العبقرية.. الوجه الآخر للجنون!
يعود ارتباط العبقرية بالجنون إلى أيام الفيلسوف أرسطو الذي قال: "لم يوجد عقلٌ عظيم بدون لمسة جنون"، ومن منا لا يعرف "آينيشتاين"، ذلك الرجل العبقري الذي غيّرت مفاهيمه وأبحاثه الفيزيائية رؤيتنا للعالم بأبعاده الزمانية والمكانية، واحتلت نظرياته العلمية مكانة علمية مرموقة لم يستطع أحدٌ آخر منافستها.. هذا الرجل كان عاجزاً عن فهم أصول الإتيكيت والعلاقات الاجتماعية، يقول "آينيشتاين" عن نفسه: "طيلة حياتي لم أتعامل إلا مع القضايا والأمور الموضوعية، لذا أفتقر إلى الميل الطبيعي والخبرة الضرورية للتعامل بشكل صحيح مع الناس، وللقيام بالمهام الرسمية"، وتُظهر صورته الشهيرة وهو يُخرج لسانه للمصوّر، عدم اهتمامه بالشهرة والمظهر.
تُشير دراسات إلى ارتباط مستوى الذكاء المرتفع والقدرة العالية على الإبداع والابتكار، بسلوكيات غريبة غير متّزنة، واضطرابات عقلية ظاهرة مثل اضطراب "اكتئاب ثنائي القطب"، لدى كثير من "العباقرة"، مقارنةً بجمهور الناس، فبعض الاكتشافات والاختراعات العظيمة، كانت خلال نوبات ارتفاع المزاج وفرط الانفعالات بصورة نشوة عارمة وحالة نشاط ذهني وبدني كبير، بعد خروج المصاب بها من نوبة الكآبة المفرطة، إذ يبدو أن "العبقرية" هي الاستغلال الأمثل للومضات الخاطفة من القدرات الخارقة والخيال الواسع واتقاد الذهن، ودقة الربط والتحليل.
يلجأ الشخص العبقري -عادة- إلى تنسيق عالمٍ منعزل خاص به يعطيه فرصة التأمّل، لينتج إنتاجًا علميًا فكريًا يوصَف بالأصالة والإبداع، تبعًا لمساحة الحريّة واتقاد الذكاء والموهبة، وعوامل وراثية بيئية مشتركة. يقول الدكتور علي الوردي: "يصحّ أن نقول: إن الإنسان كلما كان كثير الاندماج في مجتمعه، اشتد ابتعاده عن "العبقرية"، فالشخص الاجتماعي الذي يسعى للتحبّب للناس وكسب رضاهم، يصعب عليه أن يبدع الأفكار الجديدة".
قام الممثل الأمريكي راسل كرو بتمثيل شخصية عالم الرياضيات والاقتصاد، والفائز بجائزة نوبل، الدكتور (جون ناش) في فيلم (العقل الجميل) حيث أظهر ببراعة فائقة معنى أن يكون الشخص ذكيًّا عبقريًا، لكنه انطوائيٌ غريب الأطوار، ومصابٌ بمرض "الفصام الارتيابي" الذي لازمه طيلة حياته، وأدخله عدة مرات لمستشفى الأمراض العقلية.. يقول الفيلسوف (برتراند راسل) عن جنون العظَمة: "وإلى هذا النوع ينتمي أكثر عظماء التاريخ!".
يبدو أنه لا يوجد حدُّ فاصل بين العقل والجنون، فكل إنسان به درجات من الاثنين، ويكون الاختلاف بين الناس في درجة الجنون والعقل، زادت أو نقصت!، كما قد يكون العاقل لدينا، مجرّد شخص استطاع إخفاء لوثاته العقلية عن الناس، والمجنون في مجتمع، عاقل في مجتمع آخر وبيئة مختلفة، تبعًا للعُرف العام والقيم الاجتماعية المقبولة.
العبقرية و الجنون؟
لاشك بأن معظم العباقرة كانوا غريبي الأطوار لدرجة الاعتقاد بوجود علاقة بين الجنون والعبقرية. ويرى بعض الأطباء أن العبقرية نفسها نوع من الجنون الفريد لأنها تحمل نوعاً مختلفاً من التفكير والتصور، بل إن هناك من افترض أن “العقد النفسية” ضرورة للإبداع والتفوق – وبدونها يصبح العبقري سوياً مثل بقية الناس. والطريف أن كثيراً من العباقرة أنفسهم يعترفون بهذه الحقيقة. على أي حال رغم الاختلافات الكثيرة بين العباقرة إلا أن علماء النفس يعتقدون بأن “الانطواء” الجزئي ظاهرة مشتركة بينهم. فالانطوائي إنسان عاجز عن التأقلم مع مجتمعه فيحاول صنع وإبداع علم خاص به. والانطواء في هذه الحالة يعتبر صفة حميدة تتيح للعبقري الوحدة والاستقلالية وفرصة التأمل.
ولو رجعنا لسير العباقرة والمشهورين لوجدنا في حياتهم تصرفات هي أقرب للجنون منها للعقل: فهناك مثلاً الرسام الهولندي فان جوخ الذي كان يصاب بنوبات جنون حقيقية حاول في إحداها قتل زميله الفنان بول غوهان. وحين تعلق بفتاة جميلة قطع أذنه وقدمها إليها كهدية، ثم مات في النهاية منتحراً بالرصاص. أما نيتشه الفيلسوف الألماني فكان منطوياً على نفسه، يتحدث مع حصانه، يحتقر النساء، قضى آخر12 سنة من عمره في مستشفى المجانين. أما أينشتاين أحد أعظم علماء الفيزياء في العصر الحديث فقد كان عاجزاً عن فهم أصول الاتيكيت والعلاقات الاجتماعية، فكثيراً ما كان يرتدي ملابس قديمة تحتاج إلى كي في مناسبات راقية. وكان يظهر دائماً بجراح صغيرة على ذقنه بسبب استعمال صابون البانيو للحلاقة… فهذا الرجل الذي عقد أفكار الناس يعتقد أن استعمال نوعين من الصابون يجعل الدنيا معقدة.
و تشارلز ديكنز (أشهر القصاصيين الانجليز) فكان يخرج من منزله ليلاً ويسير بلا هدى لمسافات تصل لخمسة أميال في الليلة الواحدة، والأغرب من هذا أنه كان يدخل على زملائه من نوافذ منازلهم بحجة مفاجأتهم.
وكان فولتير لا يبدأ الكتابة إلا عند وضع اثني عشر قلم رصاص أمامه، وبعد أن ينتهي من الكتابة يكسر هذه الأقلام ثم يلفها بالورق ويضعها تحت وسادته حين ينام . أما نابليون فكان لا يشرع في رسم معاركه الحربية إلا وهو يمص أقراص السوس ويضع يده اليسرى على قلبه، وكان خطه رديئاً جداً لدرجة أن رسائله كثيراً ما كان يظن أنها رسوماً عسكرية.
بقي أن أشير إلى أن لهذه الظاهرة وجهاً آخر لا يجب إغفاله أو تناسيه، فغالباً ما نرغب نحن (عامة الناس) في وضع العباقرة في نمط وقالب معين يوافق افكارنا عنهم. وهذا ما يدفعنا لانتقاء الغريب والشاذ من حياتهم (فقط) ثم نعممه كقاعدة عامة عليهم. أضف لهذا أن الإبداع نفسه ظاهرة غريبة وطارئة على المجتمع، وحين يسمع به الناس لأول مرة يرفضونه تلقائية ويرتابون في صاحبه حتى يلمسوا فائدته الحقيقية، وهذا يعني أنهم ينعتون المبدع تلقائياً بالجنون – قبل تطبيق الفكرة – وبالعبقرية بعد أن تثبت صلاحيتها.
ما الفرق بين العبقرية والذكاء؟
الذكاء هو تمتع الشخص بقدرات عقليه تساعده على التحليل و التخطيط ، وحل المشاكل ، وتنسيق الأفكار، وسرعة التعلم، والتقاط اللغات.
أما العبقرية فهي تمتع الشخص بقدر كبير جداً من الذكاء ، وله القدرة علي الإبداع والتفكير في تحقيق أهداف لم تُستكشف من قبل في أي مجال.
في مقاييس الذكاء العام تعتبر الدرجة الواقعة بين 85 – 110 هي الغالبة بين معظم الناس، أما أقل من ذلك فتنحدر إلى مستوى الحمقى والمعتوهين وأكثر من ذلك الى مستوى العباقرة والمبدعين، وصولا إلى 200 درجة التي لا تتوفر إلا لشخص واحد من بين كل ستة ملايين.
وبعكس ما يظنه معظم الناس فإن الذكاء غير العبقرية – وإن كان أحد أهم عناصرها الأساسية.. فقد تصل درجة ذكاء البعض الى 200 درجة ومع ذلك لا يملكون موهبة الإبداع والابتكار، وفي المقابل قد يمتلك تلك الموهبة إنسان أمي بالكاد تصل درجة ذكائه إلى المائة درجة (…وسبق أن كتبت مقالا تساءلت فيه عن سر اختفاء أصحاب الذكاء الخارق من الأطـفال الذين نقرأ عنهم بين الحين والآخر ثم لا نسمع عنهم لاحقا ولا يصلون أبدا لمستوى الابداع أو شهرة العباقرة.
ومن العلماء من يعتقد أن درجة الذكاء الواقعة بين 100 120 هي الحد الأدنى الضروري لعملية الإبداع، في حين أن الزيادة عن هذا الحد لم تقدم إضافات قوية أو حاسمة في الموضوع.. والشيء المؤكد هنا أن توفر قدر مناسب من الذكاء أمر ضروري في عملية الإبداع ، فالذكاء أحد العناصر الوراثية التي يجب توفرها في كل عبقري، ولكن عملية الإبداع ذاتها تتطلب بجانب الذكاء توفر عوامل أخرى مهمة (كالموهبة، والاهتمام، والجراءة، وأصالة التفكير، ومخالفة المعتاد) وبناء عليه يمكن القول اختصاراً: أن كل عبقري ذكي، ولكن ليس كل ذكي عبقرياً .
وقد يؤيد هذه الحقيقة التجربة (الطويلة جداً) التي قام بها عالم النفس الشهير تيرمان؛ فقد أجرى اختبارات واسعة على مجموعة كبيرة من أطـفال المدارس، ثم راقب الفئة التي حصلت على درجة ذكاء مرتفع حتى تخرجوا من الجامعة ومارسوا حياتهم العملية. وفي النهاية خاب أمله حين كبروا ولم يصبح أي منهم عبقرياً بالمعنى المفهوم ، وإن كان معظمهم غدا من صفوة المجتمع الأمريكي.
وكانت عالمة النفس كاترين كوكس من جامعة ستانفورد قد قامت بدراسة شيقة لقياس درجة ذكاء ثلاثمائة عبقري مشهور بناء على ما توفر من سيرهم الذاتية. ومن النتائج التي توصلت إليها أن كثيراً من الإنجازات والابتكارات المشهورة صدرت من عباقرة، ذكاؤهم متواضع نسبياً. فكولومبس ومندل مثلاً لم تتجاوز درجة ذكائهم مستوى إنسان عادي جداً (حيث مات كولومبس وهو يعتقد أنه اكتشف الهند وتوفي مندل وهو لا يعلم أنه أسس علم الوراثة )… فشهرة الإنجاز وفائدته الكبيرة قد توحي للناس بأن مبدعه شديد الذكاء في حين قد تكون الحقيقة غير ذلك.
وفي دراسة كوكس السابقة نجد أن فارادي (وهو فيزيائي اكتشف مبدأ توليد الكهرباء واخترع الدينامو) بالكاد تجاوز ذكاءه المائة درجة رغم شهرته الكبيرة، وكذلك الحال مع كالفن، وباخ، وكوبرنكيس، ونيوتن (الذي نال 135 درجة) ، وفي المقابل هناك عباقرة شبه مجهولين نالوا درجات ذكاء عالية جداً مثل جون ستيورات ميل (200 درجة) وتوماس ما كولي (190 درجة) وجوجروسيس (180 درجة).. كما وجدت كوكس فئة ثالثة تناسبت درجة ذكائهم مع عظمة إنجازاتهم مثل العبقري الإيطالي دافنشي (الطبيب والمخترع ورسام الموناليزا) الذي تجاوز ذكاءه 200 درجة ، والفرنسي باسكال عالم الرياضيات ومخترع الحاسب اليدوي الذي حصل على 190 درجة، والأديب الألماني جوته، وصاحب النظرية النسبية أينشتاين اللذان تجاوزا 180 درجة. كل هذه المفارقات تؤكد مجددا بأن كل عبقري ذكي، ولكن ليس كل ذكي أو متفوق عبقرياً بالضرورة .
يقول جوناثان سويفت: "لم توجد على الإطلاق موهبة فطرية خالصة إلا بمسٍّ من جنون"!
لكن ما هو الجنون؟ وما هو تعريفه؟ ولماذا يربط الناس بين المجنون والعبقري في كثير من الأحيان؟
إن مصطلح "مجنون" أقرب ما يكون إلى المصطلح الأدبيّ والروائيّ، لكنه بالمطلق ليس مصطلحاً علمياً. فلا يوجد في كل المعاجم والقواميس العلمية مرادف لكلمة "مجنون".
فالمجنون ليس هو الذهاني (المريض العقلي) وليس هو العصابي (المريض النفسي)! من هو إذاً؟
كما نفهم من مقولة سويفت أعلاه أن المجنون هو من يعيش خارج الصندوق، وهو من يغرّد خارج السرب، لكنه ليس أبداً المختل العقلي أو المخبول.
وإذا ما تركنا جانباً الدور التخريبي الذي لعبته السينما الهادفة إلى الربح في تعميق هذا الالتباس، وسبرنا بعمقٍ أسباب هذا الخلط الحاصل، فإننا سنجد لهذا الالتباس مبرراً غير كافٍ، وهو ظهور بعض العباقرة ممن لديهم سجلات مرضيّة.
على سبيل المثال، العالِم جون ناش صاحب نظرية "المبادئ الموجهة" والحائز على جائزة نوبل وأحد أعظم عباقرة الرياضيات في القرن العشرين، كان يعاني من هلوسات بصرية (فصام) رافقته طيلة حياته.
وأيضاً العالم توماس أديسون، مخترع المصباح الكهربائي والتصوير السينمائي والكثير من المنجزات العلمية المذهلة، كان يعاني من ثغرات في الذاكرة.
لكن هذا قد لا يعني لنا شيئاً إذا ما اعتمدنا قانون النسبة والتناسب، فالعدد قليل إذا ما قورن بالعدد الكليّ.
العبقري، وقبل كل شيء، هو إنسان معرَّض للمرض النفسي والعقلي والعضوي، بالتالي فإن المرض يصيبه كإنسان ولا يطاله كعبقريّ.
أمَّا في ما يخص غرابة الأطوار، الصفة المميزة للعباقرة، فهذه ردَّة فعل طبيعية على أفكار ثورية وإشكالية يحملونها في رؤوسهم تتناقض كليةً مع واقعهم الذي يعيشونه.
فالإنسان الذي يستهدف في أعماله وأفكاره قضايا عظمى تراه غير مبالٍ بصغائر الأمور التي يهتم بها من هم حوله وفي محيطه.
ولسويفت أيضاً رأي في هذا الخصوص، لا يخلو من الدعابة، حيث يقول ما معناه: "كيف تستطيع التمييز بين العبقري وبين الناس العاديين؟ عندما ترى رجلاً استثنائياً قد تحالف ضدّه مجموعة من الأغبياء. أنت هنا أمام أول إشارة لهبوط إنسان عبقري على سطح الأرض".
قديماً في جزيرة العرب، ارتبط مصطلح العبقرية بنوابغ الشعر على وجه الخصوص. فقد كان ثمة وادٍ سحريّ يُسمَّى "وادي عبقر"، كان الناس يعتقدون حينها بأنه "مسكون"، أي أنه مليء بـ"الأرواح الشريرة" وكل من يمرّ بجانبه سوف يتلبَّسه "شيطان عبقر" فيصبح بذلك عبقرياً! وأيُّ شاعرٍ يُظهر فصاحةً وبلاغةً وموهبةً استثنائيةً يكون لسان حال الناس تجاهه بأنه - ولا بدَّ - قد زار وادي عبقر.
العبقريّ كتعريف هو شخص حادّ الذكاء ، يمتلك إمكانات خارقة تفوق النسبة الاعتيادية في مجال معيّن أو حتى في مجالات عدَّة.
عندما نتفوّه بكلمة "عبقري" يتبادر إلى أذهاننا آلبرت آينشتاين وسيغموند فرويد وكارل يونغ والخوارزمي ونيتشه وغوته وشكسبير وبيكاسو وموتزارت وآخرون عباقرة في الفيزياء والعلوم والرياضيات والتصوير والموسيقى والأدب... وسؤالنا هو عن السبب الذي جعل هؤلاء روَّاد زمانهم وعظماء العصور كافةً؟
يعتقد بعض العلماء بأن الإجابة هي في الاستعداد الوراثي للعبقرية لدى هؤلاء العباقرة، ويظن البعض الآخر بأنَّ المعاناة هي سبب أساسي في صناعة الشخصية العبقرية الفذّة وفي صقلها، وها هنا نتذكّر ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
"تفرَّدتُ بالألمِ العبقريِّ/ وأنبغ ما في الحياة الألمْ".
ويرى البعض الآخر، كعلماء النفس، أن السبب يعود إلى نوع فريد من أنواع العصاب الذي يكون على شكل وسواس المعرفة وشغف الاكتشاف والتنقيب في المجهول ومحاولة احتوائه والقبض على هذا الكون من خلال اختزاله في حفنة زهيدة من الأرقام والمفاهيم المجرّدة المنتظمة والمرتبة في مكانها إلى الأبد.
يعود ارتباط العبقرية بالجنون إلى أيام الفيلسوف أرسطو الذي قال: "لم يوجد عقلٌ عظيم بدون لمسة جنون"، ومن منا لا يعرف "آينيشتاين"، ذلك الرجل العبقري الذي غيّرت مفاهيمه وأبحاثه الفيزيائية رؤيتنا للعالم بأبعاده الزمانية والمكانية، واحتلت نظرياته العلمية مكانة علمية مرموقة لم يستطع أحدٌ آخر منافستها.. هذا الرجل كان عاجزاً عن فهم أصول الإتيكيت والعلاقات الاجتماعية، يقول "آينيشتاين" عن نفسه: "طيلة حياتي لم أتعامل إلا مع القضايا والأمور الموضوعية، لذا أفتقر إلى الميل الطبيعي والخبرة الضرورية للتعامل بشكل صحيح مع الناس، وللقيام بالمهام الرسمية"، وتُظهر صورته الشهيرة وهو يُخرج لسانه للمصوّر، عدم اهتمامه بالشهرة والمظهر.
تُشير دراسات إلى ارتباط مستوى الذكاء المرتفع والقدرة العالية على الإبداع والابتكار، بسلوكيات غريبة غير متّزنة، واضطرابات عقلية ظاهرة مثل اضطراب "اكتئاب ثنائي القطب"، لدى كثير من "العباقرة"، مقارنةً بجمهور الناس، فبعض الاكتشافات والاختراعات العظيمة، كانت خلال نوبات ارتفاع المزاج وفرط الانفعالات بصورة نشوة عارمة وحالة نشاط ذهني وبدني كبير، بعد خروج المصاب بها من نوبة الكآبة المفرطة، إذ يبدو أن "العبقرية" هي الاستغلال الأمثل للومضات الخاطفة من القدرات الخارقة والخيال الواسع واتقاد الذهن، ودقة الربط والتحليل.
يلجأ الشخص العبقري -عادة- إلى تنسيق عالمٍ منعزل خاص به يعطيه فرصة التأمّل، لينتج إنتاجًا علميًا فكريًا يوصَف بالأصالة والإبداع، تبعًا لمساحة الحريّة واتقاد الذكاء والموهبة، وعوامل وراثية بيئية مشتركة. يقول الدكتور علي الوردي: "يصحّ أن نقول: إن الإنسان كلما كان كثير الاندماج في مجتمعه، اشتد ابتعاده عن "العبقرية"، فالشخص الاجتماعي الذي يسعى للتحبّب للناس وكسب رضاهم، يصعب عليه أن يبدع الأفكار الجديدة".
قام الممثل الأمريكي راسل كرو بتمثيل شخصية عالم الرياضيات والاقتصاد، والفائز بجائزة نوبل، الدكتور (جون ناش) في فيلم (العقل الجميل) حيث أظهر ببراعة فائقة معنى أن يكون الشخص ذكيًّا عبقريًا، لكنه انطوائيٌ غريب الأطوار، ومصابٌ بمرض "الفصام الارتيابي" الذي لازمه طيلة حياته، وأدخله عدة مرات لمستشفى الأمراض العقلية.. يقول الفيلسوف (برتراند راسل) عن جنون العظَمة: "وإلى هذا النوع ينتمي أكثر عظماء التاريخ!".
يبدو أنه لا يوجد حدُّ فاصل بين العقل والجنون، فكل إنسان به درجات من الاثنين، ويكون الاختلاف بين الناس في درجة الجنون والعقل، زادت أو نقصت!، كما قد يكون العاقل لدينا، مجرّد شخص استطاع إخفاء لوثاته العقلية عن الناس، والمجنون في مجتمع، عاقل في مجتمع آخر وبيئة مختلفة، تبعًا للعُرف العام والقيم الاجتماعية المقبولة.
العبقرية و الجنون؟
لاشك بأن معظم العباقرة كانوا غريبي الأطوار لدرجة الاعتقاد بوجود علاقة بين الجنون والعبقرية. ويرى بعض الأطباء أن العبقرية نفسها نوع من الجنون الفريد لأنها تحمل نوعاً مختلفاً من التفكير والتصور، بل إن هناك من افترض أن “العقد النفسية” ضرورة للإبداع والتفوق – وبدونها يصبح العبقري سوياً مثل بقية الناس. والطريف أن كثيراً من العباقرة أنفسهم يعترفون بهذه الحقيقة. على أي حال رغم الاختلافات الكثيرة بين العباقرة إلا أن علماء النفس يعتقدون بأن “الانطواء” الجزئي ظاهرة مشتركة بينهم. فالانطوائي إنسان عاجز عن التأقلم مع مجتمعه فيحاول صنع وإبداع علم خاص به. والانطواء في هذه الحالة يعتبر صفة حميدة تتيح للعبقري الوحدة والاستقلالية وفرصة التأمل.
ولو رجعنا لسير العباقرة والمشهورين لوجدنا في حياتهم تصرفات هي أقرب للجنون منها للعقل: فهناك مثلاً الرسام الهولندي فان جوخ الذي كان يصاب بنوبات جنون حقيقية حاول في إحداها قتل زميله الفنان بول غوهان. وحين تعلق بفتاة جميلة قطع أذنه وقدمها إليها كهدية، ثم مات في النهاية منتحراً بالرصاص. أما نيتشه الفيلسوف الألماني فكان منطوياً على نفسه، يتحدث مع حصانه، يحتقر النساء، قضى آخر12 سنة من عمره في مستشفى المجانين. أما أينشتاين أحد أعظم علماء الفيزياء في العصر الحديث فقد كان عاجزاً عن فهم أصول الاتيكيت والعلاقات الاجتماعية، فكثيراً ما كان يرتدي ملابس قديمة تحتاج إلى كي في مناسبات راقية. وكان يظهر دائماً بجراح صغيرة على ذقنه بسبب استعمال صابون البانيو للحلاقة… فهذا الرجل الذي عقد أفكار الناس يعتقد أن استعمال نوعين من الصابون يجعل الدنيا معقدة.
و تشارلز ديكنز (أشهر القصاصيين الانجليز) فكان يخرج من منزله ليلاً ويسير بلا هدى لمسافات تصل لخمسة أميال في الليلة الواحدة، والأغرب من هذا أنه كان يدخل على زملائه من نوافذ منازلهم بحجة مفاجأتهم.
وكان فولتير لا يبدأ الكتابة إلا عند وضع اثني عشر قلم رصاص أمامه، وبعد أن ينتهي من الكتابة يكسر هذه الأقلام ثم يلفها بالورق ويضعها تحت وسادته حين ينام . أما نابليون فكان لا يشرع في رسم معاركه الحربية إلا وهو يمص أقراص السوس ويضع يده اليسرى على قلبه، وكان خطه رديئاً جداً لدرجة أن رسائله كثيراً ما كان يظن أنها رسوماً عسكرية.
بقي أن أشير إلى أن لهذه الظاهرة وجهاً آخر لا يجب إغفاله أو تناسيه، فغالباً ما نرغب نحن (عامة الناس) في وضع العباقرة في نمط وقالب معين يوافق افكارنا عنهم. وهذا ما يدفعنا لانتقاء الغريب والشاذ من حياتهم (فقط) ثم نعممه كقاعدة عامة عليهم. أضف لهذا أن الإبداع نفسه ظاهرة غريبة وطارئة على المجتمع، وحين يسمع به الناس لأول مرة يرفضونه تلقائية ويرتابون في صاحبه حتى يلمسوا فائدته الحقيقية، وهذا يعني أنهم ينعتون المبدع تلقائياً بالجنون – قبل تطبيق الفكرة – وبالعبقرية بعد أن تثبت صلاحيتها.
ما الفرق بين العبقرية والذكاء؟
الذكاء هو تمتع الشخص بقدرات عقليه تساعده على التحليل و التخطيط ، وحل المشاكل ، وتنسيق الأفكار، وسرعة التعلم، والتقاط اللغات.
أما العبقرية فهي تمتع الشخص بقدر كبير جداً من الذكاء ، وله القدرة علي الإبداع والتفكير في تحقيق أهداف لم تُستكشف من قبل في أي مجال.
في مقاييس الذكاء العام تعتبر الدرجة الواقعة بين 85 – 110 هي الغالبة بين معظم الناس، أما أقل من ذلك فتنحدر إلى مستوى الحمقى والمعتوهين وأكثر من ذلك الى مستوى العباقرة والمبدعين، وصولا إلى 200 درجة التي لا تتوفر إلا لشخص واحد من بين كل ستة ملايين.
وبعكس ما يظنه معظم الناس فإن الذكاء غير العبقرية – وإن كان أحد أهم عناصرها الأساسية.. فقد تصل درجة ذكاء البعض الى 200 درجة ومع ذلك لا يملكون موهبة الإبداع والابتكار، وفي المقابل قد يمتلك تلك الموهبة إنسان أمي بالكاد تصل درجة ذكائه إلى المائة درجة (…وسبق أن كتبت مقالا تساءلت فيه عن سر اختفاء أصحاب الذكاء الخارق من الأطـفال الذين نقرأ عنهم بين الحين والآخر ثم لا نسمع عنهم لاحقا ولا يصلون أبدا لمستوى الابداع أو شهرة العباقرة.
ومن العلماء من يعتقد أن درجة الذكاء الواقعة بين 100 120 هي الحد الأدنى الضروري لعملية الإبداع، في حين أن الزيادة عن هذا الحد لم تقدم إضافات قوية أو حاسمة في الموضوع.. والشيء المؤكد هنا أن توفر قدر مناسب من الذكاء أمر ضروري في عملية الإبداع ، فالذكاء أحد العناصر الوراثية التي يجب توفرها في كل عبقري، ولكن عملية الإبداع ذاتها تتطلب بجانب الذكاء توفر عوامل أخرى مهمة (كالموهبة، والاهتمام، والجراءة، وأصالة التفكير، ومخالفة المعتاد) وبناء عليه يمكن القول اختصاراً: أن كل عبقري ذكي، ولكن ليس كل ذكي عبقرياً .
وقد يؤيد هذه الحقيقة التجربة (الطويلة جداً) التي قام بها عالم النفس الشهير تيرمان؛ فقد أجرى اختبارات واسعة على مجموعة كبيرة من أطـفال المدارس، ثم راقب الفئة التي حصلت على درجة ذكاء مرتفع حتى تخرجوا من الجامعة ومارسوا حياتهم العملية. وفي النهاية خاب أمله حين كبروا ولم يصبح أي منهم عبقرياً بالمعنى المفهوم ، وإن كان معظمهم غدا من صفوة المجتمع الأمريكي.
وكانت عالمة النفس كاترين كوكس من جامعة ستانفورد قد قامت بدراسة شيقة لقياس درجة ذكاء ثلاثمائة عبقري مشهور بناء على ما توفر من سيرهم الذاتية. ومن النتائج التي توصلت إليها أن كثيراً من الإنجازات والابتكارات المشهورة صدرت من عباقرة، ذكاؤهم متواضع نسبياً. فكولومبس ومندل مثلاً لم تتجاوز درجة ذكائهم مستوى إنسان عادي جداً (حيث مات كولومبس وهو يعتقد أنه اكتشف الهند وتوفي مندل وهو لا يعلم أنه أسس علم الوراثة )… فشهرة الإنجاز وفائدته الكبيرة قد توحي للناس بأن مبدعه شديد الذكاء في حين قد تكون الحقيقة غير ذلك.
وفي دراسة كوكس السابقة نجد أن فارادي (وهو فيزيائي اكتشف مبدأ توليد الكهرباء واخترع الدينامو) بالكاد تجاوز ذكاءه المائة درجة رغم شهرته الكبيرة، وكذلك الحال مع كالفن، وباخ، وكوبرنكيس، ونيوتن (الذي نال 135 درجة) ، وفي المقابل هناك عباقرة شبه مجهولين نالوا درجات ذكاء عالية جداً مثل جون ستيورات ميل (200 درجة) وتوماس ما كولي (190 درجة) وجوجروسيس (180 درجة).. كما وجدت كوكس فئة ثالثة تناسبت درجة ذكائهم مع عظمة إنجازاتهم مثل العبقري الإيطالي دافنشي (الطبيب والمخترع ورسام الموناليزا) الذي تجاوز ذكاءه 200 درجة ، والفرنسي باسكال عالم الرياضيات ومخترع الحاسب اليدوي الذي حصل على 190 درجة، والأديب الألماني جوته، وصاحب النظرية النسبية أينشتاين اللذان تجاوزا 180 درجة. كل هذه المفارقات تؤكد مجددا بأن كل عبقري ذكي، ولكن ليس كل ذكي أو متفوق عبقرياً بالضرورة .
يقول جوناثان سويفت: "لم توجد على الإطلاق موهبة فطرية خالصة إلا بمسٍّ من جنون"!
لكن ما هو الجنون؟ وما هو تعريفه؟ ولماذا يربط الناس بين المجنون والعبقري في كثير من الأحيان؟
إن مصطلح "مجنون" أقرب ما يكون إلى المصطلح الأدبيّ والروائيّ، لكنه بالمطلق ليس مصطلحاً علمياً. فلا يوجد في كل المعاجم والقواميس العلمية مرادف لكلمة "مجنون".
فالمجنون ليس هو الذهاني (المريض العقلي) وليس هو العصابي (المريض النفسي)! من هو إذاً؟
كما نفهم من مقولة سويفت أعلاه أن المجنون هو من يعيش خارج الصندوق، وهو من يغرّد خارج السرب، لكنه ليس أبداً المختل العقلي أو المخبول.
وإذا ما تركنا جانباً الدور التخريبي الذي لعبته السينما الهادفة إلى الربح في تعميق هذا الالتباس، وسبرنا بعمقٍ أسباب هذا الخلط الحاصل، فإننا سنجد لهذا الالتباس مبرراً غير كافٍ، وهو ظهور بعض العباقرة ممن لديهم سجلات مرضيّة.
على سبيل المثال، العالِم جون ناش صاحب نظرية "المبادئ الموجهة" والحائز على جائزة نوبل وأحد أعظم عباقرة الرياضيات في القرن العشرين، كان يعاني من هلوسات بصرية (فصام) رافقته طيلة حياته.
وأيضاً العالم توماس أديسون، مخترع المصباح الكهربائي والتصوير السينمائي والكثير من المنجزات العلمية المذهلة، كان يعاني من ثغرات في الذاكرة.
لكن هذا قد لا يعني لنا شيئاً إذا ما اعتمدنا قانون النسبة والتناسب، فالعدد قليل إذا ما قورن بالعدد الكليّ.
العبقري، وقبل كل شيء، هو إنسان معرَّض للمرض النفسي والعقلي والعضوي، بالتالي فإن المرض يصيبه كإنسان ولا يطاله كعبقريّ.
أمَّا في ما يخص غرابة الأطوار، الصفة المميزة للعباقرة، فهذه ردَّة فعل طبيعية على أفكار ثورية وإشكالية يحملونها في رؤوسهم تتناقض كليةً مع واقعهم الذي يعيشونه.
فالإنسان الذي يستهدف في أعماله وأفكاره قضايا عظمى تراه غير مبالٍ بصغائر الأمور التي يهتم بها من هم حوله وفي محيطه.
ولسويفت أيضاً رأي في هذا الخصوص، لا يخلو من الدعابة، حيث يقول ما معناه: "كيف تستطيع التمييز بين العبقري وبين الناس العاديين؟ عندما ترى رجلاً استثنائياً قد تحالف ضدّه مجموعة من الأغبياء. أنت هنا أمام أول إشارة لهبوط إنسان عبقري على سطح الأرض".
قديماً في جزيرة العرب، ارتبط مصطلح العبقرية بنوابغ الشعر على وجه الخصوص. فقد كان ثمة وادٍ سحريّ يُسمَّى "وادي عبقر"، كان الناس يعتقدون حينها بأنه "مسكون"، أي أنه مليء بـ"الأرواح الشريرة" وكل من يمرّ بجانبه سوف يتلبَّسه "شيطان عبقر" فيصبح بذلك عبقرياً! وأيُّ شاعرٍ يُظهر فصاحةً وبلاغةً وموهبةً استثنائيةً يكون لسان حال الناس تجاهه بأنه - ولا بدَّ - قد زار وادي عبقر.
العبقريّ كتعريف هو شخص حادّ الذكاء ، يمتلك إمكانات خارقة تفوق النسبة الاعتيادية في مجال معيّن أو حتى في مجالات عدَّة.
عندما نتفوّه بكلمة "عبقري" يتبادر إلى أذهاننا آلبرت آينشتاين وسيغموند فرويد وكارل يونغ والخوارزمي ونيتشه وغوته وشكسبير وبيكاسو وموتزارت وآخرون عباقرة في الفيزياء والعلوم والرياضيات والتصوير والموسيقى والأدب... وسؤالنا هو عن السبب الذي جعل هؤلاء روَّاد زمانهم وعظماء العصور كافةً؟
يعتقد بعض العلماء بأن الإجابة هي في الاستعداد الوراثي للعبقرية لدى هؤلاء العباقرة، ويظن البعض الآخر بأنَّ المعاناة هي سبب أساسي في صناعة الشخصية العبقرية الفذّة وفي صقلها، وها هنا نتذكّر ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
"تفرَّدتُ بالألمِ العبقريِّ/ وأنبغ ما في الحياة الألمْ".
ويرى البعض الآخر، كعلماء النفس، أن السبب يعود إلى نوع فريد من أنواع العصاب الذي يكون على شكل وسواس المعرفة وشغف الاكتشاف والتنقيب في المجهول ومحاولة احتوائه والقبض على هذا الكون من خلال اختزاله في حفنة زهيدة من الأرقام والمفاهيم المجرّدة المنتظمة والمرتبة في مكانها إلى الأبد.