باب برزويه
قال برزويه رأس أطباء فارس وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب وترجمته من كتب الهند:
إن أبي كان من المقاتلة وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة وكان مما ابتدأني به *** أني كنت من أكرم ولد أبويّ عليهما، وكان لي أشد احتفالاً منهما لسائر إخوتي، وأنهما أسلماني في تعليم الكتّاب حتى بلغت في العلم، فلما حذقت الكتابة شكرت أبويّ ونظرت في العلم، وكان أول علم رغبت فيه علم الطب فحرضت عليه حتى إذا حصّلت منه جانباً عرفت فضله وازددت عليه حرصاً وله اتباعاً. فلما بلغت فيه إلى أن أدمنت نفسي على مداواة المرضى هممت بذلك في الناس قولاً وعملاً. ولما تاقت نفسي إلى ذلك ونازعت إلى أن تغبط غيري وتتمنى منازلتهم أبيت لها إلا الخصومة وقلت: يا نفس ألا تعرفين نفعك من ضرّك، ألا تنتهين عن تمنّي ما لا يناله أحد إلا قلّ متاعه وكثر عناؤه فيه وخباله عليه واشتدّت البلية عليه عند فراقه وعظمت التبعة منه عليه بعده.
يا نفس ألا تذكرين ما بعد هذه الدار فينسيك ذلك ما تشرهين إليه من هذه الدار. ألا تستحين من مشاركة العجزة الجهّال في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده منها شيء فليس له وليس بباق معه والتي لا يألفها إلى المغترّون الغافلون. فانصرفي عن هذه النسبة وأقبلي بقوتك وما تمليكن على تقديم الخير والأجر ما استطعت، وإياك والتسويف. واذكري أن لهذا الجسد وجوداً وآفات وأنه مملوءة أخلاطاً فاسدةً قذرة يجمعها لمنافع أربعة أخلاطٍ متغالبة تغمرهن الحياة. والحياة إلى نفاذ كاللصنم المفصّلة أعضاؤه إذا ركّبت تلك الأعضاء وصنّفت في مواضعها جمعها مسمارٌ واحد يمسك بعضها على بعض، فإذا أخذ المسمار تساقطت الأوصال.
يا نفس لا تغتري بصحبة أحبائك وأخلائك ولا تحرصي على ذلك كل الحرص فإن صحبتهم على ما فيها من السرور كثيرة الأذى والأحزان، ثم يختم ذلك بعاقبة الراق. ومثله مثل المغرفة التي لا تستعمل في سخونة المرق في جدتها. فإذا انكسرت صارت عاقبة أمرها إلى أن تحرق بالنار. فأمرت نفسي وخيّرتها الأمور الأربعة التي إياها يطلب الناس وإليها يسعون فقلت: ينبغي لمثلي في مثل العلم أن يطلب أيها أفضل: المال أم اللذات أم الصّون أم أجر الآخرة.
فاستدللت على الخيار من ذلك أني وجدت الطب محموداً عند العقلاء، ولم أجده مذموماً عند أحد من أهل الأديان والملل. ووجدت في كتب الطب أن أفضل الأطباء من واظب على طبه لا يبتغي بذلك إلا أجر الآخرة. فرأيت أن أواظب على الطب ابتغاء أجر الآخرة ولا أبتغي بذلك ثمناً وأكون كالتاجر الخاسر الذي باع ياقوتة كان مصيبا بثمنها غنى الدهر بخرزة لا تساوي شيئا. مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك من حظه في الدنيا وأن مثله في ذلك مثل الزارع الذي إنما يحرث أرضه ويعمرها ابتغاء الزرع لا ابتغاء العشب، ثم هي لا محالة نابت فيها ألوان العشب.
فأقبلت على مداواة المرضى. فلم أدع مريضا أرجو له البرء ولا آخر لا آرجو له البرء إلا أني أطمع له في خفة الوجع والأذى إلا بلغت في مداواته جهدي. ومن قدرت على القيام قمت عليه ومن لم أقدر على القيام عليه وصفت له وأمرته وأعطيته ما يتعالج به من الدواء ولم أرد على ذلك أجرة ولا مكافأة. ولم أغبط من نظرائي ومن هو مثلي في العلم وفوقي من المال والجاه أحداً لغير ذلك ممن له صلاح وحسن سيرة.
يا نفس لا يحملنك أهلك وأقاربك على جميع ما تهلكين في جمعه إرادة لصلتهم ورضاهم فإذا أنت كالدخنة الطيبة التي تحرق بالنار ويذهب بعرفها آخرون.
يا نفس لا تغتري بالغنى والمنزلة التي ينظر إليها أهلها، فإن صاحب ذلك لا يبصر صغير ما يستعظم حتى يفارقه فيكون كشعر الرأس الذي يخدمه صاحبه ما دام على الرأس فإذا فارق رأسه استقذره ونفر منه.
يا نفس داومي على مداواة المرضى ولا تقلعي عن ذلك أن تقولي للطب مؤونة شديدة والناس لها ولمنافع الطب جهال. ولكن اعتبري برجل يفرج عن رجل كربه ويستنقذه منه حتى يعود بعده إلى ما كان فيه من الروح والسعة ما أخلقه لعظم الأجر وحسن الثواب. فإن كان الذي يفعل هذا برجل واحد يرجو ذلك كله فكيف الطبيب الذي يداوي العدة التي لا يعلمها إلا **** ابتغاء الأجر، فيصيرون بعد الأوجاع والأسقام الحائة بينهم وبين الدنيا ولذتها ونعيمها وطعامها وشرابها وأزواجها وأولادها إلى أحسن ما كانوا يكونون عليه من حال دنياهم. إن هذا لخليق أن يعظم رجاؤه ويثق بحسن الثواب على عمله.
يا نفس لا يبعدن عليك أمر الأخرة فتميلي إلى العاجلة فتكوني في استعمال القليل وبيع الكثير باليسير كالتاجر الذي زعموا أنه كان له ملء بيت من الصندل فقال: إن بعته موزونا طال علي، فباعه جزافاً بأخس الأثمان.
فلما خاصمت نفسي بهذا وآخذتها به وبصّرتها إياه لم تجد عنه مذهباً فاعترفت وأقرّت ولهت عما كانت تنزع إليه، وقامت على مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة. فلم يمنعني ذلك أن أصبت حظا عظيما من الملوك قبل أن آتي الهند، وبعد رجوعي إلى ما نلت من الأكفاء والإخوان فوق الذي كان طمعي فيه وتجمح إليه نفسي وفوق ما كنت له آهلا.
ثم نظرت في الطب فوجدت الطبيب لا يستطيع أن يداوي المريض من مرضه بدواء يزيل عنه داءه فلا يعود إليه أبداً وغيره من الأدواء. والداء لا يؤمن عوده أو أشد منه. ووجدت عمل الآخرة هو الذي يسلم من الأدواء كلها سلامة فلا تعود إليه بعد ذلك فاستخففت في الطب ورغبت في الدين.
فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه علي أمر الدين ولم أجد في الطب ذكراً لشيء من الأديان ولم يدلّني على أهداها وأصوبها. ووجدت الأديان والملل كثيرة من أقوام ورثوها عن آبائهم وآخرين خائفين مكرهين عليها وآخرين يبتغون بها الدنيا ومنزلتها ومعيشتها، وكلهم يزعم أنه على صواب وهدى فاستبان لي أنهم بالهوى يحتجون وبه يتكلمون لا بالعدل. وقد وجدت آراء الناس مختلفة وأهواءهم متباينة وكلاً على كل راد وله عدو ومغتاب ولقوله مخالف.
فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منهم سبيلاً وعلمت أني إن صدّقت منهم أحدا بما لا علم لي به أكن مثل المصدق المخدوع.
باب برزويه - مثل المصدق المخدوع
زعموا أنه ذهب سارق حتى علا بيت رجل من الأغنياء ليلاً ومعه أصحابٌ له فاستيقظ صاحب البيت فأحسّ بهم، وعرف أنهم لم يعلوا ظهر البيوت تلك الساعة إلا لريب، فنبّه امرأته وقال لها رويداً، إني لأحسّ باللصوص قد علوا ظهر بيتنا فإني متناومٌ، فأيقظيني بصوت يسمعه مَن فوق البيت ثم نادي: يا صاحب البيت ألا تخبرني عن أموالك هذه الكثيرة وكنوزك من أين جمعتها. فإذا أبيت عليك فألحّي في السؤال. ففعلت المرأة ذلك وسألته كما أمرها واستمع اللصوص حديثهما فقال الرجل: يا أيتها المرأة قد ساقك القدر إلى رزق كثير فكلي واسكتي ولا تسألي عما لو أخبرتك به لم آمن أن يسمعه سامع فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين. قالت المرأة: أخبرني أيها الرجل فلعمري ما يقربنا أحد يسمع كلامنا. قال: فإني أخبرك أني لم أجمع هذه الأموال وهذه الكنوز إلا من السرقة. قالت: وكيف جمعت هذه الأموال وهذه الكنوز من السرقة وأنت في أعين الناس عدل رضاً لا يتهمك أحد ولم يرتب بك.
قال: ذلك لعلم أصبته في علم السرقة فكان الأمر أوفق وأيسر من أن يتهمني أحد ويرتاب بي. قالت: وكيف ذلك؟ قال: كنت أذهب في الليلة المقمرة ومعي أصحابي حتى أعلوا ظهر البيت الذي أريد أن أسرق أهله وأنتهي إلى الكوّة التي يدخل منها ضوء القمر فأرقي بهذه الرقية "شولم شولم" سبع مرات ثم أعتنق الضوء فأنهبط به إلى البيت فلا يحس بوقعتي أحد، ثم أقوم في أصل الضوء فأعيد الرقية سبع مرات فلا يبقى في البيت مال ولا عِلقٌ إلا بدا لي وأمكنني أن أتناوله فآخذ من ذلك ما أحببت. ثم أعتنق الضوء وأعيد الرقية سبع مرات فأصعد إلى أصحابي وأحملهم ما معي ثم ننسلّ.
فلما سمع اللصوص ذلك فرحوا فرحاً شديداً وقالوا: لقد ظفرنا من هذا البيت بما هو خير لنا من المال الذي نحن مصيبوه منه، لقد أصبنا علما أذهب **** به عنا الخوف وأمّننا من السلطان. ثم أطالوا المكث حتى استيقنوا في أنفسهم أن صاحب البيت وامرأته قد ناما، فتقدم رئيسهم إلى مدخل الضوء من الكوة ثم قالك "شولم شولم" سبع مرات، ثم اعتنق الضوء لينزل به كما زعم فوقع في البيت منكّساً، ووثب الرجل بهراوة فضربه حتى أثخنه ثم قال له: من أنت؟ قال: أنا المصدق المخدوع وهذه ثمرة التصديق.
فلما تحرّزت من التصديق بما لا آمن أن يوقعني في الهلكة عدت للبحث عن الأديان والتماس العدل منها، فلم أجد عند أحد جواباً عما سألته عنه ولا فيما ابتدأني به شيئاً يحق عليّ في عقلي أن أصدق به فأتبعه. فقلت لما لم أجد ثقة آخذ منه فالرأي أن أتبع *** آبائي الذين وجدتهم عليه. فلما ذهبت ألتمس العذر لنفسي في ذلك لم أجد الثبوت على *** الآباء لي عذرا وقلت: إن كان هذا عذراً، فالساحر الذي وجد أباه ساحراً في عذر مع أشباهه، وذلك مما لا يحتمله العقل. وذكرت رجلاً كان فاحش الأكل يُعاب ذلك عليه فاعتذر بأن قال: هكذا كان يأكل آبائي وأجدادي.
فلم أجد على الثبوت على *** الآباء سبيلاً ولا في ذلك عذراً ورأيت التفرع للبحث عن الأديان مشكلاً تخوفت قرب الأجل وسرعة انقطاع الأمل، فقلت: أما أنا فلعلي أفارق الدنيا وشيكاً دون صالح الأعمال فيشغلني ترددي عن خير كنت أعمله ويكون أجلي دون بلوغ ما ألتمس به فيصيبني مثل الخادم والرجل.
باب برزويه - مثل الخادم والرجل
زعموا أن رجلاً تواطأ مع خادم في بيت لأحد الأغنياء على أن يأتي البيت في كل ليلة يغيب صاحبه فيعطيه شيئاً من متاع سيده فيبيعه ويتشاطرا ثمنه. فاتفق ذات يوم أن غاب أهل البيت وبقي الخادم وحده فأنفذ فأخبره الرجل فأقبل. وفيما هما يجمعان المال إذ قرع الباب وعاد رب البيت على بغتة. وكان للبيت باب آخر لم يكن يعلمه الرجل وبقربه جبّ ماء. فقال الخادم للرجل: أسرع واخرج من الباب الذي عند الجب.
فانطلق الرجل ووجد الباب لكنه لم يجد الجب فرجع إلى الخادم وقال له: أما الباب فوجدته، وأما الجب فلم أجده. فقال الخادم: ويحك انجُ بنفسك ولا تكترث للجبّ. قال الرجل: كيف أذهب وقد خلطت عليّ فذكرت الجب وليس هناك. قال الخادم: دع عنك الحمق والتردد وفرّ عاجلاً. فلم يزل ينازعه حتى دخل رب البيت فأخذه وأوجعه ضرباً ثم دفعه إلى السلطان.
فلما خفت من التردد والتجوال رأيت أن لا أتعرض لما خفت من ذلك وأن أقتصر على كل عمل تشهد الأنفس على أنه صحيح وتوافق عليه الأديان. فكففت يدي عن الضرب والقتل والغضب والسرفة والخيانة وحصّنت نفسي من الفجور وحفظت لساني من الكذب ومن كل كلام فيه ضرر على أحد، وكففت لساني عن الشتم والعضيهة والخنا والبهتان والغيبة والسخري.
والتمست من قلبي بأن لا أتمنى لأحد سوءاً ولا أكذب بالبعث والقيامة الثواب والعقاب. وزايلت الأشرار بقلبي ولزمت الصلحاء والأخيار جهدي. ورأيت الصلاح ليس كمثله صاحب ولا قرين ورأيت مكسبه إذا وفّق له وأعان عليه يسيراً ووجدته أحنّ على صاحبه وأبرّ من الآباء والأمهات. ووجدته يدل على الخير ويشير بالنصح فعل الصديق بالصديق، ووجدته لا ينقص إذا أنفق منه صاحبه بل يزداد على الاستعمال والابتذال جدة حسنة. ووجدته لا خوف عليه من السلطان أن يسلبه ولا من شيء من الآفات، لا من الماء أن يغرّقه ولا من النار أن تحرقه ولا من اللصوص أن تسرقه ولا من شيء من السباع وجوارح الطير أن تمزقه. ووجدت الرجل الذي يزهد في الصلاح وعاقبته ويلهيه عن بذلك قليل ما هون فيه من حلاوة العاجل، إنما مثله فيما أنفذ فيه أيامه ويلهيه على ما ينفعه كمثل التاجر والضارب بالصنج.
باب برزويه - مثل التاجر والضارب بالصنج
زعموا أن تاجراً كان له جوهرٌ كثيرٌ ثمينٌ، فاستأجر رجلا لثقبه وحمله بمئة دينار ليومه ذلك. فانطلق به إلى بيته، فلما قعد إذا هو بصنج موضوع في ناحية البيت فقال التاجر لصاحبه: هل تضرب بالصنج؟. قال: وفوق ذلك. قال: فدونك. فتناول الرجل الصنج وكان به ماهراً فلم يزل يُسمعه من صوت جيد وصوت مصيب حتى أمسى وترك سفط جوهره مفتوحاً واقبل على الضرب واللهو. فلما أمسى قال الرجل للتاجر: مُرْ بأجرتي. فقال: ما عملت شيئاً فتأخذ أجرته.
قال: عملت ما أمرتني أن أعمل. فوفاه مئة دينار وبقي جوهره غير مثقوب.
فلم أزدد في الدنيا وشهواتها نظراً إلاّ ازددت فيها زهادة فرأيت أن أعتصم بالتألّه والنسك ورأيت النسك يمهّد للمعاد كما يمهّد للولد أبواه ورأيته كالجنة الحريزة في دفع الشر الدائم الباقي، ورأيته الباب المفتوح إلى الجنة دار النعيم. ووجدت الناسك إذا فكّر تعلوه السكينة، فإذا تواضع وقنع واستغنى ورضي فلا يهم إذ خلع الدنيا فنجا من الشرور ورفض الشهوات فصار طاهراً وانعزل فكُفي الأحزان وطرح الحسد، فظهرت عليه المحبة وسخت نفسه عن كل فانٍ فاستكمل العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة ولم يذنب فسلم. فلم أزدد في أمر النسك نظراً إذا ازددت فيه رغبة حتى هممت أن أكون من أهله.
ثم تخوّفت ألا أصبر على عيش النساك وأن تضر بي العادة التي بها ربيت وغذيت ولم آمن إن أنا خلعت الدنيا وأخذت في النسك أن أضعف عن ذلك وأكون قد رفضت أعمالاً كنت أعملها قبل ذلك مما أرجو عائدتها، فيكون مثلي في ذلك كمثل الكلب الذي مرّ بنهر وفي فيه ضلع فرأى ظلّ الضّلع في الماء فأهوى ليأخذه فأهلك الذي كان في فيه ولم ينل الذي طمع فيه. فهبت النسك هيبة شديدة وخفت على نفسي الضجر وقلة الصبر وأردت الثبوت على حالتي التي كنت عليها.
ثم بدا لي أن أقيس بين ما أخاف وما أصبر عليه من الأذى والضيق في النسك وبين الذي يصيب صاحب الدنيا من البلاء فيها، وكان بيّنا عندي أنه ليس من شهوات الدنيا ولذاتها شيء إلا هو متحول أذى ومورث حزنا. فالدنيا كالماء المالح الذي ما يزداد صاحبه منه شرباً إلا ازداد عطشاً. وكالعظم يصيبه فيجد فيه ريح اللحم فلا يزال يلوكه لطلبه ذلك اللحم فيدمي فاه ثم لا يزداد له طلباً إلا ازداد لفيه إدماء. وكالحدأة التي تظفر بالبضعة من اللحم فيجتمع عليها الطير فلا تزال في تعب وهرب حتى تلفظ ما معها وقد أعيت وتعبت. وكالقلّة من العسل في أسفلها موت ذعاف. وكأحلام النائم التي تفرحه فإذا استيقظ انقطع الفرح عنه. وكالبرق الذي يضيء قليلاً ويذهب وشيكاً ويبقى راجيه في الظلام مقيماً. وكدودة الإبريسم لا يزداد الإبريسم على نفسها لفاً إلا ازدادت من الخروج منه بعداً.
فلما فكّرت في هذه الأمور راجعت نفسي في اختيار النسك ثم خاصمتني فقلت: ما يجوّز هذا لي أن أفرّ من الدنيا إلى النسك إذا فكّرت في شرورها، ثم أفر من النسك في الدنيا إذا تذكّرت ما فيه من المشقة والضيق فلا أزال في تصرف لا أبرم رأياً ولا أعزم على أمر كالقاضي الذي سمع من أول الخصمين فقضى له على الآخر ثم سمع الآخر فقضى له على الأول.
ونظرت في الدنيا يهولني من أذى النسك وضيقه فقلت: ما أصغر هذا وأقله في جنب روح الأبد وراحته. فنظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا فقلت: ما أمرّ هذا وأوخمه وهو يدفع إلى الشر وهوانه. وقلت: كيف لا يستحلي الرجل مرارة قليلة تعقبها حلاوة طويلة وكيف لا يستمر حلاوة قليلة تؤديه إلى مرارة كثيرة دائمة. وقلت: لو أن رجلاً عرض عليه أن يعيش مئة سنة لا يأتي عليه من ذلك يوم إلا قطّع فيه قطعا، ثم أحيي، ثم أعيد عليه مثل ذلك غير أنه شرط له إذا استوفى المئة سنة نجا من كل ألم فليس يكون حقيقاً إذا صار إلى الأمن والسرور ألاً يرى تلك السنين شيئاَ.
أو ليس الإنسان يتقلب في عذاب الدنيا من حين مولده إلى أن يستوفي أيام حياته، فإذا كان جنينا في بطن أمه كان في أضيق الحبوس وأظلمها. وإذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو لمسته يد وجد لذلك من الألم ما لا يجده الإنسان الذي قد سُلخ جلده. ثم هو في ألوان من العذاب إذا جاع وليس به استغاثة مهما يلقى من الرفع والوضع واللف والحل والدهن. وإذا نوّم على ظهره لم يستطع تقلّباً مع أصناف من العذاب ما دام رضيعاً.
فإذا انقلت من عذاب الرضاع أخذ في عذاب الأدب فأذيق منه ألواناً من عنف المعلم وضجر الدرس وسأم الكتابة. ثم له من الدواء والحمية والأوجاع والأسقام أوفى حظ. فإذا أدرك لحقه هم الأهل وجمع المال وتربية الولد ولعب به الشره والحرص ومخاطرة الطلب والسعي. وفي كل هذا تتقلب معه أعداؤه الأربعة، أي المرّة والدمة والبلغم والريح والسم المميت والحيّات اللادغة مع خوف السباع والهوام وخوف الحر والبرد والأمطار والرياح. ثم ألوان العذاب من الهرم لمن يبلغه. فلوم لم يخف من هذه الأمور شيئاً وشرط له بالأمن من ذلك كله فوثق بالسلامة منها فلم يعتبر إلا في الساعة التي يحضره فيها الموت ويفارق فيها الدنيا وما هو نازل به تلك الساعة من فراق الأهل والأحبة والأقارب وكل مضنون به من الدنيا والإشراف على هول المطّلع الفظيع المعضل بعد الموت، لكان حقيقاً أن يعدّ عاجزاً مفرّطاً محتملاً للإثم إن لم يعمل لنفسه ويحتل لها جهد حيلته، ويرفض ما يشغله ويلهيه من شهوات الدنيا وغرورها لا سيما في هذا الزمان الشبيه بالصافي وهو كدر.
فإنه وإن كان الملك قد جعله **** سعيداً ميمون النقيبة حازم الرأي رفيع الهمة بليغ الفحص، عدلا براً جواداً صدوقاً شكوراً، رحب الذراع متفقداّ للحقوق ومواظباً مستمراً فهماً نفاعاً ساكناً بصيراً حليما رؤوفاً رحيماً رفيقاً، عالماً بالناس والأمور، حباً للعلم والعلماء والأخيار، شديداً على الظلمة، غير جبان ولا خفيف القيادة، رفيقاً بالتوسع على الرعية فيما يحبون والدفع عنهم لما يكرهون، فإنا على ذلك قد نرى الزمان مدبراً بكل مكان. فكأن أمر الصدق قد تورعت من الناس فأصبح مفقودا ما كان غزيراً فقده وموجوداً ما كان ضاراً وجوده. وكأن الخير أصبح ذابلاً وأصبح الشر ناضراً. وكأن الغيّ أقبل ضاحكا وأدبر الرشد باكياً، وكأن العدل أصبح غائراً وأصبح الجور غالباً، وكأن الكرم أصبح مدفوناً وأصبح الجهل منشوراً، وكأن اللؤم أصبح أشراً وأصبح الكرم موطوءاً، وكأن الودّ أصبح مقطوعاً والبغضاء والحسد موصولاً، وكأن الكرامة قد سلبت من الصالحين وتوخى بها الأشرار، وكأن الخبّ أصبح مستيقظاً والوفاء نائماً، وكأن الكذب أصبح مثمراً والصدق قاحلاً يابساً، وكأن العدل ولّى غائراً وأصبح الباطل مرحاً، وكأن اتباع الهوى وإضاعة الحكم أصبح بالحكماء، موكّلا وأصبح المظلوم بالخسف مقراً والظالم لنفسه مستطيلا، وكأن الحرص أصبح فارغاً فاه من كل جهاد يتلقفه ما قرب منه وما بعد وأصبح الرضا مفقوداً مهجولا، وكأن الأشرار أضحوا يسامون السماء وأصبح الأخيار يريدون مطبق الأرض، وأصبحت المروءة مقذوفاً بها من أعلى شُرفٍ إلى أسفل سافلين، وأصبحت الدناءة مكرّمة ممكّنة، واصبح السلطان منتقلاً من أهل الفضل إلى أهل النقص، وأصبحت الدنيا جذلة مسرورة مرحة مختالة تقول: غيّبت الحسنات وأظهرت السيئات.
فلما فكّرت في الدنيا وأمورها وأن هذا الإنسان هو أشرف الخلق وأفضله فيها، ثم هو على منزله لا يتقلّب إلا في شر ولا يوصف إلا به، وعرفت أنه ليس من أحد له أدنى عقل إلا وهو يعقل هذا ثم لا يحتاط لنفسه ولا يعمل لنجاتها. فعجبت من ذلك كل العجب ونظرت فإذا هو لا يمنعه من ذلك إلا لذة صغيرة حقيرة طفيفة من الشم والطعم واللمس، لعله يصيب منها لطيفاً أو يتمنى منها طفيفاً لا يوصف قله مع سرعة انقطاع. فذلك الذي يشغله عن الاهتمام بأمر نفسه وطلب النجاة لها.
باب برزويه - مثل الرجل والتنين
فالتمست للإنسان في ذلك مثلاً فإذا مثله مثل رجل ألجأه خوف إلى بئر فتدلى فيها وتعلق بغصن بأعلى شفيرها فوقعت رجلاه على عمدها فنظر فإذا هي حيات أربع قد أطلعن رؤوسهن من أحجاهن. ونظر إلى أسفل البئر فإذا هو بتنين فاغر فاه نحوه. ورفع رأسه إلى الغصن فإذا هي أصله جرذان أبيض وأسود يقرضان الغصن دائبين لا يفتران. فبينما هو في النظر والاجتهاد لنفسه وابتغاء الحيلة في ذلك، إذ نظر فإذا قريب منه نحلٌ قد صنعن شيئاً من العسل فأراد أن يأكل منه قليلا فشغل قلبه عن التفكر في أمره والتماس حيلة ينجي بها نفسه فنسي أن يذكر الجرذين الدائبين في قطع الغصن، وأنها إذا قطعاه وقع ف فِي التنين، فلم يزل لاهياً غافلاً حتى هلك.
فشبهت البئر بالدنيا المملوءة إفكاً وبلايا وشرورا ومخاوف. وشبهت الحيات الأربع بالأخلاط الأربعة التي هي في بدن الإنسان. فمتى ما هاج منها شيء كان كحمة الأفعى والسم المميت. وشبهت الجرذين بالليل والنهار. وشبهت قرضهما للغصن دائبين دور الليل والنهار في إفناء الأجل الذي هو حصن الحياة. وشبهت التنين بالموت الذي لا بد منه. وشبهت العسل بهذه الحلاوة القليلة التي يرى الإنسان ويشم ويطعم ويسمع ويلمس فتشغله عن نفسه وتنسيه أمره وتلهيه عن شأنه وتصرفه عن سبل النجاة. فصار أمري إلى الرضا بما لي وإصلاح ما استطعت إصلاحه من عملي لعلي أصادف فيما أمامي زماناً أصيب فيه دللاً على هداي وسلطاناً على نفسي وأعواناً على أمري، فأقمت على هذه الحال، وانصرفت من الهند إلى بلادي وقد انتسخت من كتبها كتبا كثيرة منها هذا الكتاب.
قال برزويه رأس أطباء فارس وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب وترجمته من كتب الهند:
إن أبي كان من المقاتلة وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة وكان مما ابتدأني به *** أني كنت من أكرم ولد أبويّ عليهما، وكان لي أشد احتفالاً منهما لسائر إخوتي، وأنهما أسلماني في تعليم الكتّاب حتى بلغت في العلم، فلما حذقت الكتابة شكرت أبويّ ونظرت في العلم، وكان أول علم رغبت فيه علم الطب فحرضت عليه حتى إذا حصّلت منه جانباً عرفت فضله وازددت عليه حرصاً وله اتباعاً. فلما بلغت فيه إلى أن أدمنت نفسي على مداواة المرضى هممت بذلك في الناس قولاً وعملاً. ولما تاقت نفسي إلى ذلك ونازعت إلى أن تغبط غيري وتتمنى منازلتهم أبيت لها إلا الخصومة وقلت: يا نفس ألا تعرفين نفعك من ضرّك، ألا تنتهين عن تمنّي ما لا يناله أحد إلا قلّ متاعه وكثر عناؤه فيه وخباله عليه واشتدّت البلية عليه عند فراقه وعظمت التبعة منه عليه بعده.
يا نفس ألا تذكرين ما بعد هذه الدار فينسيك ذلك ما تشرهين إليه من هذه الدار. ألا تستحين من مشاركة العجزة الجهّال في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده منها شيء فليس له وليس بباق معه والتي لا يألفها إلى المغترّون الغافلون. فانصرفي عن هذه النسبة وأقبلي بقوتك وما تمليكن على تقديم الخير والأجر ما استطعت، وإياك والتسويف. واذكري أن لهذا الجسد وجوداً وآفات وأنه مملوءة أخلاطاً فاسدةً قذرة يجمعها لمنافع أربعة أخلاطٍ متغالبة تغمرهن الحياة. والحياة إلى نفاذ كاللصنم المفصّلة أعضاؤه إذا ركّبت تلك الأعضاء وصنّفت في مواضعها جمعها مسمارٌ واحد يمسك بعضها على بعض، فإذا أخذ المسمار تساقطت الأوصال.
يا نفس لا تغتري بصحبة أحبائك وأخلائك ولا تحرصي على ذلك كل الحرص فإن صحبتهم على ما فيها من السرور كثيرة الأذى والأحزان، ثم يختم ذلك بعاقبة الراق. ومثله مثل المغرفة التي لا تستعمل في سخونة المرق في جدتها. فإذا انكسرت صارت عاقبة أمرها إلى أن تحرق بالنار. فأمرت نفسي وخيّرتها الأمور الأربعة التي إياها يطلب الناس وإليها يسعون فقلت: ينبغي لمثلي في مثل العلم أن يطلب أيها أفضل: المال أم اللذات أم الصّون أم أجر الآخرة.
فاستدللت على الخيار من ذلك أني وجدت الطب محموداً عند العقلاء، ولم أجده مذموماً عند أحد من أهل الأديان والملل. ووجدت في كتب الطب أن أفضل الأطباء من واظب على طبه لا يبتغي بذلك إلا أجر الآخرة. فرأيت أن أواظب على الطب ابتغاء أجر الآخرة ولا أبتغي بذلك ثمناً وأكون كالتاجر الخاسر الذي باع ياقوتة كان مصيبا بثمنها غنى الدهر بخرزة لا تساوي شيئا. مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك من حظه في الدنيا وأن مثله في ذلك مثل الزارع الذي إنما يحرث أرضه ويعمرها ابتغاء الزرع لا ابتغاء العشب، ثم هي لا محالة نابت فيها ألوان العشب.
فأقبلت على مداواة المرضى. فلم أدع مريضا أرجو له البرء ولا آخر لا آرجو له البرء إلا أني أطمع له في خفة الوجع والأذى إلا بلغت في مداواته جهدي. ومن قدرت على القيام قمت عليه ومن لم أقدر على القيام عليه وصفت له وأمرته وأعطيته ما يتعالج به من الدواء ولم أرد على ذلك أجرة ولا مكافأة. ولم أغبط من نظرائي ومن هو مثلي في العلم وفوقي من المال والجاه أحداً لغير ذلك ممن له صلاح وحسن سيرة.
يا نفس لا يحملنك أهلك وأقاربك على جميع ما تهلكين في جمعه إرادة لصلتهم ورضاهم فإذا أنت كالدخنة الطيبة التي تحرق بالنار ويذهب بعرفها آخرون.
يا نفس لا تغتري بالغنى والمنزلة التي ينظر إليها أهلها، فإن صاحب ذلك لا يبصر صغير ما يستعظم حتى يفارقه فيكون كشعر الرأس الذي يخدمه صاحبه ما دام على الرأس فإذا فارق رأسه استقذره ونفر منه.
يا نفس داومي على مداواة المرضى ولا تقلعي عن ذلك أن تقولي للطب مؤونة شديدة والناس لها ولمنافع الطب جهال. ولكن اعتبري برجل يفرج عن رجل كربه ويستنقذه منه حتى يعود بعده إلى ما كان فيه من الروح والسعة ما أخلقه لعظم الأجر وحسن الثواب. فإن كان الذي يفعل هذا برجل واحد يرجو ذلك كله فكيف الطبيب الذي يداوي العدة التي لا يعلمها إلا **** ابتغاء الأجر، فيصيرون بعد الأوجاع والأسقام الحائة بينهم وبين الدنيا ولذتها ونعيمها وطعامها وشرابها وأزواجها وأولادها إلى أحسن ما كانوا يكونون عليه من حال دنياهم. إن هذا لخليق أن يعظم رجاؤه ويثق بحسن الثواب على عمله.
يا نفس لا يبعدن عليك أمر الأخرة فتميلي إلى العاجلة فتكوني في استعمال القليل وبيع الكثير باليسير كالتاجر الذي زعموا أنه كان له ملء بيت من الصندل فقال: إن بعته موزونا طال علي، فباعه جزافاً بأخس الأثمان.
فلما خاصمت نفسي بهذا وآخذتها به وبصّرتها إياه لم تجد عنه مذهباً فاعترفت وأقرّت ولهت عما كانت تنزع إليه، وقامت على مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة. فلم يمنعني ذلك أن أصبت حظا عظيما من الملوك قبل أن آتي الهند، وبعد رجوعي إلى ما نلت من الأكفاء والإخوان فوق الذي كان طمعي فيه وتجمح إليه نفسي وفوق ما كنت له آهلا.
ثم نظرت في الطب فوجدت الطبيب لا يستطيع أن يداوي المريض من مرضه بدواء يزيل عنه داءه فلا يعود إليه أبداً وغيره من الأدواء. والداء لا يؤمن عوده أو أشد منه. ووجدت عمل الآخرة هو الذي يسلم من الأدواء كلها سلامة فلا تعود إليه بعد ذلك فاستخففت في الطب ورغبت في الدين.
فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه علي أمر الدين ولم أجد في الطب ذكراً لشيء من الأديان ولم يدلّني على أهداها وأصوبها. ووجدت الأديان والملل كثيرة من أقوام ورثوها عن آبائهم وآخرين خائفين مكرهين عليها وآخرين يبتغون بها الدنيا ومنزلتها ومعيشتها، وكلهم يزعم أنه على صواب وهدى فاستبان لي أنهم بالهوى يحتجون وبه يتكلمون لا بالعدل. وقد وجدت آراء الناس مختلفة وأهواءهم متباينة وكلاً على كل راد وله عدو ومغتاب ولقوله مخالف.
فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منهم سبيلاً وعلمت أني إن صدّقت منهم أحدا بما لا علم لي به أكن مثل المصدق المخدوع.
باب برزويه - مثل المصدق المخدوع
زعموا أنه ذهب سارق حتى علا بيت رجل من الأغنياء ليلاً ومعه أصحابٌ له فاستيقظ صاحب البيت فأحسّ بهم، وعرف أنهم لم يعلوا ظهر البيوت تلك الساعة إلا لريب، فنبّه امرأته وقال لها رويداً، إني لأحسّ باللصوص قد علوا ظهر بيتنا فإني متناومٌ، فأيقظيني بصوت يسمعه مَن فوق البيت ثم نادي: يا صاحب البيت ألا تخبرني عن أموالك هذه الكثيرة وكنوزك من أين جمعتها. فإذا أبيت عليك فألحّي في السؤال. ففعلت المرأة ذلك وسألته كما أمرها واستمع اللصوص حديثهما فقال الرجل: يا أيتها المرأة قد ساقك القدر إلى رزق كثير فكلي واسكتي ولا تسألي عما لو أخبرتك به لم آمن أن يسمعه سامع فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين. قالت المرأة: أخبرني أيها الرجل فلعمري ما يقربنا أحد يسمع كلامنا. قال: فإني أخبرك أني لم أجمع هذه الأموال وهذه الكنوز إلا من السرقة. قالت: وكيف جمعت هذه الأموال وهذه الكنوز من السرقة وأنت في أعين الناس عدل رضاً لا يتهمك أحد ولم يرتب بك.
قال: ذلك لعلم أصبته في علم السرقة فكان الأمر أوفق وأيسر من أن يتهمني أحد ويرتاب بي. قالت: وكيف ذلك؟ قال: كنت أذهب في الليلة المقمرة ومعي أصحابي حتى أعلوا ظهر البيت الذي أريد أن أسرق أهله وأنتهي إلى الكوّة التي يدخل منها ضوء القمر فأرقي بهذه الرقية "شولم شولم" سبع مرات ثم أعتنق الضوء فأنهبط به إلى البيت فلا يحس بوقعتي أحد، ثم أقوم في أصل الضوء فأعيد الرقية سبع مرات فلا يبقى في البيت مال ولا عِلقٌ إلا بدا لي وأمكنني أن أتناوله فآخذ من ذلك ما أحببت. ثم أعتنق الضوء وأعيد الرقية سبع مرات فأصعد إلى أصحابي وأحملهم ما معي ثم ننسلّ.
فلما سمع اللصوص ذلك فرحوا فرحاً شديداً وقالوا: لقد ظفرنا من هذا البيت بما هو خير لنا من المال الذي نحن مصيبوه منه، لقد أصبنا علما أذهب **** به عنا الخوف وأمّننا من السلطان. ثم أطالوا المكث حتى استيقنوا في أنفسهم أن صاحب البيت وامرأته قد ناما، فتقدم رئيسهم إلى مدخل الضوء من الكوة ثم قالك "شولم شولم" سبع مرات، ثم اعتنق الضوء لينزل به كما زعم فوقع في البيت منكّساً، ووثب الرجل بهراوة فضربه حتى أثخنه ثم قال له: من أنت؟ قال: أنا المصدق المخدوع وهذه ثمرة التصديق.
فلما تحرّزت من التصديق بما لا آمن أن يوقعني في الهلكة عدت للبحث عن الأديان والتماس العدل منها، فلم أجد عند أحد جواباً عما سألته عنه ولا فيما ابتدأني به شيئاً يحق عليّ في عقلي أن أصدق به فأتبعه. فقلت لما لم أجد ثقة آخذ منه فالرأي أن أتبع *** آبائي الذين وجدتهم عليه. فلما ذهبت ألتمس العذر لنفسي في ذلك لم أجد الثبوت على *** الآباء لي عذرا وقلت: إن كان هذا عذراً، فالساحر الذي وجد أباه ساحراً في عذر مع أشباهه، وذلك مما لا يحتمله العقل. وذكرت رجلاً كان فاحش الأكل يُعاب ذلك عليه فاعتذر بأن قال: هكذا كان يأكل آبائي وأجدادي.
فلم أجد على الثبوت على *** الآباء سبيلاً ولا في ذلك عذراً ورأيت التفرع للبحث عن الأديان مشكلاً تخوفت قرب الأجل وسرعة انقطاع الأمل، فقلت: أما أنا فلعلي أفارق الدنيا وشيكاً دون صالح الأعمال فيشغلني ترددي عن خير كنت أعمله ويكون أجلي دون بلوغ ما ألتمس به فيصيبني مثل الخادم والرجل.
باب برزويه - مثل الخادم والرجل
زعموا أن رجلاً تواطأ مع خادم في بيت لأحد الأغنياء على أن يأتي البيت في كل ليلة يغيب صاحبه فيعطيه شيئاً من متاع سيده فيبيعه ويتشاطرا ثمنه. فاتفق ذات يوم أن غاب أهل البيت وبقي الخادم وحده فأنفذ فأخبره الرجل فأقبل. وفيما هما يجمعان المال إذ قرع الباب وعاد رب البيت على بغتة. وكان للبيت باب آخر لم يكن يعلمه الرجل وبقربه جبّ ماء. فقال الخادم للرجل: أسرع واخرج من الباب الذي عند الجب.
فانطلق الرجل ووجد الباب لكنه لم يجد الجب فرجع إلى الخادم وقال له: أما الباب فوجدته، وأما الجب فلم أجده. فقال الخادم: ويحك انجُ بنفسك ولا تكترث للجبّ. قال الرجل: كيف أذهب وقد خلطت عليّ فذكرت الجب وليس هناك. قال الخادم: دع عنك الحمق والتردد وفرّ عاجلاً. فلم يزل ينازعه حتى دخل رب البيت فأخذه وأوجعه ضرباً ثم دفعه إلى السلطان.
فلما خفت من التردد والتجوال رأيت أن لا أتعرض لما خفت من ذلك وأن أقتصر على كل عمل تشهد الأنفس على أنه صحيح وتوافق عليه الأديان. فكففت يدي عن الضرب والقتل والغضب والسرفة والخيانة وحصّنت نفسي من الفجور وحفظت لساني من الكذب ومن كل كلام فيه ضرر على أحد، وكففت لساني عن الشتم والعضيهة والخنا والبهتان والغيبة والسخري.
والتمست من قلبي بأن لا أتمنى لأحد سوءاً ولا أكذب بالبعث والقيامة الثواب والعقاب. وزايلت الأشرار بقلبي ولزمت الصلحاء والأخيار جهدي. ورأيت الصلاح ليس كمثله صاحب ولا قرين ورأيت مكسبه إذا وفّق له وأعان عليه يسيراً ووجدته أحنّ على صاحبه وأبرّ من الآباء والأمهات. ووجدته يدل على الخير ويشير بالنصح فعل الصديق بالصديق، ووجدته لا ينقص إذا أنفق منه صاحبه بل يزداد على الاستعمال والابتذال جدة حسنة. ووجدته لا خوف عليه من السلطان أن يسلبه ولا من شيء من الآفات، لا من الماء أن يغرّقه ولا من النار أن تحرقه ولا من اللصوص أن تسرقه ولا من شيء من السباع وجوارح الطير أن تمزقه. ووجدت الرجل الذي يزهد في الصلاح وعاقبته ويلهيه عن بذلك قليل ما هون فيه من حلاوة العاجل، إنما مثله فيما أنفذ فيه أيامه ويلهيه على ما ينفعه كمثل التاجر والضارب بالصنج.
باب برزويه - مثل التاجر والضارب بالصنج
زعموا أن تاجراً كان له جوهرٌ كثيرٌ ثمينٌ، فاستأجر رجلا لثقبه وحمله بمئة دينار ليومه ذلك. فانطلق به إلى بيته، فلما قعد إذا هو بصنج موضوع في ناحية البيت فقال التاجر لصاحبه: هل تضرب بالصنج؟. قال: وفوق ذلك. قال: فدونك. فتناول الرجل الصنج وكان به ماهراً فلم يزل يُسمعه من صوت جيد وصوت مصيب حتى أمسى وترك سفط جوهره مفتوحاً واقبل على الضرب واللهو. فلما أمسى قال الرجل للتاجر: مُرْ بأجرتي. فقال: ما عملت شيئاً فتأخذ أجرته.
قال: عملت ما أمرتني أن أعمل. فوفاه مئة دينار وبقي جوهره غير مثقوب.
فلم أزدد في الدنيا وشهواتها نظراً إلاّ ازددت فيها زهادة فرأيت أن أعتصم بالتألّه والنسك ورأيت النسك يمهّد للمعاد كما يمهّد للولد أبواه ورأيته كالجنة الحريزة في دفع الشر الدائم الباقي، ورأيته الباب المفتوح إلى الجنة دار النعيم. ووجدت الناسك إذا فكّر تعلوه السكينة، فإذا تواضع وقنع واستغنى ورضي فلا يهم إذ خلع الدنيا فنجا من الشرور ورفض الشهوات فصار طاهراً وانعزل فكُفي الأحزان وطرح الحسد، فظهرت عليه المحبة وسخت نفسه عن كل فانٍ فاستكمل العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة ولم يذنب فسلم. فلم أزدد في أمر النسك نظراً إذا ازددت فيه رغبة حتى هممت أن أكون من أهله.
ثم تخوّفت ألا أصبر على عيش النساك وأن تضر بي العادة التي بها ربيت وغذيت ولم آمن إن أنا خلعت الدنيا وأخذت في النسك أن أضعف عن ذلك وأكون قد رفضت أعمالاً كنت أعملها قبل ذلك مما أرجو عائدتها، فيكون مثلي في ذلك كمثل الكلب الذي مرّ بنهر وفي فيه ضلع فرأى ظلّ الضّلع في الماء فأهوى ليأخذه فأهلك الذي كان في فيه ولم ينل الذي طمع فيه. فهبت النسك هيبة شديدة وخفت على نفسي الضجر وقلة الصبر وأردت الثبوت على حالتي التي كنت عليها.
ثم بدا لي أن أقيس بين ما أخاف وما أصبر عليه من الأذى والضيق في النسك وبين الذي يصيب صاحب الدنيا من البلاء فيها، وكان بيّنا عندي أنه ليس من شهوات الدنيا ولذاتها شيء إلا هو متحول أذى ومورث حزنا. فالدنيا كالماء المالح الذي ما يزداد صاحبه منه شرباً إلا ازداد عطشاً. وكالعظم يصيبه فيجد فيه ريح اللحم فلا يزال يلوكه لطلبه ذلك اللحم فيدمي فاه ثم لا يزداد له طلباً إلا ازداد لفيه إدماء. وكالحدأة التي تظفر بالبضعة من اللحم فيجتمع عليها الطير فلا تزال في تعب وهرب حتى تلفظ ما معها وقد أعيت وتعبت. وكالقلّة من العسل في أسفلها موت ذعاف. وكأحلام النائم التي تفرحه فإذا استيقظ انقطع الفرح عنه. وكالبرق الذي يضيء قليلاً ويذهب وشيكاً ويبقى راجيه في الظلام مقيماً. وكدودة الإبريسم لا يزداد الإبريسم على نفسها لفاً إلا ازدادت من الخروج منه بعداً.
فلما فكّرت في هذه الأمور راجعت نفسي في اختيار النسك ثم خاصمتني فقلت: ما يجوّز هذا لي أن أفرّ من الدنيا إلى النسك إذا فكّرت في شرورها، ثم أفر من النسك في الدنيا إذا تذكّرت ما فيه من المشقة والضيق فلا أزال في تصرف لا أبرم رأياً ولا أعزم على أمر كالقاضي الذي سمع من أول الخصمين فقضى له على الآخر ثم سمع الآخر فقضى له على الأول.
ونظرت في الدنيا يهولني من أذى النسك وضيقه فقلت: ما أصغر هذا وأقله في جنب روح الأبد وراحته. فنظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا فقلت: ما أمرّ هذا وأوخمه وهو يدفع إلى الشر وهوانه. وقلت: كيف لا يستحلي الرجل مرارة قليلة تعقبها حلاوة طويلة وكيف لا يستمر حلاوة قليلة تؤديه إلى مرارة كثيرة دائمة. وقلت: لو أن رجلاً عرض عليه أن يعيش مئة سنة لا يأتي عليه من ذلك يوم إلا قطّع فيه قطعا، ثم أحيي، ثم أعيد عليه مثل ذلك غير أنه شرط له إذا استوفى المئة سنة نجا من كل ألم فليس يكون حقيقاً إذا صار إلى الأمن والسرور ألاً يرى تلك السنين شيئاَ.
أو ليس الإنسان يتقلب في عذاب الدنيا من حين مولده إلى أن يستوفي أيام حياته، فإذا كان جنينا في بطن أمه كان في أضيق الحبوس وأظلمها. وإذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو لمسته يد وجد لذلك من الألم ما لا يجده الإنسان الذي قد سُلخ جلده. ثم هو في ألوان من العذاب إذا جاع وليس به استغاثة مهما يلقى من الرفع والوضع واللف والحل والدهن. وإذا نوّم على ظهره لم يستطع تقلّباً مع أصناف من العذاب ما دام رضيعاً.
فإذا انقلت من عذاب الرضاع أخذ في عذاب الأدب فأذيق منه ألواناً من عنف المعلم وضجر الدرس وسأم الكتابة. ثم له من الدواء والحمية والأوجاع والأسقام أوفى حظ. فإذا أدرك لحقه هم الأهل وجمع المال وتربية الولد ولعب به الشره والحرص ومخاطرة الطلب والسعي. وفي كل هذا تتقلب معه أعداؤه الأربعة، أي المرّة والدمة والبلغم والريح والسم المميت والحيّات اللادغة مع خوف السباع والهوام وخوف الحر والبرد والأمطار والرياح. ثم ألوان العذاب من الهرم لمن يبلغه. فلوم لم يخف من هذه الأمور شيئاً وشرط له بالأمن من ذلك كله فوثق بالسلامة منها فلم يعتبر إلا في الساعة التي يحضره فيها الموت ويفارق فيها الدنيا وما هو نازل به تلك الساعة من فراق الأهل والأحبة والأقارب وكل مضنون به من الدنيا والإشراف على هول المطّلع الفظيع المعضل بعد الموت، لكان حقيقاً أن يعدّ عاجزاً مفرّطاً محتملاً للإثم إن لم يعمل لنفسه ويحتل لها جهد حيلته، ويرفض ما يشغله ويلهيه من شهوات الدنيا وغرورها لا سيما في هذا الزمان الشبيه بالصافي وهو كدر.
فإنه وإن كان الملك قد جعله **** سعيداً ميمون النقيبة حازم الرأي رفيع الهمة بليغ الفحص، عدلا براً جواداً صدوقاً شكوراً، رحب الذراع متفقداّ للحقوق ومواظباً مستمراً فهماً نفاعاً ساكناً بصيراً حليما رؤوفاً رحيماً رفيقاً، عالماً بالناس والأمور، حباً للعلم والعلماء والأخيار، شديداً على الظلمة، غير جبان ولا خفيف القيادة، رفيقاً بالتوسع على الرعية فيما يحبون والدفع عنهم لما يكرهون، فإنا على ذلك قد نرى الزمان مدبراً بكل مكان. فكأن أمر الصدق قد تورعت من الناس فأصبح مفقودا ما كان غزيراً فقده وموجوداً ما كان ضاراً وجوده. وكأن الخير أصبح ذابلاً وأصبح الشر ناضراً. وكأن الغيّ أقبل ضاحكا وأدبر الرشد باكياً، وكأن العدل أصبح غائراً وأصبح الجور غالباً، وكأن الكرم أصبح مدفوناً وأصبح الجهل منشوراً، وكأن اللؤم أصبح أشراً وأصبح الكرم موطوءاً، وكأن الودّ أصبح مقطوعاً والبغضاء والحسد موصولاً، وكأن الكرامة قد سلبت من الصالحين وتوخى بها الأشرار، وكأن الخبّ أصبح مستيقظاً والوفاء نائماً، وكأن الكذب أصبح مثمراً والصدق قاحلاً يابساً، وكأن العدل ولّى غائراً وأصبح الباطل مرحاً، وكأن اتباع الهوى وإضاعة الحكم أصبح بالحكماء، موكّلا وأصبح المظلوم بالخسف مقراً والظالم لنفسه مستطيلا، وكأن الحرص أصبح فارغاً فاه من كل جهاد يتلقفه ما قرب منه وما بعد وأصبح الرضا مفقوداً مهجولا، وكأن الأشرار أضحوا يسامون السماء وأصبح الأخيار يريدون مطبق الأرض، وأصبحت المروءة مقذوفاً بها من أعلى شُرفٍ إلى أسفل سافلين، وأصبحت الدناءة مكرّمة ممكّنة، واصبح السلطان منتقلاً من أهل الفضل إلى أهل النقص، وأصبحت الدنيا جذلة مسرورة مرحة مختالة تقول: غيّبت الحسنات وأظهرت السيئات.
فلما فكّرت في الدنيا وأمورها وأن هذا الإنسان هو أشرف الخلق وأفضله فيها، ثم هو على منزله لا يتقلّب إلا في شر ولا يوصف إلا به، وعرفت أنه ليس من أحد له أدنى عقل إلا وهو يعقل هذا ثم لا يحتاط لنفسه ولا يعمل لنجاتها. فعجبت من ذلك كل العجب ونظرت فإذا هو لا يمنعه من ذلك إلا لذة صغيرة حقيرة طفيفة من الشم والطعم واللمس، لعله يصيب منها لطيفاً أو يتمنى منها طفيفاً لا يوصف قله مع سرعة انقطاع. فذلك الذي يشغله عن الاهتمام بأمر نفسه وطلب النجاة لها.
باب برزويه - مثل الرجل والتنين
فالتمست للإنسان في ذلك مثلاً فإذا مثله مثل رجل ألجأه خوف إلى بئر فتدلى فيها وتعلق بغصن بأعلى شفيرها فوقعت رجلاه على عمدها فنظر فإذا هي حيات أربع قد أطلعن رؤوسهن من أحجاهن. ونظر إلى أسفل البئر فإذا هو بتنين فاغر فاه نحوه. ورفع رأسه إلى الغصن فإذا هي أصله جرذان أبيض وأسود يقرضان الغصن دائبين لا يفتران. فبينما هو في النظر والاجتهاد لنفسه وابتغاء الحيلة في ذلك، إذ نظر فإذا قريب منه نحلٌ قد صنعن شيئاً من العسل فأراد أن يأكل منه قليلا فشغل قلبه عن التفكر في أمره والتماس حيلة ينجي بها نفسه فنسي أن يذكر الجرذين الدائبين في قطع الغصن، وأنها إذا قطعاه وقع ف فِي التنين، فلم يزل لاهياً غافلاً حتى هلك.
فشبهت البئر بالدنيا المملوءة إفكاً وبلايا وشرورا ومخاوف. وشبهت الحيات الأربع بالأخلاط الأربعة التي هي في بدن الإنسان. فمتى ما هاج منها شيء كان كحمة الأفعى والسم المميت. وشبهت الجرذين بالليل والنهار. وشبهت قرضهما للغصن دائبين دور الليل والنهار في إفناء الأجل الذي هو حصن الحياة. وشبهت التنين بالموت الذي لا بد منه. وشبهت العسل بهذه الحلاوة القليلة التي يرى الإنسان ويشم ويطعم ويسمع ويلمس فتشغله عن نفسه وتنسيه أمره وتلهيه عن شأنه وتصرفه عن سبل النجاة. فصار أمري إلى الرضا بما لي وإصلاح ما استطعت إصلاحه من عملي لعلي أصادف فيما أمامي زماناً أصيب فيه دللاً على هداي وسلطاناً على نفسي وأعواناً على أمري، فأقمت على هذه الحال، وانصرفت من الهند إلى بلادي وقد انتسخت من كتبها كتبا كثيرة منها هذا الكتاب.