم يكن هناك شيء بدون ثمن.
كان يشعر بحزن شديد، لكن لم يحقّ له أن يغضب بشكل مجنون. كيف له أن ينفّس عن غضبه؟ كيف له أن يكون هادئا؟
شعر أنّ الحكمة السياديّة لم تكن نعمة بل نقمة. لقد مات أعزّ الناس إلى قلبه لكنّه كان هادئا. أراد أن يُجنّ ويدمّر كلّ ما هو أمامه، لكن لم يستطع فعل شيء كهذا وعقله سليم.
كان يقترب في الأثناء بعض الأشخاص منه. كان من بينهم الإمبراطور هاكوتشو والإمبراطور غلاديوس، والأميرة كريمزون سكارليت وأمّها.
كانت عائلات الأباطرة معزولة في مكان ضيافة خاصّ، ولم يهتم لهم أحد. في الواقع، لم يهتم أحد لأيّ شخص طالما كان بدون فائدة. فقط إبلاس من اهتمّ بأشخاص كعائلة باسل بالرغم من أنّهم مجرّد أشخاص عاديين.
كانت أوجههم شاحبة، وخصوصا الإمبراطور هاكوتشو الذي فقد أخته، والأميرة سكارليت وأمّها اللتين فقدتا الكثير، تماما مثل باسل.
لقد مات الكبير أكاغي الذي كان أبا محبّا لسكارليت وزوجا مخلصا لزوجته. مات الجنرال منصف الذي كان أبا وقدوة لابنه كارماين، وزوجا أحبّته سكارليت من أعماق قلبها بعدما تزوّج بها وساعد في المحافظة على استقرار عائلتها. وأخيرا، اختفت أنمار التي فقدت عائلتها.
فقدت سكارليت اليوم أبا وزوجا وابنة أخٍ وثلاثة نساء عدّت إحداهن جدّة لها والأخريَيْن أختين لها.
كانت الأجواء كئيبة ومظلمة بالرغم من أنّ الشمس لم تغرب بعد وظهر أفق خياليّ بالنظر من فوق السحب على الأرض المباركة الطافية في السماء.
لم يتكلّم أحد بالرغم من أنّهم وصلوا إلى باسل. من يمكنه التكلّم معه وهو ما يزال يصرخ ويهدأ باستمرار؟ لقد كان يبدو كالمجنون تماما.
لقد كانت الكثير من الأسئلة تجوب خاطرهم. وأهمّها، أين كان باسل عندما حدث كلّ ذلك؟
لماذا لم يأتِ؟ لماذا لم يستطع أحد الاتّصال به؟
كان هناك بعض الأشخاص الذين شكّوا في غيابه في ذلك الوقت الحاسم. هل ربّما خاف ولم يأتِ؟ هل هرب بعدما علم أنّ أولئك الملاعين كانوا يخطفون الآخرين؟
ولكن... كلّ من فكّر بهذا كان لا يعرف باسل بشكل شخصيّ، وحتّى لو راودتهم مثل هذه الأفكار، كانوا يقمعونها مباشرة؛ فهناك من رأى كيف أنقذ باسل العالم من حلف ظلّ الشيطان، وهناك من رأى كيف حمى العالم من التحوّل الروحيّ بتلك الحواجز التي نشرها في أنحاء العالم، وهناك من شهد قدومه البطوليّ كي ينقذ الجنود في قارّة الأصل والنهاية، وهناك من رأى أنّ الأباطرة والقادة الكبار لم تراودهم هذه الأفكار حتّى وسلكوا نفس المنهج.
تحسّرت سكارليت وأمّها لوقت طويل قبل أن تقتربا من باسل، كلّ واحدة بأحد الجانبين. وضعتا أيديهما على كتفيه وتردّدتا قليلا بينما تحاولان عناقه.
لقد كان هذا الفتى، لا، هذا الشاب أكثر من مجرّد حليف ومنقذ للعائلة. لقد كان وريث عشيرة النار القرمزيّة التي كانت لها علاقة أخوّة بعائلة كريمزون. لقد كان الشخص الذي جعلهم يتّصلون بحفيدتهم التي أحبّته بشدّة. لقد كان ابنا وأخا لهم.
كانتا تفهمان شعوره بالضبط.
لم يستطع باسل النظر إلى المرأتين. لم يعلم كيف يفعل ذلك.
لقد كان الشخص الذي كان غائبا عندما مات الأشخاص الأعزاء على قلوبهم. لقد كان من المفترض أن يكون هنا في ذلك الوقت ويقدّم المساعدة. لقد كان عليه... كان عليه... كان عليه.. كان عليه...
لم يتوقّف باسل عن إلقاء اللوم على نفسه، وخصوصا بعدما اشمأزّ من حقيقة استمرار سلامة عقله حتّى الآن بالرغم من أنّه فقد ما اعتقد سابقا أنّه سيُجنّ لو فقده.
نظر باسل إلى سكارليت بعينيه 'الحمراوين' اللتين لم ترمشا منذ مدّة طويلة جدّا، ثمّ إلى أمّها بعد ذلك قبل أن ينظر إلى الأرض مرّة أخرى متحسّرا.
قال بصوت واهن: "لربّما كان معك حقّ يا أيّتها الجدّة ابتهال. لربّما استطاعت اللعنة التمكّن منّي. إنّني ملعون. أنا السبب في حدوث كلّ هذا."
رفعت الجدّة ابتهال رأسها ونظرت إلى باسل بعينيها المملوءتين بالدموع وشهقت. لقد كانت الشخص الأكثر خوفا من 'اللعنة' التي لاحقت عشيرة النار القرمزيّة. شعرت في هاته اللحظات أنّ باسل يلوم نفسه ووجوده بحدّ ذاته.
"لا!" تكلّمت بسرعة: "أنا كنت مرتعبة فقط. الحقيقة مختلفة تماما. لقد كانت العشيرة ظلّنا لسنين عديدة وحمتنا من كلّ شرّ. حتّى في حرب الانقلاب كنّا لنُباد تماما لولا تضحيّة العشيرة."
أكملت الجدّة ابتهال بسرعة قبل أن يقتنع باسل أنّه مصدر كلّ الشرور التي حدثت: "وحتّى في حرب الاسترداد، كانت العشيرة، كان أنت من استردّ حقّنا. لقد كنت الشخص الذي نمّى عالمنا بأكمله ولم تطالب بشيء في المقابل. أنت والعشيرة فعلتما هذا دائما. لقد ندمت كثيرا لأنّني اعتقدت لوهلة أنّ هناك لعنة ما بالعشيرة."
كانت اللعنة التي تتحدّث عنها الجدّة ابتهال هي موت أعضاء العشيرة ميتة شنيعة وخشت أن تقترب هذه اللعنة من أبنائها. كان هناك جانب آخر للعنة، وهو غدوّ الأب ضعيفا بشكل ملحوظ ما أن يكبر خلفاؤه كفاية.
بالفعل، كان أعضاء العشيرة يموتون صغارا، ولكن بالتفكير في ذلك بشكل منطقيّ، أليس من المفترض أن يكون من الطبيعي موت أشخاص يكرّسون حياتهم لحماية الآخرين؟
ومع ذلك، حتّى لو استطاعت الجدّة ابتهال فهم هذا الأمر، إلّا أنّه كان مختلفا نوعا ما عن اللعنة التي تكلّم عنها باسل.
أوّلا، كان يتكلّم عن كونه لعينا من الأربعة عشر مختار، وثانيا كان يقصد حالته الحاليّة التي لم يستطِع أن يراها إلّا كلعنة.
كانت لعنة السارق الخسّيس تقبع في أعماق روحه، فعلم أنّ مساره الروحيّ سيكون الأكثر دمويّة بين المسارات الروحيّة كلّها، لكنّه كان قد سبق وقرّر أن يحمل أيّ ثقل ويكمل مساره الروحيّ.
والآن، صار يرى شيئا ضحّى معلّمه بحياته من أجله كلعنة. تعذّب بمختلف الطرق. لم يستطِع أن يغضب بشكل جنونيّ بعدما فقد أشدّ أحبّائه، وبدأ يكره شيئا استلمه مع من معلّمه الذي عدّه والدا له.
ولكن بدون هاتين اللعنتين، كان يعلم أنّه هو بنفسه سبب مقتل كلّ أولئك الأشخاص. ما كان إبلاس ليفعل كلّ هذا لو لم يكن مهتمّا به. حتّى لو أتى إلى هنا، فما كانت النتيجة لتختلف.
ردّ باسل بعدما حدّق إلى الجدّة ابتهال ثم سكارليت: "لقد خذلتكما. خذلت الجميع."
كانت صور أمّه والآخرين تومض في عقله باستمرار، فكان يكاد يُجنّ لكنّه يعود لرشده في الآن ذاته. كان يتذكّر الأيّام التي كان فيها ضعيفا للغاية كصبيّ.
في ذلك الوقت، أقسم بالرغم من أنّه كان يملك جسدا ضعيفا مقارنة بباقي الأطفال على أن يغدو قويّا كفاية حتّى يحمي أمّه كما فعل أبوه قبل أن يموت.
ملأت تلك الذكريات عقله وشغلته واحدة تلو الأخرى.
(يا باسل، ليس عليك أن تكون قويّا. فقط عش حياتك كما تريد. لا تختبئ في الظلال طوال حياتك وتمتّع بالعالم.)
خرجت هذه الكلمات من فم لطيفة بينما يعلو وجهها تعبيرا يحنّ إلى الماضي.
نظر إليها باسل ذو الخمس سنوات وتذكّر الليلة الماضية التي بكت فيها أمّه بشدّة. لقد كانت تنصحه هكذا في كلّ صباح بكت خلال ليلته.
لم يعلم باسل معنى تلك الكلمات، لكنّه كان طفلا ذكيّا وورث كلّ ما تميّزت به عشيرة النار القرمزيّة، لذا فهم أنّ أمّه لم تكن تريد أن يحدث له ما يجعلها تبكي في العديد من الليالي.
ردّد باسل الصغير كلمات أمّه: (لا تختبئ في الظلال طوال حياتك وتمتع بالعالم.)
وقف بعدما كان يجلس مع والدته على سريره وقال بعدما رفع قبضته نحو الأعلى: (سيصير ابنك هذا أقوى ساحر في العالم ويحميك والعمّة سميرة وأنمار من كلّ شرّ.)
ابتسمت لطيفة وأجابت ابنها الذي كان يقول شيئا كهذا بالرغم من أنّ جسده كان ضعيفا جدّا بالنسبة لعمره. ما الذي يمكنه أنّ تقوله لفتى بالخامسة من عمره عندما يصرّح بشيء كهذا؟ بالطبع...
(نعم، ابني باسل سيصير أقوى ساحر في العالم، ولكن يا باسل، تذكر، لا تضلّ طريقك أبدا واجعل من حماية الأعزّاء على قلبك أقصى أولوياتك. احرص على سلامتهم حتّى لا تندم لاحقا، ولن ينفعك الندم بشيء غير تدمير ذاتك.)
حتّى لو أرادته أن يعيش حياة طبيعيّة بسلام، كيف لها أن تدمّر 'حلم' طفلها الصغير بكلماتها؟ لقد كانت كلمات الأمّ بالنسبة لطفل بهذا العمر حقيقة مطلقة. لم تكن لتسمح لنفسها بفعل شيء كهذا أبدا.
لقد كانت تعلم أنّ باسل يدرك وهانة جسده مقارنة بالأطفال في عمره، لذا لم تحاول أن تخبره أنّ هذا مستحيل.
كانت تعلم كم عمل ابنها على تحسين نفسه منذ أن لاحظ تلك الفروقات.
كان يساعد في الحقول ويمرّ على مكتبة القرية الصغيرة ويتدرّب على أساسيّات فنون القتال البسيطة ويعود متّسخا للمنزل، منهكا تماما.
كان يمرض في العديد من الأحيان، كلنّه استمرّ في إجهاد نفسه بدون توقّف. أراد أن يكون مثل أبيه الذي حمى عائلته. أراد أن يوقف دموع أمّه. أراد أن يصير قويّا ويستكشف العالم وخباياه ويتمتّع بها كما أخبرته أمّه.
كان يقترب منه في تلك الأثناء بعض الأطفال فقط ليسخروا منه. لم يستطع اللعب معهم لأنّه كان ضعيف الجسد، لكنّهم كانوا يأتون بين الحين والآخر ليجعلوا يومه أصعب.
عندما كان يحاول التدرّب بوضعية القرفصاء، كانوا يطرحونه أرضا بمباغتته من الخلف.
عندما يتمرّن تمارين الضغط، يجلسون على ظهره.
عندما يجري يعرقلون قدميه.
(هل تانك قدمان أم زعنفتان؟)
قالها الطفل عثمان الذي كان يكره باسل منذ صغرهما.
لماذا هذا التافه الضعيف يحصل على اهتمام ملاك القرية، أنمار، بينما هو أقوى الأطفال وأكثرهم وعودا يتلقّى الرفض منها حتّى عندما يريد مساعدتها؟
حتّى في هذه الأوقات، كانت تظهر أنمار وتحاول مساعدة باسل على النهوض، لكنّه كان يرفض ذلك ويقف على ساقيه اللتين كانتا تهتزّان وترتجفان حتّى تحملان وزنه الخفيف.
(لا أحتاج ليد المساعدة أثناء تدريبي يا أنمار. لن أصير أقوى ساحر بذلك المنوال. لن أستطيع حماية شيء لو تخاذلت في تدريباتي.)
حدّقت أنمار الصغيرة إلى الصبيّ القرمزيّ ووضعت قبضتها على صدرها وتمتمت بصوت غير مسموع: (من سيحميك إذن؟)
لم تستطع أن تتجاهل جهود هذا الفتى الواهن الذي كان يحمل نفسه بما لا طاقة لها به، فحسمت أمرها أن تحميه في المقابل.
لقد كانت تراقبه منذ الصغر، فعلمت عن مزاياه ومساوئه، وبالرغم من أنّه صغير، إلّا أنّه كان ذكيّا ويناقش أمين المكتبة في مواضيع معقّدة.
علمت عن ضعف جسده وقوّة إرادته، فتعجّبت مرارا من عزيمته التي تخطّت حدود المعقول.
مهما مرّ من الزمن، لم يتوقّف باسل عن التدرّب وقراءة الكتب في المكتبة. بالرغم من أنّه تدريباته لم تحسّن من قدراته الجسديّة إلّا أنّه استمرّ. بالرغم من أنّه قرأ كل الكتب المتاحة في مكتبة القرية الصغيرة إلّا أنّه أعاد قراءتها مرارا وتكرارا.
كان يعمر الثامنة إلّا أنّ جسده كان ما يزال واهنا، وحتّى والدته وسميرة تعجّبتا من هذا. لقد كان باسل وريثا لعشيرة النار القرمزيّة، فكيف له أن يملك جسدا ضعيفا مع العلم أنّ ***** العشيرة كان يُعرفون بأجساد بنفس قوّة الكبار.
(هل أنا السبب يا ترى؟)
لامت لطيفة نفسها. لقد عارضت العشيرة على زواجها، إلّا أنّ جاسر أصرّ على عقد القران معها. هل يمكن أنّ دمها البسيط الذي يجري في عروق باسل هو ما جعله على هذا الحال؟
ربّتت سميرة على ظهرها وقالت: (لا تكوني حمقاء. أنا متأكّدة أن تلك الحادثة لها علاقة ما.)
'تلك الحادثة.'
قبل ثمان سنين، ظهر رجل عجوز غامض وفعل شيئا لابنها. ترجّت ألّا يكون شيئا سيّئا قد حلّ بابنها. ماذا لو كانت لعنة ما؟
وبالطبع، إدريس الحكيم، الشخص المسؤول عن هذا كان يعلم تماما ما كان يحدث.
(الختم الذي منحني جلالته لا يوقف طاقة العالم من الولوج إلى جسد الفتى، ولكن يمتصّها بعدما تدخل إلى جسد الفتى قبل أن تؤثّر على روحه. ومع ذلك، هذا يؤثّر على جسد الفتى ويضع عبئا ثقيلا على كاهليه. إنّني متفاجئ أنّه قادر على التحرّك بشكل عادي فما بالك بالتدريبات التي يقوم بها.)
ابتسم إدريس الحكيم الذي كان يراقب باسل من حين إلى آخر: (هذا يشعرني بالحنين. لربّما تختلف موهبتينا في السحر كاختلاف الليل والنهار، لكن إرادته الحديديّة تذكّرني بعدم استسلامي للواقع المرّ الذي وجدت نفسي أعيشه. إنّه مثير للاهتمام.)
بلغ باسل العاشرة من عمره، فلاحظ بعض التغيّرات تطرأ على جسده بمرور الأيّام.
لم يعد يشعر بالوهن. لم يعد تؤلمه عظامه وعضلاته كلّما تحرّك. صار يتنفّس بشكل طبيعي حتّى لو تحرّك لمسافات بعيدة.
بدأت التدريبات تظهر مفعولها. صار جسده خفيفا بالرغم من ازدياد وزنه. لم يعد يملك الأطفال فرصة للتنمّر عليه.
عندما يريدون إسقاطه أرضا كان يقفز ويلتف على نفسه.
عندما يجلسون على ظهره كان يستمر في تمارين الضغط بسرعة كبيرة حتّى يجعلهم يسقطون.
عندما يحاولون عرقلة جريه يسلك طريقا أعوج وأكثر صعوبة بسهولة.
كلّ هذه التغيّرات حصلت على مدى شهور، لكن كلّ تغيّر بسيط كان له أثر كبير على جسده الواهن وحياته. شعر باسل بالحريّة أخيرا، فصار يعود بملابس أكثر اتّساخا عن ذي قبل ويضطر للإنصات لمحاضرة أمّه حتّى صارت لديه عادة في البقاء نقيّا قدر المستطاع وتطهير نفسه وملبسه عند تلوّثهما.
لم يهتم بما فعل الأطفال عندما كان ضعيفا، لذا لم يهتم حتّى عندما صار قويّا. تجاهلهم فقط واستمرّ في التدرّب كالمجنون.
ذات يوم، اقتربت منه تلك الفتاة. كانت فتاة لطيفة وظريفة بشعر أسود وسلس كشعر أمّه وبنفس العمر.
بالطبع كان باسل وسيما منذ صغره، إلّا أنّ اهتمام الفتيات به قلّ كثيرا بسبب ضعفه الشديد وخوفهنّ من عثمان الذي كان يترأّس مجمع الفتيان.
والآن، اقتربت منه هذه الفتاة، وليس أيّ فتاة، بل أخت عثمان بنفسه. هل هذه مزحة؟
بالطبع كان باسل فتىً بالخامسة من عمره، إلّا أنّه كان ذكيّا للغاية وفهم مباشرة الحبكة وراء هذا.
ابتسم فقط وصافح يد الفتاة الصغيرة التي ابتسمت بإشراق. لقد كانت شمسا في حياة هذا الطفل المظلمة. هذا ما اعتقدت الفتاة. هذا ما خطّطت له.
***
(يا أيّها الجدّ عليّ، إنّ الجزر الذي تزرعه وترعاه بيدك أفضل جزر في العالم. لقد كنت أحب الجزر منذ صغري، لكنّك جعلتني أدمن عليه. لقد صرت الآن عاجزا عن العيش بدون جرعتي اليوميّة من الجزر.)
اعتقد باسل أنّه لن يأتي يوم يكون فيه حيّا ولا يحاول تعاطي جرعته اليوميّة من الجزر. لم يستطع تخيّل قدوم يوم ينسى فيه جرعته اليوميّة.
ضحك الجدّ عليّ وردّ: (الفلاحة جيّدة يا أيّها الفتى باسل. أعلم أنّك قلت سابقا أنّك تريد أن تغدو ساحرا، لكن أليس من المثير للاهتمام محاولة زرع وتنميّة الجزر الذي تحبّه كثيرا بيديك الخاصّتين؟)
ابتسم باسل وردّ بعدما عضّ جزرة اقتناها من رزمة الخضر: (قد أفعل ذلك ذات يوم. لربّما عندما أحقّق أحلامي، سيكون من الجيّد العيش بسلام في مزرعة بجوار الأحباب.)
حدّق الجدّ عليّ لبعض من الوقت إلى باسل ثمّ تنهّد وقال: (فقط لا تنسَ ألّا تضحّي بذلك السلام في طريقك لتحقيق تلك الأحلام. ألا تظنّ أنّ كلّ شيء سيكون بلا معنى إذا فقدت ما أردته بسبب سعيك ورائه؟ في بعض الأحيان، يجب عليك أن تقنع بما هو لديك.)
(هاها...) ضحك باسل ذو العشر سنوات: (إنّك تتكلّم مثل أمي نوعا ما يا أيّها الجدّ عليّ. على أيّ حال، لن أقنع أبدا حتّى أتأكّد تماما أنّ أولئك من أحبّهم سيحيون ويموتون بشكل طبيعيّ وبهناء.)
حدّق الجدّ عليّ لوقت طويل إلى باسل ثمّ قال: (إنّك تقول كلاما صعبا بالرغم من أنّك ما زلت صبيّا صغيرا. ألا ترى أنّه يجب عليك الاستمتاع أكثر بما هو حولك؟)
قضم باسل الجزرة ثمّ بلع ما مضغه وردّ: (أنا أفعل ذلك بالفعل أيّها الجدّ عليّ. إنّما فقط الأمر هو، لا أرى أنّ ما حولي مجرّد قرية صغيرة. أنا أرى عالما مليئا بالأسرار والمفاجآت. الاستمتاع؟ بالطبع سأستمتع كثيرا، ولتحقيق هذا، يجب أن أسعى لتحقيق أحلامي. إذا صرت أقوى ساحر في العالم، يمكنني حماية من أريد، والاستمتاع بما أريد، والعيش بسلام كما أريد.)
بالفعل كانت كلماته طفوليّة بعض الشيء، لكنّ آفاقها كانت واسعة للغاية. لم يسع الجدّ عليّ سوى أن يتنهّد ويتمتم لنفسه: (لا مفرّ إن كان ذلك هو القدر.)
استغرب باسل من هذيان الجدّ عليّ وتناسى الأمر بعدما سمع العجوز يضيف بصوت مسموع: (عندما تريد زراعة الجزر، ابحث عنّي حتّى أعلّمك وصفتي السرّيّة. قد أكون مجرّد فلّاح بسيط، لكنّني واثق من مهارتي في زراعة أفضل جزر في العالم على الأقلّ.)
حكّ باسل مؤخّرة رأسه وأراد أن يقول شيئا، إلّا أنّه قوطِع. ظهرت تلك الفتاة ذات الشعر الأسود السلس خلفه وربّتت على كتفه مرّتين ثمّ أمالت رأسها، مبتسمةً: (علمت أنّك ستكون هنا. إنّك تحبّ الجزر كثيرا يا باسل قبل كلّ شيء.)
ابتسم باسل بإشراق: (هاهاها! إنّك حقّا تعرفينني جيّدا يا أدريان. كيف تعلمين دائما عن المكان الذي أكون فيه؟)
(بالطبع سأعلم عن مكان صديقي المفضّل. أخبرني، هل ستتمرّن اليوم أيضا؟)
نظر باسل إلى الفتاة التي تقرّبت منه بنجاح في الأسابيع الأخيرة. لقد كانت فتاة محبوبة حقّا على عكس أخيها المتنمّر والحقود. يبدو أنّها كانت "تراقب" ما كان يفعل أخوها لباسل طوال الفترة الماضيّة وأرادت أن تصادق باسل حتّى يتوقّف عثمان عن تفاهاته. قالت أنّه قد يتوقّف عن أفعاله القاسيّة لو علم أنّ أخته الصغيرة التي "يعزّها" تصادق ذلك الشخص.
لقد كانت أدريان **** عطوفة حقّا حتّى تفكّر في شخص وحدانيّ كباسل.
ردّ باسل على كلامها: (طبعا. سأذهب بجوار منطقة محظورة حتّى أعتاد على أخطار المناطق المحظورة. من يعلم، ربّما أجد ساحرا يعلّمني السحر أيضا.)
تفاجأت أدريان وبدت قلقة للغاية، لكن حتّى باسل لم يستطع ملاحظة التعبير الذي ظهر قبل تعبير القلق لوقت وجيز للغاية. لقد كانت تلك ابتسامة سوداويّة كابتسامة مفترس وجد الفرصة للانقضاض على فريسته.
اختبر باسل اليوم الأوّل بجانب منطقة القرد الأزرق الضخم المحظورة. لقد كان يوما شاقّا بالرغم من أنّ المكان كان خارج المنطقة المحظورة. كانت هناك حيوانات شرسة كانت في بعض الأحيان تدخل إلى المناطق المحظورة وتتعارك مع الوحوش غير السحريّة حتّى تحصل على الموارد الغذائيّة وتعلن المنطقة المحظورة كمنطقة خاصّة بها.
استمرّ الأمر على ذلك الحال. تحوّلت تمرينات باسل العاديّة إلى محاولات نجاة من الموت. لقد كان الأمر مرعبا وتضرّر جسده لكنّه كان يكتشف في كلّ مرّة حركات جديدة ليراوغ ويهاجم بها، لذا كان الأمر ممتعا أيضا. لقد كان يلاحظ أنّ ذلك الفتى الواهن اختفى وحلّ محلّه فتى نشيط وقويّ للغاية. كان باسل قد بدأ يلاحظ أنّ جسده قويّ مثل أجساد الكبار.
(لقد أثمرت تدريباتي الجهنّميّة أخيرا.)
ذلك ما اعتقد باسل، لكن السبب الرئيسيّ لم يكن التدريبات في الواقع. مهما تدرّب *** بالعاشرة من عمره، لم يكن ليملك جسدا بقوّة الكبار الأقوياء. لقد كان كلّ هذا بسبب اعتياد جسده على طاقة العالم أخيرا وتحسّن حاله. ولهذا ظهرت أخيرا ميزات وخواصّ عشيرة النار القرمزيّة التي كانت مقموعة.
كان إدريس الحكيم يراقب باسل طوال الوقت. لم يكن هناك ما يفعله أصلا غير التدرّب والتدبّر، لذا كان وقت فراغه يُصرف في مراقبة باسل. كان يجب عليه أن يكون حريصا على عيش الفتى الذي قال الملك الأصليّ أنّه مهمّ للحفاظ على توازن العوالم.
لم يعلم إدريس الحكيم ما قصده الملك الأصليّ، لكنّه علم أنّ الأمر له علاقة بقدرات الفتى المميّزة. لم يسبق لأحد أن أحبّته طاقة العالم بهذا الشكل. لم يحتج أن يحاول امتصاصها، فهي بنفسها تأتي إليه.
(الحفاظ على التوازن.)
قال إدريس الحكيم تلك الكلمات ونظر إلى الفتى القرمزيّ.
(لا أعلم عن أيّ توازن يتحدّث جلالته، لكنّه يجب أن يكون يعلم أنّني لن أجبر تلميذا لي على اتّباع طريق محدّد. لربّما لهذا السبب أخبرني أن أعلّمه وأرشده لا أن أحدّد مساره الروحيّ.)
كلّ ساحر روحيّ كان له مسار روحيّ خاصّ به، وتقرير المسار الروحيّ لشخص ما يجعل هذا الشخص غير مؤهّل ليكون ساحرا روحيّا حتّى.
في أحد الأيّام، كان باسل مرهقا بعدما تدرّب لمدّة طويلة، وحان الوقت ليذهب لأحد الآبار التي كان يزورها حتّى يغتسل ويزيل الأوساخ قبل أن يذهب للمنزل. كان ماء ذلك البئر منعشا للغاية. ما أن بلعه حتّى شعر بالحيويّة تتجدّد عبر عروقه.
ظهرت عندها أدريان كعادتها. لقد اعتاد باسل على طريقة ظهورها هذه. كانت دائما تظهر فجأة.
(هل أنهيت تدريبك اليوميّ؟)
أجاب باسل كلامها الهادئ والقلق: (نعم. كنت أنوي العودة إلى المنزل بعد الانتهاء هنا.)
خاب أمل أدريان وبدأت تلعب بأصابعها كما لو أنّها تريد قول شيء ما لكن لم تستطع. كانت تنظر من حين إلى آخر إلى السلّة التي كانت بجانب قدميها.
لاحظ باسل هذا فمدّ يده: (قولي ما تريدين قوله. ألسنا صديقين؟)
كانت ابتسامته البريئة جذّابة، فاحمرّ وجه أدريان. لم يعلم باسل إن كان احمرار وجهها ذاك تمثيلا أم لا، لكنّه لم يهتم بهذا حاليا. لقد كان يريد أن يعلم ما الذي ستريده أخت عثمان بعدما "تقرّبت" منه كفاية في هذه الأيّام الاخيرة.
ابتسمت أدريان بإشراق بعدما جمعت شتاتها وردّت: (أ-أنا... أريدك أن تذهب معي في نزهة.)
(نزهة؟)
تساءل باسل فأجابت أدريان بسرعة كبيرة: (نعم. نزهة. لطالما أردت أن أتنزّه مع صديق لي. لقد أعددت الشطائر أيضا. آه، وسلطة الجزر، وعصير الجزر أيضا.)
علم باسل أخيرا عن محتوى السلّة التي كانت بجانب قدميْ الفتاة الخجولة. لقد أتت مستعدّة حقّا. سيكون سيّئا رفض طلبها بعد كلّ ما فعلته. سيكون سيّئا إهدار سلطة وعصير الجزر.
(آه، لمَ لا؟ لنذهب إذن.)
ابتسمت أدريان بإشراق. لقد كانت فرحة للغاية. لم تكن تمثّل، بل كانت حقّا سعيدة لأنّ باسل قبل طلبها هذا.
كانت العديد من الأعين تراقبهما في هذه الأثناء.
قال أحد الأشخاص المختبئين في الظلال: (يبدو أنّ أدريان قد نجحت في إغرائه. يمكننا التخلّص منه أخيرا.)
ردّ شخص آخر بقلق: (ألا تظنّ أنّهم سيجدون جثّته فيما بعد؟ سنكون في خطر كبير لو علم شخص عن هذا.)
(لا تقلق.) أكمل الشخص الأوّل: (ألا تعلم ما هو وادي الظلام العميق؟ لا أحد يعود بعدما يسقط في ذلك الوادي.)
كان هذا الشخص هو عثمان. لقد كان بعمر الثانيّة عشر حاليا. كان لديه جسد ضخم مقارنة بباقي الفتيان بعمره.
تساءل أحد الأشخاص الذين كانوا معه: (أليس هذا مبالغ فيه قليلا؟)
(لا!) صاح عثمان ثمّ ردّ حاسما: (يجب على ذلك اللعين أن يختفي. بالتأكيد عليه أن يموت. لن تنظر الملاك أنمار إلى جهة أخرى طالما يظلّ حيّا.)
لقد كان عثمان هو زعيم الحرس الشخصيّ للملاك أنمار، وكان باسل على قمّة قائمتهم السوداء. ازداد كره عثمان لباسل أكثر بكثير عن السابق بعدما صار باسل قويّا حتّى لم يعودوا يستطيعون إعاقته حتّى. كانوا يعلمون أنّهم يحتاجون لإلهائه بطريقة ما وجعله عاجزا عن فعل شيء حتّى يتخلّصوا منه.
وهنا أتى دور أدريان.
تحرّكت أدريان بنشاط بينما تهمهم وترقص في طريقهما إلى موقع نزهتهما. لقد كانت فوق السحاب حقّا. بالطبع، لم يكن سبب فرحها هذا هو ذهابها في نزهة مع باسل، بل بالأحرى ما كان سينتج عن نجاحها في جعل باسل يذهب معها في هذه النزهة.
فكّرت أدريان: 'متشوّقة للوقت الذي يربّت فيه أخي عثمان على رأسي. لقد وعدني أنّه سيمضي وقتا أكثر معي إن نجحت في فعل هذا. يمكنني أخيرا أن أجعله يهتمّ بي لا بتلك الشقراء العاهرة.'
نظرت أدريان إلى باسل مبتسمة واستكملت تفكيرها: 'سأجعلها تفقد محبوبها أيضا، لذا سأضرب عصفورين بحجر واحد.'
كانت أدريان فتاة متعلّقة بأخيها الأكبر عثمان، لذا فعلت ما طلبه منها أن تفعل. لقد كان عليها أن تتقرّب من باسل وتجعله يثق فيها لدرجة يأكل من طبخها.
لقد كان هذا اللعين الصغير يأكل طعام عائلته فقط، لذا كان من الصعب تسميمه حتّى.
الآن، كلّ ما عليها فعله هو جعله يشرب عصير جزره المحبوب ليتسمّم ويفقد قواه كلّيّا، فيأتي عثمان ويكمل باقي العمل. عندها... عندها... سيمدحها عثمان كثيرا ويهتمّ بها أكثر.
وصلا أخيرا إلى موقع النزهة. كان في الغابة المجاورة للقرية. كان باسل معتادا على هذه الغابة، فاختارتها أدريان من أجله.
تحدّثا لوهلة ثمّ بدآ يأكلان الشطائر وسلطة الجزر أثناء ذلك، وعندما يجفّ حلقهما، يشربان من عصير الجزر.
بقيا على ذلك الحال لمدّة طويلة، فبدأت أدريان تتعرّق.
لمَ ما يزال واعيا؟ أليس من المفترض أن يفقد قواه بعد رشفتين أو ثلاث؟ لقد كان يجب أن يكون قد فقد وعيه منذ وقت طويل. لقد أخبرها أخوها عثمان أنّ هذا السمّ يفقد الشخص البالغ الوعي في غضون دقائق معدودة، لكنّ هذا الشقيّ اللعين كان يشارف على إنهاء كلّ طعامه وشرابه وما يزال بصحّة وعافيّة.
لقد كانت تخشى أنّها أخطأت في فعل شيء ما. لقد أرادت أن تكون ذات منفعة لأخيها الأكبر. لا يمكن أن تفشل هنا. يجب أن تنجح حتّى تحصل على مديح أخيها عثمان.
رفع باسل يده فجأة فاقشعرّ جسدها. هل يمكن أنّه أدرك شيئا؟ انتظر، ما الذي فعلته لتوّها أصلا؟ هل سمّمت شخصا؟
كانت أفكارها مشوّشة. لم تفكّر للحظة عندما طلب منها أخوها عثمان فعل هذا، لكنّ توتّرها الآن استحوذ عليها وبدأت تدرك خطورة ما تجرّأت على فعله.
وقفت بسرعة كبيرة وكادت تفتح شفتيها لتقول شيئا، لكنّ اليد التي رفعها باسل حتّى يمسك بها رأسه الذي كان يؤلمه توقّفت في الهواء فجأة ونزلت إلى الأسفل، فتبعها جسده كلّه.
فقد باسل الوعي.
فتحت أدريان عينيها على مصراعيهما وتنفّست بصعوبة لمدّة طويلة قبل أن تشعر بيد تربّت على كتفها. استدارت لتجد أخاها عثمان يقف مبتسما: (لقد أحسنت عملا يا أدريان. سأكافئك لاحقا.)
تنهّدت أدريان وتنفّست الصعداء أخيرا. سيكون كلّ شيء على ما يرام الآن بعدما ظهر أخوها الذي يُعتمد عليه.
لقد كانت تعلم أنّ عثمان والآخرين الذين كانوا معه كانوا يراقبونها وباسل طوال الوقت، لكنّها نسيت ذلك لوهلة بسبب توتّرها المفاجئ.
ما لم تكن تعلمه هو وجود عينين أخريين كانتا تراقبانهم كلّهم من مسافة بعيدة للغاية. كانت هاتان العينان زرقاوين وسطعتا بشدّة بينما يقترب حلول الظلام. لقد كانتا عينان لمفترس مستعدّ للانقضاض على فريسته.
انطلق المفترس بسرعة كبيرة متّجها نحو المكان الذي اتّجهت إليه مجموعة عثمان.
***
حمل اثنان من رفاق عثمان باسلَ من ذراعيه وجرّاه متّجهين نحو وادي الظلام العميق.
(هل حقّا من الآمن التوجّه نحو منطقة محظورة كتلك؟ ألن نقع في المتاعب؟)
لم يكن هذا الشخص هو الوحيد الذي كان خائفا، بل حتّى الشخصان اللذان كانا يحملان باسل كانا مرتعبين من الاقتراب من وادي الظلام العميق. وفي الواقع، كان عثمان خائفا أيضا لكنّه كان عازما على التخلّص من هذا الغرّ نهائيّا.
لقد كان ينوي أن يصير ساحرا في المستقبل ويصير زعيم قريتهم، فيتزوّج بعد ذلك بأنمار أجمل فتاة في القرية. كان ينوي أن يجعل القرية مدينة يصير هو نبيلها الحاكم. لا يجب أن يترك هذا اللعين حيّا. إن بقي باسل بالجوار، فسيكون شوكة في حلقه دائما. لن تنساه أنمار، وقد يقف في طريقه نحو زعامة القرية أيضا.
تكلّم عثمان عازما: (لا أهتمّ. المهمّ الآن هو التخلّص من هذا اللعين. لن نتراجع بعدما بلغنا هذه المرحلة. هل تعتقدون أنّه يمكننا التخلّي عن هذا بعد كلّ ما فعلناه؟)
كانت هذه أفضل فرصة. كان باسل فاقدا للوعي، وكان من المستحيل له أن يقاوم. وأصلا، كيف لهم أن يتراجعوا الآن؟ من يعلم ما الذي قد يفعله باسل في المقابل إذا حدث واستيقظ.
بالفعل كان السم الذي منحوه إيّاه كافيا لإفقاده الوعي، وقتله حتّى بعد مرور بضعة أيّام، لكن عثمان لم يكن يريد من هذا الشقيّ أن يحصل على فرصة يعي فيها بما حدث له ويحاول فعل شيء. وفوق كلّ ذلك، من يعلم إذا لم ينفع السمّ معه أصلا.
بعدما تجاوزوا الغابة وظهر الجرف أمامهم أخيرا، شعروا كلّهم بالقشعريرة. لقد كان وادي الظلام العميق منطقة محظورة، لكن المناطق المحيطة به كانت خاليّة من المخلوقات على عكس المناطق المحظورة الأخرى التي كانت تحيط بها حقول لحيوانات شرسة تنافس بعض الوحوش غير السحريّة.
كلّ هذا زاد من رعب الوادي. هدوء محيطه عنى فقط أنّه حتّى تلك الحيوانات الشرسّة تخشى الاقتراب منه.
تكلّم عثمان بهذه الأثناء: (والآن، أنتما،) أشار إلى اللذين كانا يحملان باسل ثمّ إلى الوادي: (اتّجها إلى هناك وارمياه. لا تقلقا، سنراقبكما من هنا حتّى نتأكّد أنّه لا أحد قادم ونحمي ظهريْكما.)
فتح الفتان أعينهما بشدّة وبدوَا مندهشين. ألم تكن هذه خطّة عثمان؟ ألم يكن الشخص الأكثر رغبة في التخلّص من باسل؟ لمَ عليهما أن يقوما بهذا العمل نيابة عنه؟ ألم يفعلا ما يكفي بالفعل؟
ومع ذلك، لم يتجرّآ على معارضته. لقد كان قائدا لهما وغرس فيهما سيطرته منذ الصغر. فعلا كلّ ما قال حتّى الآن، لذا فعلا ما قاله الآن أيضا.
تحرّكا تجاه الجرف الذي كانت أصوات الموت تصعد منه ولم يعلم الشخص ما إذا كانت الريّاح التي تتراقص في الوادي أو الزماجر التي تصدى بي الحين والآخر هي المسؤولة عن أصوات الموت تلك.
كانت أيدي الاثنين ترتجف، كما كانت سيقانهما ترتعدان، وبالكاد استطاعا جرّ باسل، لكنّهما توقّفا فجأة ولم يقدرا على التقدّم أكثر. شعرا أنّ باسل الذي كان يجرّانه صار أثقل عمّا كان عليه. هل ربّما هذا بسبب خوفهما؟
لا!
سرعان ما علما الإجابة. ما أن التفتا إلى الخلف ليريا ما السبب، وجدا عينيْ الفتى القرمزيّ تحدّق إليهما بشراسة كما لو كانتا عينيْن داميتين لوحش يعيش فقط ليفترس.
لقد كانت تانك عينان لشخص اختبر مواقف وضعته بين الحياة والموت مرارا وتكرارا.
أفلت الصبيّان ذراعيْ باسل فور ما رأيا العينين الحمراوين وشعرا بالقشعريرة تصعد مع جسديهما والخوف يتملّك قلبيهما.
أنّى لهما أنّ يصمدا أمام تينك العينين؟ بالفعل كانتا عينين لفتى بالعاشرة من عمره، لكن نيّة القتل التي انبعثت منهما كانت كافية لجعلهما يتراجعان عدّة خطوات للوراء.
تراجعا إلى جهة عثمان ونظرا إلى باسل. كان عثمان مندهشا للغاية. هل استيقظ بعدما تعاطى لذلك السمّ؟ كيف يمكن هذا؟ لقد كان سمّا يسقط الكبار غائبين عن الوعي لمدّة طويلة ويمكن أن يؤدّي بهم إلى الموت في الكثير من الحالات، فكيف له أن يستيقظ؟
نظر عثمان إلى أخته الصغيرة بعينين متسائلتين، فهزّت أدريان رأسها بسرعة وجمعت يديها عند صدرها وقالت بسرعة: (أ-أنا متأكّدة. لقد شرب حقّا ذلك السمّ.)
(إذن لماذا؟) صرخ عثمان: (لماذا يتحرّك الآن؟ اللعنة! كيف لك أن تتصرّف بشكل طبيعيّ أيّها الوحش الصغير.)
لم يدرك عثمان أنّه قد بدأ يرى باسل كوحش صغير بالفعل.
وقف باسل مستقيما ثمّ نظر إليهم وقال: (لم أهتمّ إطلاقا بما فعلتَ وحاشيتك لي طوال هاته السنوات. لطالما كنتم مجرّد صراصير في نظري، ولم أحمّل نفسي طاقة التخلّص منكم حتّى.)
حملق باسل إلى عثمان مباشرة: (اعتقدت أنّك تملك بعضا من الشرف على الأقلّ كزعيم الصراصير.)
تجعّدت جبهة عثمان أكثر واسودّ وجهه. لقد كان تصرّف باسل المتعالي هذا هو ما كان يكرهه أكثر من أيّ شيء. لقد كان هذا الوحش الصغير مغرورا هكذا دائما. حتّى عندما كان يزحف على الأرض كدودة قذرة كان يتجاهلهم ويعاملهم كالحشرات. لم عليه هو العثمان أن يُزدرى من طرف هذه الدودة؟
سمع عثمان باسلَ يكمل كلامه: (ظننت أنّه لو تماشيت مع تمثيليّة أختك الصغيرة، فقد ترتقي من منصبك كصرصور وتجرؤ على مواجهتي مباشرة مدّعيّا أنّني كنت أستغلّ أختك الصغيرة أو ما شابه. ومع ذلك، كنتُ مخطئا؛ الصرصور يبقى صرصورا مهما حدث. لم تجرؤ على تنفيذ الأعمال القذرة بيدك واعتمدت على أختك الصغيرة والقذارة المحيطة بك حتّى تحقّق هدفك.)
تماشى باسل مع هذه التمثيليّة فقط لأنّه كان فضوليّا بشأن ما كان عثمان يخطّط لفعله. كيف لشخص بحذاقته أن يُخدع بتمثيل **** بنفس عمره؟ كيف له ألّا يعلم عن نواياها الخفيّة التي كانت في الواقع جليّة؟
تحرّك باسل مقتربا منهم، فصرخ عثمان: (كيف يمكنك التحرّك؟ لقد شربتَ السمّ، فكيف لك أن تكون واعيا.)
رفع باسل حاجبه وردّ: (لم يكن عليك استخدام عصير الجزر.)
(ها؟) استغربت أدريان وقالت: (إنّ الجزر طعامك المفضّل. إنّه أفضل شيء لاستخدامه، لأنّك لن تشكّ في شيء.)
رفع باسل إصبعيْ يده اليمنى وقال: (اثنان لا يُبلعان لي مهما حدث، الجزر المرّ...) شدّ بعد ذلك إصبعه الوسطى وأشار بسبّابته إلى اتّجاه عثمان والآخرين وأكمل: (والحثالة مثلكم.)
شعر عثمان أنّ ظهره كان باردا.
لماذا يشعر هكذا في حضور هذا الفتى اللعين؟ هل هو خائف؟ هل يخشى غضب هذه الدودة القذرة حقّا؟ كيف له هو الذي تزعّم فتيان القرية وتسلّط على باسل كلّ هذه السنوات أن يخاف منه؟
لَكَمَ ركبتيه في نفس الوقت حتّى يوقف ارتجافهما وتغلّب بألمه على خوفه.
ضحك بتقطّع وقال: (وما الذي يجعلك تعتقد أنّه يمكنك التصرّف بهذا التعالي؟ ألا ترى أنّك لوحدك هنا؟ عددنا تسعة هنا. لم يكن بمقدورنا فعلها علانيّة، لكنّنا منفردين بك هنا. سنجعلك تعاني الأمريّن بما أنّك لم ترد الموت بهنـ...)
لم ينهِ عثمان كلامه حتّى كان باسل قد اختفى من مرأى عينيه. لقد كان ضخما مقارنة بباسل، فلم يلاحظ اللكمة التي كانت قادمة من الأسفل تجاه ذقنه.
باام
اهتزّ دماغ عثمان داخل جمجمته فشعر أنّ العالم يدور بشكل عشوائيّ ولم يعد يميّز بين الماضي والحاضر فما بالك بالاتّجاهات. جعلت تلك اللكمة أسنانه تتصدّع وانكسر أحدها جزئيّا.
سالت الدماء من فمه وأنفه بعدما سقط على الأرض. بالطبع كان هو بنفسه ما يزال يعتقد أنّه كان محلّقا. كان يشعر أنّه ما زال داخل الحلم الذي حلمه الليلة الماضيّة. ما كان مختلفا في هذا عن حلم الليلة الماضيّة هو أنّه كان الشخص الذي حلّق بعدما ضُرِب وليس باسل.
وقف باسل بين الثمانيّة الآخرين، في المكان الذي اعتاد عثمان أن يكون فيه، محاطا بأربعة من كلّ جانب، وقال: (لقد كنتم تنوون قتلي. لا أحد منكم سيغادر هذا المكان سليما. لن أرضى حتّى أحفر وأزرع الخوف في أدمغتكم الدنيئة.)
لم يكن باسل قد قتل شخصا في حياته حتّى الآن. لقد كان فتى بالعاشرة من عمره فقط لذا كان هذا طبيعيّا حتّى في هذا العالم الفوضويّ. وبالتالي، لم يفكّر في قتل هؤلاء الأطفال الجهّال لكنّه كان عازما على أخذ ثأره منهم وسحقهم تماما. أراد أن يجعلهم يتذكّرون هذه الحادثة لما تبقّوا من حياتهم ويتركونه وشأنه ويعيشون بعد ذلك كأناس أخيار.
أراد أن يريهم ما هو الشرّ حتّى يعلمون ماهيّة الخير.
ابتعد عنه الثمانيّة بشكل تلقائيّ. بالطبع، لم تكن أدريان محسوبة من التسعة الذين تكلّم عنهم عثمان فيما سبق. لقد كانت قد تراجعت بالفعل عندما لمّح عثمان لقتال باسل.
جمعت يديها عند صدرها بينما تحدّق إلى أخيها عثمان المستلقي على الأرض ثمّ إلى باسل مرارا. كان واضحا أنّها كانت تتساءل ما إذا كان ما حدث للتوّ حقيقة. ألم يكن أخوها زعيم القرية المستقبليّ؟ كيف له أن يُهزم هكذا وبهذه السرعة؟
لكن، وا حسرتاه! بالطبع راقبت أدريان باسل طوال الأسابيع الأخيرة، لكنّها لم يكن لها وسيلة لتعلم عمّا كان يفعله باسل بالقرب من المناطق المحظورة المجاورة للغابة التي كانت تروق له.
وقع نظرها على عثمان مرّة أخرى، فرأت أنّه يحاول النهوض بصعوبة بعدما استقرّت حالته قليلا. لم تقدر على الذهاب لمساعدته. لقد كانت تخشى أن يفعل باسل شيئا لها، وكانت تخشى أن تضرّ كبرياء أخيها الأكبر.
فتح عثمان عينيه الداميتين. هل حقّا يشعر بكلّ هذا الألم فقط من لكمة واحدة من *** أصغر منه بعامين؟ بالأحرى، لماذا يشعر بالألم في كلّ أنحاء جسده بالرغم من أنّها مجرّد لكمة على الذقن؟
استطاع بعد محاولات متعدّدة أن يلمح صورة باسل أخيرا. لقد كان باسل يحمل الطفلين اللذين كانا يحملانه إلى هنا من عنقيهما.
(سأدقّ رأسيكما جيّدا حتّى تتعلّما كيف تستخدمانهما المرّة القادمة عندما يطلب منكما شخص فعل أمر يعارضه حسُّكما السليم.)
طرق
طرق
طرق
طرق باسل رأسيْ الفتيَيْن ببعضهما لعدّة مرّات حتّى فقدا الوعي كلّيّا قبل أن يرميهما. كان جسداهما معطوبا في كلّ الأنحاء أيضا، حالهما حال من سبقهما.
التفت باسل إلى عثمان وقال: (كم قلتَ سابقا؟ تسعة؟ لا أرى سوى واحدا.)
لم يخرج باسل أدريان من الحساب على عكس عثمان. بالفعل كان هناك واحد متبقٍّ فقط.
لم تكن أدريان موجودة هنا بعد الآن. لقد شاهدت شيئا مروعا للغاية، ولم ترد أن تراقب أخاها يحدث له نفس الشيء. وأكثر من ذلك، لم ترد أن يحدث لها نفس الأمر. لقد كانت ملابسها مبلّلة بالفعل، لذا كفاها ذلك إهانة. لا يجب أن تصبح قبيحة بسبب ضرب باسل، وإلّا سيجب عليها أن تتحمّل كره أخيها لوجهها المشوّه في المستقبل.
بالطبع لاحظ باسل هروبها، لكنّه لم يهتم بهذا حاليا. لقد كان هدفه هو تلقين هؤلاء الصراصير درسا لا يُنسى، لذا كان واثقا أنّ تلك الشقيّة ستتعلّم الدرس بعد هذه الحادثة وتتصرّف بشكل جيّد. بالرغم من أنّه لم يهتم كيف يعيش هؤلاء في نهاية المطاف، إلّا أنّه لم يردهم أن يزعجوه أبدا في المستقبل.
وفوق كلّ ذلك، كان عثمان هو رأس الحربة، وما أن ينهي أمره فسينتهي كلّ شيء آخر.
وقف عثمان بعدما مسح الدم من زاوية فمه وبصق الدم الذي تجمّع بين أسنانه. هذه المرّة، كانت ركبتاه ترتجفان، لكنّه لم يستطِع إيقاف ذلك بإيلام نفسه. لقد كان متألّما بالفعل. لم يعلم ما إذا كان الخوف أو الألم هو سبب ارتجافه، أم كانا معا.
اقترب باسل ببطء بينما يقول: (هل شعرت بها؟ أأحسست بالصاعقة تصعد معك تطفئ دماغك تماما؟)
لم يفهم عثمان ما كان باسل يلمّح له.
أكمل باسل موضّحا: (لقد جعلتك عاجزا لوهلة ريثما أتخلّص من هؤلاء. لقد أردتك أن تكون الأخير، وذلك حتّى ترى ما كان مصير من سبقك، حتّى تعلم من كلامي الحالي أنّ مصيرك سيكون أسوء بكثير.)
كان هؤلاء ******* كمزحة لباسل الذي كان يمضي غالب أيّامه يقاتل الحيوانات الشرسة ويطارد الفرائس بدوره حتّى يؤمّن هديّة مناسبة كعشاء لعائلته.
كانت حواس وأفعال عثمان خاملتين كلّيّا مقارنة بخصومه المعتادين.
لم يستطع عثمان ملاحظة باسل يتحرّك وهو بكامل عافيته، فما بالك وهو ضعيف حاليا ولا يقدر على الرؤية بشكل طبيعيّ؟
*باام
بالطبع كان باسل يضربه من جانب، فيحاول عثمان الردّ، إلّا أنّه كان يتلقّى ضربة أخرى من جانب آخر. كانت لكمات عثمان تخطئ بينما كان باسل يستبدل لكماته بركلاته عندما يملّ.
وقف باسل أخيرا أمام عثمان الذي سقط على ركبتيه. كان عثمان خائر القوّة كلّيّا ولم يستطِع رفع رأسه الذي كان داميا تماما بعدما نزف الدم من فمه وأنفه وبقيّة أنحاء رأسه.
(فلتحرص على تذكّر ما حصل اليوم جيّدا يا صرصور.)
كان ذلك آخر شيء قاله باسل قبل أن ينزل بكعبه على رأس عثمان، والذي تجمّد في مكانه كما لو أنّ الروح خرجت من جسده قبل أن يميل جسده ببطء ويسقط عند قدميْ باسل.
تنهّد باسل بعد ذلك ومشط شعره للخلف ثمّ غادر المكان كما لو أنّ شيئا لم يكن. يمكنه أن يعيش بسلام أخيرا.
تمتم لنفسه بعدما تصاعدت معه القشعريرة فجأة: (أتمنى أن ينفع معهم طرق الرؤوس فقط.)
شعر بتلك القشعريرة عندما فكّر في عيشه بسلام منذ الآن فصاعدا. لقد كان هذا حدسه الذي غالبا ما أصاب. كان حدسه يخبره أنّهم لن يستسلموا لسبب ما.
تنهّد مرّة أخرى ثمّ غادر عائدا عكس الاتّجاه الذي أتوا منه إلى هنا بروية.
(هل كان عليها أن تختار عصير الجزر؟ لماذا لمْ تضع السمّ في الشطائر؟ إنّها تملك شخصيّة ملتويّة. عصير الجزر...)
تحسّر باسل على مضيعة عصير الجزر الذي "تظاهر" أنّه شربه، وأخرج جزرة من جيبه ثمّ قضمها.
(كما توقّعت، جزر الجدّ عليّ هو الأفضل في العالم.)
***
كانت أدريان متعرّقة كثيرا، لكن لم يكن ذلك السبب الأصليّ في تبلّل ثوبها. لم تهتمّ بالرائحة الكريهة التي تصاعدت معها طوال الوقت، وركّزت فقط على الهروب. لقد كانت تريد العودة إلى منزلها والاغتسال ثمّ النوم والاستيقاظ مرّة أخرى. أرادت أن تنسى كلّ شيء وتكمل حياتها كأنّ شيئا لم يكن.
(ألن يلاحقني؟)
كانت تنظر إلى الخلف بين الحين والآخر. كانت متأكّدة أنّ أخاها الذي "يُعتمد عليه" سيُهزم بسرعة، لذا كانت تخشى أنّ باسل سيسعى خلفها بعد ذلك.
مرّ بعض الوقت على ذلك الحال، وكادت تفقد عقلها من الخوف. لم تأخّر هكذا؟ لا يجب أن يتأخّر هكذا. هل... هل يمكن أنّه بطريقة ما انتصر أخوها على ذلك الوحش الصغير؟
توقّفت أدريان عن النظر إلى الأمام لوقت طويل وظلّت تنظر إلى الخلف بالرغم من أنّها كانت ما زال تتحرّك. كان تحركها إلى الأمام دليل على خوفها من باسل، ونظرها إلى الخلف دليل على أملها في فوز أخيها.
فجأة...
باام
تصدّع
سقطت أدريان على الأرض.
ما الذي حدث؟
كان هذا هو السؤال الوحيد الذي شغل بالها.
رأت ساقين بيضاوين لا يمكن أن تكونا ساقين لشخص يتدرّب ليل نهار مثل باسل. لقد كانتا ساقين راقيتين لشخص عاش محافظا ومعتنيا ببشرته. كانتا أيضا ساقين لشخص يقارب عمرها وليس ساقين لشخص بالغ.
رفعت أدريان رأسها فوجدت عندئذ "الحافز الحقيقيّ" الذي جعلها تفعل ما أخبرها أخوها أن تفعله.
كانت تلك العاهرة الشقراء أمامها.
بالطبع كانت أدريان ما تزال لا تعلم لمَ سقطت على الأرض.
سمعت حينها تلك الكلمات التي بدت كهمسات من الشيطان: (هل ظننتِ أنّه يمكنك المغادرة بهذه السهولة بعد ما تجرّأت على فعله؟)
فتحت أدريان فمها محاولة قول شيء، لكنّ أنمار قاطعتها: (لا تجرئي. ما فعلتِه لا يُغفر بهذه البساطة. لا تظنّي أنّه يمكنك أن تتجاوزي هذا الأمر بطلب السماح فقط. لقد تغاضى باسل عن أفعالك، لكنّني لست بتلك الرحمة. قد يكون باسل عديم الرحمة عندما يؤذي أحدهم عائلته، لكنّه يتساهل مع الآخرين عندما يتعلّق الأمر بإيذائه.)
بدأت أسنان أدريان ترتعد. لم يكن السبب الوحيد هو كلام أنمار. لقد أدركت أخيرا لمَ لا تستطيع التحرك. لقد كانت قدماها مكسورتين. ونفس نفس الوقت، رأت ما كانت أنمار تحمله في يديها خلف ظهرها. لقد كانت تلك مجرفة. علمت فورا أنّ تلك المجرفة كانت هي ما كسر قدميها حتّى صارت عاجزة عن التحرّك.
لقد كانت هناك أيضا بعض الدماء الطازجة على المجرفة والتي كان مصدرها الدماء التي كانت تنزف من قدميْ أدريان.
أكملت أنمار كلامها: (ولهذا، يجب على أحد آخر في محلّه أن يعتني به. إنّه يفعل كلّ شيء من أجل عائلته، لكنّه ينسى نفسه، لذا يجب على شخص آخر أن يحمي ظهره.)
أمالت أنمار رأسها ثمّ قالت: (أظنّ أنّه يمكنك القول أنّني أيضا عديمة الرحمة عندما يتعلّق الأمر بأذيّة أحدهم لعائلتي. ليس هناك فرق كبير بيني وباسل في الواقع، فكلانا يفعل ما بوسعه لحماية أحبابه.)
(لقد راقبته منذ نعومة أظافرنا يفعل كلّ ما بوسعه ليضمن سلامة أحبابه. لن أسمح لأحد أو أيّ شيء بالوقوف في مسعاه لتحقيق ذلك. سأدمّر أيّ شيء يحاول النيل منه.)
ابتسمت أنمار آنذاك برزانة كطفلة جيّدة. هل كانت ابتسامة أدريان الخفيّة فيما سبق سوداويّة؟
لو كانت تلك الابتسامة سوداويّة، فأدريان كانت متأكّدة؛ لقد كانت هذه ابتسامة شيطانيّة.
لم تستطِع الفتاة الصغيرة في تلك الأثناء أن ترى مخلوقا بشريّا أمامها. كلّ ما رأته كان شيئا يحمل شيئا ويحاول أن يفعل شيئا.
فزعت أدريان من ذلك "الشيء".
***
لم تكن أنمار تخدع أحدا. لطالما كانت لطيفة وحنونة حقّا. لم يكن ذلك تمثيلا قطّ. بالفعل تألّم قلبها عندما شاهدت الفراخ تسقط من الأعشاش، أو عندما تنمّر الأطفال على القطط والكللابب، أو عندما تعدّى الشبّان على العجائز.
لقد كانت تكره رؤية كلّ هذا، لكن لم تفعل شيئا بشأنه. لم يكن لها القوّة ولا الشجاعة للتدخّل. لماذا عليها أصلا التدخّل فيما لا يعنيها؟ هي لا تريد أن تجلب المتاعب لعائلتها الصغيرة.
تحمّلت آلام قلبها واستمرّت في عيش حياتها على ذلك الحال.
لكن...
لربّما بسبب تحمّلها وكبتها لتلك الرغبات التي كانت تنبع من قلبها... لربّما لأنّها أرادت مساعدة الضعفاء لكنّها اختارت ألّا تفعل... لربّما لذلك السبب، صارت أنمار تصير شخصا آخر تماما عندما تشاهد ما تريد حمايته يتعرّض للأذى.
كما لو أنّها امتلكت شخصيّتين مختلفتين، إلّا أنّ الشخصيّتين لم تتفرّقا وحافظتا على وعيهما في نفس الوقت.
تحمّلت أنمار مشاهدة باسل يتعذّب طوال الوقت، فأرادت مساعدته لكنّه لم يسمح لها لأنّه أراد أن يصير أقوى.
رأت الأطفال يتنمّرون عليه لكنّه لم يرد مساعدتها ولم تفكّر في فعل ذلك بما أنّه لم يحاول الانتقام، وفقط اقتصرت على مراقبته كعادتها بينما يحاول تحسين نفسه بلا ملل أو كلل، كلّ يوم، كلّ ليلة، سنة تلو الأخرى.
ومرّة أخرى، تكوّنت رغبة عميقة في قلبها. إن لم يكن سيسمح لها أن تحمل ذلك الثقل الذي يضعه على ظهره، فستحرص على حماية ظهره بكلّ ثمن. لن تسمح لأيّ شيء بالاقتراب من ذلك الظهر الذي عشقت رؤيته صامدا بالرغم من كلّ المصاعب التي تحاول كسره.
لو لم يستيقظ باسل قبل أن تأتي وتراه ينهي أمر أولئك الأطفال الملاعين، لكانت الشخص الذي شقّ رؤوس أولئك الأطفال بدون رحمة.
وبالطبع، عندما هربت أدريان، اعترضت أنمار طريقها. لقد عاقب باسل أولئك الأشقياء على أفعالهم، لكن هذه العاهرة الصغيرة التي حاولت قتل باسل يجب أن تُعاقب أيضا. لا يجب أن تسمح لها بالكون في هذا العالم حتّى تتأكّد تماما أنّ شيئا كهذا لن يحصل ثانيّةً. يجب أن تبيد كلّ ما يحاول كسر الظهر الذي تلاحقه.
رفعت أنمار المجرفة ثمّ نزلت بها على ذراع أدريان اليسرى.
*تصدّع
(غيااااه!!!) صرخت أدريان بجنون وتكوّرت على نفسها بينما تحضن ذراعها التي انحرفت في اتّجاه غريب.
كانت الدموع تسقط من عينيها الداميتين بغزارة وبلّلت نفسها مرّة أخرى.
ترجّت باستماتة: (آسفة، آسفة، آسفة، أرجوك سامحيني! لن أعيدها مرّة أخرى. أقسم لك أنّني سأختفي من حياتكما. لن أفعل هذا لأيّ أحد أبدا. لقد كنت مخطئة. أنا المخطئة! أرجوك، آسفة...)
صارت كلمات أدريان بعد ذلك كخزعبلات غير مفهومة من شدّة سرعتها في الكلام واختلاط أفكارها.
ومع ذلك، كان ذلك الشيء أمامها بدون أيّ ذرّة من الرحمة. كانت عينا ذلك الشيء فارغتين من الحياة، وبدا كما لو أنّه يحاول إزالة شيء من على الطريق حتّى يتسنّى له التقدّم بكلّ راحة.
لقد كانت ترى اليأس متجسّدا أمامها.
ذلك الشيء... لقد علمت ماهيّته أخيرا.
متى علمت عن ماهيّته؟
حدث ذلك عندما لاحظت تلك الابتسامة تظهر مرّة أخرى. جعلتها تلك الابتسامة تصحّح أفكارها. لم يكن الأمر أنّ هذا الشيء كان فارغا من الحياة، بل كان هذا الشيء حيويّا أكثر من أيّ وقت مضى. نعم، بدا كشيطان يطلق العنان لرغباته المكبوتة.
باام
تصدّع
كُسِرت الذراع الثانيّة.
لم يهمّ كم ترجّت أدريان. لقد كان ذلك الشيطان مستمتعا بما يفعله. كيف لها أن تقنع شيطانا بالعدول عن فعل شيء يمتّعه؟
ومع ذلك، كان الأمر مختلفا قليلا عمّا بدا عليه الأمر لأدريان. بالفعل ظهرت تلك الابتسامة الشيطانيّة على محيى أنمار، إلّا أنّ ذلك لم بسبب استمتاعها بالتعذيب بحدّ ذاته، وإنّما لأنّها كانت مرتاحة البال لأنّها ستتخلّص أخيرا من الخطر المحدّق بباسل. أخيرا يمكنها حمايته كما رغبت لوقت طويل.
صارت أنمار تبدو لأدريان كحاصد أرواح يلوّح بمنجل الموت الخاصّ به. كلّما لاحظت المجرفة ترتفع، علمت أنّ الألم سيهبط معها كالصاعقة.
ألا يمكن أن تموت فقط وتتخلّص من هذه الآلام؟
(اقتليني. فقط اقتليني، اللعنة! لمَ عليك فعل كلّ هذا؟ أنهي الأمر حالا!)
لم تعد أدريان تهتمّ بأيّ شيء آخر. هل كانت قلقة فيما سبق بشأن غدو وجهها قبيحا؟ لقد صار جسدها كلّه مليئا بالجروح الآن. هل عليها أن تعيش بقيّة حياتها هكذا؟ لا. ستفضّل الموت بكلّ تأكيد.
ردّت أنمار مباشرة هذه المرّة: (لمَ عليّ أن أستمع لطلبك؟ سأقتلك عندما أرى أن الوقت مناسب.)
كادت عينا أدريان تخرجان من مكانهما. حاولت إقامة جسدها قليلا باستخدام طاقة غضبها بينما تصرخ: (أيّتها العاهرة! لطالما علمت أنّك وحش في هيئة فتاة جميلة. كلّ تلك الطيبة... كلّ ذلك العطف والرأفة... لطالما زيّفت كلّ ذلك. إنّك مجرّد مسخ متنكّر كبشر! هل يعلم باسل عن هذ...)
باام
فلطحت المجرفة وجه أدريان التي سقطت أرضا مستلقيّة هناك كالجثّة.
قالت أنمار بصوت خالٍ من الحياة: (لا تجرئي على نطق اسمه بفمك الوسخ يا قذارة. لا أهتمّ كيف ترينني، ولا أهتمّ كيف يراني العالم. أنا فقط سأحمي ما هو غالٍ على قلبي في كلّ حال.)
(كيهي... كيهيهاهاهاها!)
بدأت أدريان تضحك كما لو أنّها جُنّت. لقد كان الضحك لوحده يجعل الألم يصعق جسدها، فما بالك بالتحرّك، إلّا الحماس جعلها قادرة على التغلّب على آلامها لوهلة.
لقد كانت متحمّسة لأنّها علمت أنّ باسل لا يعلم عن هيئة أنمار هذه. كانت فرحة لأنّها فكّرت في اليوم الذي يكتشف فيه باسل حقيقة أنمار.
اقتربت أنمار وتلك الابتسامة ما زلت على وجهها من أدريان.
(ما الذي يحدث هنا؟)
وكما لو أنّ أمنيتها الوحيدة التي ترجّت حدوثها ذات يوم تحقّقت بهذه السرعة، سمعت أدريان صوت باسل. ابتسمت بوجهها القبيح. لقد كانت هذه نفس الابتسامة التي أظهرتها في كلّ مرّة فرحت كثيرا، لكن هذه المرّة لم تكن تلك الابتسامة مشرقة لكن مظلمة.
لم تكن أدريان تتخيّل أنّها ستكون سعيدة لهذه الدرجة بظهور هذا الفتى اللعين الذي اعتقدت أنّه وحش صغير قبل قليل فقط وحاولت الهرب منه بكلّ جهدها.
(كيهيهاهاهاها! هاهاهاخوه!)
تقيّأت أديان الدماء بين ضحكاتها الهيستيريّة.
لقد رأت بصعوبة وجه باسل المصدوم. لم يكن حقّا يعلم شيئا عن ذلك المسخ المتنكّر في هيئة فتاة صغيرة.
حدّق باسل إلى هذا الوضع لوقت طويل. لقد رأى شيئا غير قابل للتصديق.
هل أنمار هي المسؤولة عن هذا؟ نعم، هي المسؤولة. لقد كانت تحمل المجرفة التي تغطّيها دماء الفتاة التي صارت كدمية مكسورة.
لكن كيف؟ لماذا؟ كيف يمكن أن يحدث هذا؟
أنمار... الفتاة اللطيفة، الحنونة. الفتاة التي لم تستطِع مشاهدة أبسط الاعتداءات... كيف لها أن تفعل شيئا كهذا؟ فقط ما الذي حصل لأنمار التي يعرفها؟
لماذا كانت تبتسم بذلك الشكل؟ لماذا كانت تبدو مستمتعة بتعذيب أدريان؟
هل كان كلّ ما عرفه عنها كذبا؟ هل كانت تمثّل طوال هذا الوقت؟ هل حقّا خدعته بتمثيلها كلّ هذه السنوات؟
لقد كان باسل مفتخرا بنفسه لأنّه رأى عبر تمثيل أدريان وخطّة عثمان بكل سهولة، لذا كان مصدوما تماما عندما رأى هذا الجانب من أنمار.
ومع ذلك، كان باسل ما يزال صبيّا حاذقا؛ لقد علم تماما ما وجب عليه فعله في هذه الأثناء.
أوّلا، عليه أن يمنع أنمار من قتل أدريان. شعر أنّه لو سمح لها بأن تقتلها، فشيء سيتغيّر بأنمار للأبد. أحسّ أنّه لن يستطيع رؤية أنمار التي عشقها طوال هاته السنوات مرّة أخرى.
لم يرد أن يخسر تلك الفتاة اللطيفة التي اهتمّت بعائلتها بطريقتها الخاصّة بقدر ما اهتمّ هو لعائلته. لقد كانت هي أفضل منه بكثير. لقد تحسّرت حتّى على مشاكل الآخرين على عكسه، ولو لم تتدخّل.
تجمّدت أنمار في مكانها لمّا شاهدت تعبير باسل. لم تهتمّ لآراء الآخرين، ولم تهتمّ كيف يراها العالم، لكنّها اهتمّت كثيرا لما يعتقده باسل بشأنها. لم ترد أن تخسره، لذا حاولت التكلّم، لكنّها قوطِعت.
(لا تقولي شيئا حاليا.)
كان باسل قد وصل إلى أدريان.
كانت أدريان متحمّسة لردّة فعل باسل، لذا ظنّت أنّه سيساعدها ويكره أنمار. على الأقلّ ستصيب أحد العصفورين اللذين أرادت إصابتهما سابقا، وذلك هو جعل أنمار تخسر باسل.
قرّب وجهه منها ثمّ قال بصوت هادئ وبارد: (اسمعيني جيّدا. لقد هاجمتك الذئاب برفقة أخيك والآخرين. لو أخبرت أيّ أحد عمّا حصل هنا اليوم، فسأحرص على جعلك تفضّلين الموت على الحياة.)
لقد كانت تانك نفس العينين اللتين رأتهما سابقا عندما حطّم هذا اللعين رؤوس أولئك الفتيان. علمت أنّه لم يكن يستهتر بكلامه هذا. سيطبّق ما قاله حقّا لو خالفت أقواله.
تذكّرت أدريان قول أنمار: 'قد يكون باسل عديم الرحمة عندما يؤذي أحدهم عائلته، لكنّه يتساهل مع الآخرين عندما يتعلّق الأمر بإيذائه.'
علمت أنّها إذا أخبرت القرية عمّا فعلته أنمار، فستضرّر أنمار، وهذا يدخل في مجال أذيّة عائلة باسل. لم ترد أن تختبر عدم رحمة هذا الفتى.
اللعنة! ما الذي كانت تنتظره من هذا الوحش الصغير على أيّ حال؟ لقد كان هذا اللعين هو الشخص الذي أحبّته تلك العاهرة. بالطبع سيكون مسخا مثلها.
أخرج باسل بعض الأعشاب وأوقف نزيف أدريان ثمّ تركها تستلقي هناك. سيجدها عثمان والآخرين عند عودتهم كما وجدهما هو هنا. لقد كانت هذه هي الطريق المعتادة التي يستخدمها الصيادين.
تحرّك وتجاوز أنمار، ولم يقل شيئا. أرادت أنمار أن تفسّر موقفها، لكنّها تذكّرت أنّ باسل أخبرها ألّا تقول شيئا. علمت انّه لم يرد التحدّث عن هذا هنا.
للأسف، لم يكن باسل ينوي التحدّث عن هذا إطلاقا، وليس هنا فقط.
منذ هذا اليوم، صار باسل يتجنّب أنمار كلّيّا.
وكما أخبره حدسه، لم يستسلم أولئك الأطفال عن محاولة إغاظته.
تنهّد وقال: (من كان يعلم أنّ طرق رؤوسهم كثيرا سيجعلهم ينسون ما حدث كلّيّا؟ لقد فشلت. كان يجب عليّ أن أطرق رؤوسهم بقّوة أقلّ.)
بالمناسبة، لطالما اعتقد باسل أنّ طرق الرؤوس يعالج الغباء، وأنّه الطريقة الفضلى للتخلّص من المزعجين.
مشط شعره إلى الخلف ثمّ أضاف: (على الأقل، تذكّرت أدريان ما قلتُه.)
بعد تلك الحادثة، اختفت أدريان من حياة أنمار وباسل تماما. كانت مجرّد شبح يعيش في قريتهما.
***
كان يحيط الإمبراطوران والجنرالات والعائلات الإمبراطوريّة يحيطون باسل حاليّا. حتّى كارماين ابن سكارليت كان هنا.
لقد كانوا كلّهم يرتدون الأبيض.
لقد كان الأبيض هو لون باسل المفضّل لارتداء الملابس، لكنّه كرهه كثيرا اليوم. لطالما ارتدى الأبيض كثيرا حتّى يلاحظ الأوساخ بسهولة ويظلّ نقيّا كما أردته أمّه أن يكون، لكنّه صار يرى هذا الأبيض كعلامة شؤم. سيذكّره هذا الأبيض بفقدان أمّه وعائلته والآخرين لما تبقّى من حياته.
كانت ذكريات الماضي ما تزال تجوب عقله. حدّق بعينين فارغتين من الحياة إلى القبور التي كانت المسكن الجديد لأجساد الأشخاص الذين كانوا أحياء قبل أيّام فقط. لقد بدا الأمر كـكذبة.
كانت عائلة باسل هي العالم بالنسبة له، فغيّر العالم بنفسه من أجل حمايتها، إلّا أنّه فقدها، فتحطّم عالمه كلّيّا.
كان هناك شخص واحد ما زال يترجّى باسل أن يكون حيّا بطريقة ما بالرغم من أنّ احتماليّة موته أكبر بكثير من عيشه. كان يأمل بكلّ ذرّة من كينونته أن تكون أنمار ما زالت حيّة. كان ذلك الأمل المضمحلّ هو ما يجعله متشبّثا بالحياة.
***
(...يبدو أنّني سأحتاج لأعلّمك كيف تعامل النساء أيضا بدءا من اليوم.)
أمسك باسل رأسه الذي طرقه معلّمه، ثمّ نظر إلى أنمار وهي تكتسب عطف معلّمه.
لقد كان في هذا الوقت يعتقد أنّها كانت تخدعه طوال الوقت، لذا لم يرد منها أن تخدع معلّمه أيضا.
ومع ذلك، استسلم عن ذلك بعدما قرّر إدريس الحكيم اتّخاذ أنمار تلميذة له.
جلس باسل ومعلّمه في أحد الأيّام، فسأل المعلّمُ مباشرة: (لماذا تتجنّب الصغيرة أنمار؟)
عبس باسل بعدما سمع ذلك السؤال وردّ بصوت مرتفع: (تلك... هي... لقد كانت تتصرّف بـ'طريقة' طوال الوقت، لكنّها كانت في الواقع شيئا آخر. لقد خدعتني طوال هذا الوقت.)
حدّق إدريس الحكيم إلى باسل لوقت طويل ثمّ سأل مرّة أخرى: (هل تخشاها؟)
شعر باسل أنّ معلّمه قد سأل وهو يعلم ما يجول في خاطره. لطالما ظنّ أنّ معلّمه له قدرة غريبة في الرؤية عبر الآخرين واكتشاف نواياهم بسهولة. لقد كان صبيّا حاذقا وكان واثقا في التحكّم في مشاعره وتعبيراته، لذا علم أنّه لم يكن سهل القراءة وإنّما معلّمه من كان خبيرا.
لم يحاول المراوغة في الإجابة. لقد كان باسل صريحا مع معلّمه كعادته: (لا أخشاها بحدّ ذاتها. أخشى أن أفقدها. أخشى أن أفقد أنمار التي لطالما عرفتها.)
ابتسم إدريس الحكيم بعدما سمع صراحة باسل وقال: (لا تقلق إذن. أنمار التي لطالما عرفتها، وأنمار التي اكتشفتها لاحقا... كلاهما أنمار. ما عليك سوى أن تتقبّل هذه الحقيقة.)
لم يقل باسل شيئا. لم يفهم ما قاله المعلّم في تلك الأثناء، لكنّه استوعب مع مرور الوقت أنّ أنمار لا تحاول إخفاء ذلك الجانب منها، وأنّ أنمار التي عشقها ما تزال موجودة. هي لم تختفِ بعدما ظهرت أنمار الأخرى.
أدرك هذا الشيء جيّدا عندما كانا في أحد الأيّام يتدرّبان في منطقة محظورة. كان إدريس الحكيم قد منحهما كعادته مهمّة إرضاخ منطقة محظورة.
التقى باسل وأنمار ببعض السحرة، فتعاونا معهم بناء على طلب السحرة. أراد السحرة أن يكتسبوا لقمة عيشهم، وأراد باسل وأنمار أن يتعرّفا على سحرة آخرين غير معلّمهم. أرادا أن يريا الفرق بينهما وباقي سحرة العالم.
كان هناك ساحر بالمستوى الرابع، وثلاثة سحرة بالمستوى الثالث وأربعة سحرة بالمستوى الثاني.
كان إدريس الحكيم يراقب ما يحدث، فلاحظ بعض الأشياء لكنّه لم يتدخّل. كلّ ما فعله هو التعليق: (سيكون هذا درسا جيّدا لهما. لنرَ كيف سيتعاملان مع هذا الموقف.)
تكلّم أحد السحرة بالمستوى الثالث: (إنّكما ماهران حقّا. لم أتوقّع أنّ هناك عبقريّيْن مثلكما في هذا العالم. من كان ليتوقّع أنّ فتى وفتاة في هذا السنّ الصغير سيكونان ساحرين بالمستوى الثاني.)
ضحك باسل وحكّ رأسه بخجل. لقد كانت هذه أوّل مرّة يلتقي فيها سحرة آخرين، لكنّه لم يرخِ دفاعه أيضا بسبب حماسه. لم يكن في المستوى الثاني، لا هو ولا أنمار. لقد زيّفا ذلك فقط حتّى يتسنّى لهما الاندماج مع السحرة بسهولة.
مرّ يوم فقط، فبلع السحرة أرياقهم من شدّة الحماس. لقد جمعوا العديد من أحجار الأصل. لقد أرضخوا منطقة محظورة كلّها. لم يتوقّعوا أن يحصدوا كلّ هذه الكنوز أيضا التي وجدوها في الكهوف. لقد كانت هناك أسلحة سحريّة بالمستوى الرابع حتّى؛ لا بدّ وأنّ بعض السحرة بالمستوى الرابع ماتوا هنا.
لو فكّروا بشكل منطقيّ، لعلموا أنّهم لم يكونوا ليهزموا منطقة محظورة أنهت أمر سحرة بالمستوى الرابع، لكنّ جشعهم تغلّب على منطقهم. كانوا ليلاحظوا أنّ باسل وأنمار كانا قويّين بشكل غير طبيعيّ.
لم يتغلّب جشعهم على منطقهم فحسب، بل جعلهم ينسون كرامتهم وإنسانيّتهم حتّى.
في تلك الليلة، أحاط السحرة أنمار وباسل من جميع الجهات. لقد أرادوا جميع الجوائز لأنفسهم ولم يريدوا اقتسامها مع هذين الطفلين.
كانت ردّة فعل باسل بسيطة: (حسنا. خذوا ما شئتم. نحن لا نتهمّ بأيّ شيء آخر. فقط لا ترونا أوجهكم مرة أخرى.)
وبالطبع، جشع السحرة فاق هذا بكثير: (من قال أنّنا نريد الحصيد فقط؟)
نظر هذا الشخص الذي كان ساحرا بالمستوى الرابع إلى جهة أنمار وقال: (لم يسبق لي أن رأيت فتاة بجمالها بالرغم من تجوالي كِلَا إمبراطوريّتيْ القارّة العظيمة. سنستمتع بها جيّدا قبل أن نبيعها كجاريّة لأحد النبلاء. أمّا أنت... للأسف لا أملك هواية اللعب مع الفتيان. أنت ستكون عبدا بكلفة عاليّة للغاية.)
كان هؤلاء السحرة في الواقع مرتزقة. لم يكن من السهل رؤية سحرة بالمستوى الرابع هنا وهناك بكل سهولة. لقد كانت هذه الفرقة جيّدة بالنسبة لمرتزقة في الواقع.
عبس باسل لكنّه كان محافظا على هدوئه حتّى في هذا الموقف. لطالما أخبره معلّمه أن يظلّ رزينا في كلّ المواقف. لطالما أخبره أنّ سلامة العقل تعني سلامة المسار الروحيّ.
لكن...
شخص آخر كان مختلفا.
ظهرت أنمار الأخرى التي رآها باسل في ذلك اليوم.
اندفعت بتهوّر تجاه الشخص سمعته يقول أنّه سيستعبد باسل.
هذه المرّة، لم تكن تحمل مجرفة، بل سيفا سحريّا، لا، بل سيفا أثريّا.
زباام
لم يملك ذلك الشخص بالمستوى الرابع الفرصة للدفاع عن نفسه حتّى وجد نفسه مقطوعا لنصفين من الخلف. لقد ظنّ أن السيف قادم من الأمام، لكنّ ذلك كان مجرّد وهم.
شاهد باسل هذا الأمر وبدأ يستوعب ما يحدث مع أنمار.
وبالطبع، لم يكن لديه وقت ليفكّر في هذا بروية. لقد لاحظ أنّ أولئك الملاعين ينقضون على أنمار، وكانت في خطر محدّق.
في الواقع، لم تكن في خطر على الإطلاق. حتّى لو كان قد بقي ثلاثة سحرة بالمستوى الثالث وأربع سحرة بالمستوى الثاني، كانت أنمار قادرة على الفرار من هجماتهم الموحّدة على الأقلّ.
لكن...
لم يفكّر باسل في هذا في هاته اللحظات. وفقط عندما قطع بسيفه لحم وعظم السحرة، أدرك لمَ تصرّفت أنمار بذلك الشكل بدون أن تشعر.
لطالما كانت أنمار تراقبه وتحمي ظهره، لكنّه حصر صورتها في ذهنه على أنّها مجرّد فتاة لطيفة لا غير. الآن فهم أنّ أنمار مثله. فهم أنّها ستفعل أيّ شيء من أجل حماية أحبابها، وأنّها ستتحوّل لشيطان عديم الرحمة من أجلهم.
هي لم تكن تمثّل أو تخدع الناس عندما تصرّفت بلطف وعطف. لقد كانت تلك أنمار، ولكن حتّى أنمار عديمة الرحمة كانت أنمار. الآن فهم باسل تماما ما قصده معلّمه. نعم، كلاهما أنمار.
لم يمر وقت طويل قبل أن يظهر إدريس الحكيم. أوّل ما قاله معلّمهما كان: (ما هو شعوركما؟)
علم الاثنان ما كان يقصده. لقد كان يتحدّث عن القتل. لقد كانت هذه أوّل مرّة يقتلان فيها بشرا.
أجاب باسل بشكل طبيعيّ: (لا شيء. لقد شعرت مثل ما أشعر به عند قطع الوحوش.)
ارتفع حاجب إدريس الحكيم وسأل: (لمَ ذلك؟)
حدّق باسل إلى عينيْ معلّمه وقال بصرامة: (لقد ميّزهم عقلي كوحوش من تلقاء نفسه ما أن حاولوا مهاجمة أنمار.)
نظرت أنمار إلى جهة باسل بوجنتين محمرّتين، فابتسم إدريس الحكيم عند ملاحظة هذا. لم يحتج أن يسمع إجابة أنمار بعدما رأى تعبيرها ذاك. لقد كانت فقط مرتاحة البال لأنّ باسل لم يصبه شيء، وسعيدة للغاية لأنّها سمعته يقول ما قاله عنها.
***
انتهت أخيرا الجنازة التي أقيمت في مدينة العصر الجديد، وبالضبط في بيت عائلة باسل المتواضع. كان باسل يجلس وحيدا على التلّ القريب من المدينة التي كانت تُرمّم من جديد. هذا التلّ الذي ارتاح فيه باسل بعد 'ولادته الجديدة' سابقا... صار هذا التلّ مقبرة.
حدّق إلى السماء التي ذكّرته بالعينين الزرقاوين اللتين عشق النظر إلى الحنان يتجسّد فيهما.
(اهتم بـ'أنمار' جيّدا؛ فالإنسان لا يعلم قيمة الشيء الحقيقيّة إلّا بعد فقدانه.)
تذكّر باسل كلام أمّه في هاته اللحظات التي شعر فيها أنّه وحيد في هذا العالم. لقد فعل ما بوسعه حقّا حتّى يقدّر ما يعزّه، لكن كما قالت أمّه، لا يعلم الشخص قيمة الشيء الحقيقيّة حتّى يفقده.
لقد كان يعلم أنّه سيفقد عقله بعد فقدان عائلته، لكنّ الحكمة السياديّة لم تسمح له بذلك.
ومع ذلك، كان عالمه محطّما تماما.
علم أنّ الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يجمع شتاته هو ذلك الأمل المضمحلّ.
تذكّر أيضا كيف ثابر الصناديد عبر العصور وتحلّوا بصبر شديد حتّى يمرّروا عصارة أملهم إليه.
تذكّر كيف اختبر الرمح الطاغيّة الوحدة القاسيّة لعصور أبديّة.
تذكّر أيضا كيف أخبره معلّمه أن يحرص على مرافقة أنمار بالمسار الروحيّ.
ولهذا قرّر...
عليه أن يبحث عنها.
-وعنه-
عليه أن يجدها.
-ويجده-
عليه أن يصلح عالمه المكسّر.
-ويكسر عالم إبلاس-
عليه أن يسويّ كلّ شيء.
ولفعل هذا، عليه أن يغادر العالم الواهن.
***
مغادرة العالم الواهن. لقد علم باسل عن صعوبة فعل شيء كهذا في هذه الأوقات. لقد كانت العوالم مختومة، ولولا التحوّل الروحيّ الذي جعل الختم غير ثابت مؤقّتا، لما استطاع أيّ شخص المجيء إلى هنا.
إذن، كيف له أن ينجح هو في فعل هذا؟ كيف له أن يفعل شيئا عجز حتّى الآن ملك الشياطين بأعوانه؟
بالفعل كان للرمح الطاغيّة قدرة التلاعب بالفضاء، لكنّ ذلك غير كافٍ، فباسل قد أخبر الرمح الطاغيّة عندما كانا في العالم الثانويّ أنّه حتّى قدرة الرمح غير كافيّة لأنّ الختم الذي وضعه "السابع" قويّ للغاية.
وقف باسل ثمّ استدار. كان أمامه الآن خمسة قبور. كان في هذه القبور أمّه والعمّة سميرة والجدّة ليندا وأخوا القطع.
لم يُدفن الكبير أكاغي والجنرال منصف هنا لأنّه وجب أن يُدفنوا في المقبرة الإمبراطوريّة بالعاصمة.
حدّق باسل إلى القبور التي كانت بسيطة. كلّ ما ميّزها كان وجودها لوحدها على هذا التلّ.
طال نظر باسل إلى القبور حتّى تغرغرت عيناه بالدموع التي انهمرت بسرعة كبيرة وبدون توقّف. قد تكون الحكمة السياديّة تتحكّم في منطقه وحسّه السليم، لكنّها لم تأخذ منه إنسانيّته. طالما لا يفوق الأمر "الحدود"، فآثار التحكم الحكيم السليم تبقى غير مفعّلة.
ومع ذلك، كان باسل يكاد يفقد نفسه في كلّ مرّة تساقطت دموعه التي لم يستطع التحكّم فيها بدون الحكمة السياديّة. كان يبكي لوقت طويل للغاية حتّى يبدأ يفقد حسّه السليم، فتجّف عيناه مباشرة بعدما تتدخّل الحكمة السياديّة. كل ما كان يبقى هو عيناه اللتان تكونان قد ازدادتا حمرة عن لونهما الطبيعيّ.
سقط على الأرض عندما جعلته الحكمة السياديّة يهدأ، ونظر إلى الأرض لوقت طويل للغاية.
"لماذا؟ لمَ يجب أن يحدث لي كلّ هذا؟ كلّ ما أردته هو أن تعيش عائلتي بسلام. لم أحاول تمديد طول عمرهم أو عارضت القوانين الطبيعيّة. ما الذي يجب عليّ فعله يا أنمار؟"
كان يكرّر كلامه هذا دائما وبدون توقّف. كانت تلك أسئلة بلا إجابة، لذا لم يتوقّف إلّا عندما أجابه الواقع القاسي مرارا بحقيقة ما حدث. عليه الآن أن يتعايش مع كلّ ما حدث. ليس هناك ما يمكن فعله. ما فات قد مات.
تحسّر هناك لوقت طويل جدّا حتّى أغربت الشمس. لم يشعر بمرور الوقت قطّ. أحسّ أن شعوره بالزمن صار منعدما. هل ربّما يعود السبب لكونه وحيد؟ كيف ذلك ولطالما فضّل الوحدة؟
عرف باسل المعنى الحقيقيّ للوحدة في هذه الأثناء. كان هناك مكان لم يستطع أن يملأه سوى أشخاص محدّ***. كانت هناك ثغرة في قلبه شعر أنّها ستبتلع روحه في أيّ لحظة لولا الحكمة السياديّة.
لم يمكن ملء هذه الثغرة أبدا، بل تغطيّتها فقط. علم باسل بدون إدراك أنّه عليه أن يجد ذلك الغطاء.
***
في أحد المنازل في العاصمة...
انحنى رأس باسل قليلا وقال: "آسف. تقع المسؤوليّة عليّ. كلّ ما يمكنني فعله لكنّ هو ضمان حياة آمنة لكنّ كما أرادوها لكم، ومحاولة استرجاعهم، هم الذين فقدتنهم."
كان باسل يتحدّث إلى ثلاث نساء. كانت هؤلاء النساء زوجات فانسي وشينشي وبرودي، قادة التشكيل الثلاثة.
كانت أوجه النساء الثلاث شاحبة. لقد كنّ على علم بما حلّ بالعالم، وبالأكاديميّة. علمن كيف خُطِف أزواجهنّ.
نظرن إلى باسل بأعين حزينة لكن عطوفة في نفس الوقت.
قالت زوجة فانسي: "إنّك أكثر شخص يتعذّب فينا هنا، فلا تعتذر من فضلك. نحن نعلم عنك وعن مجهوداتك. لطالما أخبرنا أزواجنا عن المسؤوليّة التي تتحمّلها بالرغم من سنّك الصغير."
أضافت زوجة شينشي: "انظر، لقد أتيت لتعتذر، لكنّك أتيت أيضا لتخبرنا أنّك ستفعل ما بوسعك لإرجاعهم لنا."
ابتسمت زوجة برودي بصعوبة. كان واضحا أنّها تجبر نفسها، لكن تلك الابتسامة كانت كافية لجعل قلب باسل يرتاح قليل: "لولا جهودك، لما اقتصر الأمر على ما حدث. كنّا لنشهد دمارا شاملا أسوء بكثير من الذي حدث قبل سبع عشرة سنة. لقد كنتَ وما زلت حامي هذا العالم. لا يهمّ ما يعتقده الآخرين، أنت بطل العالم الواهن. سأحرص على قول هذا طالما حييت."
كانت زوجة برودي تقصد الإشاعات التي كانت تدور في بعض الأماكن عن خوف بطل البحر القرمزيّ وعدم ظهوره بالرغم من موت عائلته وأتباعه.
لم يكن هناك مفرّ من انتشار إشاعات كهذه. لقد كان باسل أصلا مشهورا، وكان هناك الكثير من الأشخاص الذين لم يعجبهم الأمر، وخصوصا عندما يفكّرون في أنّ فتى صغير يمكنه أمرهم كما يبتغي. كان هناك أيضا من عارض منهجه، وهناك من حسده فقط. واحد من تلك الأسباب فقط كان كافيّا لنشر إشاعات عديدة عند ظهور فرصة كهذه.
حدّق باسل إلى الثلاث. بالفعل لم يهتمّ بما قاله الآخرين، لكن...
"لقد خذلتُ الجميع."
النتيجة كانت جليّة. كانت النتيجة هي الأكثر أهمّيّة. فماذا لو فعل هذا وذاك؟ كلّ ذلك يُعدّ بلا معنى إذا فشل في النهاية.
تدخّلت زوجة شينشي: "لم تخذل أحدا يا سيّدي. على العكس، نحن نعلم، أنّ عالمنا كان ليكون في حالة يُرثى لها بهذه الأثناء لولاك. لربّما تعتقد أنّك خذلت الجميع، لكنّك أنقذت المليارات من الأرواح في الواقع."
كانت الإمبراطوريّات الثلاث منقسمة لممالك عديدة فيما سبق، ولكن بعدما أصبحت الممالك ثلاث إمبراطوريّات وعمّ السلم نوعا ما لسنوات عديدة، ازداد التعداد السكانيّ للعالم الواهن كثيرا. كان هناك حاليا المليارات من الناس يعيشون بالعالم الواهن.
فكّر باسل فيما قالته زوجة شينشي. لم تكن مخطئة. بالفعل أنقذ باسل العالم الواهن إن نظر الشخص إلى الأمر نظرة أوسع، لكنّ عالم باسل كان أمّه وعائلته.
وجد باسل الأمر ساخرا عندما فكّر في الأمر بروية. عندما كان صغيرا، كان يرى العالم بشكل واسع للغاية ولم يرد أن يحصر نظره في قرية صغيرة، لكنّه الآن كان يفعل عكس ذلك تماما، لكنّه لم يعتقد أنّ ذلك خاطئ. لطالما وسّع آفاقه لأنّه أراد حماية عائلته. لقد كان كلّ شيء يتمحور حول عائلته منذ البداية.
ماذا عليه أن يفعل إذا بعدما فقد عائلته؟
مرّة أخرى، عليه أن يتعلّم كيف يتعايش مع هذا الأمر.
فهو لن يسمح لنفسه بالموت وهو يأمل أنّ أنمار ما تزال حيّة، ولن يفقد عقله لأنّ الحكمة السياديّة تجعل مساره الروحيّ سليما قدر المستطاع.
عليه أن يتقبّل ما حدث.
نظر باسل إلى النساء الثلاث ثمّ قال بعدما حسم أمره: "شكرا لكنّ. أعدكنّ، سأفعل ما بوسعي لأعيد أزواجكنّ إليكنّ."
فكّر باسل لوقت طويل في شيء آخر بينما ينظر إلى الأسفل.
ماذا لو تطلّب منه الأمر عقودا، أو ربّما حتّى قرونا قبل أن يجد أنمار والآخرين؟ كيف له أن يسمح لنفسه أن يجعل هؤلاء الثلاث ينتظرن كلّ تلك المدّة؟
رفع باسل رأسه ثمّ حاول قول شيء ما، لكنّ زوجة فانسي سبقته: "سننتظر مهما طال الأمر. لا يهمّ إن كان ذلك عقودا أو مدى حياتنا. سننتظر."
لم تعلم النساء ما كان باسل يفكّر فيه، لكن صادف الأمر أنّهنّ كنّ عازمات أيضا على الانتظار.
لم يستطع باسل أن يخبرهنّ أّلّا ينتظرن. لقد كان ذلك خيارهنّ، ولا يمكنه أن يأخذه منهنّ أو يجبرهنّ على فعل شيء آخر. لقد تمنّى فقط أن يعشن بسعادة.
أومأ باسل رأسه ثمّ استدار ليغادر. قال بعدما وضع يده على مقبض الباب: "شكرا لكنّ."
كانت الزوجات حانيات رؤوسهنّ خلف ظهر باسل ولم تقلن شيئا آخر. ومع ذلك، علم باسل أنّهنّ كنّ في الواقع يحاولن بكلّ جهدهنّ إخفاء وجوههنّ التي كادت تبلغ حدّها وتنفجر باكيّةً.
علم أنّهن فعلن هذا من أجله حتّى لا يشعر بالذنب أكثر، ولهذا شكرهنّ قبل أن يخرج.
كان عليه الآن أن يتوجّه للقصر حتّى يلتقي بالأميرة سكارليت التي كانت على وشك أن تصبح إمبراطورة إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة.
كان ما يزال هناك أشخاص ليتعذر إليهم. أراد أن يفعل هذا بشكل صائب، بينما كان يلوم نفسه على فعل الأشياء الأخرى بشكل خاطئ.
***
جلس باسل برفقة امرأتان وفتى صغير حول طاولة.
وقف الفتى الصغير أمام باسل. لقد كان هذا هو الفتى الذي جعل من نفسه منافسا لباسل في الحبّ. لقد كان لتوّه فتى صغيرا لا يعرف شيئا وتمنّى أن يكون زوجا لشخص علم لاحقا أنّه لا يمكنه الزواج به. الفتى الذي أحبّ أنمار كـ"أخت كبرى"، وكان ابنا للجنرال منصف، وحفيدا للكبير أكاغي.
اليوم، وقف هذا الفتى شاخصا أمام باسل قبل أن يتحدّث أيّ شخص آخر. حدّق لوقت طويل إلى باسل الذي بادله النظرات بصمت منتظرا لحظة زوال السكون.
تكلّم الفتى الصغير ذو السبع سنوات بصوت واضح: "متى ستذهب لتبحث عن أختي الكبرى أنمار؟"
لقد كانت أنمار ابنة خاله، لكنّه لطالما أحبّها وعاملها كأخت كبرى. علم أيضا أنّ أنمار كانت تنظر إلى باسل فقط.
نظر باسل بتعجّب إلى الفتى الذي ركله في لقائهما الأوّل فقط لأنّ أنمار قالت أنها ستتزوّجه هو وليس كارماين. لماذا يسأل فتى كهذا عن شيء كهذا؟ أليس من المفترض أن يكون حزينا للغاية ويبدأ في التساؤل عن مكان أبيه وجدّه؟ أليس من المفترض أن يكون يبكي بدون توقّف؟
حدّق باسل إلى عيني الفتى اللتين كانتا حمراوين. لقد كان واضحا أن الفتى كان يبكي بدون توقّف لأيّام. كيف له أن يقول شيئا كهذا الآن؟
حتّى لو كان فتى صغيرا، فلا بدّ وأنّه يعلم على الأقلّ عن غياب باسل. ألي من المفترض أن يكون الأطفال جهالا في هذه الظروف ويلومون شخصا كباسل في هذه الحالة؟
التفت باسل ثمّ نظر إلى سكارليت وابتهال، لكنّهما نظرتا إلى كارماين كما لو أنّهما تخبرانه أن يجيبه. لقد أتى إلى هنا عازما على الاعتذار بشكل رسميّ، لكنّه وجد نفسه في هذا الموقف.
نظر باسل إلى الثلاثة بتناوب. هل يمكن أنّهم يعلمون عمّا ينوي فعله؟ ألهذا سأل كارماين مثل ذلك السؤال؟
أحكم قبضتيه تحت الطاولة ثمّ نظر إلى كارماين وأجاب: "سأنهي بعض الأعمال هنا وأذهب لأبحث عنها."
"طبعا ستفعل. لو أخبرتني أنّك غير قادر أو أنّك لا تعتقد أنّها ما زالت حيّة أصلا، كنت عندئذ لأدقّ رأسك ليل نهار حتّى تستفيق من أحلامك."
ردّ كارماين بوجه حازم. يبدو أنّ هناك شخص آخر يعتقد أنّ دقّ الرؤوس يحلّ المشاكل.
تكلّمت سكارليت لأوّل مرّة: "نحن عائلة."
التفت باسل بسرعة بعدما تفوّهت بذلك، ثمّ حدّق إليها بينما تكمل كلامها: "أفراد العائلة يحزنون مع بعضهم بعضا عند فقدان القريب. لا يجب الاعتذار لأنّك كنت بعيدا وتبذل جهدك حتّى تصير أقوى من أجل هذا العالم، من أجل عائلتك. أتمنّى أن تكون فكرتي وصلت."
كان الجوّ المحيط بسكارليت مختلفا تماما عن الذي كانت تبعثه في العادة. لطالما كانت أميرة نشيطة وأمّا عطوفة وزوجة مخلصة، لكنّها اليوم كانت شيئا آخر. لقد كانت رزينة بعينين شاخصتين. اليوم، كانت إمبراطورة.
لاحظ باسل الفرق الذي تشكّله المسؤوليّة عندما توضع على كهل أحدهم. كان يمكن للشخص أن يتغيّر كلّيّا عندما يعلم أنّ هناك أرواح عديدة تحت رعايته. وبالطبع، كان يعرف ذلك حقّ المعرفة كشخص اختبر مسؤوليّة أكبر من تلك بكثير.
وقف باسل ثمّ انحنى قليلا وقال مغمض العينين: "شكرا لكم."
لقد كان يعلم عن الحزن والألم اللذين يشعرون به، فهو مثلهم، إلّا أنّهم قمعوا تلك المشاعر وتحمّلوا آلامهم حتّى يساندوه ويفتحوا أمامه الطريق الذي يريد أن يسلكه.
"حظّا موفّقا أيّتها الأميرة."
قال باسل ذلك ثمّ استدار محاولا المغادرة. لقد أتى إلى هنا من أجل وضع خاتمة، وليس للاحتفال بتتويج سكارليت.
حدّقت سكارليت إلى ظهر باسل ثمّ تذكّرت ذلك اليوم الذي التقته فيه.
***
(أنت لا تحتاجين لشكري أيتها الأميرة، كل ما فعلته كان من أجل نجاح خطتنا وصادف فقط أن كان الأمير الأول هو العقبة الأولى التي يجب علينا تجاوزها.)
(حتى ولو كان كذلك الأمر فهذا لا يغير حقيقة جلبك لشرفنا الذي سلب منا لمدة... لماذا ناديتني بالأميرة؟)
(ما الخطأ في مناداة أميرة بالأميرة، هل هذا غريب؟)
(لا، لكني لم أعد أميرة بعد الآن.)
(لكنّكِ سوف تعودين لكونك أميرة، لذا قررت مناداتك بذلك منذ الآن لأعتاد على الأمر، فالاسم الذي أنادي به أي شخص بالمرة الأولى غالبا ما سيكون هو ما أناديه به دائما.)
(فوفوفو، إنك حقا ممتع يا حليفنا.)
***
أومأت سكارليت رأسها بشكل خفيف للغاية وغير ملحوظ كما لو أنّها تخبر نفسها بأنّه فعلا ينادي الشخص بما يناديه لأوّل مرّة للأبد. حتّى في هذا اليوم الذي كانت مشرفة فيه على أن تغدو إمبراطورة، استمرّ باسل في مناداتها بالأميرة.
وقفت ثمّ انحنت أكثر ممّا فعل باسل سابقا وقالت بصوت واضح: "أثق أنّك ستجلب شرفنا من جديد كما سلف وفعلت."
لم يستدر باسل وأكمل طريقه فقط نحو خارج الغرفة. لقد كان عازما بالفعل. ومع ذلك، كان هناك مكان واحد فقط ما يزال عليه زيارته.
***
"سأغادر."
كانت تلك الكلمة الوحيدة التي قالها باسل لهذا الشخص أمامه.
حدّق الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ أمامه ثمّ نظر إلى الأسفل مرّة أخرى.
كانا يجلسان شبه متقابلين في القاعة الرئيسيّة للأكاديميّة. أخذ باسل أحد مقاعد القادة الثلاث وحدّق إلى الجنرال رعد الذي كان يائسا تماما.
قال الجنرال رعد بعد صمت طويل: "مـ-ما الذي تقصده؟ إلى أيـ-أين أنت ذاهب؟"
كان صوت الجنرال رعد مرتجفا. لقد كان على هذا الحال منذ ذلك اليوم المشؤوم.
لم يزح باسل نظره عن الجنرال رعد قطّ. ردّ بهدوء: "لا أعلم. أنا فقط سأبحث عن مخرج من هذا العالم."
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما: "هل تقول أنّك ستغادر عالمنا؟!"
"أجل."
رفع الجنرال رعد صوته: "لـ-لكن كيف؟ ألم تقل أنّ العوالم مختومة؟ أليس لهذا السبب لم تتوقّع ظهور أولئـ..."
لم يكمل الجنرال رعد جملته حتّى. لم يرد أن يتذكّر ذلك اليوم.
"لا أعلم. أنا فقط سأغادر مهما كلّفني الأمر. سأجد طريقة ما."
لاحظ الجنرال رعد وجه باسل العازم. لقد كان حقّا ينوي مغادرة هذا العالم.
لم يعط باسل الجنرال رعد وقتا للتفكير: "ولهذا، يجب أن تجمع شتات نفسك قبل أن أغادر."
"ها؟" استغرب الجنرال رعد من كلام باسل. يجمع شتات نفسه؟ ما الفائدة من ذلك؟ إنّه مجرّد زينة موضوعة في هذه الأكاديميّة أصلا، وكان ينوي التنازل عن مقعده عندما تستقرّ الأمور قليلا.
تساءل الجنرال رعد: "لا أظنّ أنّ هناك فائدة ترجى من جمع شتاتي. لماذا عليك المغادرة أصلا؟"
حملق باسل إلى الجنرال رعد بحاجب مرفوع كما لو أنّه يزدريه: "هل صرت غبيّا أيضا؟"
وقف باسل ثمّ اتّجه إلى جانب الجنرال رعد ووضع يده على كتف الرجل الأشقر ثمّ قال: "إذا واتتك الفرصة لإنقاذ أمّي مرّة أخرى، فماذا ستفعل؟"
اهتزّ جسد الجنرال رعد لمّا سمع كلام باسل. هل علم باسل عن مشاعره تجاه لطيفة؟
ضغط باسل على كتف الجنرال رعد: "أجبني، ماذا كنت لتفعل؟"
أحكم الجنرال رعد قبضتيه بشدّة وصرّ على أسنانه. بدأت الذكريات تلتهم عقله، لكنّ كلّ ذلك اختفى فجأة لمّا شعر بالألم يتخلّل جسده بسبب يد باسل التي واصلت الضغط.
هدأ أخيرا ثمّ قال: "لو واتتني الفرصة، سأفعل أيّ شيء من أجل إنقاذها، حتّى لو كنت أعلم أنّني سأكون بلا فائدة وأفشل لا محالة."
ارتخت قبضة باسل وأزال يده عن كتف الجنرال رعد ثمّ قال: "إذن لا داعٍ أن أشرح لك أنّني سأقلب العوالم كلّها رأسا على عقب من أجل إيجادها."
كان الجنرال رعد يائسا لدرجة مهولة حتّى أنّه يئس من فكرة بقاء أنمار على قيد الحياة.
بلع ريقه ثمّ نظر إلى باسل وقال: "حتّى لو عنى هذا التخلّي عن هذا العالم؟"
كان ذلك سؤالا مفاجئا، حتّى لباسل.
لم يعلم باسل كيف فكّر الجنرال رعد بهاته الطريقة، لكنّه تنهّد ثمّ ردّ: "ولهذا أخبرك أن تجمع شتات نفسك."
سأل الجنرال رعد سؤالا مختلفا: "وهل جمعت أنت شتاتك؟"
نظر باسل إلى عيني الجنرال رعد وردّ: "ماذا تخالني أفعل حاليّا؟"
لقد كان كلاهما محطّما. كان باسل يحاول إصلاح عالمه المنكسر، لذا يجب على الجنرال رعد جمع شتات نفسه أيضا. عليهما أن يتخطّيا الأمر.
لم تنتهِ أسئلة الجنرال رعد عند ذلك السؤال: "كيف تفعلها؟"
استدار باسل ثمّ نظر إلى الطاولة الكبيرة التي تقع في مركز القاعة الرئيسيّة لأكاديميّة الاتّحاد المباركة.
كان هناك شعار كبير مرسوم عليها.
كان هذا الشعار عبارة عن دائرة سوداء بوسطها نقطة بيضاء، وأحيطَت بأربعة عشر دائرة زرقاء اللون يصل حجم كلّ واحدة منها إلى عُشر حجم الدائرة السوداء، وارتبطت كلّ دائرة صغيرة بشبيهتها وبالدائرة الكبرى عبر شريط له نفس الزرقة. فبدا الشعار كالزهرة في النهاية.
تذكّر باسل ما رمز له هذا الشعار.
"سيزهر الأمل في أعماق الظلام دوما ما دام هناك وحدة."
رفع الجنرال رعد رأسه ثمّ نظر إلى باسل. تأمّل فيما قاله للتوّ وحاول فهم كلامه.
عندما سأله، قال باسل أنّه يجمع شتات نفسه، وليس أنّه قد جمع شتاته بالفعل.
عندما سأله كيف يفعلها، ردّ باسل بشعار الأكاديميّة.
الأمل الذي ينتج عن الاتّحاد.
لقد كان باسل يحاول شفاء نفسه بالبحث عن شخص آخر.
ومع ذلك...
"أنا لا أملك شخصا كالذي تملكه يا أيّها الفتى القرمزيّ. لا أملك ذلك الأمل الذي يمكنه أن يخرجني من أعماق الظلمات."
حدّق باسل إلى الجنرال رعد ثمّ قال: "فلتعش في الظلمات إذن. اقطنها وصر حاكما لها. لا تدعها تلتهمك وهيمن عليها. فلتجعلها ملكك."
أكمل باسل كلامه بعد صمت وجيز: "للأسف، لم تسنح لي الفرصة للسقوط في الظلمات بهذا الشكل."
"هل تخبرني أن أتخلّى عن الضوء؟ هل تنصحني بالعيش في الظلام للأبد؟"
نظر باسل إلى عينيْ الجنرال رعد وقال: "ذلك صحيح. اختر أن تعيش بتلك الطريقة، ولربّما يمكنك يوما التحرّر بعدما تسيطر تماما على تلك الظلمات، أو يمكنك الانكماش على نفسك كما تفعل الآن والاستمرار في فعل هذا للأبد داخل الظلمات آملا إيجاد ضوء ما، ضوء لا يمكن لأحد آخر أن يمنحه لك سوى نفسك."
عش في الظلمات وهيمن عليها، وعندها لربّما تجد وسيلة للتحرّر منها وإيجاد الضوء.
أحكم الجنرال رعد قبضتيه.
لا يمكنه أن يسمح لنفسه بالموت لأنّه يشعر بالذب الشديد ويريد التكفير عن أخطائه.
لا يريد أن يعيش لأنّه يعتقد أنّه بلا فائدة في هذه الحياة.
ما عليه إذن إلّا أن يتقبّل حاله هذا بسرور، ولربّما يوما ما يجد إجابة تصفّي ذهنه وعالمه.
***
عاد باسل للمقعد الذي كان يجلس عليه ثمّ قال: "لنتكلّم عن كيفيّة مسير الأمور من الآن فصاعدا."
ارتخت قبضتا الجنرال رعد أخيرا واستمع لكلام باسل القادم. لقد أراد أن يكون ذا نفع، وأراد أن يعلم عمّا ينوي الفتى القرمزيّ فعله قبل مغادرة هذا العالم كما قال.
"أوّلا وقبل كلّ شيء، مسقط رأسي، مدينة العصر الجديد، وأكاديميّة الاتّحاد المباركة، ووكر الوحش النائم، وأخيرا، نهر ددمم التنّين الذي يقسم سلاسل الجبال الحلزونيّة... يجب أن تعلم عن العلاقة التي تجمع هذه الأماكن ببعضها."
"علاقة؟ هل هناك علاقة خاصّة بين هذه الأماكن؟"
كان الجنرال رعد مستغربا. لقد علم عن تميّز كلّ واحد من هذه الأماكن، لكنّه لم يسمع عن أيّ علاقة تجمع كلّ مكان بالآخر. لم يفكّر في هذا حتّى.
"هذا صحيح. العلاقة التي تجمع هذه الأماكن الثلاثة ستكون إحدى الركائز التي سيُبنى عليها عالمنا كعالم روحيّ ينافس العوالم الأخرى بجدارة."
زاد الجنرال رعد من تركيزه بعدما سمع تصريح باسل الكبير. لقد كان هذا شيئا يهمّ هذا العالم بأسره. ومع ذلك، صار تعبيره بليدا بعدما سمع سؤال باسل التالي.
"هل تؤمن بوجود التنانين؟"
"ها؟"
لم يعلم الجنرال رعد كيف يجيب عن هذا السؤال الغريب الذي كان بعيدا عن الموضوع الذي كان باسل سيتكلّم عنه.
"هل تتحدّث عن التنانين التي نسمع عنها في الأساطير؟"
أومأ باسل رأسه ثمّ أجاب سؤال الرجل الأشقر الحائر: "نعم، التنانين التي نسمع عنها في الأساطير. التنانين التي تُعدّ عرقا فريدا مثل عرق العنقاوات."
زاد استغراب الجنرال رعد. لم يتوقّع أنّه سيدخل في محادثة مع الفتى القرمزيّ تدور حول أساطير كهذه.
ومع ذلك، ردّ بوضوح: "بصراحة، أعدّها مجرّد أسطورة. ليس لأنّني لم أرَ تنيّنا من قبل، بل لأنّه لا يوجد سبب لأؤمن بوجودها. ما يزال هناك تفسير لوجودي ووجودك ووجود العالم حتّى بدون وجود التنانين."
أومأ باسل رأسه. لقد كانت هذه إجابة جيّدة. لقد كانت هذه هي إجابته أيضا قبل أن يولد من جديد، لكن بعدما ولِد من جديد في ذلك اليوم وتتبّع الوريد الذي كان ينبض في أعماق العالم الواهن ببطء شديد وبلغ منبع الوريد الذي كان في نهر ددمم التنّين، تغيّرت نظرته إلى الأمور تماما.
اعتقد في تلك الأثناء: قد تكون هناك تنانين بالفعل. أوَ ليس هناك وحش نائم بجواره له نفس مرتبة تلك التنانين؟
وبعد لقائه بالوحش النائم، صارت تلك الشكوك يقينا.
لا بدّ من وجود التنانين. لو كان هناك مخلوق مصدره الأساطير والخرافات مثل الوحش النائم، فليس هناك مانع من وجود التنانين أيضا. بالأحرى، كان هذا مجرّد تأكيد لما رآه باسل في نهر ددمم التنّين ذلك اليوم.
تذكّر باسل اليوم الذي جعله فيه معلّمه يُخضع سلاسل الجبال الحلزونيّة برفقة أنمار. تذكّر الوحش الذي كان في قمّة السلسلة الغذائيّة هنا، وتذكّر كيف علّق المعلّم على ميزات ذلك الوحش.
كان باسل متأكّدا؛ لقد كان معلّمه متشكّكا في وجود علاقة قريبة للتنانين بذلك الوحش، ولو التقى المعلّم بالوحش النائم أو علم على الأقلّ بوجوده كما فعل باسل، لصار المعلّم متيقّنا من وجود التنانين تماما، هذا إن لم يكن إدريس الحكيم قد اختبر مسبقا في حياته شيئا يجعله يؤمن بوجود التنانين.
"التنانين موجودة، أو يمكن 'على الأقلّ' أنّها كانت موجودة في وقت معيّن."
صرّح باسل بذلك وانتظر استجابة الرجل الأشقر.
حدّق الجنرال رعد إلى عيني باسل لقليل من الوقت قبل أن يقول: "ما الذي يجعلك تقول هذا؟"
بدأ تفسير باسل: "لديّ اعتقاد مبنيّ على حقائق ودلائل واقعيّة أنّ هناك بقايا من نوع ما لتنّين ما تقبع في أعماقٍ تحتَ أعماقِ نهر ددمم التنّين."
بلع الجنرال رعد ريقه بينما أكمل باسل كلامه: "الدليل الأوّل، تمساح الأعماق الفولاذيّ الذي يرقد في أعماق نهر ددمم التنّين... اكتسب ذلك الوحش خواصّا تنّينيّة كما هو معروف عنها في الأساطير بالرغم من أنّه كان مجرّد وحش سحريّ. لا يكتسب الوحش السحريّ أيّ خواصّ لسلالة ددمم عتيقة إلّا بعد التأصّل، وهذا لا يحدث إلّا عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة وبعد ذلك."
بلع الجنرال رعد ريقه مرّة أخرى. وحش سحريّ بمواصفات تنّينيّة؟
لقد سمع بالفعل عن الكثير من الوحوش التي أسنِد إليها لقب التنين مثل الحرباء التنّينيّة الناقصة التي كانت تقطن أرخبيل البحر العميق، لكنّها كانت "ناقصة" كما أوضح اسمها ودلّ على أنّها سُمِّيت بالتنّينيّة لتميّزها وقوّتها فقط، وليس لأنّها كانت تحمل خواصّ ومواصفات التنانين حقّا.
أضاف باسل: "الدليل الثاني، هناك وريد يجب أن يكون الآن صار وريدا روحيّا مندمجا بالكامل مع طاقة العالم الواهن الروحيّة، ومنبعه هو نهر ددمم التنّين وينشطر نحو ثلاث مواقع."
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما. وقف بسرعة كبيرة بعدما وضع يديه على الطاولة: "انتظر! انتظر، انتظر... لا تقل لي... هل تلك المواقع الثلاث هي..."
أومأ باسل رأسه من جديد بهدوء وقال: "ذلك صحيح. مدينة العصر الجديد، وأكاديميّة الاتّحاد المباركة، ووكر الوحش النائم. هذه هي المواقع الثلاثة التي تنتهى فيها الأوردة الثلاثة التي تنبع من المصدر في الأعماق تحت نهر ددمم نهر التنّين."
وضع الجنرال رعد يده على جبهته التي تعرّقت بشدّة على حين غرّة. اقشعرّ جسده ثمّ فشل جسده وعاد لمكانه ليجلس.
فكّر في هذه المعلومات لوقت طويل، فطرأ في باله سؤال لم يتأخّر في طرحه: "انتظر، أليست الأكاديميّة تطفو حاليّا؟ لم يرَ أيّ أحد أيّ وريد طاقة سحريّة أو روحيّة حتّى الآن. هل يمكن أنّه فُصِل عن الأكاديميّة بعد التحوّل الروحيّ؟ انتظر... لن تشمل الأكاديميّة في حديثك لو حدث شيء كهذا... إذن..."
كان الجنرال رعد يتكلّم بسرعة. كان يقول كلّ ما كان يجول بخاطره؛ يسأل فيجيب في دورة لانهائيّة، حتّى تكلّم باسل ومنحه الإجابة.
"ذاك هو دليلي الثالث. بعدما تحوّل العالم الروحيّ، صارت الأرض المباركة وما يحيطها جزيرة عملاقة عائمة في السماء، ومع ذلك، ما زال الوريد التنّينيّ متّصلا بها."
"كيـ-"
لم يكمل الجنرال رعد سؤاله. لقد كان يعلم أنّ باسل سيجيب، إلّا أنّ محاولة سؤاله كانت مجرّد ردّة فعل طبيعيّة.
"كيف يبقى الوريد التنّينيّ متّصلا هو دليلي؛ الزمكان. إنّه يخترق الزمكان ويتّصل مباشرة ببحيرة الأرض المباركة."
"الزمكان؟!"
أراد الجنرال رعد أن يبلع ريقه بدون وعي منه، لكنّ حلقه كان ناشفا بالفعل. وريد روحيّ يمكنه اختراق الزمكان حتّى. هذا لوحده كافٍ لإثبات مدى عظمته وندرته. لقد كان هذا شيئا يجب على عالمهم معاملته بحرص شديد واستغلاله بكلّ إتقان.
فهم الجنرال رعد كلام باسل أخيرا عندما قال أنّه يجب منح الأولويّة لهاته المواقع عند حلول كارثة ما.
فكّر بعد ذلك لوقت وجيز فقط ليدرك أنّ أيّ كارثة يمكنها التأثير على الوريد التنّينيّ كانت كارثة يمكنها التأثير على العالم بأسره. فهم أنّ باسل كان يقصد أن تُمنح الأولويّة لهذه المواقع عند حلول كارثة يمكنها تدمير العالم بأسره.
لقد كان هذا الوريد التنّينيّ، لا، كانت هذه الأوردة التنّينيّة الثلاثة التي كان مصدرها نهر ددمم التنين إحدى الركائز التي يمكنها دعم العالم الواهن كما قال باسل. يمكن لأشياء أن تُهدم وتُبنى من جديد طالما يظلّ الأساس صامدا، ولكن لو تدمّر الأساس، فكلّ شيء آخر سينهار بسرعة وسهولة.
تذكّر الجنرال رعد أنّ باسل لم يقل أنّ هذا هو دليله الأخير، فانتظر الفتَى القرمزيَّ ليكمل كلامه.
كان باسل يفكّر في هذه الأثناء في الوحش النائم الذي لم يعلم حتّى الآن إذا ما كان أنثى أو ذكرا. لقد كان الوحش النائم هو دليل باسل الرابع والأخير والأكثر موثوقيّة.
لقد علم عن وجود الوحش النائم لمّا اختلس النظر على ذكريات السارق الخسّيس قسرا، لكن كلّ ما رآه في تلك الذكريات هو مخلوق فريد له جمال لا يضاهى وبضوء ساطع يتباهى يحلّق عبر السماوات هاربا من شيء ما باستماتة. علم لاحقا أنّ ذلك المخلوق السامي كان هاربا من السارق الخسّيس.
كانت الذكريات التي رآها باسل مجرّد شظايا بسيطة لأحداث مختلفة بأزمنة متنوّعة. فبعدما رأى هذا الحدث، شاهد الصناديد ينقضّون على السارق الخسيس بأمل خاب بعد مواجهة قوّة السارق الخسّيس المطلقة.
علم بعد ذلك عن خطة السارق الخسّيس التي نتج عنها اختياره للعالم الواهن بعدما علم أنّ الوحش النائم الذي هرب منه فيما سبق يقبع هناك.
علم باسل أيضا عمّا يحاول الوحش النائم فعله بسبب هذا، ولهذا علم أيضا عن سرّ قبائل الوحش النائم وأخبر لمياء به عندما ذهب إلى هناك بعدما وُلِد من جديد.
كانت تلك الرحلة إلى هناك هي دليل باسل الرابع والأخير، لكنّه لم يكن ليسمح لنفسه أبدا بقول أيّ شيء يتعلّق بالوحش النائم. لقد كان وجود الوحش النائم بحد ذاته مخفيّا ولا يجب أن يعلم عنه أحد.
لقد ائتمن الوحش النائم رماده على باسل، وجعله وريثه الشرعيّ بمنحه قدرات فريدة كان يعلم باسل أنّها قدرات لا يمكن للوحش النائم منحها سوى لشخص واحد فقط في كلّ الأزمان؛ لقد أقسم ألّا يفشي سرّ الوحش النائم أبدا، ولهذا، لم يخبر حتّى أنمار عن هذا.
قال باسل: "ودليلي الرابع والأخير هو..." حدّق إلى عينيْ الرجل الأشقر ثمّ قال بثقة: "دليلي الأخير هو أنا."
كان باسل يشير إلى نفسه بسبّابة يده اليمنى: "أنا من يقول هذا الكلام، وهذا خير دليل، أليس كذلك؟"
قبُح وجه الرجل الأشقر لمّا سمع هذا الكلام ثمّ تنهّد وهزّ رأسه. هذا الفتى القرمزيّ... إنّه يستمرّ في غروره هذا حتّى في هذه الأثناء. تنهّد فقط وتقبّل الأمر في نهاية المطاف.
أكمل باسل كلامه بعدما رأى استجابة الجنرال رعد المقتنعة: "كما تعلم، صارت القارّات أقرب إلى بعضها بكثير عمّا كانت عليه. الآن اقتربت القارّات وأرخبيل البحر العميق من بعضهم بعضا بكثير. ومع ذلك، كبر العالم بكثير عند التحوّل الروحيّ."
سأل باسل: "هل تعلم ماذا يمكن أن يعني هذا؟"
انتظر الجنرال رعد إجابة باسل فقط. لم يستطع أن يتخيّل ماذا يمكن أن يصير.
لم يتأخّر باسل في إجابة السؤال الذي طرحه بنفسه: "ظهرت وستظهر أراضٍ جديدة ولربّما قارّة أخرى حتّى. التحوّل الروحيّ لعالم سحريّ يؤثّر بالزمكان بحدّ ذاته فيجعل من العالم أضخم بشكل هائل عمّا كان عليه، لكن هذا لا يحدث بين ليلة وضحاها. ما زال العالم سيمرّ بعدّة مراحل تصاحبها كوارث طبيعيّة كنتيجة حتّى يبلغ ذروته."
أكمل باسل بدون توقفّ: "كلّ هذا يعني شيئا واحدا. ستظهر ممالك أخرى على مرّ الزمن، ولا يمكن لأيّ أحد أن يمنع هذا. ستكون هناك حروب عديدة من أجل امتلاك الأراضي الجديدة، لكن ستستقرّ الأمور بعدما تنبثق ممالك وإمبراطوريّات جديدة."
"ولهذا، يجب على أكاديميّة الاتّحاد المباركة أن تبقى محايدة تماما. لا أريد من الأكاديميّة أن تأخذ جانب الإمبراطوريّات الثلاث عند حصول هذا. لقد أنشِئت الأكاديميّة من أجل توحيد قوى العالم، لمواجهة أخطار العالم، وحماية العالم، وليس لسيادة العالم ولا لاستخدام قوّتها لمساعدة إحدى المنظّمات على حساب منظمّة أخرى."
أومأ الجنرال رعد رأسه وردّ: "أفهم وجهة نظرك. بمعنى آخر، يجب أن تبقى الأكاديميّة محايدة حتّى يتسنّى لها الحصول على المواهب التي ستنمو في الممالك والإمبراطوريّات الجديدة أيضا. هذا لن يحصل إلّا بعد مرور زمن طويل جدّا، لكنّه يبقى أفضل من اتّباع الجشع واحتكار الموارد الجديدة."
أومأ باسل رأسه: "نعم، أريد لعالمنا أن يكون عالما مليئا بالمنافسين. المنافسة بين القوى ستجعل من العالم ينمو بوتيرة أسرع بكثير، وأريد من الأكاديميّة أن تكون بمركز كلّ هذا. ستتسابق الممالك والإمبراطوريّات في المستقبل البعيد من أجل تدريس شبابها في الأكاديميّة، فتنتفع الأكاديميّة بسبب قوانينها التي تسمح لها باستغلال تلك المواهب في المواقف الحرجة. يمكن القول أنّه سيمكن للأكاديميّة إجبارهم على القتال بجانبها عند حلول كارثة في العالم. ستكون الأكاديميّة دوما المنظمّة التي ستجعل العالم يواجه الخطر بشكل موحّد."
أومأ الجنرال رعد رأسه مرار وتكرارا. لقد كان هذا الفتى القرمزيّ يفكّر لمستقبل بعيد جدّا. قد تمرّ عقود أو حتّى قرون قبل أن يحصل كلّ هذا.
لم يعلم أحد عن المدّة التي يمكن أن يصمدها الختم بين العوالم، لكنّ باسل قدّر أنّ الأمر سيستغرق أكثر من عقدين على الأقلّ للنجاح في كسر الختم.
"هذا بالنسبة للأكاديميّة، أمّا بالنسبة للمنطقة الثانية، مدينة العصر الجديد، فإنّي أنوي ترك التشكيل الذي درّبتُه هناك. لقد تكلّمت مع الأميرة في هذا الأمر مسبقا وليس هناك مانع."
لقد كانت مدينة العصر الجديد جزءا من إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، لذا لن يكون هناك مانع من وضع أقوى الجيوش هناك طالما تظل فرقة السنبلة الخضراء التي قادها الجنرال رعد ذات مرّة في العاصمة.
لم يسأل الجنرال رعد عن هويّة الأميرة لأنّه علم أنّ باسل يتحدّث عن الإمبراطور سكارليت كريمزون. ما جعله مستغربا كان شيئا آخر: "من سيقودهم؟"
فهم باسل تساؤله. لقد اختفى قادة التشكيل من هذا العالم، لذا يجب أن يُحدّد قادة آخرون.
ردّ باسل بسرعة: "لا تقلق، لقد قرّرت بالفعل. الحارس جون الذي يحرس مدينة العصر الجديد سيكون قائد القادة، أمّا القادة الأربع الآخرون فسيكونون 'صيّاد قطّاع الطرق كيكان'، و'ساحت الرؤوس كوبيكيري'، و'سولو الساحر الوحيد'، وأخيرا 'أبهم'."
وضع الجنرال رعد يده على ذقنه بينما يفكّر.
فسّر باسل له: "لقد أخذت الحارس جون تحت جناحي منذ وقت طويل للغاية، وقوّته وموهبته جيّدة حتّى لو كانت لا تصل لمرتبة تورتش والآخرين. لديه موهبة في القيادة لذا سيكون مناسبا للمنصب الذي سيُمنح له. كيكان وكوبيكيري وسولو نافسوا قادة التشكيل لوقت طويل وبالرغم من أنّهم لم يفوزوا ولو لمرّة واحدة، إلّا أنّهم كانوا يلاحقونهم باستمرار، وأقرّ كلّ واحد في التشكيل بجهودهم. رغب الكثيرون في أن يكون أولئك الثلاثة نوّاب القادة، إلّا أنّ هؤلاء الثلاثة رفضوا العرض."
"أمّا أبهم، فلا أظنّ أنّني أحتاج لتفسير الكثير عنه. إنّ موهبته جيّدة للغاية، حتّى أنّني قارنتها في أوّل مرّة بموهبتي وموهبة أنمار."
بالطبع كان باسل يقصد موهبته في السحر فقط.
"لقد عاش في وكر الوحش النائم لمدّة طويلة، ونمّى قدراته بشكل مهول. إنّك تعلم كيف هي قوّة القبائل، لذا يجب أن تعلم عن قوّة أبهم الذي صار يقارن بزعماء العشائر الرئيسيّة حاليّا."
فكّر الجنرال رعد في قوّة القبائل.
عندما مرّ العالم الواهن بالتحوّل الروحيّ، لم يتعرّض وكر الوحش النائم للكثير من الاضطرابات بسبب الكوارث الطبيعيّة، وحتّى عندما انتهى التحوّل الروحيّ، أحاطت منطقة القبائل حواجز روحيّة غريبة لها آثار الوهم والتلاعب بالعقل، فلم يستطع أحد الاقتراب من الوكر وقبائله قطّ عند حلول تلك الكارثة حول العالم بأكمله.
كان الأمر كما لو أنّ خّط الجون الذي خطّته القبائل ذات مرّة لتفصل بينها وبين بقيّة العالم صار حقيقيّا وعزل الوكر تماما.
كان باسل يعلم عن سبب هذا في الواقع. لقد كان السبب ببساطة هو 'حياة'.
لقد كان يعلم باسل عن عظمة هذه الشجرة التي غرسها الوحش النائم أملًا في أن تغدو شجرة عالم يوما ما.
وبعدما صار العالم الواهن عالما روحيّا، حمت 'حياة' منطقتها بهذه الطريقة، تماما كما تفعل شجرة العالم في الأساطير.
زاد هذا الخبر من احترام الكثيرين للقبائل، وأقرّوا بقوّة الوحوش النائمة.
قال باسل كما لو كان فخورا: "سيقوم هؤلاء الخمسة بعمل جيّد بعدما يُرشدون لمدّة من الوقت."
تساءل الجنرال رعد حول شيء ما فجأة: "بالمناسبة، ألن تمنح اسما للتشكيل؟ ألا ترى أنّه من الغريب مناداته بالتشكيل فقط؟ هناك من يلقّبه بتشكيل بطل البحر القرمزيّ، وهناك من يقول عنه تشكيل القائد الأعلى، أو تشكيل الطفل المعجزة وما إلى ذلك... لكنّك دوما تقول عنه 'التشكيل' فقط."
لوّح باسل بيده: "سأفكّر في ذلك لاحقا."
بالطبع فكّر باسل في هذا، لكنّه كان يؤجّل الأمر في كلّ مرّة.
أكمل باسل كلامه: "وأخيرا، المنطقة الثالثة، والتي هي الوكر الذي تحدثّنا عنه للتوّ. ليس هناك ما يقال عن الوكر لأنّني فعلت ما يجب فعله عندما ذهبت هناك آخر مرّة. كلّ ما يجب إضافته هو استقبال عدد كبير للغاية من الوحوش النائمة في الأكاديميّة."
أومأ الجنرال رعد رأسه وتابع كلامه مع باسل. لقد كان باسل يحاول تهيئة كلّ شيء قبل أن يغادر هذا العالم، وكان استغلال الأوردة التنّينيّة على رأس كلّ هذا.
وقف باسل عند البحيرة المباركة في تلك الليلة، ثمّ حدّق بعينيه الحكيمتين إلى أعماقها. استغرق وقتا طويلا في ذلك قبل أن يغطس فيها فجأة.
كان يبحث عن ذلك الوريد الذي شقّ طريقه عبر الزمكان.
وبعد أيّام قليلة، غادر باسل الأكاديميّة.
***
كان باسل قد أنهى في الأكاديميّة الاستعدادت اللازمة للوريد التنّينيّ الذي ينتهي عند البحيرة المباركة. كان قد فعل مثل هذا الأمر بالفعل في مدينة العصر الجديد قبل أن يغادرها، وكلّ ما تبقّى هو الوكر ونهر ددمم التنّين.
كان ينوي الذهاب إلى الوكر أوّلا بالرغم من أنّ نهر ددمم التنّين كان في طريقه حتّى يعمل على الوريد التنّينيّ الثالث قبل أن يعمل على مصدر كلّ الأوردة في أعماق النهر، وأيضا من أجل أن يفعل شيئا آخر في نفس الوقت بقمّة 'حياة' إذْ كانت مناسبة لذلك.
كان يجب عليه أن يفعل هذا الشيء الآخر قبل أن يذهب نهر ددمم التنّين ويواجه ذلك الوحش المرعب الذي سيكون اخترق إلى المستويات الروحيّة وتأصّل بشكل مرعب أكثر من الوايفرن بكثير.
كان الشيء الآخر الذي يجب عليه فعله هناك هو...
"يجب أن أنهي اختراقي للمستويات الروحيّة."
نعم، كان باسل حالة خاصّة وفريدة عبر الأزمان. بالرغم من أنّه صار ساحرا روحيّا إلّا أنّه ما زال لم ينهي بناء روحه، أو في حالته، روحه الثانيّة.
كان يجب على الساحر الاستحواذ على روح وحش سحريّ، لكنّ باسل جعل روح الوحش الروحيّ تعمل كواسطة بين روحيْه غير المستقرّتين.
كان يجب أيضا على الساحر الروحيّ أن يستخدم 'تقنيّة تكامل تأصليّ' حتّى يستحوذ على تماما على روح الوحش ويدمجها مع روحه.
لم يقم باسل بهذه الأمور بهذا الترتيب لسببين؛ السبب الأوّل كان هو ضيق الوقت الذي لم يسمح له بفعل كلّ شيء بروية. كان عليه أن يجعل روح الوحش -الذي اكتسب الحكمة للتلاعب بقوانين العالم- تجعل روحيْه مستقرّتين قبل أن تدمّرا بعضهما. والسبب الثاني كان عدم وجود تقنيّة تكامل تأصليّ مناسبة له إطلاقا في العوالم بأكملها.
"عليّ أوّلا أن أجعل من روحي الثانيّة روحا كاملة."
لقد كان كلّ ساحر روحيّ يملك روحا، لكن ماذا امتلكت هذه الروح؟ ماذا كانت مواصفاتها؟
أوّلا وقبل كلّ شيء، وحتّى عندما تكون الروح مجرّد بحر روحيّ، يملك كلُّ ساحر عنصرا سحريّا.
"ليس عليّ أن أمرّ بمراحل حالة 'الصفاء الذهنيّ والروحيّ' كما فعلت عندما أردت أصير ساحرا حتّى أتحصّل على العنصر السحري."
كان كلّ ساحر يملك عنصرين سحريّين بعد قسم مستويات الربط الثاني. إذن ماذا عن روح باسل الثانيّة التي كانت بلا أيّ عنصر حتّى الآن؟
اعتقد باسل في البداية أنّ تلك الروح الثانيّة ستكتسب نفس العناصر التي امتلكها في روحه الأولى، لكنّ الروحين كانتا مختلفتين تماما ولم يمكن أن تمتلكا نفس الخواصّ.
يمكن تشبيه الأمر بروحيْ ساحرين مختلفين. كانت الروح شيئا مميّزا للغاية، وكان من المستحيل أن تكون هناك روحان متطابقتان.
"يمكنني أن أكتسب عنصرين سحريّين مباشرة لأجعل روحي الثانيّة كاملة حقّا."
كان يمكنه أن يكتسب عنصرين آخرين!
"وهذه المرّة، على عكس أيّ ساحر عادي، يمكنني أن أقوم بعدّة تجارب على كلّ أنواع عناصر السحر في العالم الواهن، وأختار ذينك العنصرين بنفسي. هذا أمر يستحقّ التجربة، واحتماليّة نجاحه كبيرة عندما أضيف الحكمة السياديّة إلى المعادلة."
عنصران سحريّان باختياره!
تذكّر باسل الشابَّ ذا الوجه الطفوليّ عندما فكّر في القيام بالتجارب، ثمّ تمتم لنفسه: "لو كان ذلك العالم المجنون هنا لاستطعت التقدّم في هذا بشكل أسهل بكثير."
كان باسل محقّا أكثر مما اعتقد في الواقع. لم يعلم باسل عن هذا، لكنّ العالم المجنون كان يقوم بالعديد من التجارب المختلفة، وإحداها هو الكيفيّة التي يكتسب بها الساحر عنصره السحريّ، والأشياء التي تحدّد أيّ عنصر يكتسب.
حتّى بدون علم أيّ أحد، ظهر العالم المجنون بعد الحرب الشاملة وأخذ معه جثّة هدّام الضروس لدراستها من أجل إشباع فضوله. أراد أن يعلم لمَ اكتسب هدّام الضروس بالخصوص عنصر الدمار.
تنهّد باسل ثمّ قال: "آمل فقط أنّه يقوم بعمل جيّد في حماية صفاء."
لم يسع باسل سوى أن يتحسّر على حياة الفتاة البائسة. لقد تعذّبت في عمر صغير للغاية، وعندما قابلت عائلتها أخيرا، فقدتها بتلك الشناعة وتلك السرعة.
أحكم قبضتيه كلّما فكّر في ما كان على الأشخاص القريبين منه أن يعانوا منه في غيابه.
"لننهِ هذا الأمر أوّلا ونفكّر في طريقة للبحث عنهم بعد ذلك."
ساحر روحيّ بروحين وخمس عناصر سحريّة!
ببطء، ولكن بثبات، كان يولد وحش لا مثيل له عبر كلّ الأزمان.
***
انحنى خمسة أشخاص أمام باسل في غرفة مظلمة.
كان باسل حاليا في الغرفة السرّيّة التي يعقد فيها زعماء قبائل وكر الوحش النائم اجتماعاتهم التي تقرّر مستقبل القبائل.
هذه المرّة، كان هناك شخص آخر غير الزعماء في هذه الغرفة. كان هذا الشخص هو أبهم.
تكلّمت لمياء رأس القبائل كلّها: "تعازينا الخالصة لك يا سيّدي. أرجوك اعذر غيابنا عن الجنازة. يمكنك أن تعاقبنا إن ارتأيت أنّنا لا نستحقّ سماحك وعطفك."
تعرّقت أجبنة الخمسة بعد سماع كلام لمياء. لقد كانت طريقتها في خطاب باسل في قمّة الاحترام؛ كيف لا وهو الوريث الشرعيّ الذي اختاره أبوهم الروحيّ بنفسه؟ كيف لا وهو الشخص الأوّل الذي تسلّق شجرتهم التي يبجّلونها وكشف الغطاء عن اسمها الذي جعلها كاملة؟
لقد كان باسل يمثّل حاليا رغبة الوحش النائم، لذا صار يتلقّى معاملة أفضل بكثير من زعماء القبائل حتّى.
كان هذا هو السبب الوحيد الذي خوّل أبهم القدرة على أن يكون في مثل هذا المكان الخاصّ.
قبل أن يغادر باسل، جعل أبهم ممثّلا له في القبائل، فصار أبهم قادرا على حضور الاجتماعات التي تقام في هذه الغرفة السرّيّة.
نظر باسل إلى الخمسة ثمّ تنهّد. لمَ عليهم ان يعتذروا له بهذه الطريقة؟ هل يعتقدون أنّه نوع من الطغاة أو ما شابه؟ بالطبع كان يعلم أنّ الظروف لم تسمح بدخول أو خروج أيّ أحد من الوكر لبضعة أيّام بعد انتهاء التحوّل الروحيّ للعالم.
"ارفعوا رؤوسكم. إنّني أعلم عمّا فعلته 'حياة'. اعتذاركم وانتظار العقاب بهذه الطريقة يُعدّ إهانة لي. أنتم تقلّلون من شأني وإدراكي للأمور فقط."
اهتزّ جسد لمياء والآخرين لمّا سمعوا ما قاله. لقد أرادوا أن يكونوا أطفالا جيّ*** حتّى لا تُطرق رؤوسهم كالمرّة السابقة، لكنّهم زادوا الطين بلّة على ما يبدو.
"نحن آسفون. أرجوك سامحنا. نحن لم ننوِ فعل هذا."
انحنى الخمسة أكثر من ذلك أكثر حتّى شكّلوا زاوية قائمة.
"لقد أخبرتكم ان ترفعوا رؤوسكم،" عبس باسل فحكّ قبضته ونفخ عليها ثمّ قال: "لكن يبدو أنّكم متشوّقون كثيرا لدقّ الرؤوس حتّى أنّكم تقدّمونها لي على طبق من ذهب."
تصاعدت القشعريرة مع ظهور الخمسة حتّى استقامت تلك الظهور تماما. امتدّت أذرعهم أيضا نحو الأسفل ووقفوا هناك شاخصين.
أومأ باسل رأسه بعد ذلك ثمّ تجاوزهم ليجلس على الكرسيّ الذي كان يتفرّد على جهة من الطاولة بينما تقابله خمسة كراسي. لقد كان واضحا أنّهم وضعوا مكانة باسل في الاعتبار.
بالطبع كان باسل يقدّر هذه المكانة للغاية. لقد احترم باسل الوحش النائم بعدما علم عنه من ذكريات السارق الخسّيس، وزاد ذلك الاحترام بدرجات عديدة عندما رأى ذكريات الوحش النائم أثناء الحصول على تلك القدرات الفريدة منه، ولهذا اعتزّ بهذه المكانة وتصرّف بناء عليها.
أذن باسل للآخرين بالجلوس، ثمّ دخل في الموضوع مباشرة: "سوف أتسلّق إلى قمّة حياة."
تفاجأ الخمسة كثيرا. لقد كانوا يعلمون أنّ باسل قد فعل هذا الأمر بالفعل، لكنّ حدوثه مرّة أخرى ما زال أمرا مبهرا.
لا أحد غيره استطاع فعل مثل هذا الأمر حتّى الآن.
"لقد ارتأيتُ أنّه سيكون من الأفضل أن يلحقني أولئك الذي تظنّونهم سيدخلون إلى المستويات الروحيّة أوّلا. سأجعل من تسلّقي درسا لهم. لا يمكنني تعليمهم أيّ شيء بشكل مباشر، لأنّ تسلّق حياة ليس بشيء يُعلّم، لكن ربّما يمكنهم اكتساب فهم أعمق على الأقلّ."
تحمّس الزعماء، وحتّى أبهم الذي نسي أنّه ليس وحشا نائما في الواقع.
لقد وضع باسل ثلاثة شروط حتّى يكتسب أيّ عضو من القبائل الوصفة وطريقة التدريب والتقنيات الخفيّة من أجل إيقاظ وحشه النائم.
كانت تلك الشروط هي القيام بعهد ذهنيّ روحيّ ينصّ على عدم إفشاء هذه الأسرار أبدا لأيّ كان، وبلوغ المستويات الروحيّة، واجتياز اختبار 'حياة' الذي يختلف حسب الشخص بذاته.
تناسى الخمسة حماسهم بعدما لاحظوا أنّ باسل عبس فجأة بعدما قال ما قال. تكلّمت لمياء نيابة عن الآخرين. لقد كانوا كلّهم يريدون السؤال عن نفس الشيء: "هل هناك خطب ما بحياة؟"
لاحظ باسل أنّه استغرق في أفكاره، فلوّح بيده وردّ: "لم تكن 'حياة' من قبل أفضل حالا ممّا هي عليه الآن. لا تقلقوا، لقد كنت أفكّر في شيء آخر."
لقد كان باسل يفكّر تنقيّة التكامل التأصّليّ التي يجب عليه أن يخترعها. لقد كان يفكّر في الوقت الذي سيحتاجه قبل أن ينجح في ذلك.
لربّما كانت روحيْه مستقرّتين حاليا، لكنّ ذلك الاستقرار للأبد طالما تبقيان الروحان متفاوتين بذلك الشكل. كان يجب عليه أن يسرع قبل أن تسوء الأمور.
ظنّ في السابق أنّ روحيه ستسقرّان للأبد لأنّه ظنّ أنّ الروح الثانيّة ستكتسب خواصّ الروح الأولى.
كان يفكّر أيضا في العنصرين اللذين يجب عليه اختيارهما. لقد كان هذا هو الشيء الأهمّ حاليا بالنسبة له.
نظر باسل بعد ذلك إلى أبهم ثمّ قال: "على كلّ، سيغادر أبهم معي بعدما أنتهى من عملي هنا."
اهتزّ جسد لمياء قليلا بعد سماع كلام باسل. لقد كان واضحا أنّها تأثّرت بقراره هذا بالرغم من أنّها حاولت بكلّ جهدها إخفاء الأمر.
لقد أظهر أبهم حبّه لها منذ قدومه إلى هنا، لكنّها جهلت ذلك لمدّة طويلة، حتّى أنّها أخطأت في حقّه عندما أخبرها باسل عن سرّ القبائل وظنّت أنّ أبهم تجسّس عليهم بطريقة ما ونسيت أنّ ذلك كان غير ممكن أصلا.
اعتذرت لاحقا عمّا بدر منها، وصارت تثير الانتباه أكثر لأبهم حتّى تعلّقت به بعدما رأت جهوده المثيرة للإعجاب التي خوّلته أن يصير في رتبة الزعماء من حيث القوّة والمكانة في هذه الفترة الوجيزة. وفوق ذلك، كانت لمياء ضعيفة تجاه الحب الذي كان أبهم يعطيه لها كلّما وجد الفرصة.
راقب باسل أبهم لقليل من الوقت ثم صرّح: "يبدو أنّك بلغت درجة مقبولة في تدرّبك على التقنيّة السرّيّة التي منحتها لك."
وقف أبهم ثمّ انحنى قليلا.
عندما وُلِد باسل من جديد وأتى إلى الوكر، وجد أبهم قد صار ضخما ومفتول العضلات لدرجة كبيرة، حتّى أنّ طوله ازداد بكثير عمّا كان عليه، إلّا أنّه كان الآن بعضلات بحجم طبيعيّ وطول أقلّ بقليل عمّا كان عليه، كما لو أنّه انكمش أو صغُر.
"كلّ هذا بفضلك يا سيّدي."
لقد كان أبهم ممتنّا للغاية لباسل. كيف بلغ هذه المكانة التي هو فيها الآن؟ كيف صار قويّا لينافس الزعماء بهذه السرعة؟
لقد كان كلّ هذا بسبب التدريبات القاسيّة التي فرضها عليه باسل والتقنيّة السرّيّة التي منحها له. لقد كان أبهم أخا لـشي يو، ولطالما اهتمّ باسل بأتباعه وعائلاتهم.
كان باسل متردّدا في البداية، لكنّه لاحظ المجهود الذي كان أبهم يبذله كلّ يوم، حتّى صار جسده بذلك الشكل، فقرّر أن يمنحه شيئا استخدمه إدريس الحكيم بنفسه حتّى يقوّي جسده.
نعم، كانت هذه التنقيّة السرّيّة شيئا تدرّب عليه إدريس الحكيم جنبا إلى جنب مع تقنيّات أخرى من أجل أن يجعل جسده العادي قويّا كفاية ليكون حاوية ووعاء مناسبا وجديرا بثلاثة فنون قتاليّة في نفس الوقت.
حتّى إبلاس تساءل مرارا عن الكيفيّة التي استخدمها إدريس الحكيم في تقويّة جسده.
بالطبع كان باسل ينوي فعل نفس الشيء بعد ولادته الجديدة، إلّا أنّه اكتسب جسدا أفضل بكثير بعد لقائه بالوحش النائم، فلم يعد يحتاج لذلك، ولم يعد ممكنا له التدرب على تلك التقنيّات التي تعارض بنية جسده الجديدة. كان هذا سبب آخر في قراره بتمرير إحدى تلك التقنيّات السرّيّة لأبهم.
كان اسم تلك التقنيّة السرّيّة هو 'تأصيل الجسد الوحشيّ'.
وكما قيل، لقد كانت تقنيّة سرّيّة للغاية، لذا جعل باسل أبهم يقوم بعهد ذهنيّ روحيّ قبل أن يسلّمها له.
وكما دلّ اسمها، لقد كانت تقنيّة مبنيّة على المبدأ الذي تتقدّم به الوحوش في المستويات الروحيّة الثلاثة الأولى.
تأصيل الدم – تأصيل اللحم – تأصيل العظم.
بعدما لاحظ باسل أنّ أبهم قد بلغ درجة متقدّمة من مرحلة تأصيل الدم، قرّر شيئا آخر في هذه اللحظة: "سأمنحك تقنيّة أخرى قبل أن نتفارق."
اهتزّ جسد أبهم. لقد كانت تلك التقنيّة الأولى لوحدها مرعبة كفاية؛ جعلت جسده قويّا مثل أجساد زعماء الوحوش النائمة وهو ما زال في المرحلة الأولى فقط، فما بالك عندما يتقن التنقيّة تماما بجميع مراحلها؟
والآن، يقول باسل أنّه سيمنحه تقنيّة أخرى؟
كان الشوق والخوف يجعلان جسده يرتجف بالتفكير في المستقبل الذي ينتظره.
انحنى أبهم أكثر ثمّ قال: "شكرا لك كثيرا يا سيّدي. لن أنسى فضلك هذا ما حييت. أعدك أنّني لن أخيب ظنّك بي."
أومأ باسل رأسه، فجلس أبهم في مكانه.
التفت باسل إلى لمياء ثمّ قال: "آسف يا لمياء، لكنّ أبهم يجب أن يذهب إلى مدينة العصر الجديد. لحسن الحظّ، المسافة بين المكانين ليست بعيدة، لذا يمكنكما اللقاء متى شئتما."
احمرّ وجه لمياء الأسمر واهتزّت حدقتاها بينما تتململ في مكانها: "ما الذي تقوله يا سيّدي؟ نحن لسنا..."
التفت لمياء فوجدت أبهم ينظر إليها بعينين كعيني الجرو، فتوقّفت عن كلامها ونظرت إلى الأسفل فقط بعدما احمرّ وجهها أكثر.
تنهّد باسل بعد ملاحظة هذا الأمر وقال: "حسنا، ستتبعونني أنتم الزعماء، والذين تعتقدون أنّهم أفضل المواهب في القبائل. لا أريد إضاعة الوقت أكثر."
وقف باسل، فوقف الخمسة وانحنوا له قبل أن يبدأ باسل بالتحرّك نحو مخرج الغرفة المظلمة.
***
لقد كان في العالم الواهن، كأيّ عالم، أربعة عشر عنصر سحريّ رئيسيّ، وبضعة عناصر سحريّة أخرى تُعدّ عناصر ثانويّة أو فرعيّة للعناصر الأساسيّة.
التعزيز – النار- الماء (الجليد والثلج) – الريّاح – الأرض – السحاب – البرق – الضوء – الظلام – الوهم (العقل) – الاستدعاء – التحوّل – العلاج – الدمار.
كان عنصرا الجليد والثلج عنصرين ثانويّين لعنصر الماء، لكن مستقلّين، مثلما كان الحال مع عنصر العقل وعنصر الوهم.
كان كلّ عنصر مفيد بطريقته الخاصّة، وكما سلف وقال إدريس الحكيم، ليس هناك سحر ضعيف، بل هناك ساحر ضعيف.
كلّ العناصر السحريّة امتلكت إمكانيّات إلّا عنصر الدمار، لكنّ إدريس الحكيم كان يعتقد ببساطة أنّ عنصر الدمار قد بلغ ذروة إمكانيّاته من البداية، ولهذا لم يكن هناك مجال للنموّ أكثر.
كان يفكّر باسل حاليّا في كلّ عنصر على حدى حتّى يختار ما يناسبه أكثر.
لقد كان واثقا من الحصول على أيّ عنصر يبتغي، لذا وجب أن يفكّر مليّا في هذا. ما أن يطبع العنصران السحريّان في روحه، لن تكون هناك رجعة.
لم يحتج عنصر العلاج لأنّه كان يمتلك قدرات 'شفاء ذاتيّ' مبهرة للغاية. لم يحتج لعنصر التحوّل أيضا، فهو سيملك روحين، لذا سيكون لديه تحوّلان روحيّان وليس واحد فقط.
يمكن تعويض عناصر البرق والضوء وحتّى الظلام بعنصر النار من حيث طريقة وقوّة الدمار إن تجاهل الميزات الأخرى التي لم تغريه بشكل كافٍ.
كلّ ما تبقّى هو العناصر: الماء (الجليد والثلج) – الأرض – السحاب - الوهم (العقل) – الاستدعاء – الدمار.
إن كان سيختار من بين هاته العناصر، فعليه أن يختار ما يمكن أن يعزّز من قوّته ويكمّلها أيضا. لم يكن باسل يبحث عن مجرّد رفع للطاقة والقوّة التدميريّة بشكل بسيط، بل كان يبحث عمّا يمكن أن يجعل روحيْه متكاملتين تماما، حتّى من ناحيّة العناصر.
لذا أقصى العناصر: السحاب – الاستدعاء – الوهم.
لم تكن تلك العناصر تكميليّة للعناصر التي كان يملك.
بقي الآن الماء (الجليد والثلج) والأرض والدمار.
لم يقصِ باسل عنصر الدمار لأنّه كان عرضا مغريّا للغاية. حتّى لو كان يملك عنصر النار الذي كان يملك قوّة تدميريّة جيّدة كفايّة، كان عنصر الدمار عنصرا خاصّا للغاية. لم ينسَ للحظة اليوم الذي قاتل فيه هدّام الضروس وعانى الأمرّين بسبب هذا العنصر. لقد كان عليه في تلك الأثناء أن يتجنّب التواصل مع عنصر الدمار بشكل مباشر وإلّا تدمّر أيّ جزء يتلامس بدون حماية مع عنصر الدمار.
ومع ذلك، لو اختار عنصر الدمار، هل سيخلق هذا التوازنَ الذي يبحث عنه؟ هل ستكون قوّتان تدميريّتان في كلا الروحين مكمّلتين لبعضهما؟ أم سيتخلقان نوعا من عدم التكافؤ فتغطّي إحداهما الأخرى ويختلّ التوازن في النهاية؟
لقد كان هذا شيئا مهمّا للغاية ووجب على باسل أخذ كلّ الحيطة والحذر في اتّخاذ قراره. القرار الذي سيتّخذه اليوم سيؤثّر على مساره الروحيّ بشكل هائل.
الماء، والأرض، والدمار.
لو أزال عنصر الدمار، يبقى عنصر الماء والأرض، لكن هل هذا هو الخيار الأنسب؟
"انتظر...!"
صرخ باسل كالمجنون ثمّ توقّف في الطريق نحو 'حياة' بينما يتبعه الزعماء وبعض الوحوش النائمة.
اقترب منه أبهم ثمّ سأل قلقا: "ما هناك يا سيّدي؟ هل يمكن أنّك غيّرت رأيك؟"
تجاهل باسل كلام أبهم بدون وعي منه. لقد كان مستغرقا في تفكيره بما طرأ في باله للتوّ.
ردّد كلاما لم يفهمه أحد: "النار، الريّاح، الماء، الأرض."
نظر باسل إلى يديه كما لو أنّه يتخيّل شيئا فيهما وردّد مرّة أخرى: "نظريّة العناصر البدائيّة!"
"ها!"
أطلق باسل لهثة قويّة عندما فكّر في هذا الأمر. هل يمكن أنّه يستطيع أن يجرّب ما لم يستطِع أحد تجربته عبر الأزمان؟
لقد وجد نفسه يتّجه نحو مسار روحيّ كان موضوعا في النظريّات فقط ولم يستطع أحد تجربته.
صار باسل يعلم عن الكثير من الأشياء عبر الحكمة السياديّة التي نقل عبرها إدريس الحكيم معلومات لا تعدّ ولا تحصى، ومن بينها كانت هناك معلومات عن 'نظريّة العناصر البدائيّة' التي تحدّثت عن كيف كان هناك أربعة عناصر في الفوضى البدائيّة ونتج عنها في النهاية كلّ العناصر السحريّة الأخرى.
قيل أنّه لو تكاملت العناصر البدائيّة بطريقة ما، فيمكن أن ينتج عن ذلك أيّ شيء. قد يكون ذلك الشيء نظاما ثابتا، أو فوضى عارمة حتّى.
ما كان أكيدا هو أنّ تكامل العناصر البدائيّة كان شيئا قد درسه الحكماء عبر العصور، لكن لا أحد اكتسب القدرة على تحقيقه وتسخيره.
توهّجت عينا باسل لأوّل مرّة بعدما كانتا ميّتتين لمدّة طويلة.
قد يكون الوصف، 'وحش لا مثيل له عبر كلّ الأزمان'، قليلا في حقّ المخلوق المتعطّش للمعرفة والقوّة الذي كان يولد من دون علم أيّ أحد.
***
وصل باسل والآخرون بعد مدّة إلى الحاجز الذي كان يحيط بـ'حياة' والمنطقة المحيطة بها.
لقد كان هذا الحاجز بالذّات هو الحاجز الذي أحاط بمنطقة القبائل كلّها بعد تحوّل العالم الروحيّ، وتماما في حدود الوكر. لقد كان الأمر كما لو أنّ المسؤول عن هذا يعلم تماما منطقة الوحوش النائمة.
اقترب باسل من الحاجز ثمّ وضع يده عليه ورأسه وأغمض عينيه: "لقد أتيت مجدّدا يا حياة."
كانت هذه هي المرّة الثانيّة التي سيتسلّق فيها باسل حياة. لقد أحسّ بقرابة غريبة في آخر مرّة تسلّقها فيها، وحتّى أنّه يمكن القول –لحدّ ما- أنّه الشخص الذي سمّاها. لقد كان يشعر بالطمأنينة والسكينة كلّما تواصل مع حياة. لقد كانت اسما على مسمّى حقّا، إذْ جعلت متسلّقيها يُغمرون تماما ويختبرون المرّ والحلو، لكن تحضنهم أثناء فعلها لذلك.
توهّج الحاجز فقط ردّا على كلام باسل، فعبره والتفت إلى الآخرين: "كلّكم غير أبهم."
لم يكن أبهم وحشا نائما، ولم تكن له أيّ نوع من الرخصة مثل ما كان عند باسل الذي صار الوريث الشرعيّ للوحش النائم بشكل مباشر. لم تكن هناك أيّ وسيلة لأبهم كي يعبر هذا الحاجز.
نظرت لمياء بشكل آسف إلى جهة أبهم كما لو كانت تخبره ألّا يشغل باله بالتفكير في هذا.
ابتسم أبهم بعدما لاحظ نواياها وقال: "أنا بخير. لن أشعر أنّني متخلّف عنكم، فالسيّد باسل جعل ذلك مستحيلا أصلا."
نظر إليهما باسل وارتاح قلبه قليلا. لقد كان أبهم أخا لـشي يو، لكنّه فقدها الآن وكان عليه الاعتناء لوحده بعائلته العاديّة التي انتقلت للعيش في العاصمة من أجل حياة أفضل. سيكون من الجيّد أن يكون هناك شخص كـلمياء بجانبه.
لقد كانت لمياء أكبر من أبهم عمرا بحوالي العقد، إلّا أنّها كانت تبدو كفتاة صغيرة أمامه هو الذي لطالما تصرّف كالجبان حتّى لا يثير الانتباه له ويجلب المتاعب لأخته ووالديه.
أومأت لمياء رأسها ثمّ دخلت أوّلا قبل أن يتبعها زعماء القبائل الرئيسيّة ثمّ الآخرون.
نظر باسل إلى أبهم ثمّ قال: "يمكنك الانتظار هنا، لكنّني سأتأخّر قليلا لذا يمكنك المغادرة أيضا إذا أردت. سأجدك عندئذ بنفسي."
"سأنتظرك هنا يا سيّدي."
كيف له أن يجرؤ على ترك باسل يبحث عنه؟
أومأ باسل رأسه وقال: "قبل أن نبدأ التسلّق،" التفت إلى جهة لمياء وأكمل: "أريد منك يا لمياء أن تبقي متّصلة بالعالم الخارجيّ بعد انتهاء التسلّق والقدوم إلى هنا لإعلامي بأيّ شيء مهمّ. يمكنك فقط وضع يدك على الحاجز، أو على حياة مباشرة إن كان الأمر عاجلا، وسيكون بإمكاني التواصل معك."
لقد كانت قمّة حياة شبه منفصلة عن العالم الواهن، لذا كان باسل ينوي ترك صلة بينه وبين العالم الواهن في الوقت الذي يكون فيه منشغلا.
لا يمكن أن يسمح لنفسه بإعادة نفس الخطأ. أبدا!
لا يمكن القول أنّه أخطأ عندما ذهب إلى ذلك العالم الثانويّ لوحده. لم يمكن لأحد آخر الذهاب معه أصلا. لقد احتاج الشخص لمهارة عاليّة للغاية أو هبة كـالحكمة السياديّة حتّى يجد الطريق إلى ذلك العالم الثانويّ، لذا حتّى لو ترك أيّ أحد خارج مجال العالم الثانويّ ليسمع الأخبار، لن يستطيع ذلك الشخص الدخول إلى مجال العالم الثانويّ حتّى يبلغه بالرسالة.
ومع ذلك، كان باسل حريصا أكثر بعدما حصل ما حصل.
أجابت لمياء فورا: "حاضر يا سيّدي."
استدار باسل ثمّ تحرّك نحو حياة بدون أيّ كلام آخر.
التصق بـحياة ثمّ بدأ يتسلّقها، وبعدما ارتفع حوالي خمسة أمتار، لحقته لمياء والآخرون. لم ينطق بأيّ كلمة، ولم يتكلّموا هم أيضا. كان التسلّق هادئا للغاية.
حرصوا كلّهم على مراقبة باسل، وتبعوا كلّ حركة منه، ونسخوا حتّى تعبيراته، لكنّهم فقدوه فجأة.
استغربوا كلّهم عند حدوث هذا، لكنّهم تعجّبوا أكثر عندما وجدوا باسل أسفلهم بعدما كان فوقهم ببضعة أمتار.
استمرّ ارتباكهم أكثر وخصوصا بعدما صاروا متفرّقين تماما بالرغم من اعتقادهم أنّهم سلكوا نفس المسار. كان بعض الأشخاص يجدون باسل بجانبهم وبعض آخر كان يراه ينزل من الشجرة وليس يتسلّقها.
وفي نهاية المطاف، اختفى باسل تماما عن الأنظار ولم يره بعد ذلك أحد.
حاولوا بعد ذلك تسلّق حياة، لكنّهم كانوا يجدون أنفسهم في بعض الأحيان في نقطة البداية كما لو نُقِلوا إلى هناك، أو كانوا يجدون أنفسهم في مسار آخر.
ابتسمت لمياء وتمتمت: "لهذا قال أنّ تسلّق حياة ليس بشيء يُعلّم."
استمرّت في التحرّك بدون توقّف بينما تفكّر في الحلول. الطريقة التي تغيّرت بها أماكنهم واختفاء باسل المفاجئ. كلّ هذا عنى أنّ هناك مسارا واحدا فقط يجب على الشخص إيجاده.
كان هناك شيء يشغل بالها. هل كان تغيّر مكان باسل المفاجئ قصدا منه أمّ أنّه وجد نفسه في مكان آخر كما حدث لهم.
فكّرت في الأمر بعناية. لقد كان باسل هو الوريث الشرعيّ وقد سبق وتسلّق حياة إلى قمّتها من قبل بسلاسة، لذا لا بدّ وأنّه يعلم عن المسار تماما. لا يمكن أن يجد نفسه في مكان آخر بدون دراية منه، إذن لا بدّ وأنّه اتّخذ مسارا شاذا جعله ينزل مرّة أخرى. لقد كان الأمر كالمتاهة. متاهة مرسومة على الشجرة.
استمرّت في محاولاتها اليائسة لكنّها استسلمت في نهاية المطاف كما فعل الآخرون قبلها. لقد أطالت البقاء هناك أصلا. كلّ شخص استسلم منذ وقت طويل بالفعل.
ما كان غريبا في كلّ هذا، هو أنّهم عندما حاولوا النزول من الشجرة، لم يطرأ معهم أيّ شيء غريب. نزلوا بشكل طبيعيّ من حياة كما لو كانت شجرة عادية.
زادت دهشتهم عندما لاحظوا هذا الأمر وتحسّروا في نفس الوقت. كيف لهم أن يتسلّقوا حياة إن كان المسار الذي يؤدّي إلى القمّة شاذا لهذه الدرجة؟
لكن على الأقلّ...
'أظنّ أنّني فهمت قليلا ما يجب عليّ فعله. سأعزل نفسي لبعض من الوقت بعد الاختراق إلى المستويات الروحيّة وأشحذ حواسّي وأتواصل مع وحشي النائم.'
كانت لمياء هي الشخص الذي فكّر في هذا ولم تقله بصوت مرتفع. لقد كان هذا اختبارا فرديّا وشخصيّا لكلّ واحد منهم، لذا حتّى لو كانت قد توصّلت إلى استنتاج معقول، قد لا يكون ذلك هو الأمر بالنسبة لشخص آخر. كانت ما تزال تذكر كيف قال باسل أنّ اختبار حياة ليس بشيء يُعلّم.
هناك مسار واحد، لكن كيفيّة إيجاد كلّ شخص لذلك المسار تعتمد على الشخص بحد ذاته. قد تنجح طريقة ما مع أحدهم، ولكن لا تنفع مع أحد آخر.
لماذا؟ لأنّ حياة لن تسمح بذلك في اختبارها أبدا.
حسمت لمياء أمرها بدون علم أحد: 'عليّ أن أحسّن من قدراتي، وليس كساحرة، بل كـوحش نائم، حتّى أستطيع أن أربط روحي بـحياة، لأنّني أظنّ أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة لإيجاد المسار وتعلّم كيفيّة عبوره.'
قال أحد الوحوش النائمة بعدما لم يستطع التحمّل أكثر: "إنّه فريد للغاية."
نظر إليه الجميع، وفهموا تماما ما كان يعنيه. لقد كانوا كلّهم منبهرين من باسل.
لقد كان يقتصر الأمر على الوحوش النائمة والوريث الشرعيّ فقط عندما يتعلّق الأمر بالرخصة للاقتراب من حياة ومحاولة تسلّقها، ولكن كان الوريث الشرعيّ هو الوحيد فقط في هذا الوجود من كان قادرا على بلوغ قمّة حياة.
لقد كان السبب بسيطا؛ لقد كان الوكر الحقيقيّ للوحش النائم يقع في قمّة حياة، وهناك كانت تلك النخلة العتيقة.
تلك النخلة لوحدها كانت كنزا يمكنه إثارة المشاكل بين العوالم، لكنّ باسل كان قد أخذ من جانبها تمر الحياة الجديدة ومن قمّتها ذلك الصندوق الفخّار اللذين كانت قيمتهما أكثر بكثير من الشجرة بنفسها.
قال خليفة حاكم الجوّ بصوته الأخنّ الحادّ: "قد نكون محظوظين في الواقع لأنّه 'هو' وريثنا الشرعيّ."
ابتسم الجميع واتّفقوا مع كلامه. لقد كان باسل مميّزا فقط، لكن حتّى الوحوش النائمة ما زالت لم تعلم عن تميّز باسل الحقيقيّ.
لقد كان العالم الواهن منغلقا عن بقيّة العوالم حتّى قبل الختم، لذا لم تكن هناك أيّ طريقة لمقارنة مواهب العالم الواهن مع المواهب من العوالم الأخرى.
***
جلس باسل تحت النخلة في العالم الثانويّ الذي امتدّ برماله الصحراويّة في الآفاق. لقد كانت هذه النخلة هي الشيء الوحيد البارز هنا، كما لو أنّ هذا العالم بُنيَ من أجلها، مع العلم أنّها كانت هشّة وبدت كأنّها ستسقط في أيّ لحظة.
لقد كان باسل متدبّرا، محاولا إيجاد الحلّ الأمثل لحالته.
'الآن، بعدما توصّلت لفكرة نظريّة العناصر البدائيّة، لا يمكنني أن أضيع فرصة تجربتها أبدا. أريد أن أعلم ما الذي سيحصل عندما أنجح في تكامل العناصر البدائيّة. أريد أن أعلم كيف سيؤثّر ذلك على روحي وعلى رؤيتي للعالم. أيّ علوّ يمكنني بلوغه؟'
كان باسل متشوّقا للغاية ومتحمّسا كثيرا للوقت الذي يبلغ فيه مستويات روحيّة لم يسبق لأحد أن بلغها. أراد أن ينظر إلى العوالم من تلك القمّة حتّى يراها جيّدا. كلّما استطاع الارتفاع، زاد اتّساع المنطقة التي يمكنه رؤيتها.
'يمكنني اختيار عنصر الثلج أو عنصر الجليد بدل عنصر الماء، لكنّني سأختار عنصر الماء نظرا لكوني أملك عنصريْ النار والرياح اللذين يُعدّان عنصران رئيسيّان. يجب أن أختار عنصرين رئيسيّين فقط لأجعل من التوازن مثاليّا أكثر.'
"عنصر الريّاح سيدعم عنصر النار، كما سيدعم عنصر الماء عنصر الأرض. ستكون الروح الأولى مسؤولة عن إنتاج الدمار بينما تهتمّ الروح الثانيّة بزيادة الحيويّة."
لقد كانت هذه هي الفكرة الأولى التي توصّل إليها باسل. الدمار والحياة. متعارضان لكن ثابتان. طالما يكون حريصا للغاية، وينتبه كي لا يخطئ أبدا في حساباته وتدريباته وتدبّره، فيمكنه الحفاظ على مستوى من التوازن بين الروحين بشكل غير مسبوق.
يبقى عنصر التعزيز فقط.
لم يكن باسل قلقا للغاية بشان عنصر التعزيز. فالبرغم من أنّ هذا العنصر كان في الروح الأولى برفقة عنصريْ الريّاح والنار، إلّا أنّه لم يكن عنصرا يمكن أن يخلّ بالتوازن الذي سيتشكّل بعد اكتساب عنصريْ الماء والأرض في الروح الثانيّة.
لم يكن عنصر التعزيز متعلّقا بالطبيعة كما كانت العناصر الأربعة الأخرى. طالما تحافظ العناصر البدائيّة على التوازن بينها، فعنصر التعزيز لن يخلّ بذلك التوازن طالما لا يستخدمه باسل من أجل ذلك الغرض بالتحديد.
كان عليه الآن البدء في استشعار طاقة العالم مستخدما الحكمة السياديّة، ولكن قبل هذا...
تكلّم باسل: "أحتاج لمساعدتك يا حياة."
لم تمرّ ثانيّة واحدة حتّى رنّ طنين في عقل باسل. كان الطنين هادئا وليس مزعجا، وحمل آثارا مسكِّنة للروح. شعر باسل أنّه ينغمس في تدبّره أكثر فأكثر، كما لو كان يسقط ببطء وراحة في أعماق ليس لها نهاية.
لقد قال باسل فيما سبق أنّ الوحش النائم غرس حياة أملا في غدوّها ذات يوم 'شجرة عالم'.
لو أراد باسل استشعار طاقة العناصر السحريّة المتنوّعة بالعالم الواهن، فحياة كانت الوسيط الأفضل لفعل هذا.
لربّما لم تكن شجرة عالم بعد، لكنّها غُرِست من أجل أن تصبح شجرة عالم وقد عمّرت في العالم الواهن ألف ألفيّة وألف سنة، حتّى أنّها تغذّت على الوريد التنّينيّ طوال تلك السنوات، وهذا كان كافيا لباسل حتّى يبلغ مراده.
لم يمر وقت طويل حتّى وجد باسل نفسه في عالم مظلم، لكنّه لم يكن مظلما تماما، فبين الحين والآخر، ومضت بعض الأضواء في الأفق واختفت بسرعة كيراعات تنتهي حياتها.
علم باسل أنّ تلك اليراعات تمثّل طاقات العناصر السحريّة التي تتراقص هنا وهناك لتختفي بين طيّات طاقة العالم الهائلة.
كان عليه أن يجد أيّها هما عنصرا الماء والأرض، ويمتصّ قدرا كافيا منهما في روحه الثانيّة.
كان عليه أيضا أن يمتصّ العنصرين في وقت واحد وبنفس مقدار عنصريْ النار والريّاح حتّى يحافظ على التوازن، ويطبعهما تماما في روحه كما فعل عند اكتساب عنصر التعزيز وعنصر الريّاح.
تذكّر باسل معلّمه في هذه اللحظات. لولا الحكمة السياديّة، لما كان قادرا على فعل كلّ هذا. تذكّر اللحظات الأخيرة لمعلّمه، وكلماته الأخيرة التي تردّدت في أعماق روحه عندما كانت الحكمة السياديّة تُمرّر له.
(لــك كــلّ مــلــكــت يــومــا يــا ابــنــي!)
كان باسل سعيدا وحزينا في نفس الوقت.
لطالما احترم إدريس الحكيم، حتّى أنّه بدأ يعامله كـأب له، لكنّه لم يرد الإفصاح عن هذا الأمر علانيّة. كان ينوي إخفائه دائما. ومع ذلك، ناداه إدريس الحكيم بابنه.
لقد كان فخورا للغاية، وسعيدا جدّا.
لكن...
علم باسل أنّه ما أن يقبل الحكمة السياديّة، فسيكون عليه أن يقبل حقيقة موت معلّمه، لا، حقيقة موت أبيه الروحيّ.
لقد كان يائسا للغاية، وحزينا جدّا.
كلّ ما كان في وسعه الآن هو تحقيق أماني معلّمه، واتّباع مسار روحيّ يجعل معلّمه فخورا به.
بدأ باسل عمله فعليّا.
***
مرّت بضعة أيّام، وعادت الأمور لمجراها الطبيعيّ أكثر ممّا كانت عليه في العالم الواهن بعد الكارثة الأخيرة.
فقد الكثير من الناس أحبابهم، لكن لم يستطيعوا فعل شيء بشأن ذلك. ماذا هناك ليفعلوه عندما عانى أقوى شخص في هذا العالم مصيرا مثل مصيرهم أو أسوء؟
لم تفرّق تلك الكارثة بين أحد؛ فحتّى النبلاء في جميع أنحاء العالم فقدوا ورثتهم الذين كان لهم مستقبل زاهر وكان من المتوقّع أن يطوّروا من مستوى عائلاتهم.
فمثلا، عائلة كين التي كانت ثاني أقوى عائلة في إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة تلقّت ضربة قاسيّة عندما خُطِف وريثها 'كين نبيل'.
كان كين تشارلي متحسّرا على هذا بشدّة. كان قد فقد ابنه البكر في الحرب ضد القبائل قبل حوالي سبع وخمسين سنة، والآن فقد نبيل الذي كان واعدا. لقد كان في الواقع سيمرّر له الخلافة ما أنّ يبلغ المستوى الرابع عشر، لكنّه لم يعد موجودا.
كان تشارلي يجلس مع تلميذه مارون براون. واجه براون نفس المصير مثل معلّمه؛ فحتّى هو خُطِف ابنه زونغ.
كان الحال نفسه مع كورو هِيْ الذي رافقهم في هذه الجلسة هنا. لقد أخذوا منه أخته الصغرى 'يامي' وابنه 'هيسي'.
كان هؤلاء الثلاثة قريبين من بعضهم، لذا كان يجتمعون للتحدّث بين الحين والآخر، ولكن جلّ حديثهم هذه الأيّام كان عن حسرتهم وخسارتهم. لقد أرادوا أن يفعلوا شيئا، لكن مثلهم مثل أيّ شخص في هذا العالم، كانوا ينفّسون عن غضبهم لقليل من الوقت فقط بدون الوصول لحلّ.
مرّت أيّامهم على ذلك الحال، حتّى بدؤوا يتقبّلون الواقع القاسي.
لقد خسروا عائلتهم، دمهم ولحمهم، لكن ليس عليهم أن يخسروا أنفسهم أيضا.
قرّروا في هذا اليوم أن يعلنوا عن الورثة الجدد لخلافتهم.
لقد كانوا من عائلات كبيرة، وكان للورثة السابقين إخوة صغار، لذا عليهم الآن أن يصرفوا مجهودهم في تحسين هؤلاء الورثة الجدد.
وفي هذه الأثناء التي كانوا يحاولون مناقشة أعمال عائلاتهم، اتّصل أحدهم بالجنرال براون.
استأذن معلّمه وصديقه هِيْ ثمّ أجاب: (ماذا هناك يا رعد؟ ألم تقل أنّك مشغول ولن تكون متاحا في هذه الأيّام؟)
كان الجنرال براون قلقا منذ البداية. لقد علم أنّ شيئا طارئا قد حلّ بعدما اتّصل الجنرال رعد الذي كان من المفترض أن يكون منعزلا.
سرعان ما سمع الجنرال براون ردّا جعله يقف مستقيما بسرعة كبيرة، فاتحا عينيه على مصراعيهما.
"(ماذا؟!)"
أثار صراخه المفاجئ قلق هِيْ وتشارلي أيضا.
بلع الجنرال براون ريقه ثمّ أنهى الاتّصال بعدما سماع كلّ المعلومات من الجنرال رعد: (حسنا. سنرتّب كلّ شيء هنا تباعا للنظام.)
حدّق بعد ذلك إلى معلّمه وصديقه اللذين كانا ينتظرانه يتكلّم بفارغ الصبر. أيّ كارثة حلّت هذه المرّة؟
تكلّم بعدما أخذ رشفة من المشروب أمامه ليرطّب حلقه الذي جفّ بعد آخر ريق بلعه: "لقد بدأ الأمر. حشدٌ من الوحوش السحريّة متوجّه ناحيّة إمبراطوريّتنا من سلاسل الجبال الحلزونيّة، وبالطبع، وحش روحيّ مسؤول عن هذا."
لقد قال باسل ذات مرّة أنّ العالم الواهن سيتحوّل كلّه لمنطقة محظورة بعد التحوّل الروحيّ للعالم، لكن تُجُنِّبَت الكوارث التي كانت ستنتج عن هذا بعدما أمر باسل بالقضاء على الوحوش السحريّة بالمستوى الرابع عشر.
لقد كانت تحتاج الوحوش السحريّة لوقت أطول للانتعاش بعد القضاء عليها وجمع أحجار أصلها، ولهذا نعم العالم الواهن بالسلام حتّى الآن، لكن لم يُقضَ على جميع الوحوش بالمستوى الرابع عشر في العالم الواهن، لذا بدأ هذا الأمر الذي كان من المفترض أن يبدأ بوقت أبكر وبشكل أفظع بكثير.
فبدلا من حشود متعدّدة من الوحوش السحريّة تعيث فسادا في جميع أنحاء العالم، ظهر حتّى الآن هذا الحشد فقط.
لقد كانت النتائج أكثر من جيّدة.
وقف الجنرال تشارلي وداعب لحيته ثمّ كشّر عن أنيابه: "هذا جيّد للغاية. لقد كنت أتوق للتنفيس عن غضبي طيلة الأيّام الماضيّة."
تنهّد الجنرال هِيْ بعدما وقف بعده: "أوافقك الرأي تماما."
أحكم الجنرال براون قبضتيه ثمّ قال: "لنسحق تلك الوحوش اللعينة حتّى لا يبقى شيئا منها."
خرج الثلاثة من الغرفة التي كانت غرفة خاصّة بلقاءاتهم في قصر عائلة كين.
تكلّم الجنرال تشارلي: "لنستعدّ جيّدا لهذا أوّلا. ما زلت لا أريد الموت، فكما تعلم، لقد تأجّل تقاعدي."
نظر بعد ذلك إلى تلميذه وهِيْ ثمّ أضاف: "سأكون في الطليعة هذه المرّة."
ابتسم الاثنان. لقد فهما أنّ الجنرال تشارلي كان يخبرهما أن يرافقاه.
تكلّم الجنرال براون بعدما أومأ رأسه مثل الجنرال هِيْ: "بالطبع سنكون هناك أيضا، لكن كما قلتَ، لا يجب أن نموت الآن. ما زالت هناك أعمال كثيرة علينا الاعتناء بها. ولهذا، فلنتّصل بالجنرال الأعلى."
ابتسم الجنرال تشارلي وردّ: "وما الذي كنت تتوقّعه عندما قلت أنّه يجب علينا الاستعداد جيّدا أوّلا؟"
ضحك الجنرال هِيْ وردّ: "متّفق معك مرّة أخرى. أفضل استعداد لما هو قادم هو وجود الجنرال الأعلى هنا، أوّل ساحر روحيّ بعالمنا."
بدأت الحيويّة تعود لهؤلاء الثلاثة.
ومثلما كانوا محبطين وصاروا متحمّسين بهذا الشكل، كذلك كان الكثير من الأشخاص.
لقد أراد العديد التنفيس عن غضبهم الذي لم يعلموا أين أو كيف يوجّهونه.
لقد كانت هذه هي الفرصة المثاليّة.
ولكن...
على عكس هؤلاء الثلاثة الذين لم يشكّوا للحظة في باسل بعدما رأوا ما فعله منذ ظهوره في حياتهم، كان هناك العديد من الأشخاص الذي كانوا يشكّون في ظهوره، وخافوا من غيابه.
"لو كنت سأموت وأنا أنتظر معلّقا آمالي على شخص لن يظهر بسبب جبنه، فسأختار على الأقل الموت وأنا أقاتل حتّى آخر رمق منّي. لن أموت بينما أنتظر أحدهم كي ينقذني."
كان هناك العديد من الأشخاص الذين فكّروا بهذه الطريقة.
لم يستطع أحد لومهم، لكن أولئك الذين وثقوا في الجنرال الأعلى كانوا منتظرين، منتظرين ظهور باسل الذي سيغيّر نظرة ذلك النوع من الأشخاص إليه من جديد، ويثبت لهم أنّهم هم الذين وثقوا فيه كانوا على حقّ.
***
وضعت لمياء يدها على حياة ثمّ انتظرت بفارغ الصبر كلمة من باسل. لقد أخبرها أن تأتي وتفعل هذا إذا حدث شيء طارئ وسيتواصل معها.
لكن...
"لماذا لا يتواصل معي؟"
تعرّق جبين لمياء كثيرا بعدما مرّت بضعة دقائق منذ أن وقفت هناك ولم تشهد أيّ تغيّر يطرأ.
***
بعد مرور أيّام عديدة من المحاولات المتتاليّة، وصل باسل إلى نتيجة مرضيّة أخيرا. لقد كانت الحكمة السياديّة شيئا مذهلا للغاية، واستطاع أن يرى ويحلّل ويتحكّم في كلّ شيء بشكل حكيم.
كان باسل مجرّد سيّد روحيّ (نوعا ما)، لذا تمكّن من استغلال الدرجات الثلاث من الحكمة السياديّة بشكل أقلّ بكثير عمّا كان إدريس الحكيم يستطيع فعله بمستواه الروحيّ، لكن بالرغم من ذلك، كان ذلك كافيا له حتّى يجعل روحه الثانيّة كاملة.
بالطبع لم يكن كلّ هذا بلا ثمن فحتى الآن، ما زال جسده وروحيْه يعتادان على الحكمة السياديّة التي اكتسبها بشكل غير 'طبيعيّ'، ولهذا كان جسده يتمزّق وروحاه تُحرقان في كلّ مرّة يستخدمها فيها.
ومع ذلك، كان باسل صبورا طوال الوقت. نعم، طوال الوقت، فهو كان يستخدم الحكمة السياديّة باستمرار حتّى يقمع الشؤم الذي كان يقبع في روحه الثانيّة. كان عليه أن يحجز السارق الخسّيس بالحكمة السياديّة طوال الوقت حتّى يستطيع أن يشعر بالهناء.
والآن بعدما نجح باسل في اكتساب العنصرين اللذين أرادهما، كلّ ما تبقّى هو الاستحواذ على روح وحش روحيّ آخر، لكن يجب عليه بكلّ تأكيد أن 'يخترع' تقنيّة تكامل تأصليّ.
يجب عليه أن يضع في الاعتبار العناصر البدائيّة كلّها أثناء اختراعه للتقنيّة.
كانت تقنيّات التكامل التأصليّ هي ما يسمح للسحرة الروحيّين بتنميّة أنفسهم وبناء عوالمهم الخاصّة، وذلك بجعل الروح تتكامل تماما مع روح الوحش وتتأصّل.
كانت هذه التقنيّات تختلف من واحدة لأخرى. كان الاختلاف الأهمّ بينها هو المستوى الذي تقف عنده إمكانيّات تقنيّة التكامل التأصليّ.
فمثلا، تقنيّة التكامل التأصليّ التي تدرّب عليها إدريس الحكيم وإبلاس كانتا من التقنيّات التي تسمح للساحر ببلوغ مستوى سلطان أصليّ حتّى، لكن كانت هناك تقنيّات تكامل تأصليّ حدودها كان عند مستويات أقلّ من ذلك بكثير.
وبالطبع، كان باسل في حال أسوء من ذلك بكثير.
فالآن، كان عليه أن يخترع تنقيّة تكامل تأصليّ يمكنها على الأقلّ أن تجعله سيّدا روحيّا حقيقيّا قبل أن يفكّر في أيّ شيء آخر. لم يكن لديه الوقت ولا الإمكانيّات لاختراع تقنيّة تكامل تأصليّ تقع حدودها في مستوى أكبر من نطاق الأرض الواسعة.
كان يعلم بالفعل ما عليه أن يفعل على الأقلّ. لقد قرّر أن يجعل الروح الأولى تناشد الدمار، بينما تركّز الروح الثانيّة على الحياة، كـ'مفهوم'.
كان عليه أن يخترع تنقيّة تخوّله أن يكمّل روحه الأولى مع روح الوحش الأوّل، ويكمل روحه الثانيّة مع روح الوحش الثاني، وفي النهاية يكمل ما ينتج عنهما ببعض، أيّ يجعل الروح الأولى 'الكاملة المكتملة' تتكامل مع الروح الثانيّة 'الكاملة المكتملة'.
كان الأمر معقّدا بالتفكير فيه فقط، لكنّ درجة تعقيد النجاح فيه كانت لا تُصوّر.
كان باسل سيفعل شيئا شاذا في العوالم كلّها، ولهذا كان واثقا من شيء وخاشيا منه أيضا.
لو ظهر ساحر روحيّ، له روحين وخمس عناصر سحريّة، فكيف ستكون ردّة فعل العالم؟ فقط ما اختبار الجدارة الذي سيكون عليه اجتيازه عندئذ؟
وبعدما فكّر في هاته الأشياء، تذكّر ما كان يؤرّقه لأيّام عدّة. متى سيحصل اختبار الجدارة المعني بالحكمة السياديّة التي تلقّاها بطريقة غير طبيعيّة؟ إن لم تُختبر جدارته على شيء كهذا، فماذا هناك ليُختبَر عليه إذن؟
لقد كان باسل متأكّدا أنّ اختبار الجدارة قادم لا محالة. لربّما كان ما يزال ضعيفا الآن ولا يستخدم الحكمة السياديّة بشكل غير طبيعيّ جدّا لذا لم يثر الاختبار؟ أو ربّما هناك تفسير آخر منطقيّ أكثر؟
على أيّ حال، يجب عليه أن يكون في أهبة الاستعداد.
صرف وقته بعد ذلك في التلاعب بالعناصر البدائيّة حتّى يكتسب فهما أعمق بكثير من الذي كان لديه أصلا (الذي جاء عبر الحكمة السياديّة)، وقرّر في نهاية المطاف أن يعتمد في اختراعه للتقنيّة النهائيّة على تقنيّتيْ تكامل تأصّلي بجعلهما تقنيّة واحدة.
عنى هذا الأمر أنّه عليه حذف كلّ ما يمكن أن يتعارض بينهما، وتعزيز كلّ ما يمكن أن يجعل تكاملهما أقوى، وأن يعيد صياغتهما من جديد كتقنيّة واحدة، وذلك بتوحيد أسلوبهما ونمطهما وخواصّهما... إلخ.
لقد كانت لديه معرفة شاسعة عمّا بحث فيه الحكماء عبر العصور بسبب ما جاءه عبر الحكمة السياديّة، لكنّ معرفته هذه ازدادت موثوقيّة وفعّاليّة عندما طبّقها على أرض الواقع وليس فرضيّا كما اضطرّ الحكماء القدماء أن يفعلوا.
لقد كان شخصا يملك العناصر البدائيّة كلّها، لذا استغلّ كلّ تلك المعرفة الهائلة في اختراع ما يمكن أن يجعل العناصر البدائيّة تتكامل.
"النار، الريّاح، الماء، الأرض."
عبس باسل لأوّل وقال: "يمكنني أن أرى الآن العلاقة التي تجمع هاته الأشياء بالضبط."
"كما يمكن للنار أن تدمّر، يمكنها أن تمنح الدفء والضوء للحياة أيضا. وفي حالة الماء، فـبه توجد الحياة، وبعدمه تختفي. يمكن القول أنّ الماء له خواصّ الهدوء والسكون والبرودة التي يتّصف بها الموت بينما تتّصف النار بحرقة الحياة."
"توجد الرياح (أو الهواء) والأرض من أجل دعم النار والماء معا وترسيخ نظام هذا العالم الذي يجعل الحياة والموت شيئا طبيعيّا."
أكمل باسل تحدّثه مع نفسه وتتبّع نفس المبدأ الذي أسّسه في الأوّل.
***
"دورة الحياة والموت!"
صرّح باسل بهذا الاسم ثمّ أنهى لمساته الأخيرة على تقنيّة التكامل التأصليّ التي كان هدفها الأوّليّ هو تكامل العناصر البدائيّة.
لقد كانت العناصر البدائيّة ترمز في هذه التقنيّة التي اخترعها باسل إلى الدمار والحيويّة اللذين يتعارضان لكن يبقيان بعضهما متوازنين، مثلما يفعل النور والظلام، والأسود والأبيض، والشمس والقمر، والحياة والموت.
وبالتالي، كانت تقنيّة التكامل التأصليّ قد اكتملت وصارت 'دورة الحياة والموت'.
كانت هذه هي اللحظة التي اختُرِعت فيها تقنيّة جديدة في العوالم الروحيّ، تقنيّة لم يسبق لها مثيل، تقنيّة ستحيّر الحكماء والسلاطين لأجيال قادمة.
ولكن...
"كلّ ما يمكن لهذه التقنيّة فعله حاليّا هو أنّ تجعلني أكمل مستوى نطاق الأرض الواسعة."
كانت إمكانيّاتها محدودة، وكثيرا.
"عليّ أن أبحث عن موارد أخرى من أجل أن أزيد من إمكانيّتها. يبدو أنّه سيكون عليّ تطوير التقنيّة في كلّ مرّة من أجل الاختراق إلى المستوى التالي."
كانت هذه إحدى العقبات التي يجب على باسل تجاوزها. فعلى عكس التقنيّات الموجودة عبر التاريخ والتي بلغت أقصى إمكانيّاتها، كانت التقنيّة التي اخترعها باسل متأخّرة كثيرا.
وليس ذلك فقط...
"هذا بدون ذكر أنّه سيكون علي فعل ضعف كلّ ما يحتاجه أيّ ساحر روحيّ للنموّ."
كان عليه أن ينمّي روحين وليس واحدة فقط، وهذا عنى أنّه سيحتاج لضعف الموارد وربّما أكثر إن فكّر في أنّه عليه جعل الروحين متكاملتين.
لقد كان النموّ الروحيّ لوحده صعبا للغاية، ولهذا ليس هناك سوى عدد قليل للغاية من السحرة الروحيّين مقارنة بالسحرة، لكنّه الآن عليه أن يتجاوز ما هو أصعب من ذلك بمراحل عدّة.
بالطبع لم يُحبط باسل بسبب هذا.
"لكن في المقابل، سأنتفع من ضعف إمكانيّات أيّ ساحر روحيّ بنفس مستواي ولربّما أكثر حسب فعّاليّة 'دورة الحياة والموت'."
نهض باسل ثمّ مشط شعره للخلف وتطلّع إلى قمّة النخلة.
لقد أحبّ ذلك الطائر الخرافيّ النخل، لكن ليس أيّ نخل، بل نوع فريد من النخل كان يوجد في عالم خرافيّ. وبسبب حبّه لذلك النوع الفريد، صار يحبّ حتّى الأشجار التي تشبهه في هذه العوالم.
لقد كان يعلم باسل لماذا زرع الوحش النائم هذه النخلة هنا. فكما أراد الوحش النائم من 'حياة' أن تكون شجرة عالم ذات يوم، أراد من هذه النخلة أن تصير نخلة فريدة مثل التي كانت في العالم الخرافيّ.
ابتسم باسل وقال: "إنّه يحبّ الغرس على ما يبدو، أو ربّما يشعر بالحنين؟"
كان يمزح مع نفسه فقط.
لقد كان يعلم تماما عن المخطّط المستميت الذي وضعه الوحش النائم حتّى فكّر في غرس هاتين الشجرتين. كلّ هذا من أجل اليوم الموعود الذي يعود فيه إلى الوجود، ولربّما إلى العالم الخرافيّ.
التفت باسل بعدما أنهى غرضه هنا وحاول أن يودّع حياة، إلّا أنّه رأى شيئا لا يُصدّق.
لا، لم يكن شيئا، بل شخصا.
لقد كان باسل يعرف هذا الشخص تمام المعرفة.
هل كان يرى أوهاما؟ مستحيل! لقد استخدم رؤيته الحكيمة السحيقة، فعلم أنّ ذلك لم يكن وهما.
لكن لم يستطِع أن يرى أيّ شيء آخر غير صورة ذلك الشخص.
كان الأمر كما لو أنّ صورة ذلك الشخص كانت ها هناك، إلّا أنّه لم يكن موجودا هناك.
كان ذلك شعورا معقّدا للغاية.
بلع باسل ريقه ونطق اسم ذلك الشخص: "الجدّ عليّ؟!"
بالفعل، كان الشخص أمامه هو الجدّ عليّ، بائع ومزارع الجزر، الشخص الذي عامله باسل كجدّ له وتلقّى منه النصائح أحيانا، الجدّ الذي جعله يدمن الجزر واقترح عليه الزراعة.
عبس باسل وقال: "لم أفهم شيئا عندما تذكّرتك ولم يتذكّرك أيّ شخص آخر في هذا العالم، كما لو أنّك اندثرت من عقولهم، لا، كما لو لم تكن موجودا أصلا. فقط أين ذهبت؟ ما هويّتك؟"
كان الجدّ عليّ يقف هناك بدون أيّ حركة. لم يقل شيئا ولم يفعل شيئا.
كان باسل مستغربا كثيرا. هل يمكن أنّه بدأ يفقد عقله أخيرا بعدما استعمل الحكمة السياديّة كثيرا حتّى صارت لا تعمل لتحافظ على سلامة عقله كالعادة؟
لا، لقد استخدم الرؤية السحيقة الحكيمة قبل قليل.
كانت هناك الكثير من الأسئلة التي يودّ طرحها على الجدّ عليّ، لكنّه يرَ أيّ تصرّف يدلّ على أنّه من كان أمامه هو الجدّ عليّ أصلا.
لقد كانت تلك مجرّد صورة للجدّ عليّ. نعم، مجرّد صورة، وإلّا كيف يمكن تفسير وجود الجدّ عليّ بالرغم من أنّ باسل كان يشعر أنّ الشخص أمامه غير موجود.
زاد الأمر تعقيدا بالتفكير في هذا. ولهذا، توقّف باسل عن التفكير وسأل مرّة أخرى: "هل أنت الجدّ عليّ؟"
لم تتغيّر تعبيرات الجدّ عليّ. لم يتحرّك إنشا واحدا.
كلّ ما فعله الجدّ عليّ هو المراقبة. لقد كان يقف هناك ببساطة كما لو أنّه يحاول استنباط شيء ما، أو تقرير شيء ما.
صعدت القشعريرة مع جسد باسل فجأة.
أحسّ أنّ هناك شخصا ما، لا، بل شيئا ما يرى من خلاله من جميع الزوايا، هذا مع وضع الحكمة السياديّة في عين الاعتبار.
حتّى لو كان الساحر الروحيّ في مستويات السلطنة، فهناك أشياء لا يمكنه رؤيتها عبر غطاء الحكمة السياديّة، إلّا إذا امتلك هبةً ما تجعله مخوّلا لفعل ذلك.
ولكن...
كان الأمر مختلفا تماما مع الجدّ عليّ.
لقد شعر باسل أنّ هذا الشخص أمامه يراه كـكتاب مفتوح. أو للدقّة، شعر باسل أنّه كان 'الكتاب'، وكان ذلك الشخص أمامه 'مؤلّف' ذلك الكتاب.
فجأةً، التفت باسل مرارا إلى مختلف الجهات، وذلك حتّى يرى ما إذا كان هناك شخص يتربّص عليه. شعر أنّه مراقب من جميع الزوايا.
لقد كان ذلك مجرّد وسواس.
حكيم سياديّ تمكّن منه الوسواس.
سخر باسل من هذه الفكرة قبل أن يستقيم ويحدّق مرّة أخرى إلى ما أو من يفترض به أن يكون الجدّ عليّ.
غيّر باسل سؤاله مرّة أخرى: "ما هدفك؟"
لقد أراد أن يعلم ما كان هدف هذا الشخص أوّلا.
حليف أم عدوّ؟
لقد كانت هذه قمّة شجرة حياة التي لا يمكن لأحد دخولها سوى الوريث الشرعيّ والوحش النائم بنفسه، فكيف لهذا الشخص أن يدخل إلى هنا؟
يجب أن تكون أولى الأولويّات الآن هي ضمان سلامته وسلامة هذا العالم الثانويّ. عليه أن يعلم ما إذا كان القتال هو الخيار الأنسب أم الحديث.
ومع ذلك، صموت الجدّ عليّ حتّى بعد ذلك السؤال جعل من خيار الحديث غير مناسب بتاتا.
لم يعلم باسل ما كانت هوّيّة الجدّ عليّ حتّى يندثر من الوجود بتلك الطريقة، لكنّه لم يهتمّ بهذا الآن.
لقد قطع وعدا مع الوحش النائم، ويجب أن يوفي به.
لقد كان عليه أن يبقى حيّا من أجل إيجاد أنمار والآخرين.
لقد كان عليه أن ينتقم لعائلته والمقرّبين منه.
لقد كان عليه أن يحقّق أمانيه وأماني معلّمه.
لو كان ذلك اَلجدّ عليّ حقّا، فكان ليشارك باسل الحديث بكلّ شغف كما اعتاد أن يفعل دائما، لكنّه لم يفعل.
لقد سأله باسل مرارا لكنّه لم يجب، لذا كلّ ما تبقّى فعله هو حماية هذا المكان وحماية نفسه.
استعدّ باسل للقتال، وفقط عندما اتّخذ وضعيّته وكان مستعدّا للسماح لذلك الأبله بالظهور مجدّدا في هذا العالم، لاحظ شفتيْ الجدّ عليّ تتحرّكان.
[شاذ.]
لم يرمش باسل مرّة أخرى حتّى كان الجدّ عليّ قد اختفى من هناك تماما.
زرع الجدّ عليّ الرعب في باسل واختفى مرّة أخرى كأنّه لم يوجد في الوجود من قبل.
تسارعت ضربات قلب باسل كثيرا لمّا تذكّر ما قاله الجدّ عليّ بصوته الغريب الذي كان خاليا من أيّ ذرة من الخواصّ.
"'شاذ.' إنّه بكل تأكيد يشير إليّ. لا يمكنني التفكير في شيء آخر."
كان باسل هو الشذوذ بنفسه إن لم يكن شاذا.
"لكن... فقط من يكون بالضبط؟ اللعنة! هذا سيؤرقني لأيّام مرّة أخرى. لقد فكّرت فيه لمدّة طويلة بالفعل لكنّني لم أصل لأيّ نتيجة."
تذكّر باسل نصيحة معلّمه: (يا أيّها الفتى باسل، إنّك لست بواهم، فقط يبدو أنّ الشخص الذي تبحث عنه غير موجود. اسمعني ولا تسألني. لم يكن الشخص الذي تبحث عنه موجودا قطّ، لذا ليس من الغريب ألّا يتذكّره أحد. ستفهم ذات يوم.)
لم يفهم حتّى إدريس الحكيم من أو ما كان الجدّ عليّ في تلك الأثناء، لذا قال ما قال لـباسل. لقد كان يعلم أنّه سيحين وقت ما في المستقبل ويعلم باسل حقيقة ما جرى.
أحكم باسل قبضتيه بعدما تذكّر كلمات معلّمه العميقة، ونقشها مرّة أخرى في أعماق قلبه. لا يجب عليه أن يسأل الآن، لأنّه سيعلم عندما يحين الوقت المناسب لذلك. هذا ما أخبره به حدسه على الأقلّ.
وفقط عندما خلا عقله من هذه الأفكار وعاد لصفائه، لاحظ أنّ لمياء كانت تحاول الاتّصال به منذ وقت طويل.
يبدو أنّ باسل استغرق وقتا طويلا للغاية في التفكير بين كلّ سؤال وسؤال طرحه على الجدّ عليّ(؟) بالرغم من أنّه شعر بمرور الزمن بسرعة. زاد هذا الأمر من شعور باسل بالتنمّل فقط.
تنهّد مرّة أخرى واتّصل بلمياء: (ماذا هناك؟)
أحسّ في هذه الأثناء أنّ لمياء تنفّست الصعداء وعادت الروح لجسدها.
أضاف قبل أن تجيبه لمياء حتّى: "هل هو حشد من الوحوش؟"
كان حشد الوحوش السحرية يتجه الي الشعلة القرمزية، ولم يبدوا أنه سيتوقف الا بعدما يمسح البشر من علي وجه القارة................يتبع!!!!!!
(الجزء الرابع)
كان حشد الوحوش السحريّة يتّجه إلى الشعلة القرمزيّة من الجنوب، ولم يبدُ أنّه سيتوقّف إلّا بعدما يمسح البشر من على وجه القارّة.لقد كانت هناك وحوش بمختلف المستويات. تحرّكت الوحوش بالمستوى1 حتّى المستوى4 في الجبهة كما لو كانت 'المشاة' في جيش ما، وتراوح عددها بين 100 ألف و120 ألف، وتبعتها وحوش المستوى5 حتّى المستوى7 عن بعد بين ثلاثة مئة وخمسة مئة متر، وكانت هذه الفئة كالرمّاحين من الجيش، والتي بلغ عددها 70 أو 80 ألف.
وبعد هذين الفئتين، كان هناك الفئة التي انقسمت لمجموعتين، إحداهما كانت تحلّق في الجوّ والأخرى تحرّكت على البرّ. كانت هذه الفئة تشمل وحوشا من المستوى8 حتّى المستوى12. كان عدد الوحوش السحريّة في هذه المجموعة يتراوح بين 9.000 و10.000، من بينها حوالي 500 بالمستوى12.
وأخيرا، كانت هناك وحوش المستوى13 التي تحرّكت في مؤخّرة المسير. لقد كان هناك 247 وحش سحريّ بالمستوى13.
كان هناك حوالي 200 ألف في المجموع، لكن لم يكن هذا العدد هو ما أخاف السحرة، بل الـ247 وحش بالمستوى13 والـ500 وحش بالمستوى12.
لقد كان هناك مئات آلاف السحرة في الشعلة القرمزيّة، لكنّ أغلبهم كانوا في المستوى7 وما أقلّ فقط، ومعظم من تبقّى لم يتجاوز المستوى10 حتّى، والقليل فقط من استطاع بلوغ المستوى11 وما فوق.
كيف لهم أن يجابهوا تلك الوحوش الجبّارة بـ57 ساحر بالمستوى الثالث عشر و103 ساحر بالمستوى الثاني عشر؟
أمّا سحرة المستوى الرابع عشر، فقد اختفى معظمهم بعد الكارثة التي حلّت قبل حوالي شهر. هذا عنى فقط أنّ سحرة المستوى الثاني عشر والثالث عشر الذين كانوا موجودين كانوا سحرة لم يرتقوا لمستوى يجعل أولئك السحرة الروحيّين يطمعون فيهم.
لقد كانوا كلّهم في حدود إمكانيّات مواهبهم، أو كانوا عجزة قد بلغوا أوجهم منذ وقت طويل للغاية.
كان هذا هو ذلك النوع من السحرة الذي كان في المستوى4 أو المستوى5 قبل أن تظهر الإكسيرات في العالم، واعتمدوا كلّيّا على الإكسيرات حتّى يتقدّموا في مستوياتهم ليشبعوا رغباتهم في السحر فقط.
لقد كانوا مجرّد صدفات فارغة. كان هناك المستوى والطاقة السحريّة، لكن لم تكن هناك مهارة ولا تحكّم ولا خبرة يليقون بمستواهم.
بالطبع، لم يكن الأمر هكذا في كلّ الأحوال. كان هناك أشخاص لم يُخطَفوا فقط لأنّهم كانوا عجزة بدون أيّ فرصة في بلوغ المستويات الروحيّة، أو فقط لأنّهم لم يكونوا يملكون موهبة مغريّة كفاية لكن امتلكوا ما يكفي لهذا الموقف.
فمثلا، كان الجنرال كين تشارلي، رئيس ثاني أقوى عائلة في الشعلة القرمزيّة، ماهرا للغاية وخبيرا كفاية، إلّا أنّه كان عجوزا جدّا. فلولا ظهور الإكسيرات وارتقائه في المستويات حتّى بلغ المستوى الثالث عشر، لكان قد بلغ حدود طول عمره بالفعل.
كان هناك أشخاص لم ترتقِ مواهبهم لرغبات الآخرين من العوالم الأخرى، لكن كانت كافيّة حاليّا، ومن بينهم كان الجنرالان 'مارون براون' و'كورو هِيْ'.
ومع ذلك، كان عددهم هذا غير كافٍ إطلاقا.
فقط قبل التحوّل الروحيّ، لم تكن هناك وحوش عديدة بالمستوى 12 و13، لكن بعد التحوّل الروحيّ للعالم، ارتفعت الوحوش السحريّة في مستواها بسرعة كبيرة عمّا كانت عليه، ولحسن حظّهم، أزالوا خطر ارتقاء وحوش المستوى14 إلى المستويات الروحيّة وإلّا كانوا ليجدوا الآن أنفسهم في ورطة لا حلّ لها.
وقفت امرأة بشعر بنفسجيّ تراقص مع الريّاح على سور عظيم بينما تحدّق إلى الأفق كما لو كانت تنتظر ظهور شيء ما.
'يجب أن نشكر القبائل في وقت لاحق لأنّهنّ تخلّصن من وحوش المستوى14 تماما في الجبال الحلزونيّة. لطالما خشيت تهديدهنّ عبر السنوات، لكنّني شكورة لهنّ أكثر من أيّ وقت مضى.'
لقد كانت القبائل قويّة للغاية، وتخلّصت تماما من وحوش المستوى14 عندما أمرهنّ باسل بذلك أثناء الوقت الذي كان يُتخلّص فيه من وحوش المستوى14.
ومع ذلك، لقد كانوا حاليّا ما يزالون في ورطة.
كان حشد الوحوش قريبا من المدينة التي كانت عائلة موراساكي التي ترأّستها فايوليت. لقد كانت تقع هذه المدينة في جنوب الإمبراطوريّة أيضا، إلّا أنّها كانت أقرب إلى المنطقة المركزيّة، لذا كان محتوما أن يمرّ عليها الحشد أوّلا بما أنّ الوحوش كانت قادمة من سلاسل الجبال الحلزونيّة التي كانت جنوب مدينة عائلة موراساكي.
كانت موراساكي فايوليت مستعدّة تماما لهذا الأمر منذ وقت طويل، وفي الواقع، كانت متأهّبة لحصول هذا حتّى قبل التحوّل الروحيّ بشهور. لقد كانت تدرّب جيشها ومنطقتها على الدفاع والقتال ضدّ الوحوش السحريّة التي يمكن أن تهجم عليهم.
منذ أن سمعت بالخبر من الإمبراطور كريمزون أكاغي، جعلت من مدينتها الرئيسيّة حصنا منيعا وجعلت المدن الأخرى التابعة لها بنفس درجة الحماية أو أقرب لتلك الدرجة على الأقلّ.
وبالطبع، لم تكن الوحيدة التي فعلت هذا، بل حتّى عائلة 'آو' و'كِيِرو' فعلتا نفس الشيء، وذلك احتياطا. السلامة أفضل من الندامة.
وقفت موراساكي على السور المحيط بالمدينة منتظرة وصول التعزيزات من العائلات الكبرى والصغرى، وبالطبع حتّى أكاديميّة التّحاد المباركة.
كان يقف خلفها سبعة أشخاص. كان هؤلاء هم قادة جيشها الذي كانت تثق في قوّته ومقدرته كثيرا.
اقترب منها أحد القادة الذي كان رجلا في منتصف العمر: "يا سيّدتي، هل تظنّين أنّنا سنكون قادرين على تجاوز هذه المحنة بدون تضحيّات كثيرة؟"
نظرت فايوليت إليه شزرا وتنهّدت. كيف لهم أن يتجاوزوا مثل هذه الكارثة بدون تضحيّات؟ ما الذي يقوله هذا الرجل الذي كان من المفترض أن يكون قائد قادة جيشها؟ هل جُنّ فجأة؟
لاحظ القائد نظرها خائب الأمل وسارع بشرحه: "أعني، لقد وصلنا الخبر أنّ الجنرال الأعلى سينضمّ إلينا. أليس هذا مطمئنّا؟ أعني، ألم ينقذ الجيش الذي ذهب إلى قارّة الأصل والنهاية من حشد الوحوش وكان مجرّد ساحر بالمستوى14 آنذاك؟"
تنهّدت فايوليت مرّة أخرى بدون أن تحاول النظر إلى القائد حتّى.
بالطبع، كان ما فعله باسل شيئا مبهرا كثيرا. لقد جابه حشد الوحوش السحريّة لوحده وجعل قائد تلك الوحوش يتراجع عن سعيه وراء السحرة. لقد كان ذلك مذهلا عند التفكير في أنّ باسل نجح في فعل هذا داخل منطقة الوحوش السحريّة وليس خارجها، وفي أكبر منطقة محظورة في العالم.
ألا يعني هذا أنّه باستطاعته فعل نفس الشيء مرّة أخرى؟ وخصوصا إن كان الأمر خارج منطقة محظورة؟
لقد كانت موراساكي فايوليت تعلم أنّ هذا مجرّد أمل زائف. حتّى لو كان باسل الآن سيّدا روحيّا كما يقال، ذلك لا يعني أنّه سيكون قادرا على تكرارا ما فعله سابقا في قارّة الأصل والنهاية.
هذه المرّة، كان عدد الوحوش بالمستوى العاشر وما فوق أكبر من السابق بكثير، وهذه المرّة، هناك وحش روحيّ يقود هذا الحشد.
لقد كان الأمر مختلفا تماما.
لقد شهدت قوّة الوحوش بالمستوى14 فيما سبق، فارتعبت من فكرة قتالها وجها لوجه، فما بالك بوحش روحيّ؟ وحش له القدرة على التحكّم في الوحوش السحريّة بمنطقته الخاصّة.
نعم، أيّ وحش يصبح سيّد المنطقة المحظورة التي يكون فيها ما أن يصير وحشا روحيّا. وإن ظهر هناك أكثر من وحش روحيّ بنفس المنطقة، فتكون المنافسة بين الوحوش الروحيّة حول القيادة حتّى يتقرّر الزعيم.
والآن، كان سيّد ثالث أكبر منطقة محظورة معروفة في العالم الواهن يتقدّم نحوهم بنيّة إبادتهم.
سيادة وحش بالمستوى14 على وحوش أخرى مختلف تماما عن سيادة وحش روحيّ. فما فعله ذلك الوحش بقارّة الأصل والنهاية آنذاك كان مجرّد 'مقدّمة' للعرض الحقيقيّ.
لقد كانت موراساكي فايوليت واثقة أنّه حتّى لو ظهر باسل، فلا بدّ من وجود تضحيّات عديدة. تخيّلت فايوليت الأمر كالتالي، سيستغرق باسل وقتا طويلا في قتال الوحش الروحيّ، بينما يقاتل السحرة الوحوش السحريّة حسب مستوياتهم، وينتج عن ذلك عدد كبير من الضحايا، قبل أن يهزم باسل الوحش الروحيّ وينضم أخيرا إلى المعركة بجانب السحرة من أجل إبادة ما تبقّى من الوحوش السحريّة، ولكن حتّى هو سيكون متعبا للغاية، لذا سيزداد عدد الضحايا.
في نهاية المطاف، سيكون عدد الضحايا أكبر ممّا يمكن توقّعه.
هذا كان أفضل السيناريوهات، حيث يستطيع باسل القضاء على الوحش الروحيّ في وقت كافٍ، قبل أن يباد كلّ السحرة.
كان تفكيرها هذا سليما للغاية، ولكن خاطئ كثيرا في نفس الوقت. لقد كانت تحكم حتّى الآن على باسل كساحر بالمستوى14، وعلى الوحش الروحيّ كذلك، ولم تعلم حتّى الآن عن قوّة المستويات الروحيّة حقّا ومدى اختلافها عن مستويات الربط.
نظرت أخيرا إلى القائد ثمّ قالت: "لنتمنَّ أن يظهر في الوقت المناسب فقط."
لقد كانت تعلم عن قوّة باسل، وكانت تعلم أنّه ليس شخصا يترك الإمبراطوريّة في خطر هكذا بدون أن يأتي للمساعدة. ومع ذلك، كان يمكن ألّا يظهر لسبب ما كما حدث في الكارثة السابقة، وأرعبتها تلك الفكرة كثيرا.
انتظرت هناك فقط حتّى تصل التعزيزات، والتي وصلت بعد قليل فقط فجعلت قلبها يرتاح قليلا. لقد كان الدمار محتوما على مدينتها إلّم تظهر التعزيزات.
في الواقع، ليس مدينتها فقط، بل منطقتها بالكامل والتي شملت بعض المدن القريبة منها. فكلّ عائلة كبرى كانت تملك منطقة شاسعة خاصّة بها، والتي كانت قد تصل إلى مساحتها إلى مساحة مملكة ما.
بعد حرب الاسترداد، اتّسعت منطقة عائلة موراساكي أكثر بكثير عمّا كانت عليه، وصارت تحكم الجنوب الداخليّ بالكامل. وبالطبع، كوفئت عائلتا 'آو' و'كِيِرو' بالمثل بعد تعاونهما مع عائلة كريمزون كما وُعِدَتا جنبا إلى جنب مع عائلة موراساكي.
تنهّدت موراساكي فايوليت ثمّ نظرت إلى الجنرالات الذين أتوا، ثمّ فكّرت في الجنرال الأعلى الذي يترأسهم جميعا.
لمست بطنها وعبست للحظة ثمّ تنهّدت. لقد كانت ما تزال تتذكّر اليوم الذي ظهر فيه الكبير أكاغي برفقة الفتى القرمزيّ الذي كان مغرورا وتصرّف كما لو كان ابن حاكم العالم.
تلقّت صدمة تلو الأخرى عندما كان تعلم عن هويّته وقدراته تدريجيّا. ففي الأوّل كانت مصدومة عندما علمت أنّ هناك شخصا من تلك العشيرة الأسطوريّة ما زال موجودا، وصُدِمت أكثر لمّا رأت قتاله في حرب الاسترداد، ثمّ الحرب الشاملة، وما سمعته عن معاركه الأخرى ضدّ الأعداء
لقد كان هذا الشخص هو السبب الذي جعل حدود منطقتها الصغيرة لا تتعدّى الجنوب الداخليّ وتحكم الجنوب بأكمله.
تذكّرت اليوم الذي اقترح فيه الإمبراطور شيرو على باسل الأراضي والمال والزواج من ابنته حتّى، فرفضه باسل. لقد كان لدى باسل المال أكثر من أيّ عائلة بسبب ما جلبه للعالم من وصفات ومعدّات ليس لها مثيل، ورافقته جميلة فريدة مثل أنمار والتي كانت في الحقيقة أميرة الإمبراطوريّة التي يمكن القول أنّه قلبها رأسا على عقب، وامتلك منطقة يبلغ كبرها ما يمكن لسبع أمراء أن يملكوه مجتمعين كما قال الكبير أكاغي في ذلك الاجتماع بالإمبراطور شيرو.
كان الجنوب الأقصى منطقة الجنرال الأعلى وكان هذا معلوما علانيّة بالرغم من أنّ باسل لم يحكم المنطقة بشكل مباشر وتركها تحت سلطة عائلة كريمزون، لكنّه حرص على تشييد مدينة العصر الجديد وأمنها.
'أظنّ أنّه لا يكترث بالمناصب.'
لم تخطئ فايوليت تماما في تفكيرها هذا؛ فلطالما اهتمّ باسل بتحقيق غاياته. لو أمكنه بلوغ هدفه بدون الحاجة للتحرّك حتّى، فيستغرق وقته في الاستكشاف وإشباع فضوله بدل إضاعته في الحكم.
ولكن بنفس التفكير، لو تطلّب منه الأمر أن يكون حاكما حتّى يحقّق مسعاه، فسيحرص على إتمام ذلك الدور بشكل مثاليّ. وبالطبع، لم تعلم فايوليت عن هذا وظنّت أنّه لا يكترث بالمناصب عامّة.
'لماذا إذن لم يقرّر هذا الوحوش الروحيّ اللعين التحرّك في الاتجاه المعاكس وجاء إليّ؟ هل مدينة العصر الجديد مخيفة لتلك الدرجة؟'
تنهّدت مرّة أخرى ثمّ أزالت تلك الأفكار السيّئة التي كانت تجول عقلها. لقد كانت فقط غيورة من منطقة الجنرال الأعلى التي لم تكن هدفا للوحش الروحيّ بالرغم من أنّها كانت أقرب إلى سلاسل الجبال الحلزونيّة.
تخلّت عن محاولة إيجاد تفسير مقنع لهذا. لمَ عليها أن تفكّر كيف تقرّر الوحوش السحريّة أو الروحيّة تحرّكاتها. من يفهم الوحوش أصلا؟
***
اتّخذت كلّ القوّات مراكزها خارج المدينة. لقد كان هناك سحرة المستوى4 فما فوق فقط. كان عدد السحرة بالمستوى4 حتّى المستوى7 يُقدّر بحوالي 170 ألف، ومن المستوى8 حتّى 10 بحوالي 6000 آلاف، أمّا سحرة المستوى11 فكانوا 400، وسحرة المستوى12 كانوا 103، وسحرة المستوى13 كانوا 57.
لقد كان عدد السحرة أقلّ من عدد الوحوش بشكل واضح، لكنّ هذا كان بسبب عدم وجود أيّ سحرة بالمستوى1 حتّى المستوى3، والذين كانوا بأعداد كبيرة، لكن قُّرٍّر ألّا يُقحموا في هذه المعركة مثل الأشخاص العاديين لأنّهم سيكونون عرضة لخطر الوحوش ذات المستوى العليا. لم يريدوا أن يضيعوا المواهب أكثر ممّا ضاعت بالفعل بسبب أولئك الغزاة.
كانت نسبة نجاة سحرة المستوى الرابع فما فوق أكبر على الأقلّ، واختاروا أن يبدؤوا من المستوى الرابع بالضبط لأنّه كان في منتصف القسم الأوّل من مستويات الربط. لم يمكنهم أن يتخلّوا عن أكثر ممّا تخلّوا عنه بالفعل، ولو فعلوا لأكّدوا خسارتهم فقط.
وقف السحرة بالترتيب التالي: سحرة المستوى4 حتّى 7 بالجبهة، ثمّ سحرة المستوى8 حتّى 10، وبعدهم سحرة المستوى11 و12، وأخيرا سحرة المستوى13 الذين تشتّتوا في الأنحاء بتساوٍ حتّى يكافؤوا الفرص ويحرصوا على تقليل الضحايا وعدد العدوّ قدر المستطاع قبل أن يبدؤوا معاركهم ضدّ وحوش بمستويات تنافسهم.
وأخيرا، ظهر قادة أكاديميّة الاتّحاد المباركة في مكان واحد. لقد كُلِّف هؤلاء بالتحكم في مجرى المعركة، مستعملين أزهر زهير من إمبراطوريّة الأمواج الهائجة كاستراتيجيّ المعركة، وتشوسي كروز من إمبراطوريّة الريّاح العاتيّة كساحر بالمستوى13 والجنرال رعد كالساحر الوحيد بالمستوى14.
لقد كان أزهر زهير مشاركا في المعركة بالرغم من أنّه كان الاستراتيجيّ، وهذا لأنّه كان في المستوى12 ولم يمكن ان يقف متفرجا فقط.
نظر أزهر زهير إلى جهة الجنرال رعد ثمّ فكّر: 'لقد سمعت من أخي الأكبر أنّه لم يستطع حتّى الآن بلوغ المستوى14، فكيف فعلها السيّد كاميناري بتلك السرعة؟ وليس هو فقط، بل حتّى المتوفّى كريمزون منصف كان في المستوى14 بالفعل. هل يمكن أنّ هذا بسبب الحبّة السحريّة العجيبة التي سمعت أنّ السيّد باسل يملكها؟'
لقد كان مخطئا في تفكيره هذا.
بالطبع كان لـ'حبّة الولادة الجديدة السحريّة' أثرا كبيرا في اختراق الجنرال منصف للمستوى14، لكنّ الجنرال رعد لم يكن لديه أيّ علاقة بهذا الأمر. لقد كان موهوبا فقط. أوَ لم يكن أصغر جنرال بالتاريخ؟
في هذا الوقت الذي اختفى فيه كلّ سحرة المستوى14 القلائل الذين وقفوا في وجه الغزاة من عوالم الأخرى، كان الجنرال رعد بمستواه الرابع عشر يبدو متفرّدا للغاية.
بلع أزهر زهير ريقه لمّا تذكّر أنّه يقف بمساواة مع هذا الشخص كأحد قادة الأكاديميّة الثلاث، وعزم على العمل بجدّ أكبر ممّا كان يفعل أصلا.
***
[لقد ظهر العدوّ!]
[لقد ظهر العدوّ!]
[لقد ظهر العدوّ!]
انتقل الصوت المضخّم بمكبّر الصوت السحريّ عبر جميع وحدات الجيش، فارتقبوا كلّهم اللحظة التي يستطيعون فيها رؤية حشد الوحوش السحريّة بالكامل.
لم يطل انتظارهم حتّى ظهرت الوحوش السحريّة بجميع مستوياتها، متقدّمة نحوهم ببطء.
نعم، كانت الوحوش السحريّة قادمة ببطء كما لو كانت جيشا بشريّا قادم لقتال جيش بشريّ آخر.
لم يكن هناك أيّ تسرّع أو فوضى في تحرّكات الوحوش، وكانت منتظمة جدّا.
ركّز الجنرال رعد نظره على بعض الأمور فلاحظ أمرا مثلما فعل الاستراتيجيّ أزهر زهير.
"هل هذا معقول؟"
كان الجنرال رعد مصدوما تماما.
بلع أزهر زهير ريقه وصرّح: "ليست مستوياتها فقط، بل حتّى أنواعها وعناصرها متفرّقة بانتظام تماما. يمكنني أن ألاحظ أنّ هناك فرق متخصّصة في كلّ مجال فقط برؤية نوع الوحش السحريّ."
كانت عناصر الوحوش السحريّة معروفة، وذلك لأنّ نوع الوحوش الذي يُرى في العالم يكون يملك نفس العنصر الذي يملكه مثيله، إلّا إذا حدثت طفرة ما، أو تطوَّر أحد الوحوش بشكل منفرد.
ولهذا، علم أزهر زهير أنّ انقسام الوحوش حسب نوعها وعنصرها السحريّ بهذا الشكل كان في الواقع مرعبا للغاية. علم أنّ هذه ستكون معركة صعبة للغاية، ولربّما تظهر تضحيّات أكثر بكثير ممّا توقّعوا.
تكلّم الجنرال رعد الذي كان ما يزال يراقب الوضع بحرص شديد: "أين هو؟ أين هو الوحش الروحيّ؟"
لقد كان مهتمّا للغاية في هذا الوحش الروحيّ، أكثر من أيّ شخص هنا. لقد أراد أن يعلم عن مكانه، وليس فقط لأنّه سيّد هذا الحشد من الوحوش أو لأنّه وحش روحيّ، بل أيضا لأنّه على الأغلب الوحش الذي تكلّم عنه باسل سابقا.
لم ترمش عينا الجنرال رعد أبدا بينما يراقب.
مرّ وقت طويل وظهرت جميع الوحوش السحريّة، لكنّ سيّدها لم يظهر.
هل هذا ممكن؟ هل يمكن أنّه يتحكّم في الوحوش السحريّة من المنطقة المحظورة ولم يأتِ إلى هنا بشكل شخصيّ حتّى؟
لاحظ الجميع هذا الشيء بعد مرور وقت قليل، فاستغربوا جميعا. لقد كانوا يظنّون أنّهم سيرون الوحش الروحيّ يتبع حشد الوحوش إلّم يكن يتقدّمه، لكنّه لم يكن موجودا. هل يجب أن يفرحوا بهذا الحقيقة أم يرتعبوا بسببها؟
وفي هاته اللحظات التي كانت ساكنة تماما...
دوي
انفجرت السماء، أو تُخيّل لهم ذلك على الأقلّ، فنظروا إلى الأعلى كلّهم ليروا ما كان سبب ذلك الدوي الذي بدا كرعد مزلزل.
هناك، في السماء، ظهر شيء مشؤوم. كان هذا الشيء المشؤوم هو نفس ما ظهر في الكارثة قبل حوالي شهر.
شرخ فضائيّ!
لقد كان هذا الشيء هو الذي خرج منه الغزاة الذين كانوا وحوشا بين الوحوش.
ولهذا، كان هذا الشرخ الفضائيّ شيئا مشؤوما.
ومع ذلك، كان هناك بعض المتفائلين، مثل الجنرال رعد، وأحد جنرالات الشعلة القرمزيّة الذي انتفع من حبّة الولادة الجديدة السحريّة وشاهد باسل يظهر بذلك الشكل في قارّة الأصل والنهاية.
فتح ذلك الجنرال فمه وذراعيه على مصراعيهما كما لو أنّه يحاول استقبال من سيظهر عبر الشرخ الفضائيّ: "لقد علمت أنّك ستأتي إلينا. يحيا بطل الأبطال، باسل!"
كان الجنرال متحمّسا وصاح بما نادى به أبطال الأجيال باسل عندما أنقذهم في قارّة الأصل والنهاية، وانتظر ظهور باسل بفارغ الصبر. لقد كان هذا الجنرال أحد الأشخاص الذين وثقوا في باسل تماما وانتظروا مجيئه، بالرغم من أنّه تأخّر.
ومع ذلك، ظهوره بهذا الشكل سيفسّر سبب تأخّره. ألا يجب أن يظهر البطل في اللحظات الأخيرة لينقذ الموقف؟ ألا يجب أن يظهر بهذا الشكل الرائع؟ بالطبع لن يأتي إلّا عندما يحين الوقت المناسب لو كان مشغولا ويملك قدرة تجعله قادرا على المجيئ منتقلا عبر اختراق الفضاء.
تحمّس الكثير من الأشخاص معه. وبالطبع كان الجنرال رعد متفائلا أيضا.
لكن...
ما ظهر كان مختلفا تماما، وحطّم كلّ توقّعات وآمال السحرة. ما ظهر لم يكن باسل، وإنّما ما كانوا يبحثون عنه طوال الوقت.
ظهر كما لو كان يسخر منهم ويقول: "هل كنتم تبحثون عنّي؟ ها أنا ذا."
بلع أزهر زهير ريقه، أو على الأقل ذلك ما حاول فعله. كان ريقه قد نشف تماما بسبب تعرّقه الشديد ما أن شاهد الوحش الذي ظهر، وما نتج عن ظهوره.
فما أن خرج تمساح الأعماق التنّينيّ من الشرخ الفضائيّ، عوى ليخبرهم بحضوره، فلم يستطع الكثير من السحرة تحمّل الضيف، وفقدوا الوعي قبل أن يستقبلوه حتّى.
هل كان هناك حوالي 170 ألف ساحر من المستوى4 حتّى المستوى7؟
سقطت تلك الـ170 ألف على الأرض كجثث هامدة في وقت واحد.
(لم يكن للسحرة بالقسم الأوّل من مستويات الربط أيّ حقّ بالوقوف في حضرتي.)
هذا ما فهمه الجميع من ذلك العواء الذي بثّ الرعب في قلوب الجميع والجنرال رعد من بينهم.
الآن، صار هناك 6560 ساحر في المجموع. عليهم أن يقاتلوا حشدا من الوحوش السحريّة التي يصل عددها الإجماليّ إلى حوالي 200 ألف.
***
170 ألف ساحر من المستوى1 حتّى المستوى7 سقطوا غائبين عن الوعي؟
اعتقد العديد منهم أنّهم كانوا يرون كابوسا. فقط ما الذي يحدث في عالمهم هذا؟ لقد صاروا يرون أشياء غير معقولة في السنوات الأخيرة، ولم يبدُ أنّها ستنتهي أبدا، بل ستزيد غرابة وإدهاشا مع مرور الوقت فقط.
لم يتوقّف الأمر عند تلك الـ170 ألف فقط. كان هناك حتّى سحرة بالمستوى8 بالكاد حافظوا على وعيهم لكن سقطوا على ركابهم وشعروا كما لو أنّهم يحملون جبلا فوق ظهورهم.
فقط سحرة المستوى9 وما فوق لم يتأثّروا بعواء المعركة الخاص بالوحش الروحيّ. ومع ذلك، زُرِع فيهم الرعب على الأقلّ وبدؤوا يفكّرون في سيناريوهات أسوء بكثير ممّا توقّعوا في السابق.
حدّقت موراساكي فايوليت إلى الوحش الروحيّ ثمّ صاحت: "هـ-هل ذلك تنّين؟"
اقشعرّت أجساد السحرة لمّا سمعوا ما قالت. لقد فكّروا في نفس الشيء عندما شاهدوا الوحش الروحيّ، لكنّهم لم يريدوا أن يسمعوه أو يقولوه جهرا. لقد كانت تلك الفكرة مرعبة لتلك الدرجة.
ومع ذلك، لم تستطع فايوليت تحمّل الأمر وتساءلت جهرا. لقد كانت تظنّ أنّها أحاطت علما بما يمكن أن يحدث لحدّ معقول، لكنّها علمت الآن كم كانت مخطئة. حشد من الوحوش السحريّة؟ سحرة مستويات الربط؟ لا، لا، لا... هذه لم تكن معركة بين السحرة والوحوش السحريّة منذ البداية. لقد كانت هذه ساحة يظهر فيها هذا الوحش الروحيّ قوّته.
لقد تمنّت في هذه اللحظات بكلّ ذرّة منها أن يأتيَ باسل حالا وفورا. لقد كان هو الأمل الوحيد والطريقة الوحيدة لمواجهة هذا المخلوق.
أحكم الجنرال رعد قبضته أيضا بعدما سمع كلامها. لقد كان يعلم عن هويّة هذا الوحش الروحيّ بسبب باسل، لذا كان يعلم بالضبط كم كانت كلمات فايوليت قريبة للحقيقة.
لم يكن هذا الوحش الروحيّ تنّينا، لكنّه كان وحشا تغذّى لعصور على مصدر الأوردة التنّينيّة، حتّى اكتسب خواصّا تنّينيّة وهذا عندما كان مجرّد وحش سحريّ.
لقد كان الوحش يتأصّل عند اختراقه للمستويات الروحيّة، فينقّي دماءه ويحيي الذكريات الخامدة في سلالة دمه. وكلّما تأصّل الوحش الروحيّ، اكتسب خواصّا أكثر تمنحه قدرات أقوى.
فمثلا هذا الوحش الروحيّ، لاحظ إدريس الحكيم أنّه قد اكتسب مواصفات تنّينيّة عندما جعل باسل وأنمار يخضعان سلاسل الجبال الحلزونيّة. كان لديه جناحان وجلد وحراشف أشبه بالتنّين، وامتلك قدرة فائقة الجودة والندرة، والتي كانت التلاعب بالفضاء، وكلّ هذا قبل أن يتأصّل حتّى.
لاحظ إدريس الحكيم أنّ تمساح الأعماق الفولاذي كان يشوّه الفضاء حتّى يحيّر أعداءه، لكنّه بالفعل كان يحاول أيضا اختراق الفضاء، وأحيانا كان ينجح قليلا فيقلّص المسافة التي كان يقطعها ليزيد بذلك حيرة الأعداء.
واليوم، اكتملت تلك القدرة تماما بعدما تأصّل الوحش الروحيّ عند اختراقه للمستويات الروحيّة، واكتسب قدرة التلاعب بالفضاء تماما. هكذا ظهر فوق رؤوس السحرة بدون أن يعلموا أو يتوقّعوا ذلك حتّى.
نظر سحرة المستوى13 إلى الوحش الروحيّ وبلعوا أرياقهم. قال واحد منهم: "هل من المفترض أن نقاتل ذلك الشيء؟"
لقد كانت هالة الوحش الروحيّ لوحدها كافيّة لجعلهم يستسلمون عن القتال.
قال ساحر آخر بالمستوى13 بعدما فكّر فيما قالته فايوليت: "أليس بالفعل تنّينا إن كان يمكنه الظهور بهذا الشكل؟"
كان الجنرال رعد متوتّرا للغاية. لم يكن هذا الوحش الروحيّ تنّينا، لكنّه كان وحشا روحيّا تغذّى على مصدر أوردة تنّينيّة وتأصلّ كفاية حتّى يظنّ الناس أنّه تنّين.
عصور... لقد كان يعيش في أعماق نهر ددمم التنّين لعصور ينمّي قوّته بدون أن يعلم أحد عن ذلك. ألا يعني هذا أنّه ربّما قد ورث كلّ ما جاء عبر مصدر الأوردة التنّينيّة. قد يكون اكتسب قدرات أخرى خرافيّة. ما الذي يمكنه فعله أيضا غير التنقّل عبر الفضاء؟
رفرف الوحش الروحيّ جناحيه العملاقين فجأة فتراجع العديد من السحرة بضعة خطوات للوراء بشكل غريزيّ.
كانت مواصفات التماسيح غير ملحوظة في الوحش بعد اختراقه إلى المستويات الروحيّة. مال لونه إلى الأزرق الفاتح. كان كلّ جناح يمتدّ لعشرة أمتار، وصار جسده ألمع وأقوى وبدا أقسى ممّا كان عليه بكثير، وحتّى أرجله صارت أطول وأضخم. لقد بدا كتنّين مصغّر.
فتح الوحش الروحيّ بعد ذلك فمه فبدأت الطاقة الروحيّة تتجمّع داخل فمه بالضبط.
في ذلك الوقت الذي قاتل فيه باسل هذا الوحش، فعل تمساح الأعماق الفولاذيّ شيئا مشابها. آنذاك، استنشق الهواء بكميّة كبيرة وزفر بعد ذلك كرة مركّزة من الماء لدرجة لا توصف حتّى صارت كرة الماء تلك عبارة عن قنبلة نسفت نصف ميل عندما التقت بهدفها.
الآن، لم يستنشق الوحش الروحيّ الهواء ولم يزفر كرة الماء. هذه المرّة، ركّز طاقته الروحيّة في فمه، فتجمّعت هناك جزيئات روحيّة لعنصر الماء وضُغِطت كفاية حتّى صارت تشبه كرة زرقاء من الضوء.
"هـ-هل يمكن... لا تخبرني أنّه سيقوم بما يدعى بـ'نفس التنّين'؟"
ارتعب السحرة عندما لاحظوا ما كان يفعله الوحش الروحيّ. لقد كان بكلّ تأكيد يحاول فعل شيء سمعوا عنه في الأساطير فقط.
بدؤوا يصرخون فجأة ونشبت الفوضى. ليس هناك أيّ شخص هنا يمكنه النجاة من مثل ذلك الهجوم لو حلّ عليهم. لقد كان ذلك هجوما بالطاقة الروحيّة أصلا، فكيف لهم كسحرة أن يجابهوا شيئا كذلك؟
صرخ الجنرالات وسحرة المستوى13 والجنرال رعد باستماتة محاولين تهدئة السحرة وإعادتهم لرشدهم. لقد كان هذا الوضع سيّئا للغاية. بدل أن يتعاونوا كلّهم لإيقاف تلك الهجمة، أداروا ظهورهم لها فارّين. لقد زادوا الأمر سوءا فقط. ليس هناك الآن ما يمكن أن يوقف ما قد يكون 'نفس التنّين'.
"توقّفوا! عليكم أن تظلّوا في مواقعكم وتشكّلوا حاجزا سحريّا!"
صرخ الجنرال رعد لكنّ كلامه الذي كان يعيده مرارا لم يبلغ أحدا.
لهثت فايوليت بعدما صرخت مثلما فعل الجنرالات ولم تجد أيّ أحد ليستجيب لها. لقد صار عددهم 6560 ساحر بعد ظهور هذا الوحش الروحيّ، لذا كانت فرص فوزهم منعدمة، لكن كان يجب أن يقاتلوا ويصمدوا حتّى يظهر باسل ويتمنّوا أن تحلّ معجزة ما، لكنّ الخوف تملّك من كلّ هؤلاء.
صرخت فايوليت بعدما لم تعد تتحمّل الأمر أكثر: "أين هو الجنرال الأعلى؟ اللعنة! ألم يكن في وكر القبائل فقط؟ ألم تصلنا الأخبار أنّه علم عمّا يجري هنا بالفعل؟ إذن أين هو بالضبط؟!"
بالفعل، وصل الخبر إلى باسل من خلال لمياء عندما علموا أنّ حشد الوحوش السحريّة بدأ يتحرّك من سلاسل الجبال الحلزونيّة، لذا توقّعوا في البداية أنّ باسل سيظهر مبكّرا هذه المرّة، لكنّه لم يظهر حتّى الآن بالرغم من أنّ المعركة تكاد تنتهي قبل أن تبدأ حتّى. وحتّى عندما حاولوا التواصل معه أحيانا، لم يجبهم. صارت طريقة عدم إجابته للاتّصالات في مثل هذه الظروف شيئا روتينيّا.
علمت فايوليت أنّه لم يكن عليها أن تقول شيئا كهذا في هذه الظروف، لكنّ الخوف واليأس تمكنّا منها أيضا. لقد كانت تعلم أنّه يجب عليها الحفاظ على رزانتها ولا تزيد الأمر سوءا بذكر غياب الجنرال الأعلى الذي كان حضوره مشكوكا فيه منذ البداية، لكنّها لم تعد تستطيع التحمّل أكثر.
توهّجت كرّة الضوء الزرقاء في فم الوحش الروحيّ أكثر وصارت أكثر إشعاعا من ضوء النهار. تقلّص حجمها أكثر فأكثر مع مرور الوقت وصارت ألمع وبدت في بعض الأحيان كما لو كانت تنبض كالقلب. لقد أشار ذلك إلى كمّيّة الطاقة الروحيّة التي كانت مخزّنة هناك وتكاد تنفجر في أيّ لحظة ما أن يطلق العنان لها.
علم الجميع أنّ هذه كانت النهاية بعدما شعروا بالطاقة المهولة التي كانت تنبعث من كرة الضوء التي صارت تبدو كنجم مصغّر. ولهذا، توقّفوا فقط عن الحركة؛ لم يعد هناك أيّ سبب للهرب بعدما علموا أنّ الموت محتوم.
وبالطبع، كان هناك العديد من السحرة الذين وقفوا في وجه العدوّ ولم يهربوا. كان من بينهم الشجاع، ومن بينهم من لم يهتمّ بحياته منذ البداية، ومنهم من كان مجنونا ببساطة.
"فلترسلها إلى هنا يا أيّها المسخ اللعين! سأريك المعدن الحقيقيّ لسحرة إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة."
لقد كان هناك سحرة فخورين حقّا بكونهم سحرة من الشعلة القرمزيّة، وخصوصا أولئك الذين عاصروا حكم عائلة كريمزون قبل حرب الانقلاب.
صرخ ساحر آخر: "في النهاية، لم يأتِ الجنرال الأعلى كما توقّعت. حسنا، ليس كما لو أنّني علّقت عليه آمالي أصلا. على الأقلّ يمكنني الموت موتا شريفا."
نظر هذا الشخص إلى أولئك الذين استسلموا عن الحياة وانتظروا أحدا ما كي يأتي وينقذهم. زاد اقتناعا بفكرة عدم التحلّي بالأمل عندما يتعلّق الأمر بشخص لم يأتِ لإنقاذ عائلته حتّى.
صرخ الجنرال رعد: "فليساعدني الجميع على صنع حاجز! لا حاجة لأن نصنع حاجزا موحّدا، فقط ضعوا حواجزكم السحريّة فوق بعضها. بسرعة! نحن لا نملك وقتا!"
لقد أراد أن يعلم أيضا لماذا لم يظهر باسل حتّى الآن، لكنّه كان واثقا أنّه سيظهر. لقد كان يدري أن باسل يعلم عمّا يجري هنا، ويجب أن يظهر في أيّ لحظة. عليه الآن أن يحافظ على حياة أكبر عدد من السحرة.
انفجار
دوي
أطلق الوحش الروحيّ العنان للنجم المصغّر عن طريق زئير تجاه السحرة.
تضخّم حجم النجم المصغّر وصار كإعصار مائيّ يمكنه أن يمحق أميالا عديدة في لحظة وبدون أن يفقد قوّته.
التوى الإعصار في السماء كثعبان عملاق ولم ينزل عموديّا على الأرض، بل تراقص كمخلوق حيّ وتوازى مع الأرضيّة ثمّ اتّجه نحو السحرة مباشرة. لقد كان الثعبان المائيّ العملاق يريد أن يحصد أرواح السحرة بدون ترك أيّ بقايا منهم.
بلع الجنرال رعد ريقه. لقد علم عن الأمر ما أن شاهد الثعبان المائيّ يتّجه نحوهم من الأمام؛ لا يهمّ أيّ حاجز يضعونه هذه المرّة، لأنّه سيُسحق كما يُسحق البيض إن ضُرب بالحديد.
لقد لاحظ أيضا أنّ الثعبان كان يصير أضخم مع مرور الوقت، وفي الآن ذاته، كان هناك فرقعات مجنونة تجري عبر الإعصار تعمل كمحرّك معزّز لقوّته باستمرار. لقد كانت تلك الفرقعات عبارة عن كرات مائيّة لا تُحصى.
علم الجنرال رعد أنّ واحدة من تلك الكرات المائيّة فقط قادرة على سحق ساحر بالمستوى الثاني عشر بكلّ بساطة.
هذا عنى شيئا واحدا... هذا الوحش الروحيّ لم يكن يعلم معنى التساهل قطّ. كيف له أن يعلم عن التساهل أصلا وهو ظهر مباشرة ولم يسمح حتّى لوحوشه السحريّة أن تفعل شيئا؟
صرّ الجنرال رعد على أسنانه ثمّ صرخ: "اللعنة! أظنّ أنّ هذه هي اللحظة التي يجب أن تظهر فيها يا أيّها الفتى القرمزيّ!"
لقد كان الجنرال رعد يعلم أنّ باسل كان شخصا لا يكرّر الخطأ مرّتين. ولهذا، كان ما يزال يثق في ظهور باسل حتّى اللحظة الأخيرة.
وضع العديد من السحرة حواجزهم السحريّة فوق بعضها بعضا، لكنّهم لم يأملوا أن تنجح محاولتهم اليائسة هذه. لقد كانوا يتصرّفون كمحاربين شرفاء فقط.
ووش ووش ووش
فجأة، ظهرت بعض الظلال ووقفت في وجه الثعبان المائيّ ومدّت كفوفها إلى الأمام كما لو أنّها تنوي إيقاف الثعبان المائيّ.
نظر الجنرال رعد إلى تلك الظلال التي كانت تقف بين السحرة والثعبان المائيّ، ثمّ التفت إلى السماء بشكل غريزيّ ونسي أمر الثعبان المائيّ كما لو كان يعلم أنّ تلك الظلال ستفي بالغرض.
لقد كان النظر إلى السماء من أجل إيجاد الفتى القرمزيّ أهمّ من النظر إلى تلك الظلال التي ستوقف الثعبان المائيّ.
وبالفعل، لم يخب ظن الجنرال رعد، كان باسل قد خرج لتوّه من شرخ فضائيّ، كما فعل الوحش الروحيّ سابقا.
اصطدام
دوي
اهتزّت الأرض، لكن السحرة وجدوا أنفسهم ما يزالون أحياء وفوق الأرض على الأقلّ.
لاحظوا تدريجيّا ما حدث وما سبّب في بقائهم على قيد الحياة.
لقد كان هناك جدار ناريّ أبيض يرتفع إلى علوّ عشرات من الأمتار، ويمتدّ على طول كافٍ لتغطيّة كلّ الضرّر الذي يمكن أن يسبّبه الثعبان المائيّ حتّى لو تحرّك بشكل جانبيّ.
فتح جنرال الشعلة القرمزيّة (الذي منحه باسل حبّة الولادة الجديدة السحريّة) عينيه وفتح وأغلق فمه مرارا كما لو كان يحاول قول شيء ما. لقد كان يعلم ما كانت تلك الظلال، فأراد أن يخبر الآخرين ما هي.
على عكس الجنرال رعد الذي نظر إلى السماء بالفعل، كان هذا الجنرال مركّزا كباقي السحرة على الثعبان المائيّ الذي اصطدم بالحاجز الناريّ الأبيض وما زال يحاول اختراقه لكن بلا جدوى.
لقد كانت تلك الظلال التي بلغ عددها عشرة تدعم الحاجز من نقط مختلفة، وكلّما زادت قوّة الثعبان المائيّ زادت القوّة التي وضعوها في الحاجز.
صرخ ذلك الجنرال أخيرا بعدما جمع شتات نفسه: "تلك هي نسخ الجنرال الأعلى."
لقد كانت تلك الظلال هي نسخ باسل التي استخدمها بإمكانيّة عنصر التعزيز، ولكن هذه المرّة، كان ينقل عنصر الريّاح والنار إليها أيضا.
لقد استخدم باسل شيئا مشابها عندما أنقذهم في قارّة الأصل والنهاية، لذا تذكّر هذا الجنرال تلك التقنيّة جيّدا.
تكلّم أحدهم في هذه الأثناء بعدما رفع رأسه كما كان الجنرال رعد يفعل منذ وهلة بالفعل: "انظروا! إنّه جنرالنا الأعلى، باسل!"
اتّجهت في هذه الأثناء كلّ النظرات إلى ناحيّة باسل. ذرف مباشرة العديد من السحرة الدموع، وحتّى الجنرالات تشارلي وبراون وكورو صاروا عاطفيّين ولم يستطيعوا إيقاف دموعهم. لقد رأوا الموت قبل قليل لكنّهم ما يزالون أحياء، وهذا بفضل باسل.
نظر الأشخاص الذين وثقوا في باسل إلى بعضهم بعضا ثمّ إلى باسل وصرخوا: [هواااه!]
نظر الأشخاص الذين لم يضعوا ثقتهم في باسل إليه، وأحكموا قبضاتهم على أسلحتهم السحريّة والأثريّة.
لقد أحسّوا بالقشعريرة. لم يكن ذلك خوفا، بل كان حماسا. لقد جاء الجنرال الأعلى. حقّا ظهر كما قال أولئك...
ارتفع ضغط دمهم أكثر من أيّ وقت مضى وانضمّوا إلى الآخرين في صراخهم، وأعادوا الحياة إلى ساحة المعركة التي كان سكون الموت فقط ما يتخلّلها.
[باسل! باسل! باسل! باسل!]
صاح الجميع. لقد أنقذهم الجنرال الأعلى من ذلك الهجوم المهول. لقد ظهر السيّد الروحيّ ليقاتل الوحش الروحيّ.
اطمأنّ العديد من السحرة. على الأقلّ، هناك فرصة لهم حتّى يقاتلوا حتّى لو كانوا سيموتون.
نعم، لم يعتقدوا أنّ ظهور باسل أنقذهم تماما من الموت في هذه المعركة، بل أنقذهم من الموت بسبب هجوم غامر لا يمكن القتال ضدّه حتّى. لقد أرادوا أن يسفكوا دماء الوحوش اللعينة التي كانت تحاول غزو أراضيهم، لكنّهم كانوا سيموتون كالحشرات بدون حول ولا قوّة. فقط كم كان ذلك محبطا؟ كم كان ذلك مخزيا؟
وفي غضون كلّ هذا، ركّز باسل نظره فقط على الوحش الروحيّ.
'إنّه أقوى ممّا توقّعت.'
كان هذا أوّل شيء فكّر فيه باسل لمّا رأى الوحش الروحيّ. ومع ذلك، لقد توقّع باسل أن يفوق الوحش الروحيّ توقّعاته. لم يكن ليعلم ببساطة أيّ درجة يمكن أن يبلغها هذا الوحش الذي تغذّى لعصور على مصدر الأوردة التنّينيّة واخترق إلى المستويات الروحيّة معتمدا على مصدر الطاقة الهائل ذاك.
انظر فقط إلى ذلك الثعبان المائيّ الذي أطلقه هذا الوحش الروحيّ. لقد كان ما يزال يزداد قوّة فكان على باسل إمداد نسخه بطاقة أكثر مع مرور الوقت. فقط متى ستخور قوى ذلك الثعبان المائيّ؟
لعق باسل شفتيه بينما ينظر إلى الوحش الروحيّ وأحكم قبضتيه بدون شعور قبل أن يرخيهما ويهدأ.
لم يزح باسل نظره من على الوحش الروحيّ وقال: "هل تذكرني؟"
لقد كان يخاطبه. لقد كان يعلم أنّ هذا وحش روحيّ كان على الأغلب أقوى من الوايفرن الذي استحوذ على روحه بالفعل.
لو كان الوايفرن وحش يقال أنّه 'ربّما' ينشقّ من سلاسة ددمم التنانين، فهذا الوحش الروحيّ ها هنا قد تغذّى على مصدر أوردة تنّينيّة لعصور، ربّما أطول بكثير من الوقت الذي عمّر فيه ذلك الوايفرن حتّى.
كان الوحش الروحيّ ينظر إلى باسل الذي ظهر بشكل مفاجئ كما فعل هو بنفسه. لقد كان مهتمّا أيضا في هذا البشريّ العجيب. لم يشعر بأيّ شيء مميّز في هذا الفتى، لكن ليس أيّ بشريّ يمكنه إيقاف أحد أقوى هجماته.
فتح الوحش الروحيّ فمه ببطء فسمعه الجميع يتكلّم بصوته العميق: "ولماذا عليّ أن أتذكّرك؟"
***
لقد كان باسل يريد التكلّم مع هذا الوحش قبل أيّ شيء. فكما خاطب الوايفرن، خطّط لفعل نفس الشيء مع الوحش الثاني الذي سيستحوذ على روحه.
لقد كان باسل يفكّر أيضا في الطريقة التي جمعته مع هذا الوحش من جديد. لقد كان يخطّط لزيارة أعماق نهر ددمم التنّين في نهاية المطاف من أجل مصدر الأوردة التنينيّة، وعلم أنّه سيقابل هذا الوحش مرّة أخرى، لكن بعدما كسب باسل روحه الثانيّة وقرّر أنّه سيجعل عنصريها هما الماء والأرض، قرّر أنّ روح هذا الوحش ستكون الروح الثانيّة التي سيستحوذ عليها.
لقد كان يجب على الساحر الروحيّ أن يستحوذ على روح وحش لديه عنصر يماثل أحد العنصرين اللذين لدى الساحر بنفسه. فمثلا، كان لدى باسل عنصريْ النار والريّاح، وكان لدى الوايفرن عنصر النار. والآن، صار يملك باسل عنصريْ الماء والأرض أيضا، لذا وضع عينيه على هذا الوحش الذي يملك عنصر الماء.
الوحش الذي كان له ارتباط عميق للغاية بمصدر الأوردة التنّينيّة... لقد كان هذا الوحش مغريا فقط لأنّه استنفع من مصدر الطاقة الهائل ذاك، لكنّه كان مغريا أكثر بكثير عند التفكير في ارتباطه بمصدر الأوردة التنّينيّة مباشرة.
أشار باسل إلى نفسه ثمّ ردّ: "هل تذكر الشخص الذي أزعج نومك آخر مرّة؟"
حدّق الوحش الروحيّ إلى باسل وركّز على 'آخر مرّة'. بالطبع تجرّأت بعض الوحوش والأشخاص على إزعاج نومه على مرّ العصور، لكن آخر مرّة كانت قبل حوالي سنتين. ظهر بشريّ ضعيف في تلك الأثناء وأزعجه كثيرا لكنّه هرب في النهاية.
بالطبع كان السبب الذي سمح للبشريّ بالهروب هو انشغال الوحش الروحيّ في تلك الأثناء بغذائه، لكنّه انزعج عندما تذكّر أنّ الشخص الذي جعله منزعجا وأيقظه من نومه قد اختفى.
لم يكن هناك أيّ وحش سحريّ يمكنه إزعاج هذا الوحش الروحيّ في السنوات الأخيرة لأنّ الوحوش كلّها صارت عليمة لرعبه وتجنّبت نهر ددمم التنّين كلّيّا، ولم يكن أيّ ساحر يمكنه أن يبلغ مركز سلاسل الجبال الحلزونيّة ويزعج هذا الوحش. ولهذا، كان باسل متأكّدا أنّه كان آخر شخص أزعج الوحش الروحيّ.
حملق الوحش الروحيّ إلى باسل: "إذن أنت هو ذلك الحشرة. حسنا، هذا كان خارج توقّعاتي. لم أظنّ أنّك ستأتي لمواجهتي هكذا بعدما هربت وذيلك بين رجليك. عرفت انّك غبيّ باستفزازك لي في تلك المرّة، لكن يبدو أنّك أغبى من ذلك بكثير بالنظر إليك قادما إليّ مرّة أخرى. ماذا الآن؟ هل ستهرب مرّة أخرى؟"
سأل الوحش الروحيّ باستهتار. يهرب؟ كما لو أنّه سيسمح له بذلك هذه المرّة. وبالأحرى، لا يجب عليه أن يسمح لشخص بدّد هجومه تماما.
نعم، كان الثعبان المائيّ قد اختفى بالفعل بحلول هذا الوقت، وكلّ ما ظلّ هناك هو الأجسام العشرة التي تشكّلت من طاقة عنصر التعزيز التي تحمل معها طاقة عنصريْ النار والريّاح.
جعلت الريّاح النيران البيضاء تصير أقوى، وعزّز عنصر التعزيز ذلك أكثر حتّى صارت حرارة الأجسام العشرة يمكنها إذابة الحديد عن بعد أمتار.
ابتعد السحرة كثيرا عن تلك الأجسام لأنّها كانت خطرا على أجسادهم، ونظروا إلى ما كان يدور بين الجنرال الاعلى والوحش الروحيّ من أحاديث. لقد كانوا متفاجئين أنّ باسل قد التقى بهذا الوحش الروحيّ مسبقا. وماذا قال؟ هل قال أنّ الجنرال الأعلى قد هرب منه؟
لم يطل انتظارهم من أجل تأكيد كلام الوحش الروحيّ. أجاب باسل بدون تأخّر: "بالطبع سأهرب منك في تلك الحالة. قد أكون مغامرا، لكنّني لست غبيّا. لا أخاطر بحياتي إلّا إذا كان المقابل يستحقّ. أنا ظننت فقط أنّ قتالي ضدّك تحتّم أن ينتظر أكثر، لأنّ هدفي كان إخضاع سلاسل الجبال الحلزونيّة وليس قتالك."
عبس السحرة بعد سماع كلام باسل. إذن لقد هرب حقّا! لكن انتظر... هل قال لتوّه شيئا عن إخضاع سلاسل الجبال الحلزونيّة؟ ما الذي يقصده بذلك؟
بلع الجنرال رعد ريقه لمّا سمع عن هذا. هل يمكن أنّ الفتى القرمزيّ قد جعل ثالث أكبر منطقة محظورة في العالم تحت سيطرته بالفعل؟
استهجن الوحش الروحيّ كلام باسل وردّ: "هل تعتقد أنّ بشريّا مثلك يمكنه أن يسيطر على منطقتي الخاصّة؟"
لقد انزعج الوحش الروحيّ أكثر بعد كلام باسل الكبير. لقد كانت سلاسل الجبال الحلزونيّة منطقته الخاصّة. حتّى لو ظهرت وحوش روحيّة في نفس الوقت معه، فلم تكن لتجرؤ على التشكيك في سيادته، لكنّ هذه الحشرة التي هربت منه تخبره أنّها أخضعت منطقته.
هزّ باسل كتفيه بشكل طفيف ثمّ نظر إلى الـ170 ألف ساحر المغمى عليهم.
رفع سبّابته كما لو أنّ فكرة طرأت في باله وقال: "حسنا، ما رأيك في هذا؟"
هل أسقط الوحش الروحيّ 170 ساحر مغمى عليهم؟
هل عوى من أجل فعل ذلك؟
تصفيق
طبق باسل كفّيه مصفّقا، وما أن فتح ذراعيه على مصراعيهما بعد ذلك حتّى امتدّت هالته وطاقته الروحيّة على ساحة المعركة شاملة بذلك السحرة الوحوش السحريّة.
ووش
عصفت الريّاح فجأة بأوجه السحرة والأعداء وتخلّلت أرواحهم وليس أجسادهم فقط.
من جهة، صعدت القشعريرة مع ظهور السحرة وارتدعت أجسادهم بشدّة. لقد كان ذلك الشعور غريبا للغاية. لقد أحسّوا بالخوف الشديد لكن بالحماس والاحترام الكبير تجاه باسل.
أمّا في الجهة الأخرى، فالأمر لم يكن يسيرا على الوحوش السحريّة؛ لقد أحسّت بثقل روح باسل يحاول سحق أرواحها. شعرت أنه يرى من خلالها ويمكنه أن يتحكّم فيها.
تذكّرت هذه الوحوش السحريّة ببطء لكن بثبات اليوم الذي جعلها فيه باسل تهلع وتهرب منه.
في ذلك الوقت، قتل باسل زعيميْ سلاسل الجبال الحلزونيّة اللذين حكما المنطقة المحظورة لأنّه سيّدها الحقيقيّ كان في سبات عميق طوال الوقت في أعماق نهر ددمم التنّين. ولأنّه قتل الزعيمين، التصقت به آثار روحيّة جعلت الوحوش السحريّة تدرك أنّه قتل زعيميْها. وما أن كانت ترى هذه الآثار، كانت تهرب بسرعة كبيرة، وهذا ما عناه إخضاع منطقة محظورة.
وبنفس الطريقة لكن بفعّاليّة أكبر، أخضع باسل قارّة الأصل والنهاية فلم تستطع الوحوش السحريّة هناك الاقتراب منه بعدما لاحظت الآثار الروحيّة لزعيمها 'الوايفرن'.
والآن، ذكّر باسل هذه الوحوش بالآثار الروحيّة التي التصقت به بعدما قتل زعيميْها السابقين.
ومع ذلك، كانت هذه الآثار غير مفيدة لتلك الدرجة ضد الوحوش السحريّة من سلاسل الجبال الحلزونيّة بعد الآن. يوجد حاليّا وحش روحيّ والذي يُعدّ سيّدا حقيقيّا للمنطقة المحظورة.
استعمل باسل تلك الآثار الروحيّة فقط لإضافة نكهة بسيطة، لأنّه ما طبّق هنا كان شيئا أفضل بكثير من ذلك.
استخدم باسل روحيْه معا واللتين كانتا شيئا لا مثيل لهما في العوالم بأكملها. ما أنّ طبّق ضغط روحيه معا حتّى جعل الوحوش تكاد تختنق من شدّة كثافة الروحين معا وقوّتهما.
ومع ذلك، لم تكن تلك النهاية، بل أضاف أيضا روح الوايفرن إلى المعادلة فجعل الوحوش السحريّة تعلم أنّ وحشا روحيّا قد سبق ووقع تحت رحمة هذا الساحر الروحيّ.
غوااه جيااه
عوت الوحوش السحريّة بعد ذلك بشكل غريب واضطربت كثيرا حتّى بدأت تجري هناك وهناك وتتداخل فيما بينها. وفي نهاية المطاف، بشكل غريزيّ، ابتعدت الوحوش السحريّة إلى أبعد مكان يمكنها أن تبتعد إليه عن باسل. لقد كانت تريد فقط أن تهرب من باسل باستماتة.
نظر الوحش الروحيّ إلى هذا الأمر بتعجّب. هل جعل هذا البشريّ الوحوش السحرّية تهرب للتوّ؟ الوحوش السحريّة التي لا يمكنها عصيان الوحش الروحيّ؟ أيّ خدعة استعمل بالضبط؟ ولمَ روح هذا البشريّ أقوى بكثير ممّا تبدو عليه؟
لم يرَ الوحش الروحيّ في أوّل مرّة أيّ شيء مميّز في باسل، لذا ظنّ أنّه مجرّد ساحر روحيّ تافه، لكن ما هذا؟
بالطبع جعله باسل يظنّ هذا. فباسل كان يخفي قوّته، ولم يخفيها ببساطة، بل استعمل التحكم الحكيم السليم في ذلك. لو لم يكن الشخص بمستوى شاهق أو لديه هبة ما مثل عينيْ الحقيقة، فلم تكن هناك أيّ وسيلة ليكتشف بها ما يريد الحكيم السياديّ إخفاءه.
نظر السحرة إلى الوحوش السحريّة تهرب بعيدا بعدما فعل باسل ما فعل. هل يمكن للساحر الروحيّ فعل شيء كهذا أيضا؟
بالطبع لم يكن الساحر بإمكانه فعل شيء كهذا إلّا إذا كان يفوق الوحش الروحيّ ببضعة مستويات. لربّما عندها يمكنه جعل الوحوش السحريّة تهابه لدرجة يجعل فيها تحكّم الوحش الروحيّ عديم المعنى.
لقد نجح باسل لأنّه أطلق العنان لشيء لم يسبق أن ظهر في هذا العالم.
نقص عدد الوحوش السحريّة شيئا فشيئا بينما يزداد اندهاش الجميع. هل ربّما سيطر الجنرال الأعلى حقّا على سلاسل الجبال الحلزونيّة؟ ألهذا كانت الوحوش السحريّة خائفة منه لدرجة عصيانها لسيّدها الروحيّ؟
اختفى نصف عدد الوحوش السحريّة فبلع السحرة أرياقهم. لم يتوقّف انخفاض عدد الوحوش السحريّة التي بدا أنّها تعود أدراجها. لقد كانت تريد الابتعاد عن باسل، لكنّها كانت تهرب إلى منطقتها المحظورة غريزيّا.
اختفى ثلثا الوحوش السحريّة. نظر السحرة إلى باسل كما لو كان مخلوقا ساميّا من نوع ما.
ومع ذلك، لم تتوقّف الوحوش السحريّة عن هربها. لقد كانت تتناقص تدريجيّا بشكل تصاعديّ من حيث مستواها. والآن، بدأت تهرب حتّى وحوش المستوى10 والمستوى11.
بقيت فقط وحوش المستوى12 والمستوى13، ولكن حتّى من بنيها هربت بعض الوحوش. وفي النهاية، انخفض عدد الوحوش السحريّة التي أتت إلى المعركة 500 وحش سحريّ. 300 بالمستوى12 و200 بالمستوى13.
نظر باسل إلى ما تبقّى من الوحوش السحريّة ثمّ قال: "ما هذا؟ ظننت أنّني سأتخلّص منها كلّها."
استدار إلى جهة الوحوش الروحيّ وقال: "لكن أظنّ أنّك لن تسمح بذلك."
بالفعل، كان الوحش الروحيّ يفعل ما بوسعه من أجل التحكّم في الوحوش السحريّة، لكنّه استطاع أن يتحكّم فقط في الوحوش التي كان لديها مستوى مرتفع نسبيّا والتي كانت أكثر خضوعا له.
كلّما كان مستوى الوحوش أقلّ، ازدادت عرضتها للتأثّر بعامل خارجيّ كباسل. ولهذا هربت الوحوش الضعيفة أوّلا قبل أن تتأثّر الوحوش الأقوى منها لاحقا.
ارتجفت أجساد السحرة بعد رؤية النتيجة النهائيّة لما فعله باسل. هل تخلّص لتوّه من حوالي 200 ألف وحش سحريّ فقط بحضوره؟
ما هذا؟ ما هذا؟ فقط... بالضبط... ما هذا؟
نظرت فايوليت إلى باسل ثمّ قالت: "لـ-لقد كنت مخطئة للغاية!"
لقد ظنّت أنّها توقّعت الأحداث في البداية، لكن بعد ظهور الوحش الروحيّ علمت أنّها كانت مخطئة، ومع ذلك، توقّعت مرّة أخرى ما يمكن أن يجري ولو ظهر باسل، إلّا أنّها كانت مخطئة بشأن ذلك أكثر بكثير من المرّة الأولى.
هل عوى الوحش الروحيّ من أجل إقصاء 170 ألف ساحر بالمستوى4 حتّى المستوى7؟ جنرالنا الأعلى جعل حوالي 200 ألف وحش سحريّ بمختلف المستويات يهرب من شدّة الرعب فقط بتصفيق منه – هذا ما فكّر فيه كلّ السحرة.
كم كان ذلك رائعا وبطوليّا؟
صعدت قشعريرة الحماس مع أجساد السحرة لمرّات عديدة ومتتاليّة بينما ينظرون إلى باسل.
[باسل! باسل! باسل! باسل!]
تردّد اسم باسل أكثر من المرّة التي أنقذهم فيها عندما أتى إلى هنا.
في المرّة السابقة، كان قد أنقذهم من هجوم الوحش الروحيّ الهائل، لكنّه الآن أنقذهم من التفكير في أنّهم ميّتون لا محالة. الآن يمكنهم قتال 500 وحش سحريّ ولو كانت الوحوش السحريّة بالمستوى12 و13 ما تزال تفوق عدد السحرة بنفس المستوى بشكل كبير.
لقد كان هناك 6560 ساحر، وحتّى لو قلّ عدد سحرة المستوى12 و13 عن عدد الوحوش السحريّة بنفس المستوى، فيمكن تغطيّة ذلك نوعا ما بباقي السحرة.
حتّى لو حدثت تضحيّات، لن تكون هناك مجزرة من طرف واحد كما كان سيحدث عندما كانت الوحوش السحريّة ما تزال بعددها الأصليّ.
نظر باسل إلى السحرة ثمّ رضى بحماسهم. لقد صاروا الآن في حالة يمكنهم قتال أيّ شخص وأيّ شيء على عكس السابق. لم يكن إنقاذهم كافيّا، لذا أراد أن يمنحهم شيئا أكبر من ذلك. فلو كان هنا في البداية، ما كان ليسمح للوحش الروحيّ بإقصاء 170 ألف ساحر بتلك البساطة. وبالطبع، كان هناك سبب وجيه لغيابه بالرغم من أنّه امتلك كلّ الوقت ليحضر.
استدار باسل ثمّ نظر إلى الوحش الروحيّ وقال: "هل هذا كافٍ لجعلك تصدّق كلامي السابق؟"
لقد كان باسل يتحدّث عن إخضاعه لسلاسل الجبال الحلزونيّة.
فهم الوحش الروحيّ سؤاله هذا، لكنّه لم يرد لأنّ الإجابة كانت واضحة، وفي المقابل، سأل شيئا آخر: "من أنت؟"
بالطبع ما فعله باسل كان مدهشا للغاية، لكنّ الوحش الروحيّ استعاد رزانته بسرعة. لقد كان عليه أن يهدأ حتّى لا يسيطر هذا البشريّ على مجرى الأمور، لذا سأل بهدوء.
أجاب باسل بسرعة: "أنا باسل."
لقد سأله الوايفرن فيما سبق عن نفس الشيء، وأجاب بنفس الطريقة. لقد كانت هذه هي طريقة إجابته الصريحة لمثل هذا السؤال.
لم ينزعج الوحش الروحيّ كما فعل الوايفرن. لم يكن يتوقّع إجابة مقنعة أصلا، فهو سأل غريزيّا بعدما فعل باسل ما فعله.
لقد كان هذا الوحش الروحيّ مختلفا عن الوايفرن. لقد كان يحلّل باسل حاليّا من أجل فهم ماهيّته بدل الانفعال.
وكما لاحظ باسل مسبقا، كان هذا الوحش أقوى من الوايفرن بالفعل، لكن ذلك إذا قارنتهما كوحشين روحيّين فقط، ولم تضف إلى المعادلة القوانين العالميّة التي استطاع الوايفرن فهمها فصار يستخدم فنّا قتاليّا وإمكانيّات السحر مثل السحرة.
لم يستطع باسل أن يقول أنّ هذا الوحش الروحيّ أفضل من ذلك الوحش الروحيّ. من يهتمّ؟ فكلاهما سيكونان له أصلا.
ازداد حماس باسل لأنّه كان يقترب أكثر من هدفه الحاليّ، ألا وهو إنشاء روحين كاملتين مكتملتين. يمكنه عندها تجربة العديد الأشياء.
جعله حماسه هذا يحكم قبضته اليمنى، وفي نفس الوقت أحاطته التعاويذ الذهنيّة الروحيّة لفنونه الروحيّة الثلاثة.
لقد كانت تلك إشارة على قدوم 'لكمة انفلاق السماء'.
إذا عنى هذا شيئا، فهو أنّ هذا القتال سيكون قصيرا للغاية على عكس المرّة السابقة التي كان فيها طويلا للغاية ضدّ الوايفرن.
لم يكن لدى باسل أيّ صبر؛ لقد كان يريد أن يشبع فضوله بسرعة كبيرة.
***
ضاقت عينا الوحش الروحيّ مباشرة بعدما رأى شيئا عجيبا يحدث أمامه. لقد كانت هناك تعاويذ ذهنيّة روحيّة من المفترض أن تتداخل في بعضها بعضا فيُلغى مفعولها على القوانين العالميّة نتيجة لذلك، لكنّ هذه التعاويذ كانت منسجمة تماما وتفاعلت مع بعضها فأنشأت في النهاية نمطا وتعاويذ جديدة تماما.
لقد كان ذلك يشير إلى استعداد باسل لاستخدام فنونه القتاليّة الروحيّة كلّها في نفس الوقت. لقد كان هذا شيئا خاصّا بالحكيم السياديّ فقط عبر العصور. لم يمكن لأحد غيره استخدام أكثر من فنّ قتاليّ واحد، لأنّ التعاويذ تتداخل في عملها إن استُخدِم أكثر من فنّ قتاليّ واحد وتفشل في تطبيق حكمها على القوانين العالميّة.
ما جعل الحكيم السياديّ قادرا على استخدام أكثر من فنّ قتاليّ واحد هو الحكمة السياديّة التي امتلكت التحكّم الحكيم السليم. لقد كان هذا التحكّم يشمل أيّ شيء حرفيّا، ولو عنى ذلك مظهر الشخص حتّى. حتّى إدريس الحكيم كان يستخدم التحكّم الحكيم السليم من أجل تغيير هيئته وهالته. كان يتحكّم في أعضاء جسده كما يحلو له، ويجعل هالته شبيهة بهالة أحد آخر كما يريد.
البصيرة الحكمية السحيقة، والتحليل الحكيم السامل، والتحكّم الحكيم السليم. لقد كانت هذه مجرّد ثلاث درجات من الدرجات السبع للحكمة السياديّة، إلّا أنّها كانت مذهلة لهذه الدرجة. كان يسيل لعاب الهرمى المقموعين والسلاطين من أجل الحكمة السياديّة لسبب. لقد كان أولئك أشخاصا بلغوا قمّة القوّة في العوالم الروحيّة، لكنّهم كانوا ما يزالون يحسدون مالك الحكمة السياديّة.
لماذا؟ لأنّهم لو امتلكوا شيئا كذلك، لكانت لديهم فرصة كبرى في التحرّر من القمع الذي يتعرّضون له فقط لأنّهم موجودون. لو كانوا حكماء سياديّين، لاستطاعوا تجاوز اختبارات الجدارة ولو بصعوبة. أمّا بحالهم كما هم عليه، لم تكن لديهم تلك الفرصة حتّى.
والآن، بعدما اختفى الحكيم السياديّ، وشاع خبر موته، سيتواثب السحرة الروحيّون وكلّ من هبّ ودبّ نحو أرض الوهب والسلب.
لا أحد يعلم أنّ إدريس الحكيم حرص على توجيه حكمته السياديّة إلى شخص ما ولو عنى ذلك اندثاره من الوجود، بدل أن يتركها تعود إلى أصلها. لا أحد يمكنه تخيّل الحكيم السياديّ يخون أرض الوهب والسلب ويلقي بنفسه في الهاوية من أجل شخص آخر. أو لم يكن حكيما كفاية ليعلم أنّ خيانة أرض الوهب والسلب شيء لا يجب أبدا الإقدام على فعله مهما كان الحال.
ومضت قبضة باسل فجأة بضوء أبيض تحيطه رياح كانت تدور بسرعة فائقة وتكهربت من حين إلى آخر. وفي النهاية، ومض ضوء أزرق فاتح محيطا بالضوء الأبيض والريّاح. كان ذلك عنصر التعزيز الذي جعل من قوّة النيران والريّاح أكثر شراسة، لكن لم يتوقّف عند هذا فقط، بل عزّز حتّى الفنون القتاليّة الروحيّة فتوهّجت التعاويذ أكثر بعدما صار حكمها على القوانين العالميّة أقوى.
كان الصمت يعمّ المكان، لكنّه صار هزّازا فجأة ولم يطل الأمر حتّى وصلت الهزّة إلى الأرض فصارت زلزالا. بدأ السحرة يفقدون توازنهم بينما ازدادت قوّة الزلزال.
نظروا كلّهم إلى باسل وبلعوا أرياقهم في نفس الوقت كما لو كانوا يحاولون مزامنة تصرّفاتهم، وبالطبع لم يختلف الوحش الروحيّ عنهم كثيرا. لا يهم كم كان يحاول المحافظة على رزانته؛ لقد كان في حضرة شيء شاذ للغاية، شيء لم يسبق له أن كان، شيء لا يجب أن يحدث.
نظر باسل إلى الوحش الروحيّ، فصعدت القشعريرة مع الوحش الروحيّ مباشرة كما لو أنّ صاعقة سقطت عليه. فتح عينيه على مصراعيهما ونبض قلبه بسرعة كبيرة.
حدث شيء غريب له في نفس الوقت – توهّج حجر أصله بشكل غريزيّ.
لم يتوقّف الأمر عند ذلك الحدّ. تراجع للخلف بعدما رفرف جناحيه بسرعة كبيرة بشكل غريزيّ.
بلغت حواسّه الخمس وحتّى حواسّه الروحيّة أقصى درجاتها، وأيضا بشكل غريزيّ.
لم يفعل أيّ شيء من هذا بإرادته، بل غريزته فرضت عليه ذلك.
وعندما حدث كلّ هذا، أدرك الوحش الروحيّ شيئا. يجب أن يظهر كلّ ما لديه من البداية ويقاتل بكامل قوّته، وإلّا سيكون وجبة سريعة لتلك القبضة التي كانت تبدو كفم يصرخ بجوعه. شعر الوحش الروحيّ أنّه سيكون فريسة لذلك الفم الشرس.
وفي الواقع، لم يتوهّم الوحش الروحيّ هذا. بل بالفعل صرخت قبضة باسل من شدّة الريّاح التي دارت فيها واحتكّت مع نفسها حتّى صنعت أصواتا كموسيقى الموت. أمّا صورة الفم الشرس، فتلك كانت صورة تلقّاها الوحش الروحيّ بسبب نيّة قتل باسل التي ركّزها في قبضته.
لقد كان هذا البشريّ يبدو مجرّد فتى لتوّه، فلماذا يبدو الآن كوحش عتيق وسامٍ؟ لماذا يملك هالة تخبرني أنّ دماءه أرقى من دمائي التي ستغدو يوما ما دماء تنّين حقيقيّ؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا أشعر بالخوف من هذا البشريّ؟ - كانت هذه أفكار الوحش الروحيّ حاليا.
رأى الوحش الروحيُّ البشريَّ يرفع قبضته كما لو أنّه يستعدّ للقدوم من أجل ضربه، فعلم أنّه عليه الاستجابة قبل ذلك. تغيّر الفضاء حوله وبدأت صورته تختفي تدريجيّا لكن بسرعة كبيرة.
ومع ذلك، حتّى تلك السرعة لم تكن كافيّة لمراوغة تلك القبضة.
باااااام
صدى
انتقلت قبضة باسل عبر 'الامتداد الكليّ' نحو الوحش الروحيّ وصدمته.
لقد استخدم باسل في تلك القبضة إمكانيّات عناصر النار والريّاح والتعزيز، وفنونه القتاليّة الثلاثة، وحكمته السياديّة من أجل دقّة لا مثيل لها. لم يحتج باسل أن يقترب من الوحش الروحيّ من أجل ضربه، لأنّه ملك كلّ ما يتطلّبه الأمر من أجل جعل هجمته ذات المدى القريب تصير هجمة ذات مدى بعيد بدقّة لا متناهيّة.
الآن يمكن باسل استخدام 'الامتداد الكليّ' من أجل إرسال أيّ نوع من الهجمات تجاه أعدائه، وإذا أضاف إلى المعادلة فن 'قضاء الفضاء' القتاليّ بمرحلته الروحيّة، تصبح إصابة العدوّ ولو من مسافة بعيدة أكيدة.
حتّى لو كان للوحش الروحيّ قدرة التلاعب بالفضاء، وحتّى لو كان سريعا للغاية، كان من المستحيل له أن يراوغ 'قبضة انفلاق السماء' التي سخّرت فنون الفضاء والضغط والدفع القتاليّة وإمكانيّات عناصر من الدرجة الأولى.
انفجار! انفجار! انفجار!
انطلق جسد الوحش الروحيّ محلّقا نحو الآفاق بينما يخترق سرعة الصوت مرارا ويفجّر الهواء حوله قبل أن يصطدم بالوحوش السحريّة التي كانت ما تزال هناك.
عانت وحوش المستوى12 و13 من بعض الإصابات فقط لأنّها كانت في طريقه، لكنّها لم تستطع إيقاف جسد الوحش الروحيّ الذي احتكّ مع الأرض وصنع طريقا عميقا حتّى توقّف أخيرا بعد بضعة اميال.
فتح السحرة أفواههم بعد رؤية تلك القوّة المدمّرة التي أمكنها سحق جبل برمّته كصخرة صغيرة. لقد كانت تلك قوّة غاشمة. فهموا أخيرا كيف لباسل أن يستطيع إخضاع منطقة محظورة ويجعل الوحوش السحريّة تهرب بذلك الشكل. وبالطبع، ما كانت هذه في الواقع إلّا جزء من قوّة باسل الكاملة، وليس الشيء الذي سمح بجعل الوحوش تهرب حتّى لو عصت الوحش الروحيّ.
أمّا الوحوش السحريّة، فقد كانت كلّها جامدة في أماكنها. ما الذي يمكنها فعله عندما شاهدت سيّدها الروحيّ؟
'ما الذي حدث للتو؟'
كان هذا هو السؤال الذي طرح في بال الوحش الروحيّ الذي كان راقدا في مكانه بينما ينظر إلى جسده الذي كان مكسورا في العديد من الأماكن، كما لو أنّ صدمة تلك اللكمة انتقلت مع جسده بالكامل وكسرت كلّ ما يمكنها أن تكسر.
كان ذلك بسبب فنّ 'صدم العالم' القتاليّ.
كان جسده مجروحا أيضا، وكان هذا بسبب فنّ 'سحق الخلق' القتاليّ وعنصر الريّاح.
كان محروقا بسبب النيران البيضاء النادرة.
ومع ذلك، ما زال يفكّر في كيف ضُرِب؟
لقد كان متأكّدا أنّه انتقل عبر الفضاء في اللحظة الأخيرة. هل يمكن أنّ ذلك البشريّ ضربه قبل أن يهرب عبر الفضاء؟
لقد كان يحاول تفسير ما حدث، لكنّه لم يجد أيّ تفسير مقنع.
لم يكن ليعلم الوحش الروحيّ أنّه بالفعل انتقل عبر الفضاء، إلّا أنّ باسل اخترق الفضاء نفسه بلكمته التي تفلق السماء وجعل من انتقال الوحش الروحيّ عبر الفضاء عديم الفائدة. لقد كان فنّ 'قضاء الفضاء' بمرحلته الروحيّة قويّا لهذه الدرجة، لكن ما كان مخيفا أكثر كانت رؤية وتحليل وتحكّم الحكيم السياديّ. كانت الحكمة السياديّة هي ما سمح لباسل بتحقيق كلّ هذا بدقّة كبيرة.
نهض الوحش الروحيّ بجسده المجروح بعد مدّة قصيرة، ثمّ نظر إلى باسل من بعيد. لقد كان ينظر إلى باسل كمخلوق أسمى منه هذه المرّة. لم يعد هذا البشريّ حشرة في نظره إطلاقا، بل كان مخلوقا أفضل منه بكثير.
نظر باسل إلى الوحش الروحيّ وقال: "همم، إذن هذا هو ناتج استخدام قبضة انفلاق السماء عبر الامتداد الكليّ؟ يبدو أنّه عليّ استخدامها مباشرة من أجل تحقيق نتيجة مرضيّة."
كاد من سمعه يتقيّا الدماء. كلّ تلك القوّة لم تكن كافيّة؟ إذن ما الكافي؟ شقّ العالم لنفصين؟
أضاف باسل كما لو أنّه يجيب أسئلة المتفرّجين: "يجب على الأقلّ أن تجعله عاجزا عن الحركة تماما إلّم تؤثّر بحجر أصله."
كان باسل يخاطب نفسه فقط بينما يحلّل قوّة قبضته وفعّاليتها ضدّ الوحش الروحيّ.
تنهّد ثمّ قال: "على كلٍّ، لننهِ هذا بسرعة."
ما أن قال باسل ذلك حتّى ظهر فجأة في يده رمحا. لقد كان ذلك الرمح الطاغيّة.
بدا الرمح الطاغيّة هادئا على غير عادته. لقد كان في الواقع هادئا منذ مدّة طويلة، منذ الوقت الذي اكتشف فيه باسل موت عائلته. لربّما كانت تلك مراعاة الرمح الطاغيّة.
تكلّم باسل تخاطريّا معه: "ما رأيك؟ هل أنت مستعدّ لنحر وحش روحيّ يمكنه تعزيز قدراتك بشكل أكبر؟"
لقد كان الرمح الطاغيّة يتخصّص في التلاعب بالفضاء، لذا أراد باسل أن يجعل روح هذا الوحش الروحيّ مندمجة مع الروح الثانيّة التي يرقد فيها الرمح الطاغيّة.
اهتزّ الرمح الطاغيّة قليلا. لقد فقد معظم قوّته عبر العصور، لكنّه ما زال سلاحا روحيّا لسلطان أصليّ. كيف لوحش روحيّ كهذا أن يعزّز من قدراته؟ لقد كان له فخر كبير من هذه الناحيّة.
لاحظ باسل هذا ثمّ قال: "لا أتكلّم عن الوقت الحاليّ، بل عن المستقبل البعيد. ألا تظنّ أنّه سيمكننا التحكّم في الفضاء بشكل كامل لو تطورّت قدراتكما إلى أقصى حدّ؟"
لم يكن لباسل عنصر الفضاء، لكنّه ومع ذلك كان ينوي جعل قدراته في التحكّم في الفضاء استثنائيّة. لقد كان المحفّز هو رغبته في الانتقال إلى أيّ مكان في أيّ وقت يريد. لم يكن يريد أن يسمح لأيّ شيء بالوقوف في طريقه نحو تحقيق أهدافه مرّة أخرى.
لم يردّ الرمح مباشرة، ومرّ بعض الوقت قبل أن يقول تخاطريّا: "همف! عليه إذن أن يصير تنّينا. لقد أخبرتك سابقا، أنا سلاح روحيّ لا مثيل له. لقد شُكِلت عظامي من عظام التنانين، واستحممت في رماد العنقاوات وتغذّيت على قلوبها."
نظر باسل إلى الرمح ثمّ قال: "لكنّك تحت رحمتي هكذا."
اهتزّ الرمح الطاغيّة بشدّة بعد سماع ذلك. كاد يصرخ لكنّ باسل قمعه، لذا اقتنع بالتكلّم تخاطريّا: "إنّك حقّا تعلم كيف تجعل الشخص يكرهك أكثر."
أمال باسل رأسه وقال: "لكنّك لست 'شخصا'."
"هذا الوسخ اللعين! أعد إليّ مراعاتي وتفهّمي..."
لم يكمل الرمح الطاغيّة كلامه لأنّه قال شيئا لم يكن يريد التصريح به.
نظر إليه باسل لبعض من الوقت ثمّ قال: "لا تقلق، سأحرص على جعل روح هذا الوحش تنمو لمستوى ترضى عنه كلّيّا."
لم يجب الرمح لبعض من الوقت مرّة أخرى. بدا كما لو انّه يفكّر في الأمر بجدّيّة. لقد كان حقّا فخورا ولم يكن ليرضى بأيّ روح وحش.
انتظر باسل بصبر الإجابة التي كان يتوقّعها، وبالفعل قدمت تلك الإجابة في نهاية المطاف: "همف... سأفعل هذا، لكن لا تفهم الأمر بشكل خاطئ. أنا أفعله فقط لأنّ روح هذا الوحش ستجعل الأمر أسهل عليك من أجل إيجاد طريقة ما لمغادرة هذا العالم الواهن. فكما تعلم، أريد أن أذهب في أسرع وقت لرؤية العوالم الروحيّة وأزور أراضيها المباركة والمحرّمة من أجل إظهار عظمتي لك حتّى تعلم عن درجة وقاحتك تجاهي وتوقّرني وتبجّلني كما يجب أن تفعل."
أومأ باسل رأسه ببساطة بعد هذا الكلام، وما أن نوى شحن قوّته بالرمح، كان بالفعل قد حقّق ذلك بالرغم من أنّ الرمح لم يصر سلاحه الروحيّ بشكل كلّيّ.
ظنّ باسل أنّه سيملك سلاح روحيّ واحد بنفس العناصر حتّى لو امتلك روحين، لكنّ الأمر كان مختلفا تماما. وحتّى عندما جعل الرمح الطاغيّة سلاحه الروحيّ، لم ينجح في ذلك تماما، ولهذا وجب عليه استخدام المخطوطات الثلاث من أجل التنقّل من قارّة الأصل والنهاية إلى البحيرة المباركة في ذلك الوقت.
لقد كان يجب على الساحر أن يدمج روحه وسلاحه الروحيّ وروح الوحش معا من أجل جعله روحه كاملة مكتملة، وهذا يتمّ عن طريق 'تقنيّة التكامل التأصّليّ'.
كلّ ما تبقّى لباسل حاليّا هو روح وحش آخر، وسيستطيع عندئذ جعل روح كلّ وحش تندمج بكلّ روح وبكلّ سلاح روحيّ. في نهاية كلّ هذا، سيظهر الساحر الروحيّ ذو الروحين حقّا.
رفع باسل الرمح، ثمّ نزل به ملوّحا كما لو أنّه يحاول قطع شيء ما. فعل هذا تجاه الوحش الروحيّ الذي بالكاد استطاع الوقوف أخيرا.
ضجيج
زببااام
قُطِع الفضاء بصوت كصوت تقاطع نصلين، والذي كان في الواقع صوت قطع الرمح الطاغيّة للفضاء، ثمّ ظهر الرمح –أو رأسه على الأقل- بجانب الوحش الروحيّ فقطعه
انفجار
وووش
حلّق الوحش الروحيّ بينما تُرَشّ دماؤه في الأرجاء بغزارة.
كان الوحش الروحيّ في ألم بليغ، لكنّه ومع ذلك حافظ على سلامة عقله وكان يحاول فهم ما حدث للتوّ. هل نقل البشريّ هجمته كالسابق بطاقته الروحيّة؟ أم انتقل عبر الفضاء؟
لماذا عليّ، أنا الذي يُفترض أن يكون أمهر متحكّم ومتلاعب بقوانين الفضاء في هذا العالم، أن أعاني هكذا بسبب تلاعبٍ بالفضاء؟ لماذا يوجد بشريّ كهذا؟ لماذا يجب أن يظهر في هذا الوقت؟ هل كان عليّ أن أظلّ مختبئا لوقت أطول؟
فتح الوحش الروحيّ عينيه واستيقظ من أحلام يقظته التي جعلته تشكّك في كينونته لوهلة، فإذا به يجد نفسه محلّقا تجاه المكان الذي أتى منه أوّل مرّة عندما ضربه البشريّ بتلك اللكمة. بمعنى آخر، لقد كان متوجّها نحو باسل.
وبالطبع، ما كان ينتظره هناك كان شيئا لا تُحمد عقباه.
هل كان اسمها 'لكمة انفلاق السماء'؟
ماذا يمكن أن يحدث إذا استخدمنا قوّتها في سلاح روحيّ؟
لم يكن هناك وقت للوحش الروحيّ حتّى يجمع شتات نفسه ويركّز طاقته من أجل استخدام حجره الأصليّ. ففي اللحظة التي أدرك فيها اتّجاهه، سقط عليه رمح باسل الذي ما أن صدمه حتّى جعله جسده يهتزّ ويرتجف بعنف شديد. شعر أنّ وجوده يُقطع وليس جسده فقط. أحسّ كما لو أنّه سيختفي وسيعود إلى العدم.
الرمح الذي يمكنه اختراق وقطع أيّ شيء. لقد كان يمكنه شقّ الفضاء والانتقال عبر العوالم حتّى، فما بالك بوحش روحيّ كهذا؟
عاد الوحش الروحيّ أدراجه بدون إرادته، فاصطدم مرّة ثانيّة بالوحوش السحريّة وكسر عظام بعض منها.
لم يتوقّف الأمر عند هذا.
ووش ووش ووش
اختفى باسل هذه المرّة وظهر خلف الوحش الروحيّ ثمّ طعنه بالرمح فجعله يحلّق، فقط ليلتقيه في وجهته ويضربه من جديد.
استمر الأمر في الحدوث مرارا وبسرعة فائقة فبدا الأمر للسحرة كما لو أنّ الوحش الروحيّ يطير من مكان إلى آخر بدون توقّف، وفي كلّ مرّة يغيّر فيها مساره تزداد جراحه وإصاباته حتّى صار يبدو مفروما.
بلع ساحر ريقه مثل باقي السحرة وقال بصعوبة: "كيف لأيّ أحد أن يظلّ حيّا بعد كلّ هذا؟"
وقف السحرة هناك فاتحين أفواههم وأعينهم مصدومين. ألن ينهي باسل كلّ شيء بنفسه على هذا المنوال؟
وبالطبع، كان للوحش الروحيّ الذي كان يمارس وظيفته كـكيس رمل رأي آخر تماما.
لقد كان يعلم، لا يهمّ كم يُضرب أو يُجرح، لا يهم كم هي قوّة البشريّ، ولا يهمّ كم يمرّ من الوقت، فهو سيكون الفائز في نهاية المطاف. لماذا؟ لأنّه ما يزال يملك الوريد التنّينيّ.
***
لقد كان الوحش الروحيّ مصدوما في الواقع من قوّة باسل المرعبة، ولهذا بالرغم من أنّه حاول الحفاظ على هدوئه، إلّا أنّ عدوّه استغلّ تردّده في البداية وهاجمه بدون توقّف. لقد كان ذلك البشريّ يملك تحكّما مجنونا في مجرى الأمور.
والآن، بعد مرور بعض الثواني، والتي ضُرِب فيها آلاف المرّات حتّى صار جسده ليّنا من شدّة تحطّم عظامه كلّها، وحتّى ذلك اللحم اللين صار مفروما من شدّة الجراح، وظهرت بعض الصدوع على حجره الأصليّ، كان الوحش الروحيّ قد عاد إلى رشده تماما كما عادت إليه ثقته بنفسه كلّيّا.
لقد كان ما يزال يسعه فعل الكثير، بدءا باستخدام حجره الأصليّ.
لقد كان ما زال لم يستعمل سلاحه الروحيّ غير المكتمل حتّى الآن، ولهذا كان واثقا من فوزه لو أضاف إلى ذلك مصدر الطاقة الهائلة التي تغذّى عليها لعصور.
توهّج حجر أصله فجأة وأحاط ذلك الوهج جسده بالكامل، فأوقف باسل تقدّمه حتّى يرى ما سيحدث. لم يرد باسل أن يجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه من حيث لا يدري. لقد كان يجب أن يرى ما الذي سيؤول إليه الوحش الروحيّ الذي بدأ يستخدم سلاحه الروحيّ أخيرا.
هل سيكون سلاح الوحش الروحيّ يشبه سلاح الوايفرن بما أنّهما يسعيان إلى الغدو تنّينين؟
كان سلاح الوايفرن الروحيّ عبارة عن درعٍ يحيط جسده وامتدادٍ لمناجل من أطرافه، فسمّاه 'حاصد الأرواح الأصليّ'. ما الذي يمكن لهذا الوحش الروحيّ الذي يملك قوّة خام أفضل بكثير من الخاصّة بالوايفرن أن يفعل؟
نبض
دوو
فتح باسل عينيه على مصراعيهما فجأة بعدما رأى وسمع ما كان يحدث. فبمجرّد ما أن أحاط الوهج جسد الوحش الروحيّ بأكمله، ارتجف جسد الوحش الروحيّ ونبض كلّه كالقلب. توهّم للبعض بعد ذلك أنّ جسد الوحش الروحيّ قد صار أكبر عمّا كان عليه، لكنّ باسل كان متأكّدا أنّ جسده قد نمى.
لم يمرّ وقت طويل، بل مجرّد لحظات فقط حتّى صارت أوهام الآخرين أكثر من مجرّد حقيقة. كيف؟ لم ينمُ جسد الوحش الروحيّ بشكل غير ملحوظ، بل صار عملاقا بحوالي عشرة أضعاف، وفي ثلاث ثوانٍ فقط.
وما زاد الطين بلّة، لم يتوقّف نمو الوحش الروحيّ عند ذلك الحدّ. بعدما بلغ حجمه عشرة أضعاف حجمه السابق، توهّج حجره الأصليّ كما لو كان يمدّه بالطاقة الروحيّة وارتجف ونبض جسده مرّة أخرى، فتضاعف حجمه الحاليّ بعشر مرّات مرّة أخرى. ذلك كان مائة ضعف حجمه الأصليّ.
فشلت أرجل السحرة عندما شاهدوا حدوث هذا الأمر وارتعبوا من شكل الوحش الروحيّ الذي تغيّرت حتّى مواصفاته بعدما توهّجت قشرة جسده الصلبة بلون أزرق فاتح وامتدّ قرنان من رأسه تبعهما بعد ذلك قرنان أصغر حجما فوق القرنين الأكبرين.
صار شكله أقرب بكثير إلى شكل التنين في الأساطير.
وبعد كلّ هذا، زادت دهشة السحرة لمّا لاحظوا أنّ حجم الوحش الروحيّ بدأ يزداد بسرعة كبيرة للغاية، حتّى تضاعف عشر مرّات مرّة أخرى. ذلك كان ألف ضعف حجمه الطبيعيّ.
شاهد السحرة الأمر غير قادرين على قول شيء.
وفي نفس الوقت، كان باسل يحدّق إلى الوحش الروحيّ بينما يحلّل ما كان يفعله.
"همم... لا يبدو أنّه يتضخّم فقط. هل يتحوّل؟"
لقد كانت الوحوش الروحيّة تملك سلاحا روحيّا كالسحرة، لكن ذلك لم يعنِ أنّ سلاحها ذاك يجب أن يتّخذ شكلا من الأشكال كسيوف ورماح السحرة وما إلى آخره. لقد كان يمكن للوحوش الروحيّة أن تملك سلاحا روحيّا بدون هيئة محدّدة. فمثلا، كان سلاح هذا الوحش الروحيّ هو ما كان يفعله بجسده حاليّا. يمكن القول أنّ سلاحه الروحيّ هو جسده بحدّ ذاته.
لاحظ باسل أنّ الوحش الروحيّ لم يصر ضخما فقط، بل تحوّل حتّى صار تنّينا يوصف في الأساطير فقط. بالطبع، كان هذا من حيث شكله الخارجيّ فقط.
"هل هذا الشكل الذي تحوّل إليه هو شكل التنين الذي سبّب في ولادة الأوردة التنّينيّة؟"
لم يكن باسل متأكّدا، لكن يبدو أنّ هذا الوحش الروحيّ قد كان يملك فهما عميقا بشأن التنانين وقدراتها حتّى استطاع التحوّل إلى هذا الشكل بهذه المهارة.
ارتجف ونبض الوحش الروحيّ لكنّ حجمه لم يزدد هذه المرّة. بدا الأمر كما لو أنّ ذلك الارتجاف الأخير كان بسبب الطاقة التي امتدّت عبر جسده كما لو أنّها تبعث فيه الحياة بعدما كان مجرّد جثّة ضخمة، وكان ذلك النبض علامة تشير إلى عودته إلى الحياة بنجاح.
تظلّلت ساحة المعركة بالكامل، وليست الساحة فقط، بل المدينة التي كانوا يريدون حمايتها أظلمت كما لو أنّ كسوف الشمس حدث.
لقد صار الوحش الروحيّ بحجم مدينة بأكملها!
فتح باسل عينيه على مصراعيهما مرّة أخرى، لكن لم يكن ذلك بسبب دهشته هذه المرّة، بل بسبب حماسه. لقد فكّر في سلاح هذا الوحش العجيب الذي سمح له بالتحوّل هكذا. هل نشأ هذا من رغبة الوحش الروحيّ في أن يكون تنّينا؟
فقط ما هي إمكانيّات هذا الوحش الروحيّ الكامنة؟ هل هذا يعني أنّ له فرصة كبيرة في التأصّل حتّى يصير تنّينا حقيقيّا؟
ارتعد جسد السحرة بعدما اختفت الشمس من فوق رؤوسهم. لقد كان مقياس هذه المعركة أكبر ممّا تخيّلوا بكثير.
"هل تمزح معي؟ من يمكن أن يقول عنه مجرّد وحش؟ إنّه تنّين! تنّين!!"
ومع ذلك، كان باسل يعلم أنّ هذا الوحش الروحيّ كان أبعد بكثير من كونه تنّين. لقد كانت التنانين مخلوقات أسمى بكثير من هذا. وبالطبع، تفهمّ لمَ ظنّ السحرة أنّ هذا تنّين؛ لقد كان بالفعل تنّينا من حيث الشكل.
ارتجف ساحر آخر بعدما طرأت فكرة في باله: "انتظر... ماذا... ماذا لو أطلق نفس التنّين بتلك الهيئة؟"
وكما لو أنّ الوحش الروحيّ كان ينتظر هذا السؤال، فتح فمه وفعل نفس الشيء عندما أراد إطلاق نَفَس التنّين سابقا.
بالطبع، لم يكن ذلك نفس التنين حقّا وإنّما مجرّد محاكاة.
دوي دوي دوي
الأوّل، ثمّ الثاني، ثمّ الثالث.
انطلقت ثلاثة ثعابين هائلة الحجم، إذ كان كلّ واحد منها قادرا على تحطيم مدينة بأكملها، نحو ساحة المعركة بالأسفل، وبالضبط نحو باسل الذي كان تحت الوحش الروحيّ الذي كان في أعالي السماء.
لقد كان الوحش الروحيّ ينوي تحطيم باسل جنبا إلى جنب مع السحرة مرّة واحدة بذلك الهجوم. لقد كان متيقّنا أنّه حتّى لو لم يمت ذلك البشريّ الغريب، سيكون قادرا على محق كل السحرة الآخرين من على وجه البسيطة. هذا ما ظنّه الوحش الروحيّ على الأقلّ...
وبالطبع، كان باسل متأهّبا لمثل هذا الهجوم. فما أن رأى الوحش الروحيّ قد صار بتلك الضخامة، عرف نيّة الوحش حتّى بدون استخدام قدرات الحكمة السياديّة التحليليّة.
في الوقت الذي كان الوحش الروحيّ يشحن فيه طاقته السحريّة من أجل إطلاق هجومه، انطلقت هالة هائلة من الطاقة السحريّة من جسد باسل بسرعة كبيرة وامتدّت عبر ساحة المعركة بأكملها، ومع ذلك لم تتوقّف. بدت تلك الطاقة السحريّة غير محدودة للسحرة، لكنّهم لم يؤمنوا بذلك حقّا. كيف لشخص أن يملك مصدر طاقة غير محدود؟
وبالطبع، لم يتخيّلوا أبدا أنّ تلك الطاقة بالفعل كانت غير محدودة، بشرط أن يتحمّل جسد باسل دخول طاقة العالم التي تنجذب إلى جسده وروحه.
وفي الوقت الحالي، كان ذلك الشرط موفى به. لقد كان لدى باسل جسدا استثنائيّا في العوالم الروحيّة.
استمرّت تلك الطاقة بالاندفاق من جسد باسل بدون حدود حتّى غطّت المدينة بأكملها وليس أرض المعركة فقط.
كان ذلك غير معقول أكثر ممّا حدث مع ذلك "التنّين".
لم يكن هناك وقت للسحرة حتّى يندهشوا أو يخافوا. كانت الثعابين، التي بدت بدورها كتنانين مائيّة من شدّة كبرها، فوق رؤوسهم. كانت بضعة أمتار فقط هي ما تفرقهم.
انفجار
اصطدام
رعدت السماء وتزلزلت الأرض وأحسّ الجميع أنّ السماء والأرض ستُطبقان من شدّة الضغط الذي قدم من فوق رؤوسهم وعدم توازن الأرض من تحت أقدامهم.
رفع بعضهم رؤوسهم إلى السماء فعلموا أخيرا كيف نجوا من ذلك الهجوم الذي كان من المفترض أن يمحيهم من الكون.
كان هناك حاجز ثابت لم تظهر عليه أيّ علامة انكسار يوقف تلك الثعابين الهائلة.
ما أن رأى السحرة ذلك الحاجز فهموا ما حدث. لقد هذا الحاجز هو نفسه الذي ظهر عندما أنقذهم الجنرال الأعلى باسل سابقا، إلّا أنّه هذه المرّة احتوى المدينة وساحة المعركة بأكملهما. بدا كقبّة شفّافة لا يمكن لأيّ شيء اختراقها.
كانت ردود أفعال السحرة متفرّقة. هناك من صاح فرحا وهناك من لم يستطع أن ينبس ببنت شفة، وهناك من فقد القدرة على الوقوف أو حتّى القدرة على البقاء مستيقظا.
وبالرغم من كلّ هذا، كان الوحش الروحيّ أكثرهم صدمة. لقد كان واثقا أنّ هجومه هذا سيقلب الموازين ويتغيّر مجرى المعركة لصالحه.
ولكن... لمَ يملك ذلك البشريّ طاقة سحريّة غير محدودة؟ هل هو أيضا يملك مصدر طاقة هائل مثلي؟ - فكّر الوحش الروحيّ في الأشياء وبدأ يحاول ترتيب أفكاره استعدادا للخطوة القادمة.
لم يتوقّع أنّ هناك بشريّ له نفس ورقته الرابحة، لكن طاقة سحريّة غير محدودة لا تعني أنّ الساحر يمكن استعمالها بلا حدود، إلّا إذا امتلك قدرات تحمّل وتشافٍ غير محدودة أيضا. بالإضافة، لا يمكن مقارنة طاقة ذلك البشريّ غير المحدودة بطاقة مصدر الأوردة التنّينيّة.
استمرّ الوحش الروحيّ في التفكير بطريقة إيجابيّة بدون أن يعي ذلك، وهذا حتّى يهدأ ويفكّر في طريقة للفوز.
وبسرعة، قرّر حركته التالية.
بوف
بصوت غريب كصوت اندفاع الرياح، اختفى الوحش الروحيّ.
لقد كان ذلك وحشا بحجم مدينة، لذا لا يمكن أن يختفي بهذا الشكل إلّا إذا غادر أرض المعركة وابتعد مسافة كبيرة جدّا.
استغرب السحرة لبعض من الوقت قبل أن يتحوّل استغرابهم ذاك إلى شكّ ثمّ فرحة غامرة.
لقد هرب التنّين!
بدأ السحرة يصيحون باسم باسل ونسوا أمر الوحوش السحريّة الأخرى أيضا. من يهتمّ بوحوش المستوى12 و13؟ يمكنهم هزم تلك الوحوش بسهولة الآن إذا وضعوا قوّة الجنرال الأعلى الفريدة والهائلة في الاعتبار.
لم ينظر باسل إلى جهة السحرة قطّ. لقد كان مركّزا على جهة واحدة فقط.
كيف يمكن لذلك الوحش الهرب فجأة بدون استخدام قدراته الفضائيّة حتّى؟ لا يمكنه أن يفكّر في الهرب أصلا وهو ما يزال يظنّ أنّ الفائز. لقد كان باسل يعلم أنّ الوحش الروحيّ كان يتسعدّ لإلقاء هجمته التاليّة.
ولهذا، ظهرت تلك الكرات الفضّيّة الثلاث التي رمزت إلى الدرجات الثلاث بالحكمة السياديّة. كلّ كرة فضّيّة شملت مجرّات ونجوم بداخلها.
لم يكن لهاته الكرات اسما خاصّا، فكلّ حكيم سياديّ سمّاها بما رآه أنسب، ولهذا أطلق عليها باسل اسم "فلك المعرفة".
تفعّلت الدرجات الثلاث من الحكمة السياديّة بأقصى قدراتها، والتي حُدِّدَت بمستوى مالكها الروحيّ.
صار العالم بطيئا في رؤية باسل، وظهرت مسارات غير محدودة من طاقة العالم وطاقة الوحوش السحريّة وطاقة السحرة. ظهرت كلّ كبيرة وصغيرة. كلّ مخلوق مهما كان كبره أو صغره صار في محيط معرفة باسل، وتحت تحكّمه.
وفي تلك اللحظة، علم باسل عن حقيقة ما حدث فورا، إلّا أنّه كان متأخّرا بلحظة فقط.
اصطدام
دوي
اختفى باسل من مكانه أيضا فجأة، فاستغرب السحرة من الأمر أكثر من استغرابهم من اختفاء الوحش الروحيّ. لم يفهموا ما حصل إلّا بعدما سمعوا ضوضاء شديدة قادمة من ناحية أخرى.
فهموا سبب اختفاء باسل ما أن رأوه يتدحرج على الأرض بسرعة فائقة رغما عن نفسه، ولكن لم يفهموا لمَ حدث له مثل هذا الأمر.
بالطبع لم يكونوا أغبياء تماما؛ لقد علموا أنّ الوحش الروحيّ لم يهرب، وإنّما اختفى وألقى هجوما نسف الجنرال الأعلى بطريقة ما.
حرث باسل الأرض لمدّة طويلة قبل أن يوقِف اندفاعه ذاك قافزًا نحو الأعلى. لقد كان ذلك الهجوم من الوحش الروحيّ غير متوقّع تماما.
بالطبع علم باسل عمّا حصل، إلّا أنّه كان متأخّرا قليلا. لولا الحكمة السياديّة، لكان الضرر الذي تلقّاه أكبر بكثير. لم يكن ذلك الوحش الروحيّ واثقا بنفسه لتلك الدرجة من فراغ. لقد كان حقّا يملك سلاحا روحيّا استثنائيّا.
نعم، استخدم الوحش الروحيّ سلاحه الروحيّ في الهجوم السابق. السلاح الروحيّ الذي سمح له بتضخيم جسده حتّى غطّى المدينة وأرض المعركة بأكملهما.
مسح باسل الدماء من فمه ثمّ نظر إلى ذراعه اليسرى التي دافع بها عنه نفسه فصار لحمها مفروما وعظامها مكسورة. لقد راوغ ضربة قاضيّة لكنّه تلقّى ضربة قاسيّة.
لم يكن لدى باسل أيّ شيء يمكنه علاج مثل هذه الإصابة فورا. حتّى إكسير العلاج الذي يمكنه علاج إصابات السحرة لمرّة واحدة بين الحين والآخر لا يمكنه علاج الجراح التي تسبّبها الطاقة الروحيّة، أو يمكن القول التي تسبّبها المخلوقات ذات المستوى الروحيّ بشكل عامّ.
ومع ذلك، لم يكن باسل هرعا. لم يحتج إلى أيّ إكسير علاج أو حتّى حبّة الولادة الجديدة السحريّة. لماذا؟ لأنّه كان يملك جسدا لا مثيل له في العوالم الروحيّة.
لم يخاطر بوضع روحه على الطاولة من أجل التفاوض مع الوحش النائم من أجل لا شيء. بالطبع لم يكن ينوي الاستفادة لدرجة امتلاكه جسد كهذا، إلّا أنّه لم يتوقّع أنّ حسن نيّته وإخلاصه سيجعل الوحش النائم يشاركه شيئا خاصّا للغاية لا يمكنه مشاركته إلّا مرّة واحدة على الإطلاق.
لاحظ باسل أن جراحه كانت تشفى تلقائيّا بدون أن يفعل شيئا. حتّى هذه الجراح التي يمكن أن تجعل القتال ضدّ مصلحة أيّ شخص آخر لم تكن عقبة قطّ في طريق باسل حاليا.
أحكم قبضتيه اللتين عادتا لطبيعتهما وقال: "لا عجب في رغبة السارق الخسّيس في هذه القدرات بشدّة."
كان باسل قد رأى استماتة السارق الخسّيس عندما كان يلاحق الوحش النائم من أجل أخذ أشياء من بينها هذه القدرات الشفائيّة. وبالطبع، لقد كان السارق الخسّيس في مستوى لا يُضاهى في ذلك الوقت، وهذا يوحي فقط إلى استثنائيّة ما اكتسبه باسل من الوحش النائم.
رفع باسل رأسه ثمّ نظر إلى الفراغ وتحدّث: "إنّه 'التحوّل' كما توقّعت إلّا أنّه أكثر إذهالا ممّا تصوّرت."
حدّق السحرة البعيدون إلى باسل الذي بدا يتكلّم لوحده لسبب ما، ثمّ ارتاحوا لمّا رأوه بلا جراح بالرغم من تلك الضوضاء والدمار اللذين خلّفهما وراءه.
لم يتخيّلوا قطّ أنّه كان لتوّه مصابا إصابات بليغة شوفِي منها أثناء تجلّي الغبار عنه فقط.
انتظر باسل الردّ من الوحش الروحيّ. لقد كان متأكّدا أنّه سيجيب. وبالفعل...
"طاقة غير محدودة. وهبة غريبة. ثلاثة فنون قتاليّة روحيّة. ثلاثة عناصر سحريّة. سلاح روحيّ شاهق المستوى. روح غريبة. سلطة على منطقتي المحظورة. وفوق كلّ هذا، قدرات شفاء خرافيّة."
قال الوحش الروحيّ تلك الكلمات بصوت منخفض لكن مسموع. لقد كانت الدهشة والذهول واضحين من صوته، وحتّى الخوف.
نظر باسل إلى الفراغ وقال: "هل تريد المزيد؟"
فتح الوحش الروحيّ عينيه على مصراعيهما وابتعد كثيرا عن المكان الذي كان فيه. لماذا يبدو هذا البشريّ كبيرا للغاية؟ لماذا يظهر لي كجبل لا يمكنني بلوغ قمّته مهما حاولت تسلّقه؟ لماذا يبدو كسماء تغطّي كلّ ما يسعني رؤيته؟ لماذا؟ لماذا أنا... لماذا أنا الذي وُلِدت وقُدِّرت لي العظمة أن أشعر بهذا الصغر أمام بشريّ كهذا؟ - اجتاحت هذه الأفكار عقل الوحش الروحيّ بدون توقّف.
ظنّ الوحش الروحيّ لوهلة أنّ شعوره بالنقص والصغر ذاك كان مجرّد وهم لأنّه صار ضئيل الحجم حتّى صار بحجم نملة. وبالطبع، دحض هذه الفكرة، لأنّه كان يعلم أنّه حتّى بحجمه الضئيل هذا كان ما يزال يملك نفس قوّته الأصليّة.
كان هذا هو ما فاق تصوّر باسل. لم يظنّ باسل أنّ الوحش باستطاعته التحوّل إلى هذا الحجم الضئيل مع الحفاظ على كتلته الأصليّة أو حتّى زيادتها كما يريد على الأغلب طالما يملك الطاقة والجهد.
لم يكن باسل يتحدث إلى الفراغ أو إلى شيء مختفٍ، بل إلى وحش روحيّ بحجم نملة.
فكّر باسل مباشرة في إمكانيّات هذه القدرة الاستثنائيّة واختلفت أنواع الاحتمالات التي توصّل إليها. هل يمكنه أن يصير أصغر من ذلك؟ هل يمكنه أن يستخدم قدراته الأخرى بينما يحافظ على ذلك الشكل؟ هل يمكنه التحوّل إلى شيء آخر تماما وليس التضخّم والتضاؤل فقط؟ إلى أيّ مدى سيثير هذا الوحش الروحيّ رغبته في الاستحواذ على روحه؟
في تلك اللحظة بالضبط، بعدما شعر الوحش الروحي بالإرباك والوهن، أحسّ أنّه صار فريسة تنتظر تحوّلها لطعام مفترس.
ومباشرة بعد ذلك، لجأ الوحش الروحيّ إلى ورقته الرابحة النهائيّة. لم يكن لديه وقت لتجريب قدراته الأخرى وقوّته. شعر أنّ كلّ ذلك سيكون بلا معنى. إن لم يستخدم مصدر الطاقة الهائل ذاك، فلن تكون هناك أيّ فرصة له لينجو حتّى دقيقة أخرى.
استخدم ارتباطه مع مصدر الأوردة التنيّنيّة الذي كان يتغذّى عليه لعصور، وبدأ يحاول استمداد الطاقة غير المحدودة منه. لقد كان ينوي إلقاء هجوم يمكنه محق منطقة بأكملها وليس مدينة فقط.
صرخ الوحش الروحيّ: "سأريك الفرق بين أوراقنا الرابحة. أنا لا أستصغرك يا بشريّ. إنّك أقوى عدوّ قابلت وستظلّ كذلك للأبد على الأغلب، لكنّني لن أخسر هذه المعركة. سوف ألتهم روحك الاستثنائيّة وأقترب أكثر من بلوغ الأصل. اليوم، سيكون اليوم الذ..."
توقّف الوحش الروحيّ عن كلامه فجأة.
لم يتحرّك باسل أيّ شبر. لقد توقّف الوحش الروحيّ عن التكلّم فقط لسبب ما.
وبالطبع، كان باسل يعلم لماذا.
أمال باسل رأسه وسأل: "ماذا هناك؟ هل ربّما واجهت مشكلة في الاتّصال بمصدر طاقتك الهائل والرائع والمذهل؟"
صفع باسل جبهته وقال متحسّرا: "آآه! هذا مؤسف جدّا."
***
كانت مدينة عائلة موراساكي في الجنوب الداخليّ في إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، وكانت السلاسل الجبليّة الحلزونيّة في الجنوب.
كان العالم الواهن عالما كبيرا، ومع ذلك كانت به هناك ثلاث إمبراطوريّات ووكر الوحش النائم به فقط. دلّ هذا على مدى كبر كلّ إمبراطوريّة.
لذا، عندما بلغ خبر تحرّك حشد الوحوش السحريّة السحرة، كان لديهم الوقت الكافي للاستعداد، والذي كان حوالي يومين إلى ثلاثة أيّام حسب سرعة تقدّم الوحوش السحريّة.
كان هذا وقت كافٍ لتأتي التعزيزات من المدن القريبة وبعض من المدن البعيدة عبر وسائل النقل السريع مثل الخيل الملكيّ أو الوحوش السحريّة المستدعاة.
وبالطبع، كان باسل يملك كلّ الوقت ليأتي مبكّرا قبل بدء المعركة بكثير. ومع ذلك، ظهر متأخّرا لكن في الوقت المناسب لإنقاذ السحرة من موت مؤكّد بشكل بطوليّ.
هل كان ذلك عن عمد؟
قطعا لا.
إذن ما السبب الذي جعل باسل يتأخّر حوالي ثلاثة أيّام فقط ليأتي مخترقا الفضاء مباشرة إلى ساحة المعركة؟
الإجابة هي ما كان يحصل مع الوحش الروحيّ حاليا.
صرخ الوحش الروحيّ بشدّة: "ما الذي يحدث هنا؟ اللعنة! لماذا لا يمكنني التواصل مع مصدر طاقتي الثمين؟ هذا لا يمكن أن يحدث أبدا!"
كان باسل ينظر إلى الوحش الروحيّ الذي كان صوته مسموعا كفاية بالرغم من حجمه الضئيل. كان ينظر إلى هلع الوحش الذي كان واثقا من نفسه كثيرا طيلة الوقت. كان ينتظر خطوة الوحش الروحيّ القادمة.
"هل هذا من صنيعك يا أيّها البشريّ؟ ما الذي فعلته يا أيّها اللعين؟! كيف تجرؤ على فعل هذا؟!"
هاج الوحش الروحيّ بسبب الخوف والغضب في نفس الوقت. لقد كان مضطربا. لم يعلم إذا ما كان عليه الانقضاض على البشريّ أمامه بكل ما تبقّى له من قوّة، أم الهرب بأقصى سرعة ما أن يرى فجوة.
للأسف، علم في أعماق روحه أنّه لا قوّة ستنفع ضدّ هذا البشريّ، ولا فجوة سيخلقها عدوّه في دفاعه وحرصه.
الآن، لا يمكنه استخدام ورقته الرابحة التي كان يفتخر بها كثيرا ويعتمد عليها. كان يظنّ أنّه لا يُقهر طوال الوقت، فقط طالما يمتلك مصدر الطاقة ذاك.
مرّ وقت طويل للغاية منذ أن كان تمساحا وضيعا يتسلّل نحو فرائسه كيّ ينقضّ عليها، إلى الوقت الذي صار سقطت هديّة من السماء وصنعت تلك الجبال الحلزونيّة وجعلت من المستنقع الذي اعتاد العيش فيه نهرا لا مثيل له في العالم، نهر سُمِّي فيما بعد بـ'نهر ددمم التنّين' فقط لأنّه هو، الذي اعتاد أن يكون تمساحا، ظهر أحيانا من النهر ملطّخا بالدماء فاعتقد الناس أنّه تنّين.
لقد تغذّى لعصور على مصدر الأوردة بينما يحميه من أيّ وحش آخر أوّ أيّ تدخلّ بشكل عامّ. لقد احتكر كلّ تلك القوّة لنفسه فقط وبالفعل صار أقوى وحش سحريّ في العالم بأكمله وظلّ على ذلك الحال.
صرخ الوحش الروحيّ بعدما ومضت ذكريات العصور الماضيّة في ذهنه: "إنّه ملكي! لا أحد يحقّ له المساس به. ذلك... إنّه... اللعنة! تلك الطاقة لي. هي ما ستجعلني أبلغ ما أطمح له."
أجابه باسل بروية: "تلك الطاقة تعود للعالم الواهن. الآن بعدما تحوّل عالمنا إلى عالم روحيّ، يمكنني على الأقلّ الاطمئنان لأنّ هناك شيء كمصدر أوردة تنّينيّة يمكننا الاستفادة منه حتّى نستطيع اللحاق ببقيّة العوالم الروحيّة. تلك الطاقة ليست شيئا يجب احتكاره من أيّ أحد، لا أنت، ولا أنا."
لم يهتمّ الوحش الضئيل بهذا الكلام. لقد سكن هناك لعصور، فكيف لغرّ كهذا أن يأتي الآن ويخبره أنّ ذلك ليس ملكه؟
"هل تظنّني أهتمّ لهذا الهراء. طالما أغدو قويّا فليس هناك أيّ شيء يمكنه تهديد هذا العالم الذي سيكون تحت سيطرتي بذلك الحين في المستقبل، لكن الآن... كلّ هذا ضاع بسببك... اللعنة!"
تنهّد باسل ثمّ ردّ: "حسنا، لقد سرقته منك. أهذا ما تريد سماعه؟ فما هناك لتفعله؟"
قبل أن يأتي باسل إلى هنا، علم أنّ هذا الوحش الروحيّ هو نفسه الذي كان يقبع في أعماق نهر ددمم التنّين.
في ذلك الوقت كان قد حَبَك خطّته. لقد كان حكيما سياديّا الآن ووجب عليه أن يقاتل على ذلك النحو، على الأقلّ حتّى لا يجعل اسم معلّمه يتّسخ بسببه.
ولهذا، توجّه نحو نهر ددمم التنّين من أجل إكمال المصفوفة التي كان يصنعها من أجل الاستفادة من الأوردة التنّينيّة.
كان قد انتهى من الوريد الذي ينتهي عند مدينة العصر الجديد، والذي يقف عند أكاديميّة الاتّحاد المباركة، والذي اتّصل بـ'حياة' عندما كان هناك. كلّ ما تبقّى هو مصدر الأوردة الثلاثة والذي كان في نهر ددمم التنّين.
كانت هذه طريقة عجيبة قُدِّرت بها الأمور، لكنّ باسل كان مقتنعا بها. لقد كان محتوما أن تحصل هذه الأمور كلّها بطريقة أو بأخرى، لكنّها حصلت بهذا الترتيب، وهو كحكيم سيّاديّ استغلّ حدوث الأمور بهذا الترتيب.
استغرق وقته في إكمال المصفوفة بمصدر الأوردة التنّينيّة، والتي كان مسؤولة أيضا عن قطع أيّ اتّصال آخر مهما كان بأيّ كان.
كان هذا هو السبب الذي جعل باسل يظهر متأخّرا. كلّ هذا من أجل التحكّم في مجرى المعركة وفوزها بسرعة.
نظر الوحش الروحيّ الضئيل إلى باسل ثمّ قال: "ما سأفعل؟" ظهرت العروق على جسده الضئيل وصرخ: "هل تتحامق معي يا أيها اللعين؟ ليس هناك ما أفعله سوى قتلك واسترداد ما يحقّ لي."
رفع باسل كتفيه وقال: "لك كلّ الحريّة، لكنّك تعلم أنّ ذلك لن يحدث."
رفه باسل سبّابته: "دقيقة واحدة. في العشرة الثواني الأولى، ستُضرب حتّى تصير عاجزا تماما عن فعل أيّ شيء، في العشر الثانيّة، ستفقد روحك القتاليّة، وفي العشر الثالثة، ستشعر أخيرا بكلّ تلك الآلام تتخلّل كلّ ذرّة منك. هل تريد أن تعلم ما سيحدث في الثلاثين ثانيّة المتبقيّة؟"
بلع الوحش الروحيّ ريقه عندما سمع سؤال باسل. ليس فقط بسبب السؤال، ولكن لأنّه أيضا أحسّ بتلك الروح المرعبة التي توجد داخل باسل. هل تلك روح أصلا؟
لم يعلم الوحش الروحيّ لماذا أحسّ أنّ روح البشريّ كانت أشدّ كثافة وثقلا من أيّ روح أخرى بالرغم من أنّهما كانا في نفس المستوى الروحيّ. هل هذا البشريّ سيّد روحيّ مثله حقّا؟
لا! قطعا لا. لا يمكن أن يكون هذا البشريّ سيّدا روحيّا؛ كان هذا هو الاستنتاج الذي فرضته غريزته عليه. إذن ماذا يكون؟
فتح باسل ذراعيه على مصراعيهما فظهرت نار عاصفة على كفّه الأيمن، وظهرت مياه تحتها تربة خصبه على كفّه الأيسر.
فقط ما أن شاهد الوحش الروحيّ هذا المشهد ارتعب أكثر من أيّ مرّة في حياته بأكملها. لقد رأى المستحيل لتوّه، بعد العديد من المستحيلات الأخرى التي فعلها هذا البشريّ سابقا. ومع ذلك، أربعة عناصـ... لا، انتظر... ألم يكن هناك عنصر التعزيز الذي حمى به السحرة سابقا؟
ما أن فكّر الوحش الروحيّ في هذا حتّى انطلقت طاقة هائلة من باسل. كانت تلك الطاقة السحريّة تزداد بدون توقّف. كانت تلك طاقة عنصر التعزيز. كانت النار العاصفة تنمو على شكل إعصار ناريّ ينبثق من كفّ باسل، بينما كانت المياه تفعل نفس الشيء بينما يتخلّلها أحجار قاسيّة وحادّة.
"خمسة عناصر سحريّة؟!"
تكلّم باسل: "لم أنتهِ بعد."
نبض قلب الوحش الروحيّ بسرعة فائقة بينما ينظر إلى باسل. لقد كان خائفا، مرتعبا، فزعا للغاية لدرجة رغبته في الاختفاء من هنا بأسرع وقت، لكن... لماذا فجأة يريد أن يعلم ما الذي سيفعله هذا البشريّ تاليا؟
بدت بعض القشور الصلبة تظهر على بشرة باسل، وشيئا فشيئا غطّت جسده بالكامل. ظهر له ذيل بطول المترين كان يبدو كمنجل مخصّص لحصد الأرواح. كانت هناك شفرات ظاهرة من ذراعيه وساقيه. وأخيرا، تحوّلت تلك القشور الصلبة لتصير درعا برّاقا بسواده الحالك لتظهر عينا باسل الحمراوين من بين الخطّ الأسود الذي كان في منتصف القناع الذي صار يغطّي وجهه.
تانك العينان الحمراوان، إضافة إلى شعره القرمزيّ، فقط هما ما كانا يظهران منه بعدما غطّى الدرع الأسود جسده بالكامل.
"حاصد الأرواح الأصليّ."
برقت عينا باسل تجاه الوحش الروحيّ، الذي انتهت كلامته كلّها بعدما شاهد ما حصل.
تكلّم باسل: "لم آتِ هنا للدفاع فقط عن الإمبراطوريّة. لقد أتيت من أجل روحك. فكما ترى، روحي الثانيّة ما زالت تحتاج إلى روح وحش روحيّ."
"روح ثانيّة؟"
ردّد الوحش الروحيّ الكلمتين متسائلا قبل أن يدرك أخيرا ما حصل للتوّ. لقد تحوّل البشريّ روحيّا. كيف يمكنه فعل هذا؟ أليس من المفترض أن يكون سيّد روحيّ لم يستحوذ على أيّ روح وحش؟ هذا ما ظنّه الوحش الروحيّ على الأقلّ؛ هذا ما جعله باسل يظنّ.
حمل باسل الرمح الطاغيّة فتراجع الوحش الروحيّ تلقائيّا للخلف بسرعة كبيرة حتّى صار أميالا بعيدا عن باسل. وبالطبع، سمح باسل له بفعل هذا. لا يهمّ إلى أين يذهب، فباسل سيجده مهما كان.
قطع باسل الفضاء برمحه فظهر أمام الوحش الضئيل مرّة أخرى. كيف له أن يتنقّل عبر الفضاء بهذه السهولة؟ كيف له أصلا أن يعرف مكانه هكذا؟
بالطبع، لم يعلم الوحش الروحيّ عن الرمح الطاغيّة الذي كان حضوره كافيا لبثّ الرعب في قلوب الهرمى المقموعين آنذاك، أو حتّى عن الحكمة السياديّة التي كان باسل يستخدمها بفعّاليّة منذ أن ظهر 'فلك المعرفة' فوق رأسه.
لقد كان الرمح الطاغيّة سلاحا يمكنه التنقّل بين العوالم حتّى كما صرّح فيما سبق لباسل، وكانت الحكمة السياديّة تجعل من مالكها يحسب كلّ صغيرة وكبيرة بلا أيّ خطأ.
ارتجف الوحش الروحيّ في مكانه، لكنّ باسل لم يهاجمه بعد. ما زال هناك شيء يريد أن يسمعه من الوحش الروحيّ.
"ما تزال لم تجبني عن سؤالي. ما الذي تظنّه سيحدث في الثلاثين ثانيّة التاليّة؟"
أراد الوحش الروحيّ بلع ريقه لكنّه لم يستطع بسبب جفاف فمه وحلقه. كلّ تلك السوائل استُنزِفت في العرق الذي كان يتصبّب منه بغزارة منذ وقت طويل.
والآن، شعر كما لو أنّ هذا البشريّ يخبره بقول السيناريو الأسوء الذي يمكن أن يخطر في باله. في العشر ثواني الرابعة، سيموت، وفي العشر ثواني الخامسة، سيقبض باسل روحه، وفي العشر ثواني الأخيرة سيستحوذ البشريّ على روحه.
لقد كان هذا واضحا وضوح الشمس، إلّا أنّ البشريّ يريد تعذيبه بجعله يقولها بنفسه. ألا توجد رحمة في قلبه؟
فوق كلّ تلك الأشياء المستحيلة التي فعلها وعلى رأسها خمسة عناصر، يملك روحين؟ كيف يمكن مجاراة كلّ هذا؟ من يمكنه الوقوف في طريق هذا البشريّ أصلا؟
فكّر الوحش الروحيّ في المستقبل وتخيّل الطريق الذي سيتّبعه هذا البشريّ.
"إنّه طريق الأقوياء، لكنّه مسار فريد عبر العصور."
ردّد الوحش الروحيّ تلك الكلمات فجعل باسل مستغربا.
أكمل الوحش الروحيّ كلامه بعد ذلك: "لن يعيق طريقه أيّ شيء نحو القمّة، ولن يجرؤ أحد على مواجهته ما أن يعلم عن حقيقته."
زاد استغراب باسل لمّا فهم أنّ الوحش الروحيّ يتكلّم عنه على الأغلب.
"سيبلغ مستويات لا يعلم أو سمع بها أحد. سيبلغ الأصل."
كانت يد باسل تنخفض ببطء بينما يستمع لكلام الوحش الروحيّ الذي بدا كما لو أنّه فقد عقله.
"لابدّ وأنّ روح ذلك الوايفرن سعيدة لأنّها ستكون جزءا من كلّ هذا. كيف لا وهو سيكون جزءا من شيء أعظم بكثير، أعظم من الغدو تنّين حقيقيّ حتّى."
"أنت..."
نادى باسل الوحش الروحيّ الذي بدا يتصرفّ بشكل هيستيريّ.
"نعم، شيء أعظم من الغدو تنّين حقيقيّ. هاهاهااههاهاهاهاهاههايهيـهاهايــها!"
ضحك الوحش الروحيّ بغرابة فجأة بصوته الأجشّ بداخل جسده الضئيل ذاك. كان المنظر منافيا للعقل.
عبس باسل ثمّ قال: "هل دفعت الأمور أكثر من الحدّ حتّى جُنّ؟"
"شيء أعظم! شيء أعظم! نعم، مثل الغدو حاكم العوالم كلّها؟ أو ربّما أكثر من ذلك. ماذا هناك بعد العوالم الروحيّة؟ هيههيهيهيهاهاهايهيهاهيهاهاهاهااههيـــهــا!"
أومأ باسل رأسه ثمّ قال: "نعم، لقد فقد عقله."
رفع باسل رمحه مرّة أخرى. لم يعد مهتمّا في سماع إجابة الوحش الروحيّ بعد الآن. ندم أصلا على قول كلّ ذلك الكلام، لكنّه لم يتوقّع أنّ وحشا روحيّا كهذا يمكن أن يملك عقلا ضعيفا كهذا فما بالك بأن يُجنّ حقّا. الآن كلّ ما صار يريده باسل هو ألّا يصير مجنونا أيضا بطريقة ما بعدما يستحوذ على روح هذا الوحش.
تنهّد باسل ثمّ قال: "هل يجب أن أؤجّل الاستحواذ على روح ثانيّة حتّى أجد وحشا آخر؟ لكن..."
كان باسل يفكّر بجدّيّة في التخلّي عن روح هذا الوحش الروحيّ. لم يكن يريد أن يصير مجنونا. ومع ذلك، كانت قدرات هذا الوحش جيّدة للغاية.
رفع الرمح صوته فجأة: أنت... أنت... هل حقّا تنوي ربط روحي بهذا المجنون؟ وإيّاك! إنّني أحذّرك!"
تنهّد باسل مرّة أخرى. لقد كان يتفّق مع الرمح هذه المرّة.
يمكنه أن يقبل أن يصير ضعيفا أو تُقيّد قوّته بشكل ما، لكن لا يمكنه تقبّل أن يصير مجنونا.
نظر الوحش الروحيّ إلى الرمح الذي تكلّم بصوت مرتفع ثمّ صرخ: "هيهيهيهيهاهاهاهاهاها! رمحه يتكلّم. هذا... هذا... هذا... هذا استثنائيّ. استثنائيّ للغاية. سلاح روحيّ بنيّة وإرادة خاصّة!"
أحسّ باسل أنّ الرمح الطاغيّة ارتجف لتوّه بعدما سمع مديح الوحش الروحيّ. لم يسبق للرمح الطاغيّة أن استجاب لمديح تجاهه بهذا الشكل. لقد كان باسل متعجّبا حقّا.
'أظنّ أنّه حقّا لا يريد روح هذا الوحش. ليس كما لو أنّني أخالفه الرأي على أيّ حال، ولكن..."
حار باسل. شعر أنّه لأوّل مرّة لم يعلم كيف يقرّر ويوازن بين المخاطرة والمكافأة.
هل سيجد وحشا روحيّا كهذا أصلا؟ هل سيجد وحشا كهذا يمكنه التكامل مع الرمح الطاغيّة بشكل مثاليّ؟ هل سيجد وحشا له اتّصال بمصدر الأوردة التنّينيّة؟ هل سيجد وحشا له خواصّ تنّينيّة؟ هل سيجد وحشا تأصّل لهذه الدرجة؟ خصوصا بعد التفكير أنّه في العالم الواهن فقط. لا، لا يمكنه إيجاد مثله في أيّ مكان وليس في العالم الواهن فقط.
كلّ هذه الأشياء جعلته يتردّد كثيرا في قراره، ولكن الجنون؟ الجنون يجعل من كلّ شيء بلا فائدة.
"انتظر..." وضع باسل يده على ذقنه: "ألا يمكن أن ينجح الأمر نظرا لامتلاكي الحكمة السياديّة؟ نعم، هذا سينجح. لا شكّ في هذا."
استعدّ باسل مرّة أخرى لقتل الوحش الروحيّ ما أن حسم أمره. لا يمكن للحكمة السياديّة أن تسمح لباسل أن يُجنّ أصلا، لذا لا يجب عليه الخوف من الغدو مجنونا كأيّ ساحر روحيّ عادي.
صرخ الرمح في هذه الأثناء باستماتة: "غياااه! ما الذي أنت مقدم على فعله يا أهبل. هل جُنِنت أيضا. اللعنة، لمَ عليّ أن أجتمع بحفنة المجانين هذه بعد تحرّري أخيرا؟"
شعر باسل بالأسف نوعا ما على الرمح الطاغيّة، لكنّه كان قد قرّر بالفعل. حتّى لو كان يريد تحسين علاقته مع الرمح الطاغيّة، لا يمكنه أن يتراجع عن قرار كهذا، قرار يمكنه أن يحسم ما سيؤول إليه في المستقبل كساحر روحيّ.
"أرجوك ، لا تفعل هذا. سأفعل ما شئت من الآن فصاعدا إذا تخلّيت عن هذه الفكرة."
بالطبع لم يُلقِ باسل له بالا. سيفعل الرمح الطاغيّة أيّ شيء يريد باسل سواء أراد الرمح ذلك أم لا.
نظر الوحش الروحيّ إلى باسل ثمّ إلى الرمح وقال: "حقّا مخلوق فريد مثلك فقط يمكنه أن يجعل رمحا كذلك يترجّى ويطلب الرحمة بذلك الشكل."
صرخ الرمح صرخة الموت: "لااااا!"
جرت طاقة النار العاصفة في الرمح بعدما بدّد باسل طاقة الماء والأرض من كفّه الآخر، ثمّ انطلق تجاه الوحش الروحيّ حتّى ينهي معاناته.
وفي تلك اللحظة، توقّف الوحش الروحيّ عن الضحك بشكل هيستيريّ كما كان يفعل طوال الوقت، ثمّ نظر إلى باسل. أغمض عينيه فعاد إلى حجمه الطبيعيّ، فاستغرب باسل بسبب هذا بما أنّ ذلك سيجعل الوحش هدفا أسهل.
وبالطبع، كان الوحش الروحيّ يعلم عن ذلك، فهو فعل ذلك عن عمد. لماذا؟ ليُظهر إخلاصه.
فتح عينيه بعدما عاد إلى حجمه الأصليّ وقال: "أرجوك، تجاوز الخمسين ثانيّة الأولى واستحوذ على روحي التي سأسلّمها لك."
توقّف الرمح الطاغيّة عند رأس الوحش الروحيّ تماما.
تزامنت استجابتا باسل والرمح الطاغيّة: "ها...؟"
لقد فقد هذا الوحش الروحيّ عقله تماما.
***
سحب باسل الرمح الطاغيّة ثمّ نظر إليه كما لو أنّه يحاول أن يتأكّد معه أنّ ما سمعاه كان نفس الشيء.
سبق الرمح في طرح السؤال: "هل قال لتوّه أنّه سيسلّم روحه لك؟"
ردّ باسل: "إذن لم أسمع ذلك بشكل خاطئ."
نظر كلاهما إلى الوحش الروحيّ الذي كانت عيناه تلمعان كما لو أنّه ينظر إلى مثله الأعلى، فتنهّد باسل وارتجف الرمح في يد باسل كما لو شعر بالقشعريرة.
ما الذي يعنيه بتسليم روحه؟ لماذا سيفعل شيئا كهذا؟ كان باسل مرتبكا نوعا ما. بالطبع سيخبر الساحر الواثق من نفسه أيّ وحش آخر أن يخضع ويسلّم روحه، لكن لم ولن يكون هناك أيّ وحش يمكن أن يستجيب لمثل هذا الطلب، أو على الأقلّ، لم يكن من المفترض أن يوجد وحش روحيّ كذلك.
ومع ذلك، كان باسل الشخصيّة الرئيسيّة في حدث لم يسبق له أن حدث.
لم يسع باسل إلّا أن يسأل: "لماذا تفعل هذا؟ وما الذي تعنيه بتسليم روحك بالضبط؟"
لم يتأخّر الوحش الروحيّ في إجابته: "معك، يمكنني أن أرى بلوغي ما حلمت به وما لم أتخيّله حتّى. إن كنت سأموت بطريقة أو بأخرى، فأفضلّ الحفاظ على كرامتي وشأني وتسليم روحي لك، أنت الذي لا مثيل لك في العوالم كلّها. هذا خيار سأفتخر به طوال حياتي كجزء من روحك العظيمة."
وقف باسل هناك ينظر إلى وحش روحيّ يمدح بشريّا كما لم يفعل أيّ ساحر لساحر. لقد كان منطقه هذا غريبا لكنّه كان سليما على ما يبدو بالنسبة للوحش الروحيّ، وعلى الأغلب، سلامة ذلك المنطق تكمن في معنى تسليم روحه، وهذا ما كان ينتظر باسل سماعه.
أضاف الوحش الروحيّ بدون تأخّر بعدما لاحظ رغبة باسل في معرفة نواياه: "إن سلّمت لك روحي، فيمكنني الحفاظ على وعيي داخلك. يمكنني أن أرى وأسمع ما تراه وتسمعه لو سمحت لي. يمكنني أن أشعر بما تشعر به لو أردت. بمعنى آخر، يمكنني أن أحيا معك."
لاحظ الوحش الروحيّ عبوس باسل في هذه الأثناء. لقد كان باسل ينتظر كلام الوحش الروحيّ التالي الذي يفسّر المنفعة التي سيتلقّاها باسل في المقابل، لذا بدون أيّ تأخرّ كعادته أكمل: "وفي المقابل، يمكنك أن تستخدم قوّتي بدون قيود كباقي السحرة. بمعنى آخر، يمكنني مساعدتك في نموّك كساحر، وذلك عن طريق تأصيل روحي بدلا عنك عندما تريد الاختراق لمستوى أعلى."
كانت أهميّة تأصيل روح الوحش تكمن هنا. عندما يختار أيّ ساحر روح الوحش التي سيستحوذ عليها، يفضِّل أن تكون روحا لوحش تأصّل عدّة مرّات عند اختراقه للمستويات الروحيّة.
كان السبب مهمّا للغاية لكن بسيط؛ عندما يريد الساحر الاختراق إلى مستوى أعلى، يكون على روح الوحش أن تتأصّل من أجل ذلك حتّى تنتقل هي أيضا للمستوى القادم، ولكن إذا كانت روح تلك الوحش قد تأصّلت عدّة مرّات عند اختراقها، فذلك يكلّف العناء عن الساحر لمستويات عدّة.
فمثلا، لو تأصّل وحش أربع مرّات، لن يفكّر الساحر عندما يحاول الاختراق إلى مستوى أعلى في تأصيل روح هذا الوحش لأربع مستويات. بعد ذلك، سيحتاج لتأصيل روح الوحش، وهناك تقع المشكلة، لأنّه يجب على الساحر أن يفعل ما يُفترض أن يكون عملا خاصّا بالوحوش. يمكن تخيّل كم كان ذلك صعبا.
ولكن الآن، كان هذا الوحش الروحيّ يخبر باسل أنّه لن يحتاج للتفكير في تأصيل روح الوحش لأنّ هذا الأخير سيقوم بذلك العمل بدلا عنه. سيكون الأمر كما لو أنّ باسل سينتقل من مستوى لآخر فقط عندما يستوفي الشروط الأخرى وينسى تماما أمر التأصيل الذي يجعل معظم السحرة عالقين في مستواهم الروحيّ.
فتح باسل عينيه على مصراعيهما بعد سماع كلام الوحش الروحيّ. لقد كان ذلك الخبر صادما. استوعب باسل كلام الوحش مباشرة ثمّ فكّر فيه لقليل من الوقت: 'لا أظنّ أنّه يمكنني رفع مستوى كلّ روح على حدى، وسيتوجّب عليّ رفع مستواهما في نفس الوقت نظرا لترابطهما الوثيق، لذا إن سهّل عليّ هذا الوحش الأمر في الروح الثانيّة، فكلّ ما سيتبقّى لي هو تأصيل روح الوايفرن في الروح الأولى.'
بالطبع كان هذا أكثر من كافٍ، بل كان هائلا. سيسرع هذا من وتيرة نموّ باسل التي ستأخذ ضعف الموارد والوقت بما أنّه يملك روحين.
ولكن باسل كانت له رأي آخر. بعدما فكّر في الأمر لبعض من الوقت، بلغ استنتاجا فطرح سؤاله مباشرة على الوحش الذي كان ينتظر بحماس تحقيق أمنيته الجديدة والنهائيّة: "ما قلته للتوّ، هل يمكن تحقيق هذا مع أرواح الوحوش التي أُخِذت أرواحها قسرا عنها بالفعل؟"
"مستحيل!" أجاب الوحش الروحيّ.
لقد أراد باسل أن يعلم ما إذا كان يمكن أن يجعل روح الوايفرن تعقد معه نفس الصفقة، لكن لا يبدو أنّ هذا ممكنا. خاب ظنّ باسل، وكاد يتنهّد بينما يخبر نفسه أنّه لا يجب أن يطمع كثيرا ويقنع ما يملك، وخصوصا باعتبار أنّه يملك ما لم ولا يملكه أحد، لكنّ الوحش الروحيّ أضاف إلى كلمته السابقة 'لكن'.
نظر باسل إليه مترقّبا بعدما سمع 'لكن'
"لكن قد يكون الأمر مختلفا معك يا سيّدي العظيم."
تجاهل باسل لهجة الوحش الروحيّ الذي بدأ فجأة يناديه بسيّده العظيم، وسأل: كيف ذلك؟ انتظر، هل يمكن أنّ الأمر مختلفا لأنّني أملك روحين، وأحد الروحين ستكون تملك روحا عقدت صفقة معي؟"
كشّر الوحش الروحيّ عن أنيابه الشرسة. في موقف آخر، كان ليظنّ الشخص أنّه يستعدّ لالتهام باسل، لكنّ باسل كان يعلم أنّ الوحش كان يبتسم.
تكلّم الوحش الروحيّ: "لم أتوقّع أقلّ من هذا منك يا سيّدي العظيم. بالضبط، لو عقدت معي الصفقة، فإنّي أعدك وأؤكّد لك أنّني سأوقظ روح ذلك الوايفرن، وأقنعه بعد ذلك أن يعقد معك تلك الصفقة نفسها."
عبس باسل ثمّ سأل: "توقظ روح الوايفرن؟ أليس ذلك خطيرا بالتفكير في أنّه لن يكون خاضعا لي؟"
"ذلك مستحيل. حتّى لو تغاضينا عن فكرة عدم وجود أيّ ساحر آخر قادر على إيقاظ روح الوحش التي استحوذ عليها وقلنا أنّ ساحرا ما نجح في ذلك مثلك، فلربّما يؤثّر ذلك عليه نفسيّا وعقليّا، لكن أظنّ أنّ سيّدي العظيم منيع ضدّ مثل هذا التهديدات."
"إذن كيف ستقنع الوايفرن بعد إيقاظه؟"
"السؤال يا سيّدي العظيم هو، لماذا لن يقبل الوايفرن العقد؟ ليس كما لو أنّه سيستطيع قلب الموازين ضدّك لصالحه، أو سيتمالك نفسه ورغباته عندما يعلم محتوى العقد. سيكون في موقف لا يسعه سوى قبول العقد."
وضع باسل يده على ذقنه ثمّ نظر إلى الوحش الروحيّ باهتمام: "هذا يبدو مقنعا عندما يأتي من فمك بالخصوص."
لو قالها وحش روحيّ مستعدّ لتسليم روحه، فسوف ينجح الأمر مع الوايفرن بكلّ تأكيد.
لو نجح هذا الأمر، فستكون سرعة باسل في الاختراق إلى المستويات الأخرى أسرع بكثير عمّا يُفترض أن تكون عليه، ولكن هذا الاختلاف لن يظهر إلّا بعدما يبلغ مستويات عليا كثيرا. لماذا؟ لأنّ روح الوايفرن كانت قد تأصّلت سبع مرّات بالفعل، وتأصّلت روح هذا الوحش ستّ مرّات. لقد كانا وحشين استثنائيّين في العوالم الروحيّة بأكملها، وقلّت أعداد أمثالهما كثيرا.
ما كان يعيق نموّ باسل حاليّا كان تقنيّة التكامل التأصليّ الخاصّة به. ليس بها سوى نطاق الأرض الواسعة حتّى الآن، وسيجب عليه أن يطوّرها باستمرار ويرفع من مستواها حتّى يستطيع الاختراق إلى المستويات القادمة.
جمع باسل أفكاره وقرّر بعد ذلك مباشرة: "حسنا، لنفعلها. كيف يتمّ ذلك؟"
لقد كان باسل سيفعل شيئا لم ينجح فيه أحد من قبل مرّة أخرى.
أحنى الوحش الروحيّ رأسه: "حاضر يا سيّدي العظيم. يمكننا عقد عهد ذهنيّ روحيّ أوّلا لبناء اتّصال، وبعد ذلك سأسلّم حجر أصلي وروحي لك. سيعمل العهد الذهنيّ الروحيّ كطريق لروحي حتّى تبقى صامدة ومحافظة على استقرارها ووعيها."
ارتفع حاجب باسل: "هل ربّما يمكن عقد عهود ذهنيّة روحيّة مع الوحوش الروحيّة أو بين الوحوش نفسها؟"
"نظريّا، نعم. لكن ما يجعل ذلك مستحيلا هو عدم قبول أيّ وحش روحيّ بعهد مع ساحر. أمّا بين الوحوش الروحيّة، فذلك ممكن. الأمر فقط هو أنّ الوحوش لا تختار هذه الوسيلة بما أنّها تملك شيئا آخر بالفعل كما تعلم يا سيّدي العظيم."
أومأ باسل رأسه: "نعم، يمكن للوحوش أن تُخضع وحوشا أخرى عن طريق القتال أو فرض السيطرة بالمستوى الروحيّ، وما أن يخضع الوحش لوحش آخر، يصير حجر أصل الوحش الخاضع في محيط تحكّم الوحش المُخضِع."
لقد كانت المحادثة السابقة مع الوحش الروحيّ مثمرة. لقد كان يمكن للسحرة عقد عهد ذهنيّ روحيّ مع الوحوش الروحيّة. لربّما يظنّ هذا الوحش الروحيّ أنّ هذا مستحيل لأنّه ليس هناك ساحر باستطاعته فعل شيء كهذا، لكن ماذا عن باسل؟ ألن يقدر على إخضاع وحوش روحيّة بمستوى أقلّ منه بعدما يكشف عن ورقته الرابحة، والتي ستكون روح هذا الوحش بالذات؟ كما سيؤثّر هذا الوحش على الوايفرن مستقبلا، ألا يمكنه التأثير على وحوش أخرى؟"
لربّما يكون هذا مستحيلا في نهاية المطاف، لكنّه يستحقّ المحاولة.
زفر باسل متنهّدا بعدما فتح أبوابا لم يعلم أحد أنّها كانت موجودة أصلا، ثمّ استعدّ لعقد العهد الذهنيّ الروحيّ، لكنّ الوحش الروحيّ قاطعه.
"يا سيّدي العظيم..."
هل ما يزال لديه ما يقوله؟ تساءل باسل وأومأ للوحش سامحا له بالكلام.
"هذا ليس مهمّا ولا نحتاجه بتاتا حتّى نكمل عقدنا، لكن..."
لم يكمل الوحش الروحيّ كلامه منتظرا تأكيد باسل، والذي اتى بإيماءة أخرى من باسل.
"هل يمكنك أن تمنحني اسما خاصّا؟"
لقد كان هذا شيئا غريبا لسؤاله. قال باسل بنظرة خاليّة من الاهتمام: "هممم... حسنا، ما رأيك في سحليّة الماء؟"
"هاه؟ ما قلت يا سيّدي؟ سحليّة الماء؟ أنا؟"
"ماذا؟ ألم يعجبك الاسم؟"
"آه، لا... الأمر... في الواقع... لو كان هذا هو الاسم الذي اختاره سيّدي العظيم لي، فسأحمله بكلّ فخر وشرف."
"إنّك شخصيّتك الجديدة هذه لا تنكسر حقّا."
لقد ظنّ باسل أنّ الوحش سيعارضه أو ما شابه، إلّا أنّه قبل بذلك الاسم السخيف حتّى.
قال باسل بعد ذلك: "لقد كنت أمزح معك. لقد فكّرت مسبقا في منح اسم لك إلّم تملك اسما."
"حقّا يا سيّدي العظيم؟"
"كيف يمكنني مخاطبتك إذن؟ ألن نمضي باقي أيّامنا معا؟"
"سيّدي العظيم!"
كاد الوحش الروحيّ ينقضّ على باسل بمعنى جيّد، لكنّ باسل أوقفه عند حدّه بوضع كفّه أمام وجه الوحش وقال: "شيء آخر، توقّف عن مناداتي بذلك الشكل. اسمي باسل."
"حسنا يا سيّدي العظيم باسل."
"هل سمعت ما قلت؟ باسل فقط."
"ذلك صعب بعض الشيء. ما رأيك في 'سيّدي باسل'؟"
تنهّد باسل وقبل طلبه: "حسنا."
قد يكون من الصعب إقناع هذا الوحش بشخصيّته هذه أن يناديه باسمه فقط.
حرّك باسل بعد ذلك يده التي كان يضعها أمام وجه الوحش، ثمّ وضعها هذه المرّة على رأس الوحش.
في تلك اللحظة، بدأ عقد العهد الذهنيّ الروحيّ.
بعدما تبادل الاثنان العهد، صرّح باسل: "أنا باسل، أطلق عليك اسم 'بَهَموت'."
"بهموت!"
قالها الوحش الروحيّ متحمّسا.
"إنّه فأل جيّد. ذلك اسم لملك التنانين في إحدى الأساطير التي ألّفها البشر، لذا لما نجعل الأسطورة حقيقة؟"
"بهموت، ملك التنانين!"
دمعت عينا بهموت بينما يكرّر اسمه الخاصّ. لربّما عاش عصورا، لكنّه صرفها في أعماق نهر ددمم التنّين. أمّا الآن، كلّما فكّر في اسمه الخاصّ، فكّر في العصور القادمة التي سيبلغ فيها مقام ملك التنانين كما أخبره سيّده باسل.
"أنا بهموت، أقدّم حجر أصلي وروحي إلى سيّدي باسل."
توهّج جسد الوحش الروحيّ، أو بالأحرى، توهّج حجر أصله حتّى جعل جسده بالكامل لامعا. لقد بدا كما لو أنّه سينفجر، إلّا أنّ باسل كان يعلم ما الوحش الروحيّ يفعله.
لقد كان ينتحر ببساطة، لكن بدون أيّ آلام.
تفكّك جسد الوحش الروحيّ شيئا فشيئا كزجاج يُكسر، ثمّ تناثرت أجزاؤه مع الرياح وتحوّلت إلى غبار، فظلّ هناك حجرُ أصلٍ وروح تتخلّله فقط.
اعاد باسل الرمح الطاغيّة الذي كان صامتا منذ فترة إلى روحه الثانيّة، ثمّ أمسك حجر الأصل وأعاد ما فعله مع ذات مرّة مع الوايفرن. لقد أوّل ساحر يفعل هذا الأمر مرّتين.
وفي نفس الوقت، كان يجعل روح الوايفرن روحا خاصّة بروحه الأولى فقط. كانت في هذه الأثناء روح بهموت تستقرّ في روح باسل الثانيّة.
كلّ هذا تمّ بإشراف الحكمة السياديّة بالطبع. وازنت 'دورة الحياة والموت' الروحيّن الكاملتين المكتملتين، ولم يمرّ وقت طويل حتّى كان باسل قد استحوذ على رح بهموت تماما.
هذه المرّة كان هناك شيء مختلف عن المرّة السابقة. هذه المرّة، استطاع أن يشعر بوعي بهموت بداخل روحه الثانيّة.
انطلق عامود من الطاقة من باسل نحو السماء. أوحى ذلك العامود إلى انتهاء باسل من عمله، وإلى اكتمال الساحر ذو الروحين الذي لا مثيل له في كلّ العوالم.
هدأت بعد فترة وجيزة طاقة باسل الروحيّة، فحاول تجربة الأمر بالتحدث مع بهموت: "هل الأمر مريح هناك؟"
"إنّني في قمة سعادتي لأنّني صرت الآن جزءا من شيء أعظم."
خاطب باسل الرمح هذه المرّة: "إنّك هادئ على غير عادتك. لقد ظننت أنّك ستعارض الأمر تماما."
ردّ الرمح بنبرة غاضبة نوعا ما: "همف! وهل سيغيّر اعتراضي أيّ شيء؟ لقد قبلت أصلا فيما سبق على روح هذا الوحش، وبما أنّه لم يصر مجنونا كما اعتقدت، فلا أرى أنّ هناك أيّ مانع، مع أنّني أكره شخصيّته الغريبة تلك."
تكلّم بهموت: "إنّني سعيد لأنّني أملك رفيقا مثلك تحت سيادة سيّدنا باسل. لنتعايش ونتصادق من هنا فصاعدا يا أخي الأكبر."
ارتعب الرمح وكان ليرتجف لو كان متشكّلا جسدّيا: "أيّ أخبر أكبر يا هذا. هل تريدني أن أغتصبك؟"
"هاهاها، إنّ مزح أخي الأكبر بذيئة."
كان الرمح ليتنهّد لو امتلك جسدا. تحسّر على حاله ثمّ تمتم: "استُعمرت مساحتي الشخصيّة."
أراد باسل أن يعلّق على كلامه هذا ويقول أنّها ليست مساحة أيّ أحد بل مساحته وما الذي يجرؤ هذا الرمح على قوله، لكنّه تراجع عن ذلك. لم يرد أن يسمع هراء الرمح من جديد.
بمناسبة الهراء، لم يكن الرمح هادئا سابقا فقط لأنّه لم يكن معترضا، بل أيضا لأنّه كان يراقب ما كان يفعله باسل باندهاش. لقد كان مذهولا تماما، واحترم باسل حقّا لأنّه كان يفعل المستحيل تلو الآخر منذ أن قابله. وبالطبع، لم تكن هناك أيّ فرصة أن يعترف بهذا لباسل.
التفت باسل إلى جهة السحرة، واستعدّ للتوجّه نحوهم، إلّا أنّه توقّف فجأة. لقد حدث أمامه نفس ما حدث قبل حوالي ثلاثة أيّام في قمّة 'حياة'.
ظهر أمامه الجدّ عليّ.
قال 'الجدّ عليّ': "شاذ للغاية!"
هنا تأكّد باسل من حدسه عندما شعر سابقا أنّه سيلتقي بهذا 'الجد عليّ' مرّة أخرى. وما أن شاهده، علم باسل أنّه لن يغادر هذه المرّة ببساطة كما فعل المرّة الماضيّة.
***
الجدّ عليّ.
لقد كان شخصا مميّزا بالنسبة لباسل. فعندما كان طفلا بدون أب، شعر أحيانا أنّ نصائح الجدّ عليّ واهتمامه به هو ما يمكن أن يوصف برعاية الأب التي لا تقارن بحبّ أيّ قلب.
علم باسل عن درجة حبّه للجدّ عليّ عندما كان يصبح ساحرا. آنذاك، عندما كان باسل يحاول تجاوز المرحلة الثانيّة في حالة الصفاء الذهنيّ الروحيّ، ظهر الجدّ عليّ كشخص يخشى فقدانه إلى جانب أمّه والعمّة سميرة وأنمار. لقد كان باسل في تلك الأثناء يملك هؤلاء الأشخاص فقط.
الآن، فقدهم كلّهم، على الأقلّ حتّى يبحث عن أنمار ويجدها.
لقد كان مصدوما عندما اختفى الجدّ عليّ ولم يتذكّر وجوده أيّ أحد غيره، لذا عندما ظهر أمامه من الفراغ آخر مرّة، كان متوتّرا ومرتبكا، وخصوصا عندما رأى العينين الفارغتين من الحياة اللتين ملكهما ذلك الشيء الذي كان يبدو كالجدّ عليّ.
نعم، ما أن رأى باسل تينك العينين، اقتنع تماما أنّ الشيء الذي كان أمامه لم يكون ذلك الجدّ عليّ العطوف والحنون، الذي عامله أحيانا كابن له، ومارس معه الفلاحة حتّى. لقد أحبّ باسل الجزر أكثر بسبب الجدّ عليّ، حتّى أنّه تعلّم طريقة زرع الجزر السرّيّة للجدّ عليّ.
لربّما لم يكن ذلك شيئا هامّا لينجو كساحر، لكنّه كان من أهمّ الأشياء للطفل باسل الذي لم يعلم يوما معنى امتلاك أب.
ولهذا، بعدما مرّت كلّ تلك الأفكار في عقله واجتاحت تلك المشاعر قلبه، غضب. فقط من الذي يتجرّأ على أخذ صورة الجدّ عليّ واستخدامها ضدّه بهذا الشكل.
ولكن، حتّى بدون الحكمة السياديّة، هدأ باسل. هدأ لأنّه علم تماما عن السبب الذي جعل هذا الشيء يظهر أمامه، لكنّه لم يعلم عن السبب الذي جعله يتّخذ صورة الجدّ عليّ.
كان هناك احتمال واحد لسبب ظهور هذا الشيء أمام باسل، ألا وهو حالة باسل. لقد ظهر هذا الشيء بعدما اكتسب عنصريْ الماء والأرض وأكمل تقنيّة التكامل التأصليّ. بالإضافة إلى ذلك، تفوّه هذا الشيء بشيء محدّد يصف باسل حاليا.
[شاذ للغاية!]
كرّر ذلك الشيء نفس ما قاله سابقا، إلّا أنّه صوته كان مرتفعا هذه المرّة وأضاف 'للغاية'.
زاد باسل تأكّدا من هويّة هذا الشيء فقط من هذين الشيئين.
لقد ظهر لأنّ باسل فعل شيئا شاذا لا يجب أن يحدث في العالم. والآن بعدما ظهر، وصف شذوذ باسل بأنّه كبير أكثر ممّا كان عليه.
لقد كان هذا شيئا يعلم تماما عن حالة باسل. سابقا، كان باسل ساحرا ذا روحين غير مكتمل، لكنّه الآن صار ساحرا بروحين كلّيّا.
لقد كان هذا نوعا ما من اختبار الجدارة.
لكن يبقى نفس السؤال مطروحا. لماذا الجدّ عليّ؟
هذا ما كان باسل يريد حاليا اكتشافه جنبا إلى جنب مع تجاوز الاختبار الذي سيُطرح عليه.
لم يحاول باسل التكلّم مع ذلك الشيء حتّى. ظهر الرمح الطاغيّة في يده اليمنى، ثمّ ظهر رمح خشبيّ في يده اليسرى.
لقد صار الرمح الخشبيّ هو السلاح الروحيّ لروحه الأولى الآن. أتمّ باسل هذا عندما كان ينقل روح الوايفرن إلى روح الأولى.
تجدّدت طاقته الروحيّة تماما عندما صار ساحرا بروحين كلّيّا، لذا صار بإمكانه استخدام كلّ قوّته من جديد، ولهذا تحوّل إلى حاصد الأرواح الأصليّ.
أحاطته التعاويذ الذهنيّة الروحيّة فاستعد لاستخدام فنونه القتاليّة الثلاثة.
لقد كان ينوي القتال بكلّ ما يملك. كان السبب هو أنّه كان يعلم أنّ اختبار الجدارة الذي يمكن أن يظهر بسبب كلّ ما فعله سيكون جنونيّا.
ومع ذلك، لم يتحرّك أوّلا بالرغم من استعداداته. لم يكن غبيّا كفاية لينقضّ على ذلك الشيء الذي اتّخذ صورة الجدّ عليّ بدون سبب.
انتظر بصبر الحركة القادمة من الطرف الآخر.
مرّ وقت طويل بينما ينظر ذلك الشيء بعينيه الفارغتين من الحياة إلى باسل كما لو كان يدرسه. وبالطبع، أحسّ باسل أنّه بلا دفاع على الإطلاق أمام نظرات ذلك الشيء التحليليّة. لا يهمّ ما إذا امتلك الحكمة السياديّة أم لا، إذا أراد ذلك الشيء معرفة شيء عنه، فسيعرفه.
أحكم باسل قبضتيه لمّا حدّق إلى 'الجدّ عليّ'. لقد كان متحسّرا كثيرا على اختفائه، وها هو الآن يعاود الظهور لكن بهذا الشكل الفظيع. لمَ على ذلك الوجه البشوش أن يصير وجها عديم المشاعر كهذا؟ هل ربّما يعاني الجدّ عليّ بطريقة ما؟
لم يكن هناك مجال لباسل حتّى يعلم عن هذا. كيف له أن يعلم عن أسرار وخبايا اختبارات الجدارة وكيف تعمل. لقد كانت هذه إحدى الأسرار التي ظلّت غامضة ولم يكشفها أحد.
انطبق نفس الأمر على ممتحني الظلام الذين كانوا يظهرون على هيئة سوداء تبعث دخّانا ما. قيل أنّه ذات مرّة ظهر ممتحن ظلام بنفس الهيئة السوداء، إلّا أنّه حمل منجلا في يده كسلاحه.
بالطبع، كان باسل مرتاحا نوعا ما لأنّ ممتحني الظلام لم يظهروا، باعتبارهم يظهرون فقط عندما يكون السبب هو 'روحانيّ سامٍ' أو 'روحانيّ أسطوريّ'. كان باسل ما يزال يتذكّر قوّة أولئك الممتحنين المرعبة عندما شاهد الأمر بجسده الذي كان تحت سيطرة السارق الخسّيس.
. ومع ذلك، كان مرتبكا لأنّ الشيء الذي ظهر كان أشدّ غموضا من أولئك الممتحنين المظلمين.
لم يعلم باسل كم مرّ من الوقت بالضبط بسبب توتّره، لكنّ دقّة حساب الحكمة السياديّة أخبرته أنّ دقائق معدودة قد مرّت بالفعل.
كان مندهشا من أنّ كلّ ذلك الوقت مرّ وما زال ذلك الشيء لم يتحرّك.
لقد كان من الصعب على باسل الحفاظ على هيئة حاصد الأرواح الأصليّ لوقت طويل حتّى لو لم يستخدم قوّته بشكل مبذر وظلّ واقفا فقط. فقط ذلك التحوّل يستهلك الطاقة الروحيّة.
ولهذا، أراد من ذلك الشيء أن يسرع في خطوته القادمة. للأسف، لم يحصل ذلك.
مرّة دقائق أخرى، وتبعتها دقائق، حتّى مرّت ساعة، وتلتها دقائق أخرى. بعد مرور كلّ ذلك الوقت، كان تحوّل باسل قد اختفى من شدّة الإرهاق واستنزاف الطاقة الروحيّة. بالطبع توقّف باسل قبل فوات الأوان من أجل تخزين قوّته والتحوّل مرّة أخرى عند احتياجه لذلك.
كان عليه الآن أن ينتظر ما سيفعله ذلك الشيء بصبر وحذر.
كان السحرة في هذه الأثناء ينظرون إلى باسل بشكل غريب جدّا. لقد كان يقف هناك لمدّة طويلة جدّا، لذا اعتقدوا أنّه ربّما كان متعبا، لكنّه كان مستعدّا لسبب ما في الدخول لقتال ما. ألم يقضِ على الوحش الروحيّ بالفعل؟
حتّى تلك الوحوش السحريّة ذات المستوى12 و13 هربت بعدما موت الوحش الروحيّ، فما الذي ما يزال هناك ليقاتله الجنرال الأعلى باسل؟
لقد كانوا ينظرون إلى هنا وهناك حتّى يجدون هذا العدوّ؛ كان السبب هو ما فعله الوحش الروحيّ سابقا عندما اختفى وقاتله باسل بالرغم من أنّهم لم يعلموا في الأوّل ما كان يفعل. ظنّوا أنّ نفس الشيء كان يحدث حاليّا. لماذا؟
كان السبب بسيطا، لكنّ باسل بنفسه لم يلاحظه. لم باستطاعة أيّ أحد رؤية ذلك الشيء الذي اتّخذ شكل الجدّ عليّ غير باسل.
استيقظ السحرة الذين غابوا عن الوعي خلال المعركة، وسُرِدت عليهم الأحداث التي حدثت، فانضمّوا إلى قائمة الانتظار بجانب بقيّة السحرة. كلّهم انتظروا باسل بصبر. لم يريدوا أن يزعجوه. حتّى لو ظهر لهم يفعل شيئا غريبا، قد يكون ذلك شيئا مهمّا للغاية ولا يستطيعون إدراكه فقط.
وبعد مرور حوالي ساعتين أخيرا، لاحظوا أنّ باسل تحرّك من مكانه للخلف بوجه مضطرب، بل بوجه شاحب نوعا ما، كما لو كان يتألّم. لم يفهموا شيئا. هل هناك حقّا عدوّ خفيّ؟ أمّ أنّ الضرر من المعركة السابقة هو ما جعله واقفا هناك طوال تلك المدّة حتى ظهرت أعراض الآلام أخيرا؟
ولكن ما حدث في نظر باسل كان مختلفا عمّا ظهر للسحرة.
[انتهى التحليل. النتيجة: الهدف يملك روحين وخمسة عناصر سحريّة بجسد واحد. الاختبار: لا يمكن اختبار الهدف بأيّ طريقة حاليّا. الحلّ: دراسة الهدف لوقت أطول من أجل إيجاد الاختبار الأنسب.]
عبس باسل لمّا سمع الكلام الذي كان موجّها له نوعا ما: "ما الذي يقوله هذا الشيء؟ هل يدرس حالتي؟"
[انتهى التحليل. النتيجة: الهدف يجذب طاقة العالم بشكل غير اعتياديّ وبلا حدود. الاختبار: قطع اتّصال الهدف بطاقة العالم إلى أن يجد طريقة للارتباط بها.]
فتح باسل عينيه على مصراعيهما فجأة كما لو أنّه صُعِق. لقد شعر بشكل مختلف تماما عما كان يشعر به منذ أن صار ساحرا. لقد كان هناك شيء ناقص. كما لو أنّ أحد أطراف جسده اختفى أو صار لا يمكنه تحريكه.
فهم باسل ما حدث للتوّ مباشرة. لقد قُطِع اتّصاله بطاقة العالم.
استخدم الحكمة السياديّة بسرعة بكامل قوّتها من أجل عكس العمليّة بطريقة أو بأخرى، لكنّه فجأة لاحظ أنّ بخارا أسود يبدو كشيء يجلب الشؤم كان يقترب منه بسرعة كبيرة.
تراجع للخلف وهذا ما ظهر للسحرة سابقا، إلّا أنّه قبل أن يزيد خطوة أخرى على الأولى حتّى كان البخار قد التصق بجسده وتخلل إليه ومرّ عبر عروقه ودمه ثمّ روحه.
في تلك اللحظة شحُب وجه باسل وتألّم بطريقة غير طبيعيّة. لقد كان ذلك البخار كسمّ ما يمكنه تسميم روح سيّد روحيّ بكلّ سهولة. صار باسل واهنا للغاية وسقط على ركبتيه ثمّ قبض عنقه كما لو كان مجرّد شخص عادي يختنق من أجل التنفّس.
صارت عيناه داميّتين وبدتا كما لو أنّهما ستنفجران، وكان نفس الشيء يحدث لباقي أعضاء جسده الداخليّة والخارجيّة على حدّ سواء. فقط ما كان ذلك البخار الأسود. لم يشعر باسل به حتّى بلغه، وحتّى عندما تخلّل جسده كان ما يزال لا يستطيع الشعور به فما بالك بمقاومته. كلّ ما كان يحسّ به هو الآثار التي كان يخلّفها ذلك البخار الأسود وراءه، والتي تشكّلت كأعراض جانبيّة سبّبت آلاما جسديّة روحيّة شديدة.
علم باسل ما كان يحصل بعد وقت وجيز. لقد كان ذلك البخار نوعا من الطاقة التي ستجعل من اتّصاله بطاقة العالم مقطوعا. علم أيضا أنّه في كلّ يحاول فيها الاتّصال بطاقة العالم سيمرّ بمثل هذه الآلام أو أكثر حتّى.
صرخ بشدّة: "اللعنة!"
لقد كان ما يمرّ به مؤلما حتّى بالنسبة له هو الذي اعتاد على تحمّل درجة كبيرة من الألم.
[انتهى التحليل. النتيجة: الهدف يملك 'هبة' بشكل غير اعتياديّ. الاختبار: ليس هناك اختبار لأنّ المالك الأصليّ استوفى شرط منح الهبة. الحل: ختم تقدّم الحكمة السياديّة إلى أن يتجاوز الهدف اختبار أرض الوهب والسلب.]
لم يعلم باسل ما حصل حتّى حصل. لم يكن باستطاعته الشعور بذلك البخار الأسود أو ما كان يفعله لجسده وروحه حتّى كان قد حدث. ولهذا، لم يعلم أنّ الحكمة السياديّة في أعماق روحه قد تأثّرت أيضا قبل أن يستطيع فعل أيّ شيء.
صرخ باسل: "تبّا! اختبار الجدارة؟ أيّ اختبار هذا؟ اللعنة! هذا مجرّد عقاب."
كيف يجب عليه أن يكتشف طريقة للارتباط بطاقة العالم إن كان مقطوعا عنها تماما؟ كيف له أن يذهب إلى أرض الوهب والسلب وهو يتمنّى فقط أن يجد طريقة لمغادرة هذا العالم؟
وليس هذا فقط، ألم يقل ذلك الشيء أمرا عن المزيد من الوقت لدراسته كساحر ذي روحين بخمسة عناصر سحريّة من أجل تقرير الاختبار المناسب له؟
لقد عوقِب هكذا فقط لأنّ طاقة العالم تنجذب إليه بلا حدود وامتلك الحكمة السياديّة بدون رخصة، فما بالك بما سيحدث له عنما يتقرّر الاختبار المناسب للساحر ذي الروحين بخمسة عناصر سحريّة؟ أو يجب القول العقاب ليس الاختبار.
صرخ باسل مرّة أخرى: "اللعنة على اختباراتك هذه!"
كان يتألّم بشكل داخليّ، لكنّه حوّل كل تلك الآلام إلى غضب وصرخ. لقد كان محبطا للغاية. فقط عندما وجد طريقة لتسريع نموّه حتّى يواكب سرعة السحرة الذين يملكون روحا واحدة فقط، حدث له مثل هذا الأمر. هل يخبره ذلك الشيء أنّ هذين الاختبارين اللذين منحهما لباسل عادلين؟ كيف ذلك؟
فكّر باسل في كونه يملك روحين وخمسة عناصر سحريّة فقرّر وحسم أمره بينما يتألّم بشدّة: "سأبحث عن طريقة ما للتخلّص من هذه الاختبارات اللعينة. لا تظنّ أنّني سألعب بقواعدك من الآن فصاعدا."
لو كان 'سيُعاقب' مرّة أخرى كهذه المرّة، فبالأحرى به أن يجد طريقة ما لتجنّب اختبار العالم. هل كانت توجد طريقة كهذه؟ لم يعلم باسل بالضبط لكن كانت له شكوكه الخاصّة.
كان أساس شكوكه هذه هو السؤال التالي الذي شغل باله لوقت طويل: لماذا اختُبِر الآن على طاقة العالم التي تنجذب إليه وليس قبل هذا؟ ألا يُفترض بهذا أن يحدث قبل وقت طويل؟
كان هناك استنتاج واحد فقط. لم يحدث الاختبار لأنّ السارق الخسّيس، الذي كان السبب في كون باسل ما هو عليه، فعل شيئا جعل اختبار العالم لا يستجيب لجسد باسل.
بالتفكير في الأمر، لماذا احتاج الأمر سنينا عديدة حتّى يولد شخص كباسل؟ ألا تزيد واقعيّة الأمر إن كان السبب هو صنع طريقة لتجنّب اختبار العالم الذي لن يسمح بهذا الشذوذ؟
لو كان كلّ هذا صحيحا، فسيبحث باسل بكلّ جهده عن طريقة ما لتجنّب اختبار العالم القادم، والذي سيجعل من غدوّه ساحر بروحين لعنة أبديّة لا يمكنه الفرار منها.
قال باسل مضيفا: "سأحرص أيضا على جعلك تندم على استخدام صورة الجدّ عليّ من أجل هذا الغرض. انتظر فقط، انتظرني."
قال باسل ذلك الكلام وسقط غائبا عن الوعي.
في النهاية، ظلّ سبب ظهور ذلك الشيء متّخذا صورة الجدّ عليّ مجهولا.
كان السحرة يسارعون إلى باسل في هذه الأثناء، وما أن بلغوا مكانه حتّى اندهشوا أنّ جسده كان بخير تماما، إلّا أنّه كان غائبا عن الوعي.
حاولوا إيقاظه بكلّ الطرق، لكن لم يفلح معهم الأمر.
في نهاية المطاف، بعد مرور أسبوع من المحاولات المستمرّة، استسلموا وتركوه وشأنه. لقد كان الأمر يفوق قدراتهم.
كان باسل حاليّا مستلقيّا على سرير في القصر الإمبراطوريّ بالعاصمة بعدما نقله الرئيس تشارلي إلى هناك.
وهكذا، مرّت بضعة أسابيع أخرى قبل أن يستيقظ باسل أخيرا كما لو أنّ شيئا لم يحدث.
قفز كارماين فرحا بعدما صادفت زيارته لباسل استيقاظه. لقد مرّ أكثر من شهر، وأخيرا استيقظ باسل.
لم ينظر باسل إلى الفتى المتحمّس، ولكن اختبر شيئا. بالطبع كان ذلك هو محاولة الاتّصال بطاقة العالم. أراد أن يعلم كيف سيكون الأمر لو حاول امتصاص طاقة العالم كأيّ ساحر. بمجرّد ما أن بدأ الأمر حتّى صُعِق جسده وشعر أن روحه تُحصد، هذا بالرغم من أنّه لم ينجح في الاتّصال بطاقة العالم.
أحكم قبضتيه من شدّة الألم والعزيمة، ثمّ نظر إلى كارماين الذي كان يهزّ جسده ويناديه باستمرار قلقا.
وضع كفّه على رأس كارماين ثمّ قال: "لا تقلق. إنّني بخير."
لسبب ما، عندما نظر كارماين إلى عيني باسل وشعر بكفّه تقبض رأسه، شعر أنّ باسل كان حزينا لسبب مختلف عن تلك المأساة، لكن عازم في نفس الوقت أكثر من أيّ وقت مضى.
***
بعدما أمضى باسل أيّاما أخرى مع عائلة كريمزون التي أصرّت على بقائه لمدّة أطول، خرج إلى العاصمة ليتمشّى قليلا. كان يفعل هذا لآخر مرّة قبل أن يشدّ رحاله ويتجوّل العالم من أجل إيجاد وسيلة ما للانتقال إلى عالم آخر بحثا عن أنمار والآخرين.
أراد باسل أن ينظر جيّدا إلى حال العاصمة وبعض من المدن قبل مغادرته. أراد أن يرى كيف يعيش الناس بعد الكارثة التي لم يحسب لها حسابا، حتّى يتذكّر بذاكرته التي لا تنسى كيف يعاني الناس بسبب غفلته.
كان باسل يلوم نفسه. كان يحمل كلّ ذلك على كتفيه. لماذا؟ لأنّ ذلك كان هو مساره الروحيّ. كان هذا ما اختاره. لقد كان يعلم أنّه سيكون مسارا شاقّا وصعبا، وأخبره معلّمه بهذا، لكنّه أصرّ على اتّباع هذا الطريق.
لقد كانت له ذاكرة مذهلة منذ صغره. لقد كان يتذكّر أيّ شيء بجميع تفاصيله بدون نسيانه لمدى حياته، ولهذا اعتقد باسل أنّ هذا كان نوعا ما من القدر. لقد كان يتذكّر صورة كلّ شخص قتله، يتذكّر نظراتهم التي كانت تفرغ من الحياة عندما يطعنهم أو يسحقهم.
كان يجب على باسل تحمّل كلّ تلك الصور التي لن ينساها أبدا، ولهذا ظنّ أنّ هذا قد يكون مساره الروحيّ. لربّما كانت تلك علامة تخبره أن يتّبع مسارا حيث يجب عليه أن يحمل على كتفيه وزن كلّ حياة يزهقها وكلّ حياة ينقذها.
لقد ظنّ باسل فيما سبق أنّه شخص لا يكترث سوى بعائلته، لكنّه الآن كان يفكّر بشكل مختلف. عندما وضع العديد من الأشخاص ثقتهم فيه، لم يستطع تجاهلهم. وليس ذلك فقط، بل حتّى أنّهم اكتسبوا حبّه واهتمامه.
كان الأمر نفسه مع بقيّة العالم. فعندما حام باسل العالم في السنوات الأخيرة، كوّن بعض العلاقات ورأى كيف اعتمد عليه العالم بشكل كبير. كانت هناك عائلات مثل عائلته احتاجت للحماية.
ولهذا كان باسل حزينا عندما رأى أنّ تلك العائلات قد حدث لها نفس ما حدث لعائلته. لقد فعل ما بوسعه، لكنّه كان يلوم نفسه لأنّه لم يكن هناك عندما احتاجته عائلته والعالم. لام نفسه لأنّ كلّ شيء حدث بدون أن يستطيع فعل أيّ شيء.
وبالطبع، كان باسل عازما على تحويل لوم ذاته والوزن الذي يحمله كلّهما إلى إرادة راسخة تجعله جبلا صامدا ضدّ كلّ التغيّرات والاحتمالات. طالما يستمرّ في تحمّل ذلك الحمل، سيغدو أقوى. هذا ما آمن باسل به. هذا ما جعله يعبأ للعالم بأكمله وليس عائلته فقط.
وصل باسل إلى الساحة المركزيّة في العاصمة حيث تقع نافورة خلّابة هناك، فلاحظ أنّ بعض الناس يتبادلون الهمسات. وبالطبع، استطاع سماع تلك الهمسات بسهولة بالرغم من أنّه بعيد عنهم بعشرات الأمتار.
"أليس ذلك الجنرال الأعلى؟"
"حقّا؟ كيف يمكن هذا؟ لمَ سيكون الجنرال الأعلى هنا لوحده؟ بالأحرى، ألم يكن طريح الفراش بعدما أنقذ الإمبراطوريّة قبل شهر؟ هل استيقظ بالفعل؟"
"لم نسمع خبر يقظته حتّى الآن، لكن ليس هناك أيّ شخص بمثل مواصفاته."
شكّك العديد فيما سبق في أهليّة باسل بعد اختفائه عن العالم في تلك الكارثة، لكن معظمهم بدأ ينسى ذلك بالفعل بعدما انتشر خبر أفعاله في المعركة الأخيرة ضدّ حشد الوحوش، وذلك عبر أفواه جنود وقادة كانوا قد شكّكوا فيه أيضا.
وبالطبع، صرّ بعض على أسنانهم بسبب هذا. لقد فرحوا عندما علموا أنّ هناك فرصة عظيمة لإزاحة ذلك الفتى عن الطريق نحو القمّة، لكنّ فرحتهم لم تدم طويلا. تغيّر كلّ شيء في الشهر الأخير بعدما أثبت باسل جدارته.
وبالطبع، لم يُلقِ باسل بالا لكلّ هذا. لقد صار جنرالا أعلى للإمبراطوريّة فقط لأنّ ذلك منحه سلطة مطلقة على كلّ جنديّ في الإمبراطوريّة بترخيص من الإمبراطور بنفسه. لم يهتمّ بالأراضي ولا مراتب النبالة. لقد كان باسل دائما يركّز على الاهتمام ما يهمّ حقّا.
لقد أنقذ أولئك السحرة لأنّه أراد فعل ذلك، وليس لأنّه أراد إصلاح سمعته. لم يهتم باسل من قبل بسمعته طالما يمكنه تحريك القوى من أجل مواجهة الخطر.
لم تجعله تلك النظرات التي تكنّ الاحترام تجاهه مرتاحا أو سعيدا أو فخورا بما فعل. لم يفعل ذلك من أجل المجد، بل من أجل العالم.
هناك أشخاص عدّة اتّبعوا باسل ووثقوا فيه ثقة مطلقة لهذا السبب بالذات. التشكيل، وأخوا القطع، وعائلة كريمزون، والأباطرة، والعديد من الجنرالات - كلّ هؤلاء وضعوا ثقتهم فيه لأنّهم علموا أنّه لطالما فعل ما فعل من أجل العالم بأكمله. بينما كانوا يركّزون على الأعداء المحتملون من عالمهم، كان هو يضع عينيه على العدوّ الأكبر والمشترك.
تجاهل باسل تلك النظرات والهمسات وأكمل مسيره حتّى نهاية اليوم. وفي اليوم التالي، ودّع عائلة كريمزون وعائلة كين وشكر الرئيس تشارلي على حسن تعامله.
وفي تلك الأثناء، كان الجنرال رعد حاضرا أيضا. لم يكن السبب هو توديع باسل، بل على العكس، مصاحبته في رحلته لبعض من الوقت. لقد كان الجنرال رعد 'صاعدا' الآن، فكان عليه التقدّم في المستوى. ولهذا، مرافقة باسل كانت حتميّة لأنّ ذلك الأخير كان الساحر الروحيّ الوحيد في العالم الواهن.
بالطبع نشر باسل طريقة الصعود إلى المستويات الروحيّة وما إلى ذلك علنا، لكنّ الكتب والتطبيق كانا شيئين مختلفين، بالإضافة إلى أنّ باسل أراد أن يمنح الجنرال رعد بعض الأشياء من بينها تقنيّة تكامل تأصليّ مناسبة له، هذا بدون نسيان أنّ الجنرال رعد سيكون أقوى ساحر في العالم بعدما يرحل باسل. وليس هذا فقط، بل كان الجنرال رعد أحد قادة أكاديميّة الاتّحاد المباركة، ووجب عليه تعلم بعض الأسرار ولو قليلا.
لم يكن يجب على نموّ العالم الواهن أن يتوقّف في غياب باسل، مثلما كان باسل يفكّر في استغلال رحلته أو ربّما رحلاته إلى العوالم الرئيسيّة في تنميّة قوّته أكثر وإيجاد طرق أخرى لتحسين العالم الواهن أكثر.
لو تعلّم باسل شيئا من أخطائه السابقة، فأهمّها كان هو تركيزه الكليّ على رفع مستوى قوّته ونسيانه مستوى الآخرين. لربّما كانت الأمور لتحدث بشكل مختلف لو كان هناك سحرة روحيّون آخرون غيره، لربّما كانت هناك فرصة ولو ضئيلة جدّا أن يصمدوا حتّى يأتي.
لم يهمّ إن ذلك ممكنا أصلا عند التفكير في تلك الوحوش المرعبة التي ظهرت، لكن هذا لا يغيّر حقيقة أنّه كان عليه صرف وقت أكبر في تنميّة قوى تورتش والآخرين، وحتّى أنمار.
فكّر باسل في كلّ هذه الأمور لوقت طويل.
وهكذا، بدأت رحلة باسل والجنرال رعد القصيرة التي كانت هدفها الأوّل هو قارّة الأصل والنهاية.
زارا بعض المدن في طريقهما كما كان باسل مخطِّطا من قبل، وعلّما لبعض الشبّان ما يمكن تعليمه خلال فترة مكوثهما في أيّ مكان. قد تكون حركة أو كلمة منهما إلهاما وتنويرا لبعض المواهب.
يمكن القول أنّ تلك كانت نزوة منهما، لكنّها كانت نزوة جيّدة.
***
حلّق الجنرال رعد مع باسل في السماء قاطعين البحر ومتوجّهين نحو قارّة الأصل والنهاية التي اقتربت كثيرا عمّا كانت عليه.
قال الجنرال رعد: "هناك شيء أريد سؤالك عنه. أعلم الآن أنّ فرص بلوغ المستويات الروحيّة قليلة جدّا وتعتمد على المرء، ولهذا خطف أولئك من عالمنا العديد من المواهب التي قد بلغت مستوى متقدّما في السحر، لكن لماذا لم يخطفوا بعضا من كبار السنّ بالرغم من أنّ بعضهم في المستوى الثاني والثالث عشر حتّى؟"
لقد كان للجنرال رعد فكرة عامّة نوعا ما عن السبب، لكنّه أراد تفسيرا من باسل الذي كانت له معرفة شاملة بالموضوع.
"هل تعلم ماذا يحدث عند محاولة اختراق الصاعد للمستويات الروحيّة؟ لماذا يمكن القول أنّه يكاد يستحيل أن يخترق كبار السنّ إلى المستويات الروحيّة؟ السبب بسيط لكن قاطع. عندما يحاول الساحر الاختراق إلى المستويات الروحيّة، فقوّة حياته بذاتها تُستنزف تماما لإتمام هذه العمليّة، أو يمكن القول أنّ زمن الساحر يُستغرق من أجل بلوغ المستويات الروحيّة."
كان هذا هو السبب الذي جعل باسل يشيخ لفترة من الزمن عند اختراقه للمستويات الروحيّة قبل أن يستعيد حيويّته وشبابه عندما نجح في الاختراق.
"إذا كان الساحر يافعا، فسيصير عجوزا قبل أن تعود إليه قوّة حياته عندما ينجح في الاختراق، لكن إذا كان الساحر عجوزا، فهو يموت قبل أن يستطيع الاختراق حتّى لعدم وجود قوّة حياة كافيّة حتّى يستخدمها من أجل الاختراق."
لاحظ باسل عبوس الجنرال رعد ثمّ أكمل: "أعلم ما تفكّر فيه. للأسف، فرصة نجاح العمّ براون أو الكبير تشارلي في الاختراق ضئيلة ولو غضضنا النظر عن موهبتهما. ولحسن الحظّ، ما زلتَ تملك فرصة جيّدة. كساحر صاعد بالربعينيّات من عمره، فإنّك شابّ."
رفع الجنرال رعد حاجبه مستغربا: "هل سبق لي أن أخبرتك بعمري؟"
كيفما نظرت إلى الجنرال رعد، فسترى أنّه مجرّد شابّ بالعشرينات من عمره، فكيف لباسل الذي لم يهتم بشؤون الجنرال رعد إطلاقا أن يعلم عن عمره؟
لم يجب باسل الجنرال رعد مباشرة. لم يحتج لفعل ذلك لأنّه كان يعلم أنّ الرجل الأشقر سيدرك شيئا ويسأل ثانيّة: "هل لهذا علاقة بتلك القدرة الغريبة التي تملكها؟"
لقد كان الجنرال رعد يتحدّث عن الحكمة السياديّة. فهم باسل مقصده وردّ: "صحيح. إنّها تُدعى الحكمة السياديّة."
كانت الحكمة السياديّة تمنح لمالكها بصيرة عميقة وقدرات تحليليّة شاملة وتحكّما سليما بالدرجات الثلاث الأولى منها، لكن هذا لم يعنِ أنّ الحكيم السياديّ عليه أن يفعّل تلك الدرجات في كلّ مرّة أراد استخدام تلك القدرات. مع مرور الوقت، يصير الحكيم السياديّ يستخدم تلك القدرات بشكل دائم لكن بدرجة مخفّفة. ذلك ما يجعله حكيما سياديّا أصلا.
لاحظ باسل أنّ الجنرال رعد يريد تفسيرا أوضح، وبالطبع كان باسل ينوي شرح كلّ شيء له. كان هذا هو الغرض من اصطحابه معه في هذه الرحلة.
"الحكمة السياديّة عبارة عن هبة."
"هبة؟ هل تقصد أنّها مثل الموهبة؟"
"لا." ردّ باسل: "الهبة التي أتحدّث عنها هي هبة لا يمكنك الحصول عليها إلّا من أرض الوهب والسلب. عندما تتجاوز اختبارات ومحن أرض الوهب والسلب، فسيمكنك الحصول على الهبة التي سعيت لها. لو فشلت، فسيُسلب منك. ولهذا اسمها أرض الوهب والسلب."
استغرب الجنرال رعد أكثر. أرض الوهب والسلب؟ أين توجد هذه الأرض أصلا؟ ومتى وجد الفتى القرمزيّ الوقت للذهاب لها وكسب مثل هذه الهبة؟
بينما تراود تلك الأسئلة ذهن الجنرال رعد، أجاب باسل عنها كما لو أنّه علم عمّا كان يفكٍّ فيه الرجل الأشقر: "توجد أرض الوهب والسلب في العالم الأصليّ فقط. هناك احتمالات عدّة عن سبب ذلك، لكن أكثرها موضوعيّة هو أنّ العالم الأصليّ هو أوّل عالم يتحوّل روحيّا. لم تظهر هناك أيّ أرض وهب وسلب أخرى في العوالم الروحيّة، لكنّ ذلك لا يزيح احتماليّة انبثاق واحدة أخرى في وقت ما."
أضاف باسل: "بالطبع لم يكن هناك لديّ وقت ولا الفرصة للذهاب إلى العالم الأصليّ. الحكمة السياديّة التي أملكها عبارة عن إرث."
حدّق الجنرال رعد إلى باسل الذي بدا سارحا في أفكاره بعدما قال ما قال.
إرث. لا نرث الشيء حتّى يموت صاحبه.
لطالما علم الجنرال رعد أنّ هناك شخص ما يدعم باسل ويمنحه تلك المعرفة. خمّن الكثير لاحقا أنّه ربّما يكون الشخص الذي قاتل الشياطين في مدينة العصر الجديد قبل أكثر من سنة ونصف. ذلك الشخص الذي كان على الأغلب معلّم باسل مات فورثه تلميذه في قدرته.
فهم الجنرال رعد الكلمات الخفيّة في كلام باسل ولم يسأل عن ذلك. ليس لأنّه سيكون مجرّدًا من الأحاسيس لو سأل، بل لأنّ هناك أشياء لا يمكن للشخص الإجابة عنها حتّى لو طُرِح السؤال.
استمرّت رحلة الاثنين على ذلك النحو. ألقى باسل دروسه على الجنرال رعد وجعله يعلم عن العوالم الروحيّة وأسرار منها، ومنح له تقنيّة تكامل تأصليّ مناسبة له.
عندما وصلا إلى قارّة الأصل والنهاية، كلّ ما كان ينتظر الجنرال رعد هو البحث عن وحش روحيّ.
وللأسف، لم يكن هناك أيّ وحش روحيّ في هذا العالم حاليّا. كلّ وحوش المستوى الرابع عشر قد قُضِي عليها ولم تتجدّد إلّا بعد مرور سنتين على الأقلّ.
هذا ما ظنّه الجنرال رعد على الأقلّ. وبالطبع، كان مخطئا.
صحيح أنّ وحوش المستوى الرابع عشر التي قُضي عليها ستحتاج لوقت طويل قبل انبعاثها من جديد، لكن الوحوش السحريّة التي كان بالمستوى الثالث عشر وحتّى الثاني عشر قد بلغت قمّة المستوى الرابع عشر بحلول هذا الوقت، وهناك وحوش نادرة استطاعت الاختراق إلى المستويات الروحيّة حتّى. كان سبب سرعة اختراقها بسيطا - تحوّل العالم الروحيّ.
عندما يتحوّل العالم روحيّا، تظهر الوحوش الروحيّة. عندما يظهر وحش روحيّ، تطرأ بعض التغيّرات على منطقته المحظورة.
تنبت أعشاب روحيّة نادرة، وتصدر ينابيع غنيّة بالطاقة الروحيّة، وأشياء أخرى لها علاقة بنموّ الساحر الروحيّ أو الوحش الروحيّ، لكن أهمّها كان هو 'أحجار الأصل الروحيّة' التي تتشكّل في تلك المنطقة المحظورة حتّى يتغذّى عليها الوحش الروحيّ.
كان هذا هو الهدف الأوّليّ لباسل من هذه الرحلة.
لو كانت هناك طريقة لينمو بها السحرة غير امتصاص طاقة العالم، فهي امتصاص طاقة أحجار الأصل الروحيّة بكلّ تأكيد. وبالطبع، كانت هذه العمليّة تمنح قدرا أكبر وأشدّ تركيزا من الطاقة الروحيّة للساحر الروحيّ على عكس امتصاص طاقة العالم وتحويلها إلى طاقة روحيّة ببطء شديد، لكنّ هذا يكلّفه عناء أكبر بكثير أيضا.
ففي كلّ مرّة يمتصّ فيها الساحر الطاقة من الحجر، يكون عليه تنقيّة الشوائب والسموم التي يمتصّها من الحجر أيضا. تلك العمليّة لوحدها فقط تستغرق وقتا طويلا، لكن ما يزيد الطين بلّة هو أنّ أحجار الأصل الروحيّة نادرة للغاية، وحتّى لو وُجِد منها ما يكفي لا يمكن استهلاكها بسرعة بسبب الشوائب والسموم.
كان على باسل الآن تنميّة قواه بهذه الطريقة الصعبة. وبالطبع، لم يكن ينوي باسل اتّباع الطريقة الصعبة كباقي السحرة. لماذا؟ لأنّه امتلك المعرفة الكافيّة لجعل 'أحجار الأصل الروحيّة' 'أحجارا ساميّة'.
كانت الأحجار الساميّة هي النسخة النقيّة تماما تقريبا من أحجار الأصل الروحيّة.
لم يمكن الحصول على هذه الأحجار الساميّة إلّا عن طريق الكيميائيّين الذين يستطيعون تحويل أحجار الأصل الروحيّة إلى أحجار ساميّة. كان السبب هو أنّ الكيميائيّين يملكون فقط طاقة سحريّة خالصة تكوِّن أرواحهم.
وبالطبع، ليس أيّ كيميائيّ يمكنه جعل 'حجر أصل روحيّ' 'حجر سامٍ'. من أجل النجاح في هذا، يجب عليهم تنقيّة الحجر شبه كلّيّا، وهذا أمر لا يقدر عليه سوى كيميائيّون قليلون.
ولهذا تجد درجات تُصنِّف أحجار الأصل الروحيّة. كانت الدرجات كالتالي:
-الدرجة الأولى: من 10٪ إلى 20٪ من النقاوة.
الدرجة الثانيّة: من 20٪ إلى 35٪ من النقاوة.
الدرجة الثالثة: من 35٪ إلى 55٪ من النقاوة.
الدرجة الرابعة: من 50٪ إلى 70٪ من النقاوة.
الدرجة الخامسة: من 70٪ إلى 98٪ من النقاوة.
تبقى أحجار الأصل الروحيّة 'أحجار أصل روحيّة' بهذه النسب المئويّة، ولكن بمجرّد ما أن تصل درجة النقاوة إلى 99٪، يصير حجر الأصل الروحيّ حجرا ساميّا.
كان الاختلاف بين 98٪ و99٪ من درجة النقاوة كالاختلاف بين الليل والنهار. ولهذا السبب، هناك عدد قليل للغاية من الكيميائيّين الذين يستطيعون النجاح في بلوغ 99٪ من النقاوة.
بالأحرى، لو كان هناك كيميائيّ يستطيع إنتاج أحجار أصل روحيّة بالدرجة الثالثة فقط فسيكون عبقريّا. كان ذلك يعني أنّ الأحجار التي ينتجها كيميائيّ بالدرجة الثالثة تملك شوائب وسموم أقلّ بحوالي النصف، وهذا يزيد من سرعة وجودة امتصاص الطاقة من الحجر بالنسبة للسحرة الروحيّين.
هنا كانت تظهر أهميّة الكيميائيّين الذين لا يتلقّون اهتماما كبيرا في مستويات الربط. ففي الحالات الطبيعيّة، ليس هناك أيّ ساحر روحيّ يمكنه فعل ما يفعله الكيميائيّون أو الحدّادون لأنّه يملك عنصرين سحريّين وليس طاقة سحريّة خالصة.
لكن هناك استثناء ها هنا في العالم الواهن، وذلك هو الحكيم السياديّ الذي يملك تحكّما سليما وتحليلا شاملا يجعله ينافس حتّى أولئك الكيميائيّين الذين قد يُدعون بالعباقرة.
لقد كان باسل مستعدّا للبدء في استخدام قدرات الخيمياء (الذي يُعدّ درجة عليا من الكيمياء في العوالم الروحيّة) من أجل نفسه.
لقد كان الهرمى المقموعين والسلاطين يحسدون الحكيم السياديّ لسبب بعد كلّ شيء.
***
الكيميائيّون والحدّادون. ما الذي جعل بعضا من السحرة يختارون أحد هذين المسارين؟ لماذا تخلّوا عن فرصتهم في استخدام العناصر السحريّة؟
كانت هناك أسباب مختلفة. هناك من لم يجد سبيلا في استخدام العناصر السحريّة، وهناك من لم يملك موهبة كافيّة، وهناك من افتقد للعزيمة، وبالطبع لا يمكن نسيان أولئك الأشخاص الذين اتّبعوا شغفهم فقط واختاروا أحد المسارين من شدّة حبّهم له.
ومع ذلك، حتّى لو اختلفت الأسباب، لم يختر أولئك مسار الكيمياء أو الحِدادة بشكل أعمى. لقد علموا أنّهم إذا لم يملكوا فرصة في المنافسة بالعناصر السحريّة، فستكون لديهم فرصة في بلوغ قمّة الكيمياء أو الحدادة. علموا أيضا أنّه حتّى مستخدمي العناصر السحريّة يحاولون كسب معروف الكيميائيّين والحدّادين الذين بلغوا القمّة في ذينك المسارين.
كم اشتهرت الأسلحة الروحيّة التي صاحبت السحرة الروحيّين؟ إذن ماذا عن الحدّادين الذين صاغوا تلك الأسلحة المشهورة؟
كم اشتهرت أجساد وطاقات السحرة الروحيّين؟ إذن ماذا عن الكيميائيّين الذين زوّدوهم بالجرعات والمعجونات وحبات الطاقة التي حسّنت من أجسادهم وعزّزت طاقاتهم؟
لقد كان وجود الكيميائيّين والحدّادين حتميّا لتحسّن السحرة الروحيّين، ولهذا وجد من اتّبع أحد ذلك المسارين مكانا له كما وجد السحرة الروحيّين أماكنهم.
ما جعل الكيميائيّين والحدّادين متميّزين ومهمّين لهذه الدرجة كانت حقيقة امتلاكهم طاقة خالصة فقط، ما يجعلهم قادرين على استخدام قدرات الكيمياء والحدادة لصنع إكسيرات وجرعات روحيّة وأسلحة مذهلة لا يستطيع ساحر روحيّ بعناصر سحريّة صنعها.
وبالطبع، استطاع بعض السحرة بتحكّمهم المذهل صنع بعض الإكسيرات والأسلحة السحريّة، لكنّ ذلك اقتصر فقط على إكسيرات ذات مستويات الربط وأسلحة سحريّة من نفس المستوى كحدّ أقصى.
مهما بلغت درجة تحكّم السحرة والسحرة الروحيّين، لم يتمكّنوا من تحقيق نفس النتائج مثل ذوي الطاقة الخالصة أو حتّى الاقتراب من مستواهم.
هذا ما جعل الحكيم السياديّ كائنا استثنائيّا. كساحر روحيّ بعنصرين سحريّين، يمكنه إعادة طاقتيْه السحريّة والروحيّة إلى شكلهما الأصليّ فتصبحان طاقة خالصة بينما يستخدم تقنيّات الكيمياء والحدِادة في نفس الوقت، ولدرجة ينافس بها حتّى الكيميائيّين والحدّادين العباقرة.
كلّ هذا كان بفضل قدرات الحكيم السياديّ بالدرجات الثلاث من الحكمة السياديّة.
البصيرة الحكيمة السحيقة. كانت هذه هي الدرجة الأولى التي جعلت الحكيم السياديّ يرى خبايا وأسرار الأشياء، ومنحته قدرة بصريّة هائلة تجعله يرى مسافات بعيدة للغاية وبمحيط شاسع جدّا.
التحليل الحكيم الشامل. جعلت هذه الدرجة الثانيّة الحكيم السياديّ يستطيع حساب وتوقّع مآل الأشياء، وحتّى رؤية الأسباب التي جعلت الأشياء والمواقف تصل إلى حالتها الحاليّة، أي أمكنه حتّى توقّع المستقبل واسترجاع أحداث الماضي إلى حدّ ما.
التحكّم الحكيم السليم. كانت هذه هي الدرجة الثالثة والتي جعلت استخدام الدرجتين 1 و2 سهلا للغاية، بالإضافة إلى امتلاك تحكّم لا مثيل له. ليس تحكّما في الطاقة فقط، بل التحكّم في أيّ شيء حرفيّا، وهذا شمل جسد الحكيم السياديّ وليس طاقته فقط، وحتّى روحه ومحيطه. كانت هناك إشاعة أنّه يمكن للحكيم السياديّ التحكّم في خلايا جسده بنفسها، لكن ذلك كان مجرّد خرافة.
الآن بعدما صار باسل حكيما سياديّا، علم عن روعة الحكمة السياديّة الحقيقيّة، وعن قيمتها التي لا تُقدَّر بثمن. لا عجب في رغبة السلاطين فيها بشدّة، ولا عجب في مكانة معلّمه في العوالم.
فقط بثلاث درجات، ليس حتّى نصف قدرات الحكمة السياديّة بأكملها، كان الحكيم السياديّ كائنا فريدا يمكنه اللعب في أراضٍ مختلفة وسيادتها.
الحكيم السياديّ. الشخص الذي يتسيّد بحكمته.
لقد كان الإرث الذي ورثه باسل أثقل من أيّ شيء آخر كان يحمله على ظهره. لقد كانت هناك أشياء كثيرة عليه تحقيقها من أجل معلّمه الراحل. عليه ألّا يخيّب ظنّ معلّمه فيه.
أحكم باسل قبضتيه بينما ينظر إلى السماء المظلمة، جالسا فوق قمّة جبل، متدبّرا.
"لقد كنتَ أبا لي أنا الذي عاش بدون أب. كنتَ معلِّما سأفتخر بمناداته بـ'الأفضل' للأبد. سأبلغ القمّة كما أملتَ، وسأفكّ الألغاز كلّها كما تمنّيتَ. لا تقلق، أنا أفعل هذا من أجلي أيضا وليس من أجلك فقط."
لقد حرص إدريس الحكيم على إرشاد باسل وجعله يلمّ بالفكرة الشاملة، لكنّه لم يفرض عليه قطّ اختيار هذا من ذاك. لم يكن ليريد إدريس الحكيم من باسل أن يعيش حياته ساعيا وراء تحقيق أهداف غيره. لم يمنحه الحكمة السياديّة من أجل هذا. فحتّى في لحظاته الأخيرة، لم يطلب إدريس الحكيم شيئا كتحقيق أمانيه من باسل. ولهذا كان هو الأفضل.
"سأبلغ تلك القمّة لأحرص على عدم فقدان أيّ شخص آخر أبدا. لن أمرّ مرّة أخرى بهذه المعاناة التي ما زلت أختبرها بسبب تلك المأساة. وسأفكّ تلك الألغاز ببساطة لأنّني مهتمّ فيها، فكما تعلم، إنّي أعشق فكّ الأحاجي والألغاز كثيرا."
دمعت عينا باسل في هاته اللحظات، وكادت قبضتاه تنفجران من شدّة إحكامهما، قبل أن يهدأ ويرخي جسده: "ولهذا، اطمئنّ يا معلّمي، سأصير الأفضل. سأكون على ما يرام."
اقترب الجنرال رعد في هذه الأثناء من باسل ولاحظ آخر دمعة تسقط من وجه باسل الذي صار رصينا وهادئا كما لو أنّ شيئا لم يحدث.
فكّر الجنرال رعد بعدما رأى ذلك المشهد: 'من الطبيعيّ أنّه ما يزال لا يستطيع حبس دموعه. من المدهش أنّه يستطيع التظاهر بالرصانة طوال الوقت وتغيير تعبيره مثلما فعل للتوّ حتّى لا يؤثّر على المحيطين به.'
ظنّ الجنرال رعد أنّ باسل أخفى عنه حزنه حتّى لا يراه ويشعر بتأنيب الضمير ولوم الذات، وبالطبع لم يفكّر باسل في هذا. لقد كان يرتّب أفكاره فقط وتذكّر معلّمه عندما كان على وشك البدء في استخدام الحكمة السياديّة بشكل مكثّف من أجل صنع أحجار روحيّة عن طريق الكيمياء.
ما أن انتهى من استرجاعه للأحداث وشكر معلّمه في أعماق قلبه، هدأ واختفت الدموع التي تساقطت ببطء.
ابتسم الجنرال رعد بسبب سوء الفهم هذا ونظر إلى باسل بعينين حنونتين، ما جعل باسل يرفع حاجبه مستفسرا: "ماذا بك وعينيك المشمئزّتين؟"
لقد صعدت القشعريرة مع جسد باسل لوهلة عندما لاحظ تينك العينين اللتين بدتا كما لو أنّهما تنظران إلى شيء عزيز على القلب. لم يرتح عندما ألقى الرجل الأشقر نظرات كتلك على غير عادته.
تباعدت حافّتا فم الجنرال رعد لترسما ابتسامةً جليلة، واقترب أكثر من باسل: "هيّا، لا تكن خجولا. أعلم أنّك لا تعني ما تقول حقّا."
وضع الجنرال رعد ذراعه حول عنق باسل ثمّ قال بروح عاليّة: "حسنا، هيّا لنجمع تلك الأحجار ونقتل بعض الوحوش. لنعمّ الفوضى حتّى يظهر وحش روحيّ مذهل. إنّي أريد وحشا روحيّا مذهلا تأصلّ لعدّة مرّات."
تنهّد باسل بينما يراقب تصرّفات الجنرال رعد وأساء فهم شيء.
'أظنّ أنّه يتصرّف بهذه الحيويّة حتّى يخفي يأسه العميق.'
تنهّد مرّة أخرى قبل أن يقرّر: 'حسنا، سأتركه يفعل ما يشاء للوقت الحاليّ إن كان سيساعده هذا على الوقوف على قدميه وحراسة هذا العالم بعد مغادرتي.'
سوء فهم أدّى إلى سوء فهم، لكن بفضل ذلك، في هذه الليلة، صارت علاقة هذين الاثنين أقرب ممّا كانت عليه، وخصوصا بعد الفوضى العارمة التي حلّت بقارّة الأصل والنهاية بسببهما.
***
قارّة الأصل والنهاية. كانت هذه هي أكبر قارّة في العالم الواهن، وأيضا أكبر منطقة محظورة. عنى هذا الأمر أنّها حاليا احتوت على موارد طاقة روحيّة هائلة أكثر من أيّ مكان آخر، وكانت موطنا لوحوش مرعبة للغاية.
كان هدف باسل من القدوم إلى هنا هو أحجار الأصل الروحيّة بالإضافة إلى كلّ الموارد الأخرى التي يمكنه امتصاصها ورفع مستوى قوّته. لقد كان يعلم أنّ مجرّد تحسّن طفيف في مستواه سيتطلّب وقتا طويلا للغاية عند التفكير في ندرة أحجار الأصل الروحيّة وباقي الموارد، لكنّ المشكلة لم تكن تقع هنا فقط.
لم يحتج باسل أحجار الأصل الروحيّة لرفع مستواه فقط، بل احتاجها أيضا من أجل غرض آخر. بالأحرى، كان ذلك هو الهدف الأصليّ.
لقد كان عليه جمع كمّيّة هائلة من أحجار الأصل الروحيّة، وهذا حتّى يستخدمها من أجل الانتقال إلى عالم آخر عندما يجد الوسيلة.
حتّى لو لم يكن يعلم عن الوسيلة حاليا، كان يعلم أنّ الأمر سيتطلّب كمّا لا يُتخيَّل من أحجار الأصل الروحيّة عند التفكير في الختم الذي يفصل العوالم، وهذا يعيده إلى المشكلة الكبرى. كيف يمكنه الانتقال إلى عالم آخر في الوضع الحاليّ؟ كيف يمكنه النجاح في ما لم يكن للشياطين بقيادة ملك الشياطين أيّ حول أو قوّة؟
فكّر باسل لوقت طويل وبدأ يرتّب أفكاره من جديد.
لقد كان حاليا يجلس على جبل من الجثث المشوّهة، وغالبها كان يبدو إمّا مثقوبا أو مسحوقا. كلّ تلك الوحوش كانت بالمستوى 12 و13 و14 وحتّى جثّة وحش روحيّ كانت مجلسا له.
كان الجنرال رعد يلهث بشدّة عند حضيض الجبل. لقد عانى الأمريّن ضدّ ذلك الوحش الروحيّ الذي هاجمه برفقة جيش من الوحوش السحريّة ولم يمنحه الفرصة لقتاله واحد ضدّ واحد حتّى.
لحسن الحظّ، كان باسل موجودا، إلّا أنّ ذلك الفتى القرمزيّ اللعين لم يتدخّل إلّا عندما صرخ الجنرال رعد عدّة مرّات متوسّلا المساعدة.
اتّكأ الجنرال رعد على سلاحه الأثريّ ونظر إلى باسل الذي كان مرتاحا فوق كومة الجثث: 'أعلم أنّ الشخص الذي أخبره ألّا يتدخّل أبدا كان أنا، لكنّ الأمر ما زال يثير حنقي عندما أفكّر في نظرات ازدرائه.'
استجمع الجنرال رعد أنفاسه ثمّ حدّق إلى باسل: 'لقد ظننت أنّ هزيمة وحش روحيّ لن تكون صعبة للغاية حتّى لو لم أخترق إلى المستويات الروحيّة.'
فكّر في الوقت الذي هيمن فيه باسل على الوحوش السحريّة والوحش الروحيّ التنّينيّ آنذاك بكلّ بساطة، وظنّ أنّه قد يفعل شيئا مماثلا هنا ولو كان ذلك على شكل نسخة أضعف ممّا فعله باسل.
'لكن أظنّ أنّه مميّز حقّا.'
فكّر في اللحظة التي نوى باسل فيها التدخّل في المعركة مستجيبا لتوسّل الرجل الأشقر المتكرّر، فغمرت نيّة قتله ساحة المعركة وقمعت الوحوش السحريّة قبل أن تصير أهدافا سهلة لقنابله ورماحه المائيّة.
'ألم يكن يستخدم ثلاثة عناصر بالفعل؟ لقد كان الأمر مفاجئا بالفعل رؤيته يستخدم عناصر النار والريّاح والتعزيز، لكنّه الآن يستخدم حتّى عنصر الماء. هل ربّما هناك خدعة تمكّن الساحر من إتقان أكثر من عنصر واحد؟'
تنهّد الجنرال رعد مباشرة بعد تلك الفكرة ودحضها. بالطبع لم يكن ذلك ممكنا. قد يكون الأمر له علاقة بالحكمة السياديّة؟
مهما فكّر في الأمر، لم يجد إجابة مقنعة.
'ألم يستخدم فنّا قتاليّا غريبا أيضا؟ لقد ظننت لوهلة أنّني رأيت تعاويذ لفنون قتاليّة مختلفة تندمج وتكوّن قوّة واحدة عندما استخدم تلك اللكمة المجنونة وأرسل الوحش الروحيّ محلّقا نحو السماء.'
ظلّت صورة باسل وهو يجعل الوحش الروحيّ يخترق السماء بلكمته محفورة في ذهن الجنرال رعد. لو تلقّى تلك اللكمة، فلن يتبقّى منه شيء.
حدّق إلى باسل ثمّ بلع ريقه. لقد كانت تلك الشخصيات التي ظهرت في تلك المأساة وحوشا، لكنّ باسل أيضا كان وحشا من نوع آخر.
'هذا هو الشخص الذي وحّد العالم في غضون سنوات قليلة. فقط ما الذي سيحقّقه مستقبلا إن بقي يتقدّم على هذا الحال؟ هل سيأتي وقت ونرى فيه العالم الواهن يوضع له وزن عظيم بين العوالم الروحيّة؟'
واردت مختلف الأفكار ذهن الجنرال رعد، وفي نفس الوقت، كان باسل يفعل نفس الشيء. وأخيرا بعد مدّة طويلة، أمسك ذقنه بسبّابته وإبهامه كما لو أنّه توصّل لفكرة ما. بالطبع لم تكن تلك الفكرة كيفيّة مغادرة هذا العالم. كان من المستحيل الوصول إلى حلّ بهذه السهولة.
بالأحرى، الفكرة التي توصّل إليها جعلته يبدأ فقرة أسئلة وأجوبة مع الجنرال رعد.
'لقد كان جنرالا لوقت كافٍ بالفعل، لذا لا عجب في أن يلمّ علما بما حصل في البعثة التي جاءت إلى قارّة الأصل والنهاية قبل الدمار الشامل.'
نظر باسل إلى الرجل الأشقر فجأة حتّى يسأله، فإذا به يجد الرجل ينظر إليه هذه المرّة كما لو كان ينظر إلى مثله الأعلى.
'لا... ما الذي حدث لدماغه؟'
تنهّد مرّة أخرى وتجاهل الأمر. لربّما ليس الجميع يستطيع الحفاظ على سلامة عقله بعد تلك المأساة مثله هو الذي يملك الحكمة السياديّة.
'تجاهله، تجاهله وركّز على المهمّ.'
"يا أيّها الرجل الأشقر، هل تعلم عن الموقع الذي ذهبَتْ إليه كلّ بعثة من الإمبراطوريّات عندما جاءت البعثات إلى هنا؟"
رفع الجنرال رعد حاجبه بعدما استيقظ من أحلام يقظته. لقد كان سؤال باسل غريبا وبغير محلّ. لماذا يسأل عن هذا الأمر الآن؟
بالطبع أجاب بالرغم من شكوكه: "لا أعلم بالضبط عن الإمبراطوريّتين الأخريين، لكنّني أعلم شيئا أو شيئين عمّا مرّت به إمبراطوريّتنا."
لقد أراد أن يغدو قويّا، ففعل كلّ ما بوسعه لجمع الموارد والخبرة القتاليّة، حتّى أنّه تبارز مع كين نبيل الذي اشتهر في آخر بعثة إلى هذه القارّة بقطعه وذبحه لعدد مهول من الأعداء.
لقد كان ما يزال يذكر كين نبيل يمدح نفسه مرارا وتكرارا ويضع 'عجبا' بنهاية كلّ جملة منه. لم يعجبه قطّ، ولهذا لم تتحسّن علاقتهما وظلّا غريبين عن بعضهما بالرغم من العلاقة التي تجمع الاثنين عبر الرئيس تشارلي.
لقد كان يعلم عمّا مرّت به فرقة إمبراطوريّة النضير الوهّاج (الشعلة القرمزيّة حاليّا) في قارّة الأصل والنهاية لأنّه سمع عن 'الملحمات' التي كان كين نبيل بطلها، من فم كين نبيل مباشرة بالطبع.
'إنّه مختلف تماما عن المعلّم الكبير تشارلي حقّا. لا أدري كيف يمكن أن يكون ابنه. ألم يقولوا أنّ من شابه أباه فما ظلم؟ أظنّ أنّ المعلّم الكبير قد ظُلِم كثيرا. أشفق عليه.'
بينما يفكّر الجنرال رعد في الأيّام المريرة التي اضطرّ فيها لتحمّل هراء كين نبيل حتّى يكتسب الخبرة القتاليّة، تكلّم باسل: "ذلك كافٍ. أريد أن أعلم فقط عن المكان الذي ذهبت إليه فرقة 'غرين كانديد، الابن الثاني لعائلة غرين'. هل تعلم أين يقع؟"
استغرب الجنرال رعد أكثر. لم يبدُ أنّه سيفهم ما يريده باسل عمّا قريب. ردّ بدون اهتمام: "نعم، لديّ فكرة عن الموقع العامّ على الأقلّ."
لقد قارن كين نبيل إنجازاته في تلك الرحلة إلى هذه القارّة مع إنجازات الأمير الثاني آنذاك وأضافها إلى مجموعة 'الملحمات' التي خُصِّصت لمدح نفسه.
أومأ باسل رأسه كما لو أنّه قرّر شيئا وقال: "حسنا، لنذهب إلى ذلك المكان غدا. هناك شيء أريد التأكّد منه."
ظلّ الجنرال رعد جاهلا سبب رغبة باسل في الذهاب إلى مثل ذلك المكان، لكنّه لم يرد أن يسأل. شعر نوعا ما أنّ الفتى القرمزيّ سيتذاكى عليه، أو ربّما لم يرد أن يشعر بالغباء فقط. أوَلم يشعر كأنّه غبيّ طوال الأيّام الماضيّة التي حاول فيها فهم وإدراك ما كان باسل يدرّسه ويخبره؟
وفي الجهة الأخرى، كان باسل آملا في أن يكون تخمينه صائبا.
في حرب الاسترداد، اكتشف باسل أنّ عائلة غرين قد اكتسبت أسلحة أثريّة من قارّة الأصل والنهاية، وبعد ذلك علم أنّ أب العالم المجنون امتلك بحوثا جعلت العالم المجنون من وما هو عليه الآن. بمعنى آخر، كان هناك شيء جعل عائلة غرين تكتسب تلك الأسلحة الأثريّة وتلك البحوث التي منحَتْها لأب العالم المجنون بشرط تعاونه معها.
كلّ هذا أشار إلى حقيقة واحدة. لقد كان هناك شخص قد أتى إلى العالم الواهن فيما سبق، وبما أنّه خلّف وراءه تلك البحوث المذهلة، بغض النظر عن الأسلحة الأثريّة التي لم تكن لها أيّ قيمة مقارنة بالبحوث، فلا بدّ وأنّه كان شخصا مذهلا أتى باحثا عن شيء ما في العالم الواهن.
وبما أنّ إدريس الحكيم لم يعلم عنه حتّى عندما أخبره باسل عن الأسلحة والبحوث، فلا بدّ وأنّ هذا الشخص قد أتى إلى العالم الواهن بطريقة أخرى غير بوّابة العالم حتّى لا يعلم عن رحلته أحد.
وكلّ هذا عنى أنّ هذا الشخص امتلك طريقة ما للانتقال عبر العوالم.
بهذه الفكرة الآملة، تحرّك باسل والجنرال رعد بالصباح الباكر تجاه هدفهما. لقد حان الوقت لكشف الستار عن الشخص الذي أنتجت بحوثه وحشا مثل العالم المجنون ومكّنت صفاء من التحوّل إلى هجين روحيّ بنجاح.
لقد كان باسل يريد أن يعلم المزيد عن هذا الشخص، ليس فقط لأنّه يريد شيئا يتعلّق بالانتقال عبر العوالم، بل أيضا لأنّه كان مهتمّا في ذلك الشخص بحدّ ذاته. فقط ما الذي جعل شخصا كذاك يأتي إلى العالم الواهن؟ أو بالأحرى، إلى قارّة الأصل والنهاية.
إن كان هناك شيء يجب التفكير فيه، أليس من المعقول التفكير في العالم الثانويّ الذي كان يسكنه الرمح الطاغيّة.
'يا أبله، ألديك أيّ فكرة عن هوّيّة هذا الشخص؟ هل تذكر أيّ أحد أتى إلى هذه القارّة من أجل العالم الثانويّ الذي كنتَ فيه؟'
خاطب باسل الرمحَ الذي كان يقبع في روحه الثانيّة.
'ها؟ بالطبع كان هناك أشخاص عدّة. عظمتي جذبتهم إليّ كما يجذب النور البعوض، لكن كيف لي أن أتذكّر كلّ بعوضة على حدة؟ حتّى معلّمك كان واحدا منهم. هل أنت غبيّ؟ هيّا، هيّا، أخبرني، هل أنت أبله؟ كيف لشخص عظيم مثلي أن يهتمّ بكلّ بعوضة على حدة؟'
تنهّد باسل: 'ماذا كنت أتوقّع من هذا الأبله على أيّ حال؟'
لم يدخل باسل في نقاش مع الرمح الطاغيّة. شعر أنّ معلّمه سيفعل نفس الشيء لو كان في محلّه، لكنّه كان ينوي عقابه لاحقا بعدما تجرّأ على نعت معلّمه بالبعوضة ولو بشكل غير مباشر.
***
قبل الدمار الشامل، كانت الحروب بين الإمبراطوريّات تتّخذ شكل المنافسة الشديدة. ما أن تنوي إمبراطوريّة إرسال بعثة ما إلى قارّة الأصل والنهاية، تنافسها الإمبراطوريّتين الأخريين بشدّة حتّى لا تتقدّمهما الإمبراطوريّة الأخرى وتحصل على كنوز عظيمة.
استمرّ هذا الحال بدءا من الحرب العظيمة التي حصلت قبل 150 سنة. منذئذ، صارت الإمبراطوريّات متردّدات في شنّ الحرب على بعضهنّ. لم تنتج سوى الخسارات الوخيمة، لا من حيث الموارد البشريّة أو المادّيّة، أو حتّى المعنويّة.
قبل أن تولد الإمبراطوريّات الثلاث، عجّ العالم الواهن بالممالك المتعدّدة، لكن ما أن ظهرت إمبراطوريّة حتّى ظهرت الثانية والثالثة في نفس الوقت كإجراء مضادّ طبيعيّ. وبسبب هذا التوازن، لم يعد ممكنا ربح الحروب والتهام الأمم الأخرى لتعزيز موطنك الخاصّ. كلّ ذلك كان بلا فائدة.
والآن، بعد ظهور شخص كبطل البحر القرمزيّ، صارت إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة تملك أفضليّة مطلقة مقارنة بالإمبراطوريّتين الأخريين، إلّا أنّ الشعلة القرمزيّة وجنرالها الأعلى لم يقودا الجيش لغزو الآخرين. لقد ساهموا في بناء قوّة العالم أكثر.
لقد لاحظ الجميع أنّ العالم يحتاج لتوحيد قواه من أجل الاستعداد الجيّد والدائم ضدّ الخطر المشترك والأعظم. لقد كان الجميع شكورا لحسن نيّة الشعلة القرمزيّة وحاميها الشابّ. بسبب موقفهما المتعاون، نمت الإمبراطوريّتان الأخريان أيضا وعزّز هذا من قوّة العالم بأجمعه.
بالطبع، لو أراد باسل بدء غزوٍ هدفه الهيمنة على العالم، لكان قد فعل ذلك ونجح، لكن كيف يمكنه فعل شيء غبيّ كذاك؟ كم من موهبة ستضيع في المعارك العديمة المعنى؟ كم من الموارد سيخسر العالم ككلّ؟ ألم يكن من الأفضل توفير كلّ تلك الطاقة وتوجيهها نحو الخطر المشترك؟
كلّ هذه الأشياء جعلت الناس يحترمون إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة وحاميها باسل، بدل أن يخافوا منهما ويتّخذوا حرصهما ضدّهما فـينسون الخطر الأكبر.
وبالطبع، لم يكن باسل يفكّر في أنّه شخص جيّد محبّ للعدالة. لقد فعل ما رآه صائبا لتحسين العالم فقط. لو كانت الأمور مختلفة، لفعل نفس ما فعله مع عائلة غرين التي كانت تجعل الإمبراطوريّة تتداعى. لم يهتمّ بآراء الناس إذا أمكنه إيقاف تدهور العالم وإتاحة أكبر الفرص لنموّه في المقابل.
لقد قتل الآلاف من أجل تحقيق غايته، لكنّه لم يرَ نفسه يفعل غير ذلك حتّى لو أعاد الكرّة مرارا وتكرارا. وبالطبع، هذا بالرغم من أنّه يتذكّر وجوه الذين قتلهم أجمعين. لقد كان لدى أولئك عائلات أيضا، لكنّه أيضا امتلك عائلة وأشخاصا أعزّاء على قلبه. لِمَ يجب عليه أن يضحّي بما يعزّ ويحبّ من أجل ما يحبّه الأخرون؟
لقد نادى العالم باسل بـ'البطل'، لكنّه كان متأكّدا أنّه لم يكن بطلا. لو حصلت الأمور بشكل مختلف، لكان هو الشيطان الذي هيمن على العالم وسيطر عليه.
ببساطة، كان باسل شخصا سيفعل أيّ شيء يرى فيه مصلحته ومصلحة الأقربين منه. فلو حاول شخص ما، مثلا، إضرار حاشيته، فلن يفكّر لثانيّة أخرى قبل محو ذلك الشخص من الوجود. إذن ماذا لو كانت الإمبراطوريّتين الأخريين قد فكّرت في أذيّة حاشيته؟ ألم يكن ليتّجه في مسار دمويّ أكثر بكثير ويصير شيطانا أسوء من ظلّ الشيطان؟
آمن باسل أنّ الخطر يزيل تماما فقط عندما يُزال مصدره كلّيّا. لم يغيِّر شيءٌ تفكيره هذا حتّى الآن، ولن يغيّره شيء في المستقبل أيضا على الأغلب.
***
تحرّك الاثنان تجاه عمق القارّة لأكثر من يوم بالفعل، حتّى لاحظ باسل أنّ الطريق يؤدّي نوعا ما إلى مركز القارّة حيث يقع العالم الثانويّ.
'كما توقّعت، لا بدّ وأنّ هذا الشخص أتى ملاحقا العالم الثانويّ.'
لقد كان شكّه يتحوّل إلى يقين ببطء. قد يعلم شيئا أو شيئين عن السارق الخسّيس ومخطّطاته أيضا.
بالرغم من أنّه اكتشف الكثير من السارق الخسّيس الذي يسكن روحه بالفعل، إلّا أنّه لم يكن يعلم عن الكيفيّة التي ينوي بها السارق الخسّيس تحقيق غايته. بالإضافة إلى ذلك، علم عن الكثير، لكنّ ذلك كان 'الكثير' بالنسبة لشخص مثله. ما اكتشفه على الأغلب كان سوء جزء ضئيل من الصورة الكاملة.
'لقد أخبرني معلّمي أنّه كان ينوي البحث في أمر هذا الشخص لاحقا بعدما أخبرته عنه. هل يمكن أنّ المعلّم كان قد اكتشف شيئا عن هوّيّة هذا الشخص بالفعل؟ أظنّ أنّه كان يشكّ في شيء ما فقط لذا لم يخبرني. لو تيقّن من ذلك لكان أحاطني علما به.'
لقد حرص إدريس الحكيم دائما على إخبار باسل بكلّ ما تعلّق بالعالم الواهن. لم يكن هناك سبب ليخفي مثل هذه الأشياء عن تلميذه المحبوب.
أكمل الاثنان مسيرهما، فرفع باسل حاجبه فجأة وقال: "بالمناسبة، ألا تظنّ أنّه من الغريب أن يبلغ شخص مثل غرين كانديد وفرقته هذا المكان بقوّتهم فقط؟ ألم يكن في ذلك الوقت ساحرا بالمستوى الخامس على الأكثر؟"
لقد كان سؤال باسل في محلّه. لقد كانت هذه قارّة الأصل والنهاية، أخطر مكان بالعالم. حتّى قبل تحوّل العالم الروحيّ، كانت الوحوش بهذه المناطق بالمستوى السابع والثامن حتّى وربّما أكثر. كان من غير المعقول أن يصل غرين كانديد إلى هذا الحد بالاعتماد على قوّته وأعداد فرقته فقط.
"آه، ذلك." حكّ الجنرال رعد مؤخّرة رأسه وردّ: "أظنّ أنّ الأمر له علاقة بعودة غرين كانديد المنفردة آنذاك."
رفع باسل حاجبه. لم يكن يعلم عن هذه الأمور بالتفاصيل، لذا لم يفهم في الأوّل كيف نجح غرين كانديد وفرقته في بلوغ هذا المكان والخروج منه أحياء، لكن... لقد عاد غرين كانديد لوحده. إن كان هذا هو ما حصل، فقد يكون الأمر مقنعا لو أضيف بعض من الحظّ إلى المعادلة.
"فهمت." أومأ باسل وتنهّد قبل أن يقول: "لقد ضحّى حتّى بأخيه عندما وجد الفرصة. عندما رأيتُ كيف دعم الموقف ضدّ أخيه الأكبر هيملر بشكل غير مباشر آنذاك، ظننت أنّه شخص بقلب جيّد نوعا ما، لكن أظنّ أنّه في نهاية المطاف كان يفعل أيّ شيء ووسيلة من أجل تحقيق غايته ولو كانت سليمة. إنّه من آل غرين قبل كلّ شيء."
حتّى لو كان باسل ليفعل أيّ شيء من أجل حماية حاشيته، لم يكن شخصا يضحّي بأتباعه والضعفاء من أجل مصلحته. لقد كان مختلفا عن غرين كانديد الذي كان له اعتقاد مطلق بالتضحيّة بكلّ شيء من أجل بلوغ القمة والجلوس على العرش حتّى يعدّل الأشياء كما يراها أنسب نسبة لحسّ عدالته.
أضاف الجنرال رعد: "ما زلتُ أذكر كيف تباهى كين نبيل بتفوّقه بنجاح على 'الأمير الثاني آنذاك'. لقد خسر غرين كانديد فرقته كلّها، لكن كين نبيل في المقابل عاد بدون أن يخسر عضوا واحدا حتّى."
عبس باسل قليلا وفكّر في الأمر. لقد كان جعْل كين نبيل يحتكر النجوميّة تخطيطا من غرين كانديد على الأغلب. كلّ ذلك حتّى لا يتساءل الناس عمّا جناه في مقابل أرواح الفرقة التي خسرها ويركّزون على إنجازات كين نبيل.
لقد عاد بكنوز مذهلة، فلم يرد لأحد أن يعلم عنها. بالتفكير في هذا الأمر، ألم يعنِ هذا أنّه كان الشخص الذي منح البحوث إلى غرين شارلوت، والتي منحتها بدورها إلى أب العالم المجنون في علاقة شراكة بينهما حتّى يصنعان عشيرة تتفوّق على العشيرة الأسطوريّة التي دعمت عائلة كريمزون لقرون لا تُحصى؟
لم يكن يريد غرين كانديد تعزيز موقف منافسيه، لكنّه اضطرّ على الأغلب إلى منح تلك البحوث وبعض من الكنوز إلى عائلة غرين حتّى يسكتها. لو لم يتقاسمها، لأقدم الإمبراطور وأبناؤه على ما لا تُحمد عقباه.
يبدو أن مقتله لم يكن ظلما في حقّه في نهاية المطاف. كم من شخصٍ تعذّب بسبب تلك البحوث التي بعدما وقعت في يد غرين شارلوت؟ كم من *** عانى وقاسى الأمرّين واختبر الجحيم قبل أن تزهق روحه؟ ولهذا عذّب باسل شارلوت وهيملر الذي دعمها بشدّة. لقد كان السبب الأصليّ هو الانتقام لأخويّ القطع بسبب صفاء.
'على أيّ حال. أظنّ أنّ غرين كانديد ضحّى بفرقته حتّى ينجح في بلوغ ذلك المكان. إذن ماذا عن عودته؟ لربّما استخدم شيئا جعله قادرا على الهرب من الوحوش السحريّة في طريق عودته، أو ربّما...'
لقد كان باسل يفكّر في طريقة أخرى تجعل الشخص قادرا على الهرب من مكان إلى مكان آخر بعيد في لحظة. لقد كانت تلك الطريقة هي التنقّل عبر الفضاء. لقد فكّر في هذا لأنّه أيضا يمتلك هذه القدرة، ولأنّ الشخص الذي خلّف وراءه تلك الأشياء، والذي كان باسل ذاهب إلى مكانه الآن، كان نوعا ما له علاقة بالانتقال عبر الفضاء.
'سنعلم ما أن نصل إلى هنا.'
عائلة غرين. لقد حطّم باسل هذه العائلة تماما. لقد كانت هذه العائلة تسعى إلى تنميّة قوّتها فقط، والذي لم يكن شيئا يحقّ لباسل التدخّل فيه بمنطق جلب العدالة. ما جعل باسل يبيدها كان هو إزالتها عن الطريق نحو النجاح الكلّيّ للعالم. لقد كانت سمّا يجعل نموّ العالم أبطأ بكثير. لقد كان ذلك البطء شيئا لم يرده باسل أن يوجد من أجل صنع العالم الذي يريده.
***
"أظنّ أنّ هذه هي المنطقة. كما سلف وأخبرتك، إنّني لا أعلم بالتحديد أين، لكن سمعت أنّ غرين كانديد وصل إلى الجزء الشرقيّ من مركز القارّة. لا أعلم هل كان ذلك الجزء هو الشرق الشماليّ أم الشرق الجنوبيّ أم الشرق تماما. قد يكون علينا البحث لوقت طويل حتّى نجد أيّ شيء يمكنه إدلالنا على الطريق الصحيح."
استمع باسل إلى كلمات الجنرال رعد مغمضَ العينين. قد يكون من الصعب حقّا إيجاد بقايا فرقة غرين كانديد التي مرّ عليها عقدين تقريبا. لقد كان باسل متفهّما قلق الجنرال رعد الذي خشى أن يظلّا يبحثان لأشهر أو ربّما أكثر بدون نتيجة.
لم تكن القارّة صغيرة وإنّما كانت حقّا أكبر قارّة في العالم الواهن. لقد كان الجزء المركزيّ منها فقط يساوي نصف القارّة المتوسّطة.
"لا تقلق، لن يستغرق الأمر أكثر من بضعة أيّام كحدّ أقصى؟"
رفع الجنرال رعد حاجبه بسبب ما قاله باسل. هل كان يمزح لتوّه؟ إنّ مزاحه سيّئ للغاية. لربّما عليه تعليمه بعضا من مهاراته التي اشتهر بها في أيّامه كـ'رعد أبي السعد' عندما اعتاد أن يحكي قصصا فكاهيّة من أجل تلطيف الجوّ بين زملائه.
فتح باسل عينيه فجأة، فظهر نجمين بعين ونجم بالعين الأخرى. وفي نفس الوقت، ظهر 'فلك المعرفة' فوق رأسه.
كما دارت النجوم في عينيه، دارت الكرات الكونيّة الثلاث فوق رأسه حتّى كوّنت النجوم والكرات دائرات لامعة في مواقعها.
جلس باسل متربّعا، فامتدّت منه بعد ذلك هالة بدت كنوع من الهالات المتحسِّسة.
استيقظ الجنرال رعد من أحلام يقظته لمّا مرّت تلك الهالة عبره وجعلته يشعر أنّ كلّ شيء بشأنه صار واضحا لباسل. اقشعرّ جسده بعدما شعر أنّه عارٍ في منطقة ثلجيّة. لقد أحسّ أنّ تينك العينين الحمراوين، اللتين توهّجتا بضوء فضّيّ اتّخذ شكل دائرتين فيهما، يران عبره كينونته ولم يكن هناك ما يستطيع فعله ضدّهما.
بلع ريقه وشحُب وجهه لمّا تذكّر فجأة وجه ذلك الشيطان المرعب. لقد كان لذلك الشيطان قدرة مشابهة لهذه. أحس في تلك الأثناء بشعور كهذا.
وبالطبع، هذه المرّة لم يحسّ بذلك الإحساس المقرف الذي أشعره بالغثيان والوهن. هذه المرّة أحسّ أنّه مجرّد شيء آخر يُراقب إلى جانب كلّ ما يحيطه.
بلع ريقه، لكنّه هذه المرّة فعل ذلك من شدّة دهشته بما كان باسل يفعله. لقد كان يستشعر كلّ عشبة وصخرة ورائحة. كان يراقب تحرّكات الرياح ومسارها. أمكنه الإحاطة علما بما كان يجري في المجال الذي كانت تغطّيه الهالة التي امتدّت منه كما لو كانت كلّ تلك المنطقة على كفّه.
لقد نادى إدريس الحكيم هذا الوضع باسم خاص. 'عالم الحكيم'.
في هذا العالم، استطاع الحكيم السياديّ التلاعب بقوانين العالم حتّى إلى حدّ ما، وليس فقط دراسة وتحليل المنطقة. في هذه الحالة، استطاع الحكيم السياديّ الشعور بالحشرات في أعماق الأرض تتحرّك كما لو أنّه يراها أمام عينيه ويحسّ بها على كفّه.
فهم الجنرال رعد أخيرا مقصد باسل. الحكمة السياديّة. الآن عندما رأى جزءا ممّا يمكنها فعله، لم يسعه سوى أن يتطلّع إلى اليوم الذي يمكن أن يحصل فيه على فرصة من أجل تحدّي أرض الوهب والسلب وكسب هبة هو الآخر. بالطبع لم يخشَ من أن تسلبه أرض الوهب والسلب شيئا، لأنّه لم يضع الفشل في الحسبان.
أمّا باسل، فقد كان انتهى بالفعل من استشعاره للمنطقة المحيطة بهما بالفعل وتوقّف عن استخدام عالم الحكيم.
نهض ثمّ نادى الجنرال رعد: "هيّا. لنتحرّك. سنعيد الكرّة مرارا حتّى ألاحظ شيئا."
كان باسل ينوي استخدام عالم الحكيم في كلّ مرّة. عندما ينتهي من المرّة الأولى، سيذهب إلى آخر مكان استطاع استشعارُه بلوغَه والبدء من هناك، وهكذا حتّى يغطّي الشرق المركزيّ بأكمله.
"نـ-نعم."
ردّ الجنرال رعد وتبع خطوات باسل الخفيفة. لقد كان باسل يبدو كما لو كان يجري على الهواء. لقد كانت تلك خطوات الريّاح الخفيفة بقمّتها، والتي جعلت الشخص قادرا على ركوب الرياح والاندفاع بها بعدما يستجمع قوّة دفع كافيّة بجريه لمسافة معيّنة.
حاول الجنرال رعد الجري مدعوما بعنصر الريّاح الذي كان عنصره الثاني من أجل اللحاق بباسل الذي ابتعد بعشرات الامتار في لحظة.
'انتظروني وابقوا على قيد الحياة. سأجد وسيلة للقائكم بكلّ تأكيد.'
لقد كان دافع باسل قويّا، وذكّر نفسه بكلماته، فازدادت سرعته أكثر، ما جعل الجنرال رعد متخلّفا كثيرا. لم يظنّ الجنرال رعد أنّه سيلهث بسبب الجري بعدما صار 'صاعدا' مؤخّرا فقط.
***
'لقد صار استخدام الحكمة السياديّة أسهل بكثير منذ أن واجهت اختبار العالم. هل ربّما يعني هذا أنّني معترفٌ به كمالك للحكمة السياديّة رسميّا الآن؟ بالطبع، لا يمكنني تحسين الحكمة السياديّة أبدا حتّى أمر بذلك 'الاختبار' في أرض الوهب والسلب كما قال ذلك الشيء.'
كان باسل يفكّر في مختلف الأشياء بينما يستخدم الحكمة السياديّة لإيجاد دليل على مكان الشخص كان الذي يبحث عنه رفقة الجنرال رعد.
لم يعد باسل يتضرّر جسديّا وروحيّا كلّما استخدم الحكمة السياديّة، لذا أصبح بمقدوره الاستمرار في استخدامها لوقت طويل جدّا، وخصوصا بالتفكير في أنّه كان ساحرا روحيّا مختلفا عن الآخرين تماما.
'إنّني حقّا لشكور للوحش النائم. لولا الجسد الذي منحني إيّاه لما بلغت ما بلغته. يجب عليّ أن أوفي بوعدي له ولو كلّفني ذلك حياتي. لم أكن لأستطيع تجاوز العديد من المحن بدون هذا الجسد، وقبل ذلك، لم يكن ممكنا لجسد آخر احتواء روحين أصلا.'
في ذلك اليوم في وكر قبائل الوحش النائم، اختفى باسل تحت الأرض وظلّ هناك ثلاثة أيّام متواصلة، ثمّ التقى بنيّة الوحش النائم وتغيّر فيه شيء لم يعلم العالم المجنون ما هو بالضبط.
في ذلك اليوم، بعدما وضع باسل روحه على المحكّ ليفعل بها الوحش النائم ما يشاء لو شاء، اكتسب ثقة الوحش النائم بذلك الفعل واستطاع اكتساب تعاونه. لم يتوقّع أنّه سيعطيه مثل هذا الجسد بعدما كان باسل يريد تمر الحياة الجديدة فقط الذي رآه عبر ذكريات السارق الخسّيس.
بالطبع، لم يرَ باسل كلّ شيء، لكنّه رأى استماتة السارق الخسّيس في محاولاته العقيمة من أجل الحصول على ذلك التمر الأعجوبة. علم باسل أنّ التمر شيء مذهل للغاية يمكنه أن يجعل حتّى السارق الخسّيس الذي طغى على العوالم ذات مرّة يسعى من أجله بشدّة.
لقد كان التمر شيئا حاسما لباسل الذي يريد حماية العالم الواهن. لقد كان مستعدّا لمعاداة حتّى الوحش النائم من أجل الحصول على التمر لو رفض الوحش النائم عرضه حتّى بعدما يضع باسل روحه على المحكّ.
ولكن ماذا حدث في الواقع؟ لم يحصل على التمر فقط، بل حصل على هذا الجسد الذي كان فريدا من نوعه في العوالم بأكملها. لقد أخبره الوحش النائم أنّه لا يستطيع منح هذا الجسد إلّا لشخص واحد عبر الأزمان، لذا شعر باسل بدجة هائلة من الامتنان. وفوق كلّ هذا، ائتمن الوحش النائم لباسل شيئا لا يمكن لأحد العلم عنه. لقد كان ذلك الشيء ما يزال في قمة النخلة في العالم الثانويّ في قمّة حياة.
'عندما آخذ رمادك معي حتّى أبحث عن باقي الأجزاء الأخرى منه، سأحميه بكلّ ذرّة منّي.'
لقد كان باسل يحمل على ظهره مسؤوليّات مختلفة. حماية عالمه، إيجاد أنمار والآخرين، والإيفاء بوعده للوحش النائم، ووعده للصناديد، وكلّ ما يتعلّق بالسارق الخسّيس، بدون نسيان الحرقة التي التهبت في قلبه بهدوء، والتي كان وقودها الرغبة في الانتقام من إبلاس.
لربّما كره باسل الشياطين منذ صغره لأنّهم كانوا السبب في بكاء والدته وكوابيسها بسبب موت والده بينما يحمي عائلته من الشياطين، إلّا أنّ باسل صار يكره الشياطين الآن أكثر بسبب ما فعلوه للجميع ولعائلته، وبسبب الحقيقة التي اكتشفها بشأنهم.
'قد يجب علي أن أريهم ماهيّة الشيطان في آنٍ ما حتّى لا يجرؤون على نعت أنفسهم بالشياطين مرّة أخرى. عندما أريهم الأهوال ذات يوم، سأجعلهم يدركون أنّهم لطالما مارسوا لعبة الصالح والطالح فقط.'
عبس باسل فجأة لأنّه تذكّر أنّ الرمح الطاغيّة قد قال شيئا مشابها فيما سبق وهزّ رأسه يمينا وشمالا بسرعة وتناسى الأمر تماما كما لو لم يحدث قطّ.
لقد كان مجرّد صبيّ يريد حماية أحبابه، لكنّه صار الآن أحد الأشخاص الذين يعلمون عن خبايا هذه العوالم. كم كان هذا الكون عجيبا!
'همم!'
فتح باسل عينيه على مصراعيهما فجأة ونهض من مكانه ثمّ نظر إلى مكان محدّد أمامه بعيدا عنه بحوالي مئتيْ متر تقريبا.
"أيّها الرجل الأشقر، يبدو أنّنا وصلنا إلى المكان الذي نريده."
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما. لقد مرّ يوم ونصف فقط إلّا أنّه بالفعل وجد المكان؟ بهذه السرعة؟
تنهّد الجنرال رعد: 'لقد كنتُ أريد الاستراحة لوقت أطول بعد الجري بدون توقّف كلّ هذا الوقت.'
كان باسل يبتعد كثيرا عن الجنرال رعد، وعندما يصل الجنرال رعد أخيرا إلى باسل الذي يكون متوقّفا من أجل فحص الموقع، ينتهي باسل من الفحص ويبدأ جريه من جديد فيكمل الجنرال رعد جريه بدون أيّ فرصة للتوقّف.
'اللعنة. إنّي أريد الاختراق إلى المستويات الروحيّة في أسرع وقت.'
شعر الجنرال رعد بالغرابة نوعا ما لأنّ رغبته في الاختراق إلى المستويات الروحيّة صارت أقوى بسبب 'الجري'.
'أشعر أنّني تافه.'
كلّما أمضى وقتا أطول مع هذا الفتى القرمزيّ، شعر بالغباوة والتفاهة أكثر.
هزّ رأسه ثمّ اقترب من باسل: "إذن... لهث... أين هو... لهث... هذا المكان؟"
حدّق باسل إلى الجنرال رعد بعينين تشفقان على حال المسكين الذي كان يبدو كجرو مبلّل من شدّة عرقه. هزّ رأسه يمينا وشمالا وتنهّد ثمّ نظر إلى الجبل أمامهما وأشار إليه بإصبعه.
رفع الجنرال رعد حاجبه مستغربا ثمّ نظر إلى الجبل، فارتفعت زاوية فمه وقال: "هـها... الجبل؟ هل هناك كهف هناك أو ما شابه؟"
هزّ باسل رأسه ببساطة وردّ: "لا. لو كان تخميني صائبا، فـعلى الأغلب سيجب علينا نبش قبر أحدهم. لا تقلق، لا أظنّ أنّه سيغضب حتّى لو علم بذلك."
عبس الجنرال رعد وصرخ فجأة كما لو لم يكن متعبا قطّ: "لا تمزح معي! من سيفرح بهذا؟!"
تعجّب باسل من ردّة فعل الجنرال رعد المبالغ فيها والسريعة، وخصوصا بعدما أكمل متظاهرا بالهدوء: "هل عليّ الذهاب معك؟ أظنّ أنّه يجب على أحدنا البقاء هنا لمراقبة الوضع. بالإضافة إلى ذلك، لا أظنّ أنّني سأكون ذا نفع حاليّا. أعتقد أنّني سأكون مجرّد عقبة في طريقك."
همم...؟
لمَ كان هذا الرجل الأشقر يتصرّف بهذا الشكل فجأة؟ عقبة في الطريق؟ كيف لشخص مُجدّ مثله أن يفوّت فرصة في مرافقة باسل من أجل تحسين نفسه؟ وخصوصا بوضع هوّيّة صاحب القبر في الاعتبار.
هل يمكن...؟ السبب هو أنّ المكان 'قبر'؟
'ها... لا يمكن...'
لم يستطع باسل تصديق الأمر. شخص مثل الجنرال رعد...
أماء باسل رأسه إلى الجانب ثمّ قال: "هل أنت متأكّد؟ لقد استشعرت في المرّات الثلاث الأخيرة التي فحصت فيها المناطق المجاورة وحشين روحيّين يتربّصان بنا بينما يصطحبان معهما وحوشا بالمستوى الثالث عشر والرابع عشر. هل أنت متأكّد أنّك ستنجو لوحدك بالرغم من أنّك عانيت ضدّ وحش روحيّ واحد وجيشه فقط؟"
"كخه...!"
أطلق الجنرال رعد صوتا غريبا بعد سماع كلام باسل. هل ما قاله صحيح؟ لكن... القبر. ألا تظهر تلك الأشياء هناك؟
"لا أشاء الانتظار أكثر. لمْ أسرع لهذه الدرجة حتّى أضيع الوقت هنا. الحقني أو انتظر هنا. أنت حرّ."
انتفض باسل من مكانه وقفز مباشرة إلى الجبل ببضع خطوات. بدا عجولا حقّا. لقد كان متحمّسا بعد فترة طويلة.
لو لم يستخدم الحكمة السياديّة لما شكّ في هذا الجبل إطلاقا. بالأحرى، من سيفكّر في استخدام الحكمة السياديّة من أجل تحليل مكان كهذا في العالم الواهن؟
'لربّما جذب العالم الثانويّ معلّمي بذلك المجال الذي يحيط به، لكن يبدو أنّ شيئا بهذه البساطة كان خارج حسابات المعلّم.'
لقد كان إدريس الحكيم يجوب قارّة الأصل والنهاية حتّى لاحظ أنّ هناك مكان يجعل الشخص يهوم بدون أن يدرك أنّه غيّر اتّجاهه حتّى. وفي ذلك الوقت، استخدم حكمته السياديّة من أجل تجاوز ذلك الوهم والدخول إلى مجال العالم الثانويّ الذي كان يحرسه الرمح الطاغيّة.
نظر الجنرال رعد إلى باسل لبعض من الوقت قبل أن يستيقظ من أحلام يقظته ويجري وراء باسل: "فليحدث ما سيحدث!"
لم يعد مهتمّا إن كانت وجهتهما قبرا أو مسكن أشباح. ألم يصبح بوسعه رؤية مختلف الأشياء الروحيّة منذ أن صار 'صاعدا'؟ سيكون من السخيف أن يشعر بالاضطراب بسبب شيء كهذا.
وقف باسل أمام الجبل ثمّ وضع يده عليه كما لو أنّه يتحسّسه.
وفي الآن ذاته، كان باسل يفكّر في شيء آخر: 'يبدو أنّه لم يرد من أحد اكتشاف هذا المكان غيره فخبّأه بهذا الشكل، لكن للأسف بسبب جزيئات طاقته السحريّة التي ما زالت تتخلّل هذه التربة استطعت اكتشاف هذا المكان بشكل أسهل.'
يبدو أنّ غرين كانديد قد خبّأ قبر ذلك الشخص بعنصر الأرض خاصّته حتّى لا يجده أحد، لكنّ ذلك لم ينجح ضدّ حكيم سياديّ، بل سهّل عليه الأمر فقط. كانت الأرض المتشكّلة من طاقة ساحر كإشارة واضحة تقول لباسل 'أنا أخبّئ شيئا هنا'.
انتهى باسل من استشعاره للجبل، فانطلقت بعد ذلك طاقته الروحيّة وامتدّت من كفّه نحو الجبل وبدأت تغطّيه. لم يمرّ وقت طويل قبل أن يصير الجبل بأكمله مغلّفا بطاقة باسل الروحيّة.
دفع باسل كفّه بقوّة خفيفة، فاهتزّ الجبل وبدأت تربته تسقط وسطحه ينكسر. لقد كان الجبل يتساقط؟
'لا...'
لاحظ الجنرال رعد شيئا. لم يكن الجبل ينهدم. شيء ما... لقد كان شيء ما يظهر تحت التربة التي كانت تتساقط بكمّيّات هائلة، متبوعة بالأشجار والأعشاب بمختلف أنواعها. لقد كان الجبل يبدو كثعبان يغيّر جلده.
تراجع باسل بضع خطوات إلى الوراء وانتظر اكتمال ما سبّبه، ما جعل الجنرال رعد يبلع ريقه من شدّة الدهشة من مختلف الأمور. أكثرها دهشة كان...
'أظهر عنصر الماء مؤخّرا، وكان ذلك كافيّا لأنصدم تماما مع العلم أنّه يملك عناصر النار والتعزيز والريّاح، لكنّه يملك عنصر الأرض أيضا؟ هل ربّما هوّيّة هذا الشقيّ هي روح من الطبيعة الأمّ؟ كيف له أن يملك خمسة عناصر. اللعنة... هذا يجعل رأسي يؤلمني من شدّة التفكير. لنتجاهل الأمر.'
لقد استخدم باسل عنصر الأرض لتوّه من أجل إزالة غلاف التربة التي أحاطت بذلك الشيء ليبدو كجبل.
نعم، حتّى الجنرال رعد فهم أخيرا أن ذلك الشيء لم يكن بجبل على الإطلاق، بل شيء ضخم كالجبل فقط. لقد غطّاه غرين كانديد بعنصر الأرض حتّى لا يكتشفه أحد.
"يا للهول! ما هذا الشيء؟!"
لقد كان الجنرال رعد متفاجئا للغاية. كيف لشيء كهذا أن يكون في عالمهم الصغير؟
وفي المقابل، لم يكن باسل متفاجئا كثيرا. لقد اندهش مسبقا عندما شكّ في احتماليّة كون هذا الشيء هو ما يراه حاليا، لكنّه كان متحمّسا الآن بدل أن يكون مندهشا. لقد أصاب ظنّه.
"لقد أخبرتك. إنّه قبر."
"هل تمزح معي؟ كيف لهذا الجبل... لا، كيف لهذا الهرم العملاق أن يكون جبلا؟"
حدّق باسل إلى الهرم الذهبيّ العملاق وقال: "كان يا ما كان..."
'إيه؟ لماذا بدأ فجأة يحكي قصّة؟'
"...في قديم الزمان، كانت هناك حضارة عُرِفت بطغيانها وسلطتها عبر العوالم الروحيّة. عُرِف سكّان تلك الحضارة بالطاعة المطلقة للحكّام الذين كانوا عائلة ملكيّة سادت لسنين لا تُحصى."
لم يفهم الجنرال رعد مغزى الحديث بعد، لكنّه تصنّت بحرص.
"قيل أنّ بعضا من ناس تلك الحضارة بلغوا درجة تأليه أولئك الحكّام من شدّة تميّزهم وانفرادهم، لكن ذات يوم، حلّت كارثة وجعلت من الحضارة وسكّانها وحتّى حكّامها مجرّد حكاية تُذكر بين سطور التاريخ والأساطير."
صمت باسل لبعض من الوقت، وهذا جعل الجنرال رعد يفقد صبره: "وماذا في ذلك؟ ما علاقة كلّ ذلك بهذا؟"
لم يجب باسل حالا. لقد كان يفكّر في شيء آخر. حلّت كارثة فمحقت حتّى تلك الحضارة العظيمة. فقط ما كانت هذه الكارثة؟ ولماذا يوجد شخص من العائلة التي حكمت تلك الحضارة هنا في العالم الواهن؟
نعم، لقد كان هذا الهرم يحوي شخصا من العائلة الملكيّة التي تكلّم عنها باسل.
"هذا الهرم هو الشكل الذي اتّخذته تلك العائلة الملكيّة قبرا لها."
بعدما سمع الجنرال رعد إجابة باسل، بلع ريقه ثمّ نظر إلى القبر(؟) وبلع ريقه قبل أن يلتفت إلى باسل ويقول: "هل حقّا، حقّا، حقّا علينا فعل هذا؟ حقّا؟"
نظر باسل إلى الجنرال رعد بعينين ميّتتين على عكس ما كانتا عليه من حماس قبل لحظات. يبدو أنّ هذا الرجل الأشقر لم يعد يحاول حتّى إخفاء تجنّبه القبور. فقط ما قصّته مع القبور؟
تجاهله باسل ثمّ تقدّم إلى الأمام. لقد كان هناك باب في الهرم مصنوعا من الصخر كما كان الهرم مشكّلا من صخر ذهبيّ بأكمله. تحرّك باسل نحو الباب ليتفتّت ويظهر رواق 'مظلم' وطويل لا تبدو له نهاية.
دخل باسل ولم ينظر إلى الخلف أبدا. كلّ ما كان يشغل باله حاليّا هو الشخص الذي يقبع في هذا القبر، والأسرار التي خبّأها معه هنا.
ماذا، لماذا، كيف، متى، من... كلّ أنواع الأسئلة اجتاحت عقل باسل فـحفّزت فضوله أكثر. لقد كان يريد أن يعرف.
انزعج الجنرال رعد من تجاهل باسل له، لكنّه تبعه 'بسرعة' بدون أن يقول شيئا بينما ينظر إلى جانبيه وخلفه بين الحين والآخر.
***
"هل هذا ضريح؟"
كان الجنرال رعد يتبع باسل ويكاد يلتصق به.
ردّ باسل على سؤاله: "يمكنك قول ذلك، لكن هناك وصف أدقّ لهذا المكان."
تقدّمت الاثنين شعلة ناريّة تضيئ المكان، فاستطاعا ملاحظة بعض النقوش والرسومات التي بدت كلغة قديمة تفسّر أحداث عتيقة. أحسّا أنّهما في مكان يبجّل شخصا ما، وخصوصا بعدما رأيا النقوش التي حمل فيها جنود عددهم لا يُحصى رماحهم ورفعوها تجاه شخص بدا كحاكمهم. كان هناك نور يسطع من خلف الحاكم فجعلهما هذا الأمر يفهمان كم بجّل أولئك حاكمهم.
كان ذلك الحاكم يجلس على عرش طويل بارتفاعه كما لو أنّه يُبدي تفوّق وسموّ الجالس عليه.
"ما هو هذا الوصف الأدقّ؟"
التفت باسل إلى جهة الجنرال رعد ثمّ ردّ: "زنزانة أو قبو محصّن أو متاهة."
"إيه؟!"
صعدت القشعريرة مع جسد الجنرال رعد. قبر وزنزانة في نفس الوقت. ما هذا المكان؟
تحرّكا حتّى وجدا نفسيهما أخيرا في غرفة فسيحة. ما أن دخلا حتّى استطاعا رؤية العشرات من الهياكل العظميّة هنا وهناك. لاحظا أيضا أنّ بعضا من تلك الهياكل حمل شعار إمبراطوريّة النضير الوهّاج وعائلة غرين.
اقترب باسل من الهياكل العظميّة الخاصّة بعائلة غرين ثمّ فحصها. لقد أراد أن يعلم عن سبب موتهم، وخصوصا إن كان سبب موتهم شيء غير اعتياديّ. لم يستطع أن يجد أيّ شيء جدير بالملاحظة في نهاية المطاف.
'هل قتلهم غرين كانديد حتّى يحتفظ بكلّ شيء لنفسه؟ لا... لا أظنّ. هذه هي أوّل حجرة في هذا القبو المحصّن. لن يقتلهم ما أن يدخلوا إلى هنا لأنّه سيحتاجهم فيما بعد، ولن يقتلهم قبل أن يخرجوا من هذا المكان لنفس السبب. إذن كما توقّعت...'
لم يكمل باسل تحليله للموقف حتّى سقط شيء ما بدا كصوت الحديد.
"ما الذي يحصل؟!"
كان الجنرال رعد متوتّرا منذ البداية، فاضطرب أكثر عندما اختفى المدخل الذي أتيا منه وصارا فجأة في حجرة مغلقة تماما. كانت حيطان الحجرة مصنوعة من الحديد المعزّز بالطاقة السحريّة والنقوش الأثريّة التي شكّلت مصفوفة. خلقت المصفوفة حاجزا حول الحجرة أيضا حتّى لا يغادر أحد.
بلع الجنرال رعد ريقه: "يا أيّها الفتى القرمزيّ، أخبرني أنّه لديك فكرة عمّا يحدث هنا."
"اهدأ. لقد أخبرتك أنّ هذا قبو محصّن. نحن الآن في الحجرة الأولى منه. هذا الضريح الذي دخلناه يُعدّ قبرا لتلك العائلة الملكيّة كما سلف وقلت، لكنّه في الواقع ليس قبرا تُدفن فيه تلك العائلة الملكيّة، بل يُدفن فيه كلّ من تغريه الكنوز الموجودة هنا بعدما يُسجن ويُذبح."
"ما الذي تتفوّه به؟ ألم تقل أنّ هذا الهرم هو الشكل الذي اتّخذته تلك العائلة قبرا لها؟"
قبل أن يأتي باسل إلى هنا، اعتقد طوال الوقت أنّه سيكون عليه البحث عن مخلّفات ذلك الشخص صاحب البحوث التي وجدها غرين كانديد، أو ربّما يبحث عن جثّته، لكن كلّ شيء تغيّر تماما عندما وجد الهرم الذهبيّ.
"هذا الهرم الذهبيّ عبارة عن قبر، لكنّه قبرٌ يُدفن فيه الغزاة لا المالك. صاحب هذا القبر يرقد عميقا في الهرم."
"فسّر أكثر!"
صرخ الجنرال رعد. لقد كان التوتّر يزيد أكثر مع مرور الوقت، وخصوصا بعدما شعر الاثنان بطاقة سحريّة تحوم في الجوّ.
"هذا القبو المحصّن مصنوع خصّيصا لاحتواء شخص من العائلة الملكيّة وكنوزه، لكن كلّ هذا مُعدّ من أجل إغواء السحرة للدخول إلى هنا."
ولهذا قال باسل فيما سبق أنّ صاحب القبر لن يغضب حتّى لو نبشا قبره. ذلك لأنّه لم يكن مدفونا في ذلك القبر أصلا، ولأنّ هدف القبر هو إغواء السحرة إليه.
سمع الاثنان صوتا قادما من مكان لا يُفترض أن يكون فيه شيئا.
"لا... انتظر..." أشار الجنرال رعد بسبّابته إلى مكان محدّد من الحجرة: "ذلك... لا تخبرني!"
لقد كان يوجد شيء هناك. لقد كانت تلك الهياكل العظميّة موجودة في ذلك المكان وفي كلّ مكان آخر بالحجرة.
ما أن أدرك الجنرال رعد شيئا حتّى سمع نفس الصوت يأتي من مكان آخر بالحجرة، وكما كان متوقّعا، أتى الصوت من الناحيّة التي يوجد فيها هياكل عظميّة أخرى.
لم يجد الجنرال رعد ريقا ليبلعه بعدما تعرّق كثيرا: "لا تخبرني أنّ هذه الهياكل تحرّكت للتوّ."
نظر باسل إلى حال الرجل الأشقر المثير للشفقة. هل هذا هو نفس الرجل الذي جابه سحرة روحيّين باستطاعتهم الإطاحة بمملكة أو إمبراطوريّة بهجمة أو بضع هجمات منهم؟
ردّ باسل بهدوء بعدما تنهّد: "نعم، لقد تحرّكت. وستصير نشيطة مثل الأطفال عمّا قريب. لذا لمَ لا تهدأ..."
"أ-أهدأ؟! ما هذا المزاح؟ هياكل عظميّة تتحرّك في قبر. هذا كابوس. لمَ يجب علينا أن نواجه مثل هذا المصير. لا أريد أن أصير ميّتا سائرا. أريد أن أعيش وأموت بشرف."
"ما الذي تتحدّ..."
لم يكمل باسل كلامه حتّى قفز نحوه شيء بسرعة خاطفة.
قرقرقرق
صدر صوت أسنان تتصادم بشدّة واقترب ذلك الصوت مع اقتراب الشيء الطائر نحو باسل.
"مثير للاهتمام."
رفع باسل كفّه تجاه ذلك الشيء ثمّ جهّز إبهام ووسطى يده اليمنى، وما أن اتّضح مظهر ذلك الشيء الطائر، تراجع الجنرال رعد خطوتين للوراء من شدّة اندهاشه ثمّ سقط على مؤخّرته.
"إنّه قادم!"
لقد كان أحد الهياكل العظميّة طائرا نحو باسل بعدما قفز من بعيد بينما يفتح ويغلق فمه بسرعة كبيرة. يبدو أنّه كان ينوي عضّ عنق باسل.
قرقرقرق...
انكسار
توقّف صوت تصادم الأسنان المثير للاشمئزاز، فعلم الجنرال رعد أنّ السبب كان نقرة من إصبع باسل. كانت مجرّد نقرة إلّا أنّها سحقت جمجمة الهيكل العظميّ تماما، حتّى أنّ الصدمة التابعة تخلّلت الهيكل كلّه وشتّت العظام في كلّ الأنحاء.
التفت باسل بعد ذلك إلى الجنرال رعد ثمّ حدّق إليه مطوّلا قبل أن ينطق: "هل ستنهض وتكتفي بهذا القدر من السخافة، أم تريدني أن أحملك كالأميرة وأكمل طريقي؟"
"غيه...! لكن... الأموات السوائر..."
تنهّد باسل وهزّ رأسه يمينا وشمالا: "أما زلت لم تلاحظ الأمر؟ ماذا كانت تلك الطاقة السحريّة التي شعرنا بها سابقا في نظرك؟"
"أه... آآآآه!" صرخ الجنرال رعد ووقف على قدميه بسرعة كبيرة بعدما اكتشف ما كان يحدث أخيرا بسبب تلميح باسل.
"لقد فقدت هدوئي للحظة هناك، لكن لا تقلق. إن كان كلّ هذا مجرّد خدعة بسيطة كهذه، فلا شيء يمكنه إيقافي."
تقدّم الجنرال رعد باسل واتّجه نحو الهياكل العظميّة التي وقفت وأحاطتهما من جميع الجهات. كان هناك هياكل عظميّة تحمل أسلحة سحريّة وهياكل عظميّة تحمل أسلحة أثريّة. حتّى الهيكل العظميّ الذي هاجم باسل قبل قليل كان يحمل في يده سلاحا سحريّا لكنّه قرّر لسبب ما مهاجمة باسل بفمه.
'لماذا أشعر أنّ ذلك كان ترحيبا من أحدهم؟'
تــششش
توقّف الجنرال رعد الذي كان يتحرّك بسرعة فجأة. نظر إلى شتات الهيكل العظميّ الذي حطّمه باسل ثمّ رفع حاجبيه وعبس بعد ذلك ليتأكّد من حقيقة ما يراه.
التفت إلى باسل ثمّ قال: "أممم... ألم تقصد أنّ هذه الهياكل العظميّة تتحرّك بسبب عنصر العقل؟ لماذا إذن تتحرّك تلك العظام التي سحقتها مسبقا؟"
ردّ باسل بدون تأخير كما لو كان ينتظر السؤال: "لقد كنت أجرّب شيئا. أردت أن أرى إن كان التحريك العقليّ الذي يحرّك هذه الجثث سيتوقّف بعدما أدمّر الجثّة أم أنّه سيحتاج منّا أن ندمّر اتّصاله مع الجثّة. يبدو أنّه علينا فعل الخيار الثاني."
"فيوو..."
مسح الجنرال رعد العرق من جبينه ثمّ أحكم القبض على سيفه الأثريّ بالدرجة السابعة وتحكّم فيه بشكل مثاليّ. صار السيف عبارة عن صاعقة صغيرة في يد مالكه. التفّت بعد ذلك الريّاح حول الصاعقة فعزّزتها. ما نشأ في النهاية كان سيفا أزرقا متذبذبا، وما أن حرّكه الجنرال رعد في الهواء حتّى بدا كم لو أنّه قطع الهواء نفسه.
ضجيج
زبام*
قطع الجنرال رعد طريقه نحو الهياكل العظميّة في ثانيّة قبل أن يقطع بالسيف الصاعقة المتذبذب الهياكل العظميّة التي احتشدت واندفعت تجاهه.
انكسار انكسار انكسار
اندثرت قطع من العظام في الهواء وتحوّلت لرمال بعدما لامست السيف الصاعقة. لقد كان ذلك السيف يمرّ عبر العظام فيقطعها ثمّ يسحقها قبل أن يحرقها.
كان الجنرال رعد سلسا في عمله وأظهر عظمة 'صاعدٍ' هذه المرّة بشكل مضبوط.
لكن...
"همم... هل حقّا استطعت التخلّص من ثلاثة منهم فقط؟"
من بين العشرات، قضى تماما على ثلاثة فقط من الهياكل العظميّة. لقد كان هذا منافيا للمنطق.
استدار وحدّق إلى باسل: "أليس من المفترض أنّ غرين كانديد نجح في تجاوز هذه الحجرة."
ردّ باسل: "نعم. لقد تجاوز هذه الحجرة، لكنّك متعجّب فقط لأنّك ظننت أنّ الطريقة الوحيدة لمغادرة هذه الحجرة هي التخلّص من هذه الهياكل العظميّة. لو كان هذا هو الحال، لما وجدنا هذه الجثث هنا في المقام الأوّل لأنّ غرين كانديد سيكون قد سبق وتخلّص منها."
"بالإضافة،" أكمل باسل: "عالمنا مختلف تماما عمّا كان عليه قبل عقدين. نحن الآن في عالم روحيّ، وهذا القبو المحصّن يصير أقوى كلّما صار العالم أقوى. هكذا صُنِع."
لقد كانت الهياكل العظميّة أقوى ممّا ظنّ الجنرال رعد. صحيح أنّه لم يستخدم سوى 30٪ من قوّته الكاملة، لكن... ألم يسحق ذلك الفتى القرمزيّ هيكلا عظميّا بالكامل بنقرة من إصبعه فقط؟
لاحظ الجنرال رعد شيئين. لقد كان الأوّل هو قوّة الهياكل العظميّة المخيفة. لقد كان كلّ واحد منها يساوي ساحرا بالمستوى الثاني عشر على الأقل. لقد كان هذا مخيفا للغاية. لا عجب في موت الجميع سوى غرين كانديد الذي وجد الطريقة الأخرى لمغادرة هذه الحجرة على الأغلب.
أمّا الأمر الثاني الذي لاحظه الجنرال رعد، فهو فارق القوّة بين سيّد روحيّ وصاعد. لقد يفرقهما مستوى واحد فقط، لكن نقرة واحدة من إصبع باسل كانت تبدو كهجمة قويّة للغاية من صاعد.
'المستويات الروحيّة...'
أراد الجنرال رعد أن يصير سيّدا روحيّا في أسرع وقت مرّة أخرى. أراد أن يشعر بتلك القوّة الغامرة ويستخدمها بيديه.
لقد فهم الجنرال رعد أنّهما الآن كانا محاطيْن بالعشرات من الهياكل العظميّة التي كانت بالمستوى الثاني عشر على الأقلّ. كانت هناك أيضا هياكل عظميّة بقيت في الخلف وكانت تبدو أقوى من التي كانت في الأمام.
أراد أن يقاتل هذه الجثث المتحرّكة، لكنّه أيضا كان مهتمّا في الطريقة الأخرى للمغادرة، وأراد الاحتفاظ بطاقته لوقت آخر. لقد قال باسل أنّ هذه مجرّد حجرة في القبو المحصّن، لذا لا بدّ وأنّ طريقا طويلا ما زال أمامهما، لذا يجب أن يضع ذلك في الحسبان.
بالطبع كان باسل القويّ معه، لكنّه لم يرد من الفتى القرمزيّ أن يعامله كأميرة عاجزة تحتاج للمساعدة والإنقاذ في كلّ لحظة. لقد شعر بالتفاهة والغباوة كفاية كلّ هذه الأيّام الأخيرة. أو لم يرافق الفتى القرمزيّ إلى هنا حتّى يكتسب الخبرة الكافيّة ويراقب العالم الواهن في غياب باسل؟
نظر باسل إلى الأرجاء ثمّ أومأ رأسه: "لقد وجدتها. هل نذهب؟ بالطبع، لا أنصحك بذلك."
"لمَ ذلك هذه المرّة؟"
ردّ باسل بكلّ أريحيّة بينما يلكم الهياكل العظميّة التي كانت تندفع بأسلحتها السحريّة والأثريّة بدون توقّف: "طبيعة هذا القبو المحصّن تعمل تماما كأرض الوهب والسلب. في كلا المكانين، يمكنك أن تحصل على جائزة من أن تنهي الاختبار. وبالطبع، كلّما كان الاختبار أصعب، كانت الجائزة أفضل. لو اخترت الآن الطريق السهل، فستتقدّم إلى الأمام، لكنّك لن تحصل على شيء له قيمة كبيرة على الأغلب."
بالتفكير في الأمر، ألم يحصل غرين كانديد على تلك البحوث التي لم تكن تافهة بل مذهلة؟ ألم يعنِ هذا أنّه بعدما تجاوز هذه الحجرة وحصل على جائزة بسيطة، أكمل طريقه وحصل بعدئذ على البحوث بطريقة ما؟
'يبدو انّني استهنت به قليلا.'
ظنّ باسل أنّ التخلّص من غرين كانديد كان جيّدا بعد كلّ شيء.
فكّر الجنرال رعد لبعض من الوقت في كلام باسل، بينما يقطع الهياكل العظميّة التي كانت تصادم أسنانها بشدّة كما لو أنّها تضحك على حاله. قرّر أخيرا، لكن قبل أن يقول شيئا أكمل باسل فجأة.
"بالإضافة إلى ذلك، ستزداد صعوبة الحجرة القادمة لو اخترت الطريق السهل هنا. يمكنك اختيار ما شئت بعد كلّ ما قلت."
لقد كان باسل ينوي تدريب الجنرال رعد، لكنّه كان يعلم أنّ طبيعة الرجل الأشقر عنيدة وخصوصا معه، لذا كان يستخدم تقنيّة 'الجزرة والعصى' حتّى يحفّز الجنرال رعد.
لقد كان باسل يحبّ التحفيز بالعصى، وكان يعشق الجزر.
بالطبع، لم يكن ليحتاج لتحفيز الرجل الأشقر المجدّ في الحلات العادية، لكنّ هذا الرجل العنيد كان متردّدا حاليا بعدما علم أنّه في قبر أو قبو. بالأحرى، لقد كان يقاتل حاليّا أشياء بدت كالأموات السوائر في الأساطير. لا بدّ وأنّه يريد إنهاء الأمر بسرعة والخروج من هنا.
'يجب عليك أن تعاني وتتدرّب جيّدا حتّى تصير قويّا كفاية لأذهب بقلق أخفّ. إنّك الوحيد الذي يمكنني الاعتماد عليه حاليّا.'
لقد كانت موهبة الجنرال رعد في السحر مذهلة، وكان شخصا جادّا، وكان يهتمّ بالعالم، ولم يهتمّ بالمراتب إطلاقا. كلّ ما شغل باله منذ أكثر من سبعة عشر سنة هو حماية العالم من الخطر الأكبر. لقد كان أفضل شخص يمكن لباسل الاعتماد عليه حاليّا. لقد كان باسل يكره هذا، لكن لم يكن هناك خيار آخر.
***
باام
تراجع الجنرال رعد إلى الوراء رغما عن نفسه بعدما تلقّى ضربات متعدّدة من سيوف أثريّة بالدرجة السابعة مثلما كان سلاحه. استطاع بالكاد صدّها الضربات بسيفه الأثريّ.
"لم أتوقّع أن تكون هذه الهياكل العظميّة قويّة لهذه الدرجة!"
لم يكن الجنرال رعد يتكلّم عن جميع الهياكل العظميّة، بل عن الهياكل العظميّة التي كانت تقف في الخلف كما لو كانت جنرالات لجيشها العظميّ.
ردّ باسل على الجنرال رعد: "كلّ واحد من تلك الهياكل العظميّة 'القائدة' في مستوى يقارب مستوى الصاعد. استخفّ بها، ترَ الجحيم. حتّى لو كانت تتحرّك عبر عنصر العقل فقط، إلّا أنّ عنصر العقل الذي تتحرّك به الهياكل العظميّة القائدة متشكّل من الطاقة الروحيّة على عكس الهياكل العظميّة الأخرى التي تتحرّك عن طريق عنصر العقل المتشكّل من الطاقة السحريّة التي استشعرناها فيما سبق."
نظر الجنرال رعد إلى قادة العظام المتحرّكة وقال ساخرا: "هل تخبرني أنّه حتّى لو كانت هذه الجثث في الأصل مجرّد سحرة في القسم الأوّل من مستويات الربط، فهي تتحوّل إلى هذه الوحوش إن تحكّم فيها ساحر روحيّ بعنصر العقل؟ هذا مناف للعقل!"
حدّق باسل إلى الرجل الأشقر ثمّ فكّر في شيء لم يرد أن يقوله جهرا: 'بالطبع، هذا القبو المحصّن يميّز الغازي ومستواه الروحيّ ثمّ يجهّز اختباره طبقا لذلك المستوى. لذا سبب وجود مثل هذه الجثث المتحرّكة بهذا المستوى في الحجرة الأولى من القبو هو 'أنا'، لكن دعنا لا نقل شيئا ونراقب.'
لو سمع الجنرال رعد هذه الكلمات جهرا، لأراد صفع باسل ولو لمرّة واحدة على الأقلّ.
"إليك بعض المعلومات. كلّما كانت قوّة الدمى أعلى، كان قطع اتّصالها بالمتحكّم فيها أصعب. وبالطبع، الأمر حاليّا أكثر صعوبة حتّى من ذلك بما أنّه ما يحرّك تلك الهياكل العظميّة هي طاقة روحيّة وليس طاقة سحريّة فقط."
رفع الجنرال رعد حاجبه ثمّ التفت إلى باسل وقال: "انتظر... هل يمكن أنّك لن تشارك في هذا القتال؟ ألم تقل أنّك في عجلة من أمرك سابقا؟"
رفع باسل كتفيه ثمّ قال: "حقّا؟ لا بدّ وأنّني عنيت أنّني أريد الدخول بسرعة فقط."
انزعج الجنرال رعد من تظاهر باسل بالنسيان بالرغم من أنّه مشهور بذاكرته اللعينة، وأحكم قبضتيه وصرّ على أسنانه. لقد أراد ضرب هذا الفتى القرمزيّ بشدّة.
بالطبع لم يفعل ذلك، وجزء من السبب كان كلام باسل التالي: "ألا تريد الدخول إلى المستويات الروحيّة في أسرع وقت؟ لو نجحت في قطع اتّصال هذه الدمى ذاتيّة التحرّك، فستشهد تنويرا على الأغلب يجعلك تفهم ماهيّة الطاقة الروحيّة أكثر. بالإضافة إلى ذلك، سيكون الاختبار القادم في المتناول لو تغلّبت على الأعداء لوحدك."
أكمل باسل الكلمات التي لم يرد البوح بها سرّا: 'بالطبع، لن يكون الاختبار أسهل بكثير لأنّني سأكون معك.'
نظر باسل إلى الجنرال رعد ثمّ إلى الهياكل العظميّة قبل أن يتحوّل نظره إلى الحجرة بأكملها. لقد كانت المصفوفة التي تحيط بها معقّدة ولم يمكن حتّى لملك روحيّ فكّها على الأغلب وقد يتطلّب الأمر وقتا طويلا من السحرة الروحيّين بمستوى أعلى من ذلك، لكن حتّى لو كان باسل مجرّد سيّد روحيّ فقد كان يملك الحكمة السياديّة وأشياء أخرى لم يكن بمقدور القبو المحصّن قياسها.
كان بإمكانه كسر المصفوفة بحلول هذا الوقت والمرور إلى الحجرة القادمة ببساطة، وبذلك سيكسب جوائز أفضل، لكنّه حسب واستنتج أنّ تلك الجوائز لا قيمة لها في مقابل تنوير الجنرال رعد.
كان هناك شيء آخر يشغل بال باسل غير المصفوفة: 'هذا عجيب للغاية. ما درجة التقدّم التي بلغتها تلك الحضارة حتّى تصنع شيئا مثل هذا؟ شيء يمكنه محاكاة طريقة عمل أرض الوهب والسلب، ويحترم قوانين العالم في نفس الوقت حتّى لا يسبّب اختبار العالم، بينما يتغذّى على طاقة العالم لينمو كأيّ أرض مباركة، ويخبِّئ أسرارا وفخاخا كأيّ أرض محرّمة.'
لقد كان فضول باسل يزيد مع مرور الوقت. لقد صار الآن يريد معرفة كلّ شيء يتعلّق بتلك الحضارة. لقد كان دليله الوحيد موجود هنا، لذا وجب أن يحصل عليه مهما كان. حتّى لو لم يجد شيئا له علاقة بالتنقّل عبر العوالم، قد يجد كنزا لا يُضاهى.
'قد أكون أفكّر بشكل إيجابيّ كثيرا.'
وقف الجنرال رعد متأهّبا ضدّ الهياكل العظميّة القائدة التي بلغ عددها خمسة، ثمّ تمتم لنفسه: "أظنّ أنّه يجب عليّ استخدامها إن أردت التغلّب على هذه العظام."
ما أنّ قرّر لم يضع وقته. لقد استخدم هذه التقنيّة في معركة حقيقيّة لأوّل مرّة ضدّ الشياطين عندما ظهروا في العالم الواهن. آنذاك، كان مجرّد ساحر بالمستوى الرابع وبالكاد استطاع استخدام هذه التقنيّة، والتي علم في وقت لاحق أنّها إمكانيّة لعنصر البرق.
سطع سيفه الأثريّ الذي كان أصلا مجرّد نصل أزرق من الضوء يتذبذب بشدّة، فزحف ذلك الضوء والتصق بذراعه وتخلّلها ثمّ مرّ بعد ذلك إلى باقي جسده.
في الماضي، عندما كان يجرّب هذه الإمكانيّة التي كانت في مراحلها التجريبيّة، كان جسده يصير بعد ذلك واهنا وتجّف طاقته السحريّة ويعجز عن فعل شيء. ولهذا لطالما ترك هذه الإمكانيّة كحلّ أخير يسعى فيه لإنهاء العدو بضربة واحدة يستنزف فيها كلّ ما يملك.
والآن، كان الجنرال رعد قد أكمل هذه الإمكانيّة التي صارت تقنيّة مرعبة جعلته يفتخر بنفسه.
بعدما صار جسده كلّه متكهربا، توهّجت عيناه بضوء فضّيّ، وشاك شعره كالقنفذ، لكنّه بدا كالأسد.
ثبّت قدمه على الأرض ثمّ انطلق.
انفجار
طنـــــــين
بعدما اختفى الجنرال رعد من مكانه، انفجرت الهياكل العظميّة بعدما تخلّلتها صواعق برقيّة تصاحبها عواصف قاطعة، وصدى طنين في الأرجاء من شدّة سرعة الجنرال رعد التي جعلته يخترق سرعة الصوت في أقل من ثانيّة. كلّ ما تبقّى خلفه هو المسار المحترق الذي قطعه، وفتات العظام الذي سقط على الأرض ليحترق تماما.
لقد أطلق الجنرال رعد على هذه الإمكانيّة لقب 'أسد البرق'.
نظر باسل إلى الجنرال رعد لبعض من الوقت قبل أن يقترب منه: "متى بدأت تدرّب هذه الإمكانيّة؟"
لقد كانت إمكانيّات أيّ عنصر سحريّ عبارة عن تقنيّات خاصّة للسحرة. لقد كان باسل مهتمّا في 'أسد البرق' الذي جعل سرعة الجنرال رعد تنافس سرعة حاكم روحيّ القصوى بالرغم من أنّه مجرّد صاعد.
"قبل عقدين، عندما جاءت البعثات من الإمبراطوريّات إلى هنا. لقد أردت في ذلك الوقت المجيء إلى هنا حقّا، لكنّ معلّمي أخبرني أنّه لن يسمح بذلك، لذا تدرّبت بشدّة من أجل إظهار قوّتي له، لكنّني فشلت في إتقان التقنيّة كلّيّا في نهاية المطاف."
تفاجأ باسل للحظة قبل أن يهدأ بسرعة. لقد كان الجنرال رعد موهوبا، لكن يبدو أنّه قلّل من شأنه. هل حقّا استطاع هذا الرجل الأشقر التوصّل لإمكانيّة عنصر سحريّ ولو بشكل ناقص قبل أن تظهر الشياطين وقبل أن تظهر إمكانيّات العناصر في السنين الأخيرة؟
لقد عنى هذا أنّ أوّل شخص في العالم الواهن يظهر إمكانيّة لعنصر سحريّ كان الجنرال رعد، وليس هذا فقط، بل حتّى أنّه بدأ يدرّب هذه الإمكانيّة عندما كان في القسم الأوّل من مستويات الربط فقط.
أومأ باسل ببساطة ثمّ غيّر الموضوع: "إذن ماذا عن المستويات الروحيّة؟ هل لمحت شيئا عندما قطعت الاتّصال بين الهياكل العظميّة والمتحكّم بها؟"
نظر الجنرال رعد إلى باسل وظلّ صامتا لبعض من الوقت، فجعل هذا باسل يعبس.
'ألم ينجح يا ترى؟ لا مشكلة في ذلك على أيّ حال. لا يأتي التنوير في كلّ مرّة.'
ولكن... كانت إجابة الجنرال رعد مختلفة تماما عمّا كان باسل يتوقّعه.
حكّ الجنرال رعد مؤخرة رأسه كما لو كان يشعر بالذنب: "لقد نسيت، هيهيهي."
هبط الجنرال رعد درجات في المقياس الذي قاسه به باسل قبل لحظات بسرعة فائقة: "هل تمزح معي؟"
"لا، كما تعلم، لقد تحمّست قليلا وانغمست في القتال ونسيت الهدف منه. هاهاها، لا تقلق، لا تقلق! سأنجح في الحجرة الآتية."
تنهّد باسل وندم على ما فكّر فيه قبل قليل. لربّما كان الجنرال رعد موهوبا في السحر، لكنّه كان يُظهر بعض علامات الغباء بين الحين والآخر.
تساءل باسل: 'هل هذا هو الشخص الذي أسّس فرقة السنبلة الخضراء التّي جعلت من أمن العاصمة مثاليّا، ورشّحتُه لقائد من قادة أكاديميّة الاتّحاد المباركة، وأنوي جعله حامي العالم في غيابي؟ يبدو أنّ اصطحابه معي جعل قلقي يزداد حدّة بدل أن يخفّ.'
استغرب الجنرال رعد من عبوس باسل، فربّت على كتف باسل وقال: "هيّا، إنّك تعلم أنّني أهل لها."
لقد كان يتحدّث عن الحجرة القادمة، لكنّ باسل شعر لسبب ما أنّ الجنرال رعد كان يتحدّث عمّا كان يفكّر فيه قبل قليل. أهل لها؟ لا بأس بالثقة في النفس، لكن يجب أن يقول شيئا كهذا بعزم وحسم، وليس برفاهيّة هكذا. كان باسل غاضبا من تصرّف الجنرال رعد اللّامبالي تجاه مسؤوليّة 'حماية العالم'.
توهّجت عينا باسل فصدعت القشعريرة مع جسد الجنرال رعد وسحب يده بسرعة أكبر من التي انقض بها على الهياكل العظميّة سابقا.
تحدّث باسل بهدوء بينما يرمقه بنظرات مشتعلة: "سأحرص على تدريبك جيّدا. هذا من أجل العالم."
تراجع الجنرال رعد بضع خطوات ونظر إلى باسل الذي بدأ يتحرّك تجاه الباب الذي ظهر في الجهة المقابلة للتي دخلا منها إلى الحجرة.
بلع الجنرال رعد ريقه ثمّ تمتم لنفسه: "لماذا أشعر أنّ هذا لا علاقة له بحماية العالم؟"
أحسّ أنّ باسل يريد تنفيس غضبه عليه فقط. بالطبع، ليس هناك فرص أخرى كهذه يمكن للفتى القرمزيّ استغلاله كما يشاء. قد يضع باسل من الآن فصاعدا 'من أجل العالم' في نهاية كلّ جملة يقولها وجحيم يعدّه للجنرال رعد.
تراجع الجنرال رعد خطوة أخرى للوراء ثمّ نظر إلى الباب خلفه. لسوء الحظ كان ما يزال الباب مغلقا بالرغم من ظهور باب جديد يؤدّي إلى الحجرة التاليّة.
***
انحنى باسل قليلا والتقط شيئا من صحن أبيض كان موضوعا على منصّة في غرفة صغيرة.
يبدو أنّ هذا هو المكان الذي حصل فيه الغزاة أو المختبَرون على جوائزهم الخاصّة. لم يكن هناك أيّ شيء مميّز بالغرفة. تزيّنت بنقوش وأنماط فنيّة غريبة كالرواق الطويل الذي أتيا منه في البداية فقط إن كان يجب الإشارة إلى شيء ملحوظ.
نظر باسل إلى يده التي كانت تحمل فاكهة حمراء كالدم، ونوعا ما بدت كحبّة طماطم بطراوتها إلّا أنّها تشكّلت كالتّفاحة. كان باسل يعلم عن ماهيّة هذا الشيء الذي يبدو كفاكهة ما. حتّى هو كان مندهشا.
"فاكهة الحياة الأبديّة!"
قدم الجنرال رعد أخيرا بينما يقول: "لقد انتهيتُ من جمع الغنيمة في الحجرة الأولى."
لقد كانت تلك أسلحة أثريّة بالدرجة السابعة، أيّ استطاع استخدامها فقط سحرة المستوى13 و14 عشر فما فوق، لذا كانت لها قيمة كبيرة في العالم الواهن حاليّا.
لقد كان بإمكان باسل إنتاج كمّيّة مقبولة من هذه الأسلحة بقدراته الحاليّة، لكنّه كان مشغولا بأشياء أخرى. لقد كان هناك أشخاص آخرون باستطاعتهم صنع تلك الأسلحة والدروع، بالإضافة إلى أنّه نشر المعرفة اللازمة لصنعها وحتّى لصنع وعاء جيّد من أجل سلاح روحيّ.
لقد أراد أن ينمو العالم وليس أن يفعل كلّ شيء بيده.
لاحظ الجنرال رعد أنّ باسل كان يحدّق إلى شيء كرويّ الشكل، فأثار ذلك اهتمامه وسأل: "هل تلك هي جائزتنا الوحيدة؟"
لقد كان الجنرال رعد خائب الأمل. بعد كلّ تلك المعاناة، كلّ ما حصلا عليه هو فاكهة غريبة الشكل. ستكون لديها آثار رفع الطاقة السحريّة أو الروحية على الأكثر. لم يكن ذلك مذهلا للغاية، لكنّه كان مقبولا. في حدود التوقّعات.
ردّ باسل كما لو علم عن أفكار الرجل الأشقر: "أوّلا، لا يجب أن تضيف كلمة 'الوحيدة' إلى مثل هذا الشيء. وثانيّا، هذه ليست جائزتنا، بل جائزتك."
رفع الجنرال رعد حاجبه، ففسّر باسل: "هل تعلم شيئا عن مصاصّي الدماء؟"
أماء الجنرال رعد رأسه للجانب قليلا: "ها؟ هذا مفاجئ مرّة أخرى. أعلم ما يعلمه الجميع على الأغلب. أليسوا مخلوقات أسطوريّة يقال أنّهم كانوا يتغذّون على دماء البشر من أجل النجاة وتقويّة أنفسهم؟"
"صحيح وخطأ." أجاب باسل: "إنّك محقّ أنّني أتكلّم عن مصاصّي الدماء الذين ذكرتهم، إلّا أنّ تلك الأسطورة المذكورة بشأنهم خاطئة."
عبس الجنرال رعد بشدّة: "انتظر! هل يمكن أنّك تحاول إخباري أنّ مصاصّي الدماء موجودون حقّا؟"
صمت باسل للحظة وردّ: "ما يمكنني قوله هو أنّهم وُجِدوا على الأقلّ في زمان مطويّ في صفحات النسيان."
"ها؟!"
لقد كان الجنرال رعد مذهولا من المعلومة الجديدة. لقد كان باسل فتى شقيّ، لكنّه لم يكن شخصا يعبث عندما كان يتحدّث بجدّيّة هكذا، ولهذا صدّقه الجنرال رعد بسرعة، إلّا أنّ الأمر كان مدهشا.
مصّاصو الدماء موجودون. بالتفكير في الأمر، ألم يذكر في الأساطير أنّه باستطاعتهم استخدام الغيلان كخدم لهم أو ما شابه؟ بالأحرى، لو كان مصاصّو الدماء موجودين، ألا يعني هذا أنّ لربّما يوجد الأموات السوائر وما شابه أيضا؟
بلع الجنرال رعد ريقه وبدأ يذكّر نفسه بخالقه.
"هل تعلم أنّ مصّاصي الدماء كانوا مخلوقات لاحمة؟ يبدو أنّهم لم يكونوا يستطيعون إطاقة أيّ شيء نباتيّ. لقد كانوا مختلفين تماما عن جنّ الغاب الذي اقتات على النبات فقط."
ما باله وقصصه هذه الأيّام؟ تصنّت الجنرال رعد مدّعيّا الاهتمام بحديث باسل: "أوه، وماذا بعد؟"
لقد كانوا مصّاصي دماء، لذا ليس مدهشا أن يكونوا مخلوقات لاحمة.
"إذن ماذا لو قلت لك أنّ مصّاصي الدماء أحبّوا وأنتجوا فاكهة باستماتة من أجل تناولها؟"
زاد استغراب الجنرال رعد لكنّه كان ما يزال غير مهتمّ: "أممم... سأقول أنّها كانت فاكهة مميّزة بالفعل. انتظر، لربّما كانت لها نكهة اللحوم. بالمناسبة، لقد سمعت أنّهم اكتشفوا فاكهة جديدة..."
نظر باسل بعينين ميّتتين إلى الجنرال رعد الذي بدأ يتحدّث عن فاكهة ما ظهرت في العالم الواهن بعد التحوّل الروحيّ.
أكمل باسل بعدما تنهّد وقاطع ثرثرة الرجل الأشقر: "نعم، إنّها مميّزة. اسم هذه الفاكهة هو 'فاكهة الحياة الأبديّة'."
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما وبلغ اهتمامه بالموضوع درجته القصوى فجأة. لقد فهم مغزى حديث باسل أخيرا. أو يجب القول أنّ اسم الفاكهة ما جعله 'يفهم' حديث باسل؟
تحسّس باسل الفاكهة الحمراء بأصابعه وحرّكها في الأنحاء بشكل عشوائيّ فقط لأنّ الجنرال رعد كان يتبع الفاكهة بعينيه وجسده كالقطّ الذي يلاحق كرة غزل.
أكمل باسل بينما يتلاعب بالفاكهة والجنرال رعد: "هذه الفاكهة هي أحد الأسباب خلف أسطورة امتلاك مصّاصي الدماء حيّاة أبديّة."
***
بلع الجنرال رعد ريقه بشدّة. تساءل باسل عن سبب ذلك؛ هل ربّما لأنّ الفاكهة بدت شهيّة، أم لأنّها كانت قيّمة؟ لربّما بدأ يشكّك في ذكاء الجنرال رعد كثيرا.
ومع ذلك...
"إنّك لا تعرف قيمة هذا الشيء الذي أحمله في يدي بعد، لذا لمَ لا تتوقّف عن الحركة كالقرد وتنتظر حتّى أنتهي من كلامي؟"
توقّف الجنرال رعد عن القفز هنا وهناك ملاحقا باسل الذي كان يراوغه بينما يتكلّم. عاد إلى الرجل الأشقر إلى رشده أخيرا ثمّ نظر إلى باسل باندهاش بعدما أدرك ما كان يفعله وحكّ مؤخّرة رأسه بينما يعتلي وجهه تعبير متأسّف.
تنهّد باسل لكن طرأت فكرة على باله بفضل ما حدث للتوّ: 'يبدو أنّني وجدت ما يمكن أن يحفّزه. عندما يعلم قيمة هذه الفاكهة وماذا تفعل، لا شكّ في أنّه سيريد المزيد من ما يعادلها في القيمة. حسنا!'
استغرب الجنرال رعد: 'لماذا يبدو عازما فجأة؟ هذا لا يبشِّر بالخير.'
"عندما ذاع صيت مصّاصي الدماء في جميع الأنحاء في العوالم الروحيّة وبلغت قوّتهم درجة مختلفة، اهتمّ العديد من الأشخاص في نموّهم السريع والمنافي للعقل. وبسبب الخوف منهم والحسد الموجّه نحوهم، كرّس بعض الأشخاص حياتهم، يمكنك القول، من أجل إيجاد السبب خلف قوّتهم العظيمة ونسخها أو ربّما حتّى تدميرها بعد نجاحهم في نسخها."
"أووه!"
ادّعى الجنرال رعد الاهتمام مرّة أخرى، لكن باسل لم يُلقِ بالا لذلك. على الأقلّ كان ينصت له.
"بعد سنين عديدة من البحث الدقيق والسريّ، بعد التضحيّة بجواسيس بأعداد لا تُحصى، استطاع أولئك الأشخاص أخيرا التوصّل إلى نتيجة. لقد علموا أنّ مصّاصي الدماء، المعروفين باقتياتهم باللحم فقط، قد صنعوا فاكهة جديدة وكانوا يتغذّون عليها."
فهم الجنرال رعد كلّ هذا من المعلومات السابقة الذي أخبره بها باسل، لذا كان لا يزال غير مهتمّ.
أكمل باسل: "أوّل ما فعله أولئك الأشخاص هو محاولة تقليد مصّاصي الدماء وصنع الفاكهة العجيبة حتّى يصيروا أقوى ويحقّقون هدفهم، لكن وا حسرتاه، ليس كلّ شيء يسير على ما يرام كما تريد في هذا العالم. لم يكن مصّاصو الدماء أغبياء، بل كانوا عرقا حريصا وحذرا للغاية. لقد اكتشف أولئك الأشخاص في نهاية المطاف أنّه لا يمكنهم صنع الفاكهة، لأنّ مصّاصي الدماء كانوا هم الوحيدين القادرين على زراعة وتنميّة الفاكهة."
رفع الجنرال رعد حاجبه. يبدو أنّ هذا قد أثار اهتمامه قليلا.
"علم أولئك الأشخاص في وقت لاحق أنّهم لن ينجحوا مهما حاولوا تقليد مصّاصي الدماء. لقد كانت تقنياتهم متقدّمة للغاية واحتوت على أسرار لم يمكن كشفها قطّ. ولهذا انتقلوا إلى الجزء الثاني من خطّتهم. لقد حاولوا تدمير طريقة صنع الفاكهة محوها من التاريخ تماما ولو عنى ذلك تدمير عرق مصّاصي الدماء كلّه."
بلع الجنرال ريقه. لقد كان يزداد اهتماما بالموضوع: "ما كانت نتيجة المعركة؟"
"معركة؟ لا تكن مخطئا. لم تحدث أيّ معركة على الإطلاق أصلا."
تساءل الجنرال رعد عن مغزى حديث باسل، الذي أكمل موضّحا: "لقد كانت إبادة. لم يترك مصّاصي الدماء أيّا كان ممّن عارضهم حيّا. نسفوا ممالكهم وقتلوا كلّ من كان له علاقة بهم. منذئذ، اتّفق الجميع على ترك مصّاصي الدماء وشأنهم."
أومأ الجنرال رعد رأسه. لم يعلم كيف عرف باسل كلّ هذا، لكنّها كانت قصّة مثيرة للاهتمام قليلا. انتظر...
"ألم تقل فيما سبق أنّهم 'وُجِدوا في زمان ما'؟ ألم تعنِ بقولك ذاك أنّهم لا يوجدون الآن؟"
أومأ باسل رأسه وردّ: "صحيح. هل تعلم لمَ ذكرت هذه القصّة كلّها لك؟ ذلك لأنّ ما حدث لمصّاصي الدماء لاحقا يشبه ما حدث للحضارة التي ملكت هذه الأقباء المحصّنة."
"هل تعني...؟"
"نعم. ذات يوم، اختفى مصّاصو الدماء من العوالم الروحيّة تماما بعد حلول كارثة هدمت حضارتهم في ليلة واحدة."
"ليلة واحدة؟!"
حضارة أرعبت العوالم وخشي قوّتها باقي الحضارات... مثل هذه الحضارة انهدمت في ليلة واحدة؟
انتظر...
'يشبه ما حدث للحضارة التي ملكت هذه الأقباء المحصّنة؟'
ردّد الجنرال رعد الجملة في عقله وفهم مقصد باسل أخيرا: "هل يمكن أنّ حضارة هذه الأقباء المحصّنة انهدمت بين ليلة وضحاها فجأة أيضا؟"
أومأ باسل رأسه: "نعم، هذا هو القاسم المشترك بينهما، وهو ما جعلني أحكي تلك القصّة لك. حدسي يخبرني أنّ القاسم المشترك بينهما يودّي بالفعل إلى استنتاج واحد، وهو أنّ ما سبّب دمارهما كان نفس الشيء. ألا تعتقد ذلك؟"
أحكم الجنرال رعد قبضتيه: "هذا لا يمكن أن يكون صدفة."
أكمل باسل: "ومع ذلك، ليس هناك أيّ سجلّات عن كيف انهدمت الحضارتان أو متى. علم الناس فقط أنّه ذات يوم، أمسى مصّاصو الدماء ولم يصبحوا. ونفس الأمر حدث مع الحضارة الأخرى."
نظر الجنرال رعد إلى ما كان باسل يحمله في يده وتغيّر تعبيره عمّا كان عليه عندما نظر إلى الفاكهة في المرة السابقة. لقد صار ينظر إليها كما لو أنّها كنز لا يجب إهداره بدل التفكير في تناولها.
لم يعد هناك وجود لمصّاصي الدماء، لذا قد لا يجد فاكهةَ حياةٍ أبديّةٍ مرّة أخرى أبدا.
ومع ذلك، لقد كان لا يزال مهتمّا فيما تفعله هذه الفاكهة إذا تناولها الشخص: "إذن، ما فائدة هذه الفاكهة بالضبط؟"
لقد كان اسمها فاكهة الحياة الأبديّة، لا بدّ وأنّها تعزّز الروح والجسد أو ما شابه لدرجة مخيفة. أو لم يكسب مصّاصو الدماء سمعتهم بالحصول على حياة أبديّة جزئيّا بفضل هذه الفاكهة؟ حتّى لو قال الفتى القرمزيّ أنّهم لم يكونوا أبديّين حقّا، فقط الإشاعة حول ذلك كانت كافيّة.
ردّ باسل: "لهذه الفاكهة خواصّ تعزيز قدرات الشخص الشفائيّة روحيّا وجسديّا."
"إيه؟"
لقد تفاجأ الجنرال رعد.
"هذا فقط؟ ألا يجب أن تضيف 'بشكل مذهل' أو 'لدرجة لا تُعقل' أو حتّى 'كثيرا' لتلك الجملة؟"
تنهّد باسل: "لا يمكن وصفها بذلك الشكل. صحيح أنّها مذهلة في حدّ ذاتها لأنّها تعزّز القدرات الشفائيّة، لكن إنّها مجرّد فاكهة واحدة."
سقط الجنرال رعد على ركبتيه: "وها أنا ذا الذي رفعت آمالي عاليا بدون فائدة."
رفع باسل حاجبه: "هوه، أظنّ أنّك لا تحتاج إليها إذن."
نهض الجنرال رعد مسرعا: "هذا هو هذا، وذاك هو ذاك. بالطبع سآخذها. هيّا، سلّمها لي بسرعة."
منح باسل الفاكهة للجنرال رعد الذي خطفها من يده بسرعة.
"لا تتناولها الآن. خزّنها حتّى تكون تخترق إلى المستويات الروحيّة. ستسهّل الأمر عليك، وأيضا ستنتفع منها أكثر لأنّك ستقدر على امتصاصها كلّيّا."
"أه...!"
أزاح الجنرال رعد الفاكهة عن أسنانه التي كادت تعضها وخبّئها.
'هذا الوغد... هل كان سيأكلها لتوّه؟ ألا يعرف معنى التردّد؟'
لقد انزعج باسل لأنّه كان يعلم أنّ الجنرال رعد لم يفكّر في الأمر ولو لثانيّة واحدة قبل الإقدام على فعله. لقد كان حقّا شخصا متسرّعا منذ صغره كما قال العمّ براون والكبير تشارلي.
"هيّا، لنتحرّك. ما يزال أمامنا طريق طويل."
اتّجه الاثنان إلى الباب الذي كان خلف المنصّة، وما أن اقتربا منه حتّى فُتِح لهما من تلقاء نفسه كما فعل البابان السابقان.
لقد كانا متّجهين الآن إلى الحجرة الثانيّة. لقد تجاوز غرين كانديد الحجرة الأولى، لذا لا بدّ وأنّه حصل على الأسلحة الأثريّة والإكسيرات في غرفة المكافآت بعد ذلك، لكنّه حصل أيضا على تلك البحوث، والتي كانت قيمتها أكبر بكثير من الأسلحة الأثريّة. هذا عنى أنّه تجاوز حتّى الحجرة الثانيّة وربّما حصل منها على البحوث بعد تجاوزها، أو ربّما بعد الحجرة الثالثة...
'لا، ذلك مستحيل. قد يكون نجح في الأوّل بسبب فطانته، وفي المرّة الثانيّة بسبب حظّه، لكن لا هذا ولا ذاك سينفعانه في المرّة الثالثة إلّم يملك أقلّ قدر مطلوب من القوّة.'
كان باسل يتوقّع أنّ غرين كانديد حصل على البحوث بعد الحجرة الثانيّة واستطاع اكتساب الحقّ في الخروج من هنا بعد ذلك.
حتّى لو كان هذا الهرم فخّا مغريّا، كان يتبع قوانين العالم من أجل تجنّب اختبار العالم، ولهذا لا بدّ وأنّه كان حريصا أيضا على إعطاء فرصة للأشخاص بالعودة بعد تجاوز مراحل قليلة، وخصوصا الذين أتوا إلى هنا لأوّل مرّة. لا يمكنه احتجازهم هنا فقط.
التفت باسل إلى الجنرال رعد فوجده قد أخرج الفاكهة وظلّ يحدّق إليها ويفحصها بتعبير خائب الأمل.
استدار باسل: "أه..."
توقّف فجأة ثمّ أكمل طريقه قبل أن يسأل الجنرال رعد عن سبب توقّفه.
'لم أستطع الإضافة إليها بـ'بشكل مذهل' أو 'لدرجة لا تُعقل' أو حتّى 'كثيرا' فقط لأنّني فكّرت في الأمر من منظوريّ الشخصيّ. بما أنّني أملك هذا الجسد الآن، صار تقيمي للأشياء غير متوازن نوعا ما. كان يجب أنّ أقيّم الفاكهة بوضع الجنرال رعد في الاعتبار.'
بالطبع كانت فاكهة واحدة فقط، لكنّ وصف 'الحياة الأبديّة' كان قرينا لها. لن يعلم الجنرال رعد عن قيمة الشيء الذي كان يحمله في يده إلّا بعدما يختبره حقّا.
بالطبع، ليس أيّ شخص يمكنه الحصول على كنز كهذا في أول حجرة. كان يجب على الشخص أن يتجاوز المرحلة بجدارة، وأن يكون أوّل من نجح في ذلك.
بالرغم من أنّ غرين كانديد ومن سبقه إلى هنا دخلوا إلى الحجرة الأولى وربّما تجاوزوها، إلّا أنّهم نجحوا فقط كما فعل غرين كانديد على الأغلب.
"بالمناسبة، كيف مرّ غرين كانديد إلى هنا؟"
تذكّر الجنرال رعد الامر أخيرا. ألم يقل باسل أنّ طريقة أخرى للعبور كانت موجودة غير التخلّص من الهياكل العظميّة؟
"آه... لقد كان هناك ممرّ خفيّ. يبدو أنّ غرين كانديد قد كان ماهرا في هذا المجال على ما أظنّ. لقد اكتشف الممرّ الخفيّ وعبره بينما يشغل أتباعه الهياكل العظميّة على الأغلب."
أومأ الجنرال رعد رأسه لكنّ باسل كان يفكّر في شيء آخر: 'بالطبع، كان لا بدّ أن يفهم نمط النقوش الأثريّة في الممرّ الخفيّ حتّى يُفتح له. ولهذا قلت أنّه كان ماهرا. شخصٌ لم يكن لديه علم بالنقوش الأثريّة فهمها من أوّل محاولة له. لقد استهنت به حقّا. وأيضا، إنّ هذا لمؤسف.
لربّما كان يمكن للعالم الواهن أن يملك خبيرا عبقريّا في النقوش الأثريّة والروحيّة وربّما حتّى الفنون القتاليّة غيري.'
تذكّر باسل نفسه عندما كان يحلّ الألغاز المعقّدة والأحاجي الغامضة، فقارن نفسه بغرين كانديد بدون وعي منه. هناك أشخاص كان من الأفضل أن يبقوا أحياء. ربّما...
'بالطبع، لست غبيّا لأمنحهم الحريّة.'
حتّى لو تركهم أحياء، فذلك سيكون من أجل مصلحته. لمَ يجب عليه أن يكون عطوفا على أعداء يحاولون قتله؟
'من الحكمة استغلالهم بدل إنهاء حياتهم ببساطة.'
لاحظ الجنرال رعد أنّ الهالة المحيطة بباسل تصير داكنة نوعا ما، فباعد نفسه عنه. لم يرد أن يكون جزءا من أيٍّ كان ذاك الذي يخطّط له هذا الفتى القرمزيّ.
***
الحجرة الثانيّة.
ما أن دخل الاثنان حتّى انغلق خلفهما الباب، ولكن هذه المرّة لم تظهر حيطان حديديّة. بالأحرى، وجدا نفسيهما فجأة في صحراء لا نهاية لها.
"إيه؟ ما هذا؟ هل صرنا في صحراء الغرب بالقارّة؟ ألم نكن نحاول الدخول إلى الحجرة الثانيـ... إيه؟ أيّها الفتى القرمزيّ؟ أين أنت؟"
استدار الجنرال رعد عدّة مرّات ونظر إلى جميع الجهات، لكنّه لم يستطِع إيجاد باسل. لقد كان هذا غريبا ومخيفا في نفس الوقت.
تحرّك للأمام وبدأ ينادي: "يا قرمزيّ! يا مغرور! يا أيّها الشقيّ القرمزيّ! يا بليد! إلّم تظهر الآن فاعلم أنّني لن أساعدك حتّى تصير تعلم كيف تدبّر علاقاتك الشخصيّة!"
ظلّ الجنرال رعد يصيح بمختلف الألقاب الغريبة التي صنعها لباسل، لكنّ هذا الأخير لم يظهر قطّ.
وفجأة...
"إيه؟"
لاحظ الجنرال رعد أن ساقيه تُشفطان تحت الأرض. كان قد فات الأوان على الهرب، لأنّه مهما حاول لم يستطع الهرب. لقد علم أنّه قد وقع في الفخّ.
"هذا سيّئ!"
***
"همم... مثير للاهتمام. لنراقب الوضع."
جلس باسل واتّكأ على الحائط، ثمّ نظر إلى الرجل الأشقر الذي كان يقف في نفس المكان منذ ثوانٍ بوجه خالٍ من التعابير. بعدما دخلا إلى الحجرة الثانيّة، أحاطتهما طاقة روحيّة فعلم باسل تماما ماذا كانت. حاولت تلك الطاقة الروحيّة إسقاطه في وهم، لكنّها فشلت بعدما تصدّى لها بالحكمة السياديّة.
وفي الجهة الأخرى، كان الجنرال رعد قد سقط في الفخّ.
"لا أعلم ما الذي يراه حاليّا، لكن هذه المرّة إن نجح في تجاوز هذا الاختبار، سيكسب تنويرا من أجل الاختراق إلى المستويات الروحيّة على الأغلب. وبالطبع، إن فشل، فسيخسر روحه للأبد، لكن لا قلق، سأنقذك إن كنت ستفقد روحك. نعم، عندما تكاد تفقدها."
بدأت مرحلة الحجرة الثانيّة... لا، بل بدأت المرحلة الثانيّة من تدريب باسل.
"غرين كانديد... لا عجب في تجاوزه المرحلة الثانيّة بجدارة والحصول على تلك البحوث. لقد فهم نمط النقوش الأثريّة، فكيف لشخص مثله ألّا يتجاوز اختبار الوهم؟"
بالطبع، كان الاختبار الذي تجاوزه غرين كانديد أسهل بدرجات عديدة من الذي كان الجنرال رعد يعاني ضدّه حاليّا.
"أصعب جزء في وهم كهذا هو أنّك لا تدرك أنّك في وهم. لن تشعر بأيّ فرق بينه وبين الواقع."
تذكّر باسل 'بصيص أمله' في هاته اللحظة، ثمّ أحكم قبضتيه بشدة. لقد كان هادئا، لكن ما هدّأته الحكمة السياديّة كان عقله وروحه، أمّا قلبه، فقد كان يتحرّق طوال الوقت، يتحرّق شوقا لأنمار، ورغبة في الانتقام من إبلاس.
***
[من أنت؟]
عندما كان باسل جالسا متمعّنا في حالة الجنرال رعد، صدى صوت في الأرجاء مخاطبا إيّاه. بدا الصوت هادئا لكنّ باسل أحسّ بالحيطة والحذر فيه. لقد واضحا لباسل أنّ صاحب الصوت يشكّ في كينونة باسل.
"يبدو أنّك لم تستطِع الانتظار أكثر. ليس كما لو أنّني لا أتفهّمك، فحتّى أنا يغلبني الفضول في عديد من الأحيان. لكن ماذا عساي القول؟ إنّكم حقّا لقوم يبتغون المعرفة ولا يستطيعون تجاهل المجهول."
لم يتلقّ باسل أيّ ردّ. وبالطبع، لم يهتمّ. لقد أتى إلى هنا بهدف واحد في باله، وهو اكتساب شيء له علاقة بالتنقّل عبر الفضاء، لكن هذا كان هدفه قبل أن يعلم أنّ قبوا محصّنا كهذا هو المكان الذي كان يبحث عنه.
عندما علم أنّ المكان كان هو هذا القبو المحصّن، لم يعد يقتصر هدف باسل على أداة التنقّل فقط، بل صار مهتمّا حتّى في الأسرار المحيطة بالحضارة خلف الأقباء المحصّنة، وفي الشخص الذي يرقد هنا. لقد كان يريد أن يعرف عنهم كلّ ما يمكن معرفته، وخصوصا الكارثة التي حلّت عليهم.
لقد كان باسل لا يستطيع تجاهل المجهول تماما كما كان صاحب الصوت.
مرّ وقت طويل. لاحظ باسل أنّ الجنرال رعد يعاني داخل الوهم الذي كان يظنّه واقعا على الأغلب. لربّما كانت تحيطه وحوش سحريّة أو حتّى روحيّة في هذه الأثناء، أو ربّما كان يواجه وقتا صعبا بينما يغرق في حمم بركانيّة، او ربّما كان يحارب الموت في سجن جليديّ أبديّ.
نظر باسل إلى الجنرال رعد بعينين عازمتين. لقد استطاع الجنرال رعد الصمود بعد تلك المحنة، تلك المأساة التي بمقدورها سحق روح أيّ شخص. كيف صمد الجنرال رعد؟ الجواب هو أنّه كان ما يزال حيّا. كان لينتحر العديد من الأشخاص بعد فقدان الغاية من حياتهم. هناك من يشعرون أنّ الحياة مجرّد محنة شاقّة، فيلجؤون إلى الموت، والذي كان الطريقة المُثلى للهرب من العيش.
ومع ذلك، لم يهرب الجنرال رعد. لقد دقّ الموت على بابه، لكنّه كان شجاعا، لا متهوّرا، ولا هاربا، ولا مرحّبا. لقد كان الجنرال رعد شجاعا! لربّما لن يشارك الجنرال رعد نفس الرأي مع باسل، لكنّ هذا الأخير زاد احترامه أكثر للجنرال رعد الذي أحبّ أمّ باسل وفعل كلّ ما بوسعه من أجل حمايتها حتّى اللحظات الأخيرة.
وفوق كلّ هذا، لم يفكّر باسل بتاتا في مساعدة الجنرال رعد حاليّا. بالطبع احترم الجنرال رعد، لكن بسبب احترامه له تركه وشأنه. لقد وضع ثقته في الجنرال رعد.
[من أنت؟]
لقد كان الصوت غريبا. لم يعلم باسل إن كان لمرأة أم رجل. ولربّما بسبب هذا طرح باسل سؤاله التاليّ: "أخبرني، هل أنت فرعون أم ملكة فرعونيّة؟"
صمت الصوت مرّة أخرى ولم يردّ على باسل. لم يعلم هذا الأخير إن كان ذلك بسبب اندهاش صاحب الصوت من السؤال غير المتوقّع أم أنّ ذلك كان بسبب طبيعة صاحب الصوت، فهو ظلّ صامتا في الفترة السابقة أيضا.
[من أنت؟]
لقد حاول الصوت إخفاء الأمر، لكنّ باسل استطاع ملاحظة تغيّر طفيف فيه. لقد كان ذلك تردّدا.
'بالطبع سيندهش. ليس هناك عديد من الأشخاص يعلمون عن الفراعنة.'
رفع باسل كتفيه ثمّ قال: "حتّى لو سألتني عمّن أكون، لا أعلم كيف أردّ عن ذلك. هل أخبرك باسمي مثلا؟"
لم يتلقّ باسل ردّا مباشرة. كان عليه الانتظار لمدّة طويلة مرّة أخرى. وبالطبع، لم يملّ من هذه المحادثة(؟) المتقطّعة.
[أنت تعلم. كيف؟ من أنت؟]
أومأ باسل رأسه: "حسنا، حسنا. إنّني ألاحظ بعضا من التحسّن هنا. لقد أضفتَ ثلاث كلمات أخرى. ما رأيك أن تكوّن جملة مفيدة في المرّة القادمة؟ انظر إليّ، إنّني أتكلّم كثيرا بما أنّني لا أملك ما أفعله حاليّا. ما رأيك أن تفعل نفس الشيء بما أنّك رقدت هنا لوقت طويل؟"
انتظرَ باسل كالعادة.
[من أنت؟]
تنهّد باسل ثمّ نظر إلى الفراغ: "هل تمزح معي؟ هل حقّا تقدّر كلّ ثانيّة من حياتك لهذه الدرجة؟ أعني، أعلم أنّ كلّ ثانيّة لها قيمة كبيرة بالنسبة لك، لكن لا يمكنك أن تفعل هذا لو أردت أيّ شيء منّي. لقد ظللتَ هنا لوقت طويل للغاية، فلا تخبرني أنّك لم تجمع 'وقتا' كافيّا حتّى يتسنّى لك خوض محادثة بسيطة."
انتظرَ باسل. وهذه المرّة، أثمر صبره.
[كيف تعلم عن كلّ هذا؟ من أنت؟ لماذا تبدو سيّدا روحيّا لكنك أكثر من ذلك بكثير؟]
لقد كان القبو المحصّن يختبر الشخص حسب مستواه، ولهذا ارتأى صاحب الصوت أن باسل كان غريبا للغاية. بالرغم من أنّه سيّد روحيّ، إلّا أنّه بدا أكثر من مجرّد سيّد روحيّ. لم تكن اختبارات القبو المحصّن تشكّل تحدّيّا لهذا الشاب إطلاقا بالرغم من أنّها من المفترض أنّ تكون صعبة.
بالطبع لم يستطع صاحب الصوت معرفة ماهيّة هذا الشيء. لقد كان ذلك بسبب الحكمة السياديّة، وبسبب الجسد الاستثنائيّ الذي يملكه باسل، بالإضافة إلى امتلاكه روحين وخمسة عناصر سحريّة. لم تكن الأقباء المحصّنة بإمكانها وضع الهبات في الحسبان، ويبدو أنّه استحال معرفة جسد باسل أو التفكير في وجود شخص بروحين أصلا.
أومأ باسل. لقد كان يتلاعب بصاحب الصوت حتّى يجعله يتكلّم بطلاقة. والآن بعدما فعل صاحب الصوت ذلك أخيرا، كان باسل مستعدّا للإجابة على سؤاله. وبالطبع كانت إجابته...
"أنا باسل."
انتظر باسل مرّة أخرى.
طال الانتظار أكثر من المرّات السابقة، حتّى اقتنع باسل في نهاية المطاف أنّ صاحب الصوت لم يكن ينوي التكلّم بعد الآن.
'لا بأس. لا أريد خوض محادثة لن أجني منها شيئا. لن أخبرك بأيّ شيء عنّي حتّى أعلم أنّك مستعدّ لفعل نفس الشيء.'
لم يكن باسل متسرّعا. بالأحرى، لو كانت معلوماته صحيحة، فسينتهي به الأمر بلقاء صاحب الصوت عندما يتجاوز طوابق القبو المحصّن كلّها. عندئذ، لن يكون هناك أيّ خيار أمام صاحب الصوت سوى الانصياع لأمر باسل. هذا ما ظنّه باسل. لماذا؟
'لأنّني أملك شيئا خاصّا للغاية. شيء مثاليّ لشخص يتشبّث بالحياة بشدّة مثله.'
***
"آآآآه!"
سقط الجنرال رعد من أعالي السماء بينما تلحقه وحوش سحريّة بنفس مستواه. لقد كان يمرّ من حالة إلى أخرى. لقد كان عليه أن يختبر آلاما لدرجة الموت مرّات عدّة.
بعدما غرق في الرمال واختنق بشدّة قبل أن يفجّر كلّ ما كان حوله بـ'أسد البرق' حتّى يتحرّر أخيرا، وجد نفسه يقاتل عددا غير محدود من الأموات السوائر. وبعدما تجاوز تلك المرحلة كما فعل في الحجرة الأولى من القبو، اضطرّ للدفاع ضدّ مطر من الأحجار المشتعلة. عذاب تلو الآخر بدون توقّف.
وهذه المرّة، وجد نفسه ساقطا من السماء بعدما عضّه وحش سحريّ وحلّق به إلى السماء ثمّ أطلقه.
"اللعنة! ما الذي يحدث هنا؟"
لقد كان الجنرال رعد ما يزال يظنّ أنّ كلّ شيء حقيقيّ. لم يخطر بباله أنّ كلّ هذا مجرّد وهم. لماذا؟ لأنّه كان حقيقيّا للغاية. كان الألم والتعب والفرح والعرق والخوف أشياء حقيقيّة تماما. لم يستطع التفكير في كون هذا وهم أصلا.
لقد كان السبب الأكبر في جهله بأنّ هذا وهم هو أنّ هذا الوهم كان نتيجة لطاقة روحيّة. لقد كان هذا مثل وهم ألقاه حاكم روحيّ.
حاكم روحيّ. لقد كان باسل سيّدا روحيّا حاليّا، ولهذا وجد صاحب الصوت الأمر غريبا للغاية أن يتجاوز باسل هذا الاختبار قبل أن يشارك في الاختبار حتّى. بالرغم من أنّ حاكم روحيّ يفوق سيّدا روحيّا بمستوى واحد فقط، إلّا أنّ الفرق بين كلّ مستوى ومستوى آخر في المستويات الروحيّة كان كالفرق بين الأرض والسماء.
بالطبع كان هذا مجرّد تقنيّة واحدة من حاكم روحيّ متشكّلة على شكل وهم، لكن كان من المفترض أن يعاني باسل قليلا قبل أن يهرب من الوهم.
كان باسل ينظر إلى الجنرال رعد الذي كان يستخدم طاقته السحريّة ويتحوّل إلى أسد البرق في عديد من الأحيان. اندمج عنصر برقه مع عنصر رياحه وكوّنا عاصفة رعديّة حوله مرارا وتكرارا، وكلّ هذا حدث بينما كان الجنرال رعد واقفا في مكانه.
لو طال الأمر، فسيستنزف الجنرال رعد طاقته بأكملها ويصير سجينا أبديّا للوهم. وبعد ذلك، سيصير وجبة خفيفة يستمتع بها صاحب هذا القبو.
'لكن أنا أثق فيك. كشخص اختبر رعب أولئك الأشخاص ويأس إبلاس، فإنّك ستتجاوز هذه المحنة.'
لقد كان الجنرال رعد حاليّا يتعارك مع وحش سحريّ. لقد كان هذا الوحش السحريّ يستطيع استنساخ نفسه بلا حدود وتجدّدت جروح نسخه ما لم يقضي عليها الجنرال رعد عليها تماما.
بخّر الجنرال رعد النسخ التي انكبّت عليه بدون توقّف وتحمّم في دماء الوحوش ودمائه الخاصّة.
لهث بشدّة ونخر بعدما تقيّأ الدماء. كم من مرّة كاد فيها أن يغرق بدمائه الخاصّة؟ اتّكأ على سيفه الأثريّ ثمّ نظر إلى حوله.
بعد الوحش السحريّ المقزّز، ظهر هذه المرّة وحش روحيّ. قاتل وقاتل ثمّ قاتل لوقت طويل حتّى بدأ يشعر بأنّ حياته تُستنزف. لقد كان يصل إلى حدوده.
كم من الوقت يجب عليه أنّ يستمر في القتال هكذا؟ لقد مرّت أيّام وهو على هذه الحال، أو ربّما أشهر؟ لم يعلم كم من الوقت قد مرّ وهو يقاتل بدون توقّف بشكل هيستيريّ. هل هناك أيّ فائدة من القتال هكذا؟ لم عليه أصلا أن يقاتل هكذا؟ أليس من الأفضل الاستسلام والموت حتّى يرتاح للأبد؟
'أرتاح... أرتاح... أرتاح؟ هل فكّرت لتويّ في الراحة؟'
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما وبدأ يضحك بصوت منخفض قبل أن يصيح بصوت عالٍ: "لا تعبث معي! ليس هناك راحة لشخص مثلي. أنا... أنا... عليّ أن أعيش وأصلح أخطائي. سأعيش لأكفّر عن ذنوبي. سأبقى في هذه الحياة حتّى يجيء اليوم الذي أنتقم فيه من ذلك الشيطان اللعين!"
ما أن انتهى الجنرال رعد من كلامه حتّى ظهر شخص جعل وجه الجنرال رعد شاحبا.
"لـ-لماذا هو هنا؟ كيف هذا يُعقل؟!"
من ظهر أمام الجنرال رعد كان شيطان اليأس.
تجمّد الجنرال رعد في مكانه ولم يعد يستطيع التحرّك. لقد قال ما قال سابقا، وحسم أمره، لكنّ الأمر كان مختلفا عند الالتقاء بالشخص الذي غيّر حياته وترك فيها بصمة وصدمة لا يُمكن محوهما أو تجاوزهما. لقد كان إبلاس شرّا لم يمكن للجنرال رعد التخلّص منه.
كلّ كوابيسه كان سببها إبلاس، وكلّ مشاكله الحاليّة وخططه المستقبليّة تمحورت حول إبلاس.
لقد سلب إبلاس منه كلّ شيء. ليس حياته وحياة من أعزّه فقط، بل سلبه كرامته وشجاعته أيضا.
"يبدو أنّ الحشرة ما زالت تزحف على الأرض متشبّثة بالحياة بعد كلّ فعلته بها."
سمع الجنرال رعد تلك الكلمات من شيطان اليأس. نظر إلى الأرض ولم يستطِع النظر مباشرة إلى عيني إبلاس. لقد كان يعلم ما الذي يمكن أن يحصل لو نظر إلى تينك العينين الصفراوين.
لقد قال أنّه يجب أن يعيش من أجل الانتقام من إبلاس، لكن يبدو أنّه لم يكن مستعدّا لذلك بعد. لقد كان التفكير في إبلاس ومواجهته شيئين مختلفين تماما.
"عليّ تحطيم حشرة مثلك تماما حتّى لا تنهض مرّة أخرى."
إنه مجرّد حشرة، لذا ليس من الغريب ألا يهتمّ إبلاس فيه ويحطّمه مباشرة.
"ليس هناك أمل في الحياة أصلا."
تمتم الجنرال رعد لنفسه بينما ما يزال ينظر إلى الأرض.
(فلتعش في الظلمات إذن)
رنّت تلك الكلمات في عقل الجنرال رعد. لقد كانت كلمات باسل التي أخبره بها عندما قال الجنرال رعد أنّه لا يملك أملا مثل باسل.
عش في الظلمات وهيمن عليها، وعندها لربّما تجد وسيلة للتحرّر منها وإيجاد الضوء.
صحيح... لقد سبق واختار مساره الروحيّ. لمَ يجب عليه أن يهتمّ بإيجاد أمل حتّى يعيش؟ أوَ لم يقرّر مسبقا أنّه سيعيش فقط من أجل إصلاح أخطائه؟ ألم يرد الانتقام بشدّة من إبلاس؟ لم يجب أن يخاف الآن؟
"لقد رميت الأمل منذ مدّة طويلة. أنا مجرد يائس بائس يريد أن يعيش أطول مدّة ممكنة حتّى يصلح كلّ شيء."
ولهذا...
رفع الجنرال رأسه إلى الأعلى: "لا أهتمّ إن كان هذا هو آخر يوم أعيشه. على الأقلّ سأفعل كلّ ما في وسعي من أجل عيشه."
نظر الجنرال رعد إلى إبلاس: "ولهذا... سأقاتل مهما حدث!"
همم...؟
لم يحدث شيء...؟
لقد كان الجنرال رعد يظنّ أنّه سيتجمّد في مكانه بعد النظر مباشرة إلى عيني إبلاس، لكن لم يحدث أيّ شيء. بالأحرى، شعر أن إبلاس ذاك كان مجرّد 'مزيّف'... ربّما؟
"هل يمكن...؟"
***
تنهّد باسل بعدما رأى تغيّرا طفيفا في مجرى طاقة الجنرال رعد السحريّة، وفي طاقة الوهم الروحيّة التي كانت تتلاعب به.
"يبدو أنّ انتظاري لن يطول أكثر."
لم يمرّ وقت طويل حتّى لاحظ باسل أنّ طاقة الوهم المحيطة بالجنرال رعد والتي كانت تجعله مقيّدا قد بدأت تتبدّد شيئا فشيئا. لقد كان الجنرال رعد يستخدم كلّ ما تبقّى له من طاقة سحريّة في التخلّص من الوهم.
سقط الجنرال رعد على ركبتيه، يتصبّب عرقا، ويلهث بشدّة. حتّى لو كان ذلك وهما فقط، كان تلك الآلام والمشاعر حقيقيّة بالنسبة له، حتّى أنّه صار واهنا بعدما استنزف طاقته كلّها.
"كم... لهث ...مرّ... من... لهث ...الوقت؟"
"حوالي نصف يوم."
"هكذا إذن."
لقد اختبر الجنرال رعد أيّاما عديدة داخل ذلك الوهم. لقد كان عنصر الوهم مرعبا للغاية. إحدى إمكانيّاته التي جعلت الوهم يبدو حقيقة ويمدّد الإحساس الزمنيّ للهدف كانت مفزِعة حقّا.
تساءل باسل: "إذن... هل كسبت شيئا من كلّ هذا؟"
استدار الجنرال رعد بصعوبة إلى باسل ثمّ قال: "و... وماذا تظنّني كنت أفعل طوال ذلك الوقت."
لقد علم أنّ باسل كان يسأله عمّا إذا كسب تنويرا بشأن الطاقة الروحيّة بعد مروره بكلّ ذلك. وبالطبع، ردّ الجنرال رعد بفخر. لم يرد أن يتكلّم عن ضعفه بعد الآن مع باسل. لقد تصنّع القوّة وردّ بذلك الشكل. لقد رأى باسل ما يكفي من الذلّ منه في الأيّام الماضيّة. ليس هناك حاجة ليحكيَ له ما مرّ به هذه المرّة أيضا.
أومأ باسل ببساطة. تحرّك نحو المخرج الذي تشكّل مرّة أخرى، فنهض الجنرال رعد بصعوبة وتبع باسل. يبدو أنّ هذا الأخير لم يساعد الجنرال رعد في النهوض حتّى بعدما علم عن نواياه. علم باسل أنّ الرجل الأشقر قد صار عازما كفاية.
استطاع الجنرال رعد أخيرا الهروب من وهم من حاكم روحيّ. لقد كان ذلك كافيّا حتّى يعلم الشخص أنّ الساحر عليه أن يفهم ماهيّة الطاقة الروحيّة ويختبرها بنفسه حتّى ينجح في التحرّر من ذلك الوهم.
في هذا اليوم، تعلّم الجنرال رعد أنّه عندما يواجه الشخص أكبر مخاوفه، فإنّ ذلك يكون أوّل وأعظم خطواته نحو تحقيق أهدافه.
***
دخل الاثنان إلى غرفة المكافآت. لقد كان الجنرال رعد متحمّسا هذه المرّة لما سيحصل عليه. فبعد كلّ شيء، لقد مرّ بمعاناة كبيرة، لذا يجب أن تكون المكافأة مناسبة.
لاحظ باسل عيني الرجل الأشقر وشفق عليه. لقد كانت تلك معاناة شديدة بالنسبة للجنرال رعد فقط لأنّ باسلا كان معه. لقد كان القبو المحصّن يضع أعضاء المجموعة كلّهم في الاعتبار ويجهّز اختبارا مناسبا.
لقد صعُب الاختبار على الجنرال رعد لأنّ باسل كان سيّدا روحيّا، ولكن في المقابل كان الاختبار سهلا على باسل لأنّه لم يكن سيّدا روحيّا عاديا وهذا كان خارج حسابات القبو المحصّن.
'شاذ... يبدو أنّه يستحيل حتّى على القبو المحصّن تمييز شخص بروحين.'
لقد كان باسل يفكّر في المستقبل. سيكون عليه إخفاء أوراقه الرابحة، وأعظمها كان روحيه. كانت استحالة تمييز روحين بجسد واحد أمرا جيّدا. لماذا كان ذلك مستحيلا؟
'حتّى أنجح في اكتساب روحين بجسد واحد، كان عليّ جعلهما منسجمتين كلّيّا، لذا يبدو أنّ ذلك الانسجام يُظهر الروحين كروح واحدة للآخرين.'
اقترب باسل من المنصّة ونظر إلى الصندوق الذي كان عليها. كان كصندوق كنوز نوعا ما. استعدّ لفتحه فتدخّل الجنرال رعد: "انتظر...! ألا تظنّ أنّه يجب علينا الحذر قبل فتحه؟ تعلم، ألا يكون هناك فخاخ في هذه الحالات؟"
إذا كان هناك صندوق كنز، فلا بدّ من وجود فخاخ حوله. كان هذا هو المنطق السليم. هذا ما تناقله الناس في مأثوراتهم وقصصهم الخياليّة.
نظر باسل بعينين خاليتين من الاهتمام إلى الرجل الأشقر الذي كان يظنّ أنّه بطل ما في قصّة خياليّة، ثمّ استدار وفتح الصندوق.
"كلّاااا!"
صرخ الجنرال رعد لكن فات الأوان.
"إيه...؟"
تنهّد باسل ثمّ أخذ شيئين ممّا كان في الصندوق ومرّرهما للجنرال رعد.
عبس الجنرال رعد بينما ينظر إلى يديه. كان يحمل في اليمنى لفيفة وفي الأخرى مفتاحا فضّيّا.
"ما هذان؟"
'يبدو أنّني كنت محقّا بعد كلّ شيء.'
خاطب باسل نفسه قبل أن يردّ على الجنرال رعد: "ذلك مفتاح يخوّلك الخروج من هذا المكان والدخول إليه مرّة أخرى لتكمل من حيث توقّفت آخر مرّة. بمعنى آخر، لو أردت الاستسلام هنا، يمكنك استخدام المفتاح للخروج والرجوع إلى هذه النقطة بالضبط."
"وماذا عن هذه الورقة الغريبة؟"
نظر باسل إلى اللفيفة. لقد فتحها قبل تسليمها للجنرال رعد، وبصراحة، صُدِم تماما. لقد كانت اللفيفة تشبه كثيرا المخطوطات الثلاث التي يملك. كان الشبه كبيرا لدرجة جعله يشكّ في إن كان يجب عليه حقّا أن يسلّم شيئا كهذا للجنرال رعد.
وبالطبع، بعدما تفحصّها بالحكمة السياديّة، لم يجد في اللفيفة شيئا مشبوها. إن كان هناك شيء يجب الإشارة إليه، فهو أنّ عنصر الفضاء الذي كان مطبوعا في اللفيفة بنقوش أثريّة وروحيّة كان أفضل بكثير من الذي كان على المخطوطات الثلاث.
لو قورنت هذه اللفيفة مع المخطوطات التي يملك من حيث الإتقان لوحده فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ اللفيفة كانت متفوّقة بكثير. بالأحرى، بدا كما لو أنّ اللفيفة كانت نسخة أصليّة بينما كانت المخطوطات تقليدا للّفيفة.
ولكن، لو قورِنا من حيث المستوى والقوّة، فبالطبع كانت المخطوطات أقوى بمستويات عدّة. كيف لا وهي كانت مخطوطات بدرجة سلطان أصليّ، أعلى مستوى أدركه السحرة؟
حتّى إدريس الحكيم اعتقد فيما سبق أنّها مخطوطات روحيّة تمكّن الشخص من استخدام مهارة مطبوعة فيها من مالكها الأصليّ. لم يظنّ إدريس الحكيم أنّها كان وسيلة للسارق الخسّيس حتّى يتخلّل جسد العضو المنتَظر من عشيرة النار القرمزيّة.
حتّى الحكمة السياديّة بدرجاتها الثلاث لم تكن قادرة على رؤية خبايا المخطوطات. لذا وجب معرفة عظمة المخطوطات، على عكس اللفيفة التي كانت بمستوى حاكم روحيّ على الأكثر.
وبسبب أنّها بمستوى حاكم فقط...
"يمكنك استخدام تلك اللفيفة مرّتين فقط."
انتظر الجنرال رعد شرح باسل، الذي أكمل: "أينما كنت، يمكنك استخدام اللفيفة لمغادرة ذلك المكان آنيّا إلى مكان آخر في العالم أينما كان. يمكنك عبور القارّات به في لحظة واحدة بفكرة واحدة."
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما. ماذا؟! لفيفة لعبور القارّات؟ وفي لحظة؟
"والآن بدأنا نتكلّم عن المكافآت. هاهاها!"
ما هذا المكان؟ أليس رائعا للغاية؟
وكما لو أنّ باسل قرأ أفكاره: "نعم، هذا المكان رائع لتلك الدرجة، ولهذا هو خطير."
ما أن يدخل الشخص إلى القبو المحصّن بسبب طمعه، فإنّ طمعه ذاك لا يتوقّف فيصير جشعا، ويستمرّ حتّى يجعل الساحر منغمسا كلّيّا في المكان، قبل أن يدرك أخيرا أنّه صار في موقف لا يُحسد عليه.
كلّما تعمّق الشخص في القبو المحصّن، زادت المكافآت، لكن ذلك عنى أنّ صعوبة الاختبارات تزداد أيضا. وبالطبع، الجشع لا يرى ازدياد الصعوبة والمخاطر.
تكلّم باسل: "أتعلم عن تلك القصّة التي تتحدّث عن مشعوذة تُطعم فرائسها جيّدا وتنمّيهم حتّى ينضجوا قبل أن تلتهمهم؟"
"طبعا. تلك القصّة جعلتني أكره المشعوذات في طفولتي. أمّي الراحلة..."
تجاهل باسل بقيّة كلام الرجل الأشقر وأكمل: "هذا هو حالنا الآن. لا... بل حالك. إنّك فريسة لا يسعها سوى أن تأكل الملذّات التي أعدّتها المشعوذة لك، فريسة تملّكها الطمع ونسيت أنّها في قفص، معتقِدة أنّ المشعوذة امرأة صالحة، قبل أن تدري في نهاية المطاف أنّها كانت مجرّد فاكهة يُنتظر نضوجها كيْ تُأكل ويُستخلص كلّ ما يمكن استخلاصه منها."
لقد كانت طبيعة القبو المحصّن أن تجعل من الساحر أقوى، لكن لا يمكن أن يكون سخيّا هكذا بدون أن يأخذ شيئا في المقابل. كما تداول السحرة في العوالم الروحيّة، لا اكتساب بدون عذاب.
بلع الجنرال رعد ريقه ثمّ نظر إلى ما كان بيديه. حدّق إلى اللفيفة بشكل طويل، ثمّ نظر إلى المفتاح في يده الأخرى: "ألا تظنّ أنّه يجب أن نكون شاكرين ونقنع بما حصلنا عليه الآن؟ كما تعلم، العبد حرّ إنْ قنع والحرّ عبد إن طمع."
صار الجنرال رعد حكيما فجأة، فخلا الاهتمام من نظرات باسل تجاه الرجل الأشقر.
"لا أمانع مغادرتك الآن، لكنّني في المقابل ما زلت مستمرّا. لو أردت تضييع مرّة من مرّات استخدام اللفيفة بعد أن تخرج من هنا وتلاحقك الوحوش الروحيّة، فلا مانع لديّ حقّا."
بادل الجنرال رعد باسلَ نفس النظرات التي كانت موجّهة نحوه: "أتعلم؟ شخصيّتك النذلة هذه هي ما جعلك بدون صديق أو رفيق."
فتح باسل عينيه على مصراعيهما من شدّة الدهشة: "ماذا؟! هل أنا الوحيد الذي اعتقد أنّنا صديقان؟"
"إِه؟!"
تفاجأ الجنرال رعد. لم يتوقّع ردّة الفعل هذه. تردّد وشعر بتأنيب الضمير: "لا... في الواقع... انس ما قلت... أنا... نعم، نحن أصدقـ..."
لم يكمل كلامه حتّى وجد باسل ينظر إليه بنفس نظرات خيبة الأمل السابقة. كما لو أنّه يقول له: "همف... كم يمكن أن تكون سهلا؟"
أحكم قبضته على اللفيفة: "أيّها...!"
"حسنا، حان وقت الذهاب."
راوغ باسل قبضة الجنرال رعد البطيئة وتوجّه إلى الحجرة الثالثة.
تبعه الجنرال رعد المحبَط وسأله أخيرا عن الشيء الأخير الذي كان ما يزال في الصندوق. لقد كان ذلك كتابا عتيقا بأوراق تكاد تبدو كجلد مخلوق ما: "ماذا عن ذلك الكتاب؟"
ردّ باسل ببساطة: "آه، هذا. إنّها تقنيّة تكامل تأصّليّ."
توقّف الجنرال رعد في مكانه: "انتظر... تقنيّة تكامل تأصّليّ؟"
لم يستغرب الجنرال رعد من حقيقة كون الكتاب تقنيّة تكامل تأصّليّ فقط، بل أيضا من حقيقة أنّ باسلا لم يعطِها له بالرغم من أنّ الجنرال رعد كان مشرفا على الاختراق إلى المستويات الروحيّة وكان في حاجة ماسّة لإحدى هذه التقنيّات.
"أعلم ما تفكّر فيه." أجاب باسل بهدوء بينما يتحرّك ليتبعه الجنرال رعد: "أوّلا، هذه التنقيّة غير مناسبة لك. إنّها مناسبة لسحرة عنصر الماء أكثر من العناصر الأخرى. ثانيا، حتّى لو كانت مناسبة لك فلن أنصحك بالاعتماد عليها لأنّ حدّ هذه التنقيّة هو مستوى روحاني سامٍ. ثالثا، سأحتفظ بها في الوقت الحالي لأنّني أحتاجها لبعض من الوقت وأمنحها لك بعد ذلك لتخبّئها للمواهب الصاعدة والمناسبة لها."
حدّ تقنيّة التكامل التأصّليّ هو حدّ الساحر الروحيّ. قليل من الناس يمكنهم تطوير تقنيّاتهم وجعلها تتقدّم مستوى آخر.
كان الشرط الأوّل لزيادة مستويات أخرى في التقنيّة هو أن تكون التقنيّة نفسها قابلة للتطوير ولم تبلغ حدودها النهائيّة تماما. كان الشرط الثاني هو أن يكون للمطوِّر معرفة ومهارة كافيتين ليتفوّق على الذين سبقوه واخترعوا التقنيّة وطوّروها حتّى حالتها الحاليّة.
بالطبع، غالبا ما كانت تقنيّات التكامل التأصّليّ قد بلغت حدودها كلّيّا، لذا لم تكن هناك أيّ فرصة لتطويرها. وغالبا ما افتقر معظم السحرة للمعرفة الهائلة والمهارة الفريدة حتّى يطوّروا تقنيّة قابلة للتطوير.
وهذا ما جعل باسل متميّزا وفريدا أكثر. لربّما لا يوجد أيّ ساحر روحيّ في العوالم الروحيّة حاليّا يستخدم تقنيّة تكامل تأصّليّ من صنعه الخاصّ كباسل.
امتلك باسل المعرفة والمهارة اللتين ورثهما عبر الحكمة السياديّة من إدريس الحكيم، لذا استطاع أن يحلّل مئات آلاف التقنيّات التي يعرفها وينتج بذلك تقنيّة نهائيّة لا مثيل لها، تقنيّة مناسبة لساحر بروحين.
إذن لماذا لم يفعل إدريس الحكيم نفس الشيء؟ ذلك لأنّه كان سيكون عليه البحث باستمرار عن تقنيّات في العوالم الروحيّة حتّى يطوّر تقنيّته الخاصّة، لكن كم كان صعبا إيجاد تقنيّات تكامل جديدة؟
حتّى بمئات آلاف التقنيّات استطاع باسل في النهاية إنتاج تقنيّة صالحة له كسيّد روحيّ فقط. هذا يعني أنّه سيحتاج إلى تقنيّات أخرى بمستويات أعلى وباختلاف آخر حتّى يطوّر التقنيّة التي ابتكرها إلى المستوى القادم، وهكذا سيستمرّ مع كلّ المستويات.
كانت هناك تقنيّات يمكنها أن تجعل إدريس الحكيم يبلغ مستويات السلطنة، لذا كان من الغبيّ تجاهلها والمخاطرة بكلّ شيء في سبيل اختراع تقنيّة جديدة أفقها المبدئيّ هو المستوى الأوّل من المستويات الروحيّة.
حتّى باسل اخترع 'دورة الحياة والموت' فقط لأنّه امتلك روحين ولم تكن هناك أيّ تقنيّة مناسبة له. والآن، عليه أن يعاني الأمرّين فقط ليطوّر التقنيّة، فما بالك بكلّ القيود الأخرى التي وُضِعت عليه.
أومأ الجنرال رعد رأسه واقترب من باسل: "إن كنت تنصحني ألّا أعتمد على هذه التنقيّة، فهل يمكن أنّه لديك فكرة عن أيّ مصدر آخر؟"
لاحظ باسل أنّ الجنرال رعد قد اقترب منه وبدأ ينظر إليه شزرا بين الحين والآخر كما لو أنّه يلمّح لشيء ما. بالطبع فهم باسل نوايا الجنرال رعد. لقد كان يسأل الرجلُ الأشقر عن إذا كان سيعطيه باسل تقنيّة تكامل تأصّليّ أخرى، تقنيّة مناسبة وبآفاق عاليّة.
نظر باسل شزرا إلى الجنرال رعد ثمّ تنهّد: "لقد كنت أنوي منحك تنقيّة تكامل تأصّليّ أصلا. لذا توقّف عن التصرّف بشكل مقزّز."
لقد كان باسل يشعر بالضيق بسبب اقتراب الجنرال رعد منه والتصرّف كفتاة خجولة.
توهّجت عينا الجنرال رعد الذي وضع بعدئذ ذراعه حول عنق باسل: "أوه، أوه، كما توقّعت، إنّك أفضل صديق يمكن للشخص الحلم به. هاهاهاها!"
شعر باسل بالاختناق بالرغم من أنّه يستطيع عادة حبس أنفاسه لأيّام. لقد كانت حميميّة الجنرال رعد معه شيئا غريبا. بالأحرى، ألم يقل هذا الرجل الأشقر سابقا أنّ باسل لا يملك أيّ صديق؟
أزلق باسل عنقه من تحت ذراع الجنرال رعد وابتعد: "على أيّ حال، لندخل إلى الغرفة الثالثة."
رفع الجنرال رعد حاجبه: "لا داعٍ للخجل هنا. لطالما علمت أنّك صديق جيّد فوق كونك شخص جيّد."
عبس باسل: "لا تزد كلمة أخرى. إنّك مزعج."
ضحك الجنرال رعد وتبع باسل الذي خطا إلى الحجرة الثالثة.
***
لقد حصل غرين كانديد على البحوث بعدما تجاوز الحجرة الثانيّة، وقد كان أوّل من ينجح في ذلك على الأغلب حتّى تحصّل على كنز مثل البحوث. لذا بالرغم من أنّ الجنرال رعد وباسل نجحا في تجاوز الحجرة الثانيّة، لم يحصلا على كنز بنفس قيمة البحوث.
لقد كانت تقنيّة تكامل تأصّليّ بمستوى روحاني سامٍ شيئا نادرا حتّى في العوالم الروحيّة، لكنّها لم تكن قريبة حتّى من ندرة وقيمة بحوث إنتاج هجين روحيّ.
حتّى تلك الشخصيّات المرعبة من العوالم الروحيّة التي ظهرت فوق أرض أكاديميّة الاتّحاد المباركة تفاجأت عندما رأت صفاء التي كانت هجينة روحيّة. لقد كان الهجين الروحيّ شيئا نادرا لتلك الدرجة.
لقد كان أوّل من يتجاوز مرحلة ما في هذا القبو المحصّن يحصل على جائزة أفضل بكثير من الذين يتجاوزون نفس المرحلة لاحقا. كان السبب خلف ذلك بسيطا؛ عندما يتجاوز ساحر ما مرحلة ويكون هو الأوّل في النجاح في ذلك، فهذا يعني أنّه لم يملك أيّ معرفة مسبقة حول تلك المرحلة لأنّه لا أحد قد سبق وتجاوزها قبله. وبالتالي، يُكافأ بوضع ذلك في الحسبان، بينما تنخفض قيمة المكافأة للمختبَرين القادمين، لأنّه بإمكانهم بطريقة ما معرفة كل ما يتعلّق بالمراحل من الأشخاص الذين تجاوزوها سابقا.
وبالطبع، لم يكن هذا هو السبب الوحيد، أو بالأحرى...
'بالرغم من أنّ كلّ ذلك منطقيّ ويتبع قوانين العالم، إلّا أنّه في نفس الوقت يخفّف من الحمل عن ظهر صاحب القبو. باختصار، حتّى هذا القبو المحصّن لا يملك مصادر غير محدودة من الكنوز والمعرفة حتّى يمنحها للناجحين.'
التفت باسل إلى الجنرال رعد الذي كان يخزه بإصبعه بينما يشير بيده الأخرى إلى الجهة المقابلة لهما. بالطبع علم باسل ما كان يقصده الجنرال رعد. لقد كان أمامهما وحشين، نائمين؟
"إذن هذا ما كان ينتظرنا في هذه المرحلة. كما كان متوقّعا، لقد استخدم غرين كانديد المفتاح ليخرج بعد تجاوز الحجرة الثانيّة، ثمّ استخدم اللفيفة للهرب من قارّة الأصل والنهاية."
فكّر باسل: 'يبدو أنّ اللفيفة التي ربحها غرين كانديد كانت بمستوى أقلّ من التي حصلنا عليها هنا. لقد كانت ذات استخدام واحد على الأغلب.'
غير ذلك، لكان غرين كانديد قد استخدمها للهرب، لكنّه مات على يد كورو هِيْ.
بلع الجنرال رعد ريقه بعد سماع كلام باسل: "أخبرني، ذانك وحشان روحيّان بالطبع، أليس كذلك؟"
أومأ باسل رأسه وقال: "نعم، سيّدان روحيّان."
لقد كانا بنفس مستوى باسل. انتظر... ما الذي يفعله وحشان روحيّان في مثل هذا المكان أصلا؟ ألم يكن هذا المكان من صنع بشر؟ أو على الأقلّ من صنع عرق ما غير الوحوش والشياطين؟
تكلّم باسل: "عندما تبلغ الوحوش المستويات الروحيّة، فهي تكتسب 'حكمةً' كما تعلم، لذا ليس من الغريب أن تستطيع تلك الوحوش الروحيّة إنشاء عقد مع مخلوق آخر."
"ها؟!" رفع الجنرال رعد حاجبه: "هل تخبرني أنّ صاحب هذا القبو تعاقد مع وحوش روحيّة حتّى؟"
أومأ باسل رأسه ببساطة.
"هذا جنون!"
لم يكن اندهاش الجنرال رعد ناتجا عن جهله بأمور العوالم الروحيّة فقط. حتّى لو كان هنا سلطان روحيّ فسيجد هذا الأمر نادرا للغاية.
ما كانت الوحوش الروحيّة لتُنشئ عقدا مع أيٍّ كان لأنّها تؤمن بعقيدة واحدة – التهم وهيمن فصِرْ أقوى حتّى تلتهم وتهيمن أكثر فتصير أقوى.
وبالطبع، لكلّ شيء استثناء. وعلى ما يبدو، كانت الحضارة الفرعونيّة استثناء في العديد من الأشياء، وأحدها هو التعاقد مع الوحوش الروحيّة.
وضع باسل يده على ذقنه ثمّ فكرّ في شيء مشابه: 'ماذا عن التعاقد مع وحش تستحوذ على روحه فيما بعد؟ هل يمكن إطلاق كلمة 'استثناء' على ذلك أصلا؟'
لو نجح أحدهم في التعاقد مع وحش روحيّ، فذلك استثنائي. إذن ماذا عن باسل الذي أخضع وحشا روحيّا وتعاقد معه قبل أن يستحوذ على روحه؟
شاذ، غريب الأطوار، مخالف للحسّ العامّ ونظام العالم، سمِّه ما شئت. لقد كانت العوالم الروحيّة ما تزال لا تعلم عن وجود هذا المخلوق الغريب.
***
بلع الجنرال رعد ريقه وتراجع خطوةً بدون وعي منه: "لا تخبرني... هل يجب أن أتغلّب على هذين أيضا؟"
نظر باسل إليه شزرا ثمّ تنهّد قبل أن يجيب: "للأسف، سيكون ذلك بمثابة الانتحار. لا أظنّ أنّك ستستطيع مواجهة الاختبارات من الآن فصاعدا، لذا ابق خلفي واتبعني؛ سأتكلّف بالأمور بدا من الآن."
التفت باسل إلى الوحشين، اللذين نهضا من نومهما ثمّ زأرا في آن واحد بينما يطلقان نيّة قتلهما التي جعلت الجنرال رعد يقشعرّ.
"إنّهما مختلفان عن الوحوش الروحيّة الأخرى!"
فسّر باسل للجنرال رعد المندهش: "ذلك لأنّهما قريبان من الاختراق إلى المستوى التالي. هذان ليسا وحشين من عالمنا، لذا يمكنك أن تستنتج أنّهما لم يخترقا إلى المستويات الروحيّة مؤخّرا كالوحوش الروحيّة في عالمنا."
بلع الجنرال ريقه مرّة أخرى فاقشعرّ جسده مرّة أخرى لمّا لاحظ أنّ الوحشين الروحيّين قد عرفا أنّه الأضعف بين البشريّين. علم الجنرال رعد أنّ هذين الوحشين اللذين اكتسبا حكمةً سيستهدفانه ويتخلّصان منه أوّلا بما أنّه هو الأضعف قبل أن يركّزا على باسل.
وبالطبع، عمِل الجنرال رعد بنصيحة باسل وتراجع للوراء وبقي خلفه. كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنه فعله حاليا.
بعدما تراجع الجنرال رعد، تقدّم باسل بينما يفكّر: 'لقد حقّقت مرادي الأوّل بعدما اكتسب الجنرال رعد تنويرا وصار مستعدّا للاختراق إلى المستويات الروحيّة، لذا ليس هناك أيّ حاجة لجعله يعاني أكثر ونضيع الوقت هنا."
ظهر الرمح الخشبيّ بيد باسل اليمنى: 'سأختبر قدرة هذا الرمح بعد مدّة طويلة.'
كانت قدرة الرمح الخشبيّ الخاصّة هي مضاعفة هجمات الساحر حتّى 100٪. عندما قاتل باسل هدّام الضروس استطاع آنذاك مضاعفة هجومه بـ10٪. إذن ماذا عن باسل الحالي؟ كم يمكنه مضاعفة هجومه؟
توهّج الرمح بضوء أزرق فاتح قبل أن يتحوّل الرمح الخشبيّ بنفسه إلى نصل من الطاقة السحريّة التي التهبت بشدّة. صار النصل عبارة عن إبرة بيضاء اللون بعد ذلك، كان اللون الأبيض عبارة عن نار باسل البيضاء، وكانت عين الإبرة في نهايتها عبارة عن عنصر الريّاح الذي كان مثل عاصفة ضئيلة، بينما ضخّم وقوّى عنصر التعزيز من كلّ ذلك.
رفع باسل سبّابته فطافت الإبرة فوق إصبعه، وفي نفس الوقت انقضّ الوحشان عليهما بشراسة بهدف القضاء على الجنرال رعد.
كان الوحشان مختلفان عن صفات أيّ حيوان؛ امتلك أحدهما جسدا رماديّا ضخما بارتفاع يصل إلى ستّة أمتار وطول يصل إلى عشرة أمتار. كانت أسنانه كلّها أنياب ضخمة بدت كالخناجر، وكانت عضلاته بارزة خصوصا بعدما سحق الأرضيّة بعد كلّ خطوة منه.
كان الوحش الآخر بنفس الارتفاع والطول تقريبا. كان على ظهر جسده الأرجوانيّ شيء يشبه الزعنفة إلّا أنّه كان عبارة عن أنصال حادّة امتدّت إلى ذيله الذي تحرّك بدون توقّف وقطع الأرضيّة فقط عبر الريّاح التي ولّدها.
سقط الجنرال رعد على الأرضيّة لسببين، أحدهما كان الوحشين، لكنّ الثاني كانت الطاقة الروحيّة المركّزة لدرجة لا توصف في إبرة صغيرة. عواصف ناريّة وأعاصير من الريّاح سكنت إبرة صغيرة، وتلك المشاحنات والتذبذبات التي أحسّ بها الجنرال رعد كانت أكثر من كافيّة لجعله يفقد توازنه.
ما أن سقط الجنرال رعد حرّك باسل سبّابته فاختفت الإبرة، أو بالأحرى، تحرّكت بسرعة خاطفة حتّى الوحشان لم يستطيعا تداركها.
من منظور الجنرال رعد، حرّك باسل إصبعه ببساطة فاختفت الإبرة، لكن لم يكن ذلك ما حصل فقط، بل العجيب في الأمر هو أنّ الوحشين توقّفا في مكانهما بدون أيّ حركة بعد اختفاء الإبرة.
كانت أعين الوحشين مفتوحة على مصارعها ولم يفهم الجنرال رعد ما حدث حقّا. هل خاف الوحشان من هجوم باسل الخفيّ ووقفا حتّى يريا ما سيحدث؟ لكن لماذا يبدوان كما لو أنّهما قد فقدا الرغبة في القتال حتّى؟
في هذه الأثناء...
"حسنا، لنتحرّك إلى غرفة المكافآت."
"ماذا؟! لكن..."
قبل أن يكمل الجنرال رعد كلامه، خطا باسل مرّة واحدة فحدث شيء أعجب ممّا حدث حتّى الآن.
انفجر جسدا الوحشين وتشتّت قطع من اللحم والعظام في كلّ مكان، غطّى باسل نفسه والجنرال رعد بدرع من الطاقة السحريّة وأكمل الطريق تاركا الجنرال رعد خلفه لا يعلم ماذا حصل.
نهض الجنرال رعد بسرعة كبيرة بعدما ابتعد باسل بضع خطوات ولحقه: "مـ... ما الذي حصل للتوّ؟ ما الذي فعلته؟"
ردّ باسل ببساطة: "قتلت الوحشين من الداخل."
"كيف؟"
"ألم ترَ السلاح يدخل جسديهما؟"
"أ لذلك توقّفا فجأة؟ لكن هذا لا يفسّر الانفجار."
استخدم باسل الرمح الخشبيّ الذي صار إبرة، والذي ضاعف بقدرته الخاصّة قوّة الهجوم مرّتين، وفي نفس الوقت استخدم باسل الامتداد الكلّيّ للتحكّم عن بعد في الإبرة بداخل جسديْ الوحشين، وبعد ذلك استخدم قدرةً أوّل مرّة جرّبها.
(إنّ استخدامك لقدرتي أفضل وأعظم من استخدامي لها يا سيّدي العظيم.)
كان المتحدّث هو بهموت. بالفعل، عندما اخترقت الإبرة جسد الوحش الأوّل، جعل الإبرة تحافظ على قوّتها وشدّة تركيز طاقتها بينما صار شكلها أكبر.
ما أن كبُرَت الإبرة في جسد الوحش الأوّل حتّى احترق الجسد من الداخل وقُطع لأشلاء بأعاصير الريّاح قبل أن تصغر الإبرة مرّة أخرى وتدخل إلى جسد الوحش الثاني فتفعل نفس الشيء.
كلّ هذا حدث في ثانيتين ولم يكن للوحشين أيّ وقت لفعل أيّ شيء، وهذا هو ما جعل بهموت يمدح باسل بصدق. حتّى بهموت لم يكن ليكون قادرا على تغيير حجمه أو حجم الأشياء الأخرى مع المحافظة على قوّتها وطاقتها بتلك السرعة الخاطفة، ومع ذلك باسل غيّر حجم الإبرة ثلاث مرّات متتاليّة في ثانيتين فقط.
كان هذا هو ما يعنيه أن يملك الشخص تحكّما حكيما سليما.
مضاعفة قوّة الهجوم بـ100٪، وتغيير حجم السلاح بحريّة. الجمع بين هاتين القدرتين جعل باسل يمحق سيّ*** روحيّين على وشك أن يصير حاكمين روحيّين في ثانيتين. وبالطبع، ثلاثة عناصر في هجوم دقيق بذلك الشكل كان إضافة كبيرة.
لقد كان كلّ هذا أكثر ممّا يمكن للجنرال رعد استيعابه.
"هل هذا الشقيّ سيّد روحيّ حقّا؟"
حتّى الجنرال رعد شكّ أنّ ربّما باسل قد صار حاكما روحيّا بطريقة ما، لكن سرعان ما نفى تلك الفكرة. يستحيل الاختراق إلى مستوى آخر في المستويات الروحيّة بهذه السرعة. هناك أشخاص بدون موهبة كافيّة يظلّون أسيادا روحيّين طوال حياتهم، وهناك من يستغرق مئات السنين، وهناك من ينجح في التقدّم في بضع سنوات فقط. لم تمر سوى أشهر لذا كان مستحيلا حتّى على باسل الاختراق إلى المستوى القادم.
لكن... هذا يجعل باسل أكثر تعقيدا فقط وأكثر رعبا. هل حقّا يمكنه القضاء على وحوش روحيّة بنفس مستواه بهذه السهولة؟
وبالطبع، لم يكن الجنرال رعد هو المتفاجئ الوحيد. ما أن خطا باسل إلى غرفة المكافآت حتّى رنّ صوت في عقله: "من أنت؟!"
بالطبع كانت الدهشة واضحة تماما ولم يحاول صاحب الصوت إخفاءها.
لقد كانت الحجرة الثالثة مصمّمة خصّيصا لحصد أرواح أولئك من يقرّرون التقدّم في القبو المحصّن بعدما اكتسبوا المفتاح في الحجرة الثانيّة. يمكن القول أنّه بعدما يحصل الشخص على مفتاح فإن درجة الصعوبة تزداد بدءا من الغرفة التاليّة. ولهذا كان هناك وحشان روحيّان بدل وحش روحيّ وبضعة وحوش سحريّة رفيعة المستوى.
ومع ذلك، تجاوز هذا الساحر هذه المرحلة في ثوانٍ؟ لقد أحسّ صاحب القبو بالدهشة لكنّه أحسّ بالعار والإحراج في نفس الوقت. لقد كان باسل غريبا لدرجة أنّ القبو المحصّن لا يستطيع قياس قوّته بالضبط.
نعم، توصّل صاحب الصوت لهذا الاستنتاج بسرعة. لا يمكن للقبو المحصّن قياس قوّة هذا الساحر الروحيّ بشكل صحيح وإلّا لم يكن ليحصل ما حصل. كان هذا طعنا في فخر صاحب القبو وفي اعتزازه بحضارته. كيف له، أحد الذين فهموا قوانين العالم أكثر من أيّ أحد آخر في العوالم الروحيّة، أن يُخدعَ بهذا الشكل؟ كيف لقبوه المحصّن أن يفشل هكذا؟
نظر باسل إلى الأعلى ثمّ ردّ: "لا تقلق، لن يستغرق تسلّقي وقتا طويلا. سنلتقي قريبا."
لم يقل الصوت شيئا. شعر باسل أنّ صاحب الصوت سيكون متوتّرا في مكانه الآن.
كان من المفترض أن يكون القبو المحصّن مصيدة، لكن يبدو أنّ هذا الشقيّ القرمزيّ هو الصائد الآن.
وبالطبع، طبقا لقوانين العالم، لم يكن في يد صاحب القبو حيلة. ستُقرّر الاختبارات القادمة طبقا لقوّة باسل والجنرال رعد، لكن تلك الاختبارات ستكون سهلة على الأغلب لأنّ القوّة التي قاسها القبو المحصّن خاطئة.
كان باسل يستنفع أخيرا من اكتساب روحين بعدما عوقِب بشدّة على إنجازاته العظيمة مؤخّرا.
التقط باسل حجريْ أصل الوحشين ثمّ أكمل تحرّكه. لم يهتمّ بروحيْهما اللتين استطاعتا الهرب بسبب القبو المحصّن.
غرفة المكافآت
"أوه، أحجار أصل روحيّة نقيّة بـ70٪. هذا شيء نادر أحتاجه حاليّا."
كان هناك كيس من تلك الأحجار وبعدما حسب باسل عددها وجدها بلغت عشرين. لقد كان ذلك مكسبا عظيما نظرا لندرة أحجار الأصل الروحيّة وخصوصا النقيّ منها بـ70٪. للأسف، لا يمكن إعادة محاولة تنقيّة هذه الأحجار بعد المحاولة الأولى. أيّ محاولة أخرى ستجعل الحجر يتفتّت والطاقة تندثر. لم تكن عمليّة التنقيّة سهلة ولم يكن ممكنا للأحجار أن تتحمّلها أكثر من مرّة.
بالطبع، لم يشعر باسل بخيبة الأمر، فالكيميائيّون الذين ينجحون في إنتاج أحجار أصل روحيّة بالدرجة الثالثة (من 35٪ إلى 55٪ من النقاوة) يُعدّون عباقرة. حتّى لو حاول باسل تنقيّة أحجار أصل روحيّة حاليّا فلن يستطيع تنقيّتها حتّى بـ30٪. لقد كان عشرون حجرا بقمّة الدرجة الرابعة مكسبا رائعا.
بالطبع، كانت الأحجار مجرّد تحليّة، أمّا الطبق الرئيسيّ فقد كان فنّا قتاليّا روحيّا بالجذع الرابع. كانت الفنون القتاليّة تنقسم لثلاث أقسام: الفرع (المرحلة الأثريّة) - الجزء (المرحلة الروحيّة) - الشجرة (المرحلة الساميّة).
كان هناك سبع أغصان بالفرع، وسبع جذوع بالجزء، قبل أن يبلغ الشخص المرحلة الأخيرة من الفنّ السامي ألا وهي الشجرة.
والآن قد وجد باسل فنّا قتاليّا بالجذع الرابع، ومن حسن الحظ كان فنّا لم يكن يعلم عنه. هذا عنى أنّه سيستطيع منح فنّ قتاليّ روحيّ آخر للعالم الواهن.
كانت الفنون القتاليّة أكثر ندرة من تقنيّات التكامل التأصّليّ في الواقع، فكلّ ساحر روحيّ يملك تقنيّة تأصّل تكامليّ لكن ليس كلّ ساحر روحيّ ملك فنّا قتاليّا. قلّة فقط من يملكون فنون قتاليّة، وأغلبهم يملك فنون قتاليّة أثريّة فقط.
أمّا باسل، فقد كان يستخدم ثلاثة فنون قتاليّة ساميّة، ويملك في جعبته بضعة فنون قتاليّة روحيّة وعديد من الفنون القتاليّة الأثريّة.
رضي باسل بالمكافأة ثمّ تقدّم إلى الحجرة الرابعة بينما لحقه الجنرال رعد بوجه سعيد.
لاحظ باسل أنّ المكافأة في الحجرة الثانيّة كانت قيمتها عاليّة نسبيّا مقارنة بالحجرتين الأخريين، فخمّن أنّ السبب ربّما كان هو المفتاح الذي يكتسبه الشخص هناك. كان لابدّ من المكافآت أن تكون مذهلة حتّى يطمع الشخص ولا يستخدم المفتاح. كانت طريقة عمل القبو المحصّن مثيرة للاهتمام بصراحة، وأوضحت حكمة ومكر مبتكريه.
الحجرة الرابعة
ما أن خطا باسل والجنرال رعد إلى هذا المكان، علما ما كان عليهما فعله. كانت هناك متاهة عظيمة أمامهما والآن عليهما تجاوزها. كان واضحا أنّها محفوفة بالفخاخ ومصفوفات الوهم. بالطبع، حاول باسل مباشرة تدميرها بالرغم من أنّه واثق في تجاوزها بسهولة، إلّا أنّه أُرجِع لمكانه الأصليّ رغما عنه وأُصلِح ما تدمّر من المتاهة وغُيّر مظهرها وتركيبها بسرعة كبيرة.
كان من الواضح أنّ القبو المحصّن لا يقبل أن تُتجاوز هذه المرحلة بأيّ طريقة أخرى غير تجاوز المتاهة.
وبالطبع، اعتقد باسل هذا في المقام الأوّل وفعل ما فعل من أجل التأكيد وإشباع الفضول فقط. والآن، كلّ ما عليه فعله هو تجاوز المتاهة كما يجب.
بدأ باسل جولته الخفيفة برفقة الرجل الأشقر بينما يشير بإصبعه إلى هنا وهناك: "هناك فخّ، لا تضع قدمك هنا، سر على هذا الجانب من الطريق، اقفز مثلي، تمسّك بي لنتجاوز هذا الوهم."
ضغط باسل على بعض من الأزرار على الحوائط في الطريق ليفتح طرقا أخرى كلّها كانت جزءا من تعقيد المتاهة. لقد كانت هذه المتاهة تشمل فخاخا لا يستطيع حتّى الملوك الروحيّين العادين ملاحظتها. ومع ذلك، كان باسل يتنزّه هناك كما لو كان في حارته.
عندما بلغا منتصف المتاهة وظنّ الجنرال رعد أنّ كلّ شيء سيبقى على حاله كما مرّ حتّى الآن، ظهر وحش روحيّ له القدرة على المرور عبر الأشياء. كان الوحش يظهر من مكان ليلقي ضربة خاطفة ثمّ يختفي كما لو لم يكن هناك أصلا.
***
كان الوحش الروحيّ الذي كان بحجم البشر يتنقّل بسرعة خاطفة بين الحوائط كما لو كان يتحرّك في الظلال. وبالطبع، كان له عنصر الظلام. لقد كان هذا وحش له خواصّ الليل أصلا.
"إنّه مناسب للغاية لمثل هذا الدور."
حتّى باسل أقرّ بالاختيار الجيّد لصاحب القبو بجعله هذا الوحش الروحيّ يكون جزءا من هذا الاختبار.
"لكن..."
لقد كان باستطاعة باسل الإحساس بأيّ شكل من الحياة ولو في أعماق الأرض، ولم يهمّ إن كانت لهم قدرة التخفّي أو المرور عبر الأشياء، لأنّ التحكّم الحكيم السليم خوّله أن يتحسّس جوهر الأشياء، وفي هذه الحالة روح الوحش الروحيّ كانت هي جوهره.
لو لم يستطع الوحش الروحيّ إخفاء روحه، فلن يستطيع الهرب من عالم الحكيم الذي فعّله باسل ما أن درس الوحش الروحيّ لبعض من الوقت.
التفت باسل بسرعة خاطفة وجرّ الجنرال رعد ثمّ رماه بعيدا. وجد الجنرال رعد نفسه مدفونا في الحائط بنهاية الممرّ الذي كانا فيه، لكنّه لم يجرؤ أن يتذمّر بسبب معاملة باسل القاسية معه. لقد علم أنّه لو تأخّر باسل لجزء من الثانيّة في اتّخاذ قراره لكان الجنرال رعد في عداد الموتى الآن.
لكن ماذا حدث في الواقع؟ ما كان سيكون مصير الجنرال رعد كان هو ما حدث للوحش الروحيّ بالضبط.
أمسك باسل الوحش الروحيّ من عنقه وضغط عليه بنفس كمّيّة القوّة التي كان ليستخدمها من أجل إلقاء لكمة انفلاق السماء.
لقد كان الوحش الروحيّ عبارة عن نمر أسود لكنّه امتلك جسدا مدرّعا بقشرة أصلب من الفولاذ. ومع ذلك، انكسر عنق الوحش الروحيّ تحت القوّة الغاشمة التي قدمت من قوّة جسد باسل الجسمانيّة وإمكانيّتيْ عنصريْ الأرض والتعزيز اللتين جعلتا من ذراع باسل أصلب بأضعاف وأقوى بأضعاف مضاعفة.
لقد اكتسب باسل عنصريْ الأرض والماء مؤخّرا، لكنّه كان يدرّبهما طوال الوقت بعدما قدم إلى قارّة الأصل والنهاية مع الجنرال رعد. لقد كانت إمكانيّة عنصر الأرض التي أتقنها شيئا أُلهِم به من عنصر التعزيز. وبالطبع، كان دمج تصليب جسده وتعزيزه دمجا رائعا. لم يحتج لأيّ شيء مبهرج حتّى يتخلّص من أعدائه. فقط قبضته كانت كافيّة لسحقهم تماما.
بعدما سحق باسل عنق الوحش الروحي تماما، رطم رأسه بعض مرّات مع الأرض التي كانت أصلب من جسد الوحش الروحيّ حتّى.
لم يستطع الوحش الروحيّ الصراخ حتّى قبل أن يموت بسرعة كبيرة. لم تسنح له الفرصة أن يستخدم كلّ ما في جعبته حتّى. وبالطبع، هذا ما كان يحصل عندما يواجه أحدهم عدوّا أقوى بكثير؛ يخسر المعركة قبل أن يعلم متى خسرها.
أخذ باسل حجر الأصل من صدر الوحش الروحيّ ثمّ نفض يديه من الدماء وغسلهما قبل أن يتّجه نحو الجنرال رعد.
لم يكن مقتل الوحش الروحيّ سهلا، بل كان باسل فقط أقوى ممّا يجب أن يكون عليه. لقد كان الوحش الروحيّ أصلا مجرّد إضافة إلى هذه المتاهة التي يمكن أن تحيّر حتّى الملوك الروحيّين. ومع ذلك، لم ينفع لا هذا ولا ذاك ضدّ باسل.
لم يمرّ وقت طويل حتّى كانا في مخرج المتاهة. كان مخرج المتاهة هو مدخل غرفة المكافآت.
"أوه، مزيد من أحجار الأصل الروحيّة."
كان هناك 30 حجر أصل روحيّ بنفس جودة الأحجار التي وجدها سابقا. لقد كان باسل في حاجة ماسّة لمثل هذه الموارد حاليّا.
أومأ باسل رأسه ثمّ نظر إلى أربع مخطوطات كانت بجانب الأحجار.
"إحداها المخطوطات هي نفس التي وجدناها سابقا. ما يختلف بها هو أنّ فيها ثلاث مرّات للاستخدام."
فتح الجنرال عينيه على مصراعيهما: "وماذا عن الأخريات؟"
ردّ باسل بدون تأخّر بعدما فحص المخطوطات :"الأولى خاصّة بعنصر الضوء، والثانيّة بعنصر الرياح، والثالثة بعنصر السحاب. هذه المخطوطات الأربع كلّها بمستوى ملك روحيّ، وكلّها تمنحك ثلاث مرّات لاستخدام إحدى التقنيّات التي زرعها مالكها فيها."
بلع الجنرال رعد ريقه، وزاد دهشة لمّا منحها باسل كلّها له. وبالطبع، احتفظ باسل بأحجار الأصل الروحيّة في المقابل.
كان هناك كيس آخر إلى جانب كيس الأحجار والمخطوطات. كانت الرائحة التي تفوح منه غريبة للغاية؛ تارة كانت عطرة وتارة أخرى كانت كريهة.
"لا أصدّق أنّ هذا القبو يملك شيئا كهذا."
"ماذا هناك؟"
طلّ الجنرال رعد على باسل بعدما خبّا المخطوطات في مكعّب تخزينه وتراجع بسرعة كبيرة. لقد كانت الرائحة التي كانت تفوح من الكيس الذي يحمله باسل عطرة للتوّ لكنّها صارت كريهة لدرجة الإعماء. كانت الرائحة صعبة التحمّل حتّى بالنسبة لساحر صاعد كالجنرال رعد.
"فقط ما هذا الشيء؟"
"هذه... هذه... إنّها زهرة البرزخ!"
عبس الجنرال رعد. زهرة البرزخ؟ هل يمكن أنّها تسبّب في إرسال الناس إلى البرزخ بسمّها أو ما شابه؟ تراجع بضعة خطوات وتصنّت بحذر لباسل.
لقد كانت الزهرة تبعث ضوأين خفيفين من حين إلى آخر. كان ضوء داكن ومظلم وكان الضوء الآخر أزرق فاتح ومشعّ. عندما توهّج الجانب المظلم شمّ باسل والجنرال رعد رائحة كريهة، وعندما توهّج الجانب المشعّ شمّا رائحة زكيّة.
بدأ باسل تفسيره: "يمكن لهذه الزهرة فعل أمرين لو استُخدمت بشكل صحيح. يمكنها موازنة بعض الاختلالات أو الاضطرابات التي يمكن أن يواجهها السحرة في طاقاتهم الروحيّة أوّ حتّى أرواحهم بذاتها. ويمكنها، نظريّا، أن تُستخدم من أجل تعزيز قدرات شيئين متعاكسين لكن موجودان في نفس المكان."
فهم الجنرال رعد الجزء الأوّل، لكنّه لم يفهم الجزء الثاني. شيئان متعاكسان لكن موجودان في نفس المكان. هل يتحدّث عن شيء مثل الين واليانغ في الأساطير القديمة من الحضارات المندثرة؟
"هل تعلم أنّ هناك عدد نادر جدّا، نادر بشكل كبير للغاية، من السحرة الذين يملكون عنصريْ سحر متضادّين؟ مثل سحرة الماء والنار. في الحالات العادية، من المستحيل أن يملك الساحر خواصّا متضادّة لأن ذلك سيخلّ بتوازنه كمخلوق، لكن في بعض الأحيان تحدث بعض الاستثناءات. هؤلاء السحرة يجدون أنفسهم في صراع داخليّ مستمرّ بسبب العنصرين المتضادّين، وبسبب هذا يتوقّف نموّهم كلّيّا في مرحلة مبكّرة جدّا حتّى لو كانوا عباقرة."
"هناك طرق يمكن عدّها بأصابع يد واحدة لعلاج مثل هذه الظاهرة، وإحدى الطرق وأشهرها لعلاجها هي استخدام هذه الزهرة لموازنة العنصرين المتضادّين وتقويّتهما في نفس الوقت. إذا وجد ساحر بعنصرين متضادّين زهرة البرزخ، فإنّ حياتهم سرعان تتغيّر تماما. باختصار، يصيرون عباقرة بين العباقرة."
"عندما يصير العنصرين المتضادّين منسجمين، يحدث شيء مثير للاهتمام. كما لا يمكن للحياة أن تكون حياة بدون موت، يدعم كلّ عنصر العنصر الآخر بالرغم من تضادّهما. ذلك التضادّ والمشاحنة بين العنصرين يصيران طاقة دافعة للساحر حتّى يرتقي إلى مستويات أعلى بشكل أسرع من السحرة الآخرين."
رفع الجنرال رعد حاجبه. لقد كان باسل متحمّسا أكثر من اللزوم في نظره، لكنّه كان مخطئا تماما في ظنّه أنّ باسل كان يبالغ. لقد كان باسل في وضعيّة لا يُحسد عليها بسبب انقطاع طاقة العالم عنه، لذا شيء مثل هذه الزهرة سيعطيه دفعة كبيرة للأمام.
التفت باسل إلى الجنرال رعد ثمّ رفع سبّابتيه، فإذا بالسبّابة الأولى تنفث نارا والثانيّة تبصق ماءً.
"آآآه!"
لقد نسي الجنرال رعد. باسل الحاليّ يملك عنصرين آخرين غير العناصر الثلاثة التي اعتاد أن يملكها. لقد صار يستخدم حتّى عنصر الماء وعنصر الأرض الآن. هذا اللعين الشقيّ!
وبالطبع، لم يخطر للجنرال رعد أنّ باسل كان في الواقع يملك روحين، وهذين الروحين كانتا متضادّتين لكن منسجمتين بالفعل. حتّى بدون هذه الزهرة، كان باسل ناجحا بالفعل في تحقيق ما يجعل باقي السحرة عالقين. وبالطبع، السبب يعود في نهاية المطاف إلى أنّ العناصر المتضادّة كانت متفرّقة على روحين، والحكمة السياديّة.
'على هذا المنوال، يبدو أنّني سأستخدم هذه الزهرة كما لم يفعل أحد. طريقة استخدام ثالثة، هدفها هو تحسين روحَيَّ.'
"حسنا، لنكمل الطريق."
الحجرة الخامسة
كانت عبارة عن حلبة محاطة بعدّة كهوف، وانبثق من كلّ كهف عدّة وحوش سحريّة بالمستوى الرابع عشر على رأسها وحش روحيّ.
خمس وحوش روحيّة وعشرات الآلاف من الوحوش السحريّة... لم تأخذ سوى دقائق من باسل حتّى يقضي عليها تماما بينما يحمي الجنرال رعد. لم يكن هناك أيّ خدش على أيّ منهما. بالأحرى، لم يكن هناك حتّى قطرة ددمم على هندام باسل. لقد كان ذلك غريبا للغاية عندما لاحظه الجنرال رعد.
'هل يمكن أنّه يراوغ الدم أيضا بينما يراوغ ويقتل الوحوش؟ هاه! لا يمكن...'
بعدما انتهيا من أمرهما في غرفة المكافآت، لاحظا أنّ الباب الذي يؤدّي إلى الغرفة التاليّة يؤدّي في الواقع إلى الأعلى.
"يبدو أنّنا انتهينا من الطابق الأوّل."
احتوى الطابق الأوّل من الهرم على خمس حجرات اختبار، ويبدو أنّها كانت مجرّد البداية في هذا القبو المحصّن.
صعد باسل والجنرال رعد الدرج الذي كان يؤدّي إلى الأعلى حتّى وصلا إلى باب في نهايته أخيرا، وعندما فتحاه فهم باسل مباشرة ما كان هذا الطابق. ما أن تجاوزا الباب اختفى الباب.
"يبدو أنّه يمكننا القول أنّنا صرنا في عالم ثانويّ الآن."
لقد كان أمامهما منطقة شاسعة محاطة بجبال شاهقة ومعمورة بأشجار شكّلت غابة صغيرة. كانت هناك كهوف في بعض سفوح الجبال. كما قال باسل، كما لو أنّهما انتقلا إلى عالم آخر.
"هل أحلم؟"
لقد كان الجنرال رعد مشوّشا. ألم يكونا داخل الهرم؟ هل هذا وهم آخر مثل ما حصل له في الحجرة الثانيّة. كيف يمكن أن يكون مثل هذه المناطق الشاسعة في هرم صغير نسبيّا؟
نظر باسل إليه شزرا ثمّ تنهّد وردّ: "ألم تلاحظ أنّ الحجرة الرابعة خصّيصا كانت أكبر بكثير ممّا يمكن أن تكون عليه بالنظر إلى حجم الهرم من الخارج؟"
"أه... الآن بعدما ذكرت الأمر... حتّى باقي الحجرات كنّ... انتظر، كيف ذلك...؟"
"امتلك الفراعنة عنصرا توارثوه جيلا بعد جيل، كما توارثت قبائل الوحش النائم عنصر التحوّل، والعنصر الذي امتلكه كلّ الفراعنة كان هو عنصر الفضاء."
"انتظر... انتظر، انتظر، انتظر، هل يمكن أنّك تلمِح إلى أنّ اتّساع الحجرات الغريب وهذا العالم الثانويّ عبارة عن نتيجة لسحر صاحب هذا القبو؟"
"يبدو أنّه يمكنك أن تكون سريع البديهة أحيانا. صحيح، لم يستخدم أحد عنصر الفضاء أفضل من الفراعنة قطّ. والآن، دعنا نسرع."
نسرع... لقد فهم الجنرال رعد أخيرا لمَ كان باسل على عجلة من أمره. عنصر الفضاء؛ لقد كان عنصرا غير موجود بين عناصر السحر الأربعة عشر في العالم الواهن. لو كان هناك أيّ تلميح بسيط عن التنقّل عبر العوالم في هذا القبو المحصّن، فيجب أن يفعل باسل أيّ شيء من أجل اكتسابه. لقد كان هذا القبو أملا لباسل الذي كان بحبل منقطع حتّى الآن.
وفي هاته اللحظة...
"لقد سألتك من أنت!"
لقد كان الصوت مرتفعا هذه المرّة في ذهن باسل. يبدو أنّ صاحب القبو المحصّن بدأ يفقد صبره بعدما فعل باسل ما فعله.
تنهّد باسل وردّ بعدما أغلق عينيه: "وماذا ستفعل عندما تعرف؟"
لم يردّ الصوت عليه، فأضاف باسل: "لقد أخبرتك، سأصل إليك بسرعة أكبر ممّا تتوقّع. بالإضافة، يبدو أنّ مستوى قبوك المحصّن غير مرتفع أيضا، لذا سأكون قادرا على تجاوز كلّ الطوابق بسلاسة."
لقد كان باسل يعود إلى عادته؛ استفزاز الطرف الآخر من المحادثة.
"حاول إن استطعت."
لقد كان الصوت هادئا. فهم باسل أنّ صاحب القبو ما زال يعتقد أنّ باسل لن يكون قادرا على تجاوز الطوابق كلّها.
***
'أتجاوز كلّ الطوابق بسلاسة... لقد قدّمت تصريحا كبيرا هناك لكنّني لم أكذب أيضا. لم أقل قط أنّني سأتجاوز كلّ الطوابق الآن.'
لقد كان باسل يخادع صاحب الصوت. لقد أراد أن يقنعه أنّه قادر حقّا على إنهاء كلّ المراحل. لماذا؟ لأنّه في نهاية كلّ هذا سيستطيع باسل أن يلتقي بصاحب الصوت. لقد كان يريد باسل لقاءه في أسرع وقت ممكن.
ولتحقيق هذا، سيطلق باسل العنان لقوّته الكاملة. لن يتوقّف إلّا بعدما يبدأ صاحب الصوت في التحدّث أكثر فأكثر.
اختبأ الجنرال رعد بعدما ظهرت بضعة وحوش روحيّة. لقد كانت هذه المرحلة تشبه المرحلة الخامسة من الطبق الأوّل، إلّا أنّها كانت بمقياس مختلف تماما. لقد كانت هذه المنطقة المحظورة تحتوي على عدّة وحوش بمستوى سيّد روحيّ وعلى رأسها وحش حاكم روحيّ. ومع ذلك، لم تتزعزع ثقة باسل.
وبالطبع، كان صاحب الصوت يترقّب معاناة باسل بشدّة، وخصوصا بعدما قلّل من شأنه وشأن قبوه المحصّن. مهما كانت قوّة ساحر سيّد روحيّ، لن يستطيع مواجهة عشرة أسياد روحيّين من الوحوش يقودها وحش حاكم روحيّ.
ظهر الرمح الخشبيّ في يد باسل وهذه المرّة حافظ الرمح على شكله الأصليّ، لكنّ باسل استخدم هذه المرّة عنصر الأرض والتعزيز معا كما فعل لذراعه سابقا. صار الرمح الخشبيّ عبارة عن رمح حجريّ لامع كالألماس بسبب عنصر التعزيز الذي أحاط به.
انفجار
خلّف باسل وراءه حفرة واسعة بعدما استخدم 'صدم العالم' و'سحق الخلق'. بالطبع استخدم المرحلة الروحيّة من كلّ فنّ قتاليّ سامٍ.
حاليّا، كانت هذه الفنون القتاليّة التي يستخدمها باسل بجميع مراحلها من المرحلة الساميّة إلى الروحيّة إلى الأثريّة:
صدم العالم، ثقل الجبل، خطوات الريّاح الخفيفة
سحق الخلق، سحق السماء، سحق الأرض
قضاء الفضاء، تجاوز الفضاء، اختراق السماء
ثقل الجبل وسحق السماء. لقد كان باسل بهذين الفنّين الروحيّين قادرا على التحرّك بقوّة دفع كبيرة لدرجة تجعل وزنه يصير بوزن الجبال، بينما يمحق بقوّة ضاغطة الجوّ والفضاء نفسه.
كلّ ما وقف في طريقه تحوّل لغبار. لم يكن لدى الوحوش السحريّة التي بلغ عددها عشرات الآلاف أيّ فرصة. صارت تلك الوحوش السحريّة مجرّد مطر من الدم ما أن مرّ باسل عبرها.
وعندما كان باسل يجد نفسه محاطا بلا مفرّ، يستخدم تجاوز الفضاء ليتنقل بشكل آني إلى مكان أأمن يسمح له بإلقاء ضربة قاضيّة من نقط الأعداء العمياء. كلّ شيء كان يحصل بسرعة كبيرة لدرجة أنّ الجنرال رعد كان يرى الوحوش تتحوّل إلى دماء عندما يظهر طيف باسل بجوارها.
أمّا الوحوش الروحيّة، بالرغم من أنّها شكّلت تحدّيّا لباسل، إلّا أنّ سيّدا روحيّا بروحين استطاع إمداد نفسه بطاقة روحيّة لوقت أطول من سيّد روحيّ عادي، ولهذا استطاع باسل إلقاء لكمة انفلاق سماءٍ، واحدة تلو الأخرى، وهذه المرّة أضاف إلى اللكمة إمكانيّة عنصر الأرض، التصلّب.
لم يمرّ طويل حتّى تهشّمت أجساد الوحوش الروحيّة تماما بسبب لكمات باسل وطعنات رمحه الذي تحكّم فيه بالامتداد الكلّيّ لفتح الطريق أحيانا وللقضاء على أعداء بعيدين في أحيان أخرى.
وبعد أكثر من ساعة بقليل، وقف باسل في مكانه مغطّى بالدماء، مرّكّزا نظره على الوحش الحاكم الروحيّ الذي كان يعاني من عدّة جروح.
لقد كانت مجزرة.
بالطبع، لم يسلم باسل من أيّة جروح أيضا، لكنّ المثير للاهتمام في الأمر هو أنّ كلّ جروحه تعافت تلقائيّا، ولم يبدُ أنّ قدرة تحمّله الجسديّة قد بلغت حدّها أيضا. لم يتوقّع صاحب الصوت أن يكون جسد باسل غريبا لهذه الدرجة كما كانت روحه......................يتبع!!!!!!!!!!!
(الجزء الخامس)
نظر باسل إلى الوحش الحاكم الذي كان يقف على رجلين على عكس معظم الوحوش. لقد كان يتّخذ هيكلا بشريّا، لكنّه كان أكبر من البشر بثلاثة أضعاف. كانت عضلاته تبدو كما لو أنّها ستفجر تحت جلده الذي كان كطبقة من المعدن مخصّصة لاحتواء تلك العضلات المذهلة.كان أنفه منعدما تقريبا وفمه كبيرا. لم يملك شعرا كما كان الحال مثل باقي جسده.
فتح قبضتيه فامتدّت مخالب، ومنها أفرِزَ سائل غامق اللون. لقد كان واضحا لأيّ شخص أنّ ذلك كان سمّا قاتلا، قاتلا حتّى ضدّ الحكّام روحيّين وبعض من الملوك الروحيّين العاديين، فما بالك بسيّد روحيّ مثل باسل؟
تغيّر شكل الأرض تحت قدميّ الوحش الحاكم من شدّة الضغط، لكن قبل أن يتحرّك الوحش تكلّم باسل: "انتظر لحظة."
زجر الوحش واستغرب في نفس الوقت من طلب باسل. هل يمكن أنّ هذا البشريّ سيبدأ في طلب الرحمة والعفو؟ بعد كلّ ما فعله؟ هذا ساخر. لا... حتّى لو لم يفعل باسل شيئا، كان الوحش الحاكم ليقتله أصلا. لقد كانت هذه هي مهمّته طبقا للعقد الذي برمه، ولا يمكنه تضييع فرصة قتل سيّد روحيّ عبقريّ كهذا والاستمتاع بجزء من روحه اللذيذة.
لكن...
"إنّني مغطّى بالدماء، أحتاج أن أزيلها أوّلا."
أمال الوحش الحاكم رأسه كما فعل الجنرال رعد. يزيل الدماء؟ هل يتكلّم بجدّيّة الآن؟ في هذا الوقت؟ أثناء هذه المعركة؟ ضدّ زعيم الوحوش، الذي كان في حاكما روحيّا؟
لقد كان باسل صادقا. لقد تغطّى بالدماء كثيرا بالرغم من أنّه يكره رائحة الدماء، لذا أراد التخلّص منها في أسرع وقت، لكن يبدو أنّه أغضب الوحش أكثر ممّا فعل بالفعل. لقد تجرّأ كسيّد روحيّ التقليل من شأن حاكم روحيّ. لقد كان يجب أن يُقتل حالا.
صرخ الجنرال رعد: "لقد كنت أريد قول هذا دائما، لكن لماذا أنت جيّد للغاية في استفزاز الأعداء هكذا؟"
عبس باسل: 'استفزاز؟ لكنّني طلبت بلطف...'
الآن عليه التحمّل لوقت أطول. لقد كان ينوي إزالة الدماء بسرعة ومحاولة التدرّب على قتل الوحوش بدون أن يصاب بدمائها بدءا بهذا الوحش الحاكم، لكن...
"يبدو أنّه ليس عليّ أن أقلق بشأن التلطّخ بالدماء الآن بعدما صرت أحمرَ كلّيّا."
كان الوحش الحاكم قد وصل إلى باسل بالفعل.
زباام
ووش
قطعت مخالبه الجوّ وأصدرت صوتا صاخبا بدا كصوت لطير جارح، لكنّ باسل الذي انتهى من كلامه للتوّ لم يُأخذ على حين غرّة. استخدم 'تجاوز الفضاء' و'ثقل الجبل' ليراوغ ضربة الوحش ويأتي خلفه ويلقي ضربة مضادّة.
كلّ هذا حدث في لحظة واحدة. أرسِل الوحش الحاكم محلّقا لأميال بعدما رُكِل ظهره بشدّة وسعل بضع مرّات أثناء ذلك. لقد كان الألم الناتج عن ركلة باسل شيئا لم يختبره لمدّة طويلة للغاية.
التّف حول نفسه وغرس مخالبه في الأرض ليتوقّف تماما قبل أن يصطدم بجبل، لكنّه كان قد اخترق العديد من الأشجار في غابة قبل ذلك مسبقا.
'لمَ كلّ ضربة من هذا الوغد تبدو كما لو أنّها ضربة من إمبراطور روحيّ؟'
كانت هذه هي أفكار الوحش الحاكم. لقد كانت سرعة باسل وقوّته تتجاوزان تماما مجال سيّد روحيّ، لكن كان الوحش الحاكم متأكّدا أنّ باسل سيّد روحيّ. حتّى القبو المحصّن أشار إلى ذلك عندما دخل هذا البشريّ إلى هنا.
كيف للوحش الحاكم أن يعلم أنّ باسل كان يستخدم ثلاثة فنون قتاليّة، بالإضافة إلى بنيته الجسديّة المذهلة التي ورثها عن الوحش النائم؟ لربّما شهدت العوالم الروحيّة حكيما سيّاديّا بثلاثة فنون قتاليّة روحيّة مؤخّرا، لكنّها لم تشهد قط أو على الأقلّ في الأجيال الأخيرة أيّ شخص بمثل جسد باسل.
بصراحة، حتّى باسل لم يتوقّع أنّه سيحصل على ثقة الوحش النائم بهذا الشكل، لكن يبدو أنّ نيّته الصادقة عندما فتح روحه للوحش النائم كانت المفتاح لقلب الوحش النائم، حتّى أنّ هذا الأخير منح باسل شيئا لا يمكنه منحه إلّا مرّة واحدة في حياته المديدة.
لم يتأخّر الوحش الحاكم أكثر ممّا فعل. لقد كان يجب عليه استخدام سلاحه الروحيّ. بدأت المخالب تتموّج وتتّصل ببعضها، ولم يمرّ وقت طويل حتّى شكّلت سيفا يمتدّ من كلّ ذراع.
وفي نفس الوقت، تقلّص حجم الوحش الحاكم وصار أنحف، لكنّ باسل علم أنّ ما حدث للتوّ كان ارتفاعا في القوّة لا نزولا. لم تتقلّص عضلات الوحش بل رُكِّزت مرارا، وهذا منح الوحش الحاكم سرعة وقوّة انفجاريّة كبريين.
اتّخذ باسل وضعيّته باحتياط. حتّى هو لم يكن ليجرؤ على التصرّف بغير حذر، بالرغم من أنّه لطالما كان على هذا الحال، لاسيما بعدما صار حكيما سيّاديّا. كيف له أن يرخي دفاعه ويكون حكيما سيّاديّا؟ لقد كان التحكّم الحكيم السليم يحرص على أن يكون الحكيم حكيما طوال الوقت.
لكن بشكل غير متوقّع، لم يتحرّك الوحش الروحيّ من مكانه ليستخدم هجومه. ما استخدمه كان مفاجأة لباسل بصراحة.
لقد كان عنصر هذا الوحش الحاكم هو عنصر التعزيز، لكن لم يظنّ باسل أنّ الوحش الحاكم سيستخدم تقنيّة مشابهة للامتداد الكلّيّ.
نعم، لوّح الوحش الروحيّ ذراعيه في نفس الوقت، فإذا بهجوم بعيد المدى يصير قريب المدى في لحظة واحدة. لم يخترق هجومه الفضاء، وإنّما امتدّ عبر الفضاء بسرعة كبيرة، كما لو أنّ الفضاء بين الوحش وباسل صار عديم المعنى.
وبالطبع، حتّى لو تفاجأ لم يعنِ هذا أنّه لم يملك أيّ وسيلة للدفاع عن نفسه. كان قد فات الأوان للمراوغة، لكن كان ما يزال جزء من اللحظة للدفاع بالرمح الخشبيّ.
انفجار
انفجر النصلين اللذين ضربا رمح باسل، فانطلق من الانفجار عدّة أشواك في مختلف الأنحاء، ولم يكن لباسل أيّ مهرب. اخترقت الأشواك جسده في معظم الأجزاء لكنّه حما وجهه على الأقلّ.
زئر الوحش الحاكم وصرخ: "مت يا أيّها البشريّ المغرور!"
"همم؟"
استغرب باسل من تكلّم الوحش الحاكم فجأة. لقد كان صامتا حتّى الآن، لكن يبدو أنّه نطق أخيرا. لماذا؟
"آه، فهمت."
لاحظ باسل أنّ شيئا غريبا يجري في عروقه، ففهم سبب تحمّس الوحش الحاكم.
"يبدو أنّه واثق في سمّه لتلك الدرجة، حتّى أنّه يعدّني ميّتا بالفعل."
لقد كانت الأشواك تحمل سمّ الوحش الحاكم. لقد كان هذا السمّ اكثر ضراوة من الذي كان قبله حتّى. عندما يستخدم هذا الوحش سلاحه الروحيّ، فإنّ حتّى سمّه يتطوّر. لم تُتَح له الفرصة ليجرّب سمّه الاوّل على باسل، لكن الآن بعدما أصابه بسمّ سلاحه الروحيّ، فإنّ ذلك البشريّ في عداد الموتى.
تكلّم الوحش الحاكم: "لو أنّك كنت منتبها أكثر، لا، لو أنّك لم تغضبني، لكنت نجوت من العذاب الذي ستختبره في الثواني القادمة. كنت لتموت ميتة مريحة بمخالبي على الأقلّ، لكنّك..."
"يبدو أنّك من النوع الثرثار. وها أنا ذا الذي ظننت أنّك من النوع الخجول. هل هناك أيّ وحش خجول أصلا؟"
'همم... لماذا لا يزال هذا الشقيّ مغرورا؟ ألا يعلم أنّه سيموت بعد ثوانٍ؟ انتظر... كيف له أصلا أن يقف ويتكلّم معي هكذا؟ أليس من المفترض أن يلتوي على نفسه ويتكوّر في الأرض من شدّة الألم؟'
لم يمرّ وقت طويل حتّى سعل باسل بعضا من الدماء(؟). لقد كان سائلا مائلا للأسود لونا حتّى يكون مجرّد ددمم.
"كيهاهاها!" ضحك الوحش وتملّكته السعادة وتنفّس الصعداء: "يبدو أنّ مفعول السم بدأ أخيرا. فقط أيّ بنيّة جسديّة تلك يا أيّها اللعين حتّى يتأخّر السمّ لهذه الدرجة قبل أن يبدأ مفعوله؟ كيها، كيهاهاها!"
رفع الوحش الحاكم ذراعيه ونظر إلى السماء المزيّفة واستمرّ في ضحكه لمدّة طويلة، لكن لم تستمر ضحكته تلك أكثر من بضعة ثوان. لماذا؟ لأنّ باسل كان في عجلة من أمره.
تحوّلت الضحكة إلى سعلة، ثمّ إلى قيء من الدماء التي تجنّبها باسل بالكاد بعدما سحب ذراعه وتراجع للخلف.
بعدما سحب باسل ذراعه وتراجع، نظر الوحش الروحيّ إلى الأسفل أخيرا فوجد حفرة غريبة في جسده.
"ها؟"
يبدو أنّه لا يزال لم يفهم ما حصل بعد.
وفي تلك اللحظة، مدّ باسل ذراعه التي سحبها مسبقا، فإذا بالوحش الحاكم يرى حجر أصل روحيّ في يد البشريّ المغرور.
"آه..."
نظر الوحش بعد ذلك إلى الحفرة الغريبة في جسده، فأدرك أخيرا باسل قد اخترق جسده وأخذ حجر أصله أيضا.
"ما-ما الذي حصـ...؟"
كان الوحش على وشك السقوط، وفي تلك اللحظات سمع صوت باسل الهادئ: "لقد بصقتُ سمّك وهاجمتك ببساطة. يبدو أنّني لست الشخص الذي أرخى دفاعه."
سقطت جثّة الوحش الحاكم على الأرض، لكن روحه هربت إلى أحضان القبو المحصّن بدون أن يقدر باسل على جمعها.
أشاد الوحش الحاكم ببنيّة باسل الجسديّة، لكنّه لم يتخيّل ولو في أحلامه الأكثر جموحا أنّ سمّه لن ينفع بتاتا.
ما أنّ دخل السمّ إلى جسد باسل، بدأت عمليّة الطرد مباشرة. كانت مناعة باسل قويّة للغاية حتّى ضدّ السموم. لقد كانت دهشة الوحش الحاكم جزءا بسيطا من الدهشة التي ستتعرّض لها العوالم الروحيّة عندما تعلم عن حقيقة جسد باسل.
خبّأ باسل حجر أصل الوحش الحاكم ثمّ نظر إلى الجنرال رعد وقال: "ما رأيك أن تبدأ عملك الآن؟"
"أمم؟ أيّ عمل؟ انتظر... هل يمكن أنّه يجب عليّ جمع أحجار أصل كلّ هذه الوحوش السحريّة والروحيّة؟"
"ماذا؟ ألا تريد فعل ذلك؟ يمكننا تبادل الأدوار من الآن فصاعدا لو أرد..."
لم يكمل باسل كلامه حتّى كان الجنرال رعد قد شرع في العمل.
تنهّد باسل ثمّ نظر إلى حاله. لقد كانت الدماء كالعرق على جسده: "يبدو أنّه سيكون عليّ التدرّب على كيفيّة القتال بدون أن أصاب بأيّ ددمم من الآن فصاعدا."
كان أيّ شخص ليستغرب إن علم أنّ عصّارة الدماء، المعروفة ببطل البحر القرمزيّ، تكره رائحة الدماء في الواقع. لم يكن من الغريب أن يظنّوا أنّه يعشق الدماء ويشربها ليلا نهارا. أو لم يطلقوا عليه لقب قاتل الدم القرمزيّ سابقا؟ وماذا عنى بطل البحر القرمزيّ في نظر بعض آخر؟
"على أيّ حال..." لقد انتهى باسل من هذه المرحلة في دقائق، وهذا كان خارج توقّعات صاحب الصوت تماما. أيّ سيّد روحيّ يمكنه محق أكثر من ثلاثين ألف وحش سحريّ وخمس أسياد روحيّين وحاكم روحيّ؟ لقد تجاوز هذا كلّ المنطق.
بالطبع، سيّد روحيّ يمكنه قتال سيّد روحيّ فقط ولا أكثر، لكن ماذا إن كان سيّد روحيّ يملك الحكمة السياديّة؟ ماذا لو امتلك خمسة عناصر سحريّة أيضا؟ ماذا لو امتلك ثلاثة فنون قتاليّة بالمرحلة الروحيّة؟ ماذا لو امتلك روحين؟ ماذا لو امتلك جسدا خرافيّا؟
كانت هناك الكثير من الأشياء التي جعلت باسل قادرا على فعل كلّ ذلك.
ولهذا، بعدما اغتسل باسل بعنصر الماء ونشّف نفسه وملابسه بحرارة عنصر النار...
"أظنّ أنّك تفهم قليلا مدى قواي الآن، فما رأيك بمحادثة؟"
لقد قتل باسل تلك الوحوش كلّها في هذا الوقت الوجيز باستعمال معظم ما في جعبته حتّى يصدم صاحب القبو المحصّن. لقد كان يريد أن يجعل صاحب القبو يريد التكلّم.
أضاف باسل بعدما لم يتلقّ إجابة لبعض من الوقت: "قد لا يسعني احتلال القبو المحصّن الآن وفي الحال، لكن ماذا إذا عدت بعد خمسين أو مئة سنة؟ ألن أنجح في ذلك بكلّ سهولة؟"
خمسين أو مئة سنة... كانت مجرّد فترة وجيزة بالنسبة للسحرة الروحيّين ومجرّد لحظة من منظور صاحب القبو.
لقد كان باسل يعلم أنّ صاحب القبو يعرف الآن قوّته المرعبة. لو مُنِح هذا العبقريّ خمسين سنة فقط، فيمكن أنّه سيصير إمبراطورا روحيّا حتّى. إذن ما الذي يمكنه فعله كإمبراطور روحيّ لو كان هذا ما يستطيع تحقيقه كسيّد روحيّ فقط؟
بالطبع لم يعلم صاحب القبو عن العقوبة التي تلقّاها باسل والتي تبطئ نموّه لدرجة شبه الخمول.
لم يتوقّف باسل عند ذلك الحد: "لا تحاول المراوغة أبدا. إنّني أعلم أنّ قبوك المحصّن في المستوى الخامس فقط، وهذا يجب أن يعادل قوّة روحانيّ مبارك (المستوى الخامس من المستويات الروحيّة). ما زال أمام القبو قرونا أو حتّى آلافا أخرى من السنين قبل أن ينتقل إلى المستوى التالي، فما الذي تظنّ أنّه سيحدث لو عدت إلى هنا ولو بعد مئتي سنة؟"
لقد كان باسل يعلم أنّ الطابق الأوّل من القبو المحصّن يحكم على مستوى القبو. عندما وجد أنّ الطابق الأوّل احتوى على خمس حجرات، علم أنّ القبو يملك خمسة طوابق، وبالتالي المستوى الخامس.
لقد اتّخذت الأقباء شكل الهرم، وفي كلّ طابق يصعدونه ينقص عدد الحجرات بحجرة واحدة، حتّى يصلون إلى الطابق الأخير الذي يحتوي على حجرة واحدة فقط.
لقد كان باسل يشعر أنّه يحاصر ويربك صاحب القبو، لذا أضاف مرّة أخرى: "لكن لا تسِئ الفهم، أنا لا أهدّدك، وإنّما أحاول أن أعرض عليك صفقة لن تجد مثلها أينما ومتى ذهبت. فكّر جيّدا وأجبني في غضون ساعة واحدة. لن أنتظر أكثر من ذلك."
"لنسمع ما لديك."
لم يتأخّر الصوت لثانيّة واحدة. لقد كان صاحب الصوت من عائلة عريقة تخصّصوا في بناء مثل هذه الأقباء المحصّنة المعقّدة. لقد كان من السهل للغاية حساب سلبيّات وإيجابيّات هذا الموقف. لم يكن جيّدا ترك انطباع سيّئ لدى هذا الساحر الروحيّ المجنون، وكان من الأفضل مجاراته وسماع ما لديه على الأقل.
أومأ باسل وقال شيئا جعل صاحب القبو يصرخ كما لم يفعل طوال حياته.
[ماذا؟!؟!؟!]
تردّد صوته في القبو المحصّن بأكمله وليس في عقل باسل فقط. لقد كان الصوت الحقيقيّ ليّنا وناعما بالمناسبة.
***
[ما هي الصفقة؟]
كان صاحب الصوت مستعجلا، وبالطبع تفهّم باسل لمَاذا. لقد كان باسل ممتنّا في الواقع أنّ صاحب القبو استجاب لعرضه. لقد كانت كلّ ثانيّة يخوضها صاحب الصوت مع باسل في المحادثة ثمينة بشكل لا يُصدّق، ولا يمكن تعويضها إلّا بعد مدّة طويلة للغاية من المحصولات والخلاصات المتبقيّة من أرواح السحرة الذين يغزون القبو.
لقد قبل صاحب الصوت، وهذا عنى شيئين. أوّلا، لقد كان حقّا خائفا من باسل الذي يمكن أن يعود إلى هنا في المستقبل ويدمّر كلّ ما بناه طيلة آلاف سنين. ثانيّا، لقد كان مهتمّا للغاية في الصفقة التي سيعرضها باسل.
السبب الذي جعله مهتمّا في الصفقة كان بالطبع باسل بنفسه. لقد كان باسل سيّدا روحيّا غريبا للغاية، وبدا أنّه يعلم الكثير من الأشياء عن الأقباء المحصّنة بالرغم من أنّه في مقتبل العمر بشكل واضح. فقط ما هي هاته الصفقة التي يمكن أن تأتي من هذا المخلوق العجيب. لا يمكن لشخص من سلالة الفراعنة الفضوليّة أن يتجاهل شيئا كهذا.
وضع باسل موقف صاحب القبو في الاعتبار. لم يأتِ باسل إلى هنا حتّى ينصب أو يحتال على أحد. لقد كان مستميتا ببساطة. مرّ وقت طويل نسبيًّا منذ تلك المأساة وما زال لا يملك أدنى فكرة عن كيفيّة مغادرة العالم الواهن. ولهذا، عندما وجد هذا القبو المحصّن، كان مستعدّا لعرض شيء لا يمكن لصاحب القبو رفضه.
لقد تعلّم باسل من خبرته مع الوحش النائم أنّ الأشخاص الذين لهم أهداف سيدعمونك بكلّ ما يملكون إن ساعدتهم في تحقيق أهدافهم تلك. ماذا إذن إن حقّقت أهدافهم ولم تساعدهم فقط؟
بالطبع، لم ينطبق هذا الأمر على الجميع. لقد كان هناك العديد من الأشخاص الذين يمكن أن ينكثوا وعودهم، وكان هناك أشخاص لن يشعروا أنّهم مدينين لك حتّى.
لقد فتح باسل روحه للوحش النائم لأنّه علم عن جزء من قصّة الوحش النائم والسارق الخسّيس. علم أنّ الوحش النائم سيفعل أيّ شيء من أجل القضاء على السارق الخسّيس. وأيضا، لقد تلقّى العديد من الجوائز المبهرة التي لا يمكن أن يجد مثلها في العوالم الروحيّة مهما بحث.
بالأحرى، إحدى تلك الجوائز هي ما سيخوّله الآن عقد صفقة مع صاحب هذا القبو.
والآن، كان الأمر مختلفا عن الأمر مع الوحش النائم. لقد كان باسل مستعدّا لعقد صفقة بالعهد الذهنيّ الروحيّ، وليس مجرّد وعد شفهيّ.
"هل تعلم ما هو تمر الحياة الجديدة؟"
كان الجنرال رعد في هذه الأثناء ما يزال يجمع أحجار الأصل من الوحوش السحريّة بالمستوى10 إلى المستوى14 بعدما انتهى من التقاط أحجار أصل الوحوش الروحيّة، ولهذا لسوء حظّه لم يستطع سماع ما كان باسل يقوله.
[تمر الحياة الجديدة...]
ردّد صاحب القبو الاسم وكان واضحا أنّه يتمعّن فيه، ليس لأنّه لا يعلم عن ماهيّة هذا التمر، بل العكس تماما. تمر الحياة الجديدة، التمر من الشجرة الخياليّة التي اتّخذ الطير الخرافيّ من قمّتها عشّا له.
التمر الذي كان الفاكهة المفضّلة لدى الطائر الخرافيّ، والذي كان ينبع بالحياة أكثر من أيّ مخلوق آخر.
قيل ذات مرّة أنّ السبب وراء قوّة حياة هذا الطائر الخرافيّ كان هو تمر الحياة الجديدة، وقيل في المقابل أنّ هذا التمر سُمِّي هكذا بسبب الطير الخرافيّ.
لم يهمّ كلّ هذا الآن، ما كان هامّا...
[إنّه التمر الذي يقال أنّه يقتل الموت.]
يقتل الموت!
لقد كان هذا الوصف قويّا للغاية. الموت، الحقيقة المطلقة التي لا يمكن لأيّ مخلوق الفرار منها.
وبالطبع، فهم باسل تماما معنى مقتل الموت هنا. لقد كان تمر الحياة الجديدة ببساطة عبارة عن فاكهة يمكنها أن تجعل من أيّ إصابة كما كانت تختفي كما لو لم تكن، ويجعل قوّة حياة المستهلك أشدّ ممّا كانت عليه بأضعاف مضاعفة، ويرفع من مستواه الروحيّ كثيرا حتّى.
وبالطبع، لكلّ شيء حدود. بالرغم من أنّ المرء يمكنه استخدام هذا التمر لزيادة قوّة حياته حتّى يعيش مدّة أطول بكثير، لا يمكنه الاستمرار في فعل هذا للأبد لأنّ مفعول التمر ينقص بعد كلّ استخدام، هذا إن وُجِدت تلك الكمّيّة المذهلة من ذلك التمر العجيب أصلا.
بعد كلّ شيء، كلّ ما له بداية له نهاية.
[لن أتعجّب من أمر معرفتك بشيء مثل تمر الحياة الجديدة بعد كلّ ما رأيته حتّى الآن، لكن ها هو سؤالي: ما هي الصفقة؟]
لم يكن هناك وقت لصاحب القبو حتّى يضيعه. لقد كان بالفعل يتحسّر على الوقت الذي كان يضيع منه الآن. كم من قرن سيتطلّب الأمر حتّى يستعيد هذا الوقت الذي خسره؟
بالطبع، تفهّم باسل موقف صاحب القبو، لكن...
"لا تقلق، لن تندم على الوقت الذي ضاع منك قبل قليل والذي سيضيع منك بعد قليل. لا يمكنني ببساطة عرض هذه الصفقة عليك بدون أن أعلم بضعة أشياء. هناك مسؤوليّة على عاتقي ولا يمكنني الاستخفاف بما سأعرضه عليك ببساطة."
لم يقل صاحب الصوت شيئا، وهذا كان إشارة لباسل حتّى يكمل كلامه. يبدو أنّ صاحب القبو قد عزم أيضا على التضحيّة ببضع قرون أو ألفيّات أخرى.
"ما الذي ستفعله إذا قدّم لك شخص الفرصة في العودة إلى العالم؟"
[ها؟]
لم يستطِع صاحب القبو أن يكبح تفاجؤه. أيّ سؤال هذا؟ كما لو كان يسأل سجينا بالمؤبّد ينتظر الإعدام ماذا سيفعل إذا أخرجه أحدهم من السجن.
هل سيكون شكورا؟ لقد كان من الصعب تخيّل حدوث ذلك، ولهذا لم يعلم ما كانت ستكون ردّة فعله حتّى. لربّما سيكون مدينا للشخص الذي منحه الفرصة ليعود للعالم ويخدمه كسيّده؟ لقد كان من سلالة قال أنّها من أفضل السلالات إلّم تكن أفضلها في العوالم الروحيّة، فكيف له، كشخص من العائلة التي بنت حضارة لا مثيل لها وكان مصير كلّ واحد من العائلة أن يحكم ويسود، أن يصير خادما لأحدهم؟
نعم، سيكون شكورا على حدّ أقصى. وبالطبع، شكر شخص فرعونيّ مختلف تماما عن شكر ساحر عاديّ.
[سأكون شكورا، شكورا للغاية وأقدّم بالغ الاحترام لذلك الشخص.]
اطمأنّ باسل لأنّ صاحب القبو ردّ. لقد كان حقّا يضحّي بمئات وآلاف من السنين من أجل باسل. بالطبع، كان السبب الأكبر هو أنّه لا يريد خسارة كلّ شيء بعدما يعود هذا الساحر المجنون.
أومأ باسل رأسه وسأل مرّة أخرى: "إذا ماذا ستفعله إذا قدّمتُ لك تلك الفرصة في العودة إلى العالم؟"
[هاهاها! حتّى الضحك يُعدّ تبذيرا لوقتي ورفاهيّة لا يمكنني تحمّل ثمنها، فعساك تعفيني من المزاح.]
"عدّني مجنونا وسايرني."
كيف لي أن أعدّك مجنونا وأنا أعلم أنّك مجنون؟ لم يكن هناك وقت ولا رغبة لصاحب القبو حتّى يقول هذا جهرا. بالأحرى، ما الذي قاله هذا الجنون؟ كيف لغرّ كهذا أن يملك أيّ وسيلة يساعده بها؟ لربّما يظنّ أنّه لا يُقهر ويمكنه تحقيق كلّ شيء فقط لأنّه عبقريّ؟
عبقريّ... لقد كان وزن هذه الكلمة ثقيلا للغاية عندما أتت من طرف سليل للفراعنة. لقد كان الفراعنة أفضل العباقرة على مرّ التاريخ، لذا كان يجب التركيز على وصف باسل بالعبقريّ من طرف شخص عاش بين العباقرة كما يعيش بعض من الناس مع بعضهم.
فكّر صاحب القبو في اقتراح باسل ثمّ ردّ.
[لا يهمّ من يكون. موقفي يظلّ نفسه.]
لقد كان واضحا أنّ صاحب القبو كان فخورا.
'كما هو متوقّع من سليل الفراعنة.'
لن يخدم سليل الفراعنة أيّ شخص حتّى لو أنقذ حياته. سيحسّ أنّه مدين لذلك الشخص وسيكون شكورا ويفعل أيّ شيء ليردّ المعروف، سوى أن يصير خادما أو عبدا له. لقد وُلد كسليل للفراعنة حتّى يحكم لا يخدم.
كان هذا كافٍ لباسل حتّى يقرّر ما إذا كان سيعقد الصفقة مع صاحب القبو. في الواقع، لقد كان باستطاعته تجنّب كلّ هذا وعرض الصفقة مباشرة، لكنّه أراد أن يرى شخصيّة صاحب القبو أوّلا، وكيف سيتعامل مع هذا الموقف كلّه. وبصراحة، لقد أعجِب باسل بالطريقة التي تعامل بها صاحبا القبو معه. ظلّ فخورا، لكنّه وضّح أنّه يمكن ان يكون شكورا.
'هذا يكفي، لكن لا يعني أنّني سأثق به.'
لقد كان باسل ما يزال ينوي استخدام العهد الذهني الروحيّ. سيكون من الغبيّ عدم استخدامه.
"حسنا..."
مدّ باسل كفّه فإذا بشيء يشعّ هناك. لقد كان ذلك ما يحدث عندما يخرج الساحر شيئا من مكعّب التخزين. ما ظهر كان عبارة عن صحن خشبيّ بسيط مغطّى بخرقة بيضاء متلطّخة بغبار. لقد وجد باسل هذا الصحن عندما تسلّق حياة ودخل إلى العالم الثانويّ في قمّتها.
وفي هذا الصحن احتوى على شيء ثمين للغاية، ثمين لدرجة لا يمكن تخيّلها، وحتّى الهرمى المقموعون سيتطايرون ويتقاتلون عليه.
حتّى باسل صار متوتّرا عندما أخرج هذا الصحن للعالم. لقد كان يريد أن يتركه في أعماق روحه طوال الوقت مهما حدث. كانت مسؤوليّة هذا الصحن كبيرة أحسّ أنّه يحمل العالم على كاهله كلّما أخرجه.
تنهّد باسل ثمّ قال: "لا بدّ وأنّك تعتقد أنّني مجرّد شقيّ يثرثر ويبالغ في تقدير نفسه وكلامه، وبالطبع لا ألومك على ذلك. سيكون غريبا ألّا تشعر كذلك. كنت لأعدّ نفسي مجرّد شقيّ غبيّ لم يرَ ما يكفي من السماوات والأرض ويظنّ أنّه عبقريّ يمكنه تحقيق كلّ ما يريد."
قال باسل كلّ شيء يشعر به صاحب القبو، لذا كان هذا الأخير عاجزا عن الكلام بالرغم من أنّه لم يرد التكلّم أصلا. فهو يستهلك وقته بالاستماع لباسل حاليّا، لكنّه يستهلك أضعاف كميّة الوقت عندما يتكلّم. وأيضا، لم ينتهِ باسل من كلامه بعد...
"هل تذكر تمر الحياة الجديدة الذي تحدّثنا عنه قبل قليل؟ ماذا لو أخبرتك أنّ هذا الصحن يحتوي على تمر الحياة الجديدة؟"
[سأقول أنّك تكذب وأتوقّف عن الكلام معك الآن. لربّما تستحقّ أن أستمع إليك لأنّ تهديدك له وزن، لكن لا يمكن لذلك الوزن أن يكون أثقل من قدرة تحمّلي للترهات والهراء. لا أهتمّ إن كنت ستعود إلى هنا وقتما شئت. غادر الآن!]
أومأ باسل. لقد كان مرتاحا لأنّ ردّة فعل صاحب القبو كانت كما توقّع. تمر الحياة الجديدة؟ حتّى الفراعنة لم يستطيعوا الحصول أو حتّى رؤية شيء كهذا، فكيف لشقيّ كهذا أن 'يملكه'؟ حتّى التفاهة لها حدود.
لقد كان ذلك أطول شيء يقوله صاحب القبو، وهذا أكّد ووضّح مدى عدم ارتياحه بالحدود التي تجاوزها باسل. كيف له كفرد فخور من السلالة الفرعونيّة أن يسمح بهذا أكثر ممّا فعل؟
وبالطبع، لم يتوقّع ولم يتخيّل بمخيّلته التي كانت مشحونة بجميع العجائب والغرائب من العوالم الروحيّة أنّ باسل كان صادقا في كلامه. ولهذا...
"حسنا، لن أتجاوز خمس ثوانٍ. حدّق، واشعر بكلّ الأحاسيس، واستخدم حتّى ارتباطك المذهل بالقبو لاستخدام القبو نفسه حتّى تعلم ما هو الشيء الذي سأريك إيّاه. تذكّر، لديك خمس ثوانٍ فقط."
لم يأبه صاحب القبو لما قاله باسل. لقد كان هذا مجرّد تمثيل. نعم، لابدّ وأنّ هذا المجنون يتلاعب به ويستمتع بهذا.
أزال باسل الغطاء عن الصحن الشخبيّ.
"واحد."
'همف! حتّى أنّه يعدّ بصوت مرتفع. هل يظنّ أنّني سأخدع بهذا؟'
"اثنان."
'أممم... لقد سايرتُه كلّ هذه المدّة. لمَ لا نرى خدعته حتّى النهاية؟'
لقد كان فضول الفراعنة قويّا بعد كلّ شيء.
"ثلاثة."
'ها؟؟؟ ما هذه الطاقة؟ انتظر... انتظر...'
"أربعة."
بدأ يستخدم صاحب القبو كلّ ما لديه من قوّة وسلطة على القبو حتّى يستشعر الشيء الذي كان في كفّ باسل.
'انتظر... انتظر، انتظر، انتظر، انتظر.'
أراد صاحب القبو من باسل أن ينتظر أكثر، لكنّه ما أن استشعر الهالة والقوّة الهائلة المنبعثة من الشيء الذي كان في كفّ باسل، علم أنّ هذا الساحر المجنون لم يكن يتكلّم عن هوى على الأقل. ولهذا، لم يكن لينتظر مهما حدث. لقد قال خمس ثوانٍ، وسينتهي الأمر عندما تمرّ خمس ثوانٍ بالضبط.
صار استشعار صاحب القبو الذي كان منتشرا عبر القبو المحصّن كلّ مرّكّزا فقط على الصحن في كفّ باسل. لقد كان يعلم صاحب القبو يعلم ما هي قيمة الثواني حتّى، لذا علم تماما كيف يستغلّ تلك الثانيّة المتبقيّة حتّى يستخلص كلّ المعلومات التي يمكنه استخلاصها.
بالرغم من أنّ الثانيّة بدت أطول بكثير بسبب المعلومات الكثيرة التي استطاع صاحب القبو استخلاصها، إلّا أنّها كانت مجرّد ثانيّة في نهاية المطاف.
"خمسة!"
صاح باسل وأغلق بعد ذلك الصحن مباشرة.
قال كما لو كان متأكّدا من أنّ صاحب القبو صار يعلم أيضا عن ما كان في الصحن الخشبيّ: "لقد أخبرتك. هذا هو تمر الحياة الجديدة، وأنا هنا حتّى أعرض عليك صفقة."
[ماذا؟!؟!؟!]
صدى صوت صاحب القبو في الأرجاء، حتّى قفز الجنرال رعد من مكانه ونظر حوله، من يعلم؟ قد يظهر جنّي هذه المرّة.
أمّا باسل، فقد كان أيضا متفاجئا: "أووه، يبدو أنّك ملكة فرعونيّة."
[أميرة... أنا أميرة فرعونيّة...]
أومأ باسل، لكنّه رفع حاجبه بعدما أكملت الأميرة الفرعونيّة جملتها.
[...يا سيّدي.]
لقد قالتها بكلّ إتقان، وبشكل طبيعيّ للغاية، كما لو اعتادت على قولها منذ أن وُلِدت. لن يشكّ أيّ أحد إذا قيل له أن صاحبة هذا الصوت اليافع والرقيق كانت خادمة منذ ولادتها.
"إيه؟ ماذا قلتِ؟ سيّدي؟"
[هل هناك أيّ شيء غريب في ذلك يا سيّدي؟ بالأحرى، ما هي الصفقة يا سيّدي؟ هل تشمل عهد ذهنيّ روحي؟ أنا مستعدّة لقبول كلّ ما تريده يا سيّدي.]
ظلّ باسل فاتحا فمه هناك لبضع ثوانٍ. اليوم تعلّم درسا ظنّ أنّه خبير فيه – لا يجب أن يحكمَ على شخصيّة أحدهم من اللقاء الأوّل.
***
قبض باسل جبهته وتنهّد. لقد كان هذا غريبا وغير متوقّع. كيف لشخص بفخر عالٍ كهذه الأميرة الفرعونيّة أن تصير ذلولة هكذا؟ هل كانت تمثّل طوال الوقت؟ لا... لقد كان الفراعنة فخورين حقّا.
السبب الوحيد خلف تغيّر الأميرة كان هو تمر الحياة الجديدة.
'يبدو أنّ الشخص الذي قلّل من قيمة التمر كان أنا.'
لقد كان هذا الواقع. حتّى لو لم يتزعزع فخر الأميرة بأمور أخرى، كان لا بدّ أن ينقلب تصرّفها رأسا على عقب ما أن ترى شيئا كتمر الحياة الجديدة، والذي كان شيئا يمكنه قلب حياتها رأسا على عقب أيضا.
لقد كان الواقع هو أنّ هناك أشخاص بفخر عظيم، لكنّ ذلك الفخر يظلّ عظيما فقط في ظلّ الأمور العاديّة أو المدهشة أو حتّى الاستثنائيّة. غالبا ما اختفى ذلك الفخر عندما واجه شيئا ليس من العالم الذي يعرفونه، أو شيئا اعتُقِد أنّه مستحيل.
لم يكن باسل بليدا كفاية حتّى يسأل الأميرة عن سبب تغيّر تصرّفها المفاجئ. لقد اندهش بالفعل، لكنّه الآن صار يتفهّم الأمر أكثر. لقد كان تمر الحياة الجديدة بالفعل شيئا ليس من العوالم الروحيّة، فلا عجب.
بعدما علم باسل أنّ الأميرة مستعدّة لقبول أيّ شيء من أجل تمر الحياة الجديدة، دخل في صلب الموضوع مباشرة.
"لديّ ثلاث شروط حتّى تحصلين على ما تريدين منّي."
[سمعا وطاعة يا سيّدي.]
لم يطرح باسل شروطه حتّى، إلّا أنّها كانت أكثر من راغبة بالفعل. هل كانت ذليلة؟ هل كانت رخيصة؟ كلّا؛ لقد كان تمر الحياة الجديدة ساميا للغاية. لقد كانت قيمته عاليّة جدّا.
أومأ باسل قال: "أوّلا، ستعاهدينني أنّك لن تعاديني أبد الآبدين. ثانيّا، ستساعدينني في إيجاد حلّ لمغادرة العالم الواهن وتوفّرين ثلاث خدمات لي عندما أطلبها منك طالما تكون في مقدورك ووسعك. ثالثا، ستحمين عالمي، العالم الواهن، من المخاطر الخارجيّة والداخليّة لخمسة آلاف سنة."
[إيه...؟]
"ماذا هناك؟"
هل ربّما كانت خمسة آلاف سنة أكثر من اللازم؟ لكن لا يجب أن تكون مشكلة بعدما تستهلك تمر الحياة الجديدة وتكتسب عمرا مديدا. كان هذا هو الشرط الذي ظنّ باسل أنّه قد يكون أثار حنق الأميرة. لقد كان الشرطان الآخران معقولين، وبالأحرى، كانا بسيطين مقارنة بما سيمنحه لها.
[لا... أعني... هل هذا كلّ شيء يا سيّدي؟]
قطب باسل حاجبيه قليلا: "وهل تريدين المزيد؟ لا مانع لديّ أن..."
[لا، لا، لا! إنّني قنوعة لذا سأكتفي بهذا يا سيّدي. شكرا جزيلا! نعم يا سيّدي!]
حتّى لو نادته بـ'سيّدي'، هذا لم يعنِ أنّها تريد خدمته كالآمة. لقد كانت ما تزال أميرة فرعونيّة بعد كلّ شيء. لم تكن لتعرض خدماتها بشكل غير مشروط. كيف لها أن تفوّت الفرصة ألّا تتلقّى شروطا أكثر؟
وبالطبع، لم يعنِ هذا أنّها ستنسى معروفه. لا يهمّ ما اشترط باسل؛ لقد كان كلّ ذلك عديم القيمة أمام تمر الحياة الجديدة.
"حسنا، كما لاحظتِ على الأغلب، إنّني في عجلة من أمري هذه الفترة. لننتقل إلى القبو."
[هل أنقل ذلك الجبان أيضا يا سيّدي؟]
لقد صارت تتكلّم الأميرة مباشرة مع باسل بصوتها الحقيقيّ، لذا لم يعد يسمعها الجنرال رعد بعدما صرخت آخر مرّة بسبب التمر.
جبان؟ آه... لقد كانت تقصد الجنرال رعد.
هزّ باسل رأسه يمينا وشمالا وتنهّد. الشخص الذي لُقِّب قبل سنوات بالرعد البرقيّ، وكان قائدا لفرقة السنبلة الخضراء التي جعلت من عاصمة الإمبراطوريّة أكثر مكان خالٍ من الجرائم، وصار بعد ذلك أحد قادة أكاديميّة الاتّحاد المباركة – هذا الشخص جبان؟
نظر باسل إلى الجنرال رعد الذي صار فنّانا في اقتلاع أحجار الأصل من الوحوش بعدما انتهى من المئات منها، ثمّ تنّهد مرّة أخرى وردّ: "لا، لنتركه لوحده. وأثناء غيابي، اعطي له اختبارات مناسبة تنتزع ما فيه من جبن."
'لقد صرتُ أتنهّد كثيرا في الآونة الأخيرة.'
لقد كان باسل عازما. لا يمكنه أن يترك شخصا يخاف من الأشباح أن يكون أحد حماة العالم الواهن في غيابه. وأيضا، لقد شعر بالخجل قليلا لسبب ما عندما وصفت الأميرة الجنرال رعد بالجبان. شعر أنّ ذلك آذى كبرياءه؟ ما هذا الشعور؟
'أهذا لأنّني صرفت وقتا عليه ودرّبته؟'
لم يرد باسل من شخص تدرّب على يده، ولو لم يكن تلميذا رسميّا، أن يُنعت بالجبان.
'لربّما لهذا السبب حرص معلّمي على اختيار تلامذته بعناية.'
كان هناك تلميذ واحد معروف للحكيم السياديّ حتّى أعلن إبلاس أنّ إدريس الحكيم قد مات وكان له تلميذين آخرين. لقد أوضح هذا فقط العناية والحرص اللذين اتّخذهما إدريس الحكيم عند قبول أيّ تلميذ.
'يجب أن أحذو حذو معلّمي، فهو الأفضل بعد كلّ شيء.'
لقد كان إدريس الحكيم معلّم باسل، لكنّه كان أيضا قدوته وأكثر شخص يكنّ باسل الاحترام له. لقد كان أباه الروحيّ. قرّر باسل 'مرّة أخرى' أن يعيش حياة كان معلّمه ليفخر بها.
[حسنا، ستجدني في القبو يا سيّدي.]
"وأيضا، لا تضعي سيّدي في كلّ جملة، إنّ ذلك مزعج."
كانت الأميرة الفرعونيّة سترتاح أخيرا بعدما انتظرت كلّ هذا الوقت ليأذن لها باسل بذلك. لم ترد أن تتوقّف من تلقاء نفسها، لذا سعدت بعرض باسل المنتظر، لكنّ آمالها خُيِّبت بكلام باسل التالي.
"احرصي على قولها بين الحين والآخر، عندما تكون هناك حاجة لها وتحمل قيمة."
هل قال باسل هذا لأنّه يقصد كلامه؟ هل كان يريد من الأميرة أن تناديه بـ'سيّدي'؟ بالطبع لا. لقد فعل هذا فقط لإغاظة الأميرة التي كانت تلعب الألاعيب اللغويّة معه هو الذي يفخر بقدرته الطبيعيّة في الكلام.
[طبعا يا سيّدي.]
كان هناك نوع من الإحباط في صوت الأميرة.
ظهرت دائرة سحريّة تحت قدميّ باسل. لقد كانت تلك نقوش روحيّة مندمجة بعنصر الفضاء.
ما أن ظهرت الدائرة السحريّة، التفت باسل إلى الجنرال رعد وكاد أن يخبره أنّه سيغادر لوهلة، لكنّه امتنع عن ذلك وقرّر أن يتركه وشأنه. يجب أن يتعلّم الرجل الأشقر كيف يتكيّف مع أيّ وضع.
توهّجت الدائرة السحريّة وتصاعدت مع جسد باسل بينما يختفي هذا الأخير مع صعود الدائرة بدءا من قدميه. حدث الأمر بشكل سريع.
'الانتقال عبر الفضاء سلس ومستقرّ للغاية. هذا مدهش حقّا.'
لقد كان الفراعنة أفضل مستخدمي عنصر الفضاء بعد كلّ شيء.
***
لقد كان هذا المكان يُدعى بالقبو المحصّن لأنّ المكان الذي صار فيه باسل الآن بعد الانتقال عبر الفضاء هو القبو الذي يرقد فيه الفراعنة الذين شيّدوا أقباءهم المحصّنة. هذا القبوُ 'محصّنٌ' بكلّ ما يمرّ به السحرة من اختبارات قبل أن يصلوا إليه.
وبالطبع، كما قال باسل للجنرال رعد قبل أن يدخل إلى القبو المحصّن، يمكن وصف القبو المحصّن كقبر أيضا. بالأحرى، لقد كان باسل يقف حاليا أمام قبر الأميرة الفرعونيّة.
كان باسل في غرفة مظلمة بدون أيّ مصدر للضوء، لكنّه استطاع رؤية كلّ شيء بعينيه الروحيّتين بدون أن يستخدم البصيرة الحكيمة السحيقة حتّى.
كانت هناك نقوش ورسومات لأشخاص يحملون رماحا وسيوفا ودروعا وأقواسا ومختلف أنواع الأسلحة. كان هناك عدد كبير منهم حتّى أنّ العدد المهول منهم نُقِش ورُسِم على شكل سواد عظيم في بعض من الأجزاء. كان هناك أشخاص يرقصون وآخرون يحتفلون ويأكلون. كلّ هذا أحاط برسمة منقوشة في وسط الحائط المقابل لوجهة نظر باسل.
كانت تلك الرسمة عبارة عن قصر ذهبيّ كبير كالجبل، وفوقه كانت هناك رموز متنوّعة. كانت الرموز عبارة عن حيوانات أو أعضاء جسديّة وأشياء أخرى. بدت غريبة ولم يُفهم محتواها من النظرة الأولى، لكنّ باسل علم تماما عن ماهيّتها. لقد كانت تلك هي كتابة لغة الفراعنة.
"الأميرة الفرعونيّة الأخيرة."
[يبدو أنّه ليس عليّ ان أتفاجأ لأنّك تعلم عن لغتنا وكتابتنا أيضا.]
"لا مانع لديّ أن نتكلّم بلغتك لو أردتِ. لا، لنستخدمها عندما نكون لوحدنا. إنّها لغة جميلة."
لقد كان باسل يعلم أنّ لغة الفراعنة استخدمت هذه الرموز من مختلف الأشياء في العالم لأنّهم أحبّوا ربط الأشياء ببعضها ومنح معنى للأشياء. استخدموا رموزا من العالم لوصف العالم. لقد كانوا فضوليّين حول العالم أكثر من أيّ قوم آخر.
ردّ باسل على كلام الأميرة الفرعونيّة بلغتها الخاصّة في الواقع وليس بلغة العالم الواهن الموحّدة. جعل هذا الأمر الأميرة تشعر بالحنين حقّا. استرجعت بعضا من الذكريات من الكوخ المخفيّ الذي كبرت فيه مع جدّها. لقد كانت تلك أسعد أوقات حياتها، لكن أحزنها أيضا.
[شكرا لك على لطفك.]
غيّر باسل وجهة نظره من الرسمة المنقوشة إلى الأسفل قليلا. كان هناك بالجزء السفليّ من الحائط تابوت حجريّ على شكل إنسان منحوت بطريقة فنّيّة.
"لربّما قد أحتاج يوما ما أن أتعلّم تقنيّات تحنيط الفراعنة أيضا، فما رأيك أن تعلّميني كيف أصير مومياء عندما يحين ذلك الوقت."
[يبدو أن ذوقك في المزاح مظلِم، لكن دعني أسأل، هل هذا شرط آخر في العهد الذهنيّ الروحيّ؟]
تردّد صوت الأميرة في هذه الغرفة المظلمة عندما تحدّثت.
"لا، مجرّد طلب بسيط."
بسيط؟ لقد كانت عمليّة التحنيط سرّا لم يعلم خباياه إلّا قلّة مختارة غير الفراعنة بأنفسهم. لقد كانت عمليّة التحنيط جزءا لا يتجزّأ من القبو المحصّن ككلّ، لذا كان الأمر كما لو أنّ باسل يسأل عن جزء من سرّ القبو المحصّن.
[إذن سأقرّر عندما يحين ذلك الوقت.]
إن لم يكن واجبا عليها، فإنّها لن تقبل بكلّ بساطة. لقد كانت الأقباء المحصّنة وكلّ ما يتعلّق بها إرثا لا يمكن مشاركته مع أيّ كان. لقد كانت آخر أميرة فرعونيّة، وربّما آخر شخص فرعونيّ ما يزال يعاصر ولو بهذا الشكل، مدفونةً في هذا القبر، ليست حيّة وليست ميّتة. ولهذا، كانت المسؤوليّة على عاتقها كبيرة بشكل لا يُتخيّل.
"لا بأس. حسنا، لمَ لا نبدأ؟"
[سأعهد بذهني وروحي أن أوفي كلّ الشروط التي عرضتها عليّ، لكن ما الذي ستعهد لي به؟]
لم تكن تعلم حتّى الآن كم سيمحنها باسل من تمر الحياة الجديدة، لكنّه سيكون كافيا لجعلها تعود إلى العالم لعشرة آلاف سنة أو أكثر من خمسة آلاف سنة على الأقلّ بما أنّه اشترط أن تحمي العالم الواهن لخمسة آلاف سنة، صحيح؟
"في الواقع، لا أعلم بالضبط كم يجب أن أمنحك. إلّم أعلم أنا فلا أظنّ أنّ أيّ أحد سيعلم أيضا إلّا إذا كان سلطانا أصليّا على الأقلّ."
لم يقل باسل أنّه الأكثر معرفة عن فراغ. لقد كان هذا بسبب ما اكتسبه من معرفة عن طريق نيّة الوحش النائم. لقد صارت تلك النيّة التي كانت في 'حياة' جزءا من باسل عندما اكتسب هذا الأخير قدراته الجسديّة الحاليّة.
وبالطبع، حتّى بالحكمة السياديّة لم يكن ليستطيع باسل تحليل التمر. ليس لأنّ الحكمة السياديّة ضعيفة، بل لأنّ مستوى باسل السحريّ والروحيّ ضعيف. لقد كانت درجات (قدرات) الحكمة السياديّة تنمو مع صاحبها.
في المقابل، لم تسأل الأميرة عن المعمول، لأنّها علمت أنّ باسل سيكمل كلامه ويعرض الحلّ.
"ولهذا، سأمنحك ربع تمرة."
[ربع تمرة؟!]
"نعم. هكذا سأكون متأكّدا أنك ستحصلين على ما تريدين بدون شكّ، وأظنّ أنّه يمكنك تحمّل ربع تمرة."
لقد كان تمر الحياة الجديدة قويّا للغاية، لذا أبسط كمّيّة منه كانت تحمل طاقة هائلة وقّوة حياة فائقة، فما بالك بربع تمرة؟ فقط رائحة هذا التمر ساهمت بشكل كبير في إنتاج 'حبّة الولادة الجديدة السحريّة' التي جعلت سحرة مستويات الربط يتخطّون مستويات.
بالطبع، لم يمكن استهلاك التمر جزء بعد جزء، لأنّ ذلك له عواقب وخيمة. فقط الإكسيرات كانت لها آثار جانبيّة كبيرة عند استهلاكها بشكل متتابع، فما بالك بتمر ليس من العوالم الروحيّة؟ ولهذا، لم يمكن منحها جزء صغير حتّى يرى النتيجة ثمّ يزيدها جزء آخر بعد ذلك إن كان الجزء الأوّل غير كافٍ.
ذلك من جهة، ومن جهة أخرى، كان من الأفضل استهلاك جزء كبير مرّة واحدة بدل استهلاك أجزاء منه بفترات متباعدة قد تصل لمئات أو آلاف السنين. كلّما كانت قطعة التمرة أكبر، تضاعفت النتائج.
[لن أنسى معروفك هذا أبدا، أبدا، أبدا يا سيّدي!]
لقد كانت الأسطورة تقول أنّ تمرة حياةٍ جديدة تمنح عمر سلطان روحيّ، وبالطبع، كانت هذه مجرّد أسطورة، لكن يمكن استخلاص قيمة تمر الحياة الجديدة منها.
لقد كانت الأميرة ممتنّة بصدق. لقد شعرت بالطاقة المرعبة والهائلة التي حملتها التمرات السبعة التي كانت في ذلك الصحن. لقد كانت متيقّنة أنّ ربع تمرة واحدة منها سيكون أكثر من كافٍ لتكتسب عشرة آلاف سنة على الأغلب.
لقد كانت متحمّسة للغاية. لربّما ستكون هناك فرصة على الأقلّ لتحقيق أمنيّتها وأمنيّة عائلتها وسلالتها وحضارتها.
"سأعدك أيضا ألّا أؤذيك بما أنّك ستعدينني ألّا تعاديني بأيّ شكل من الأشكال."
[ماذا؟!]
لقد كانت هناك مفاجأة تلو الأخرى. بعد كلّ ما سبّبه هذا الساحر الشابّ من مفاجآت وصدمات، ما زال يُدهِشها ويصدمها أكثر. هل حقّا يعرض عليها مثل هذه الصفقة؟ كيف له أن...؟
فهم باسل سبب تعجّبها، فردّ: "حماية هذا العالم تهمّني، وإيجاد أحبابي يهمّني أكثر. إنّ كلّ شيء بلا معنى بالنسبة لي إلّم يكن هناك أشخاص أشارك معهم ما لديّ وما لديهم في عالم يمكنني أن أناديه بالوطن."
لقد كان هذا نبيلا للغاية. هذا ما شعرت به الأميرة.
[سأكون في رعايتك يا سيّدي.]
أومأ باسل فقط وانتظر.
تحرّك التابوت، فارتفع من الأرض ووقف شامخا. الآن، كلّ ما بقي هو أن يُفتح، لذا انتظر باسل باهتمام. لقد كان كلّ شيء يحصل حتّى الآن مثيرا للاهتمام بالفعل، لذا لم يضيّع أيّ ثانية أو زاوية بينما يحلّل كلّ شيء.
انتظَرَ...
ثمّ انتظَرَ...
لكن...
"ماذا هناك؟ لماذا لم تخرجي بعد؟"
[الـ-الأمر وما فيه...]
قال باسل مستهترا، قاصدا المزاح: "لا يمكن أنّك خجولة الآن."
لقد كان يظنّ أنّ هناك مشكلة بسيطة أو تحتاج لبعض من الوقت حتّى تنتهي من شيء ما.
لكن لم يتلقّ أيّ إجابة...
لقد كان يقال أنّ السكوت علامة الرضا.
"لا تخبريني...؟ إنّك حقّا خجولة؟"
[لـ-لـ-لست كذلك... أ-أنا فقط لم أقابل أيّ أحد مباشرة منذ مدّة طويلة.]
'إنّها خجولة.'
تنهد باسل ثمّ جلس على الأرض. هزّ رأسه متحسّرا ثمّ قال: "سأتدبّر هنا ريثما تشعرين بالرغبة في الخروج."
لقد كانت دروس معلّمه عن النساء محفورة في قلبه وأنحاء جسده، لذا تعامل باسل مع الوضع باتّخاذ حال الأميرة في الاعتبار وليس بتحجّر. لقد عاهد نفسه مرارا أن يعيش بشكل كان معلّمه ليفخر به، وهذا ليس باستثناء، حتّى لو كان مستعجلا.
***
مرّت بضع دقائق، ولم تخرج الأميرة الفرعونيّة من تابوتها. بالأحرى، شعر باسل أنّها بدأت تراقبه بدل أن تخرج.
"هل تجدينني مثيرا للاهتمام؟"
لقد كان باسل يتدبّر، لكنّه استخدم انقسام الوعي من أجل التدبّر والتحدّث مع الأميرة في نفس الوقت.
لم يعنِ باسل شيئا بهذا الكلام سوى أنّه كان ساحرا روحيّا غريبا وفريدا، لكنّ الأميرة الفرعونيّة، ربّما بسبب خجلها ووضعها الحاليّ، ظنّت أنّه كان يقصد اهتمامها فيه كاهتمام امرأة في رجل.
بالطبع، لم يسمح باسل لسوء الفهم هذا أن يطول: "لربّما قد أخبرك ذات يوم، من يعلم؟ أو ربّما ستكتشفين هذا في نهاية المطاف على أيّ حال."
ظلّت الأميرة صامتة، لكن يبدو أن إصلاح سوء الفهم ذاك لم يُعدها لحالتها السابقة فقط، بل حتّى أنّه خفّف من خجلها نوعا ما. لقد صارت مستعدّة أكثر للخروج.
لم يزد باسل شيئا عن كلامه ذاك. قبل أن يعود للتدبّر بوعيه كاملا، أخرج حجرا روحيّا. يبدو أنّه كان وقتا مثاليّا لاستهلاك أحد الأحجار الروحيّة التي اكتسبها في طريقه إلى هنا.
وضع الحجر على يديه اللتين وضعهما في مركز جسده بينما يجلس متربّعا. لقد كان عليه استشعار الطاقة الموجودة في الحجر الروحيّ واستخلاصها بأكبر سرعة ممكنة ثمّ ينقّي الشوائب قبل أن يدمج الطاقة التي امتصّها مع روحه حتّى يرفع من مستواه الروحيّ.
في اليوم الذي قُطِعت فيه طاقة العالم عن باسل، علم هذا الأخير أنّ أمله الأخير هو الأحجار الروحيّة. لقد كان يتمنّى ألّا تكون حتّى الأحجار ممنوعة عليه أيضا. ولحسن الحظّ أو يجب القول أنّ هذا كان منطقيّا، لم تكن أحجار الأصل الروحيّة ممنوعة عليه.
أيّ طاقة تحوم في الجوّ أو البرّ أو البحر، أيّ طاقة تقطن العالم كان ممنوعة على باسل، لكنّ الطاقة التي كانت في الأحجار الروحيّة كانت مختلفة. لو قورن العالم بشجرة، فطاقة الشجرة (العالم) كانت ممنوعة، لكن طاقة فواكه الشجرة (الأحجار) التي يمكن قطفها كان مسموحا بها.
كانت الأحجار الروحيّة تمرّ عبر عمليّة التنقيّة من طرف الكيميائيّين أيضا، لذا لم يكن من الغريب أن يتوصّل باسل إلى هذا الاستنتاج. والآن، كان يختبر الأمر بنفسه.
شعر بالراحة نوعا ما، كما لو كان يأكل شيئا طيّبا، أو بالأحرى، كما لو كان يشرب الماء بعد ظمأ شديد. يمكن وصف شعوره أيضا بشعور المدمن، إذ افتقد إلى امتصاص الطاقة من العالم، فعوّض ذلك بامتصاص الطاقة من هذه الأحجار التي احتوت على طاقة روحيّة مركّزة تعادل أيّاما أو حتّى شهورا، حسب درجة نقاوة الحجر، من امتصاص طاقة العالم.
كان باسل يملك بضعة أحجار أصل روحيّة بـ70٪، ولهذا شابه هذا الأمر امتصاصه طاقة العالم لأسابيع. لم يكن عليه تحويل كلّ هذه الطاقة إلى طاقة روحيّة لأنّها أصلا روحيّة، لكن وجب عليه في المقابل إزالة الشوائب.
لقد فرح باسل عندما ربح تلك الأحجار بصراحة وخصوصا عندما علم أنّها نقيّة بـ70٪. لقد كان فرحا الآن أكثر بعدما اختبر جودتها. تنفّس الصعداء بعدما انتهى من الحجر الأوّل، والذي أخذ منه بضعة دقائق.
كان عليه التدبّر الآن لمعالجة ودمج الطاقة التي امتصّها، لكنّه لم يفعل ذلك. لقد كان من المستحسن فعل هذا، وأغلب السحرة اتّبعوا هذا المنهج. كان السبب بسيطا، لقد كان دمج ومعالجة طاقة قليلة أسهل وأبسط بكثير من فعل نفس الشيء بكميّة كبيرة.
هذا لم ينطبق على الحكيم السياديّ.
بعدما انتهى باسل من الحجر الأوّل، فتح عينيه ثمّ أخرج باقي الأحجار. عاد للتدبّر ليمتصّ طاقة الحجر الثاني. انتهى منه ثمّ مرّ إلى الثالث، فانتهى منه وشرع في الرابع.
استمرّ على ذلك الحال حتّى وصل إلى الحادي عشر، فتوقّف أخيرا. لقد وصل إلى حدوده، وكان عليه حقّا معاجلة ودمج كلّ الطاقة التي امتصّها بروحه قبل أن تنفجر هناك لعدم استقرارها.
لقد كانت هذه العمليّة تأخذ حتّى بضع ساعات من بعض السحرة، وهذا عندما نتحدّث عن حجر واحد من نفس جودة الأحجار التي امتصّ باسل طاقتها، لكنّ الحكمة السياديّة جعلت من الساعات دقائق.
وفي غضون نصف ساعة، كان باسل قد انتهى من معالجة ودمج الطاقة بروحه كلّيّا. شعر أنّ مستواه ارتفع بنسبة ضئيلة جدّا يكاد يستحيل ملاحظتها، فاتّسعت 'أرضه الواسعة'. كان هذا الاختلاف الضئيل مهمّا لباسل. لا يهمّ إن تطلّب منه الأمر تكرار هذه العمليّة عشرات آلاف المرّات حتّى، فهو سيفعلها.
لم يكن بإمكانه استهلاك قدر أكبر من الأحجار بسبب تعب روحه الآن، لذا كان عليه أن يرتاح.
فتح باسل عينيه، وما أن فعل اهتزّ التابوت وبدأ يُفتح. فعّل باسل البصيرة الحكيمة السحيقة بأقصى درجاتها وراقب بعينيه المتوهّجتين بنجوم كما يتوهّج الليل بمصابيح السماء.
ما ظهر بعدما فُتح التابوت كلّيّا كان بالطبع مومياء محنّطة. نظر باسل إلى المومياء باهتمام كبير وأومأ برأسه عدّة مرّات، فجعل هذا الأمر الأميرة تتوتّر أكثر: "هل أبدو غريبة؟"
ردّ باسل بسرعة: "نعم، غريبة للغاية."
صُعِقت الأميرة من كلام باسل، لكنّها عادت لرشدها بسرعة بعدما أضاف باسل: "غريبة ومدهشة ومذهلة. يا له من جمال!"
"جـ-جـ-جـ-جمال؟!"
"نعم. هذا جميل. إنّه عمل فنّيّ لا مثيل له. الآن أعلم لمَ يُعدّ الفراعنة الأفضل في هذا المجال. إنّ اهتمامي في عمليّة تحنيطكم زاد أكثر."
"آه... التحنيط... نعم، التحنيط جميل."
كانت الأميرة مشوّشة. لم يسبق لها أن فكّرت في عمليّة التحنيط بهذه الطريقة؛ لقد كانت مذهلة، لكن جميلة؟ أيّ مخبول سيقول هذا؟
بالطبع كان هذا جميلا بالنسبة لأعين باسل التي حلّلت التقنيّات والأسرار التي تراكمت وسُخِّرت لتنتج مثل هذا التحنيط المذهل، والذي كانت له القدرة على الحفاظ على شعلة حياة الفراعنة لعصور حتّى لو كانوا على مشرف الموت قبل التحنيط.
"حسنا، لن تجعلينني أنتظر أكثر، أليس كذلك؟"
"أيمكنك الالتفات للحظة حتّى أنتهي؟"
لقد كان طلب الأميرة الفرعونيّة معقولا، وظنّت أنّ باسل سيقبل ببساطة. أيّ رجل سيرفض أن يترك امرأة تغيّر ملابسها في راحتها؟ نعم، كان هذا مثل تغيير الملابس بالنسبة للأميرة.
لكن...
"كلّا!"
"إيه؟"
"لا أريد. أودّ ملاحظة كلّ شيء. لن أفوّت فرصة استثنائيّة كهذه. كيف لشخص مثلي أن يغفل عن فرصة لمراقبة مصدر الجمال؟"
"أ-أ-أيـ-أيّها المنحرف!"
"ها؟ منحرف؟ قد أكون منحرفا في عينيك لأنّك معتادة على ذلك الجمال، لكن هذه أوّل مرّة لي، فلا تحكمي عليّ من موقفك، بل ضعي نفسك في مكاني."
"من يريد أن يكون في مكانك يا منحرف!"
تنهّد باسل ثمّ قال: "حسنا، حسنا. أنا منحرف. والآن، اسرعي."
لم يعد يهتمّ بما تقوله الأميرة. لقد كان يريد أن يرى كيف سيتفكّك التحنيط، حتّى يفهم قليلا كيف يُركّب.
"أ-أ-أنت...!"
"نعم، نعم."
"إن كنت تريدين ربع تمرة حياة، فأسرعي."
شعرت الأميرة بالإحراج، لكنّها لم تملك خيارا آخر. لقد كان عليها فعل ما كان باسل يريده، فهو من يملك اليد العليا على أيّ حال، وليس كما لو أنّه يمكنها الانتظار هنا حتّى يقبل باسل بشروطها. لقد كان وقتها محدودا للغاية.
شهقت كما لو أنّها حبست بكاءها، لكنّ باسل ظنّ أنّها كانت تستعدّ فقط لإزالة التحنيط.
"أيّا يكن..."
سرعان ما توهّجت الشرائط التي كانت تحيط الأميرة وارتخت وبدأت تتساقط على الأرض، بينما يظهر جسد الأميرة شيئا فشيئا. لقد كان جسدها متوهّجا أيضا، لكنّه كان جافّا نوعا ما، فكانت هناك بعض الشقوق في أنحاء جسدها كما لو كانت حجرا سيفتّت لو لمسته.
وبالطبع، هذا لم يخفي جمالها. لقد كانت سمراء اللون، بعينين أرجوانيّتين، وشعر أسود طويل نصفه منشور على الأرض. كلّ ما كانت ترتديه هو تاج ذهبيّ يمتدّ على جبهتها ويعمل عمل دبّوس شعر في نفس الوقت، إلّا أنّ دبّوس الشعر كان مرتخيا بسبب الشعر الطويل.
آه... لقد كانت عارية بالمناسبة.
غطّت مناطقها الخاصّة بذراعيها، لكنّها كانت في قمّة الخجل والحرج. لقد فعلت كلّ هذا لأنّها لم تملك خيارا آخر.
"كما توقّعت. إنّ هذا خلّاب."
واصل باسل النظر إلى الشرائط التي سقطت على الأرض واختفت بعد ثوانٍ كغبار هبّته الرياح.
"هل أنت راضٍ الآن؟ بعدما جعلتني أمرّ بهذا؟"
"ها؟"
غيّر باسل وجهة نظره إلى الأميرة، فاستوعب أخيرا أنّها كانت عارية. لقد كان منتبها للشرائط كثيرا ولم يلاحظ أنّ الأميرة كانت عارية، لكن...
"آه، لهذا كنت معارِضة؟ لمَ لمْ تقولي هذا منذ البداية فقط؟"
ما ردّة الفعل هذه؟ كيف له أن يكون مسترخيا وهادئا هكذا بعدما رآها عارية؟
لاحظ باسل تعبير الأميرة المحبط، فظنّ أنّها كانت تكره هذا الوضع، لذا قال ما كان في قلبه: "لا تقلقي، ليس هناك إلّا امرأة واحدة في قلبي، ولست مهتمّا في أجساد الأطفال على أيّ حال."
صحيح. لقد كان جسد الأميرة الفرعونيّة صغيرا، وبدت في نفس عمر صفاء في الواقع، مجرّد فتاة في الثانيّة عشر من عمرها.
"هل لديك ما تغطّين نفسك به؟"
أحكمت الأميرة قبضتها وبدأت تتمتم بشيء ما. كانت قبضتها تهتزّ وأرادت استخدامها حقّا، لكنّها لم تملك الوقت ولا الطاقة لفعل ذلك، وليس كما لو أنّها ستستطيع ضرب الشخص الذي سيعطيها تمر الحياة الجديدة أصلا.
لقد مرّت بإهانات متعدّدة، لكنّها احتوت غضبها وأخرجت فستانا أبيضَ ثمّ غطّت نفسها به.
نظرت إلى باسل شزرًا ثمّ قالت: "منحرف."
لقد كان عليها أن تقول هذا على الأقلّ.
تنهّد باسل. لقد كان حقّا يحمد ربّه لأنّ أنمار لم تكن هنا وليس هناك طريقة لتعلم بها عمّا حصل.
"على أيّ حال،" غيّر الموضوع: "لنبدأ العهد الذهنيّ الروحيّ."
لقد كان واضحا أنّ الوضع كان محرجا، وأن باسل يحاول تغيير الموضوع، لكنّهما بالفعل احتاجا أن يبدآ العهد.
'انتظر حتّى ترى جسدي الحقيقيّ.'
أغمضت الأميرة عينيها بينما تفكّر في ذلك واستجابت لطلب باسل.
جلس الاثنان متربّعين متقابلين، ثمّ شرعا في عقد الصفقة.
كانت شروط باسل سهلة للغاية في الواقع مقارنة بما كان سيمنحه للأميرة، حتّى أنّه وعدها ألّا يؤذيها كما ستعده بنفس الشيء. لقد كان يمكنه ألّا يعدها بهذا. كان يمكنه أن يستغلّ الأميرة وعندما يأتي وقت لا تريد الأميرة تقديم المساعدة فيه، يتخلّص منها فقط، لكنّ باسل لم يفعل هذا.
لماذا؟ هل لأنّه شخص جيّد ولطيف؟
لا!
لقد كان لباسل مخطّطات وحسابات أخرى.
ألم يكن يملك روحين؟
ماذا سيحدث إذن إذا عقد العهد بروح واحدة فقط؟
كانت هذه هي خطّة باسل. سيكسب ثقة الأميرة الفرعونيّة بعرضه المغريّ، وبالطبع، سيكون صادقا معها، لكنّه لم يكن بليدا أو ساذجا لتلك الدرجة. إنّه لا يعلم عن هذه الأميرة شيئا بصراحة، ولهذا كان يجب أن يكون لديه ضمان من نوع ما.
أفضل ضمان كان لدى باسل هو روحيه حاليّا.
حتّى لو عقد العهد بروح، كان باسل واثقا أنّه سيمكنه التلاعب بذلك بطريقة ما بروحه الأخرى ولو كانت هناك عواقب وخيمة. هكذا، حتّى لو تعقّدت الأمور في المستقبل ولم تمرّ الأمور على خير، فستكون هناك وسيلة لقلب المجرى لصالحه. هل كان خبيثا؟ كلّا! لقد كان حكيما.
انتهى الاثنان من العهد الذهنيّ الروحيّ، فأخرج باسل الصحن الخشبيّ ثمّ فتح الخرقة قليلا وقطع ربعا من إحدى التمرات السبع. لقد كان احتواء طاقة تمر الحياة الجديدة صعبا للغاية بينما يقطع ربع تمرة. لقد فعل باسل كلّ ما في وسعه حتّى لا يضيع أيّ رائحة أو هالة وما أن انتهى أغلق الصحن بالخرقة بسرعة كبيرة، فانقطعت رائحة التمر وهالته تماما.
نظرت الأميرة الصغيرة إلى التمر بعينين متوهّجتين من شدّة الحماس والتطلّع. شفطت ما استطاعت من الطاقة المتسرّبة فشعرت بحيويّة لا مثيل لها، حتّى أنّ قوّة حياتها تأثّرت.
وضع باسل بعد ذلك ربع التمرة في كفّها الذي كان ممدودا طوال الوقت، فإذا بها تبلع ريقها وتقرّب كفّها من فمها بينما تهتزّ ذراعها بشكل عنيف. لقد كانت هذه اللحظة مذهلة ومرعبة، لقد كانت لحظة مصيريّة.
وضعت ربع التمرة في فمها، فكادت تفقد وعيها، ليس بسبب المذاق الذي لم يكن له مثيل، وإنّما بسبب الطاقة التي مرّت عبر أعصابها وجسدها كلّه، هذا بالرغم من أنّها لم تبلع ربع التمرة بعد.
أغلقت عينيها ثمّ بعلت ربع التمرة، فإذا بها تطفو بعد ذلك مباشرة في الهواء، بينما يسطع ضوء يعمي الأعين من عينيها وفمها وكلّ جزء من جسدها في نهاية المطاف. بعد مرور مدّة طويلة بدأ جسدها يتفتّت. لقد كانت أصلا جافّة، لكن لم يبدُ أنّها كانت تتفتّت لذلك السبب، بل العكس.
لقد كان يُعاد تركيب جسدها، وليس جسدها فقط، بل حتّى روحها وطاقتها. كلّ شيء كل يتجدّد.
استمرّ هذا لدقائق، لكنّه لم يتوقّف. انتظر باسل ساعة، لكنّه انتظر ساعة أخرى أيضا. ومع ذلك، تطلّب الأمر أكثر من عشر ساعات في نهاية المطاف.
لم يغفل باسل أيّ لحظة من تلك الساعات العشر قطّ. لقد درس وحلّل كلّ شيء. والآن، علم عن قدرة تمر الحياة الجديدة المرعبة بالضبط.
لقد كانت الأميرة الفرعونيّة تبدو كالجثّة قبل نصف يوم، لكنّها صارت الآن تملك قوّة حياة كالتي يملكها أيّ روحانيّ مبارك. ببساطة، لقد كسبت الأميرة الفرعونيّة عمرها الذي فقدته من قبل.
نظر باسل إلى الأميرة التي نزلت إلى الأرض ببطء، ثمّ سأل عن شيء كان مهتمّا فيه: "كم كان عمرك قبل أن تنامي؟"
لقد كان سؤالا لا تحبّه النساء عامّة، لكنّ الأميرة كانت قد بدأت تفهم باسل بالفعل، فعلمت عن نواياه.
"كنت قد تجاوزت أربعمئة سنة؟"
فتح باسل عينيه على مصراعيهما. أربعمئة سنة؟ ومع ذلك كانت روحانيّة مباركة؟ لقد كان هذا هو نفس مستوى إبلاس الروحيّ بالمناسبة.
حقّقت المستوى الخامس من المستويات الروحيّة في أربعمئة سنة فقط؟
لقد علم باسل بالفعل أنّ هذه الأميرة روحانيّة مباركة لأنّ القبو المحصّن كان به خمسة طوابق. ما ام يعلمه هو أنّها حقّقت ذلك المستوى في أربعمئة سنة فقط.
"إن الفراعنة مذهلون حقّا!"
أومأت الأميرة برأسها ورفعته مفتخرة، لكنّ افتخارها ذاك توقّف تماما عندما سأل باسل شيئا آخر: "إذن لماذا تملكين جسد فتاة صغيرة؟ هل أنت ملعونة؟ أو لم تشربي الحليب كفاية؟ أم ربّما غيّرت مظهرك عن عمد بسبب عقدتك من سنّك؟"
"أنت...!"
"لا، في الواقع، لا داعٍ للإجابة. كلّ منّا وظروفه الخاصّة."
لو أنّها لم تعد ألّا تؤذيه أبدا لكانت قد صفعته بالفعل الآن. لا يهمّ إن كان هو الشخص الذي أنقذها أم لا. لو قال هذا قبل العهد، للكمته ولو عنى هذا أنّه سيرفض مساعدتها. لقد كانت أميرة فرعونيّة فخورة لتلك الدرجة.
بالطبع، كان باسل يغيظها عن عمد فقط. لقد كان يملك فكرة عن سبب كون جسدها كذلك نوعا ما.
"لمَ لا نتحدّث قليلا؟"
"عمّاذا؟"
"أريد أن أعلم كيف وصل بك الأمر إلى هذا الحال. لم أتيتِ إلى العالم الواهن أصلا."
"ذلك..."
لقد كان باسل يعلم نوعا ما بالفعل، لكنّه سأل على أيّ حال. لقد كان يريد أن يرى الصورة الكاملة.
أجابت الأميرة بعدما توقّفت لتفكّر لقليل من الوقت.
"حتّى أنتقم."
***
قطب باسل بعد تصريح الأميرة الفرعونيّة. ما الذي يمكن أن تنتقم منه روحانيّة مباركة أصلها من سلالة عريقة أسطوريّة في العالم الواهن؟ لقد كان الجواب مشكوكا فيه للأذكياء، لكنّه كان جليّا للحكماء، أمّا للحكيم السياديّ، لباسل، فقد كان جواب السؤال حتميّا.
"ألذلك علاقة بالعالم الثانويّ الموجود في عمق هذه القارّة؟"
عبست الأميرة الفرعونيّة بعدما سمعت كلام باسل بشدّة. لقد كانت متفاجئة للغاية. هل يجب أن تكون متفاجئة من أنّ باسل يعلم عن هذا أيضا، أم يجب أن تكون متفاجئة أنّه ما زال يفاجئها؟
"كـ-كيف تعلم عن هذا؟"
"إذن الأمر كذلك. لقد قلتِ أنّك أتيت إلى هنا حتّى تنتقمين، لكن ممّاذا؟"
لم تتكلّم الأميرة الفرعونيّة لوقت طويل. لقد كانت تسترجع الذكريات المريرة، منذ أن كانت مجرّد **** صغيرة حتّى دخلت في سبات. منذ أن قُتِل والديها اللذين لا تتذكّرهما، وعاشت مع جدّها بينما تتدرّب معه ليل نهار، وقاتلت الوحوش والبشر ومختلف الأجناس من أجل أن تبني عالمها وتحقّق أهدافها، إلى أن قُدِّر لها أن تأتي إلى العالم الواهن بعدما وجدت دليلا أخيرا يؤدّي إلى الكارثة التي حلّت بحضارتها في قديم الزمان.
"جئت حتّى أحقّق هدف سلالتي؛ جئت لأنتقم ممّا ددممّر حضارتنا."
قالت الأميرة تلك الكلمات بصعوبة بعدما استطاعت العودة إلى الحاضر ووضْع ذكرياتها جانبا للوقت الحالي.
أومأ باسل برأسه. لقد كانت العُقد تُحلّ والحبكة تُشبك.
"هل يمكن أنّكِ لا تعلمين ما ددممّر حضارتكم؟"
"صحيح. لقد بحثت طيلة حياتي، لكنّني بالكاد وجدت دليلا يشير إلى العالم الواهن. لقد كان إيجادي للدليل مجرّد صدفة بالرغم من جهودي، لكنّها كانت صدفة حتميّة عندما أسترجع الأحداث الآن."
تصنّت باسل إلى كلام الأميرة: "لقد وجدتُ قبوا محصّنا لأحد أسلافي، لكنّه كان مدمّرا بالفعل. استطعت أن أدخل بعد ذلك إلى بعد مصغّر يمكنك وصفه بالغرفة السرّيّة في القبو المحصّن. هناك، وجدت توثيقات من سلفي عن وجود أثر لتماثيل عملاقة قيل أنّها استُخدِمت كأحد الأسلحة لهدم حضارتنا."
فهم باسل واستنتج ما حصل بعد ذلك، لكنّه ترك الأميرة تكمل كلامها بما أنّها كانت منغمسة، حتّى أنّها أحكمت قبضتيها وصرّت على أسنانها: "استطعت إيجاد العالم الثانويّ الذي ذكرته، لكنّ تلك التماثيل اللعينة... فقط لو استطعت إلقاء نظرة على ما كان بداخل ذلك العالم الثانويّ على الأقلّ... لولا التماثيل اللعينة..."
كرّرت الأميرة الجملة الأخيرة مرارا بعد ذلك كما لو أنّها تردّد تعويذة ما، لكنّ انتباهها جُذِب بعدما طرح باسل سؤالا آخر: "هل تحدّثتِ مع نيّة ساميّة قبل أن تردعك التماثيل؟"
"أمم...؟ نعم. لقد كانت حقّا مغرورة لكن لم يبدُ أنّ تكبّرها كان من فراغ، فبعد كلّ شيء، لقد كانت تتحكّم في تلك التماثيل التي استُخدِمت لهدم حضارتنا."
مدّ باسل كفّه فسطع ضوء وبدأ يتشكّل حتّى اتّخذ هيئة رمح.
"أيّها الشقيّ اللعين... لقد حجزتني لأيّام! حتّى أنّك قمعتني بداخل روحك. كيف تجرؤ؟ ستدفع ثمن هذا غاليـ..."
"ذلك لأنّك أهنت معلّمي. يجب أن تكون قد تعلّمت درسك الآن."
استرجع الرمح الطاغيّة الأحداث...
(ها؟ بالطبع كان هناك أشخاص عدّة. عظمتي جذبتهم إليّ كما يجذب النور البعوض، لكن كيف لي أن أتذكّر كلّ بعوضة على حدة؟ حتّى معلّمك كان واحدا منهم. هل أنت غبيّ؟ هيّا، هيّا، أخبرني، هل أنت أبله؟ كيف لشخص عظيم مثلي أن يهتمّ بكلّ بعوضة على حدة؟)
تذكّر الرمح الطاغيّة ما قاله قبل أن يجدوا القبو المحصّن. لقد وصف معلّم باسل بالبعوضة بشكل غير مباشر.
بالطبع، لم يهتمّ الرمح الطاغيّة بهذا وأصرّ على رأيه: "لا تمزح معي يا أيّها التافه اللعين. كلّ مخلوق مجرّد بعوضة في نظري، فكيف لبعوضة مثلك أن تتجرّأ على معاتبتي، آآآه؟"
أحكم باسل قبضته التي كانت يمدّها، فبدأ الرمح الطاغيّة يسطع. لقد كان باسل يحاول إعادته إلى روحه. بعدما أمضى باسل وقتا كافيّا مع الرمح الطاغيّة، اكتشف أنّ هذه كانت هي أكثر طريقة فعّالة مع الرمح. كان الرمح يكره أن يظلّ محتجزا في روح باسل أكثر من أيّ شيء آخر."
"ا-انتظر! انتظر لحظة..."
توقّف باسل: "ماذا هناك؟ هل غيّرت رأيك؟"
ردّ الرمح: "همف! حسنا، حسنا، إنّه ليس بعوضة، إنّه صرصور."
نظر باسل إلى الرمح الطاغيّة بعينين ميّتتين، ثمّ شرع في إعادة الرمح إلى روحه.
"انتظر، اللعنة!"
لكنّ باسل لم يتوقّف. لقد كان يعيد الرمح إلى روحه ببطء، كما لو أنّه يستمتع بعذاب الرمح الذهنيّ.
"تبّا! تبّا! تبّا! اللعنة!!! حسنا، لقد فهمت. إنّه مذهل. معلّمك مذهل!"
أومأ باسل برأسه: "يبدو أنّ أحدهم قد تعلّم درس اليوم، لكن دعني أصحّح شيئا. إنّه ليس مذهلا، بل الأفضل."
لو كان للرمح جسدا لتنهّد، لكن بسبب أنّه كان مجرّد رمح، ارتفعت درجة سخونته ثمّ انفجر الدخّان من رأسه. لقد كان غاضبا للغاية.
تمتم الرمح لنفسه بعدما كبح نفسه قدر المستطاع: "إنّه مذهل، مذهل بالنسبة لحشرة."
عبس باسل: "هل قلت شيئا؟"
"قلت أنّني أريد أن أخرج لاصطياد الحشرات."
حدّق باسل إلى الرمح الذي بدا كما لو أنّه التفت ليحاول تجنّب نظر باسل.
صرخ الرمح: "لا داعٍ أن تعير الانتباه للتفاصيل الصغيرة."
تنهّد باسل : 'لا يبدو أنّ إرادته ستنكسر قريبا.'
وفي هذا الوقت، تكلّمت الأميرة التي كانت تشاهد الاثنان يؤدّيان عرضا مضحكا: "الـ-المعذرة... ما هذا؟"
رمح متكلّم؟ هل هذا رمح أسطوريّ بنيّة وإرادة؟ شعرت الأميرة أنّ رأسها سينفجر. كم من سرّ يحمل هذا الشابّ المجنون؟ حتّى بالنسبة لها كسليلة الفراعنة كان رمحا متكلّما شيئا لا يمكنك أن تسمع به حتّى. لقد كانت هناك خرافات فقط أنّ بعض أسلحة السلاطين الأصليّين تستيقظ في مرحلة ما وتكتسب إرادة ونيّة.
"دعيني أقدّم لك هذا الأبله. هذا الأبله هو النيّة التي كانت تسود ذلك العالم الثانويّ."
"إيه؟"
لم تتفاجأ الأميرة بكلام باسل؛ فهي لا تزال لم تفهم ما قصده بعد.
بدأ الرمح يحوم في الأرجاء غير مهتمّ في الأميرة إطلاقا؛ لقد كانت الحشرات الحقيقيّة مثيرة للاهتمام أكثر من هذه الحشرات المزعجة.
"ما كان يتحكّم في تلك التماثيل هو ذلك الرمح المتكلّم؟"
نظرت الأميرة إلى الرمح ثمّ إلى باسل، ثمّ الرمح مرّة أخرى قبل أن تعيد نظرها إلى باسل بسرعة خاطفة بعدما أدركت شيئا. فتحت عينيها بشدّة وتسارعت ضربات قلبها.
"مـ-من أنت؟"
"يبدو أنّ سؤالك عن هويّتي هذه المرّة مختلف عن المرّات السابقة تماما. لا تقلقي، إنّني لست الشخص الذي تريدين الانتقام منه."
تراجعت الأميرة بضع خطوات للوراء وصرخت؛ لقد كانت مصدومة لتلك الدرجة: "إذن كيف...؟"
عبس باسل قليلا: "اهدئي. لقد تعاهدنا ذهنيّا وروحيّا قبل قليل."
بلعت الأميرة ريقها وجمعت شتات نفسها بعدما تذكّرت العهد الذي عقداه. لو كان هذا الشابّ المجنون يكنّ لها أيّ ذرّة من الشرّ لكان قد قضى أمره معها أو خطّط لقتلها بعد استغلالها، لكن ماذا فعل باسل؟ لقد عهد ألّا يؤذيها أبدا كما لن تؤذيه.
لقد كان العهد الذهنيّ الروحيّ أكثر من كافٍ ليجعل الأميرة تعود إلى طبيعتها الهادئة كما لو أنّ شيئا لم يحدث، لكن ظلت هناك اَلحيرة والأسئلة التي كانت تهزّ شفتيها باستمرار.
"فسّر من فضلك."
أومأ باسل: "سأخبرك بالقصّة عامّةً، لكن باختصار، إنّنا نشترك نفس العدوّ."
تنفّست الأميرة بصعوبة. هل بعد عصور ووحدة قاسيّة ستعلم شيئا عن مكان من ددممّر حضارتهم؟ لقد كان هذا الشابّ كالعاصفة، جاء وجعل من هدوئها وسكونها فوضى عارمة. من كان ليتوقّع أنّ هذا الشابّ سيوقظها، وليس ذلك فقط، بل حتّى أنّه سيملك معلومات إضافيّة عن عدوّها اللدود الذي لا تعلم من هو حتّى.
حكى باسل القصّة: "وهكذا سيطرت على ذلك العالم الثانويّ... لا، على ذلك الرمح."
عبست الأميرة. لقد أخفى باسل العديد من النقط المهمّة والمحوريّة. لم يخبرها كيف دخل إلى العالم الثانويّ أو كيف سيطر على الرمح. كلّ ما أخبرها به هو أنّه لسبب ما عدوّ لعدوّها، ولهذا يحاول سرقة ممتلكات ذلك العدوّ ليجرّده من قوّته شيئا فشيئا حتّى يحين الوقت المناسب لقتاله وجها لوجه.
تنهّد باسل: "أعلم أنّك لست مقتنعة بهذه القصّة المبعثرة والتي تنقصها قطع أساسيّة، لكن لدي أشياء لا يمكنني بصقها أينما ذهبت ببساطة. حتّى لو أخبرتك بتلك الأشياء، فهي لن تولد سوى مزيد من الفضول والأسئلة حول أشياء أخرى لا أودّ ذكرها أكثر من أيّ شيء آخر.
كمثال، لا أحد يجب أن يعلم عن علاقته بالوحش النائم، إطلاقا!
تنهّدت الأميرة وابتسمت بوجهها الصغير. لقد بدت كمجرد فتاة صغيرة في هذه الأثناء، ليس لها علم بأيّ شيء، لكنّها قالت شيئا مثيرا للاهتمام: "لا داعٍ أنّ تشغل نفسك إذن. سأكتشف كلّ ذلك مع مرور الوقت."
لقد كانت من سلالة الفراعنة الذين درسوا وحلّلوا كلّ شيء حتّى بلغوا إجابة مرضيّة لفضولهم بعد كلّ شيء.
"نعم، كما أخبرتك، ستكتشفين في نهاية المطاف على أيّ حال. ما يهمّ حاليّا هو العهد الذي بيننا. عندما يحين الوقت، ستعلمين أو سأخبرك."
***
"أووه... لقد وجدتها، هذا لا يُعقل. إنّ نسبة حدوث هذا تصل إلى واحد من المليارات أو ربّما يمكنك قول مستحيل فقط. من كان يتوقّع أنّني سأجد هذه الحشرات مرّة ثانيّة؟"
كان الرمح متحمّسا للغاية، ربّما أكثر من خروجه من العالم الثانويّ الذي ظلّ فيه عصورا، وفي تلك الأثناء، استدعاه باسل فجأة فجُذِب رغما عنه.
"إيه...؟ ا-انتظر... كلّاااااااا! توقّـــــــف! اللعنة!"
بالطبع لم يهتم باسل بترجّي الرمح، لكن الرمح كان مستميتا حتّى أنّه بدأ يصرخ بشكل هيستيريّ: "معلّمك هو الأفضل، أقسم أنّه الأفضل!"
استغرب باسل ممّا كان الرمح يصرخ به بينما يُجذب إليه، لكنّه تجاهل ذلك.
وصل الرمح إلى يد باسل، لكنّه بعد أو وصل سكت تماما وتوقّف صراخه الذي كان كصراخ الموت. هل مات؟
صفع باسل الرمح: "استيقظ يا أبله. هل تريدني أن أعيدك لتنام من شدّة الملل حقّا؟"
لم يقل الرمح شيئا. لقد كان هذا غريبا. أليس من المفترض أن يكون هذا الرمح ثرثارا؟ أين هي جُمَله المعتادة عن عظمته؟
اهتزّ الرمح فجأة، ثمّ بدأ يسخن رأسه مع مرور الوقت، فزندت النار حتّى انفجرت. لم تكن مجرّد دخّان هذه المرّة.
"وااه!"
حتّى باسل كان مندهشا من هذا العرض المذهل. لم يسبق له أن رأى الرمح متحمّسا(؟) هكذا.
[أيّها اللعيــــــــــــــــــــــــــــــــــن!]
تنهّد باسل. لقد كان هذا أعلى صراخ قام به الرمح على الأغلب، لكنّ باسل لم يهتم.
ردّ باسل: "دعني أحزر. هل كانت بعض من الحشرات مرّة أخرى؟"
[بعض؟! بعض تقول؟! لقد كانت نفس الحشرات التي جعلتني أفقد أثرها آخر مرّة يا أيّها اللعين! كيف سأجدها الآن؟! آه؟! لقد ذهب كلّ حظّ حياتي بعدما وجدتها مرّة ثانيّة بهذه السرعة! لن أجدها أبدا، إطلاقا الآن! ستندم على هذا يا أيّها الكلب المسعور!]
هزّ باسل رأسه: "ما هذه المسرحيّة؟ إنّها مجرّد حشرات؛ والعالم يعجّ بها؛ يمكنك إيجادها في وقت لاحق، فلا تبالغ."
ردّ الرمح بنفس صوته الذي اعتاد أن يستخدمه في أيّامه كنيّة ساميّة بالعالم الثانويّ: [أيّها الحشرة الدنيئة...! لو كانت كلّ الحشرات سواءً لاهتممت في مؤخراتك البشريّة أيضا يا حشرة! إنّك لا تعلـ...]
"حسنا، هذا يكفي."
قاطعه باسل ثمّ أعاده إلى روحه: "ارقد هنا حتّى تتعلّم درسك الجديد."
لاحظ باسل أنّ الأميرة الفرعونيّة كانت تنظر بشكل غريب إلى الأرجاء: "ماذا هناك؟"
"أمم؟ آه... فقط، لا أستشعر وجود أيّ حشرة، أو أيّ كائن حيّ في هذه الغرفة أو ما يجاورها إطلاقا."
عبس باسل. إن لم تستشعر الاميرة وجود أيّ كائن حيّ في قبوها المحصّن، فما الذي كان يتحدّث عنه ذلك الأبله؟
تنهّد باسل ثمّ تجاوز الأمر. لقد كان الأبله يتخيّل على الأغلب بسبب رغبته الشديدة في تلك الحشرات اللعينة. ما سبب هوسه بالحشرات على أيّ حال؟
كان الرمح الطاغيّة قد بدأ طقوس إزعاجه في روح باسل، لكنّه سرعان ما أُخرِس وأجبِر على الرقود.
"إنّ علاقتكما... كيف أقولها...؟ مضحكة؟"
كانت الأميرة مبتسمة. لقد كانت مرتاحة نوعا ما أنّ النيّة الساميّة التي حرّكت تلك التماثيل المجنونة تحت سيطرة باسل تماما، وكانت مستمتعة في نفس الوقت بعرض باسل والرمح المتكلّم الغريب.
أومأ باسل: "من الجيّد أنّه يمكنك وضع ابتسامة على وجهك. تلك علامة جيّدة. هيّا، فلنتحرّك يا كليوباترا."
نظرت كليوباترا إلى ظهر باسل. لقد بدا ذلك الظهر صامدا، بالرغم من أنّ ما كان يحمله كان أثقل من مشاكل العوالم كلّها.
تنهّدت الأميرة وفكّرت: 'تفكّر في ابتسامتي وأنت لا تبتسم إطلاقا. يا لك من غريب.'
لم تعلم كليوباترا أنّه لطالما كان باسل شخصا مبتسما ولو في أشدّ المواقف. الأمر وما فيه، هو أنّه لم يبتسم قطّ منذ تلك المصيبة.
"حسنا يا باسل."
لسبب ما، شعرت الأميرة الفرعونيّة بالراحة عندما بدأت تتبع ظهر الشابّ. لقد كانت هذه الطمأنينة شيئا فقدته منذ أيّامها مع جدّها.
***
عاد باسل وكليوباترا إلى الطابق الثاني من الهرم، حيث كان الجنرال رعد يقاتل وحوشا بمستوى الصاعد بلغ عددها خمسة. لقد كانت تهاجمه في نفس الوقت، لكنّه حافظ على هيئة الأسد البرقيّ التي سخّر فيها عنصري البرق والريّاح لأقصى درجة.
وبالطبع، كان قد بلغ حدوده. لقد قضى على ثلاثة وحوش سحريّة من نفس المستوى وبقي خمسة، لكنّه كان على وشك السقوط بالفعل؛ ما جعل هذا الأمر صعبا للغاية هو حقيقة قتاله للوحوش كلّها في نفس الوقت.
"اللعنة! عندما أرى ذلك الشقيّ القرمزيّ مرّة أخرى سوف..."
تربيت
أحس الجنرال رعد فجأة بشيء على كتفه، فقفز متراجعا. لقد كان في قمّة الحذر، لكنّه سمح لأحدهم أن يتسلّل خلف ظهره بهذا الشكل؟ من حسن الحظّ أنّه لم يتلقى ضربة قاضيّة للتوّ... انتظر؟ لماذا لم يحصل له شيء وهو محاط بالأعداء فقط؟
"سوف... ماذا؟ لقد أتيت بسرعة إلى هنا من أجلك لكن أظنّ أنّني سمعتك على وشك أن تقول شيئا بغيضا."
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما. كلّ ما كان يفكّر فيه هو لكم هذا الشقيّ ما أن يراه، لكنّه كان سعيدا الآن بدل ذلك.
تباعدت حافّتا فمه عن بعضهما فشكّل ابتسامة عريضة قبل أن يصرخ: "أو ليس هذا جنرالنا الأعلى، بطل عالمنا، باسل؟! لقد كنت سأقول أنّني عندما ألتقيك سوف أشكرك على هذا التدريب المدهش."
يبدو أنّ الجنرال رعد قد استنتج أنّ كلّ ما كان يمرّ به حتّى الآن كان بسبب باسل، لكنّه تنازل عن كبريائه للوقت الحاليّ.
نظر باسل إليه بعينين ميّتتين، بينما شفقت كليوباترا على الجنرال رعد بينما تراقب من بعيد. تنهّد باسل ثمّ استخدم 'ثقل الجبل' وكسر رقاب الوحوش السحريّة الخمسة التي كانت أصلا مشلولة بالضغط الذي كان يضعه عليها بروحيه.
نظر الجنرال رعد إلى الوحوش السحريّة تسقط واحدا تلو الآخر كالذباب، فجلس على الأرض وتنفسّ الصعداء. أخيرا، يمكنه أن يرتاح.
نظر إليه باسل منزعجا لسبب ما، وخصوصا في حضرة الأميرة الفرعونيّة: "ما الذي تفعله؟"
"ها؟"
"ألم أقل مرارا أنّني في عجلة من أمري؟"
"آه..." وقف الجنرال رعد بسرعة. عليه أن يتنصّت لهذا الشقيّ حاليّا، وسيحين وقت الانتقام ذات يوم: "حسنا، لنذهب."
أمال باسل رأسه: "يبدو أنّك لم تفهم."
انتظر الجنرال رعد التفسير من باسل، والذي أشار بنظره إلى الوحوش السحريّة، ففهم الجنرال رعد أخيرا مقصد باسل، لكنّه كان متعبا للغاية: "ألا يمكننا تأجيل ذلك؟"
"تأجيل؟"
عبس باسل واصطنع تعبيرا كما لو أنّه تذكّر شيئا فجأة: "آه، بالمناسبة، لقد تذكّرت أنّ هناك شيئا آخر يجب عليّ مناقشته مع صاحب هذا المكان. سأعو..."
لم يكمل باسل كلامه حتّى كان الجنرال رعد قد شرع في فتح صدور الوحوش السحريّة والتقاط أحجار أصلها. مهما بلغ المرء من مستوى، يجب أن يجمع ويلتقط كلّ ما يمكنه جمعه.
اقتربت في هذه الأثناء كليوباترا من باسل: "يبدو أنّك ستكون معلّما جيّدا."
تنهّد باسل. يبدو أنّه صار يتصرّف مع الجنرال رعد كما لو كان تلميذا له.
"على أيّ حال، فلنخرج من هنا مباشرة بعدما ينتهي. أريد أن نبدأ في تطبيق الجزء الأوّل من شرطي الثاني."
فهمت الأميرة أنّ باسل كان يتحدّث عن اكتشاف حلّ لمغادرة هذا العالم؛ بالأحرى، لقد كان هذا هو سبب دخوله إلى هنا في المقام الأوّل، وكان هو سبب استعجاله.
"بالطبع."
***
خرج الثلاثة من الهرم، فتكلّمت كليوباترا: "ألن تتوقّف عن النظر إليّ بتلك الطريقة؟"
كان الجنرال رعد يحملق إلى الأميرة الفرعونيّة باستمرار، من الرأس إلى أخمص القدم. ما زال لم يصدّق أنّ صاحب هذا المكان المرعب، أو بالأحرى، المسؤول عن الرعب والعذاب الذي مرّ به في الأيّام الأخيرة كان بسبب هذه البرغوث...
أحسّت كليوباترا بنظراته الفضوليّة والعدائيّة، وأيضا، المرعوبة. لم يكن الجنرال رعد يريد أيّ شيء له علاقة بهذه العفريتة الصغيرة.
"هل تريدني أزيل عينيك وأجعلك ترتديهما كقلادة كذكرى للقائنا الأوّل؟"
"هييه!"
تراجع الجنرال رعد بضع خطوات للوراء، فضحكت كليوباترا وعبس باسل الذي قال: "هذا يكفي. هل يمكنك البدء؟"
لقد كان محرجا لسبب ما من تصرّفات الجنرال رعد. قد يكون قول هذا مجنونا، لكنّه حقّا افتقد ذلك الرجل الأشقر العنيد.
"حسنا، حسنا. امنحني بعضا من الوقت."
لم يرد باسل أن يتأخّر أكثر. راقب الأميرة الفرعونيّة تجلس متربّعة، بينما تحيطها تعاويذ ذهنيّة روحيّة وعنصر الفضاء. فعّل حكمته السياديّة ثمّ حلّل كلّ شيء.
'فنّ قتاليّ سامٍ كما هو متوقّع. يبدو أكثر تعقيدا وقوّة وإفادة من فنّه القتاليّ السامي، اختراق السماء.
انغمست كليوباترا بعد ذلك لوقت طويل في تحليل التذبذبات الفضائيّة والقوانين العالميّة. كانت تدرس الفضاء داخل العالم وخارجه، بينما تبحث عن تواصله بالأبعاد الأخرى.
كلّ ما كانت تفعله كان صعبا للغاية على باسل فهمه فما أدراك بفعله بمستواه الحاليّ. لقد كانت أميرة فرعونيّة حقّا؛ هذا ما شعر به باسل.
كانت تبدو كفتاة صغيرة، لكنّها كانت بعمر مئات السنين، ولو صرفت معظمها في سبات عميق، لكن ذلك لم يكن مهمّا حقّا. ما كان ذو صلة كانت المعرفة الهائلة والموهبة المرعبة اللتين ورثتهما من عائلتها.
'كلّ هذا من حضارة فانيّة تكاد لا توجَد لها آثار في العوالم الروحيّة. إذن ماذا عن الوقت الذي كانت فيه الحضارة الفرعونيّة في أوجها؟'
بلع باسل ريقه. لربّما كانت تلك الحضارة أقوى وأفضل حضارة مرّت على التاريخ، لكن لم يكن هذا ما جعله يبلع ريقه. ما استحوذ على ذهنه لبعض من الثواني كان المخلوق الاستثنائيّ الذي قضى على حضارة كهذه – السارق الخسّيس.
توقّف عن التفكير في هذا للوقت الحاليّ، وبدأ يتدبّر بعدما أخبر الجنرال رعد أن يفعل ما يشاء في الأيّام القادمة. استغلّ الجنرال رعد الفرصة ونام مباشرة قبل أن يكمل باسل كلامه حتّى. لقد كان كلّ شيء يفعله باسل وكليوباترا معقّدا بالنسبة له على أيّ حال، لذا لم يسأل عن أيّ شيء.
'لنأمل أن تكتشف شيئا مبشّرا.'
تنهّد وانغمس هو الآخر في تدبّره.
***
"لقد مرّت أيّام وهما على هذا الحال. لم أتوقّع أنّ هذا سيستغرق كلّ هذا الوقت. أفّ، إنّي أريد الاختراق إلى المستويات الروحيّة حقّا."
كان الجنرال رعد يتمتم لنفسه بينما يجلس على صخرة في الجهة المقابلة لباسل وكليوباترا. كان يراقب الطاقة الروحيّة التي كان باسل يتلاعب بها، والعناصر السحريّة التي تغيّرت بين الحين والآخر. بدا باسل للجنرال رعد كظاهرة طبيعيّة نادرة.
كانت هناك أيضا تلك الكرات الثلاث التي دارت فوق رأس باسل بسرعة كبيرة حتّى كوّنت حلقة فضّيّة بدت كما لو أنّها تشمل أسرار الكون، بينما بعث جسده هالة باهتة لكن محترِقة أحيانا.
لقد كان باسل غريبا لأعين الآخرين، حتّى لو كانوا سحرة روحيّين رأوا ما يكفي من الكون حتّى لا يتعجّبوا.
وفي الجهة الأخرى، كادت الأميرة الفرعونيّة تكوّن بعدا خاصّا بها بسبب طاقة عنصر الفضاء وفنّها القتاليّ اللذين شوّها الفضاء حولها باستمرار وأظهر صورا وأشكالا من أماكن لا يعلم الجنرال عنها شيئا بالإضافة إلى أماكن مألوفة من العالم الواهن.
"مساراهما الروحيّان مختلفان للغاية عن مسارات السحرة العاديين."
وفي هذه الأثناء، بينما يراقب الجنرال رعد باهتمام ويحاول تنوير نفسه كساحر روحيّ، فتحت كليوباترا عينيها واختفت الطاقة الروحيّة والتعاويذ التي كانت تحيطها طوال الوقت الماضي.
وقف الجنرال رعد، وفي نفس الوقت فتح باسل عينيه ووجّه نظره إلى كليوباترا. لقد حان الوقت أخيرا...
لقد استغرقت وقتا طويلا، لكنّه لم يعلم إن كان ذلك يعني أنّها استغرقت كلّ ذلك الوقت حتّى تجد إجابة مرضية، أم أنّها فقط لم تجد أيّ شيء مفيد حتّى استسلمت في نهاية المطاف.
نظرن كليوباترا إلى باسل وهزّت رأسها يمينا وشمالا: "إنّني حقّا متأسّفة يا باسل."
أغمض باسل عينيه وأحكم قبضتيه بعد سماع كلام كليوباترا. فقط عيناها كانتا كافيّتين حتّى يفهم أنّها لم تبلغ أيّة نتيجة. لقد كان من الواضح أنّها فعلت كلّ ما في وسعها. لقد مرّت حوالي ستّة أيّام وهي تحاول. لقد استخدم انقسام الوعي، ولهذا كان يعلم أنّها حاولت بكلّ جهد منها.
"الختم قوّي جدّا. لا أعلم كيف حصل هذا. لم يسبق لي أن سمعت بشيء أو طريقة لختم العوالم عن بعضها، بالرغم من أنّني من سلالة الفراعنة.
لقد كان الأمر محبِطا جدّا لـكليوباترا أيضا. لقد أرادت أن تردّ المعروف لباسل حقّا، بدءًا بهذا الطلب، لكنّها كانت عاجزة. وليس هذا فقط، بل حتّى أنّها وجدت نفسها مغمورة ولم تفهم شيئا عن هذا الختم، بالرغم من أنّها من أفضل المتخصّصين في سحر للفضاء وكلّ ما يتعلّق به. كان هذا صفعة قويّة لكبريائها.
تنهّد باسل ثمّ فتح عينيه. لم يلتفت إلى كليوباترا لكنّه قال: "لا تقلقي. ذلك الختم مسؤول عن أحد أقوى السحرة الروحيّين في التاريخ بأكمله، لذا لا داعٍ أن تُحبطي. سأجد حلّا بطريقة أو بأخرى."
أحكمت كليوباترا قبضتيها. لقد كان سماع باسل يقول هذا الكلام محبِطا أكثر. وأيضا، أحد أقوى السحرة الروحيّين في العوالم الروحيّة؟
تكلّم باسل مجيبا على أفكار الأميرة كما لو أنّه سمعها: "في الأجيال الأخيرة، كانت هناك قوّتين عظيمتين متضادّتين، وكلّ قوّة حكمها سلطان أصليّ يقال أنّه قد بلغ حدود السحرة الروحيّين."
عبست كليوباترا. لقد كانت تعلم ماذا يعني أن يبلغ ساحر قمّة 'نطاق أصل العالم'. يشاع أنّ حركة واحدة من أيدي هؤلاء الأشخاص يمكنها محو ممالك وإمبراطوريّات. بالأحرى، قيل أن السلاطين الأصليّين دوما تقاتلوا بالفضاء الخارجيّ بعيدا عن شمسهم. لقد كانوا يدمّرون الكواكب عند قتالهم. بالطبع، كانت تلك كواكب غير سحريّة أو روحيّة، وهذا صنع فرقا كبيرا.
"الملك الأصليّ، وملك الشياطين. لُقِّبا بهذا الشكل."
رفعت كليوباترا حاجبها. ما أثار اهتمامها في الواقع لم يكن لقب ملك الشياطين، فهذا لقب يمكن لأيّ شخص اكتسابه ما أن يكون 'شرّا مطلقا' معروفا في العوالم الروحيّة. بالطبع، ليس أيّ شخص يمكنه اكتساب مثل هذا اللقب، وخير دليل على ذلك هو وجود شخص واحد آخر في 'التاريخ المنسيّ' لُقِّب بذلك.
"الملك الأصليّ؟"
لقد كان هذا لقبا مبالغا فيه. لقد كان يميّز نفسه عن السلاطين الأصليّين بكلّ وضوح. لم يجرؤ أيّ أحد على استخدام مثل هذا اللقب.
"ذلك الملك الأصليّ هو من ختم العوالم عن بعضها."
لقد كان الملك الأصليّ هو السابع، وكان باسل هو الأخير، أو الرابع عشر. لقد كان باسل متشكّكا في الملك الأصليّ لأنّه كان أيضا من الأربعة عشر، لكنّه كان شكورا له أيضا لأنّه ختم العوالم عن بعضها. لولا ذلك الختم، لهلك العالم الواهن أو صار مستعبدا أو صار مجرّد ساحة معركة أو مكافأة لأحد المشاركين في الحرب العظمى للاستيلاء على العالم الواهن.
حكى بعد ذلك باسل لكليوباترا كلّ شيء عن الملك الأصليّ وملك الشياطين. لقد كان هذا العراك بين السلطانين مستمرّا لعشرات آلاف السنين بحلول هذا الوقت، وهذا يوضح كم المدّة التي نامتها كليوباترا بعيدة عن أحوال العالم.
تنهّدت كليوباترا: "يبدو أنّه يجب عليّ أن أستعدّ للفوضى التي ستنشب."
'التي ستنشب' وليس 'قد تنشب'. لقد كانت كليوباترا واثقة ومتأكّدة من نشوبها. وبالطبع، كان باسل كذلك.
"ولذلك السبب طرحت تلك الشروط عند تعاهدنا."
وقف باسل ففعلت كليوباترا نفس الشيء. يبدو أنّ قد حان وقت المغادرة.
"قبل أن نغادر، لنبحث عن وحش روحيّ مناسب للرجل الأشقر."
لم يقترب منهما الجنرال رعد طوال هذه المدّة. بالأحرى، لقد كان الجوّ المحيط بالاثنين كئيبا لدرجة أنّه لم يرد أن يدخل نفسه بأيّ من ذلك.
***
"وأخيرا، إذن، إلى أين نحن ذاهبون؟"
"سنبحث في هذه القارّة، لكن إلّم نجد أيّ وحش روحيّ مناسب، فسنغادر لمكان آخر."
"نغادر؟ هل سنذهب إلى الأرخبيل مثلا؟"
كان الجنرال رعد متسائلا. أيّ مكان سيكون أفضل من قارّة الأصل والنهاية؟
"هل ما زلت تذكر تحوّل العالم الروحيّ؟"
"آه... انتظر، هل هذا يعني أنّنا سنذهب لاكتشاف العالم؟"
"هل هناك ما يمنعنا من ذلك؟"
طرح الجنرال رعد سؤالا آخر: "لكن... ألا تعتقد أنّ وحوشا روحيّة لن تكون موجودة في هذه المناطق الجديدة؟ لم يتحوّل العالم روحيّا منذ طويل بعد كلّ شيء."
"يبدو أنّك نسيت ما حصل لعالمنا عندما تحوّل روحيّا. تلك الشروخ الفضائيّة، من قال أنّ السحرة وحدهم من يمكنهم عبورها؟"
فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما: "انتظر... انتظر، انتظر، ألا يعني هذا أيضا أن الوحوش التي مرّت إلى عالمنا بمستوى مرتفع أيضا؟"
بالفعل، فقط السحرة الروحيّون بمستوى مرتفع نسبيّا كانوا قادرين على الدخول إلى عالمهم.
"يبدو أنّك نسيت أنّ أولئك السحرة لم يأتوا لوحدهم، ولم يعودوا فارغي الأيدي أيضا."
بالفعل، بعض من السحرة الروحيّين أتى ومعه بعض من أتباعه الذين كانوا أسياد روحيّين فقط. وأغلبهم خطف الناس العاديّين من العالم الواهن وعادوا بهم إلى عوالمهم.
كلّ هذا عنى شيئا واحدا: "طالما وُجِد شخص بمستوى مرتفع، فقد كان بإمكانه استخدام قوّته لحماية من يصطحب معه، والوحوش الروحيّة ليست باستثناء. ولهذا، دعني أسألك، ماذا ستفعل بعض من الوحوش الروحيّة التي تشتهي الاستحواذ على عالم صغير ما زال ينمو مثل عالمنا؟"
لقد كانت الإجابة واضحة. لم يحتج الجنرال رعد لقولها حتّى.
أضاف باسل شيئا آخر: "وأيضا، بعد تحوّل العالم الروحيّ، تحدث طفرات روحيّة، وتظهر وحوش روحيّة جديدة في العوالم الروحيّة، أو وحوش توجد في عوالم لكنّها لا توجد في عالم أخرى. وبعد تحوّل العالم الروحيّ، فإنّ سرعة نموّ السحرة والوحوش تزداد بشكل كبير. لن يستغرق الأمر سوى شهورا حتّى تجد العديد من المناطق المحظورة بالعديد من الوحوش الروحيّة حول العالم."
كلّ ما فعله باسل قبل تحوّل العالم الروحيّ هو تخفيف الآثار والتضحيّات التي ستنتج عن تحوّل العالم الروحيّ. لربّما نجى العالم من الموجة الأولى من الوحوش الروحيّة بسبب مصفوفاته السحريّة، لكن كانت ما تزال توجد موجات عديدة قادمة.
"هيّا، لنبدأ بحثنا. سنتبعك بينما تأخذ القيادة في الطريق، كلّ ما سنفعله هو تحديد المسار. ستقاتل كلّ ما نواجهه في طريقنا."
"ها؟ كيف لك أن..."
"زد كلمة أخرى وسنغادر هذه القارّة بدونك. حاول آنذاك النجاة."
لقد كان مزاج باسل عكِرا كفاية.
سكت الجنرال رعد والتفت إلى الاتّجاه الذي أشار إليه باسل بإصبعه ثمّ بدأ يجري.
'فقط انتظر أيّها الشقيّ."
اقتربت كليوباترا من باسل في هذه الأثناء وقالت بدون أن تنظر إليه لكن بعينين عازمتين: "سأجد حلّا مهما كان. سأردّ المعروف بكلّ تأكيد."
أومأ باسل بدون قول أيّ شيء وتحرّك. هل يجب أن يأمل شيئا؟ لم يعلم إن كان عليه أن يفعل ذلك. ما كان متيقّنا منه هو أنّ مغادرته لهذا العالم ستأخذ وقتا طويلا كما كان متوقّعا. لقد كان حقّا يريد أن يكون حدسه مخطِئا، لكن ذلك لم يحصل قطّ حتّى الآن.
***
وقف باسل على حافّة بقمّة جبل في قارّة الأصل والنهاية وشاهد الشمس تغرب بينما يطول ظلّه كما طالت أيّامه وشعر أنّ كلّ ثانيّة تعادل ساعة بسبب الأفكار والمشاكل التي كانت تشغل باله طوال الوقت.
وقف خلفه الجنرال رعد وكليوباترا بصمت. لقد أراد باسل أن يصعد إلى هذا الجبل لسبب ما، لكنّهما لم يطرحا أيّة أسئلة.
"لم يعد هناك أيّ مكان لم نزره في قارّة الأصل والنهاية، ولا يبدو أنّه يوجد وحش مناسب للرجل الأشقر."
صرّح باسل، فاستغرب الجنرال رعد: "بالرغم من أنّنا وجدنا وحوش الفتخاء والرخّ الأسطوريّ؟ كانت هناك وحوش عديدة أخرى تأصّلّت ثلاث مرّات على الأقلّ. ألا تعتقد أنّه يجب أن تخفّض من مستوى متطلّباتك؟"
"إلّم أجد روح وحش متأصّلة خمس مرّات على الأقلّ، فلا أعتقد أنّه يجب عليك الاستحواذ عليها. أنا حقّا لا أعلم كم سأغيب عن عالمنا، أو متى سيُفتح الختم عن العوالم. يجب أن أضمن أنّك سترتفع بالمستويات الروحيّة بسلاسة وسرعة في غيابي."
نظر الجنرال رعد إلى الأسفل. لقد كان من المؤسف سماع باسل يتكلّم دوما عن مغادرته، لكن في الأسابيع الأخيرة صار كلام باسل هذا يبدو كمجرّد حلم باهت. لم يبدُ أنّ هناك أمل أو طريقة لمغادرة هذا العالم، وهذا جعل الرجل الأشقر متأسّفا لحال باسل.
لقد كان باسل يتكلّم عن المغادرة كما لو أنّه وجد الحلّ مسبقا. بالأحرى، لم يكن لباسل أيّ خيار؛ الأمر لا يتعلّق بإيجاده وسيلة أم لا، بل يتعلّق بأنّه يتحتّم عليه إيجادها، ولن يتوقّف أبدا حتّى ينجح في ذلك.
نظرت كليوباترا مباشرة إلى ظهر باسل بعينين عازمتين. لقد كانت تستغلّ الأيّام الماضيّة كلّها في إيجاد شيء مفيد لباسل، بالرغم من أنّها أخيرا عادت إلى العالم، ومن المفترض أن تستمتع بحرّيّتها لبعض من الوقت على الأقلّ.
لقد كانت من الفراعنة، بفخر عظيم، ووعد صميم. لقد عاهدت نفسها ألّا تحظى بأيّ قسط من الراحة حتّى تجد أو يجد باسل الحلّ.
"غدا سنغادر القارّة ونتّجه نحو الجزء المجهول من العالم. أعتقد أنّنا سنجد شيئا مفيدا هناك للرجل الأشقر."
الجزء المجهول كان هو ما ظهر من مناطق في العالم الواهن بعد تحوّله الروحيّ. كان يمكن أن تظهر حتّى وحوش جديدة في المناطق المحظورة الجديدة.
كان صوت باسل هادئا وحاسما. حتّى لو كانت الثانيّة تعادل أيّاما بالنسبة له، سيستمرّ في البحث ولو عنى هذا الصبر لقرون. ما كان يقلقه أكثر من أيّ شيء هو نجاة الآخرين في العوالم الأخرى قبل قدومه. لقد كان القلق هو ما جعله يستخدم كلّ ذرّة منه ليفكّر في الحلّ طوال الوقت. لقد كان يستخدم الحكمة السياديّة حتّى يُنهك تماما ولا يقدر على استخدامها أكثر.
***
ضباب، وبرق، وعواصف، وصراخ.
سقطت صاعقة فثقبت الأرض وحرقت الصخر، هبّت الريّاح فقطعت قمم الأجبال، لكن كلّ ذلك استطاع الجنرال رعد استيعابه بسبب الأصوات فقط، أمّا عينيه، فقد أعماهما الضباب الذي غطّى كلّ شيء حوله تماما.
لقد كان الجنرال رعد يقف حاليّا في جزيرة، جزيرة لم يكن ليستطيع إيجادها لولا باسل. لقد كانت هذه جزيرة مخفيّة عن الأنظار والعالم بأسره. كانت قريبة من قارّة جديدة ظهرت بعد تحوّل العالم الروحيّ.
كانت هذه الجزيرة منطقة محظورة بأكملها، وكانت أغرب منطقة مرّ بها الجنرال رعد حتّى الآن. لم تكن الجزيرة خفيّة عن العالم فقط، بل كان كلّ شيء بداخلها خفيّا أيضا. إلّم يحذر الشخص فسيموت أثناء خطوته التاليّة بصاعقة من الصواعق التي تمطر من الأعلى، أو يسقط في وادٍ سبّبته هزّات أرضيّة ويدفن تحت الأرض للأبد، أو يُقطع لشتات من طرف الريّاح التي أصدرت صرخات الموت بدون توقّف.
"اللعنة، لقد قال شيئا عن غرابة هذه الصواعق والعواصف واختفى مع تلك البرغوث."
كان على الجنرال رعد أن يبقى حذرا ومستيقظا طوال الوقت. كانت القشعريرة تصعد مع ظهره كلّما سمع الريّاح واهتزّت الأرض. لقد كانت هذه جزيرة مشؤومة، فما الذي أثار اهتمام باسل لهذه الدرجة؟ هل فضوله يثار بأيّ شيء غير اعتياديّ؟
***
"يبدو أنّه بعد شهور من البحث المتواصل قد وجدنا الوحش المناسب أخيرا."
بالطبع كان باسل فضوليّا، وكان اهتمامه سيثار حتّى بالظواهر الطبيعيّة الغريبة التي كانت تحدث في الجزيرة، إلّا أنّ الواقع هذه المرّة كان مختلفا تماما.
تكلّمت كليوباترا: "إنّه لأمر مدهش أنّك لاحظت ذلك قبل أن أفعل."
أومأ باسل رأسه وقال: "الآن بعدما أكّدنا شكوكنا، لنعد ونأتِ بالرجل الأشقر معنا. إلّم يجهز عليه بنفسه فستكون مضيعة للوقت."
يبدو أنّ باسل وكليوباترا قد وجدا وحشا مناسبا للجنرال رعد، لكن كان ضرّوريّا حضور الجنرال رعد حتّى ينهي أمر الوحش بنفسه، وإلّا استحال عليه الاستحواذ على روح الوحش.
لقد كان يجب على الساحر الروحيّ أن يقتل الوحش الروحيّ بنفسه إن أراد الاستحواذ على روحه. لن تخضع روح الوحش إلّا للساحر الذي قتلها أو الذي يفوقها بمستويات.
***
كان الجنرال رعد يطوف في الهواء بعنصر الريّاح، ما عنى أنّه لم يخترق إلى المستويات الروحيّة بعد. كان وقت الساحر محدودا حتّى يجد روح وحش ليستحوذ عليها بعد الاختراق إلى المستويات الروحيّة.
بالرغم من أنّ الجنرال رعد كان مستعدّا للاختراق إلى المستويات الروحيّة في أيّ وقت، إلّا أنّه كان ينتظر أن يقرّر روح الوحش أوّلا. لقد كان هذا محبطا ومستفزّا بالنسبة له، لكنّه وثق في حكم وقرار الفتى القرمزيّ. بالأحرى، لقد كان ذلك خياره الوحيد.
كان باسل هو الأكثر معرفة هنا باستثناء تلك البرغوث. وعلى أيّ حال، لم يرد أن يتشاحن مع باسل حتّى لا يقع في المشاكل.
التفت فجأة بسبب الأصوات الغريبة. ما كان غريبا ليس الأصوات بذاتها، لكن حقيقة أنّها كانت تقترب بشكل مستمّر نحوه. لم يمرّ وقت طويل حتّى لاحظ أنّ سبب تلك الأصوات كان هو الصواعق التي كانت تكبر حجما في كلّ مرّة تبرق فيها وسط الضباب.
لم تكن الصواعق تكبر حرفيّا، وإنّما كانت تقترب فتبدو أكبر ممّا كانت عليه. تعرّق الجنرال رعد بعدما استشعر ضغطا رهيبا موجّها نحو جهته، لكن لسبب ما لم يكن الضغط يستهدفه بالضبط.
لم يمرّ وقت طويل حتّى علم الجنرال رعد سبب ذلك الشعور الغريب. هل يجب أن يتفاجأ أم كان يجب أن يتوقّع الأمر؟
لقد كان الفتى القرمزيّ والبرغوث يجريان نحوه بسرعة كبيرة بينما تتبعهما تلك الصواعق. لقد كانا كتجسيد للشؤم والحظّ السيّئ.
تنهّد الجنرال رعد: "حتّى الغضب سيكون مضيعة للوقت الآن."
التفت ثمّ استعدّ للهروب، لكن جسده لم يتحرّك، فاستغرب والتفت، ليجد أنّ ما كان يمنعه من التحرّك هو يد باسل التي جرّته من ظهره. ما زاد الطين بلّة هو ما فعله باسل تاليا.
رمى باسل الرجل الأشقر نحو الصواعق المتعطّشة للدماء. كاد الجنرال رعد أن يصرخ من شدّة الغضب والخوف في نفس الوقت، لكنّه سمع باسل يصرخ في المقابل.
"اجلس وسط الصواعق وابدأ الاختراق إلى المستويات الروحيّة."
"هااااااااااا؟!"
لم يصرخ فقط، وإنّما صاح وانتحب في نفس الوقت: "إلى أيّ مدى سيبلغ جنونك وظلمك هذا يا أيّها اللعين! هل تريد منّي أن أتأمّل في تلك الصواعق وآمل ألّا تصيبني؟! هل أبدو لك كشخص بدون عقل؟!"
"تلك الصواعق غير طبيعيّة."
تكلّم باسل، فزاد من غضب الجنرال رعد: "بالطبع هي غير طبيعيّة! ولهذا لا يجب أن أقترب منها، فكيف لي أن أتدبّر وسطها؟"
تنهّد باسل: "إنّها حرفيّا غير طبيعيّة. بالأحرى، كلّ هذا الضباب والهزّات الأرضيّة والظواهر الغريبة التي تراها تحصل في هذه الجزيرة غير طبيعيّة."
"ها؟ ما الذي تقصده؟"
وقف الجنرال رعد بينما تقترب الصواعق منه أكثر. لقد كان الموت يقترب منه بينما يتكلّمان.
"ما أقصده هو أنّنا أخيرا وجدنا وحشا روحيّا مناسبا لك."
لم يكن الجنرال رعد غبيّا بالرغم من أنّه كان يتصرّف بشكل أحمق أحيانا. فهم مقصد باسل والتفت بشكل بطيء بسبب اندهاشه: "لا تخبرني، هل يمكن أن الوحش الروحيّ بهذه المنطقة المحظورة هو ما يجعل الجزيرة بأكملها على هذا الحال؟"
"فعلا. والآن، افعل كما قلت لك."
لم يتأخّر الجنرال رعد لثانيّة أخرى وجلس في مكانه وبدأ يتدبّر. إن كانت صواعق غير طبيعيّة، فلا يجب أن يهتمّ بها. لقد كان الفتى القرمزيّ والبرغوث موجودين، لذا سيكون بخير.
بالرغم من أنّ الصواعق اقتربت كثيرا، إلّا أنّ الجنرال رعد قد كان منغمسا بالفعل في تدبّره. كان يستشعر الطاقة الروحيّة الموجودة في هذه المنطقة المحظورة، وبشكل مثيرا للاهتمام، أحسّ بالراحة بالرغم من أنّه يُفترض أن يشعر بالتوترّ.
لقد شعر أنّه في فناء منزله، ولربّما كان هذا بسبب أنّ المنطقة المحظورة مشبّعة بالبرق والرياح السحريّيْن.
توهّج جسد الجنرال رعد، وفي هذه الأثناء: (يا كليوباترا، كما اتّفقنا. لا يجب أن ندعه يهرب أبدا.)
خاطبها باسل مستخدما خاتم التخاطر، فردّت كليوباترا بنفس الطريقة: (لا تقلق، سألعب معه ريثما ينتهي الجبان.)
كانت الخطّة هي أن يقمعا مستواهما الروحيّ تماما ويمثّلا كما لو أنّهما يحميان الجنرال رعد باستماتة حتّى يطمع الوحش الروحيّ في أرواحهم ولا يهرب منهم.
وقف باسل خلف ظهر الجنرال رعد قبل أن تصل الصواعق وفعّل عالم الحكيم، فبدأ يبدّد أيّ صاعقة تحاول الدخول إلى عالم الحكيم. وبالطبع، كان يسمح لبعض منها أن تتسرّب إلى الداخل بشرط ألّا تكون تشكّل خطرا على الجنرال رعد. كان ذلك حتّى لا يشكّ الوحش الروحيّ في شيء ويطمع أكثر، وهكذا سيشعر أنّه قريب من هدفه.
اهتمّ باسل بهذا العمل بحكمته السياديّة بكلّ بساطة. لقد شعر أنّه يلعب مع الوحش الروحيّ كما قالت كليوباترا أنّها ستفعل. وبالطبع، كانت كليوباترا تنتقل في السماء من مكان لآخر في اللحظة الأخيرة قبل أن تسقط عليها صاعقة كما لو أنّها راوغتها بالكاد. كانت تفعل شبه ما كان باسل يفعله.
بالطبع، كان كلّ هذا مؤقّتا. سيأخذ الجنرال رعد وقتا طويلا حتّى ينتهي من الاختراق إلى المستويات الروحيّة، ولا يمكن ألّا يلاحظ الوحش الروحيّ أنّه لسبب ما لا يستطيع قتل هؤلاء البشر. سيكتشف تمثيلهم بعد مرور بعض من الوقت.
وبالطبع، كان ذلك جزء من الخطّة. كلّما ما كان يحتاج له باسل وكليوباترا هو ذلك الوقت. لقد كان هذا الوحش الروحيّ نوعا خاصّا من الوحوش، إذ استطاع التخفّي وسط الضباب الذي يصنعه حتّى لا يقدر أيّ شيء استشعاره.
كان السبب هو أن الضباب يحاكي هالة و'حضور' الوحش الروحيّ بشكل مثاليّ فوق جعله خفيّا. كان من المستحيل على السحرة العاديّين إيجاد هذا الوحش الروحيّ وسط هذا الضباب الكثيف، لكنّ الأمر كان مجرّد وقت بسيط بالنسبة لباسل وكليوباترا.
في الوقت الذي سيدرك الوحش فيه أنّ شيئا ما ليس في محلّه، سيكون قد فات الأوان.
وكما كان متوقّعا، بعد مرور حوالي ساعة من المحاولات المستمرّة، استسلم الوحش الروحيّ بعدما شكّ في ما كان يحصل وحاول الهرب، إلّا أنّه وجد نفسه محاصرا في فضاء غريب لم يعلم متى دخل إليه أصلا.
بدون أن يعلم الوحش الروحيّ، غيّرت كليوباترا الفضاء حولهم وصاروا كلّهم في بعد خاصّ الآن. لم يفهم الوحش الروحيّ كيف أو متى استطاع هؤلاء البشر الواهنين تشكيل مثل هذا الحاجز.
لم يمرّ وقت طويل حتّى كان الوحش الروحيّ تحت رحمة كليوباترا. لقد صار الآن في عالمها وليس في عالمه الذي كان يتحكّم ويلعب فيه كما شاء.
حاول الوحش الهروب لكنّه لم ينجح، فحاول الهجوم على كليوباترا لكنّ البشريّة الضئيلة كانت تنتقل من مكان إلى آخر بشكل آني وبدون عناء فلم يستطع القبض عليها، لذا جرّب حظّه مع البشريّيْن الآخريْن اللذين كانا مشغولين بشيء آخر، لكنّه صُدِم لمّا اقترب من الاثنين.
لقد كان الاثنان داخل عالم الحكيم، لذا كان من الصعب الاقتراب منهما أصلا، وفوق ذلك، وجد نفسه يبتعد كلّما اقترب قربا كافيا من باسل والجنرال رعد. لقد كان أمرا عجيبا، لكنّه سرعان ما فهم أنّ السبب خلف هذا كان تلك القزمة اللعينة. لقد كانت تتلاعب به كلّيّا.
أومأ باسل ثمّ تمتم بينما يرى صورة أخرى في محلّ كليوباترا: "إنّها تذكّرني بها."
لقد كانت الطريقة التي وضعت كليوباترا بها الوحش في راحة يدها لتجعله يرقص كما تريد تشبه ما كانت تفعله إحداهن.
تنهّد باسل ثمّ انتظر الرجل الأشقر حتّى ينتهي، لأنّه بعد إيجاد وحش مناسب له أخيرا، لم يعد هناك سبب للترحال معا.
'حان وقت الفراق، مؤقّتا على الأقل.'
***
"هل سنلتقي مرّة أخرى؟"
سأل الجنرال رعد باسلا، قاصدا مرّة أخرى قبل أن يغادر باسل العالم الواهن.
أمال باسل رأسه قليلا بسبب سؤال الرجل الأشقر. لقد استحوذ الجنرال رعد على روح الوحش الروحيّ أخيرا، فصار ساحرا روحيّا بروح كاملة مكتملة. كان باسل متعجّبا لأنّ الجنرال رعد علم أنّ باسل سيفترق معهما هنا.
"في افتراقنا منفعة."
تنهّد الجنرال رعد: "معك حقّ، إن بحثنا متفرّقين فستكون لدينا فرصة أكبر في إيجاد حلّ."
ردّ باسل بسرعة وبشكل قاطع: "لا. المنفعة هي أنّ الأمر أسرع إن كنت وحدي بدون لحم ميّت زائد على ظهري."
"أيّها الـ..."
ضحكت كليوباترا على الجنرال رعد المسكين ثمّ التفتت إلى باسل: "هل حقّا لا تحتاجني معك؟"
"حدسي يخبرني أنّ الحلّ قريب، لكنّني للأسف عاجز عن إيجاده. أحتاج لوقت بمفردي أتفكّر فيه. وفي نفس الوقت، أريد منك أن تبحثي في الأمر. كما قال أحدهم، لو تفرّقنا، فقد تكون هناك فرصة أفضل لإيجاد حلّ."
"لن أتحمّل أكثر من هذا يا لعين. لقد صرت ساحرا روحيّا الآن لذا..."
لم يُكمِل الجنرال رعد كلامه حتّى وجد جسده محلّقا رغما عنه لعشرات الأمتار. ما أدهشه لم يكن ذلك، بل حقيقة أنّ باسل نقره بإصبعه فقط لصنع مثل هذه النتيجة.
لقد صار يشعر بقوّة عارمة وطاقة هائلة بعدما صار ساحرا روحيّا، لكنّه شعر بالعجز تماما بسبب نقرة واحدة من سيّد روحيّ مثله؟
'سيّد روحيّ مثلي؟ كيف يمكن أن يكون هذا الوحش سيّدا روحيّا مثلي؟'
نهض الجنرال رعد من على الأرض بينما يهزّ رأسه يمينا وشمالا، فإذا به يجد باسل ينظر إليه بعينين ملولتين بينما يرفع يده التي كان يشكّلها كـسيف: "هل تريد أن نقوم بالمبارزة الموعودة بيننا الآن؟"
سعل الجنرال رعد في يده ووقف شاخصا: "أحمم...! أظنّ أنّني متعب اليوم. لنؤجِّل هذا لوقت آخر عندما أكون في مثل صحّتك وعافيّتك."
أومأ باسل: "لم أتوقّع أقلّ أو أكثر من هذا."
اقتربت كليوباترا من الاثنين، فأكمل باسل كلامه مخاطبا إيّاهما: "على أيّ حال. جوابا لسؤالك السابق: نعم، سأعود، لأنّني أظنّ أنّ وريد التنين مهم جدّا لترحالي من هذا العالم مهما كانت الوسيلة."
"هل حقّا يوجد وريد تنّين كما قلت؟"
سبق باسل وأخبر كليوباترا عن الوريد التنّينيّ، لكنّها ما زالت تواجه صعوبة في التصديق بشكل كامل. ليس لأنّها تظنّ أنّ باسل يكذب، وإنّما قد يكون مخطئا بالرغم من أنّ احتماليّة حدوث ذلك ضعيفة. الأمر وما فيه هو أنّ احتماليّة وجود وريد تنّين أضعف من ذلك حتّى.
"سترين الأمر بعينيك عندما تعودان للإمبراطوريّة. سأعتمد عليك أيضا في تحسين تحصين الأكاديميّة والمدن الكبرى أوّلا ثمّ الصغرى لاحقا."
"عمل كثير بالنسبة لشخص مثلي، أه؟"
"لربّما تعلمين الآن لمَ لديّ عدد قليل من الأصدقاء."
"همف!" تهجّم الجنرال رعد: "ألا تقصد لمَ ليس لديك أيّ أصدقاء؟"
"يبدو أنّني نشاطك قد عاد، هل تريد المبار..."
لم يكمل باسل كلامه حتّى صاح الجنرال رعد: "بالطبع، كما اعتادت أن تقول أمّي، صديق الجميع ليس صديقي. يبدو أنّك تختار أصدقاءك بعناية!"
تنهّد باسل ثمّ التفت ولم ينظر إلى الاثنين أكثر. لقد حان وقت المغادرة، لكنّه لم يكن وداعا. لقد كان بإمكانهم الاتّصال ببعضهم في أغلب الأحوال أصلا.
"إلى اللقاء."
ببساطة، قفز باسل وركب الموجات الروحيّة فحلّق في الأفق.
تنهّد الجنرال رعد ثمّ صاح فجأة: "لا تعد حتّى تجد الحلّ يا أيّها الفتى القرمزيّ."
كان باسل بعيدا، لكنّه سمع صوت الجنرال رعد بسهولة، فهما قد كانا ساحرين روحيّين الآن.
"لو وجدتك متكاسلا عند عودتي، فلن أقبل أيّ تأجيل لمبارزتنا."
ردّ باسل بعدما توقّف، ثمّ أكمل تحليقه نحو العالم المجهول الذي كان ينتظره.
بعدما صار العالم الوهن عالما روحيّا، تضاعف حجمه بمرّات عديدة. لقد صار حجمه السابق كمجرّد جزيرة وسط مئات الجزر في حجمه الجديد، ومع ذلك، كان العالم الوهن مجرّد عالم ضئيل مقارنة بالعوالم الروحيّة الكبرى والأقدم.
***
بعد الترحال لبضعة أشهر، رأى باسل ظلّا في الأفق، وهذه المرّة، كان الظلّ كبيرا كثيرا لدرجة لا يمكن أن يكون مجرّد ظلّ لجزيرة.
كانت الشمس تغرب خلفه، لكنّها استغرقت نفس وقت الغروب كما كانت تفعل في السابق بالرغم من أنّ العالم كبر. استنتج باسل أنّ ذلك على الأغلب بسبب أنّ العالم روحيّا أيضا وليس فقط أكبر. حتّى الجاذبيّة لم تتغيّر، وهذا كان خير دليل. أوَ لم يحمي العالم المخلوقات الحيّة عندما كان يتحولّ روحيّا في المرحلة النهائيّة.
استغرق باسل بضعة دقائق قبل أن يصل أخيرا إلى اليابسة. تجلّت أمامه أرض لا حدود لها، وفي نفس الوقت، أحسّ باسل بالنسيم العليل الذي داعب بشرته، والطاقة الروحيّة التي كانت هذه الأرض غنيّة بها.
"يا لها من مهدرة؛ لا يمكنني الاستمتاع بكلّ هذه الطاقة لوحدي للأسف."
كان العقاب الذي أصاب باسل أسوء شيء يمكن أن يحدث لأيّ ساحر روحيّ. ومع ذلك، كلّ ما كان في ذهن باسل حاليّا هو التقدّم إلى الأمام وإيجاد حلّ للمغادرة: "لنكتشف ماهيّة هذه الأرض بينما نفكّر في حلّ. وأيضا، بما أنّ هذه الأرض غنيّة لهذه الدرجة بالطاقة الروحيّة، لابدّ وأنّ مناطقها المحظورة أو المباركة مدهشة للغاية. قد يكون من الصعب إيجاد شيء بنفس جودة 'وريد تنين'، لكن كلّ ما يوجد هنا متاح لي وحدي إذا فكّرت في الأمر بشكل منطقيّ."
بالطبع، كان باسل يعلم أنّه ما تزال هناك احتماليّة وجود أحدهم. كيف؟ الجواب كان هو تحوّل العالم الروحيّ الذي سمح للعديد بالتسلّل إلى العالم الواهن. بالطبع، كان ذلك احتمال ضعيف؛ كلّ من استطاع العبور إلى العالم الواهن كان في مستوى عالٍ، وأشخاص مثل هؤلاء غالبا قضوا أغراضهم وعادوا إلى أوطانهم بعدما انتهوا قبل انغلاق الشروخ الفضائيّة.
"إن كان هناك شخص هنا، فلا بدّ وأنّ ظروفه لم تسمح له بالعودة."
نظر باسل إلى الخلف بعدما كانت الشمس قد اختفت تماما وحلّ ظلام حالك، كلّ ما يسمعه هو أمواج البحر الهادئة ونفَسه البطيء جدّا.
لم يكن قلقا بشأن الوحوش بما أنّه لم يدخل إلى منطقة محظورة بعد، لكنّه بقي على أهبة الاستعداد كالعادة وتحرّك نحو الغابة العظيمة التي كانت هي تلك المنطقة المحظورة، والتي غطّت بصره من جميع النواحي.
بعد مرور حوالي ساعة من الجري، كان باسل ما يزال في الغابة. لقد كان هذا غير معقول. كما لو أنّه سقط في عالم كلّه غابة أو ما شابه. لقد كانت هذه أكبر غابة في العالم الواهن بدون شكّ.
بالطبع، لم يأخذ باسل مسارا مستقيما، لكن بالرغم من ذلك كانت هذه الغابة مدهشة. كانت أشجارها عاليّة كالجبال وبدت من عالم آخر تماما.
نعم، من عالم آخر... لطالما تساءل باسل عن نموّ العالم الروحيّة وكيف تغدو أكبر ومن أين تأتي تلك الأراضي الجديدة وفي بعض الأحيان وحوش جديدة. ألا يمكن أنّ تكون هذه أراضٍ من عوالم مجهولة؟
لم يمكن أن تكون من العوالم الروحيّة المعروفة، لأنّه أيّ أحد سيكون قد لاحظ ذلك بالفعل. بالأحرى، ستنقص أراضٍ من العوالم الروحيّة الأقدم فقط لتظهر كأراضٍ جديدة. كان ذلك ينفي فكرة نموّ العوالم الروحيّة نفسها.
"ما الذي يوجد غير العوالم الأربعة عشر إذا؟"
بالطبع كان باسل يعلم كبقيّة الناس أنّ هناك كواكب ونجوم ومجرّات في هذا الكون الفسيح، لكن عوالم روحيّة؟ ألم توجد العوالم الروحيّة بسبب السحرة الروحيّين والعكس صحيح؟
كلّ ما فكّر فيه باسل للتوّ زاد من احتماليّة وجود عوالم روحيّة مجهولة غير العوالم الأربعة عشر، وهذا زاد من اهتمامه في بلوغ تلك القمّة غير المقبوضة، التي زلقت من كفّ السارق الخسّيس في آخر اللحظات.
وبينما يفكّر باسل في كلّ هذه الأمور الكونيّة، كان هناك ظلّ في السماء يراقبه بصمت. كان الظلّ بعيدا لدرجة لا يُرى فيها، ومع ذلك استطاع مراقبة باسل. اتّخذ هذا الموقع لأنّه سيكون من الصعب على حتّى إمبراطور روحيّ أن يلاحظه بينما يستطيع هو في المقابل رؤية كلّ شيء بعينيه اللتين بدتا تستطيعان اختراق الأبعاد ورؤية ما يوجد فيها وبعدها.
راقب الظلُّ البشريَّ الذي كان يتحرّك بسرعة سيّد روحيّ، فعلم أنّه لن يشكّل خطرا عليه على الأقلّ، فاستمرّ الظلُّ بلحاقه لمدّة أطول. لقد كان يريد أن يعلم كلّ شيء عن هذا البشريّ قبل أن يقدم على خطوته القادمة. من يعلم، قد يكون مجرّد طعم لإمساكه.
وهكذا، مرّت ساعات ثمّ أيّام، فأسابيع في نهاية المطاف. ومع ذلك، لم يفعل الظلّ أيّ شيء لباسل. لقد كان يراقبه بعناية. لسبب ما، كان البشريّ يمتصّ الطاقة الروحيّة من الأحجار الروحيّة فقط وليس من العالم، ما جعله تصرّفا غريبا. ما أثار اهتمامه هو كيف كان البشريّ يتحرّك في هذا المكان بأريحيّة كما لو أنّه كان في فنائه الخلفيّ.
لقد كان قتاله ضدّ الوحوش الروحيّة التي التقاها في طريقه حريصا، لكنّه كان عاديا. فقط قوّة جسده التي كانت مبهرة قليلا وكانت فوق المتوسّط. لم تكن طاقته الروحيّة قويّة للغاية لذا لابدّ وأنّه قد دخل إلى المستويات الروحيّة مؤخّرا فقط. لا شكّ في أنّه من هذا العالم.
"هل يمكن أنّه رائد هذا العالم؟"
قصد الظلّ بالرائد الشخص الذي يكون يسبق الآخرين بمساره الروحيّ في عالمه. وفي سياق آخر، يمكن أن يعني الرائد أوّل ساحر روحيّ في عالم روحيّ.
"كما هو متوقّع من هذا العالم الواهن، حتّى الرائد ضعيف للغاية. اللعنة، لربّما كان عليّ المغادرة بعد كلّ شـ..."
لم يكمل الظلّ كلامه حتّى صعدت القشعريرة مع جسده فجأة وارتفع إلى السماء أكثر ممّا كان عليه أصلا كردّة فعل. تعرّق قليلا ثمّ أعاد نظره إلى البشري: "لا يمكن... لابدّ وأنّني تخيّلت فقط."
نظر إلى البشري هذه المرّة فوجده ينظر إلى الأعلى، لا، بل يوجّه وجهه إلى الأعلى، لكن بعينين مغلقتين.
"أفّ! اللعنة عليك، جعلت قلبي يسقط لسروالي الداخليّ فجأة. بالطبع لا يمكنك أن ترصدني من هناك. إنّني بعيد عنك بعشرات الكيلومترات مرتفعا في السماء. يا لي من أخبل، كيف لي أن..."
لم يكمل كلامه حتّى فتح البشريّ عينيه أخيرا، وهذه المرّة، كان متأكدا؛ لقد التقت أعينهما بدون شكّ. تانك العينان اللتان نظرتا إلى روحه ودرستاها كانتا مرعبتين لأقصى الحدود، خصوصا بوجود تلك الدائرة المضيئة حول كلّ حدقة قرمزيّة.
وقف البشريّ، فصُعِق الظلّ. ما الذي ينوي البشريّ فعله؟ هل يجب أن يهرب الظلّ؟ لماذا ما يزال يفكّر في الأمر أصلا؟ ألا يجب أن يكون قد هرب بالفعل؟ أيّ أحد باستطاعته رصده من كلّ هذا البعد ليس شخصا طبيعيّا بكلّ تأكيد.
بدون أيّ تأخير، هرب الظلّ في الآفاق بعدما استسلم عن محاولة معرفة هويّة باسل بالرغم من فضوله الشديد. لقد كان فضوله هو ما جعله مهجورا ومنفيّا في هذا العالم الواهن، لذا تعلّم درسه ولم يرد أيّ شيء له علاقة بذلك البشريّ بعد الآن.
حرّك باسل رأسه إلى الشمال؛ لقد كان ذلك هو الاتّجاه الذي هرب إليه الظلّ.
"يبدو أنّه قد حان وقتي لأكون المطارِد هذه المرّة."
خاب ظنّ باسل قليلا. لقد ظلَّ يتجاهل مراقبة الظلّ لمدّة طويلة حتّى يجعله يقترب منه، لكنّ الظلّ كان حذرا للغاية ولم يُقدِم على أيّ شيء بالرغم من أنّ باسل أوضح له كم كان البشريّ أمامه ضعيفا.
قفز باسل إلى السماء وبدأ يلاحق الظلّ، وبالطبع، بدون أن يسمح هذه المرّة للظلّ بأنّ يعلم عن وجوده أبدا. إلّم يقترب منه الظلّ، فسيلقي باسل عليه التحيّة مباشرة.
لسبب ما، أحسّ باسل أنّ هذا سيقرّبه من هدفه أكثر.
***
خفّف الظلّ من سرعته بعدما أن سافر لبضعة ساعات. وصل إلى الجانب الآخر من القارّة، والذي كان الجانب الآخر من الغابة العظيمة أيضا. تنفّس الصعداء أخيرا وأخذ استراحة بجانب بحيرة غنيّة بالطاقة الروحيّة. لم تكن البحيرة بمستوى البحيرة المباركة بالطبع.
"من كان ذلك البشريّ؟ أنا متأكّد أنّه رآني. هل يمكن أنّه أحد الذين طاردوني إلى هنا؟ لكن كيف يُعقل ذلك؟ لا يمكن لسيّد روحيّ أن يأتي إلى هذا العالم عبر تلك الشروخ الفضائيّة لوحده. انتظر... هل يعني هذا أنّه إمبراطور روحيّ أو بمستوى أعلى حتّى أنّه استطاع خداعي وجعلي أظنّ أنّه سيّد روحي فقط؟"
استمرّ الظلّ في تحليلاته العقيمة: "لا، انتظر، انتظر... ذلك غير ممكن. كلّ من لاحقني كان بضعة ملوك روحيّين ومن أقل مستوى."
تنهّد الظلّ ثمّ هزّ رأسه شمالا ويمينا: "على أيّ حال، لقد تخلّصت منه، لذا يجب أن أنسى أمره. ربّما علي مغادرة هذه القارّة في أسرع وقت حتّى أقطع الشكّ."
لقد أحبّ الظلّ هذه القارّة. شعر أنّه محظوظ لأنّه وجد مثل هذا المكان في عالم واهن تحوّل إلى عالم روحيّ للتوّ، لكنّه كان مستعدّا للتخلّي عن كلّ هذا والهرب إن تطلّب الأمر ذلك.
"لا داعٍ للهرب."
التفت الظلّ بسرعة البرق بعدما سمع تلك الكلمات تخرج من البشريّ الذي ظهر خلفه في السماء.
"كيف...؟؟؟!!!"
صعدت معه القشعريرة ثمّ أشار بإصبعه إلى باسل: "اللعنة! كيف تبعتني إلى هنا؟! من أنت بالضبط؟ لماذا لم تعد إلى عالمك بعد؟"
أمال باسل رأسه قليلا، لكنّه استنبط حال الشخص الآخر بسرعة: (لا عجب في هروبه السريع، لكن من لاحقه إلى عالمنا حتّى؟ على أيّ حال، لنركّز على عدم هربه. سيكون من المزعج ملاحقته مرّة أخرى. ليس كما لو أنّه يمكنني مجاراته للأبد بفنوني القتاليّة وقدرات الأبله الفضائيّة.)
لقد كان باسل مجرّد سيّد روحيّ ولم يمرّ على غدوّه كذلك سوى بضعة أشهر، دون ذكر أنّ نموّه بطيء جدّا مقارنة بباقي السحرة؛ لقد كان لا يستطيع امتصاص طاقة العالم وكان لديه روحان لذا احتاج لضعف ما احتاجه الآخرون للنموّ.
"أنا باسل."
نزل باسل على الأرض ونظر إلى صاحب الظلّ بتمعنّ. لقد كانت بشرته سوداء لكن مائلة للرماديّ، وكان لديه قرنان صغيران بارزان من شعره الأبيض الطويل الذي لم يخفِ شبابه الواضح. كانت عيناه ضيّقتين لكنّ حدقتيهما الزرقاوين كانتا بارزتين بسبب توهّجهما بضوء أبيض خافت.
تمعّن باسل النظر في هذا الشخص الذي كان شيطانا كيفما رأيته.
قطب الشيطان: "ها؟ لم أسألك عن اسمك اللعين."
رفع باسل حاجبه: "لكنّك سألتني عمّن أكون."
"نعم، فعلت، ولكن... اللعنة! لمَ عليّ أن أخوض هذا النقاش الغبيّ معك الآن؟"
لم يزد الشيطان كلمة أخرى ثمّ قفز إلى السماء محاولا أن يطير بعيدا مرّة أخرى. وبالطبع، لم يقف باسل هناك بلا حركة.
(إنّه واثق في سرعته تلك، ومعه حقّ في ذلك.)
لقد استطاع باسل اللحاق به بخفاء فقط بسبب التحكم الحكيم السليم وتقليص المسافة بالاعتماد على فنونه القتاليّة والأبله، لكنّ كلّ ذلك سيكون بلا فائدة عندما يهرب الشيطان مرّة أخرى، لأنّه يعلم الآن أنّ باسل يستطيع اللحاق به كلّ هذه المسافة البعيدة.
لقد كان باسل سيّدا روحيّا في نهاية المطاف، ولم تكن لديه طاقة وفيرة ليجاري بها شخصا في مستوى هذا الشيطان. نعم، لم يعد لدى باسل طاقة غير محدودة كما كان سابقا.
(ولهذا، سأستخدم طاقتي لإيقافك، لا للّحاق بك.)
فكّر باسل في كلّ هذا ما أن بدأ الشيطان يتراجع بينما يتكلّم، لذا بمجرّد ما أن استدار وقفز الشيطان حتّى كان باسل قد اعترض طريقه ووجّه لكمة في اتّجاه وجه صاحب الظلّ. لقد كانت لكمة تخرق قوانين العالم ولم تتقيّد بمفهوم الفضاء.
لم تكن أيّ لكمة، بالطبع. لقد كانت لكمة حملت كلّ ما امتلكه باسل من قوّة. لكمة منحها باسل اسم 'لكمة انفلاق السماء'.
شعر الشيطان بالضغط، والثقل، والسرعة، واعوجاج وتشوّه الفضاء... كلّ ذلك ولّدته وخلّفته اللكمة التي أطلقها البشريّ، فشعر الشيطان أنّ عمره نقص 10 آلاف سنة في تلك اللحظة قبل أن يستطيع تغيير مساره في آخر لحظة حتّى أنّ جسده التوى بشكل غريب واستمر محلّقا بدون توازن في السماء إلى أن اصطدم بجبل ومحا قمّته.
وقف الشيطان بسرعة كبيرة وأزاح الغبار من أمام عينيه متجاهلا الدم الذي كان يسيل من وجنته التي خُدِشت في آخر اللحظات، ثمّ رأى ما خلّفته تلك اللكمة من دمار.
"لقد أخبرتك ألّا تهرب."
محا باسل الأرض فصنع طريقا عريضا بعشرات الأمتار وعميقا بحوالي المترين. وكلّ هذا بالرغم من أنّه كان عاليا في السماء بعشرات الأمتار بعدما اعترض طريق الشيطان. ما جعل الشيطان مرعوبا كان الفضاء الذي كان ما زال مشوّها، والذي كان يبدو كما لو أنّه سيسحق أيّ شيء تماما إن اقترب منه، فما بالك إن كان فيه.
لقد كانت هذه لكمة استخدم باسل فيها فنونه القتاليّة الثلاثة وجميع عناصره السحريّة باستثناء عنصر الماء. صلّب ذراعه بإمكانيّة عنصر الأرض وأشعل نارا بيضاء وعصفها برياح صاعقة ثمّ زاد من قوّة كلّ شيء بعنصر التعزيز. كلّ إمكانيّات العناصر كانت مستخدمة أيضا. لقد كانت هذه اللكمة شيئا لا يستطيع أيّ سيّد روحيّ القيام به، لذا كان الشيطان مذهولا وزاد إصرارا على الهرب.
(ليس هناك أيّ سيّد روحيّ يمكنه إلقاء مثل تلك اللكمة. عليّ الهرب، ولو كان عليّ الهرب لسنين بدون توقّف إطلاقا.)
حتّى لو لم تقتله تلك اللكمة قبل قليل، كان متأكّدا أنّها كانت لتجعله عاجزا عن الحركة تماما. لا بدّ وأنّ ذلك اللعين يريد إلقاء القبض عليه كما أُمِر.
"اللعنة! حتى البشر يمكن أن يصيروا شياطين. يا له من زمن ساخر."
نهض الشيطان والتفت ليغادر، لكنّه سمع البشريّ يتكلّم: "تلك اللكمة كانت لإيقافك. إن حاولتَ الهرب مرّة أخرى، لا أظنّ أنّ اللكمة القادمة ستوقفك بدون أيّ إصابات."
لقد استخدم باسل قوّته الكاملة في تلك اللكمة، لكن ليس لإيذاء الشيطان، بل لغرس الخوف في قلبه، خوف أكبر بكثير لدرجة تجعل فيها الشيطان يفكّر في عدم محاولة الهروب بعدما يهدّده باسل حتّى لا يتلقّى تلك اللكمة.
بالطبع، كانت حسابات باسل خاطئة هذه المرّة. للأسف، كان الشيطان مستعدّا للمخاطرة بكلّ شيء من أجل الهرب. لقد تخلّى عن كلّ شيء بالفعل عندما أتى إلى هذا العالم الواهن. كلّ هذا من أجل أن يعيش حرّا. سيُفضّل الموت على أن يُقبض عليه.
لقد كان باسل يعلم أنّ محاولة إقناع هذا الشيطان أنّه لا ينوي أيّ سوء باستخدام الكلام فقط لن ينفع، لذا استخدم قبضته. كان من المستحيل أن يستمع له هذا الشيطان الذي هرب إلى الجانب الآخر من القارّة ما أن لاحظ أن باسل يعلم بوجوده. ومع ذلك، لم يتوقّع أنّ الشيطان سيظلّ مصمّما على الهرب حتّى في هذا الوقت.
وبالطبع، لم يكن تصميم باسل أقلّ من تصميم الشيطان. ظهر الرمح الطاغيّة في يد باسل، فاخترق باسل الفضاء وأكمل اختراقه مباشرة خلف الشيطان.
كانت ردّة فعل الشيطان سريعة ما أنّ أحسّ بالطاقة المرعبة خلفه. قفز إلى الوراء ثمّ شكّل بضعة حواجز بينه وبين باسل، ومع ذلك، تحطّم حاجز بعد الآخر كالزجاج تحت ثقل وطاقة الرمح الطاغيّة.
وفي نفس الوقت، وجد باسل نفسه محاطا من جميع الجهات بموجات صوتيّة جعلت سمعه عديم النفع، ولم يطل الوقت حتّى انفجرت الموجات الصوتيّة في نفس الوقت وجعلت من المكان الذي كان فيه باسل يتفتّت.
لم يقل الشيطان شيئا ولم يهتمّ بما حدث لباسل الذي تلقّى ذلك الهجوم مباشرة. التفت فقط وهرب. كلّ ما شغل باسل هو الهرب، وليس القتال.
ظهر ظلّ باسل بين الغبار سليما بالرغم من أنّ ملابسه كانت ممزّقة. لسبب ما، كانت هناك دماء على ثيابه، لكن لم تكن هناك أيّة جروح.
"وأنا الذي ظننت أنّه سيخفّض من دفاعه لوهلة بعدما أتلقّى الهجوم."
لقد كان باسل حكيما سيّاديّا، وكان من المستحيل أّلّا يلحظ كيف استخدم الشيطان سحر الحواجز، الذي يُستخدم للدفاع في العادة، لتشتيت انتباه العدوّ، واستخدام إمكانيّة سحر الصوت لسرقة سمعه وتفجيره هناك.
لم يكن الشيطان ضعيفا. لقد كان حاكما روحيّا، لكنّ باسل قاس قوّته في هذه الفترة التي واجهها بعضهما بالتحليل الحكيم الشامل، ولاحظ موهبة الشيطان المرعبة. لقد كانت سرعته المذهلة تلك تفوق سرعة بعض الملوك الروحيّين حتّى.
تفاجأ الشيطان الذي كان هاربا لمّا لاحظ أنّ باسل لم يُصب بأذى، فزاد من عزمه على هربه. ما زال البشريّ يبدو كسيّد روحي، لكن كيف لسيّد روحيّ أن يملك تلك القوةّ وكلّ ذلك الدفاع ويصمد هجوم كذلك من حاكم روحيّ؟
لابدّ وأنّه إمبراطور روحيّ يخفي قوّته أو يقمعها لسبب ما.
بالطبع، تأذّى باسل كثيرا. لقد كان أحد أفضل هجمات حاكم روحيّ عبقريّ، ومن المستحيل على باسل أن يظلّ بخير بعد تلقّي مثل ذلك الهجوم. كلّ ما حصل هو أنّ باسل يملك جسدا لا مثيل له، جسد يُشفى بسرعة تخدع العين.
كانت الثياب الممزقة والملطّخة بالدم خير دليل، لكن هذه مجرّد تفاصيل لم يكن ليلقي الشيطان لها بالا في حاله المتوترّ ذاك.
استهدف باسل الشيطان بالرمح الطاغيّة، فشعر الشيطان بالطاقة التي كانت تتركّز في رأس الرمح: "ما ذلك الرمح على أيّ حال؟ كيف لرمح أن يملك تلك الهيبة ويشعرني بهذه الرهبة؟ كما لو أنّ وحشا عتيقا، لا، بل وحوشا عتيقة تريد قطع حلقي."
لم يكن ليتخيّل الشيطان ولو في أكثر أحلامه جنوحا أنّ الرمح يعود في الحقيقة لساحر كان بمستوى سلطان أصليّ.
صار الرمح الطاغيّة سلاح باسل الروحيّ، وهذا يعني أنّه صار مجرّد سلاح بمستوى سيّد روحيّ، لكنّ قدراته الطبيعيّة كانت ما تزال موجودة، بالرغم من أنّ بعضها لا يمكن استخدامه إلّا بعدما يرتفع باسل في المستويات أكثر.
ظنّ الشيطان أن باسل سينتقل إليه مرّة أخرى، لكن...
زبااام
صُنِع ثقب في جنب الشيطان، الذي راوغ الهجوم في آخر لحظة لكن ليس بالشكل الكافي.
"ماذا حدث؟"
هذه المرّة، لم ينتقل باسل عبر الفضاء، ومع ذلك، لسبب ما اخترقه هجوم باسل من بعد مئات الأمتار؟
لم يفهم الشيطان ما حدث، لكن باسل استخدم إمكانيّة عنصر التعزيز التي صارت تجعل مفهوم المسافة بينه وبين هدفه معدوما بعدما صار يستخدم قدرات الحكمة السياديّة الثلاثة.
لقد كان ذلك الامتداد الكلّيّ، وصاحب معه هجوما من الرمح الذي كان يستطيع اختراق الفضاء حتّى، فما بالك عندما أضيف إليه كلّ ما استخدِم في لكمة انفلاق السماء.
وقف الشيطان بينما يمسك بجانبه بعدما أوقف سيلان الدماء التي تدفّقت للخارج كنافورة.
"لا تهرب. لا أقول هذا لأنّه لا يمكنني إيقافك، بل لأنّني لا أريد قتلك."
"لا تريد قتلي؟" نظر الشيطان إلى الجرح العميق ثمّ إلى باسل: "هل يُفترض أن تكون تلك سخريّة؟"
"يُفترض أن تكون تلك تحذيرا. إنّني لست في مزاج جيّد حتّى ألعب معك 'المطاردة'. لو لم أكن مهتمّا في سماعك لكنت جثّة هامدة بالفعل."
توهّج الخطّ الذي يمرّ بمنتصف الرمح ونبض كقلب حيّ، فصعدت القشعريرة مع ظهر الشيطان لمّا رأى ذلك المشهد. كلّما حدّق إلى الرمح، شعر أنّ الرمح يحدّق إليه أيضا.
"يبدو أنّ هذا الأبله متحمّس لقطعك لسبب ما، فلا تجعلني ألبّي رغباته. إنّني حقّا لا أريد فعل ذلك."
نظر الشيطان إلى هذا البشريّ الذي يتكلّم عن سلاحه كمخلوق حيّ... المجانين وحدهم من يفعلون ذلك.
(يريد قطعي؟ أليست تلك رغبتك فقط يا مخبول؟)
أراد الشيطان أن يصرخ بتلك الكلمات، لكنّه لم يجرأ. لقد أصيب بجرح بالغ ولم يبدُ أنّه قادر على الهرب من هذا البشريّ المجنون.
"ماذا تريد منّي؟"
لقد كان الشيطان ما يزال يشعر برغبة باسل الشديدة في قتله. لم يكبح باسل تلك الرغبة إطلاقا، ولهذا شعر الشيطان أنّه مخبول لمّا قال باسل ما قاله عن الأبله.
"سبب كي لا أقتلك. آه، وأيضا، مهتمّ في سبب هروبك. لا شكّ في أنّه ذو صلة بتيْنك العينين اللتين تملك."
صعدت القشعريرة مع جسد الشيطان مرّة أخرى، وهذه المرّة بسبب نظرات باسل التي أحسّ أنّها ترى عبره بسهولة. كلّما حدّق إليه باسل كان يحسّ أنّه يعلم عن أشياء ربّما لا يعلمها هو عن نفسه.
بلع الشيطان ريقه بصعوبة: "هل حقّا أنت لست منهم؟"
"لا أعلم عمّن تتحدّث، لكنّني من هذا العالم. كلّ ما حدث هو أنّني رأيت شيطانا يجوب عالمي، فلحقت به. والآن، أخبرني، هل أنت مستعدّ للتحدّث أم لا."
أحكم باسل قبضته على الرمح الطاغيّة، فزاد توهّج ونبض الرمح، لكن سرعان ما خاب أمل الأبله.
"أ-أنا مستعد. لا، بل أرجوك، أنصت لي."
***
بعدما لاحظ الشيطان أنّه لا يوجد مهرب، انصاع للأمر الواقع وترجّى باسل كي ينصت له. كان حقّا خائفا من باسل الذي بدا له بالكاد يقف في مكانه حتّى لا يقتله.
رفع باسل حاجبه بسبب تصرّف الشيطان المفاجئ، ثمّ أعاد الرمح إلى أعماق روحه واقترب ببطء من الشيطان في السماء. لم يكن هذا الأخير مرتاحا لدنوّ باسل لكنّه قمع رغبته في الهرب وظلّ في مكانه.
وضع باسل على ذقنه ثمّ بدأ يحدّق إلى الشيطان، مركّزا على عينيه بالضبط. طال التحديق حتّى اضطرّ الشيطان للتحدّث أوّلا بعدما شعر بالاستياء: "لقد قلت أنّك تريد التكلّم..."
"آآه... لا تقلق، لقد انغمست أكثر من اللازم هناك. ما رأيك أن نجلس على ذلك الجبل ونتحدّث؟ إنّها إطلالة جيّدة."
كان الجبل يطلّ قريبا من الساحل وكان يطلّ على الغابة العظيمة، لكنّه كان أيضا الجبل الذي محا باسل قمّته بالشيطان. بلع هذا الأخير ريقه بعدما تذكّر ذلك وردّ بسرعة: "طـ-طبعا، طبعا!"
"حسنا، قد الطريق."
"هاه؟"
"ماذا؟"
"آه... لا شيء. طبعا، سأتقدّم."
'إنّه حذر للغاية.'
ظنّ الشيطان أنّ باسل يفعل هذا من باب الاحتياط، لكنّ باسل كان يريد التحديق إلى الشيطان أكثر فقط بينما يعودان إلى الجبل ذي القمّة المسطّحة. لم يحتج باسل لأن يكون في الخلف حتّى يكون محتاطا.
أحكم باسل قبضته بدون أن يشعر: (هل يجب أن أتطلّع للأمر؟ قد يكون هذا الشيطان أحد المفاتيح لمغادرة هذا العالم.)
لكن... لقد كان شيطانا. كانت الشياطين هي من قتلت كلّ من أعزّه باسل، بدءا بوالده الذي لم يلتقِ به قطّ. كانت لديه ضغينة عميقة تجاه الشياطين، ولم تكن شيئا يمكن تجاوزه ببساطة لأنّه يحتاج لمساعدة من شيطان ما، خصوصا ليس بعد أن فقد عائلته التي كانت أحد الأسباب الرئيسيّة التي جعلته يريد أن يغدو ساحرا.
وفي هذه الأثناء، تذكّر باسل شيئا لمّا كان في العالم الثانويّ الذي كان فيه الرمح الطاغيّة. آنذاك، قال الأبله شيئا مثيرا للاهتمام لكنّ باسل اعتبر ذلك الكلام تعبيرا مجازيّا.
("أتحدّثني عن تلك الشياطين؟ ليست لديّ أيّ ذكرى تتعلّق بذلك الشخص، لكنّني أتذكّر تماما أنّه عندما هيمنتُ على العوالم، لم يكن هناك من يجرؤ على مناداة نفسه بالشيطان. لقد علموا ماهية الشيطان الحقيقيّة آنذاك، ولكن يبدو أنّ العصور أنست بعض الأشقياء وجعلتهم يغترّون بأنفسهم. أيّ شياطين؟ دعهم يأتون وسيعلمون عند مواجهتي أنّهم كانوا يلعبون لعبة الصالح والطالح فقط.)
ماذا إن كان هذا الكلام أكثر من مجرّد غرور من الأبله؟ ماذا لو كان له معنى آخر؟ معنى حرفيّ؟
بلغا قمّة الجبل المسطّحة قبل أن ينتهي باسل من التفكير في هذا. التفت الشيطان فوجد باسل عابسا لسبب ما. فأسرع في حركاته واتّخذ جلسة الإقعاء بينما يضع قبضتيه على فخذيه.
لم يتوقّف النزيف من جنبه بالرغم من أنّه حاول إيقافه، ومع ذلك جلس باحترام.
نظر باسل إلى جرح الشيطان الذي لم يتوقّف عن النزيف وتذكّر ما فعله الأبله. لقد كانت هذه إحدى قدرات الرمح الطاغيّة، لكنّها تتفعّل فقط عندما يتعطّش الرمح للدماء، حرفيّا. لقد كان التسبّب في نزيف لا يمكن إيقافه مؤقّتا مجرّد جزء من تلك القدرة كلّها في الواقع.
بعدما سيطر باسل على الرمح علم عن قدراته. في البداية، كانت توجد قدرات الفضاء، ولكن بعدما استحوذ باسل على روح الوحش الثاني، شعر بالقدرة الثانيّة للرمح التي صارت متاحة للاستخدام. الأمر وما فيه أنّه كان لها شرط ولم يكن الأبله مهتمّا في التعطّش لدماء أغلب الأشياء.
'ومع ذلك، هو مهتمّ الآن في هذا الشيطان؟'
جلس باسل مربّعا، مقابلا الشيطان الذي لم يستطع أن ينظر إلى باسل مباشرة. لم يكترث باسل لمعاناة الشيطان ونزيفه. كان مهتمّا فقط في الفائدة التي يمكن أن يقدّمها هذا الشيطان له.
"ماذا تستطيع أن ترى بعينيك؟"
سأل باسل مباشرة بدون تأخير، فتجمّد الشيطان في مكانه.
'هل يعلم يا ترى؟ كيف لشخص من هذا العالم الواهن أن يكون بهذه القوّة والبصيرة؟ هل هو حقّا من هذا العالم؟'
بلع الشيطان ريقه ثمّ رفع رأسه وردّ بصعوبة: "أستطيع أن أرى بعيدا جدّا."
أمال باسل رأسه: "سأتجاهل محاولتك في إخفاء الحقيقة هذه المرّة فقط. والآن، أجب، بالتدقيق."
لم يكذب الشيطان، ولهذا أصرّ باسل على 'عدم إخفاء الحقيقة' و'التدقيق'. لقد كان باسل يعلم نوعا ما بالفعل عن ماهيّة تينك العينين. أراد فقط التأكيد، وربّما التعاون من الشيطان؟
شهق وزفر الشيطان مطوّلا، فقال بعدما استعدّ: "أستطيع أن أرى ما يقبع بين وبعد الأبعاد."
ظلّ باسل جالسا، هادئا، بالرغم من أنّه شعر بالرغبة في الوقوف. يجب أن يتأكّد من شيء آخر: "هل تعمل قدرتك تلك حتّى والعوالم مختومة عن بعضها؟"
تململ الشيطان في مكانه. لم يكن يريد التكلّم عن قدراته. لقد لوحِق حول العوالم بسبب هذا، فكيف له أن يسمح لهذا البشريّ المخبول أن يتحكّم فيه كما تحكّم فيه ذلك اللعين؟ لقد كان لبصره ذاك ثمن باهظ، لكن لا أحد يهتمّ بثمن لا يدفعه بنفسه، فعانى هو الأمريّن لوحده.
ظهر الرمح الطاغيّة بجانب باسل وبدأ يحوم حوله، فأراد الشيطان الهرب لكنّه تخلّى عن تلك الفكرة ما أن سمع شيئا جعله يشكّك في سمعه وحتّى بصره.
"لنقتله فقط. إنّ دماءه وعينيه يبدوان شهيّين."
رفع الشيطان يده المرتعدة بصعوبة بينما يشير بسبّابته إلى الرمح: "هـ-هـ-هـل تـ-تـ-تكلّم ذلك الرمح للتو؟!"
نظر باسل إلى الأبله وأومأ برأسه ببساطة. لقد سمح للرمح أن يتكلّم عمدا، ويبدو أنّ المفعول يسري.
"يا ربّ السماوات والأرض! إ-إنّه سلاح روحيّ حيّ. كيف لشخص من هذا العالم الواهن أن يملك شيئا كهذا؟ هل يمكن أنّك سلطان أصلـ-؟ آه... اعذرني يا سيّدي! إنّني آسف على وقاحتي!"
انحدر الشيطان أكثر حتّى كادت تلمس جبهته الأرض فسمع صوت باسل: "ارفع رأسك وأجب."
استقام الشيطان بجلسته بسرعة الضوء وردّ: "نعم يا سيّدي. يمكنني رؤية ما يوجد في العوالم الأخرى حتّى بوجود الختم بينها، لكن لأكون أكثر دقّة، يمكنني أن أرى ما بعد وبين الأبعاد حتّى، طالما لديّ ما يوصلني بما أريد رؤيته."
وقف باسل هذه المرّة بسرعة كبيرة: "هذه هي! ساعدني لمغادرة هذا العالم!"
"ها؟"
أمال الشيطان رأسه: "ما الذي تقصده؟ لماذا تريد مغادرة هذا العالم؟ كيف لي أن أساعـ-"
لم يطل كلام الشيطان حتّى كان الرمح الطاغيّة يوخز عنقه. توهّجت عينا باسل الذي قال: "اسمع يا هذا، لقد صار لديّ سبب كي لا أقتلك كما أخبرتك، فلا تجعلني أقدم على فعل شيء لا أريده. آه، ولا تظنّ أنّه لا يمكنني قتلك لأنّني أحتاجك؛ هذا الأبله يبدو مستعدّا لالتهامك أنت وقدراتك."
بالطبع، لم يكن ليعلم الشيطان أنّ باسل لم يكن مستعدّا لقتله بعد. لم يعلم باسل إن كان سينجح الأبله حقّا في اكتساب قدرات الشيطان أو ستكون تلك القدرات بنفس الجودة حتّى لو اكتسبها.
توهّج الرمح ونبض بسرعة كبيرة، فشعر الشيطان أنّ عجوزا منحرفا يريد لعقه.
"كيااااه!"
صرخ الشيطان بشكل غريب حتّى أنّه فاجأ نفسه واحمرّ وجهه الرماديّ. انكمش في مكانه ثمّ تمتم لنفسه: "كلّ هذا بسبب طمعي وفضولي... فقط لو أنّني لم أكتسب هاتين العينين اللعينتين من الأرض المحرّمة."
"هل حقّا تندم على حصولك ما يبتغيه حتّى بعض من السلاطين الأصليّين؟"
سأل باسل بعدما سمع أنين الشيطان، والذي ردّ بغضب: "بالطبع! لقد صارت حياتي جحيما منذ أن حصلت على هذه القدرة اللعينة! لا يهم أين أذهب، كلّهم يريدون استغلالي واستخدامي! حتّى أنت، إنّكم لا تعلمون عن الألم والضرر الذي أتحمّله في كلّ مرّة أختلس فيها النظر عبر الأبعاد! كلّ ما يهمّكم هو تحقيق أهدافكم اللعينة!"
تحمّس الشيطان أكثر من اللازم ونسي أنّ الرمح ما يزال عند عنقه، لكنّه تذكّر موقفه أخيرا ورفع ذراعيه مستسلما: "أ-أنا آسف. لم أقصد أن-"
"لمَ عليّ أنّ أهتمّ بشؤونك؟ شيطان مثلك لا يستحقّ تعاطفي ولا شفقتي، فلا تحاول."
"ها؟ شيطان؟ كهاهاهاها، نعم، نعم، بالطبع أبدو لك كشيطان. كيف لي أن أنسى أمرا بديهيّا كهذا ولو لوهلة؟"
عبس باسل وسأل: "ما قصدك؟"
"انسَ الأمر... أنت أيضا ستظنّ أنّني مجنون."
قبض باسل الرمح وقرّبه أكثر من عنق الشيطان حتّى بدأ يطعنه: "لقد طرحت عليك سؤالا."
تنهّد الشيطان ثمّ قال: "أنا لست بشيطان. بالأحرى، ليس هناك أيّ شياطين في المقام الأوّل."
أحكم باسل قبضته على الرمح أكثر: "أكمل!"
"لا يوجد عرق شياطين. يوجد البشر والأعراق الأخرى فقط. عرق الشياطين مجرّد شيء اخترعه ملك الشياطين الأوّل."
زاد عبوس باسل الذي لم يتكلّم بعد سماع كلام الشيطان، فتنهّد هذا الأخير مرّة أخرى: "أرأيت؟ أخبرتك أنّك لن تصدّقني."
"لا، بل أصدّقك."
"ها؟!"
كان الشيطان متعجّبا. كيف للبشريّ أن يصدّق مثل هذا الهراء؟ إنّه حقّا مخبول!
"لديّ فكرة عن الموضوع، لذا من المثير للاهتمام سماع هذا من شخص مثلك. أخبرني، كيف تعلم عن هذا بينما بقيّة العوالم ليس لها أيّ فكرة؟"
"ذلك... لا أستطيع أن أخبرك، حتّى لو هدّدتني بالقتل."
كانت نظرات الشيطان شاخصة.
أمال باسل رأسه ورفع حاجبه: "همم؟ يبدو أنّك صرت عازما فجأة. هل حقّا لا تريد القول حتّى لو متّ؟"
"بالأحرى، لو أخبرتك، فأنا متأكّد أنّك ستقتلني هنا والآن."
أعاد باسل الرمح إلى روحه وجلس مرّى أخرى: "مثير للاهتمام. لندع الأمر على حاله ونقل أنّك تعرف لسبب ما، لكن أخبرني من يعلم عن هذا السرّ أيضا؟"
"لا أعرف من بالضبط، لكن قلّة من كبار الشياطين فقط يعلمون."
"همم... بالطبع ملك الشياطين الحاليّ واحد منهم."
أومأ الشيطان رأسه ففعل باسل نفس الشيء. لقد تقبّل باسل هذا بسرعة أكبر من التي توقّعها الشيطان، فاستغرب هذا الأخير من هذا البشريّ المخبول. من يكون أصلا هذا البشريّ الذي ظهر هنا بشكل غير متوقّع؟
بالطبع، كان تفكير باسل سليما. لقد كانت لديه شكوكه بسبب الأبله أصلا. كلّ ما حصل هو أنّ هذه الشكوك تأكّدت.
نظر باسل إلى الشيطان... لا، إلى هذا الشخص أمامه ثمّ قال: "إذن، من أيّ عرق أنت في الأصل؟"
"أنا قمريّ. يبدو أنّنا سمّينا بهذا بسبب بشرتنا الرماديّة المظلمة وشعرنا الفضّيّ وأجنحتنا التي تشكّل هلالا عند بسطها، لكن هذا أمر عفى عنه الزمن. غالب المخلوقات التي تفتقد لمعظم الصفات البشريّة انضمّت لتصنيف الشياطين قبل عصور."
لقد كان باسل ينصت باهتمام. حقّا، كلّ ليلة تتعلّم حيلة. ما زالت هناك أشياء لا تُحصى لا يعلمها في هذه العوالم. انظر، حتّى مثل هذا السرّ العظيم اكتشفه بهذه الطريقة الاعتباطيّة. لا يجب أنّ يغترّ بنفسه لأنّه يملك الحكمة السياديّة التي نقلها إدريس الحكيم إليه بكلّ معرفته.
أخرج باسل 'حبّة ولادة جديدة سحريّة' ومنحها إلى 'القمريّ' ثمّ لمس جانبه المجروح.
"ها أنت ذا، توقّف النزيف. كلْ تلك الحبّة؛ ستساعدك على الشعور بتحسّن."
عبس القمريّ: "لماذا صرت تتصرّف هكذا؟ هل هذا لأنّني لست شيطانا؟ الأمر بهذه البساطة."
أومأ باسل رأسه: "نعم، الأمر بتلك البساطة، لكن ليس لأنّ 'عرقك' ليس شيطانا، بل لأنّك لا 'تعدّ' نفسك شيطانا. لم يتغيّر أيّ شيء بالنسبة لي؛ ما زلت سأمحو أيّ وقح يجرؤ على مناداة نفسه بالشيطان أمامي. لا أريد أن أقتبس ما قاله الأبله، لكن سأريهم 'ما' هو الشيطان الحقيقيّ حتّى لا يجرؤوا على وصف أنفسهم بذلك."
بالطبع، كان باسل يستخدم العصا والجزرة هنا، لكنّه كان صادقا في ما قاله أيضا.
بلع القمريّ ريقه وتردّد في استهلاك تلك الحبّة التي منحها له البشريّ المخبول، لكنّه لم يرد أن يرمي ما منحه له أيضا لذا استجمع شجاعته وابتلع الحبّة بسرعة بعينين مغمضتين.
كانت آثار الحبّة سريعة ومفاجئة حقّا. لم تعالج الجرح الناتج عن هجوم روحيّ سوى قليلا، لكنّها خفّفت من الألم وأنعشت طاقته السحريّة كثيرا وهذا سهّل عليه تحويلها إلى طاقة روحيّة بوقت أسرع.
'يبدو أنّ هذه الحبة ليس لها تأثير كبير على السحرة الروحيّين وهجماتهم كما هو متوقّع. لربّما حان الوقت لأصنع النسخة الروحيّة من هذه الحبّة.'
للأسف، لا يوجد العالم المجنون لمساعدته، لذا ما يزال يحتاج لبعض من الوقت حتّى ينجح في إتمامها لوحده.
انتظر باسل القمريَّ حتّى هدأ ثمّ سأل: "ما اسمك؟"
"ا-اسمي 'لونازول'. قلت أنّ اسمك باسل، أليس كذلك؟"
عبس باسل فأضاف لونازول: "يا سيّدي؟"
أومأ باسل رأسه: "نعم. والآن، لمَ لا نبدأ في البحث؟"
"ها؟ الآن؟"
"هل هناك سبب للانتظار؟"
"مستحيل عليّ الآن. الأمر يتطلّب منّي مجهودا كبيرا. إنّني ما زلت أتعافى بسببك."
"همم؟"
"...يا سيّدي!"
"سنبدأ غدا."
وقف باسل ثمّ نظر إلى الأفق. لقد كان يراه – حلّ العقدة التي شغلت باله لمدّة طويلة. ومع ذلك، حتى في هذا الوقت، لم يبتسم ولم يتذوق الجزر الذي يحبّه. كان على هذا الحال منذ تلك المأساة.
***
تغيّرت الفصول الموسميّة، فجاء ومرّ الصيف الحارّ الذي لم يستطع أن يجفّ تلك الأشجار العظيمة التي كانت المهرب المناسب من أشعة النجم الحارقة. كان الخريف مصحوبا برياح عليلة، لكن لم تتساقط فيه أيّة أوراق من الأشجار الصامدة. عندما أتى الشتاء، ظلّت الأرض جافّة كما لو أنّ المطر المتواصل ليلا نهارا لا يسقط في الحقيقة بسبب الأشجار العظيمة التي شفطت كلّ قطرة نزلت من السماء فورا.
وأخيرا، جاء الربيع. في هذا الموسم، صارت الغابة العظيمة تفرز طاقة روحيّة أكثر من العادة أضعافا مضاعفة، وكلّ شجرة كانت تنبض بالحياة والطاقة الروحيّة لدرجة قد تجعل حتّى لعاب الروحانيّين المباركين يسيل.
ظهرت أحجار روحيّة في العديد من الكهوف ونمت الوحوش الروحيّة بسرعة كبيرة بتغذّيها على تلك الأحجار الروحيّة ومنافسيها. لاحظ باسل ظهور بعض الوحوش في مستوى حاكم روحيّ. لقد كانت هذه القارّة التي وجد نفسه فيها غابة بأكملها تقريبا في الواقع. فقط مركز القارّة بقطر بضعة عشرات الكيلومترات والسواحل كانا خاليّين من الأشجار العظيمة.
"كنت أعلم أنّ هذا سيتطلّب وقتا، لكن مرّ عام كامل وما زلنا لم نصل إلى أيّ نتيجة."
عام كامل منذ أن التقى لونازول ولا نتيجة. بقي باسل في هذه القارّة بسبب غنائها بالأحجار الروحيّة بينما يتدبّر ويتفكّر في وسيلة للخروج ويساعد لونازول، لكن لا يمكنه المكوث هنا للأبد؛ يجب أن يبحث عن تلميح في مكان آخر. وللأسف، لم تثمر مجهودات كليوباترا أيضا، لكنّها اعتنت بالمدن الكبرى في العالم الواهن على الأقلّ.
"إنّني حقّا أبذل ما في وسعي هنا. لا يمكنني النظر بين وبعد الأبعاد إلّا من حين إلى آخر، فأنا أشعر أن الأشياء التي أراها بين الأبعاد تريد التهام روحي لأنّني أحاول اختلاس النظر وتجعلني أفكّر في الانتحار. لا يمكنني الاستمرار في المحاولة بدون أيّ دليل؛ أحتاج لشيء يربطني بما يختم العوالم عن بعضها."
جلس باسل متربّعا وقال: "فقط استمرّ في المحاولة. سوف أتدبّر قليلا."
بدأ باسل يمتصّ الطاقة من بعض من الأحجار الروحيّة التي جمعها من هذه القارّة، وفي هذه الأثناء، ثار فضول واهتمام لونازول في حال باسل الذي كان يمتصّ الطاقة من الأحجار فقط. أيّ شخص سيفهم أنّ هناك شيئا غريبا يحصل مع باسل، لكنّ لونازول كان متردّدا في تفقّد حاله خوفا من الموت. لقد كان هذا البشريّ يقظا طوال الوقت ولم يمكن التجسّس عليه خصوصا وهو لديه تلك الهبة العجيبة.
والآن، بعد مرور سنة والتقرّب من باسل قليلا وفهم شخصيّته نوعا ما، غامر لونازول واستخدم قدرة عينيه، ليس لرؤية ما بين وبعد الأبعاد، بل لاختلاس النظر بأعماق روح باسل.
"لـ-لا يمكن...؟!؟!"
***
توهّجت عينا لونازول الزرقاوان بضوء أبيض مشعّ، وبدتا كقمرين في ليلة بدر. أظلم العالم، وكلّ ما صار يراه لونازول هو النور الذي تشكّله حياة باسل. أراد واحتاج إلى يقترب من ذلك النور أكثر حتّى يرى، بالرغم من أنّ ذلك سيضرّه، كما لو أنّه بعوضة منجذبة للضوء.
للأسف، قبل أن يكتشف ما يختبئ في النور، انطفأ هذا الأخير تماما واختفى معه كلّ ما يختبئ خلفه. تفاجأ لونازول بما حصل. لقد عنى ذلك أنّ باسل وعى بما كان لونازول يفعله وحتّى أنّه استطاع إخفاء أسراره عن عيني لونازول الاستثنائيّتين، العينين اللتين سُمِّيتا بـ'العينين الفائقتين للأبعاد'.
لكن حتّى بعدما اختفى النور كلّه، انبثق شيء آخر في الظلام؛ فوجئ لونازول أكثر بعدما رأى خيط الضوء الذي ظهر، والذي امتدّ بلا نهاية نحو مكان ما في الظلمة اللانهائيّة.
اتّبع لونازول خيط النور بسرعة كبيرة وسرعان ما استنبط شيئا جعله يرتعد في مكانه. لقد كان الخيط يمتدّ إلى الحاجز الذي يختم العوالم عن بعضها، كما لو أنّه كان يدلّه على الطريق. هذا بدون شكّ...
"لـ-لا يمكن...؟!؟!"
كلّ ما أراد لونازول فعله هو اختلاس النظر، لكنّه في المقابل رأى شيئا جعل قلبه ينبض بشكل سريع حتّى أنّ أفكاره تلخبطت وهزّ رأسه شمالا ويمينا مرارا وتكرارا. لربّما لم يستطع اختلاس النظر على أسرار البشريّ المخبول، لكنّه اكتشف شيئا عظيما في المقابل.
وفي تلك اللحظة، وقف باسل ثمّ حدّق إلى لونازول الذي كان بعيدا ببضعة أمتار وبدأ يقترب منه. كان تعبير باسل خاليا من المشاعر فلم يعلم لونازول ما الذي كان البشريّ المخبول ينوي فعله هذه المرّة.
"هل ظننتَ أنّه يمكنك التجسّس عليّ ببساطة؟"
"لـ-لا، ا-ا-انتظر... هناك ما هو أهمّ من ذ..."
حتّى الكلمات هربت من فم لونازول، الذي لم يعرف إن كان يجب أن يُصدم ممّا رآه أو يخاف ويهرب من باسل الذي كان يبدو كحاصد موت يقترب.
"أهمّ؟ لا أظنّ ذلك. حتّى لو فشلت في التجسّس عليّ، لا يمكنني أن أتغاضى عن ذلك كما لو أنّه لم يحدث. عليّ أن أغرس بعضا من الآداب أوّلا."
لم يخبر باسل أيّ احد بأسراره، وحتّى أنمار لم تعلم عن كلّ شيء، بل القليل فقط. لم يخبرها عن الوحش النائم ولا عن السارق الخسّيس بالرغم من أنّها تملك فكرة عامّة عن الموضوع.
"انتظر! انتظر، اللعنة! لقد أخبرتك أن تنتظر يا أيّها البشريّ المخبول!"
من شدّة الصدمة والتوتّر، فقد لونازول صوابه أخيرا ووقف بينما يصيح، حتّى أنّ باسل رفع حاجبه وحقّا توقّف منتظرا.
أكمل لونازول: "أعلم... أنا آسف جدّا على محاولة اختلاس النظر. لقد غلبني فضولي مرّة أخرى، فأرجو منـ..."
لم يكمل كلامه حتّى كان باسل قد بدأ يتحرّك من جديد: "لست مهتمّا. يجب أن أغرس هذه الذكرى في عظامك حتّى لا تكرّرها مرّة أخرى."
"اللعنة!"
رفع باسل يده إلى الأعلى ثمّ أنزلها وكان على وشك أنّ يفقع رأس لونازول، فإذا بباسل يسمع شيئا غير معقول.
"لقد رأيتُه! إنّني رأيتُه، فتوقّف!"
توقّفت يد باسل لما صرخ لونازول في آخر اللحظات، مستميتا. رآه؟ كان هناك شيء واحد فقط يمكن أن يعنيه لونازول بذلك. لقد كان يحاول أن 'يراه' طيلة العام الماضي.
"لو كانت هذه مجرّد استماتة حتّى لا أفقع رأسك، فاستعدّ لما هو أسوء."
كان قلب باسل ينبض بهدوء، لكن بهدوء أكثر من اللازم. كان قلبه يكاد يبدو ساكتا.
"فيووو..." أزاح لونازول العرق عن جبهته: "نجوتُ. المهمّ، لقد رأيت الدليل، وذلك حدث عندما حاولت اختلاس النظر بأعماق روحك."
"همم؟ ما الذي تقوله؟"
أشار لونازول بسبّابته إلى باسل: "إنّني أخبرك أنّ الدليل هو أنت. فقط أخبرني ما أنت؟ اللعنة! ألا يجب أن تطلعني على بعض من المعلومات بعدما ساعدتك؟ آه؟"
"انتظر لحظة، ما الذي تعنيه بأنّني الدليل؟"
"ها؟ كيف يمكنني أن أعلم ذلك؟ لقد رأيت أنّك روحك هي الدليل، وهذا هو كلّ ما أعلمه. ألا يجب أن تكون صاحب الفكرة هنا يا وغد؟ لم شخص مثلك، من هذا العالم الواهن كما قلتَ، هو الدليل البغيض الذي يقود لما يختم العوالم عن بعضها؟ إنّ أسرارك عديدة، فشاركني بعضها منها، اللعنة!"
كان لونازول يلعن ويقلّل احترامه للآخرين بعدما يتحمّس، حتّى أنّه ينسى مع من يتكلّم. ومع ذلك، لم يهتمّ باسل بذلك هذه المرّة. كلّ ما كان يجول في بال باسل حاليا هو حياته وما مرّ به طيلة التسعة عشر عاما التي مرّ بها. نعم، منذ أن وُلِد، وحتّى قبل ذلك في الواقع، مذْ كان في بطن أمّه. كانت ذاكرته المثاليّة مثاليّة لمثل هذه اللحظات.
وبعدما استرجع الأحداث، بدءًا من الظلام الذي شعر به في بطن أمّه، وصوتها الذي الحنين الذي همهم له من حين لآخر فأنار ظلمته، إلى الوقت الذي صارت أنمار متعلّقة به، إلى اللحظة التي التقى فيها معلّمه، وصولا إلى الوقت الذي كان يخترق فيه إلى القسم الثاني من مستويات الربط.
هناك! توقّف استرجاع الأحداث هناك بالضبط، فبلع باسل ريقه وفتح عينيه على مصراعيهما، وتوقّف قلبه عن النبض تماما لأكثر من عشرين ثانية، حتّى أنّ لونازول كان مندهشا من أنّ باسل يمكنه صنع مثل هذا التعبير.
تمتم باسل لنفسه: "فقط ما الذي فعلته يا أيّها السابع؟!"
"سابع؟ ما الذي تعنيه؟ مهلا، أخبرني إن اكتشفتَ شيئـ-"
"يا لونازول، سنغادر الآن."
"ها؟ ما الذي تعنيه؟ أخبرني على الأقلّ ما الذي عنيته قبل قليل. وإلى أين سنذهب على أيّ حال؟ هل تظنّ أنّه يمكنك مغادرة هذا العالم فقط لأنّني وجدت الدليل؟ هناك أشياء أخرى يجب الاستعداد لها، ولمَ تظنّ أنّني مستعدّ للمغادرة أصلا؟"
"سنغادر هذه القارّة. لا تقلق، سأخبرك ببعض ممّا تريد معرفته في الطريق. إنّني في مزاج جيّد الآن، وأظنّ أنّك تستحقّ نوعا من التقدير."
"همف! يجدر بك ذلك يا لعين. أه..."
تراجع لونازول بضع خطوات بعدما تذكّر تصرّفاته منعدمة الاحترام وانحنى: "أعني... آسف يا سيّدي. أرجوك أخبرني ولا تفقع رأسي."
نظر باسل إلى هذا القمريّ الغريب، فاستدار وتجاهله تماما. ما كان عليه فعله الآن هو مشاركة الخبر السعيد مع كليوباترا للاستعداد.
(لقد مرّت أربعة أشهر بالفعل، لكن آسفة ما زلت أبحث.)
أومأ باسل بعدما سمع صوت كليوباترا في عقله: (لا تقلقي؛ أخبرتني أنّك ستتّصلين بي ما أن تجدين شيئا، لذا كنت لانتظر بصبر لو كنت أريد خبرا منك. على العكس، اتّصلت بك لأخبرك أنّه لا توجد حاجة لأن تبحثي أكثر.)
(لا حاجة؟ هـ-هل يمكن أنّك وجدت الحلّ؟ غير معقول... لا، هل حقّا يجب أن أستمرّ في الاندهاش في كلّ مرّة تفعل فيها شيئا كهذا؟)
تنهّد باسل: (لا أعلم إن كان هذا سيخيب آمالك أم سيجعلك ترتاحين لأنّني لست بتلك الغرابة، لكن لم أكن حقّا الشخص الذي اكتشف الحلّ، بل الرفيق الذي أخبرتك عنه.)
(آه، صاحب العينين الفائقتين للأبعاد؟ ظننت أنّ الأمر سيكون قريبا من المستحيل حقّا بعدما علمت أنّ شخصا مثله ولم يستطع إيجاد الحلّ قبل أربعة أشهر.)
(المهمّ، هل أعتمد عليك في الاستعداد؟ يجب أن تكوني قد ألِفت وريد التنين بحلول هذا الوقت.)
(إنّني هنا منذ أربعة أشهر بدون حساب الشهر الأوّل الذي صرفته هنا عندما أتيت أوّل مرّة، فكيف لا؟ على أيّ حال، من كان يتوقّع أنّ مثل هذا العالم الواهن يملك مثل هذه النعمة. لقد سمعت أنّ أولئك السحرة الروحيّين ظهروا هنا، لذا ألا تظنّ أنّ بعضا منهم قد صاروا على دراية بهذا الوريد بالفعل؟)
(لا شكّ في ذلك. لحسن الحظّ لم يكن لديهم وقت كافٍ، ولا يبدو أنّهم أرادوا من الآخرين أن يدروا بوجود الوريد لذا غادروا بهدوء حتّى تأتي الفرصة القادمة ويحتكرونه لأنفسهم. بالطبع، ليس هناك مجال لأنّ نسمح نحن بذلك.)
(طبعا! لقد عززّت المصفوفات في أكاديميّة الاتّحاد المباركة، ومدينة العصر الجديد، وحتّى حياة بعدما توسّطت لي. هذه هي النقط الثلاث الكبرى التي يتفرّع إليها الوريد من المصدر في نهر ددمم التنّين. ولا تقلق، إن تفرّع من جهة أخرى، فسوف أحرص على الاهتمام بذلك في محلّك إلّم تكن موجودا.)
(من المريح من أن يملك الشخص أحدا مثلك يمكنه الاعتماد عليه.)
لقد كان باسل دائما ينجز الأمور لوحده للأسف، وهذا بسبب عدم وجود من يساويه قوّةً وقدرةً حتّى ينجز ما يريد باسل إنجازه، لكن الآن توجد كليوباترا، التي تُعدّ خبيرة أفضل منه في بعض من المجالات وأكثر منه قوّة حتّى.
(طبعا يا باسل!)
(إذن سأعتمد عليك في البناء الأوّليّ للبوّابة، وسآتي بالدليل إلى هدفنا.)
(هل يمكنك أنّ تلطعني على ماهيّة هذا الدليل على الأقلّ؟)
(لا.)
(كنت أعلم أنّكَ ستقول هذا.)
(سيكون مثيرا للاهتمام رؤية ردّة فعلك مباشرة.)
(إذن سأتدرّب على التحكّم في ردّة فعلي بينما تأتي.)
(إلى اللقاء يا كليوباترا.)
(في انتظارك يا باسل.)
***
أخبره حدسه سابقا أنّ الدليل قريب منه، لكن لم يتوقّع باسل أنّ يكون هو بنفسه الدليل. يجب أن يكون الشخص محبّا لذاته ونرجسيّ لدرجة لا توصف حتّى يظنّ أنّه هو الدليل لما يختم العوالم.
بالطبع، كان باسل مغرورا ومتكبّرا في العديد من اللحظات، لكن كلّ ذلك كان من ثقة في النفس بناء على كلّ المعطيات التي حلّلها ووضع لها حسبانا. لم يكن معتوها حتّى يظنّ أنّ كلّ شيء يتمحور حوله.
لكن...
يبدو أنّ السابع قد كان يخطّط لبعض من الأشياء أكثر ممّا ظنّ باسل. لماذا هو الدليل؟ كان باسل على يقين أنّه سيعلم السبب عندما يقترب لما يختم العوالم كفاية.
"دعني أكرّر ما قلته بكلماتي. إذن، أنت تخبرني أنّه لسبب ما، قرّر سلطان أصليّ ختم العوالم أن يمنحك ما يمكن أن يدعى بالمفتاح؟ وليس أيّ سلطان أصليّ، بل الملك الأصليّ فوق ذلك."
كلّ العوالم علمت عن المعركة التي أهدمت الكواكب وأخمدت النجوم، والتي أدت إلى تضحيّة الملك الأصليّ من أجل أن يختم العوالم ويحبط خطط الشياطين وعلى رأسها ملك الشياطين.
بالطبع، استنتج باسل كلّ هذا بعدما حلّل الختم على العالم الواهن لمّا وُلِد من جديد من البيضة المشعّة، لكنّه لم يكن على دراية تامّة بما حصل بالضبط. كلّ ما استنبطه هو أنّ الملك الأصليّ استخدم ورقته الرابحة، والأخيرة، لمنح العوالم وقتا، بعدما فشل.
ولهذا، صار باسل عازما على أخذ طريق آخر غير الذي أراده الملك الأصليّ أن يأخذه. لقد تجنّب السابع السارق الخسّيس، لكنّ الرابع عشر واجهه مباشرة.
لكن...
الآن، شكّك باسل في ما ظنّه سابقا عن الملك الأصليّ. هل فشل حقّا؟ أم كان يعلم أنّ نهايته قريبة فتصرّف وفقا لذلك؟ هل يمكن أنّه علّق آماله على باسل؟ ملك العالم الأصليّ على ساحر يافع من العالم الواهن؟ لا، بل السابع على الرابع عشر.
ردّ باسل على كلام لونازول: "لا يسعني فعل أيّ شيء إلّم تصدّقني. هذا ما أستطيع استنتاجه أنا أيضا."
"أصدّقك أم لا أصدّقك... أنت... دعنا نتكلّم عن هويّتك أوّلا. إنّك تحمل أسرارا يملكها سوى السلاطين أو وَرَثَتُهم العباقرة الذين سيخلفونهم. هل تظنّ أنّني أعمى؟"
"لا داعٍ لتتفاخر بعينيك. لقد أخبرتك عن سبب كوني الدليل، لكن لا نيّة لي في إخبارك بالمزيد."
"همف! أيّا كان!"
استمرّ الاثنان في التحليق على ذلك الحال. بالرغم من أنّ لونازول حاول أن يسأل باسل عن نفس الشيء بضع مرّات أخرى، إلّا أنّه لم يحصل على أيّ إجابات. لم تنفعه عيناه مع باسل أيضا، وهذا زاد من غرابة الأمر أيضا.
وهكذا، مرّت بضعة أشهر حتّى اقترب الاثنان من أكاديميّة الاتّحاد العظمى.
"آه، بالمناسبة، عليك أن تتخفّى عن الأنظار. من المزعج أن أشرح موقفك لكلّ شخص ألتقيه. ابق في الخفاء حتّى ننعزل وأعطيك إشارة."
"متسلّط كالعادة. حسنا، حسنا."
بالرغم من أنّه لم يحبّ أن يُؤمر هنا وهناك، إلّا أنّ لونازول أحبّ رفقة باسل نوعا ما. ليس لأنّ باسل كان ممتعا للمرافقة، فهذا البشريّ المخبول لم يكن يبتسم حتّى، بل لأنّه بدا يحمل أسرارا قد تهزّ العوالم الروحيّة بأسرها. لم يكن لونازول ليقدر على قمع فضوله في مثل هذا الحال. لا، بل لم يرد أن يقمع فضوله هذه المرّة ولم يفكّر في أنّه سيندم أصلا. لقد كان يحسّ أنّ باسل سيؤثّر على العوالم الروحيّة، سواءً بشكل جيّد أم سيّئ، وأراد أن يكون جزءًا من ذلك، ولو من بعيد. بالأحرى، أراد أن يظلّ بعيدا. يمكنه أن يرى جيّدا من بعيد بالفعل.
بجانب البحيرة المباركة... هناك، جلست كليوباترا متدبّرةً، لكنّها فتحت عينيها فجأة ووقفت ثمّ التفت وابتسمت: "كنت في انتظارك."
"سعيد أنّك تبدين مرتاحة هنا."
***
"كلّ هذه الراحة بفضلك يا باسل."
كانت كليوباترا ممتنّة له ووعدت نفسها أن تبقى على ذلك الحال دوما. لا يهمّ إن واجه باسل العوالم الروحيّة كلّها في المستقبل، فستكون هناك لتقديم المساعدة بكلّ ما تملك من قوّة، بغضّ النظر عن العهد الذهني الروحيّ الذي أقسمت به مع باسل.
نظرت إلى ما وراء باسل فلاحظت ذلك الحاكم الروحيّ المتخفّي عن الأنظار عند سفح جبل، فاستغربت للأمر: "لماذا يحتاج للاختباء؟ هل هو خجول؟ لا تقل لي أنّه جبان أيضا؟"
رفع باسل حاجبه. هل تظنّ أنّه يجذب الجبناء إليه الآن أم ماذا؟
"لا تقلقي بشأن ذلك. لنذهب إلى القاعة الرئيسيّة."
كان باسل ينظر إلى البحيرة باهتمام، لكنّه أجّل الحديث بشأنها حتّى يعود إلى هنا. يجب عليه الآن الاهتمام بالأمور قبل المغادرة.
***
رحّب الجنرال رعد والقادة الثلاثة الآخرون بباسل. صار هناك أربع قادة في الأكاديميّة وليس ثلاثة بعدما انضمّ عضو آخر يمثّل قبائل الوحش النائم أخيرا. كان هذا العضو هو حاكم الجوّ بنفسه.
انحنى حاكم الجوّ أوّلا بعد ترحيب باسل: "سعيد لرؤيتك بخير يا مولاي. لقد استغللت هذه الفرصة لأكون جزءا من هذه الأكاديميّة التي أسّستَها من أجل عالمنا الواهن، فأرجوا أن تعذر وقاحتي لأنّني لم آخذ إذنك أوّلا."
تنهّد باسل بسبب طريقة كلام حاكم الجوّ الرسميّة. لقد صار زعماء قبائل الوحش النائم يتصرّفون باحترام مطلق تجاه باسل بعدما صرا الوريث الشرعيّ للوحش النائم. بالرغم من أنّ حاكم الجوّ استحوذ على روح طائر الفتخاء وصار قريبا من إيقاظ وحشه النائم، إلّا أنّه كان يكنّ قمّة الاحترام للوريث الشرعيّ، باسل.
أومأ فقط حتّى لا يُعقّد الأمور أكثر ونظر إلى أزهر زهير، الأمير السابق من إمبراطوريّة الأمواج الهائجة. كان هذا الشخص موهوبا من ناحيّة الخطط والاستراتيجيّات، فاطمأنّ باسل قليلا لأنّه سيكون هنا برفقة الجنرال رعد لبعض من الوقت على الأقلّ.
وأخيرا، نظر إلى الجنرال كروز من إمبراطوريّة الرياح العاتيّة، الجنرال المخلص الذي لم يخن الإمبراطور أيرونهيد غلاديوس لمّا حاول حلف ظلّ الشيطان الاستيلاء على الإمبراطوريّة. كانت قوّته مقبولة حتّى لو لم تكن في نفس مستوى قوّة الجنرال رعد.
لاحظ باسل أنّ حاكم الجوّ فقط من بلغ المستويات الروحيّة غير الجنرال رعد، أمّا الآخران، فقد كانا عالقين في مستوى الصاعد. لم يكن الاختراق إلى المستويات الروحيّة شيئا يمكن لأيّ أحد إنجازه، وخصوصا إلّم يملك الشخص موهبة كافيّة أو عمل بجهد لسنين طويلة منذ الصغر.
كان أزهر زهير موهوبا، لكن ليس بدرجة كافيّة حتّى يصير ساحرا روحيّا بهذه السرعة، وإلّا كان قد اختُطف في تلك الحادثة أيضا. كان الجنرال كروز في الثمانينات من عمره ولم تكن هناك فرصة جيّدة في اختراقه للمستويات الروحيّة أصلا.
للأسف، قد لا يطيل هذان الاثنان مع الجنرال رعد وحاكم الجوّ كقائدين لأكاديميّة الاتّحاد العظمى، لكن لم يكن هذا المنصب شيئا يمكن الاحتفاظ به مدى حياة الشخص. إن ظهر من هو أجدر من التلاميذ الذين يقرّرون البقاء في الأكاديميّة بعد التخرّج، فله الأحقّيّة في تحدّي أحد القادة وأخذ المنصب.
قد يجد باسل قادة آخرين للأكاديميّة عندما يعود إلى هذا العالم المرّة القادمة، من يعلم؟
"شكرا لكم على جهودكم. لقد أتيت اليوم لأخبركم أنّني سأغادر قريبا ولا أعلم متى ستكون عودتي."
انحنى باسل قليلا وأكمل: "لذا أرجو منكم الاعتناء بعالمنا في غيبتي. أنتم وهذه الأكاديميّة مهمّين لحماية هذا العالم."
فتح القادة أعينهم على مصارعها اندهاشا من إعلان باسل وتصرّفه. إذن ما أخبرهم الجنرال رعد عن مغادرة باسل بحثا عن الذين اختُطِفوا في تلك الحادثة صحيح؟
انحنى أزهر زهير أكثر من باسل: "أرجوك، لا داعٍ لأن تحني رأسك لنا. فقط مرنا ولك نطع. كلّنا نعلم أنّ الشخص الوحيد الذي يهتمّ بعالمنا أكثر من أيّ أحد هو أنت."
انحنى الجنرال كروز بنفس الشكل: "نحن مدينون لك كما يدين لك هذا العالم الذي كان ليكون حطاما منسيّة لولاك. صارت لدينا الآن فرصة في النجاة مهما كان صغرها، ولا ننوي تضييعها بعدما ربحتها لنا بمشقّ الأنفس."
انحنى حاكم الجوّ أكثر منهم: "عاش مولاي!"
حدّق باسل إلى الثلاثة بينما يتجاهل تصرّفات حاكم الجوّ، ثمّ إلى الجنرال رعد الذي اقترب وربّت على كتف باسل: "لا تقلق، سأهتمّ بالأمور في غيابك، فلا تنسَ أن تعود بتذكارات معك. آه، ولا تنسَ أن تكوّن صداقات حتّى لو كنت في عالم آخر."
عبس باسل من سخريّة الجنرال رعد بشأن الصداقات، لكنّه تجاهل الأمر هذه المرّة. لقد كان الجنرال رعد يبدو مصمّما حقّا وقصد ما قاله غير تكوين الصداقات.
"شكرا لكم. سأحتاج من الأكاديميّة أن تكون مجهّزة لترحالي، لذا اخلوا البحيرة كلّيّا ولا تدعوا أحدا يقترب في الأيّام القادمة."
"سمعا وطاعة!"
***
"جئت لأقول وداعا أيّتها الأميرة."
كان باسل يجلس بجوار الإمبراطورة سكارليت. لقد كانت هناك غيوم سوداء تحت عينيها، لكنّها ابتسمت بإشراق بعدما سمعت كلام باسل ولم تحزن. كان معنى كلامه أنّه وجد وسيلة للذهاب خلف أنمار والآخرين.
"إنّ هذا خبر مفرح!"
لم يمر وقت طويل على بدء محادثتهما حتّى أتت ابتهال وكارماين. كان هذا الأخير يبدو مرهقا وبدا بنفس سوء حال أمّه. حدّق باسل إليه بقلق فتكلّمت سكارليت: "إنّه يصرّ على التدرّب فوق استطاعته بالرغم من أنّنا نخبره أنّ الراحة جزء من التعلّم أيضا."
أومأ باسل رأسه وفكّر في شيء آخر: 'إنّه لأمر مؤسف أنّني لن أكون هنا لأراه ينمو. لديه إمكانيّة كبيرة ويمكن أن يصير ساحرا روحيّا مرموقا لو منحته بعضا من الإرشادات.'
أضافت سكارليت إلى كلامها كما لو أنّها قرأت تعبيرات باسل: "لقد أخبرني أنّه يريد أن يذهب إلى أكاديميّة الاتّحاد العظمى ما أن يبلغ الثانيّة عشر من عمره."
كان كارماين يبلغ التاسعة من عمره، ومع ذلك كان ساحرا في المستوى الثاني بالفعل.
'يبدو أنّه كان يتدرّب طيلة السنتين الماضيتين عندما كنت غائبا. كنت سأمنحه تقنيّة تكامل تأصّليّ وفنّ قتاليّ وبعض الكتب ليدرس النقوش الأثريّة قبل مغادرتي على أيّ حال، لكن رؤيته بهذا الاجتهاد شيءٌ يجعلني متشجّعا أكثر لإعطائه تلك الأشياء.'
"يا باسل، كن متأكّدا من إيجاد الأخت الكبرى أنمار، ودع هذا العالم لي. سأفعل ما بوسعي حتّى أرتقي لمستواك يوما وأحمي عالمنا كما تفعل."
حدّق كارماين إلى باسل بعينيه اللتين كان يفتحهما بشقّ الأنفس وانتظر الردّ من باسل الذي كان المثل الأعلى الوحيد الذي يتطلّع إليه بعدما مات أبوه وجدّه.
"طبعا! ومن غيرك يمكنني الاعتماد عليه للاعتناء بعالمنا في غيابي؟"
كان فتًى في التاسعة لكنّ باسل لم يقل كلامه ذاك فقط لأنّ كارماين كان بذلك الصغر. لقد عنى باسل كلامه ذاك. كان كارماين وريث عائلة كريمزون الوحيد وبالطبع كانت موهبته جيّدة للغاية، لكن اجتهاده ذاك عنى أنّه سينمو ليصير أحد العباقرة في المستقبل. لقد كان كارماين يبدو لباسل كساحر روحيّ يحمي العالم الواهن بجانبه بالفعل.
"إذن حان وقت المغادرة؟"
علمت الجدّة ابتهال أنّ باسل قد أتى إلى هنا حتّى يعلمهم بمغادرته. آخر مرّة قدم فيها إلى هنا كانت كي يخبرهم أنّه ذاهب للبحث عن وسيلة لإيجاد أنمار، لذا لابدّ وأنّه قد وجدها بما أنّه عاد.
"نعم أيّتها الجدّة ابتهال. شكرا لكم على الاعتناء بي والقلق عليّ."
كانت هذه عائلة باسل المتبقيّة بالرغم من أنّهم لم يكونوا متّصلين بالدّم. ذلك ما ذكّرته به سكارليت آخر مرّة أتى فيها إلى هنا، ولم يكن باسل شخصا ينسى أو يتناسى هذا. بالفعل، كان يعدّهم كالعائلة بعدما مرّوا بالحلو والمرّ معا.
"فضلا، نحن من يجب أن نقول ذلك. جُزيت خيرا على ما فعلته من أجلنا وعالمنا حتّى الآن وما ستفعله مستقبلا. لا أعلم إن كنت سأرى وجهك قبل أن تذبل حياتي، لكنّني واثقة أنّك ستحقّق ما تسعى إليه. متأسّفة لأنّه لا يمكنني أن أراك وأنمار متزوّجين فقط."
نظر باسل إلى الأرض. كان هذا هو القانون الطبيعيّ. الموت، الحقيقة المطلقة التي ستواجهها كلّ المخلوقات، آجلا أم عاجلا. بالفعل، كان هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يمكنه أن يفعل أيّ شيء بشأنه. يأمل أن يلتقوا بعد الموت فقط.
"سأجدها بكلّ تأكيد، وعندما أفعل ذلك، سأحرص على نقل مشاعركم لها."
...إن لم تستطيعوا فعل ذلك بأنفسكم.
كان هذا المعنى الخفيّ في كلام باسل واضحا حتّى لكارماين الصغير.
"يا أيّتها الأميرة، أعلم أنّه لا يمكن ألّا تضغطي على نفسك كحاكمة إمبراطوريّة عظيمة، لكن كيف لكارماين أن يأخذ قسطا من الراحة كما تخبريه أن يفعل وأنت بنفسك لا تهتمّين لحالك وجسدك؟"
نظرت سكارليت إلى كارماين الصغير الذي كان يتجنّب التحديق إليها. علمت في هذه اللحظة أنّه كان عنيدا بسببها، هي التي كانت بالكاد تنام بالرغم من أنّها كانت مجرّد شخص عادي وليست ساحرة حتّى.
"كارماين!"
صاحت سكارليت فارتجف كارماين في مكانه وأغمض عينيه بشدّة. مهما بلغ من قوّة، كانت أمّه تبقى هي أقوى شخص في نهاية المطاف.
"تعال يا بنيّ."
فتح الفتى الصغير عينيه فوجد أمّه فاتحة ذراعيها على مصراعيهما، مستعدّة لعناقه، على عكس ما توقّع من توبيخ وتأنيب.
دمعت عيناه ووثب قافزا عند أمه، منكمشا في حضنها بينما يحاول إخفاء دموعه. لم يكن يجب أن يبكي أو يظهر أيّ ضعف أمام بطل العالم الذي كان يتطلّع إليه.
ربّتت سكارليت على رأس ابنها بحنان ثمّ التفت إلى باسل: "سآخذ بنصيحتك، لكن أرجو أن تأخذ بنصيحتك أيضا."
ظلّ باسل صامتا ولم يجب سكارليت. تنهّدت هذه الأخيرة بعدما علمت عن نواياه وسألت فقط: "إذن، متى ستغادر؟"
"في الأيّام المقبلة. يجب أن أنتهي من بعض الاستعدادت فقط. ولهذا، سأحتاج كارماين لبعض من الوقت."
مسح كارماين وجهه في ملابس أمّه بسرعة ولم يظهر أيّ آداب من تلك الناحيّة لأنّه لم يرد أن يظهر وجهه الباكي، ثمّ اقترب من باسل بسرعة: "هل يمكن أنّك ستدرّبني؟"
"قليلا."
"هيّـــــا!" قفز كارماين فرحا.
***
ألقى باسل دروسه على كارماين، وحاول أن يجعله يتذكّر الكثير في مدّة بسيطة. لم يكن ممكنا أن يتحسّن كارماين بتدريب باسل الذي لن يستغرق وقتا طويلا، ولهذا ركّز باسل على تلقينه الأساسيّات وإعطائه المعرفة اللازمة لتحسينها مع مرور الوقت.
بالطبع، كان من المستحيل أن يمنح باسل فتى في هذا العمر تقنيّة تكامل تأصّليّ، لذا سيترك مثل تلك التقنيّة في الأكاديميّة حتّى يكتسبها كارماين عن جدارة واستحقاق.
يجب أن يكون هذا الفتى اللامع قادرا على تذكّر بعض الأشياء من التي يعلّمها باسل له حاليا قبل يلتحق بالأكاديميّة ويتعلّم كلّ شيء بالتدقيق والتفصيل.
وبعد مرور ثلاثة أيّام، قال باسل الوداع أخيرا لعائلته وغادر.
اتّجه هذه المرّة إلى حياة، وبعدما تسلّق إلى قمّتها وجلس هناك متدبّرا قليلا، وقف ثمّ استعدّ للرحيل: "قد يكون سبب رحيلي هو إيجاد أحبابي، لكن جمع رمادك من أولويّاتي أيضا. سأحرص على ألّا يتأخّر ميعاد التقائنا واجتماعنا أيّها الوحش النائم."
آخر وجهة لباسل كانت مسقط رأسه، مدينة العصر الجديد. هناك، زار باسل منزله القديم الذي كان فارغا تماما. لقد كان هذا المنزل مختلفا عن الذي كبر فيه، لكن كان هذا المنزل هو المكان الذي مات فيه معلّمه بالضبط. هنا رُمِّم هذا المنزل على باسل الذي كان في البيضة المشعّة.
كانت ذاكرة باسل المثاليّة نعمة، لكنّها كانت نقمة في أغلب الأحوال. تذكّر المرّ والحلو كما لو حدث للتوّ، لكنّ باسل رحّب بالنعمة والنقمة. سُعِد بما كانت ذكرى مفرِحة، وذكّر نفسه وتعلّم ممّا كان يُعدّ ذكرى مؤلمة.
"لن أضيع ما وهبتني يا معلّمي."
وقف باسل واتّجه لتوديع الحارس جون وأبهم والآخرين من التشكيل. لحسن الحظّ، لم تُأخذ كلّ المواهب في العالم وظّل أشخاص كهؤلاء يمكن الاعتماد عليهم. فأبهم قد بلغ المستويات الروحيّة مؤخّرا، ولم يبدُ أنّ الحارس جون سيستغرق وقتا أطول أيضا. كان 'صيّاد قطّاع الطرق كيكان'، و'ساحت الرؤوس كوبيكيري'، و'سولو الساحر الوحيد' موهوبين ويبدو أنّهم مستعدّون تماما للاختراق أيضا بعدما وجدوا الوحوش الروحيّة المناسبة لهم.
"لو احتجتم للمشاورة، فاتّجهوا إلى أكاديميّة الاتّحاد المباركة وسَلُو عن كليوباترا. ستكون عونا كبيرا لكم، لكن لا تشغلوها بكلّ كبيرة وصغيرة واعتمدوا على أنفسكم أكثر."
"كما تأمر يا سيّدي. سنحمي هذه المدينة وعالمنا بكلّ ما نملك، فأرجو أن تعود إلينا سالما."
"كن مطمئنّا. أنا قلق فقط على المناصب التي ستفقدونها لمّا أعود بأصحابها."
"حكّ الحارس جون رأسه: "هاهاها، سنفعل ما بجهدنا حتّى لا نخسرها إذن."
كانت روح المنافسة مشتعلة بأعينهم.
التفت باسل إلى أبهم وقال: "لا بأس أن تزور لمياء بين الحين والآخر كما قلت آنفا، وإن كنت ستُقدم على الزواج في وقت لاحق، فلا تنس أن تتفقّد حال هذه المدينة؛ إنّها أهمّ من مجرّد مسقط رأسي."
احمرّ وجه أبهم قليلا لكنّه صفع صدره وقال بفخر: "طبعا يا سيّدي. كيف لي أن أتجاهل رغباتك؟ سأنتظر عودتكم بكلّ الصبر!"
"إلى اللقاء."
***
"هل حان الوقت؟"
سألت كليوباترا باسل الذي كان يجلس عند البحيرة. وفي تلك اللحظة، ظهر لونازول واقترب منهما، فاستدارت كليوباترا ورأت صفته، فإذا بها تختفي وتظهر خلف القمريّ وقيّدت تحرّكاته وشدّت رقبته بيدها بدون أن تلمسه: "ما الذي يفعله شيطان هنا؟"
لقد كانت روحانيّة مباركة بالرغم من أنّها كانت تبدو كفتاة صغيرة. كان حاكم روحيّ كمجرّد رضيع بالنسبة لها.
"اهدئي. وأيضا، اتركيه وشأنه."
"ها؟ ما الذي تقوله؟"
كانت متعجّبة من باسل. كيف له أن يخبرها بأن تطلق سراح شيطان، وهو يعلم تماما عن شناعتهم والألم الذي يسبّبونه للناس في العوالم الروحيّة؟ أو لم يعاني الأمرّين وما يزيد عن ذلك منهم؟
"انظري إليه جيّدا."
عبست ثمّ أخذت وقتها في تحليل الشيطان أمامها. لقد كانت ساحرة فضاء، ومن أفضل سحرة الفضاء فوق ذلك، لذا لاحظت تينك العينين اللتين لم يستطع لونازول إخفاءهما عنها.
"ذو العينين الفائقتين للأبعاد؟ انتظر... لم تخبرني أنّه شيطان!"
"لنتحدّث قليلا."
***
وقف باسل ثمّ اقترب من كليوباترا التي كانت ما تزال محترسة من لونازول: "يا كليوباترا، دعيني أسألك شيئا. ما الذي جعلك تعدّينه شيطانا؟"
قَطَبَت كليوباترا بعد سؤال باسل الذي كانت إجابته واضحة: "بالطبع شكله."
لم يكن باسل ليطرح سؤالا بلا معنى، لذا انتظرت ما لديه من قول أوّلا.
أومأ باسل بعد جواب كليوباترا المتوقّع ثمّ طرح سؤالا آخر: "إذن، لماذا لم تشعري أنّه شيطان لمّا كان مختبِئا؟"
لو كانت كليوباترا مجرّد شخص عادي، كانت لتردّ بجواب كالتالي: 'لأنّني لم أكن قد رأيته بعد'، لكن بسبب هذا الجواب الذي خاطر بالها، فكّرت في المعنى الخفيّ وراء سؤال باسل. كان سؤال باسل الحقيقي هو: 'لماذا عددته شيطانا فقط بعد رؤيته؟'
كان جواب هذا السؤال شيئا جعل كليوباترا تشكّك في الواقع الذي عاشته والأشياء التي نسبتها إلى البديهة ولم تفكّر فيها ولو للحظة واحدة في حياتها بأكملها.
كان جواب السؤال هو: 'لأنّه من المستحيل التفرقة بين الشياطين والأعراق الأخرى سوى بالشكل.'
بدأ دماغ كليوباترا يعمل بسرعة كبيرة وراقب باسل ذلك منتظرا بهدوء. كان من المثير للاهتمام رؤية الروحانيّة المباركة في جسد **** تقتبس وجه امرأة خبيرة في الحياة.
تنهّدَت بعد مرور فترة طويلة من التفكير ثمّ حدّقت إلى باسل: "قلها أنت يا باسل. قد لا أصدّق نفسي لو تفوّهت بها."
أومأ باسل ببساطة: "عندما كنتُ صغيرا، ظننت أنّ الشياطين 'التي نعرفها' مخلوقات شرّيرة يجب التخلّص منها أينما ومتى حلّت. كنت أتوقّع أن تكون هذه الشياطين تملك طاقة مشؤومة أو ما شابه، لكن ما اختبرته من لقائي بهذه الشياطين أوضح لي أنّ الشكل والعرق هما الشيئان الوحيدان اللذان نختلف فيه."
بلعت كليوباترا ريقها بينما كانت تستمع للكلمات التي استنتجتها بالفعل لوحدها لكن لم ترد أن تصدّقها. عاشت لأربع مائة سنة وظلّت بين الحياة والموت لعصور، وفي كلّ ذلك الوقت عرفت بأنّ هناك أعراق جيّدة والشياطين السيّئة بشكل عامّ. كلّ ذلك بدأ يتحطّم بسرعة وهذا كان صعب الهضم.
"كما نملك عناصر سحريّة وروحيّة، كذلك تفعل 'الشياطين'. إذن، ما الذي يجعلهم شياطين؟ شكلهم؟ إن كان ذلك هو الحال، لمَ شكلهم لا يجعلهم وحوشا؟"
نظر باسل إلى لونازول الذي كان يومئ رأسه مرارا بينما يتكلّم باسل: "لقد ساعدني لونازول لكشف هذا السرّ. ليست هناك شياطين، وإنّما أعراق مختلفة تحمل هذا الاسم بسبب رغبة أحدهم خلف الستار."
لم يتوقّف باسل وأضاف: "لو كانت تلك الأعراق شياطين حقّا، ماذا إذن عن العائلات من هذه الشياطين التي تعيش بهناء وهدوء؟ ليس كما لو أنّه كلّ واحد منهم ساحر ومقاتل لديه رغبة في قتل البشر وأشباههم. ماذا عن الأطفال الرضع؟ هل ربّما هم أشرار منذ البداية؟"
ضغطت كليوباترا بيدها على جبهتها: "لو كان هذا الكلام يأتي من شخص آخر، لظننت أنّه كان يسهو في الكلام.
"إذن... لماذا؟"
لماذا هناك أعراق مختلفة تُنادَى بالشياطين؟
تكلّم لونازول في هذه اللحظة: "كان ملك الشياطين الاوّل من بدأ هذا، لكن يبدو أنّ بعضا من الشياطين في المناصب العليا لديهم علم بهذا، ولسبب ما، يدعمون الأمر كلّ الدعم. لا أعتقد أنّ ذلك ينبع من رغبة في اتّباع رغبات السلف، بل لأنّهم يستغلّون هذا الوضع من أجل شيء ما."
أضاف باسل: "الغاية الحقيقيّة من ذلك تبقى مجهولة، لكن نعلم أنّه من أجل خطّة أحدهم. ملك الشياطين وقلّة آخرون لديهم فكرة على ما أظنّ، لذا سنعلم بمرور الوقت."
نظرت كليوباترا باهتمام إلى لونازول الذي كان ينفخ صدره: "إذن ماذا تكون؟"
"أنا قمريّ، لكن يستحيل أن تعرفي ذلك لأنّ هذا اللقب غير موجود في السجلّات."
تنهّدت كليوباترا مرّة أخرى، لكنّها كانت المرّة الأخيرة: "فهمت. حسنا يا باسل، سأثق في حسن تقديرك كالعادة. إذن، هل سنبدأ؟"
رفع لونازول حاجبه بعدما تقبّلت كليوباترا الأمر بهذه السرعة. ظنّ أنّ باسل كان هو البشريّ المخبول الوحيد، لكن يبدو أنّ هناك معتوهة أخرى هنا. كيف لهما أن يملكا القابليّة على التأقلم بهذه السرعة؟
ما لم يعلمه لونازول هو أنّ باسل كان حكيما سيّاديّا، وأنّ كليوباترا فقط وضعت ثقتها في باسل الذي كان يفعل المستحيل مرارا.
"قبل ذلك... يا لونازول، لنتعاهد ذهنيّا روحيّا."
تراجع القمريّ للخلف بضع خطوات بعدما سمع كلام باسل. هل كان ينوي هذا البشريّ أن يجعله عبدا الآن بعدما اقترب من هدفه؟ هل أظهر نواياه الحقيقيّة أخيرا؟
أضاف باسل لـلونازول الحذر: "كلّ ما أريد منك هو قَسَم تتعهّد فيه ألّا تؤذي أيّ أحد من العالم الواهن ظلما. هذا العهد سيكسبك الحرّيّة لتفعل ما تشاء هنا."
رمشت عينا لونازول بضع مرّات وظلّ هذا الأخير منتظرا، لكن بالرغم من أنّ الوقت مرّ لم يضف باسل شيئا.
"ها؟ هل ذلك كلّ شيء؟"
"وهل تريد المزيد؟ حسنا، فلنجعلك تعمـ-"
"لا، لا، لا، ما الذي تقوله يا سيّدي؟ طبعا أنا مقتنع تماما. سأقسم الآن وحالا."
ظلما. كان هذا الشرط مبهما، لكن باسل كان يراقب لونازول طيلة السنة الماضيّة بسبب اهتمامه في القمريِّين وما يجعل بعضًا ينادى بالشياطين وبعضا آخر بالعكس. كان يفهم باسل شخصيّة لونازول جيّدا وبالطبع لم يكن هناك أيّ احتمال أن يكون خُدِع. أيّ حكيم سياديّ ينفع معه التمثيل؟
ابتسمت كليوباترا بعدما رأت ردّة فعل لونازول التي كانت مشابهة كثيرا لردّة فعل لمّا كانت ستتعاهد مع باسل. مرّت أكثر من سنة بالفعل على ذلك الوقت. لقد كانت تقدّر كلّ استنشاق وزفير في هذا الوقت الماضي.
[أقسم أنّني لن أؤذي أيّ بشر من العالم الواهن ظلما منّي، وإنّما دفاعا عن الآخرين المظلومين ونفسي فقط.]
ساعد لونازول باسل منذ أن التقاه، ولم يعطيه باسل في المقابل أيّ شيء، لذا كان هذا العهد كافيا. لربّما لم يلحظ لونازول الأمر، لكنّ باسل كان من العالم الواهن أيضا. قد يظهر باسل أنّه كان يحمي هذا العالم، لكنّه أيضا من هذا العالم. كان هذا أيضا سبب آخر وراء ابتسامة كليوباترا التي لم تزل من على وجهها حتّى الآن.
أومأ باسل: "لقد كان هذا سريعا."
حتّى أنّ لونازول أضاف شيئا كالدفاع عن الآخرين المظلومين.
"بالطبع طبعا! إنّها الحرّيّة المنتظرة. مرحى!"
قد يقول لونازول هذا الكلام كما لو أنّ باسل كان يسجنه، لكنّ باسل منحه الكثير من الفرص في الواقع ليهرب عندما كانا معا، ومع ذلك، بقي لونازول بجوار باسل بينما يساعده. لربّما كان ذلك بسبب فضول القمريّ، لكن هذا يظهر بساطته الجيّدة فقط.
"طوبى لك."
***
وقف الثلاثة أمام البحيرة فنطق باسل: "لنبدأ."
"حسنا."
ردّت كليوباترا ثمّ مدّت ذراعيها للأمام وشحنت طاقتها الروحيّة ثمّ رفعت ذراعيها للأعلى، فإذا بماء البحيرة يكثر شيئا فشيئا، لكن ذلك كان مجرّد وصف. لم تزدد كمّيّة الماء فعلا لكن تصاعد فقط بسبب ما كان يظهر من باطن البحيرة.
تكلّمت كليوباترا بينما يتصاعد ذلك الشيء: "للأسف، ليس لدينا أحجار ساميّة وفيرة حتّى نستخدمها كأساس، لكن الوريد التنّينيّ يهتمّ بذلك جيّدا، وكلّ ما احتجته هو بعض من الأحجار الروحيّة النقيّة بـ70٪.
استدار باسل إلى كليوباترا ثمّ إلى ما كان يرتفع من البحيرة. 'بعض' قالت؟ كيف لذلك أن يكون بعضا؟
ما كان يتصاعد كان بوّابة. كان للبوّابة عمودان من كلّ جانب يدعمان سطحها المقوّس والمزيّن بقبّعة من القراميد الزرقاء كما كان العمودان. كان علوّها يصل لعشرة أمتار وعرضها يبلغ أربعة أمتار. كانت هناك نقوش روحيّة في كلّ شبر منها، وبدا أنماطها المختلفة معقّدة حتّى لـلونازول.
ما كوّن العمودان وقبّعة القراميد كان أحجار روحيّة نقيّة بـ70٪، ولهذا استغرب باسل من وصف كليوباترا. كيف لذلك أن يكون بعضا من الأحجار؟ لقد استخدمت ثروة هائلة، وعلم باسل أنّ العالم الواهن ما يزال لا يملك أحجار روحيّة بهاته النقاوة حاليّا. حتّى هو بنفسه ما زال بالكاد ينقيّ الأحجار الروحيّة بأقل من 30٪.
"لا تقلق بشأن ذلك."
"ولكن..."
"أخبرتك ألّا تقلق."
كيف له ألّا يقلق؟ لقد سرفت ثروة هائلة على هذه البوّابة الخلّابة من أجله، وليس لديه وقت الآن ليردّ المعروف.
'ما فعلتَه أكثر من كافٍ.'
لم تتردّد كليوباترا لتجهيز هذه البوّابة في السنة الماضيّة. لم تكن هذه البوّابة لباسل فقط، بل كانت من أجل العالم الواهن أيضا. الآن، كلّ ما ينقص هو بوابة مثلها في مكان آخر وسيكون التنقّل بين البوّابتين سلسا. نعم، كلّ ما ينقص هو ثروة أخرى، أكبر بكثير من هذه لأنّ ذلك المكان الآخر لن يكون غني بوريد تنّينيّ على الأغلب.
توقّفت البوّابة عن الصعود وطفت في الهواء فوق البحيرة بقاعدتها التي كانت مكوّنة من ما شكّل الأجزاء الأخرى. كانت هناك مصفوفة روحيّة تحت البوّابة تقود إلى التنّين، والذي غذّى الأحجار الروحيّة باستمرار حتّى تشحن البوّابة فتعمل.
نظر باسل إلى كليوباترا مرّة أخرى، فصفعت ظهره: "هيّا، اذهب واستعدّ."
لقد كانت أميرة فرعونيّة حقّا، عند كلمتها. حتّى لو كان هذا طبيعيّا بعدما استهلك باسل ربع تمرة حياة من أجلها، إلّا أنّه كان ما يزال من الصعب صرف كلّ هذه الأحجار الروحيّة في عالم واهن كهذا، حيث لا يمكنك أن تحصل على أحجار بـ30٪ حتّى من أفضلهم، والذي كان باسل المغادر.
زادت معزّة كليوباترا في قلب باسل، لكنّه لم يقل شيئا وفقط تقدّم إلى الأمام واستعدّ لنظرات العينين الفائقتين للأبعاد حتّى توصله بالختم.
كان لونازول مستعدّا ومتحمّسا لاختلاس النظر بالرغم من أنّ روحه ستتأذّى ولن يقدر على التدرّب لوقت طويل أو استخدام السحر بشكل مريح. كان يريد أن يرى كيف سيتّصل باسل بما يختم العوالم ويفعل ما لم يقدر عليه حتّى ملك الشياطين وأعوانه.
"ها نحن ذا!"
فتح لونازول عينيه على مصراعيهما فانطفأ ضوء العالم وصار مصدر الضوء هو باسل لوحده. سرعان ما عزل لونازول ما لا يستطيع رؤيته ويخفيه باسل، وركّز على ما يمكن لعينيه أن تراه ولا يدركه الآخرين. كان ذلك ما له علاقة بما يوصل ويفرق الأبعاد.
تذبذبت البوّابة في هذه الأثناء بعدما مدّت كليوباترا ذراعيها مرّة أخرى نحوها. توهّجت النقوش الروحيّة كلّها في نفس الوقت وامتدّ غلاف من الضوء البنفسجيّ الهادئ من جانب... لا، بل من الأحجار الروحيّة التي كانت مجرّد موصّلات لطاقة الوريد التنّيني.
امتدّ خيط من الضوء من باسل، فتحكّم لونازول في خيط الضوء ووجّهه نحو البوّابة، والتي تذبذبت ما أن لامسها خيط الضوء وتموّجت كما تتموّج البحيرة لو رُمِي فيها حجر.
اصطدمت الأمواج بجوانب البوّابة فانتقلت في المسار المعاكس، وكرّرت ذلك لبعض من الوقت حتّى تصلّبت للحظة كإشارة للونازول الذي أحسّ واستشعر ما يختم العوالم، ثم استكملت التموّجات تحرّكاتها من جديد.
"لـ-لقد ارتبطت به!"
أومأ باسل: "نعم، إنّني أشعر 'بها'."
بالفعل كانت هي. في ذلك الوقت، عندما كان باسل يخترق إلى القسم الثاني من مستويات الربط، احتاج معلّمه أن يزيل الختم الذي وضعه بنفسه على باسل لمّا وُلِد حتّى لا تؤذيه طاقة العالم التي كانت تتوغّل في جسد باسل بدون حدود.
فعل إدريس الحكيم ذلك بأمر من الملك الأصليّ، لكن حتّى بحكمته السياديّة لم يعلم ما كان ذلك الختم الذي حجب نفسه عنه. بالأحرى، لم يختلس النظر لأنّ الملك الأصليّ منعه أصلا. لم يعلم إدريس الحكيم عن هوّيّة الختم إلّا بعدما كان يزيله.
كان من اللّازم أن يُزال الختم الذي كان يمنع طاقة العالم من التوغّل في روح باسل، وهذا حتّى يتحكّم بنفسه في طاقة العالم ويمنعها أو يسمح لها بدخول روحه متى شاء.
باسل أيضا علم عن ماهيّة الختم الذي منع طاقة العالم لخمسة عشر سنة كاملة من دخول روحه. لقد كانت تلك إبرة اختراق الأبعاد، لكن ما لم يعلمه باسل في ذلك الوقت هو أنّ إبرة اختراق الأبعاد كانت السلاح الروحيّ الخاصّ بالملك الأصليّ، الشيء المسؤول عن ختم العوالم عن بعضها حاليا.
استدار باسل إلى كليوباترا ولونازول، فحدّق إليهما قليلا قبل أن يتكلّم: "شكرا لكما. يا كليوباترا، أعتمد عليك في حماية 'عالمنا' حتّى أعود. أعدك أنّني سأعود منتصرا، وأجلب معي تذكارات تنسيك في ما صرفتِه على تلك البوّابة الزمكانيّة."
"اذهب وابحث عن أحبابك. هزّ العوالم الروحيّة وعد سالما حتّى نقلبها معا رأسا على عقب."
"إلى اللقاء."
"في انتظارك يا باسل."
"حاول أّلا تمت أيّها البشريّ المخبول."
تقدّم باسل إلى الأمام فارتفع من البحيرة سبع درجات في الهواء تؤدّي إلى البوّابة الزمكانيّة.
درجة بعد درجة... أحسّ باسل أنّه يقترب من هدفه أكثر أخيرا، لكن حتّى هو علم أنّها لن تكون رحلة سهلة، فحتّى وجهته الآن غير مضمونة. لا يعلم عن مكان الجميع، لكنّ وجهته الحاليّة كانت العالم الأصليّ بتوجيه من كليوباترا التي زارت العوالم الروحيّة بأكملها.
كانت العوالم مختومة عن بعضها، لكن ما أن أوصل لونازول باسل بالبوّابة، انفتح له طريق خاصّ نحو العوالم الأربعة عشر، واستطاعت كليوباترا توجيهه كما كان مخطّطا.
بلغ باسل الدرجة السابعة وبدون أيّ تأخير خطا عبر البوّابة، فجذبته قوّة عظيمة وعمّ الظلام من كلّ ناحيّة فجأة.
صرخت كليوباترا: "ماذا؟! ماذا يحدث؟! لقد كنت أوجّهه لكنّني فقدت الاتّصال به كلّيّا. ماذا عنك؟!"
تململ لونازول في مكانه ولم يعرف ما كان يحدث، لكنّ اتّصاله انقطع تماما بالرغم من أنّه يملك عينين تخترقان الأبعاد. قال بعد وهلة: "لـ-لا أعلم، لكن أظنّ أنّ الختم مسؤول عن هذا."
"ماذا؟!"
***
[ما الذي تفعله هنا أيّها الرابع عشر؟ ما زال هذا مبكّرا للغاية. فلتعد أدراجك حتّى تكون مستعدّا.]
"لست من يحدّد هذا يا أيّها السابع!"
***
[بل أفعل يا فتى.]
أحسّ باسل أنّ جسده يُجذب للخلف بينما تختفي من أمامه الطرق التي كانت توجّه إلى العوالم الروحيّة. لقد كان السابع يحاول إعادة باسل من حيث أتى.
لكن...
"لا تتوقّع أنّني سأجلس بهدوء وأتركك تعيدني لنقطة البداية!"
ظهر الرمح الطاغيّة في يدٍ، والرمح الخشبيّ في يد أخرى، فتحوّل باسل روحيّا.
تكلّم بَهموت في أعماق روح باسل: "إذن حان الوقت أخيرا!"
ظهرت ثلاث كرات فضّيّة فوق رأس باسل ولمعت عيناه. دخل إلى طور الحكيم كلّيّا وبدأ يدرس ويحلّل ويتحكّم في نفسه وما يحيط به بشكل شامل وسليم على نحو حكيم.
اتّخذ باسل هيئة حاصد الأرواح الأصليّ وصار حجمه أكبر بعشرات الأضعاف عمّا كان عليه. ثقُل فتغلّب على القوّة الساحبة للحظة، لكن تلك اللحظة كانت كافيّة. رمى الرمح الطاغيّة فتوهّج هذا الأخير ثمّ اخترق الفراغ فتصدّع الظلام وظهر ما كان يختبئ في بعد خاصّ.
تحوّل الرمح الخشبيّ في يد باسل اليسرى إلى نصل يحمل خواصّ لكمة انفلاق السماء قبل أن يدفعه باسل عبر الثقب الذي ظهر، نحو إبرة اختراق الأبعاد التي كانت تحافظ على توازن الختم بين العوالم.
كانت سرعة النصل كبيرة للغاية، لكنّها لم تكن كافيّة لعبور الثقب الذي انغلق في لحظة بعد انفتاحه، ومع ذلك، لم تكن السرعة مهمّة لباسل في حدود مسافة معيّنة. كان الامتداد الكليّ يجعل من تلك المسافة عديمة المعنى. ظهر نصل العناصر الأربعة والفنون القتاليّة الثلاثة في البعد الخاصّ بإبرة الأبعاد واصطدم بهذه الأخيرة.
لم يحدث شيء للإبرة. بالطبع لم يحدث، فتلك كانت إبرة اختراق الأبعاد، سلاح الملك الأصليّ الروحيّ. كانت ما جعل ملك الشياطين والعديد من الهرمى المقموعين عاجزين عن فعل أيّ شيء في العديد من الأوقات. حتّى بعد موت مالكها ما زالت ألما في الرأس والمؤخّرة.
لكن...
لم يكن هدف باسل هو تدمير الإبرة على أيّ حال. كلّ ما أراده باسل هو إثبات نفسه للسابع... لا، بل لنيّة السابع الراقدة في إبرة اختراق الأبعاد.
[ما الذي تفكّر فيه يا فتى؟ هل تريد منهم أن يرصدوني ويدمّروا الختم؟]
بالفعل، كانت هناك مواهب لا تُحصى في العوالم الروحيّة، وفي هذا الوقت الذي كانت فيه العوالم مختومة، كانت تلك المواهب كلّها مهتمّة في كسر الختم أو حمايته. لو حدث ارتجاج واختلال في توازن الإبرة، أو صدرت موجات روحيّة ناتجة عن قتال بين الأبعاد، فلا بد وأنّ أحدهم سيرصد موقع الإبرة في نهاية المطاف.
"ذلك تحذير منّي. اخل الطريق يا أيّها السابع. حتّى لو كنت مجرد نيّة، فإنّني ما زلت أقدّرك وأحترمك. بسببك استطاع جسدي النجاة، لكن ليس كما لو أنّك لم تحصل على أيّ شيء في المقابل. لقد جمعتَ طاقة كافيّة طيلة تلك الخمس عشرة سنة حتّى تكون قادرا على فعل مثل هذا الأمر المجنون كختم العوالم بأكملها."
كيف لملك أصليّ أن يستطيع ختم العوالم بأكملها؟ الشرط الأوّل كان الفهم العميق المنقطع للنظير لعنصر الفضاء، وسلاح روحيّ فريد، وبلوغ نطاق أصل العالم، لكن كلّ هذا كان مستحيلا بدون طاقة كافيّة.
لماذا جعل الملك الأصليّ سلاحه الروحيّ بالذات هو الختم الذي يمنع طاقة العالم من ولوج روح باسل؟ كيف لسلطان أصليّ أن يراهن هكذا؟ يجب أن يكون قد اضطرّ للقتال بدون سلاحه الرئيسيّ في مناسبات عديدة خلال تلك الخمس عشرة سنة.
كان السبب هو جمع الطاقة. لم تكن إبرة اختراق الأبعاد تمنع طاقة العالم غير المحدودة من اختراق بحر روح باسل، بل كانت تمتصّ كلّ ما يجذبه باسل من طاقة فائضة.
"دعني أشيد بك على خطّتك تلك، لكن هذا يكفي. لقد انتهى دورك ما أن ختمت العوالم. الآن... الآن حان دوري، وليس لك الحقّ في إملاء ما عليّ فعله."
[أنت... ثلاثة فنون قتاليّة؟ أربعة عناصر سحريّة؟ ما الذي حصل لإدريس؟]
"لقد توفيّ المعلّم ووهبني ما وهبَته أرض الوهب والسلب."
[إدريس الدارس دائما يتعلّم الدرس. كيف له أن يخون أرض الوهب والسلب؟ ليس كما لو أنّه لا يعلم عن مصير من يجرؤ على فعل شيء كهذا!]
"لقد اختارني معلّمي وضحّى بنفسه من أجلي."
برقت عينا باسل وازدادت عزيمته فعاد إلى حجمه الطبيعيّ وقبض الرمح الطاغيّة بكلتا يديه وصاح تجاه الفراغ: "ولهذا، ابتعد عن طريقي! لا يمكنني تحمّل كلفة الجلوس والانتظار يا أيّها السابع!"
[لا أعلم عمّا يحدث معك وقواك الغريبة هذه، لكن لا يمكنني السماح لك بالمرور أبدا. أنت... لقد وضعتُ آمالي عليك، فلا تجعلني أندم على قراري.]
سحب باسل الرمح الطاغيّة للخلف ثمّ انطلق بسرعة خاطفة نحو الفراغ: "لا أهتمّ. ما يجول في بالي حاليا هو إيجادهم. يمكنني الاعتناء بلعبة الصالح والطالح لاحقا."
[إنّك لا تعلم عن رعب سلطان الطغيان، ولهذا ما تزا...]
"أعلم جيّدا عن رعب السارق الخسّيس، ولهذا سأسرق منه كلّ شيء، لكن كما قلت... ذلك ليس هدفي حاليا."
شقّ باسل الفراغ فظهرت الإبرة، فاستطاع التحكّم في النصل الذي كان يحوم حول الإبرة بدون أيّ وجهة. حمل باسل الرمح الطاغيّة بيده اليمنى وتحكّم في الرمح الخشبيّ عن بعد بيده اليسرى.
ززبااام
سعل باسل الدماء بعد اصطدام الرمح الخشبيّ بالإبرة. كان باسل هو من يتلقّى الضرر وليس الإبرة. لو لم تكن الإبرة تستخدم كلّ ذرة من قوّتها في ختم العوالم بالفعل، لكان باسل قد تحوّل لرماد منذ مدّة. وبالطبع، لم يكن هذا هو هدف النيّة التي ترقد في الإبرة.
[توقّف! لو انتظرتَ لوقت أطول فقط، فيمكنني الرقود في سلام وإرشادك إلى ما خلّفته ورائي لك. يمكنك أن تخلفني وتعتلي عرشي. كلّ ما عليك فعله هو الانتظار على الأقلّ حتّى تبلغ نطاق بحر العالم.]
"ها؟"
توقّف باسل في مكانه بعد سماع كلام نيّة الملك الأصليّ غير المعقول. نطاق بحر العالم؟ هل يريد حقّا أن يجعله ينتظر إلى يصير روحانيّا أسطوريّا؟ قد يستغرق ذلك قرونا وربّما أكثر من ألف سنة حتّى لو كان عبقريّا وبدون عقاب.
بالأحرى، هل يمكن للختم أن يصمد كلّ تلك المدّة؟ ظنّ باسل أنّ الختم يضمن للعالم الواهن عقدين على الأقلّ، لكن لم يتوقّع بتاتا أن تكون مدّة ثباته طويلة للدرجة التي لمّحت إليها نيّة الملك الأصليّ.
على أيّ حال، كلّ هذا لا يهمّ حقّا. لم يكن باسل لينتظر سنة أخرى، فما بالك بمئات السنين؟ لقد كانت هذه النيّة تقول أشياء مجنونة.
شق باسل الفراغ وضرب الإبرة بالرغم من أنّه كان الوحيد الذي يتلقّى الضرر. كانت مهاجمة سلاح روحيّ لسلطان أصليّ باهظة الثمن حقّا.
شعر باسل أنّه سيُسحب للخلف مرّة أخرى، لكنّه اختفى فجأة وترك سلاحيه خلفه فجعل النيّة تتعجّب. سرعان ما أدركت الإبرة أنّ باسل لم يختفِ، وإنّما صغُر لدرجة بالكاد يُرى فيها.
انطلق الرمح الطاغيّة بأمر من باسل، فشقّ الفراغ، لكن هذه المرّة لم يتحكّم باسل في الرمح الخشبيّ عبر تلك الثغرة، بل قبض الرمح الخشبيّ بيده بعدما عاد إلى حجمه الطبيعيّ مرّة أخرى وانقضّ على الإبرة مباشرة. كيف؟ هذه المرّة دخل باسل بنفسه عبر تلك الثغرة التي صنعها الرمح الطاغيّة.
استخدم باسل قدرة الرمح الخشبيّ وضاعف قوّة هجومه مرّتين واصطدم بالإبرة، فاهتزّ البعد الخاصّ بأكمله كما لو أنّ زلزالا ما قد حصل.
[ما الذي تفعله أيّها الغرّ المجنون؟ هل تنوي أن تفسد كلّ شيء الآن؟ ها؟ هل حقّا فقدت عقلك؟!]
حتّى نيّة الملك الأصليّ فقدت أعصابها بعد جرأة باسل غير المتوقّعة وغير المنطقيّة.
نظر باسل إلى الخيوط الضوئيّة التي كانت تمتدّ من التصدّعات الأربعة عشر التي كانت على الإبرة وطرأت في باله فكرة. قفز وانقضّ على تلك الخيوط الضوئيّة مباشرة.
[مـ-ماذا؟! توقــف! هل حقّا تريد من الشياطين أن تغزو عالمك؟ هل تريد من كلّ شيء أن ينتهي؟]
"لقد غزت الشياطين عالمي وخسرت الكثير بالفعل."
هاجم باسل رابط الإبرة بالعوالم الروحيّة مباشرة، فاهتزّ البعد الخاصّ أكثر.
[اهدأ ولنتكلّم هنا، حسنا؟ دعنا نحلّ الأمور بروية. إلّم تستمع لي، فلن أسمح لك بفعل ما تشاء بعد الآن. لقد صرتَ الآن مجرّد سجين في بعدي الخاصّ بعدما تركت وراءك ذلك السلاح الروحيّ.]
كانت نيّة السابع تتكلّم عن الرمح الطاغيّة. بالفعل، لم يكن باسل قادرا على التحكّم في سلاحيه الروحيّيْن إن كانا في بعدين مختلفين. لم يكن بمستوى عالٍ كفاية لمثل تلك التقنيّة، لكن حتّى لو كان بمستوى أعلى من نطاق الأرض الواسعة، فلن يكون بإمكانه فعل ما يشاء في البعد الخاصّ بإبرة اختراق الأبعاد لو منعته هذه الأخيرة من ذلك.
"ومن قال أنّني أحتاج للتحكّم في ذلك الأبله؟"
[ها؟]
انشقّ الفضاء، وهذه المرّة ظهر الرمح الطاغيّة في البعد الخاص.
"فاهاهاهاها! يا أيّها الشقيّ، إنّ هذه الإبرة تبدو شهيّة للغاية."
[؟!؟!؟!...]
"افعل ما شئتَ اليوم يا أبله!"
[ما الذي فعلته يا أيّها الغرّ المخبول؟! ذ-ذ-ذ-ذ... لا تخبرني أنّ ذلك الرمح الطاغيّة!!]
لم يجب باسل النيّة وأكمل هجماته على روابط ها بالعوالم الروحيّة. لقد كان باسل يفسد الختم. وبالطبع، ما كانت الإبرة لتسمح بشيء كهذا. توهّجت التصدّعات الأربعة عشر فتشكّلت خيوط في الهواء وبدأت تمّر الخيوط من ثقب الإبرة بسرعة كبيرة.
كانت الإبرة تخيط الواقع. لقد كانت تصلح ما كان باسل يفسده في نفس الوقت. بالأحرى، لم تعاني بتاتا في إصلاح كلّ ذلك، لكن ما كان يقلق الإبرة ليس إفساد باسل للختم، بل اكتشاف الآخرين لمكانها في هذا البعد الخاصّ.
استمرّ هذا الحال لبعض من الوقت، قبل أن ينتهي تحليل باسل بحكمته السياديّة أخيرا، فصاح: "الآن يا أبله!"
"عدني أنّا سنعود لالتهامها لاحقا."
"لك ذلك. والآن، اصنع الطريق بينما أشغلها."
زاد باسل من سرعته في إفساد الختم، فلم يكن للإبرة خيار سوى التركيز على إصلاح الختم بأكبر سرعة حتّى لا يلاحظ أيّ أحد هذا الخلل في الختم. ولهذا، لم تستطع الإبرة فعل أيّ شيء للرمح الطاغيّة الذي شقّ الفضاء مرارا وتكرارا حتّى استطاع إيجاد الطرق إلى العوالم الروحيّة.
تحوّل باسل إلى حجم ضئيل بينما يحمل الرمح الخشبيّ، ثمّ اختفى منطلقا نحو الثغرة التي صنعها الرمح الطاغيّة.
[انتظــر!]
"إلى اللقاء يا أيّها السابع. سأعتمد عليك مرّة أخرى لو احتجت للانتقال عبر العوالم، ولهذا حافظ على الختم جيّدا."
قبض باسل الرمح الطاغيّة وصغّر حجمه أيضا قبل أن يعبر الثغرة ويسقط في ظلام عميق. أعاد الرمحين لروحيه وركّز على مساره والدفاع عن نفسه من الجاذبيّة والقوّة العظيمتين اللتين كانتا تجعلان جسده وروحيه يتحطّمان من شدّة الضغط.
تهشّمت عظامة وعُصِر لحمه، فكان الألم لا يُتحمّل. لم تكن سرعة شفائه أسرع من الضرر الذي كان يتلقّاه، هذا بدون ذكر أنّ سرعة شفائه لم يكن لها تأثير على الضرر الروحيّ الذي كان يعانيه.
شعر باسل بالاختناق كشخص عادي يغرق في أعماق البحار ويُسحق بضغطها العالي. بقي على ذلك الحال لمدّة طويلة حتّى فقد الشعور بمرور الوقت من شدّة الألم، وفي نهاية المطاف، حتّى الحكمة السياديّة لم تستطع الحفاظ على وعيه الذي تلاشى تماما بعدما أرهِقت روحاه واستُنزِفت منهما كل الطاقة.
صار باسل ذابلا تماما ومحطّما، كما لو كان جذعَ شجرةٍ ميّتا سُحِق تحت حجر عملاق. لم تكن هناك أيّ ضربات قلب في جسده الذي بدا ميّتا.
***
في مكان ما بالعوالم الروحيّة، ظهر شرخ فضائيّ في السماء، وسقط منه شيء بسرعة فائقة فجعل الأرض تهتزّ كما لو أنّ زلزالا قد حدث.
في تلك اللحظة، اقترب ظلّ من الفوهة التي صنعها الشيء الذي سقط من السماء.
"هل هذا بشريّ؟"
تكلّم صاحب الصوت الهادئ، فظهر شخص آخر: "يجب أن نعود بسرعة. ليس لدينا الوقت لنهتمّ بهذا المخلوق. هيّا، بسرعة!"
"انتظر أيّها الجدّ، إنّه بشريّ لو تمعّنت النظر فيه جيّدا."
"ها؟ بشريّ؟"
***
في مكان آخر بأحد العوالم الروحيّة، فتح أحدهم عينيه بهدوء تامّ في ذلك المكان المعتم، فكانت العينان مشتعلتين كشمسين في سماء مظلمة: [أحدهم عبر؟ كيف؟!]
***
"فقط من يكون هذا الشابّ؟ لقد سقط من السماء بجروح وإصابات بالغة كما لو أنّه هرب من ممتحني الظلام."
"لا أعلم. لقد حاولت إلقاء نظرة على جسده لعلاجه، لكن جسده تماثل للشفاء لوحده بسرعة خياليّة بالرغم من أنّه كان على شفى الموت بجروح لا يمكن شفاؤها إلّا باختصاصيّ. عندما حاولت تفقّد روحه التي كانت في حال أسوء من جسده بكثير، لم أنجح في فعل ذلك بسبب شيء ما حجب عنّي الرؤية."
دار الحديث بين الاثنين في غرفة تضيئها شمعتان، كلّ واحدة في زاوية من الغرفة الصغيرة التي بدت بالكاد تتّسع للاثنين والشخص الراقد على جلد الخروف. كان حديثهما هادئا وبدوَا محتاطيْن ممّا أحاطهما.
تكلّم الرجل سائلا من جديدة واقفا خلف المرأة الجالسة: "هل حقّا يجب أن نعتني به لمدّة أطول؟ إنّ المجتمع قلق من أن تلحقنا مصيبة لا يمكننا الاختباء منها بسبب هذا الشابِّ المجهولةِ هوّيّته."
أجابت المرأة بينما تراقب الشابّ الراقد بعناية: "وماذا تريدني أن أفعل؟ أرميه بعدما قرّرت الاعتناء به؟ يجب أن نأمل ألّا يكون هذا الشابّ جالب مصائبٍ فقط. إنّك لا ترى بشريّا يسقط من السماء كلّ يوم في 'مونتيراسول'."
تنهّد الرجل بعد قرار المرأة ثمّ التفت: "سوف أتكلّم معهم. إنّ عادتك هذه لا تتغيّر. في الواقع، هذا ما يجعلك وريثة 'مطر القمر'."
ابتسمت المرأة بشكل خفيف: "ليس هناك من يذكر ذلك اللقب في زمننا هذا. اذهب وهدّئ من روعهم، فهم معذورين على تصرّفاتهم."
غادر الرجل، فظلّت المرأة تراقب الشابّ الراقد بصمت. كانت تقوم بهذا بشكل يوميّ، واستمرّت على هذا الحال لأيّام أخرى حتّى مرّ شهر.
"لقد نسوا تقريبا أنّنا نعتني بذلك الغريب بعدما لم يحصل أيّ شيء. على أيّ حال... ألا يجعل هذا الأمرَ مريبا أكثر؟ كيف لسيّد روحيّ أن يتعرّض لهذه الإصابات البالغة وينجو؟ أليس من المفترض أن يكون ميّتا بثلاثين في المئة من تلك الإصابات فقط؟"
كان الرجل يتكلّم في الظلال مع المرأة كالعادة. كانت نبرته هادئة بالرغم من استيائه. كان احترامه للسيّدة واضحا.
أجابت المرأة بعدما أطالت النظر في الشابّ: "لم يحدث أيّ شيء بالرغم من مرور شهر على سقوطه من السماء، لذا لا أظنّ أنّه كان ملاحقا. هل ربّما واجه كارثة طبيعيّة واستخدم كنزا ما للهرب فسقط من السماء؟"
"كارثة طبيعيّة... يمكنكِ أن تصفي الأمر كذلك على ما أعتقد."
نطق الشابّ الراقد فجأة، ثمّ فتح عينيه والتفت إلى المرأة بدون أن يفعل أيّ حركة. كانت عيناه الحمراوان مثيرتين للفزع والاغراء في نفس الوقت، ما جعل الرجل يحذر أكثر ممّا كان عليه أصلا والمرأة تدقّق النظر في الشابّ أكثر.
'متى استيقظ؟'
لم تلحظ المرأة أيّ علامة توحي باستيقاظ الشابّ، فاستغربت حقّا لمّا تكلّم فجأة. عدم قيامه بأيّ حركة في حاله ذاك كان مثيرا للاهتمام أيضا. كما لو أنّه يخبرهما أنّه غير مؤذٍ إطلاقا.
"يا سيّدة، اسمحي لي أن أشكرك على تعاملك الجيّد مع جسدي والاعتناء بي كلّ هذا الوقت. لن أنسى خيرك هذا ما حييت."
رفعت المرأة حاجبها متعجّبة. كيف له أن يعرف أنّها كانت تعتني بجسده طوال هذا الوقت؟ لقد كان فاقدا للوعي بكلّ تأكيد.
"والآن دعيني أسألك شيئا يا أيّتها السيّدة المحترمة. أين أنا؟"
صار وجه المرأة هادئا مرّة أخرى بعد سؤال باسل. كان هذا السؤال مخادعا بالنسبة لها ولمجتمعها. ماذا لو كان هذا الشخص جاسوسا أرسل للإيقاع بهم حتّى يُكشف موقعهم؟ كان من الصعب الإجابة عن هذا السؤال البسيط.
لاحظ الشابّ نظرات المرأة الشاخصة التي كانت تحلّل نواياه، فغيّر سؤاله لتكون المرأة أكثر ارتياحا: "ما اسم هذا العالم؟"
كان السؤال أغرب بكثير من الأوّل، لكنّه لم يحمل أيّ أهمّيّة بالنسبة للمرأة، فأومأت وأجابت بالرغم من أنّها تعجّبت من السؤال: "مونتيراسول. هل يمكن أنّ ذاكرتك مشوّشة؟"
"مونتيراسول؟! شرفة الوحوش الروحيّة؟!"
كان الشابّ متفاجئا للغاية، فزاد من الغموض المحيط به. تلك لم تكن ردّة فعل شخص فاقد للذاكرة، بل ردّة فعل شخص لم يكن يتوقّع ما سمعه.
"طبعا. ما الذي يجعلك متفاجئا؟ هل ربّما أنت من عالم آخر؟"
لم يردّ الشابّ على كلام المرأة وظلّ فقط سارحا بأفكاره.
'لقد سألت من باب المزاح فقط، لكن هل يمكن أنّه انتقل إلى هنا من عالم آخر قبل ختم العوالم ثمّ فقد ذاكرته عمّا حصل بعد أن أتى إلى هنا؟'
لم تضع المرأة احتمال انتقال هذا الشابّ بين العوالم المختومة في الحسبان حتّى. لم تكن غبيّة أو حمقاء لفعل ذلك على أيّ حال. كيف لسيّد روحيّ ويافع مثل هذا الشابّ أن يفعل ما استحال حتّى على الهرمى المقموعين؟
'كنت أعلم أنّني ضللت طريقي بدون إرشاد كليوباترا، لكن يا له من إخفاق. لم أسقط في عالم آخر غير العالم الأصليّ وحسب، بل سقطت في مونتيراسول، العالم الذي تحكمه الوحوش الروحيّة، والتي انضمّت لملك الشياطين قبل ألف سنة.'
ما زال باسل يذكر عندما أخبره معلمه عن هذا العالم أوّل مرّة. كان هناك عالمان قد سقطا تحت حكم الشياطين بالفعل، وكان هناك عالم تحالف معهم قبل ألف سنة. كان ذلك العالم هو العالم الذي اجتاحته الوحوش الروحيّة وصارت تحكمه. لم يكن في هذا العالم مكان للبشر حتّى يعيشوا فيه بسلام وهناء أو بدون شروط أسوء من الموت.
فكّر باسل بسرعة في حاله ثمّ نظر إلى السيّدة الهادئة والرجل الذي كان على أهبة الاستعداد لأيّ شيء لكن كان يخفي استعداده ذاك في نفس الوقت: "يا سيّدة، إن كنّا في مونتيراسول، هل يجب أن يكون ذلك تفسيرا لاختبائكما هنا؟"
لم يتحرّك باسل قيد أنمله غير عنقه الذي أداره عندما وجّه حديثة نحو السيّدة المحترمة. كانت هذه مراعاة من باسل للشخص الذي حمى جسده لشهر كامل. لم يرد منهما أن يشعرا بأيّ تهديد، فقيّد تحرّكاته تماما.
عبس الرجل خلف المرأة ونطق أخيرا: "أنت...! كيف تعلم عن..."
"يا جدّي!"
توقّف الجدّ عن الحركة بعدما حاول استخدام طاقته الروحيّة، منصاعا لأمر السيّدة غير المنطوق لكن المفهوم.
"اعذر جدّي على تسرّعه، فهو قلق على سلامتي فقط. ومع ذلك، لا يمكنني تجاهل ما قلته للتوّ. هل يمكنك أن تفسّر موقفك؟ لم شخص مثلك استيقظ للتوّ يعلم أنّنا مختبئين؟"
أومأ باسل رأسه ثمّ ردّ: "لم أعلم أنّكما مختبئين، لكنّني صرت أعلم أنّكما كذلك بفضلكما."
فتحت المرأة عينيها على مصراعيهما. هذا الشابّ، بجدّيّة، تلاعب بهما بهذه الخدعة القديمة.
وضعت المرأة يدها على جبهتها وتنهّدت. كيف لها أن تقع في هذا الفخّ البسيط؟ إنّها أعجوبة أنّهم ما يزالوا يستطيعون الاختباء هكذا بهذه العقليّة البسيطة... لا بدّ وأنّ هذا ما يفكّر فيه الشابّ حاليا. لقد كان الأمر مخجلا.
كانا محتاطان منه لدرجة أنّهما اعتقدا أنّه يعلم أصلا عن اختبائهما وجاء إلى هنا فقط ليكشف موقعهما.
تكلّم باسل مضيفا: "لا تقلقا. إنّني لا أنوي سوءا، ولا أتمنى لكما سوى الخير بعد معروفكما. أنا باسل، فهل لي من وسيلة حتّى أردّ بها إليكما المعروف؟"
بالطبع كان كلام باسل في قمّة الاحترام لأنّهما أنقذاه، لكنّه كان أيضا يفعل ذلك من أجل مصلحته. ما زال لا يعلم أين هو أو مع من يتكلّم، لذا كان محتاطا. لا يمكنه استخدام قدراته الروحيّة أو حتّى الحكمة السياديّة كما يريد حاليّا، لذا أراد أن يكسب ثقة هذين الاثنين ولو قليلا.
نظرت السيّدة إلى باسل لبعض من الوقت قبل أن تنطق أخيرا: "لا شيء. غادر فقط ولا تربط نفسك بنا أبدا. لا تفكّر فينا، ولا تحاول البحث عنّا. عسى أن يكون مسارك الروحيّ مستقرّا."
كان كلام السيّدة صارما، فشعر باسل فنبرتها الجدّيّة والتي لم تكن قابلة للتفاوض إطلاقا. تنهّد فقط وفكّر فيما سيفعله الآن. لقد كان هذا عالما تحكمه الوحوش الروحيّة، ولم يكن له أيّ حليف أو حبيب. حتّى لو غادر الآن، إلى أين سيذهب؟
'ربّما أبحث عن الرماد فقط؟ ربّما أفعل ذلك بينما أبحث عمّن يساعدني في مغادرة هذا العالم.'
أعطته المرأة وقتا كافيّا للتفكير، لكنّها كانت سريعة الحركة والتطبيق ما أن وافق باسل على المغادرة بهدوء.
"اعذرنا على هذا التصرّف العنيف، لكن هذا من أجل سلامتنا كلّنا. لا يمكنني أن أخاطر باكتشاف موقع هذا المكان مهما كان."
لا تقلقي، فهذه ليست أوّل مرّة أقيَّد فيها."
"شكرا على تفهّمك. سنبدأ الآن."
ظلام حالك. لا صوت ولا رائحة ولا ذوق ولا لمس ولا رؤية، ولا استشعار بالطاقة الروحيّة. كلّ شيء انطفأ تماما ولم تبق هناك أيّ وسيلة لباسل حتّى يعلم بها عمّا يحيط بها. حتّى الحكمة السياديّة تطلّبت طاقة روحيّة أو سحريّة لاستخدامها، لكنّه لم يكن قادرا على فعل ذلك حاليا أصلا حتّى بدون تلك القيود الروحيّة التي وُضعت على ذراعيه ورجليه.
لم يكن باسل قلقا أن يفعلوا له شيئا، فهم اعتنوا به لمدّة شهر عندما كان غائبا عن الوعي تماما. كيف لهم أن يفكّروا في فعل شيء له الآن؟
***
عندما عاد النور لعينيه بجانب الأحاسيس الأخرى، وجد باسل نفسه يقف أمام فوهة كبيرة كما لو أنّ نيزك سقط من السماء فخلّفها. كانت هذه الفوهة مألوفة لباسل، إذ صنع واحدة مثلها لمّا استيقظ من البيضة المشعّة واكتشف أنّ العوالم مختومة بحكمته السياديّة فسقط بعد ذلك من السماء.
"عدنا بك إلى من حيث أتينا بك. والآن، اعذرنا، فنحن لا يمكننا المكوث هنا لفترة أطول. رافقتك السلامة."
كان واضحا سابقا أنّ المرأة لديها العديد من الأسئلة لباسل، إلّا أنّها حقّا قمعت فضولها كلّيّا وأخبرت باسل أن ينسى ما حدث أيضا.
"لا بدّ وأنّ حالة البشر عويصة للغاية في هذا العالم."
تنهّد باسل ثمّ فكّر في الوقت الذي يجب أن يمضيه هنا بينما يجد وسيلة للمغادرة ويبحث عن رماد الوحش النائم.
"لنبحث عن مكان هادئ نتماثل فيه للشفاء كلّيّا قبل أن أبدأ بحثي."
كان هدف باسل الأوّل حاليّا هو إيجاد أحبابه، لكنّه وعد الوحش النائم أن يجد رماده أيضا. والآن، يوجد احتمال كبير أنّ أحبابه غير موجودين هنا في هذا العالم، لذا يجب أن يجعل بوصلته هو الرماد.
نظر باسل إلى الأرجاء، فلاحظ أنّه كان وسط صحراويّة. كانت توجد بعض من الأعشاب على الأرض المتشقّقة هنا وهناك، لكنّها كانت تبدو وشيكة على الموت أيضا. كان يوجد في بعض من المناطق نبات الصبّار، أو ما يشبه نبات الصبّار من عالمه، إذ اختلف لونه فكان أرجوانيّا وشكله فكان أسطوانيّا.
كان الجوّ أحرّ من 'الأرض الحمراء' في العالم الواهن، أكثر حرارة بحوالي ثلاثين في المئة. لم يكن هذا المكان مناسبا للبشر حتّى يعيشوا فيه، ولن ينجو هنا سوى السحرة. حتّى السحرة في المستويات الأولى سيجدون العيش هنا صعبا.
طالت الظلال فكان واضحا أنّ غروب الشمس قد حان... لا، بل غروب الشمسين قد حان. نظر باسل إلى الأفق بينما يستمتع بالنجمين الأصغر حجما من نجم عالمه، إذْ كانا فلكهما متداخلا، فكان فلك مونتيراسول حولهما.
"إنّ هذا الكون شاسع، وإنّني لممتنّ أنّني حيّ فيه حتّى أرى مثل هذه المناظر."
بالطبع، كانت هذه شرفة الوحوش الروحيّة، وكانت الأرض التي وقف عليها باسل جافّة وميّتة، إلّا أنّ المنظر أمامه أعاد الحياة إلى كلّ ذلك.
وبعد لحظات، بينما كان باسل يجلس على صخرة بجانب الفوهة ويتأمّل في الشمسين، لاحظ طائرا كبيرا في الأفق يحلّق بسرعة كبيرة. كان الطائر غريبا أيضا، إذْ كان يبعث دخّانا أبيض خلفه بينما يحلّق بشكل مستقيم ولا يرفرف جناحيه إطلاقا مهما قطع من مسافات.
لسوء حظّ باسل، لم يستطع إلقاء نظرة جيّدة على الطائر العجيب بسبب حالته الآن، لكن فجأة، غيّر الطائر مساره بشكل دائريّ وبدأ يطير في اتّجاه باسل. اقترب الطائر أكثر فلاحظ باسل أنّ الطائر كان غريبا.
لقد كان الطائر بدون روح. كان معدنيّا. كان الطائر عبارة عن آلة مصنّعة. هذا ما أخبرته به معرفته الواسعة التي ورثها عن معلّمه.
"أهذه هي ما يُدعى بالسفينة الفضائيّة؟"
"هياهاهاهاها! انظر ماذا لدينا هنا. أو ليست هذه شخصيّة ثانويّة أخرى؟ إنّني أشمّ رائحة ابتداء 'قوس' أحداثٍ جديد!"
كان باسل منذهلا تماما ممّا ظهر من السفينة الفضائيّة(؟) وتساءل عن ما كان مقصودا
بذلك الكلام.................................يتبع!!!!!!!!!