• سجل عضوية لنشر مواضيع ومشاركات ومحادثة الأعضاء بدون إزعاج الإعلانات

مكتملة الرباط المقدس - توفيق الحكيم (1 مشاهد)

ابيقور

ميلفاوي أبلودر
العضوية الفضية
ميلفاوي معلم
عضو
ناشر قصص
ميلفاوي نشيط
إنضم
21 سبتمبر 2023
المشاركات
563
مستوى التفاعل
310
نقاط
620
النوع
ذكر
الميول
طبيعي

راهب الفكر​

كان — في عباءته وقلنسوته — يشبه حقًّا الراهب، هكذا كان يرتدي وهو في بيته، ولعلَّ هذا المظهر كان يتفق مع لون حياته، تلك الحياة الهادئة بين الكتب والورق، الراكدة كمداد المحبرة! ما كان لديه قطُّ شيء يجري، حتى ولا أيامه، فهي، لتشابهها، تبدو كأنها واقفة لا تسير، أو أنها تجمَّعت كلها واندمجت فصارت يومًا لا يزول! ومع ذلك، فقد كان هناك سيلٌ متدفقٌ يجري عنه بغير انقطاعٍ في غمرة الناس، ولكنه كان يلقي إليهم دائمًا بفكره، يسعى بينهم ويؤثِّر في نفوسهم. كان شأنه شأن ذلك الجالس على الشط، يُلقي الفتات إلى السمك، وينظر إليها تجتمع عليه وتفترق … ولقد كان لكتاباته وقعٌ، ولآرائه صدًى.

وقد أحسَّ تبعة تأثيره في الناس؛ فأخذ عمله مأخذَ الجِدِّ، ولم يشأ أن يخادع الناس فيقول ما لا يعمل. إنه كان يؤمن بأن واجبَ رجل الفكر والقلم أن يُدخِل على البشر الإيمان بأن في إمكانهم أن يَسموا على أنفسهم، وأن هذا الواجب يفرض عليه أن يعيش هو حياة سامية لا مطعنَ فيها ولا غبار عليها.

لقد كان دائمًا يزدري أولئك الذين ينشرون على الناس أدبًا رفيعًا وجمالًا بديعًا، ثم يعيشون حياة كلها ضَعة وخسَّة وقبح … الكاتب الحق في نظره هو مَثل يُحتذى في باطنه وظاهره، وإن لم يكن كذلك فهو إذن مهرجٌ، يلبس للناس على الورق ثيابَ الملوك، فإذا خلا بنفسه خلعها، فبدا في حقارته كأنه شحاذ … كان هذا هو السبب في الْتجائه إلى تلك الحياة الصارمة، لم يكن في بيته أحدٌ معه غير خادم قديم يقوم على خدمته، ويدبر له معاشه، ويقضي له حاجاته. ولم تكن له حوائج كثيرة، فقد كان أقصى ما يطلبه بعد المطالعة والتأمُّل، مجرد الجلوس إلى خزانة كتبه، لا يصنع شيئًا غير تنظيم صفوفها، وترتيب فروعها، ترتيبًا لا تخطئه اليد في الظلام!

لقد كان دائمًا يقرأ في فراشه قبل النوم، وكان يعنُّ له أحيانًا أن يُحضِر من خزانته كتابًا في علمٍ من العلوم أو فنٍّ من الفنون، فما كان يفعل أكثر من أن يمدَّ يده، فيستخرجه من موضعِه دون الحاجة إلى إضاءة المصباح … لقد تدرَّبت أصابع يده على التمييز بين الكتب، فأمست وكأنها تقرأ عنوانها باللمس. وكانت أقدامه تدور به في الحجرة كلما أراد التفكير، فلا تستقر به في مقعدٍ إلا إذا استقر به الفكر على أمرٍ … أما عيناه وأذناه فهي بالضرورة عماده الأول في مهمته … لكأنه جنَّد حواسَّه كلها، وحشدها لخدمة فكره.

لقد كان يلِذ له أن ينفق لحظاته الضائعة في النظر إلى كعوب الكتب المصفوفة، يقرأ أسماء مؤلِّفيها الخالدين واحدًا واحدًا، كأنهم جنود أبطال يستعرضهم بعد النِّزال، فكان لا يملك نفسه من الصياح في القاعة الساكنة: «هؤلاء حرَّكوا العالم، وساروا بالإنسانية … إني أشعر بينهم، وأنا في هذه العزلة والركود، أنَّ كل شيء من حولي حركة دائمة … كل شيء ساكن خلا الفكر … ما الفكر إلا الحركة الكبرى!»

أقرب القول في هذا الرجل أنه كان يُذكِّر بصورة «رجل الأدب» كما وصفه «كارليل»: «نور الدنيا وكاهنها الذي يقودها، كأنه عمود النار المقدس، في جوِّها المظلم خلال هباء الزمن، وفضاء الأحقاب.»

ذلك كان الرجل، وتلك كانت حياته … بسيطة متجردة، إنه لم يكن ينظر إلى ملذات الدنيا إلا على أنها جرعات متقطعة، يطفئ بها ظمأه، وينشِّط بها قواه في صحرائه الجرداء، ولكنها لم تكن غذاءه اليومي ولا شرابه الدائم … لقد كان يشتاق أحيانًا إلى الأكلة الدسمة الفاخرة، ولكن طعامه المعتاد كان شيئًا لا يكاد يقيم الأوَد، ولقد كان يسير فيه على نظامٍ شبه صحي، لا ينحرف عنه إلا إذا دعته الظروف، أو قهرته نفسه التوَّاقة إلى الطيب الطريف من طعام أو شراب، فيتناول الأكلة الشهية تناول الملتذ الذواقة، ثم يجيء اليوم التالي، فإذا هو يعود إلى نظامه القديم الصارم وأكله البسيط ومائه القَراح.

كذلك كان في السهر وما اقترن به من متعٍ! فهو يحرص على النوم في موعده، والاعتكاف في حجرته، ولكن هذا لا يمنعه من أن يشذَّ عن نظامِه ليلة، فيسهر كما يسهر الناس، ويصنع مثل ما يصنعون، ويعرف من ألوان المتع ما يعرفون … ثم يصحو في الغد، فتحدث أعجوبته: وهي نسيانه ما حدث، واعتباره كل ما نعِم به البارحة قطراتٍ لا بد منها بين حين وحين، لمواصلة سيره الحثيث، وأداء واجبه المفروض، فهو لم يكن من أولئك الذين يتهالكون على اللذَّات ويندفعون فيها، ولا يملكون في نفوسهم تلك الأداة، التي توقِف اندفاعهم حيث ينبغي الوقوف.

لعلَّ أكبر قوة عند هذا الرجل هي قوة المقاومة؛ مقاومته لنفسه إذا شرب أحيانًا من كأس الحياة، فإنه كان يعرف بالضبط متى وأين يقف، ويستطيع — بكل عزمٍ — أن يقول لنفسه «كفى». لذلك لم يُشتَهر عنه حب الحياة، ولم يُعرف عنه الانغماس في ضربٍ من ضروب اللهو، بل لم يسمع أحدٌ عن اتصاله بامرأة من النساء بالذات. وكان هو حريصًا على أن يجهل الناس تلك النواحي منه، وأن يعرفوا زهدَه ذلك، وقلة احتفاله بهذه الأشياء … على أن هنالك فائدة كبرى جناها من هذه المزية؛ مزية «مقاومة النفس» كما كان يسميها! إن نظام البساطة الذي أخذ به نفسَه في شئون الدنيا قد حال بينه وبين الترهل والهرم الباكر! ما من أحدٍ يراه إلا قدَّر له سنًّا أقل من سنِّه الحقيقية … لقد كان في وجهه نضارة شاب في الثلاثين، ولولا وَخْط الشيب برأسه لما عرفت الأيام كيف تنال منه! كان شأنه في ذلك شأن كهنة المصريين القدماء الذين وصفهم «بلوتاركس» بقوله: «إنهم كانوا يراعون نظامًا دقيقًا في مأكلهم ومشربهم، لأن القداسة والصحة يسيران في نظرهم جنبًا إلى جنب، فكانوا لا يسرفون في أكل اللحم ولا بعض الخضر، ولا حتى في شرب ماء النيل، لزعمهم أن الإكثار من مائه يسمن، كما يدسم الأرض!»

إن البدانة كانت عندهم من عيوب الكهانة، فهم كانوا حريصين على أن يغلفوا نفوسهم بأجسامٍ نشيطة خفيفة، حتى لا يختنق ما في أرواحهم من جوهرٍ إلهي تحت ثقل المادة الفانية!

ما من كاهن مصري كان بدينًا، وما من كاهن مصري عرف الناس حقيقة عمره، فهم دائمًا نحاف الأجسام، يبدو عليهم الشباب دائمًا، كأن الآلهة قد منحتهم قوة مقاومة الزمن … والحقيقة أنهم ما أُعطوا قوة مقاومة الزمن … بل أُعطوا قوة مقاومة أنفسهم … ومن ظفر بالأخيرة فقد ظفر بالأولى، وهذا ما فهمه «راهب الفكر» وعمل به.

هكذا كان يعيش ذلك الرجل … حياة رحبة في نظره، مضيئة زاخرة بشتى الألوان! ضوءُها لا ينبعث من ثريات المراقص والملاهي والحانات، فقد كانت حياة الليل عنده هي حياة النفس في اتصالها النبيل، بما يقرأ في ساعات السكون، وفي إصغائها الطويل إلى الخواطر والأفكار التي تغمر عالمه الصامت.

أما حياة النهار عنده، فكانت في الصباح، مطالعة الصحف والبريد الوافد عليه من داخل مصر وخارجها، ثم الخروج للسير على الأقدام ساعة في الطرقات، ينظر في واجهات المكتبات، ويعود بعدئذٍ فيجلس إلى مكتبه، وهو يوصي خادمه بإغلاق النوافذ، حتى لا تزعجه زقزقة عصفور من عصافير الكناري التي في قفصٍ لدى الجيران … ثم يكتب الساعات الطوال إلى أن يناديه خادمه للمائدة، مرة ومرتين، وهو مستغرق في عمله لا ينتبه، حتى يثقل عليه الخادم بالإلحاح، ويخرجه — قسرًا — مما هو فيه، فيلقي بالقلم متبرمًا، وينهض متذمرًا، كأنه مسوق إلى حيث يُجلَد لا إلى حيث يطعم.

•••

في ذلك اليوم الذي بدأت فيه هذه القصة، جلس «راهب الفكر» — كعادته في الصباح — إلى بريده، يفضُّ الرسائل الآتية إليه من قرائه، وكانت تلك اللحظة من أمتع اللحظات عنده، فقد كان يلِذ له هذا النحو من الاتصال الفكري بأولئك الذين يكتب لهم، ويكدُّ من أجلهم دون أن يراهم … على أنه قلَّما كان يُعنى بالردِّ على رسالة من تلك الرسائل، لا عن ترفُّعٍ أو تصنُّعٍ؛ بل لأنه كان يعتقد أنه قد قال كل شيء لقارئه في كتبه التي تُطبَع وتُنشَر، وأن رسائل القراء ليست إلا ردهم على ما سبق أن وجَّهه إليهم من صفحات، وضع لهم فيها أثمن ما ادَّخره من عصارة الذهن على مدى الأيام!

على أنه في ذلك الصباح، وقعت في يده رسالة، استوقفت نظره، واسترعت انتباهه … هي رسالة من فتاة تقول: إنها في الثانية والعشرين، وإنها تريد الاشتغال بالأدب، وتسأله — بإصرارٍ — أن يأذن لها في مقابلته، كي تبسط له أمرها، وتتلقَّى رأيه فيه … ولم تذكر اسمها ولا عنوانها، ولكنها قالت: إنها ستخاطبه بالتليفون، لتعلم منه الموعد الذي قد يُضرب للقاء!

عجِب لهذا الخطاب، لأنه لم يكن على غرار الخطابات النسوية التي اعتاد أن يتلقَّاها، فقد كانت فيه نبرة جِدٍّ، وكان أسلوبه موجزًا، ولم يجد تلك الثرثرة التي يلجأ إليها عادة بعض العابثات من النساء والفتيات، وما أكثر رسائلهنَّ إليه. وما أكثر طلبهنَّ له بالتليفون، ذلك الطلب الذي كان يتحاشاه، مكلِّفًا خادمه بالرد عنه، والمبادرة إلى إنهاء كل محادثة لا غرض منها ولا طائل … ولكن هذا الخطاب الجِدِّي شيء آخر.

إن هذه الفتاة سارت إلى غايتها قُدُمًا، وأفصحت عن بُغيتها النبيلة في سطرَين، فكيف يردُّها عن هذا الغرض، أو يصدها عن هذه الغاية؟ إن واجبه يحتِّم عليه لقاءها.

وغرق في مقعده، وجعل يرسم لهذه الفتاة صورًا في رأسه: كيف هي؟ وماذا يمكن أن تكون؟ إنه يعرف المرأة التي تعطي الفكر حياتها … هي ولا شك المرأة التي لم تجد رجلًا تمنحه هذه الحياة! ولكنها في الثانية والعشرين، كما قالت، أي في ريعان الصبا ونضارة الشباب. إذن، لعلها تشعر بأن الطبيعة قد جرَّدتها من ذلك السحر الذي تسيطر به على قلب الرجل … والمرأة إذا جُرِّدت من هذا الرداء الساحر، فليس أمامها إلا أن ترتدي مُسوح الراهبات! ولعلَّ في تلك المُسوح قوة خفية أو روعة أخرى، قد تستخدمها المرأة في طَرق باب الأمل من جديد! على أي حالٍ، لا بأس من مقابلة الفتاة … وانقضى أكثر النهار، وجاء العصر، فدقَّ جرس «التليفون»، فهرع إليه الخادم، ثم أعلن سيده بخبر الفتاة وسؤالها عن الموعد، فأمره بأن يضرب لها موعدًا للزيارة في صباح اليوم التالي.

•••

جاء الغد … وجلس «راهب الفكر» إلى مكتبه، وانحنى على ورقِه وعمله، وإذا الباب يُطرَق، ثم ظهر خادمه بعد قليلٍ، ينبئه بقدوم الفتاة … فأذن له في إدخالها عليه، دون أن يبدي حراكًا، أو يبدو عليه اهتمام، فقد لبث غارقًا في شأنه … إلى أن فطن إلى حفيف ثوب على مقربة منه … رفع رأسه ونظر … وإذا الدَّهش يعقد لسانه … ذلك أن بصرَه لم يكد يقع على الفتاة التي أمامه حتى انقلب كل شيء في رأسه، وفسدت الصور التي نسجتها مخيِّلته في سرعة البرق، فالفتاة التي أمامه جميلة رشيقة أنيقة! إنها من ذلك الطراز الذي يخطر في حلبات السباق في أحدث الأزياء، ناثرًا في الهواء أحدثَ العطور، تاركًا خلفه، في كل خطوة، آلاف النظرات والحسرات والتنهدات! إنها من ذلك الطراز الذي يُرى في المقاصير الأولى من المسارح، ليالي الافتتاح فيلقي الهمس والافتتان في صدور الجماهير!

اضطرب أمرُه، وقال في نفسه: «ليس ها هنا مكان هذه الفتاة»! رأت هي ما به فبادرت بالتحية، وقالت في ابتسامة، وهي تجلس حيث أشار إليها بالجلوس: أريد منك يا أستاذ، أن تصارحني في كل شيء!

فقال لها كالمخاطب لنفسِه، وعينُه ما تزال تفحصها: بل أنا الذي يرجو أن تصارحيني بكل شيء!

فأطرقت قليلًا، وقد أرخت أهدابًا ألقت على خدِّها ظلالًا: إني يا سيدي … أحب الأدب!

فقال على الفور بسخرية بريئة من الاستهزاء: إن الأدب يا سيدتي يتشرف بهذا الحب.

وبدا على وجهه الارتياب فقال: لكن …

– لكن؟

– ماذا تقصدين بالضبط أيتها الآنسة؟ أرجو منك أن تفصحي قليلًا … فإني لم أفهم بعدُ كما ينبغي!

فأطرقت مرة أخرى، وكأنها لا تعرف كيف تبدأ الحديث … ثم رفعت عينيها، وأخذت تتأمَّل المكان الذي يعيش فيه ذلك الأديب، فلم تجد شيئًا باسمًا؛ فلا زهرة متفتحة، ولا أثاث أنيق، ولا حيطان زاهية اللون، ولا ضوء كثير باهر.

فرأى كأن صدرها قد ضاق، وأنها تريد التنفس، وأن شفتَيها القرمزيتين تهتزان، وأنها تكاد تصيح على الرغم منها: أهذا جو الأدب؟!

ولَحِظَها تنظر إلى النافذة وهي عارية، ليس عليها أستارٌ، وأمامها بناء عالٍ يحجب عنها الشمس … فخيِّل إليه أنها تقول له: أيكفيك هذا النور؟!

فأجابها بهدوء: يكفينا دائمًا النور المضيء في نفوسنا!

فلم يبدُ على الفتاة أنها فهمت عنه، فإن سطور وجهها ما زالت تنمُّ عن خيبة الأمل!

على أن الذي أدهشَه هو بقاؤها بعد ذلك!

ما الذي دفعها إلى المجيء؟ وما الذي يربطها إلى هذا المقعد الساعة؟ ونظر إليها مليًّا، ثم قال: إذا صدقت فراستي أيتها الآنسة فأنتِ لم تُخلقي للأدب!

فقالت في غير تحمُّس، وهي تبحث بعينيها — عبثًا — عن مرآة في الحجرة: لِم لا؟

فلم يحرْ جوابًا! ولم يستطع طبعًا أن يذكر لها السبب؛ إنها جميلة … إن الأديب قد يعطي الأدب «حياته»، لكنه لا يعطي الأدب «جماله». وأراد أن يستخرج سرها فقال لها: أي أنواع الأدب تحبِّين؟

فظهر عليها الارتباك، لكنها أسرعت تخفيه بحركة من يدها، فتحت بها حقيبتها الصغيرة، وأخرجت منها مرآتها وإصبع أحمرها، وجعلت تتزين وهي تقول: لست أفضِّل نوعًا على نوع.

فحدَّد إليها النظر، ثم سألها فجأة: لماذا شرَّفتني بالزيارة؟

فأجابت، وهي تنظر في مرآتها الصغيرة: لأني سمعت عنك كثيرًا.

– أقرأتِ لي شيئًا؟

– بالطبع.

– ماذا قرأتِ لي؟

– آه …

وتظاهرت بالنسيان ومحاولة التذكُّر، فلم يُرِدِ المضيَّ في إحراجها، ولَزِم الصمت. وجعلت أصابعه تعبث لحظة برسالتها، وأدرك أن هذه الفتاة تسخر منه، فما أكثر الفتيات المغرورات اللاتي يلذُّ لهنَّ مداعبة الرجال المعتزلين، والهُزء بالنسَّاك، المترهبين! فقال لها في شيء من الجفاء: أيتها الآنسة! لماذا كتبت إليَّ تقولين إنك تريدين الاشتغال بالأدب؟

فقالت، وهي تُعيد مرآتها وإصبع أحمرها إلى حقيبتها: لأني أريد ذلك … أهو شيء عسير؛ الاشتغال بالأدب؟

فلم يعرف كيف يجيبها، وشعر في نفسه بما يشعر به رجل الدين؛ إذ يرى شخصًا يقذف محرابه بحصاة … ولعلَّها رأت منه ذلك، فهي لا تخلو من ذكاء يلمع في عينيها الجميلتين، فبادرت تقول له: أأعترف لك بالحقيقة؟!

وصمتت قليلًا … وتأمَّل نفسه في جلسته وعباءته وقلنسوته، وتأمَّل عبارتها الأخيرة، فخيِّل إليه أنه «راهب تاييس» يحادث الغانية، ورفعت الفتاة رأسها، وأقبلت عليه تقول: الحقيقة أني لا أحبُّ الأدب … ولم أقرأ كتابًا قطُّ منذ تركي المدرسة، ولا شيء يثقل على نفسي مثل الكتابة والقراءة … إني لا أكتب رسالة إلى إحدى صديقاتي حتى أتناول بعدها قرصًا من «الأسبرين»! إني أحب «السينما» وسباق الخيل، والرقص والموسيقى!

فقاطعها قائلًا: «الجاز» طبعًا!

فقالت في نبرة المتحدث عن شيء مفهوم بالبداهة: طبعًا!

فتنهَّد، وقال كالمخاطب لنفسه: ألم أقل إن فراستي قد صدقت؟!

ولم تترك له الفتاة وقتًا للمُضي في الكلام، فأسرعت تقول: نعم … ولكني مع ذلك أريد …

– تريدين؟!

فارتفع صوتها بقوة وعزيمة: نعم أريد … أريد أن أحب الأدب!

فلبث فمه مفتوحًا من الدهشة، ولم يدرِ ماذا يقول لهذه الفتاة المدلَّلة.

– أتحسبين أيتها الآنسة أن الأدب فتًى جميل من فتيان الرقص، أو حصان «فافوري» من خيول السباق؟

فتجهَّم وجه الجميلة، وأسدلت أهدابها الطويلة، ورأى كأن عراكًا عنيفًا يهزُّ أرجاء نفسها … وأخيرًا انتفضت، وقالت متوسِّلة: أرجوك! أرجوك … لا تردَّني خائبة يائسة!

فأطرق لحظة، ثم قال مترفقًا: أنا طوع أمرك يا سيدتي، لكن … فلنتكلمْ في حدود المعقول!

– نعم، اجعلني أحب الأدب بأي ثمن، مهما كلَّفني الثمن.

– هذا يا سيدتي غير معقول … كيف أجعلك تحبينه؟

– لماذا لا تستطيع؟

– لأن الحب لا يُطلب ولا يُشترى، وأنت أدرى مني بذلك!

فهمست في ألمٍ: نعم، هذا صحيح! … آه!

وأثَّر في نفسه يأسُها، وذكر أنه لم يسألها بعدُ عما يدفعها إلى هذا الطلب الغريب، فالتفت إليها يستوضحها الأمر … فأسرعت قائلة: لا تسألني! ما الفائدة ما دمتَ لا تملك لي شيئًا؟

ونهضت تريد الانصراف، فنهض وهو يفكر في أمرها، ومدَّت إليه يدها مودعة وهي تقول: إني آسفة لإزعاجك! إني فتاة حمقاء … كنت أعتقد أن كل شيء في الإمكان!

فقال لها ويدها في يده: نعم، كل شيء في الإمكان ما دامت الإرادة قوية، والدافع نبيلًا!

فجذبت يدها بلطفٍ، وقالت على عَجَلٍ: وإذا ضمنت لك قوة الإرادة، ونُبل الدافع، أتعدني بالمساعدة؟

ورأى في عينيها بريقًا ينمُّ عن أملٍ متجددٍ، فشقَّ عليه أن يُطفئه بكلمة. غير أنه خشيَ أن يقطع على نفسه عهدًا لا يستطيع الوفاء به، وهو يجهل بعدُ كل شيء في الموقف، فهو في ضباب، الكلام يجري في أمور، يختلف معناها باختلاف المتكلم، وكلمة «الأدب» لها عنده مدلولٌ غير ما عند الفتاة، ولم يحسن — بعدُ — إدراك مرادها، ولا يأسها، ولا رجائها، فقال: أيتها الآنسة … لن أعد بشيء حتى أفهم … أليس لي الحق في أن أفهم على الأقل أصل الموضوع؟!

ففكرت قليلًا، ثم التفتت إليه قائلة: أرجو منك ألا تطلب إليَّ أسماء … لن أقول لك اسمي ولا اسم أسرتي … كل ما أستطيع الإفضاء به إليك هو، أن لي خطيبًا أحبُّه ويحبني، وهو مَثلي الأعلى الذي كنت أحلم به دائمًا! ليس فيه عيب غير أمر واحد؛ أنه يحب القراءة في كتب الأدب! إنه يذهب بي إلى «السينما»، وإلى سباق الخيل … ويحادثني في كل ما أحب، ولا أستطيع أنا أن أحادثه فيما يحب! إنه يسمِّيني «الفتاة الطائشة»، ويغتفر لي كلَّ شيء إلا ذلك الصمت الطويل الذي يدبُّ بيننا؛ إذ يفرغ الحديث فيما يسميه «تفاهاتي وحماقاتي»، إنه يقول لي دائمًا: إن الهوة السحيقة في حياتنا الزوجية هي أنه لن يستطيع أن يحادثني في شئون الفكر!

إني لن أنسى كلمة قالها لي يومًا: «لن يُحدث الزواج بيننا ذلك الاتصال التام الذي طالما تمنَّيته في زوجتي، فإن نصف الحياة، وهي حياة الفكر … ستبقى دائمًا خارج نطاق الزوجية … فأنتِ يا «…» لن يكون لك مني غير نصفي!»

ولقد حاول المسكين أن يضع بين يدي كتبًا فكنت أطرحها في ضجرٍ … إني أمقت الكتب، ولكني أريد أن يكون لي النصف الآخر من زوجي! أريد أن يكون كله لي؛ جسمه وفكره.

إنه يحب أيضًا لعب «التنيس» وكنت أنا لا أميل إلى «التنيس» ولا ألعبه، ولكن بإرادتي استطعتُ أن أتعلَّمه وأتذوقه وأحبه، في مدى بضعة أشهر! لقد نجحت إرادتي في كل شيء إلا في الكتب … لذلك جئتُ أطلب معونتك!

إن خطيبي يحب كتبَك، وقد قال لي بأنها بسيطة الأسلوب وتصلح لي، ولكني للأسف، أعترف لك بأنها ثقيلة على نفسي، كغيرها من الكتب … إن الدواء عندك ولا شك يا سيدي … إني أعتقد أن خالق الداء قد خلق له الدواء … إن كل سعادتي الزوجية هي الآن بين يديك! أرشدني! كيف تستطيع فتاة طائشة مثلي أن تصلح أمرها ليرتفع شأنها في عين زوجها؟ أهنالك أمل في أن يصبح فكري في مستوى فكره؟ تكلم يا سيدي! أليس لمثلي أملٌ في اجتياز أعتاب تلك المنطقة، السامية المقدسة، التي تسمونها منطقة «الفكر»؟ وهل كُتب عليَّ إلى الأبد أن أبقى خارجها أتطلَّع إليها؟!

وسكتت الفتاة … وتركت «راهب الفكر» واقفًا في شبه ذهول، تدوِّي في أذنه عبارتها الأخيرة الباكية … لأول مرة في حياته أدرك أن رجل الأدب، له رسالة تماثل رسالة رجل الدين! لطالما كتب يصف هذا التماثل، ولكن لم يوقن أن الأمر حقيقة واقعة إلا اليوم، ومرة أخرى طافت برأسه صورة «راهب تاييس»!

إن تلك الغانية اللعوب، جاءت الراهب تجرُّ وراءها كلَّ ماضيها الغارق في الضلالة والزيغ، وطرقت باب صومعته … تلتمس أن يكشف لها عن نور الحق! أتراه قد أبى عليها وردَّها يائسة؟ … لا … ليس من حق راهبٍ أن يصدَّ إنسانًا عن نور **** … هو أيضًا ذلك الخادم من خدام الفكر، والراهب المنقطع لنشر نوره … بأي حقٍّ يزرع اليأس في قلب من يريد وجهه؟

وهنا أيضًا، أدرك أن عليه واجبًا آخر، غير واجب الخلق والتأليف … نعم … عليه أن يمدَّ يده — على قدر الإمكان — لتلك النفوس المسكينة العمياء! فيفتح نوافذها رويدًا رويدًا لنور الفكر الدافق.

ورفع رأسه، والتفت إلى الفتاة قائلًا: اعتمدي عليَّ!

تاييس في التنيس​

مضت سبع ليالٍ، وهو يفكِّر في أمر تلك الفتاة؛ لقد وعدها بالمعونة وتركها تعتمد عليه، ولقد ذهبت على أن تعود إليه. ولقد تمَّ بينهما الاتفاق على أن تزوره مرة كل أسبوع، ولكنه حتى الآن لم يعرف السبيل إلى هداية هذه الفتاة إلى *** «الفكر»، لقد بدأ يداخله الشك في نجاح مهمته … إن الراهب الديني يستطيع أن يَهدي الغانية الضالة إلى حظيرة السماء بغير عناءٍ، لأن جمال الفضيلة ظاهر للعيان، وفكرة الخير والشر في ذاتها لا تحتاج إلى برهان، ومبادئ العقائد الإلهية في مقدورها — بغير إعدادٍ طويل، أو تدليل وتعليل — أن تنفذ وشيكًا إلى القلوب … أما شئون الفكر والأدب فهي شيء لا يُغرَس في كل الأحيان غرسًا … إنها نزعة من نزعات الطبع، قد تُولَد في الإنسان أو لا تولد، فكيف يلقي بذورًا في أرضٍ لم يهيئها ربُّها للإنبات والإزهار؟! ولكن … مهلًا، في اعتقاده أن كل نفس إنسانية قد هيَّأها ربُّها لالتقاط طيِّب البذور، وأعدَّها لاستقبال نور الجمال. إنما العبرة بالباذر، والأمر مرهون بقدرة الكاشف عن أسرار الحسن العلوي … لا ينبغي أن يرتاب مرة أخرى في رسالة راهب الفكر، ولا يجب أن يضيِّع — بعد اليوم — وقتًا في مذاكرة هذه المسألة، إنما عليه أن يوجِّه همَّه إلى التفكير في الطريقة التي سيتبعها في معونة الفتاة.

وضاق صدره من طول البحث — عبثًا — كل تلك الليالي، وخطر له أن يسترشد بما فعله «راهب تاييس» فمدَّ يده إلى كتاب «أناتول فرانس» … إنه لم يفتحه منذ نحو عشرين سنة، ولقد نسيَ ما فيه، فغرق بين صفحاته ليلتَين … عجبًا! لكأنه يقرؤه للمرة الأولى … إنه لم يفرغ منه بعدُ، لقد قرأ أكثر من نصفه، فاتضحت لِعَينه أشياء، فصاح لنفسه: ما أشقى الآدميين! لقد كُتب عليهم العمى، وهم يحسبون أن لهم عيونًا مبصرة، إنا لا نبصر حقيقة الأشياء إلا بعيوننا الداخلية، ولا ندرك حقيقة الأمور إلا باتصالها، واصطدامها بجوهر مشاعرنا، إني مهما بلغت من سمو العقل وذروة الفكر، ما كنت أنفذ إلى أعماق الراهب «بافنوس» إلا اليوم … نعم اليوم، لأني أشعر بما كان يشعر به، وأحس أن الظروف تضعني في الموقف الذي وضعتْه فيه … هنالك مع ذلك فرق بيننا؛ إنه هو الذي ترك صومعته في بطن الصحراء، ومشي الليالي الطويلة حافي الأقدام، يطأ الحشرات، ويأكل عشب الأرض، ليذهب إلى الغانية الجميلة «تاييس» في مدينة «الإسكندرية»، كي يهديها إلى نور السماء … إنه تجشَّم من أجلها الأخطار والأهوال … ما الذي حمله على ذلك؟ إن تلك الفكرة لم تنشأ في رأسه إلا فجأة ذات مساء؛ إذ خطر له طيفها الجميل، وذكر رؤيته إياها أول مرة في مدينة البحر، قبل أن يهب الدينَ حياتَه. وذكر تحرُّقَه شوقًا إليها في ذلك الوقت، مثل غيره من بقية المغرمين. ولكن حب العقيدة طوى حب المرأة، فاعتصم بالوحدة في قلب الصحراء، حتى بدا له اليوم ذلك الخاطر العجيب؛ أن يقوم بتلك المعجزة، ويربح هذه الغانية للدين.

وطفق يلتهم الصفحات شوقًا للوصول إلى ذلك الموقف من الكتاب، حيث يقف «بافنوس» أمام «تاييس»، ليعرف وسائله، ويفقه كلماته، التي استطاعت أن تهز تلك النفس الزائغة، وتبهر تلك الأعين الناعسة، وتفتح ذلك القلب الفاجر العابث، لجمالٍ نبيلٍ، لم يكن له به من قبل عهدٌ!

كانت تلك الكلمات التي انطلق بها لسان الراهب «بافنوس» إذ وقف وجهًا لوجه أمام الجميلة، هي هذه:
إني أحبك يا «تاييس»، أحبك أكثر من حياتي، وأكثر من ذاتي! من أجلك غادرت صحرائي! من أجلك لفظت شفتاي — المكتوب عليهما الصمت — ما لا ينبغي أن يُسمع … من أجلكِ اضطربت نفسي، وتفتَّح قلبي، وانبعثت منه أفكار، كأنها ينابيع دافقة يرددها الطير والحمام، ومن أجلك مشيت الليل والنهار، خائضًا غمار رمال تسكنها العفاريت! من أجلك سرت بقدمي العاريتين فوق العقارب والثعابين! نعم!
أحبك، لا على مثال هؤلاء الرجال الذين يجيئونك محترقين في مطالب الجسد، كأنهم الذئاب. أحبك في ****، ولدهور الدهور! إن ما أحمله لكِ ليس ما تحمله الذئاب الضارية، أو الثيران الثائرة … إنك محبوبة لدى هؤلاء، ولكنه حب السبع للغزال! إن غرامهم المفترس يفتك بكِ حتى قرارة نفسكِ. أما أنا أيتها المرأة، فإني أحبك حب الروح، حب الحقيقة! الحب في صدري هو حرارة الحق … هو الإحسان الإلهي! وإني لأَعِدُك بما هو خير من النشوة الفانية، والحلم الزائل! أَعِدُك بأفراح السماء! إن النعيم الذي آتيكِ به لا ينتهي أبدًا! إنه لعجب من العُجاب! إنه لإعجاز يفوق كل إعجاز! ولو قدِّر لسعداء هذه الدنيا أن يلمحوا مجرد ظلِّه لخرُّوا في الحال أمواتًا من الدهشة!
أيتها السماء! اشهدي! إني لن أترك هذه المرأة حتى أضع في جسدها روحًا مماثلًا لروحي، فألهميني كلامًا ملتهبًا يذيبها، كما تذوب الشمعة تحت أنفاسي.
أيتها المرأة ألا فلتكن أصابعي قادرة على أن تصنعك من جديدٍ، وتطبعك بطابع جمال جديد لتصيحي بعدئذٍ، وأنت تذرفين العبرات من الفرح: «اليوم فقط قد ولدتُ، اليوم فقط رأيت النور!»
لم يقرأ أكثر من ذلك، لقد أدرك النتيجة! إن هذا الرجل الذي يستطيع أن يلقي في أذن امرأة مثل هذه الكلمات لا بد بالغ منها ما يريد! إن المرأة، هذه الزهرة الأرضية السماوية في آن، لتتفتح أكمامها لمجرد تساقط لفظ «الحب» النديِّ، مهما يكن الثوب الذي اتَّخذه «الحب» ومهما تكن غاياته ومراميه! إن إيمان المرأة هو الحب … ها هنا السبيل الهيِّن السهل، الذي يوصِّل المرأة إلى الإيمان، إلى كل إيمان. وعندئذٍ اختلج قلبه … إن موقفه من هذه الفتاة يختلف، وينبغي أن يختلف عن موقف الراهب من الغانية، لا لأن قلبه لا يستطيع أن يمتلئ حبًّا بهذه الفتاة، بل لأنه لا ينبغي له أن يفعل. ومع ذلك فإن الحبَّ أيضًا هو الذي قاد الفتاة إلى مكان عزلته، مجتازة صحراءه الفكرية على قدميها الصغيرتين، وحذائها ذي الكعب العالي الذي لم يطأ غير البساط الوثير، والرخام اللامع، والزهر المتساقط على عشب الحدائق. نعم، حبُّها لخطيبها المثقف هو الذي أتى بها من عالمها إلى عالم هذا المفكر.

ولبث ينتظرها هذا الصباح في ساعة الموعد، فلم تأتِ؛ فقال لنفسه وهو يتنفس الصعداء: لقد استردَّها عالمها المضيء، وجذبتها دنياها البراقة، وكُفيتُ أنا مئونة الفخ في دمية من طين وتراب!

على أنه لم يستطع أن يخفيَ ما قام في أعماق نفسه من اضطراب، ليس يدري له سببًا، ولا يفهم له تعليلًا: إنما هو نوع من الشعور بالأسف العميق على ماذا؟ ولماذا؟! لا يستطيع أن يجيب؛ فالأمر يخرج عن نطاق ذهنه الواعي!

وطُرِقَ البابُ بغتةً، وظهر رجل نوبي في ثياب نظيفة أعلمه أنه سائق سيارتها، وقدَّم إليه رسالة منها وانصرف. إنها تعتذر عن تخلُّفها عن الميعاد، وتقول إنها الآن في لباس «التنيس»، وإنها خجلت من القدوم إليه، والمثول في حضرة «كاهن الفكر» بهذه الثياب، وإنها لا تجد بعدُ من نفسها الشجاعة على تضحية مثل هذا الصباح الرطب الجميل في سبيل شيء، وإن كان هذا الشيء هو الأدب والفكر … وإنها الساعة تستنشق الهواء بملء رئتيها، وتعرض شعرها المرسل وذراعيها العاريتَين لشمس هذا الشتاء البديع. وإنها تتأمل النيل يلمع في مجراه الأخضر، كأنه سيف ملقًى فوق أعشاب حديقة، أو كأنه شريط من الفضة فوق قبعة خضراء … وهنا تسأله الصفح عن إيراد هذا التشبيه؛ فهي لم تنسَ بعدُ أنها امرأة، وأن طراز القبعات الحديث ما زال يشغل من التفاتها أكثر مكان. وختمت كلامها بتكرير الْتماس المغفرة، راجية منه أن يستبعد ما قد يخالجه من سوء ظنٍّ بها، وأن يثق بثباتها على العهد، وتمسُّكها برغبتها، وإيمانها بقوة عزيمتها، ونجاحها آخر الأمر فيما وطنت النفس عليه، من السمو بروحها وفكرها إلى المستوى اللائق بخطيبها الحبيب إلى قلبها!

إنها كتبت بالطبع هذه الرسالة بخطٍّ سريع رديء، وعبارات لا تخلو من أخطاء في الهجاء، وأسلوب فطري أقرب إلى أسلوبها الحديث من أسلوب الكاتب في الأداء، ولكن … أي نفحة عاطرة تنبعث من هذا الكلام؟ وأي نفس حية ذكية تكاد تَثِبُ من بين هذه السطور؟ إذا صدق ظنُّه فإن هذه الفتاة نبعٌ صافٍ لا ينقصه غير الكشف عن أعماقه، حتى يتدفق ماؤه العذب، يروي النفوس وينعش الأذهان … إن جوهر الروح الأدبي عند هذه الفتاة وهي لا تدري! فالأدب روح قبل كل شيء، أما الأسلوب فأداة تُكتسَب فيما بعدُ بالمران الكثير، والصبر الطويل، وليس المنشود لهذه الفتاة فيما يعتقد حذق الأسلوب الأدبي من حيث هو خلق وإنشاء، بل من حيث هو روح يضيء داخل نفسها البلورية، فينطلق لسانها بالحديث الرفيع، ويطلق من صدرها المشاهد العالية والأفكار السامية!

آه! إن سبيله الآن قد أشرق بالنهار المبين، وعمله قد تحددت خطوطه وأركانه! إنه يريد هو أيضًا أن يخلق هذه الفتاة خلقًا جديدًا، وأن يجعل منها عروسًا تمرح بشعرها المرسل وروحها المضيء في مروج الفكر الرحبة المزهرة، يريد أن يجعلها ملكة من ملكات المجالس، ممن جاءت أخبارهن في التواريخ، تعرف كيف تمسُّ، بصولجان روحها، نفوسَ الرجال، كما يمس المِرود العين، فإذا تلك النفوس قد تفتحت لترى ما لم ترَ، وإذا النشاط قد دبَّ بها فتثمر القرائح وتنهض الهمم، وإذا الخير قد فاض، والحياة قد نبضت في الأشياء والكائنات.

آه! إن المرأة هي كنز الكنوز، ولكنه مدفون في سابع طبقات الأرض، فمن ذا يستخرجه غير ساحر من حذاق الكهان … بل هي معجزة المعجزات، مطوية في سابع طبقات السماء، فمن ذا يستنزلها غير راهبٍ شديد الإخلاص، قوي الإيمان؟!

الجميلة تقرأ​

مضى أسبوع آخر، وجلس ذلك الصباح ينتظر … إنه اليوم المحدد لمجيئها، وخطر له خاطر فقام إلى النافذة يبحث عن الشمس. إنها مختفية خلف الغمام، والنهار قاتم، والجو بارد … لا شيء يحُول إذن بينها وبين الحضور … ولم يَخِبْ ظنه، فما إن وافتِ الساعة حتى طُرق بابه، ودخلت الفتاة في معطف من الفراء الثمين، وحيَّته بابتسامة مرحة، وأخذت تخلع قفازها، وتقول: ها أنا ذي أجيء بلا تأخير!

فنظر إلى النافذة، وقال بنبرة تهكُّم غير ملحوظ: «التنيس» هذا الصباح غير مرغوب فيه؟!

فقالت بصوتٍ جاد: نعم، الطبيعة كئيبة والشمس غائبة!

فقال من الفور: فعلى الأدب إذن أن يبتسم لك، ويشرق!

فسرَّها هذا الجواب، وجلست أمامه، كالطفل «العاقل» الذي ينتظر تفاحة بهيجة تُقدَّم له بعد قليل. ومرَّت لحظة دون أن يقول شيئًا، ولم يعرف في الحقيقة ما يقول ولا ما يصنع! وجعلت عيناه تفحصان فراءها ووجهها وشعرها، الذي يلمح فيه يد الحلاق البارع ومكواه! وذكر عندئذٍ — ليس يدري لماذا — تلك الكلمات الملتهبة التي قالها الراهب «بافنوس»، مخاطبًا «تاييس»، فاختلج قلبه، لكنه ملك نفسه سريعًا، وضحك للمقارنة، ضحكة خفيفة مفتعلة فهمتها الفتاة بالطبع على غير وجهها، فأسرعت تقول: أتراني لست جديرة؟!

لفظتها أيضًا كالطفل الذي يخشى أن يُحرم الهبة الموعودة، فقال لها، وهو يفكِّر مطرِقًا وكأنه يناجي نفسه: إنك جديرة بأن أجنِّبَكِ مرارة الدواء … إنك تكرهين الكتب، ولست أدري كيف أقدم لك الأدب بغير الكتب، ويشق على نفسي أن أرغمك على ما تكرهين!

وسكت، وجعل يتأمل ما قال، فخُيِّل إليه أنه مخطئ، لا شيء يُكتسب على هذه الأرض بغير جهدٍ وبغير إرغام النفس على الكد، وكلما سما الغرض كبرت المشقة! إنه أمام هذه الفتاة كأب أمام طفلته، فلا ينبغي أن يُحجم عن أخذها بالشدة إذا اقتضى الأمر ذلك. ينبغي أن تحبَّ الكتب إذا أرادت لفكرها سموًّا، ولا شيء غير ذلك. فليكن حاسمًا قاطعًا في القول، فإما أن تذعن وتروِّض نفسها على حب المطالعة وتصغي إلى نصحه، وتصدع بأمره، وتُبدي على الأقل حُسنَ استعدادها لمعاونته في الخطة التي ينتهجها لها، وإما أن تنصرف من الآن غير آملة في شيء، فإنه لا يصنع المستحيل.

وتغيَّر وجهه، واتَّخذت ملامحه لونًا آخر كله صرامة، وفتح فمه ليعلنها بكل هذا، ولكن شيئًا أغلق فمه وسكن ثائره! إنه خوف غامض يسبح في أعماق نفسه!

نعم، إنه يخاف أن ينفر هذا العصفور الجميل، فينطلق هاربًا زاهدًا في تعلُّم التغريد على يديه، قانعًا بما كان فيه من زقزقة جوفاء فوق الغصون، ونظر إليها مترددًا حائرًا: أيتها الآنسة!

وأدركت بذكائها شيئًا كثيرًا مما يجول بخاطره، فبادرت تقول له: لا تخف! إني سأقوم بما تأمرني به … لقد قلت لك إني قوية الإرادة!

فتشجع، وقال لها: أتقرئين؟!

فقالت في الحال: كل ما تأمرني بقراءته!

فاندفع قائلًا: وتكتبين؟!

فقالت بغير توقف: كل ما تأمرني بكتابته!

فصاح فرحًا: المسألة إذن قد حُلَّت!

فقالت مع شيء من التفكير: نعم، إني أستطيع أن أجد دائمًا وقتًا كافيًا قبل النوم للقراءة والكتابة، وأنا في فراشي تحت مصباحي الوردي، لكن هناك صعوبة واحدة.

فقال قلقًا: ما هي؟!

فقالت كالمخاطبة لنفسها: إنك بالطبع ستمتحنني فيما أقرأ … وأقول لك مقدمًا إني ساقطة في الامتحان!

فضحك: إنك تسيئين الظن بقيمتك!

فابتسمت: لا، إنَّ عيبي الأكبر هو أني لا أطيق مطلقًا أن أقف موقف من يؤدي امتحانًا … إن كل ما قرأت يطير من رأسي عند ذلك كالدخان، ولن أستطيع أن أثبت لك أني قرأت بالفعل.

فبدا على وجهه الارتياب: أيتها الآنسة! أتتخابثين عليَّ، وتدبِّرين من الآن خطة الهروب؟

فضحكت عن ثغرها البديع: ثِق بأن فكرة الهرب بعيدة عن رأسي، ولكني أبيِّن لك مواضع ضعفي حتى تكون على حذرٍ!

فتفكَّر في قولها لحظة، ثم صاح كمن وجد الفرج: اسمعي أيتها الآنسة! لقد اهتديت إلى وسيلة ترضيك.

– ما هي؟

– ما قولك في أني أنا الذي يقف بين يديك موقف من يؤدي الامتحان؟

فضحكت، حتى كادت تدمع عيناها، وهي تقول: أنت؟ أنا أمتحنك أنت؟

– ولِم لا؟

وتناول كتابًا قريبًا من يده، وقال لها: ستقرئين هذا الكتاب، وعند زيارتك المعتادة في الأسبوع المقبل، توجِّهين إليَّ ما شئتِ من أسئلة، ولن أوجِّه أنا إليك سؤالًا واحدًا.

فنظرت إليه نظرة من يقول: «يا لكَ من ماكر!» ولم يسعها إلا الإذعان، ثم تناولت من يده الكتاب، ووزنَتْه في كفِّها، وقالت: أقرأ كل هذا في أسبوع؟

فأجابها: اقرئي بعضه، اقرئي عشر صفحات، أو خمسًا … لست أطلب إليك قراءة كتاب بأكمله … أنا نفسي، قلما أقرأ كتابًا بأكمله.

فنظرت إليه دهِشة: عجبًا … وكيف تلمُّ بموضوع الكتاب إذن؟

فقال لها باسمًا: ليس يعنيني في كل الأحوال الإلمام بموضوع الكتاب! إن مثلي مثل الطاهي الذي يدخل مطابخ الآخرين … إنه ليس محتاجًا في كل مرة إلى أن يتناول أكلة كاملة، ليحكم على جودة الصناعة، بل يكفيه أن يأخذ «لعقة» من كل إناء، فيدرك في الحال كيف صُنع اللون، وما استُعمِل في إعداده، وماذا أُدخِل في تركيبه.

فقالت: ولكني أنا …

ففهم مرادها: نعم أنت أيضًا أكتفي منك بهذا القدر … إن الأسئلة التي ستوجهينها إليَّ عن الصفحات التي قرأتها، ستدلُّني على مبلغ نفوذك في عالم المعاني، فكمية الصفحات التي تقرئينها لا دخل لها في الأمر إلا من حيث تذوقك، وعدم تذوقك لما تقرئين.

فصمتت قليلًا، وأرخت أهدابها، وفتحت الكتاب وجعلت تقلب صفحاته وهي تفكر، ثم قالت في براءة وسذاجة، وهي تقرأ عنوان الكتاب: «تاييس» … من «تاييس»؟ حتى أعود إليك الأسبوع القادم، رافعة الرأس!

فأجاب، وقد ابتسم ابتسامة غامضة: ستعرفين، إذا قرأتِ!

•••

نعم … كان الكتاب الذي وضعه بين يدي الفتاة، هو كتاب «أناتول فرانس» … لماذا فعل ذلك على وجه التحقيق؟ … ألأنه كان قريبًا من متناول يده تلك اللحظة، أم أنه تدبير مقصود؟

في الواقع إنهما معًا! إن هذا الكتاب قد فرغ من قراءته البارحة، ولم يقرأه حديثًا إلا من أجلها هي، ويود لو تقرؤه هي أيضًا، ففيه مواقف يجب أن يعرف مدى فهمها إياها … ومن يدري؟ … لعلَّ اختيار هذا الكتاب لها من أول الأمر توفيق منه، فقد تدرك منه بعقلها أو بشعورها قداسة ذلك الجمال العلوي، الذي نبذت، في سبيله، «تاييس» كلَّ عرض الدنيا وثرائها وبهجتها، وهذا بعض ما يريد لهذه الفتاة؛ أن يغمر قلبها نور جديد، مبعثه السماء لا الأرض، وأن تؤمن إيمانًا صادقًا بالجمال المعنوي، الذي لا تعرف اليوم معناه ولا مداه … كل هذا قد تستشفه من قراءة «تاييس». يخشى أن يستطيع ذكاؤها إماطة اللثام عن شخصية الراهب «بافنوس»، وأن تنفذ عيناها إلى أعماق عواطفه، فترى ما لا يريد لها الآن أن تراه. لماذا؟ وهنا اختلجت نفسه مرة أخرى … لا، إن المقارنة بعيدة، وينبغي دائمًا أن تكون بعيدة، إذا فطنت الفتاة إلى أي شبه بينه وبين «بافنوس»، فقد انتهى كل شيء بينهما … إنه لن يتردد يومئذٍ عن رجائها في عدم المجيء!

•••

ونهضت بالكتاب … ووضعت قفازها في أصابعها، ومدَّت يدها مودِّعة: أرجو ألا يشغلني شيء عن قراءة هذا الكتاب، حتى أعود إليكَ الأسبوع القادم، رافعة الرأس!

وابتسمت، ولكن الهواجس كانت ما تزال تساوره، فمدَّ يده إليها، لا للتحية، بل لاسترداد الكتاب: أخشى أن أكون قد أسأت الاختيار، ردِّي هذا الكتاب، وخذي كتابًا آخر.

وظهر القلق والاضطراب جليًّا في صوته، وتفرَّست الفتاة بعينيها البراقتين في وجهه، وقالت بعزيمة: لا … إني أريد أن أعرف من هي «تاييس»!

هل قرأت؟​

عادت الفتاة بعد أسبوع، وطرحت أمامه الكتاب، وتنفَّست الصعداء، كأنها تُلقي حِملًا ثقيلًا … فبادر يسألها، وهو يحدُّ البصر إليها قلقًا: أقرأتِه؟

فتجنَّبت النظر إليه … وقالت: بضع صفحات وضاق صدري.

فتنفَّس الصعداء هو الآخر اطمئنانًا … إنها إذن لم تعرف شيئًا مما احتواه، غير أن شعور الراحة هذا لم يَطُلْ كثيرًا، فسرعان ما انقلب الأمر، وأحسَّ الأسف والغيظ وخيبة الرجاء لما حدث. فالتفت إليها قائلًا في صوت الحانق: إذن فشلت التجربة!

فقالت وهي تصبغ شفتيها بإصبع الأحمر: ليس الذنب ذنبي!

فلم يعجبه هذا الجواب، ولم يرضَ كثيرًا عن مسلكها، وهمَّ أن ينتهرها طالبًا إليها أن تكفَّ عن هذا التزيُّن والتصنُّع في حضرته، وأن تحرص قليلًا على احترام الفكر. ولكنه ذكر أن ليس له عليها هذا الحق، وأنَّ الذنب حقيقةً ذنبُه؛ إذ أسرف في حسن الظن بمثلها، ووضع بين يديها كتابًا لا تستطيع أن تقدِّر قيمته.

وفرغت من أمر بهرجها، فالتفتت إليه وقرأت على وجهه كلَّ تلك المشاعر، ثم ابتسمت وقالت: أغضبتَ؟ ألم تقل لي إنك تكتفي منِّي بقراءة بِضْع صفحات؟ ها أنا ذي قد فعلت!

نعم! لقد قال لها ذلك حقًّا، فما الذي أغضبه؟ لا شكَّ أنَّ في نفسه منبعًا مجهولًا تنبعث منه كلُّ هذه المشاعر المتناقضة.

فنظر إليها وقد عاد إليه الهدوء: نعم!

ثم فكَّر قليلًا، وقال وهو يعبث بصفحات الكتاب: وما الذي منعكِ عن المُضي في قراءته؟

فقالت وهي مطرقة: الملل!

– إنه ليس كتابًا مملًّا … شهد **** لقد استيقظت في جوف الليل لأقرأ فيه، ولم يستطع النوم أن يقهرني وهو معي!

فقالت له بابتسامة غامضة: لا أعجب … إنك تحبُّ سِيَر الرُّهبان والمعتزلين، أمَّا أنا فما الذي يحملني على متابعة القراءة في صفحات كلها وصف لنساك الصحراء الذين يعيشون في بطون الرمال مع العقارب والثعابين، وينفقون شبابهم وأعمارهم مع أطياف الملائكة وأشباح العفاريت؟!

ونظرت الفتاة حولها على الرغم منها، وجال بصرها في المكان، وانتقلت عيناها سريعًا إلى أكداس الكتب القديمة المرصوصة، كأنها المقابر تحوي أفكارًا بغير جماجمَ، وأرواحًا بغير أجسادٍ، إلى النافذة المغلقة التي تحجب الشمس والهواء، كأنها فوهة جبٍّ أو كوَّة دير، إلى ذلك المصباح الأخضر الذي يشرف على حياته المظلمة بأجنحته النورانية، كأنه ملاك لطيف، ويفترس، في ذات الوقت، أعمار لياليه الجميلة ليلةً ليلة، كأنه غول أو عفريت مخيف!

وعاد بصرها من هذه الرحلة في أنحاء المكان، ووقع عليه، وأحسَّ شعاع عينيها ينفذ في روحه فأطرق.

وساد صمت، قطعته الفتاة بقولها: إني بدأت أرتاب.

لفظتها في صوتٍ منخفضٍ، وكأنها تخاطب نفسها.

فرفع رأسه، وقد سرت في جسمه رعدة، وأراد أن يستفسرها مرمى عبارتها، ولكنها سبقت في الكلام: أتذكر يوم جئتك أول مرة ورأيت نور الشمس لا يدخل هذا المكان؟

فقال كَمَن لا يفهم المقصود: نعم أذكر!

فمضت تقول: أتذكر بماذا أجبتني عند ذاك؟

– لا … لست أذكر!

فقالت للفور: لقد كان جوابك: إنا نكتفي دائمًا بالنور المضيء في نفوسنا!

فقال، كمن يؤمِّن على قولٍ بديهي، أو نصٍّ سماوي: هذا صحيح!

فبادرت تقول: هذا ليس بصحيح!

فحملق فيها دهشًا، ورأت اتِّساع حدقتيه، فقالت باسمة: أيدهشك هذا القول؟ … أظنك ستدهش أيضًا إذا قلت لك شيئًا آخر!

– ماذا ستقولين؟

– شيئًا لا يخطر لك على بال!

– إذن قولي وأسرعي!

فقالت بتؤدة: أريد أن أرجو منك أن تشرِّفني بالحضور، لمشاهدتي في لعب «التنيس» صباح الغد!

فنظر إليها مليًّا ليرى مبلغ جِدِّها من هزلها، ونظرت إليه خائفةً لترى مبلغ حلمه من غضبه … وفكَّر هو في الأمر: ماذا يقول لهذه الفتاة؟! لكن … قبل كل شيء لا ينبغي أن يثور، وليأخذ الأمور باللين والرفق.

– أيتها الآنسة، ماذا تقصدين؟

فنظرت إليه بعينين متسعتين: أكلامي مغلق مظلم يحتاج إلى نور كثير؟

– من غير شك!

فحدجته بنظرة غريبة: تقول هذا، أنت الذي اعتدت الحياة فيما هو مغلق مظلم!

فصدمته هذه الجملة … ولكنها أسرعت تشير بيدها إلى المكان: لست أقصد طبعًا غير هذا!

فلم يُحِرْ جوابًا، ولبث بلا حراكٍ ينظر إليها ويسأل نفسه: أتراها تُرسل الكلام بسيطًا بريئًا، أم أنها تنطلق بكلامٍ مبطَّن بمعانٍ أخرى غير المدلول الظاهر؟ إذا كان هذا الأمر الأخير فهو عجب من العُجاب! وله أن يبحث عما ترمي إليه أولًا، وعما علَّمها لغة الرموز ثانيًا.

على أنه يحسن به أن يحتاط فلا شيء منها ينمُّ بعدُ عن اتجاهٍ بعينه، وينبغي دائمًا أن يُسِيء الظن بهواجسه، فليست هذه أول مرة تختلط فيها الأشياء برأسه … إن خياله الذي اعتاد طويلًا خلْق الأشباح من الحقائق، وذهنه الذي تعمره مخلوقات بعضها يعيش في الحياة، وبعضها يعيش في الكتب، ونفسه التي تسبح في أعماقها عوالم، وتقوم بين طياتها دول، وتدول دول، وتشرق شموس وتغيب شموس، وروحه المنعزلة التي تدور في فلك لها بسُدُمها بعيدةً عن مدار الأرض. كلُّ هذا يقصيه أحيانًا عن حقائق هذه الحياة، ويضعه في موضع مَن يرى الدنيا من خلال كرة بلُّورية، تحملها يد ساحر ساخر فوق دخان البخور وغمام الأوهام!

على أنَّ هذا الساحر في حالته إنما هو هو نفسه! نعم هو الذي صنع بيده كرة البلور، هو الذي خلق من مادة ذهنه دنيا أخرى مماثِلة للأولى، هو الذي يضع كلا العالمين في كفٍّ، وإذا هو يلعب بالكرتَين لعب الحواة حتى الْتَبَسَ عليه الأمر، وما عاد يميِّز عالمَ الوهم من عالم الحقيقة! نعم … تلك كارثته الكبرى، وتلك هي النقمة التي تُصَب على كل ساحر!

•••

واسترسل في تأملاته حتى كاد ينسى وجود الفتاة، وإذا صوتها الرقيق ينبِّهه، ويُخرجه إلى منطقة الوعي: لم أتلقَّ جوابك بعدُ … أتأتي لمشاهدتي غدًا؟

– لمشاهدتك غدًا؟!

– في لعب «التنيس»، كما قلت لك!

– ما شاء ****! … ما شاء ****!

فقالت باسمة: ليس هذا جوابًا!

فقال حانقًا: أهنِّئك وأهنِّئ نفسي لهذا النجاح الباهر! لم يَكفنا العجز عن إدخالك عالم الفكر، حتى تعملي أنتِ على إخراجي إلى عالم اللعب!

فراعَه منها أنها ضحكت … نعم، ضحكت بفمها الجميل ضحكَ المسرور المرح، ومَضَت في ذلك وأكثرت، حتى كادت تضحكه، وخَشِيَ على جلال موقفه، وعلى طبيعته الجادة، وعلى سموِّ العلاقة التي بينهما، ونُبل الغاية التي يَرمي إليها، فمَلَك نفسه في الحال، وقال بشيء من الصرامة: أخبريني، كيف خطرت لك هذه الفكرة؟ وما الذي دفعك اليوم إلى مثل هذا الطلب؟ وكيف تهيَّأ لك أن تحادثيني في مثل هذه الأشياء؟ ولماذا؟

فقاطعته قائلة: السبب بسيط.

وسكتت كالمفكرة، فاستعجلها: ما هذا السبب البسيط؟

فرفعت رأسها: تلك الصفحات التي قرأتها من كتاب «تاييس» أفهمتني أن الراهب «بافنوس» هو الذي ذهب إلى الغانية في ملعبها لينتشلها … أنت أيضًا ينبغي أن تفعل ذلك … يجب أن تهبط إلى ملعبي لترتفع بي … هكذا فعل الرسل والأنبياء دائمًا! يهبطون إلى الناس، حتى يستطيعوا بعد ذلك أن يصعدوا بهم إلى السماء، ولم يحدث قطُّ غير ذلك، ولا تنتظر أن أصعد أنا إليك توًّا بغير أن تهبط أنت إليَّ، وتأخذ بيدي!

سمع منها هذا الكلام وهو لا يكاد يصدق أذنه … ولقد اشتبه عليه الأمر، وخيِّل إليه أنها سريرته التي تدوِّي بهذا الكلام وتصبُّه في أذنه … ولكن فم الفتاة يتحرك، وصوتها ينطلق جليًّا صافيًا كأنه يتدفق من ينبوع!

لقد أدهشه قول الفتاة حقيقةً، وعجب أن شفتيها اللتين لا تعرفان غير مسِّ إصبع الأحمر، يمكن أن يخرج من بينهما هذا الكلام العميق … نعم إن الرسل والأنبياء ينبغي أن يتركوا سماءهم، ويهبطوا إلى الأرض كي يصعدوا بالبشر!

هنا قوة الأنبياء والرسل، وهنا التجربة القاسية والامتحان الصارم الذي كتب عليهم أن يجوزوه. فعلى الرسول أن ينزل بين الناس، ويمرَّ بأدرانهم كما يمرُّ شعاع الشمس بدود الأرض وحشرات التراب، ويخرج من بينها وضَّاء نقيًّا لم يَعْلَقْ به من القذر شيء! ثم هو فوق ذلك يخترق بطون الأشياء وصدور الكائنات، فيملؤها صحة وقوة، ويرتفع طاهرًا كما نزل طاهرًا، بعد أن غمر الوجود بالطهر والنور!

ذلك هو النبيُّ الحق، لطيف كالضوء، خفيف كالهواء، إنه من مادة السماء، فهو دائم الاتصال بها مهما تركها. أمَّا من هبط فرسب ولم يستطع العودة إلى الأعالي فهو الرسول الكاذب، وإن الأرض لخدَّاعة، وإن جمالها لبرَّاق، وإنَّ ابتسامتها لمغرية … وإنها لتنتقم أحيانًا من أولئك الهابطين لاستنقاذ البشر من بين أحضانهم … ويلذُّ لها أن تُوقعهم في حِبالها، وتمرغهم في أوحالها، وتضحك من أجنحتهم البيضاء وقد عفَّرها التراب، ومن أرديتهم المقدسة وقد لطَّخها الطين! وتذكَّر الراهب «بافنوس» مرة أخرى، وتخيل كارثته ومأساته، وسقوطه في نهاية أمره إلى عشق «تاييس» ذلك العشق الآثم، بينما ارتفعت هي إلى طهارة الروح، وبلغت مراتب القديسات.

لقد كان «بافنوس» مؤمنًا زائغًا.

وترك الفتاة تمضي ذلك اليوم، دون أن يصغي إلى طلبها، فقد قال لها إنه لن يغادر مكانه ولا كتبه من أجل شيء. ومهما يكن من أمر حجَّتها القوية، فإنه لا يستطيع، على كل حال، أن يخرج مع فتاة، أو أن يذهب لمشاهدتها وهي تلعب «التنيس»، وإن كل صلته بها لا تعدو — ولا ينبغي أن تعدو — الغرض النبيل الذي جاءت له، وهو التحدث في شئون الفكر!

الزوج​

مرَّ يومان على زيارة الفتاة، وإذا الباب يُطرَق على «راهب الفكر»! إنه ليس موعدها، فمن الطارق؟ وأذن في الدخول، وإذا هو أمام رجل ناضج السنِّ، حَسَن السَّمت، أنيق الثياب، مشرق الوجه، لطيف الإشارة، كل شيء فيه يدعو إلى احترامه ومحبته والائتناس به، فحيَّاه وقدَّم له مقعدًا، فجلس وقال: إنك لا تعرفني، ولكني أعرفك من كتبك، منذ زمن طويل. ولست أدري ما الذي أقعدني حتى الآن عن الحضور إليك! من الأمانة أن أبادر فأقول: إن الفضل في حثِّي على القدوم يرجع إلى شخص آخر.

فنظر صاحب الدار إليه نظرة السؤال، فمضى الضيف يقول: إلى زوجتي!

فأدرك رجل الأدب من الفور … غير أنه رأى أن يتريَّث، فقال: أَلِيَّ الشرف أن تكون هي أيضًا من بين قرائي؟

فقال: أشدُّ قرَّائك تحمسًا!

فأبدى المفكِّر دهشته: كيف ذلك؟

فقال الزوج مبتسمًا: إن لهذه المسألة قصة طويلة، ولكني أكتفي الآن بالقول: إن زوجتي التي كانت تكره الكتب، قد بدأت منذ أسابيع تُقبِل على القراءة على نحوٍ أدهشني! لقد قرأت كتاب «تاييس» في ثلاث ليال!

فملك الأديب نفسه حتى لا يبدو على وجهه العجب … إن الفتاة قد كذبت عليه إذن يوم ردَّت إليه الكتاب قائلة: إنها لم تطالع منه سوى بضع صفحات! كما كذبت عليه إذ زعمت أنها ليست بعدُ سوى خطيبة … لماذا فعلت ذلك؟ ولم يسترسل في التفكير، فقد مضى الرجل يقول: وإنها تقرأ الآن كتبك كلها، وتكاد تفرغ منها، وإنها تناقشني فيها مناقشة تحرجني أحيانًا، وتسألني عنك أسئلة لا أستطيع عنها جوابًا، وأمس حينما أخبرتها أني لم أرك قطُّ، سخرت مني، ثم غضبت، ولم تبسم حتى وعدتها أن أراك وأزورك وتنشأ بيننا صلة!

فقال للزوج: إني سعيد بمعرفتك، وأودُّ لو أُلقي عليك سؤالًا: أسبق للسيدة زوجتك أن رأتني؟

فأجاب من فوره: لست أظن!

فازداد عجبه! إنها لم تخبر زوجها إذن بزيارتها له … إن مسلكها غريب! وكتم ما في نفسه، والتفت إلى الرجل، وقال: وما السر في إقبال زوجتك على القراءة أخيرًا بعد طول الإعراض؟

فقال الزوج: لست أدري، وهذا ما يوقعني في الحيرة!

فقال الأديب كالمخاطب لنفسه، وهو مطرق مفكر: نعم، هذا ما يحيرني أنا أيضًا!

ونظر الرجل إليه مستفهمًا: أنت أيضًا؟

– نعم إن الإنسان لا يحب الكتب بين يوم وليلة!

– إن زوجتي على جانب هائل من الذكاء وقوة العزيمة!

– هذا لا يكفي لتعليل الأمر.

ومرَّ برأسه عندئذٍ خاطر، فبادر يسأل الزوج: أرأيتها قرأت شيئًا آخر غير «تاييس»، وغير كتبي؟

فأجاب على الفور: لا، لم تقرأ غير ذلك، ولم تحادثني في غير ذلك!

وهنا أدرك — أو خيِّل إليه أنه أدرك — السبب الحقيقي … إنها تريد أن تنقب عن شيء، وترفع النقاب عن شيء … آه للمرأة! ينبغي أن نستثير فضولها، وأن نوقِظ حب الاستطلاع فيها، حتى نحملها على فعل العجائب! لقد فهم الآن كلَّ شيء … لقد نجح عفوًا — ومن حيث لا يتوقَّع — نجاحًا باهرًا في وضع يده على مبدأ الطريق، وفي سرعة لم تخطر له على بالٍ قد ظفر بنتائج رائعة.

كان ينبغي أن يعرف من أول الأمر، أنَّ الوسيلة الأولى للترغيب في القراءة: هي استثارة الفضول الشخصي … فإذا أردنا من *** أن يجتهد في مطالعة رسالة، فلنخبره أنَّ فيها كلامًا عن هدايا ولعب ستُهدى إليه، وأخبارًا ستدخل عليه السرور … أما القراءة المجردة التي يبتغي منها اللذة الفكرية العليا وحدها، والاستمتاع بالجمال الذهني لذاته، فهي التي دونها المصاعب، وهي التي تحتاج — في اكتساب ملكتها — إلى زمن ومران.

على أنَّ هنالك أمرًا ما زال يكتنفه الظلام؛ ما هذا الفضول الذي دفع الفتاة إلى قراءة «تاييس» كلها في ليالٍ ثلاث، وإلى مطالعة كتبه بهذا التحمُّس والنشاط؟ أتراها أرادت بعد ذلك النفوذ إلى حقيقة شخصيته هو في أعماق كتبه؟! إذا كان هذا ما رمت إليه، فما الدافع؟ ألحظت شيئًا؟ كلَّا … إنه يفترض لهذه المرأة من الذكاء ما لا يمكن أن يحوي مثله عقل أنثى!

وقطع الزوج عليه تأملاته بقوله: كان ينبغي أن أقول ساعة دخولي الآن: إن الغرض من زيارتي أيضًا هو تقديم خالص شكري، وإظهار اعترافي بالجميل … إذ لولا كتبك …

فرفع الكاتب رأسه وقال على عجلٍ: كتبي لم تصنع شيئًا … إنَّ زوجتك لها من غير شك نفس رفيعة، وإحساس دقيق، وروح نبيل!

فقال الرجل بنبرة حارة: نعم، ولكنَّ هذه النفس الرفيعة النبيلة لم تظهر لي وتُشرق لعيني وبصيرتي إلَّا أخيرًا … إلَّا يوم قرأتكَ … إنَّها يا سيدي قد انقلبت مخلوقًا آخر في خلال أسابيع. لطالما تمنَّيت أن أرى زوجتي في صورة أخرى أرفع وأسمى من هذه الصورة التافهة للفتاة الطائشة التي لا تعرف غير «الخياطة» و«السينما» و«السباق» و«التنيس» و«السيارة» و«الحلاق» و«التواليت»!

تلك الفتاة الجاهلة ذات التعليم الزائف، لا يعدو حديثها بضع عبارات فرنسية تلوكها في سماجة كلما أحرجتها الظروف! تلك الفتاة المسكينة المغرورة، التي تحسب أنها متمدنة، لأنها عرفت كيف تضع بين أناملها إصبع الأحمر … تلك الفتاة التي تعرف أن لها فمًا يجب أن يُملأ، ولا تعرف أن لها رأسًا يجب أن يُملأ أيضًا، إذا أرادت أن تجعل من نفسها شخصًا جديرًا بالاحترام … إني كدت أقنط يا سيدي من المرأة في بلادنا … ولطالما قلت لزوجتي إنها قد تظفر مني بالعطف، ولكنها لن تظفر مني أبدًا بالإجلال الواجب لها، إلا إذا عرف عقلها كيف يخاطب عقلي، وهي لن تبلغ هذه المرتبة حتى تقرأ ما أقرأ، وتتذوق من شئون الفكر ما أتذوق، وتستطيع أن تسدَّ فراغ حياتنا الطويلة بحديثها الطلي المفعم بألوان الغذاء الفكري المهضوم!

ومضى الزوج في مثل هذا القول … والمفكر يصغي إليه في ظاهر الأمر، ولكنه في الحقيقة كان يفكر في مشكلة بدت له الساعة: إن هذا الرجل لا يعرف أن زوجته قد زارت هذه القاعة مرارًا قبل اليوم … إنها لم تُخبره — وهذا شأنها — ولكنه هو … راهب الفكر! هل يجوز له أن يمضي في صمته، ولا يُفضي إلى الزوج بما حدث؟ هل يليق بمثله الكتمان؟ على أنه من جهة أخرى يخشى إذا هو أخبره أن يرتكب حماقة، ويعرض هذه الزوجة لغضب زوجها، ويضعها موضع الحرج لإخفائها الأمر! ماذا يصنع؟ أينتظر حتى يبحث الموقف معها؟

لكن … هَبْهَا سبقت فبسطت لِبَعلها اليوم ما كان من شأنها معه، ويعلم الزوج أنه لم يفاتحه والظرف مناسب والفرصة مواتية، فماذا يكون موقفه؟!

صاح في أعماق نفسه: «آه! … لماذا فعلت تلك المرأة ذلك؟ تبًّا للنساء! اللهم ألهمني مخرجًا!»

القطيعة​

ذهب الزوج، ولم يجرؤ رجل الفكر على إخباره بنبأ زوجته، ومضت الأيام، وجاء الميعاد، وحضرت السيدة فاستقبلها متجهمًا، فأدركت العلَّة وابتسمت قائلة: نعم! لقد كذبت عليك كثيرًا!

فقال لها بشيء من الجفاء: ليس يهمُّني الآن كذبك عليَّ، إنما المهم هذا الموقف الذي وضعتني فيه.

فقطَّبت جبينها: أي موقف؟

فقال: لماذا كذبتِ على زوجكِ أيضًا؟ لماذا أخفيت عنه أمر زيارتك لي؟

فضحكت ضحك الطفلة المدلَّلة المزهوة بعبثها، غير الحافلة بذنوبها: لست أدري، لقد نسيت أن أذكر لك أني — إلى جانب شغفي «بالتنيس» و«السينما» و«السباق» — أحب كذلك أحيانًا «الكذب»!

فحملق فيها دهشًا: سبحان ****! أهو أيضًا قد أصبح فرعًا من فروع اﻟ «سبور»؟!

فابتسمت وقالت: نعم … إن مهمتك في هدايتي شاقة كما ترى!

فلم يبتسم، ولم تنفرج أساريره، ولم يغادر وجهه ظل القلق القاتم، ولم يستطع أن يبرر أمام ضميره هذا الموقف الغامض، فقال مطرقًا، كالمخاطب لنفسه: وبعدُ؟ ما العمل؟

فقالت ساخرة: يا لَفداحة المصيبة! إن هذه الأكذوبة من غير شك جريمة لن تُغتفر!

– أتسخرين أيضًا؟

– أرجو المعذرة … إني أراكَ مهمومًا لغير أمرٍ يستوجب الهمَّ! كنت أحسبك مثلي، لا ترى في الحياة شيئًا يحمل على الاكتئاب!

– هنيئًا لكِ هذه النفس التي ترى الحياة خلال مضرب «التنيس»!

فقالت باسمة: إني أراها أكذوبة طريفة، وألعوبة لطيفة!

فقال وكأنه يناجي نفسه: ليس لي للأسف الحق في أن أراها كذلك … إنما هي حقيقة واقعة، وواجب محتوم، وعبء ثقيل، كُتِب عليَّ أن أحمله فوق منكبي حتى تحرج أنفاسي!

فقالت وهي تنظر إلى كتبه وورقه ومكتبه الغارق في ظلام المكان: نعم … إن حياتك حجر ملقًى على ظهرك، أُمرت أن تسير به إلى آخر المرحلة! لكن … لماذا أنت تراها كذلك؟!

فقال مفكرًا: لستُ أدري، ولقد قُلْتِها أنتِ: إني أُمرت أن أسير هكذا، وهل أملك أنا حرية النظر؟! إنك قد خُلقتِ لتعيشي حياتك، وأنا قد خُلقت لأعيش حياة فكرة، فأنا لست أرى الشمس والهواء، ولكني أرى الفكرة التي تحرِّك وجودي، كما تحرك اليدُ القفازَ.

هكذا أراد لنا القدر … ما أنتِ لديه إلا كرة من كرات «التنيس»، يقذف بها في الفضاء … فأنتِ حرة حرية هذه الكرة، أما أنا «فمضرب» في يده، مسخَّر لغايته، حبيس في كفِّه، لا يطلقني منها حتى ينتهي اللعب!

فقالت على مهلٍ، كأنها تتأمَّل عباراته: هذا صحيح … لكن؟

وعاد إلى نفسه، وذكر ما كان يشغل باله قبل ذلك، فأسرع يقول لها: لكن أخبريني أنتِ: لماذا أخفيتِ عن زوجك؟ وإلى متى تنوين المُضِيَّ في …؟

فعاد إلى شفتيها الابتسام، وقالت: ينبغي أن أريح ضميرك المعذب، وأقول لك إن أمرَ زياراتي يجب أن يظل بيننا سرًّا خفيًّا، وأنا وأنت وحدنا!

فقال لها: أتظنين أنك تريحين ضميري بهذا الكلام؟!

فنظرت إليه مليًّا: أتراني حقيقة أرتكب خطيئة من الخطايا؟

فقال لها على الفور: بلا شك … وتريدين أن تشركيني معك فيها!

– أفي احتفاظنا بهذا السر خطيئة؟

– ليس لنا أن نخفي عن زوجك سرًّا.

فأطرقت لحظةً، ثم رفعت رأسها، وقالت كالمخاطبة لنفسها: أليس لي أن أحتفظ في مجَاهل نفسي بمنطقة لا يرتفع إليها إنسان؟ إني أشعر بشيء لست أدري مبلغ فهمك إياه! إن المرأة وحدها تفهمه … لا بدَّ للمرأة من أن تخفي شيئًا عن زوجها … قد يكون سوارًا من الذهب تشتريه خلسة، وقد تكون ذكرى من ذكريات ماضٍ عزيز … وقد تكون فكرة نبيلة أو سخيفة تؤمن بها ولا تحب أن تشرك أحدًا فيها! إن إحساسي اليوم هو من هذا القبيل … إن زياراتي لك، وأحاديثي معك، وآرائي التي أفضي بها إليك، وسويعاتي التي نتبادل فيها معًا شئون الفكر، كل هذا ينبغي أن يوضع في صندوق من صناديق الحلي، ليس له غير مفتاحين: أحدهما معي، والآخر معك.

•••

أطرق الكاتب مليًّا ولم يُحِرْ جوابًا! مهما يكن من أمرٍ فإن هذه المرأة تضعه في موقف الحرج. وقد كان يتحمَّل هذا الموقف لو لم يرَ زوجها … أما وقد رآه وعرفه، ويتوقع أن يتكرر اللقاء، وأن تنمو بينهما الصلة، فكيف يستطيع المُضِيَّ في كتمان الأمر عنه؟ على أنه من ناحية أخرى يجب أن يفهم تفكير المرأة، وأن يحترم إرادتها، وأن يُبقي لها على هذا الخيال الجميل، الذي تحب دائمًا أن تحيط به الأشياء، إذن فلا مفرَّ من السكوت، وليتجاهل الصلة التي بينهما! وما دام الزوجان سيزورانه في أوقات مختلفة، فليفترض أنهما بالنسبة إليه صديقان منفصلان.

ولكن المرأة التفتت إليه قائلة: هنالك مع ذلك أمر يَحسن أن أنبِّهك إليه.

فنظر إليها قلقًا: ما هو؟

فقالت بهدوء: سوف يدعوك بالضرورة زوجي إلى زيارتنا، أو إلى مشاهدة «التنيس» حيث يقدِّمك إليَّ، فحذارِ أن يبدو عليك …

فلم يسمع الباقي، ولم يُطِقْ صبرًا، وصاح فيها صيحة دوَّت في المكان: أيتها السيدة! لن أسمح لهذا العبث أن يمتدَّ إلى أبعد من هذا! إنك من غير شكٍّ تعبثين وتلعبين، وأنا الذي أحسن الظن بتصرفك، وأسبغ عليه كل ما أستطيع من افتراضات عالية!

فاحمرَّ وجهها، وقالت ببراءة الطفل الذي لم يفطن إلى ذنبه: ما الذي حدث مني؟ ما الذي أغضبك؟

فحدَّد إليها البصر دهشًا: عجبًا! ألا تعرفين ماذا أغضبني؟

فقالت بشيء من الوداعة والدَّلِّ: أتتهمني بالعبث واللعب؟!

فقال، وقد ترفَّق في الكلام: وماذا أسمي طلبك إليَّ أن أمثل دَورًا روائيًّا، يوم يقدِّمني إليكِ زوجكِ؟ أتظنين رجلًا جادًّا مِثلي خليقًا بأن يفعل ذلك؟ إن ما تشاهدينه في «السينما» لا ينبغي أن يؤثر في فهمك لحقائق الأشياء، ولا أن يُفسِد من تقديرك للأمور! إنكِ أيتها السيدة ما زلتِ واقعةً تحت تأثير عالمكِ التافه، وما زال أساتذتك السخفاء؛ «السينما» و«التنيس» و«السباق» هي التي تقود خطواتك في الحياة!

فنظرت إليه نظرة كلها عتاب، لا ينكر أنها أثرت في نفسه، وقالت: أهذا رأيك فيَّ حقًّا؟

فتماسك وقال: نعم، مع أسفي الشديد!

– كنت أحسبك تعتقد أن زياراتي السابقة قد استطاعت أن ترفعني إليكَ درجات.

فقال لها، بدون مداراة: لا يا سيدتي! بل إنها قد استطاعت أن تنزلني إليكِ دركات! ففتحت فمها دهشةً لصراحته وخشونته، وقد فوجئت بهما لأول مرة. ومضى يقول: ألا تصدقين؟! ألا تصدقين أنكِ تجذبينني إلى أسفل؟!

فقالت بصوتٍ أحسَّ في باطنه غبطة مستورة وارتياحًا خفيًّا: أنا إذن لي عليك تأثير.

فأسرع قائلًا: سيِّئ! لقد حاولتِ أن تعلميني «الكذب»، وأن تهبطي بي إلى ملاعب «التنيس»، وأن تُلجئيني إلى تمثيل دَور من أدوار «السينما»! كل هذا في مدى زمن قصير! أرأيت مقدار نجاحكِ؟

فضحكت ضحكًا طويلًا رقيقًا، امتزج رنينه الفضي بوميض اللآلئ المنبعث من ثغرها … ثم قالت: وأنتَ؟ ألم تنجح معي في شيء؟

– لستُ ألمح بوادر نجاح مطلقًا!

غير أنه تذكَّر فجأةً قول زوجها له: إنها قرأت «تاييس» في ثلاث ليال، وإنها عكفت على مطالعة كتبه كلها! وإن هذه القراءة، مهما يكن الباعث لها، تُعتبَر تقدمًا على كل حال، وخطوة في طريق الوصول بالنفس إلى مرتبة أسمى. وأراد أن يستوثق من هذا الأمر، فسألها في ذلك، فتغيَّر وجهها قليلًا، ثم ملكت نفسها وقالت: من أخبرك أني قرأت كلَّ هذا؟!

– زوجك!

فقالت وهي تحدُّ إليه البصر: أَوَصدَّقته؟

فلم يدرِ بماذا يجيب، غير أنه تفكَّر مليًّا في الأمر، ثم قال للجميلة بجِدٍّ قاسٍ، وعزمٍ قاطعٍ: اسمعي أيتها السيدة! لقد انجلى لي الأمر الآن؛ أنتِ، فيما يظهر لي، قد بلغت غايتك … إن زوجك يعتقد على أيِّ حالٍ أنك تغيَّرت وأنك تقرئين، فإما أنك قد خدعتِ زوجكِ، وتحايلت عليه، وأدخلت في روعه — كذبًا — هذا الاعتقاد، فهو نجاح على طريقتك. وإما أنك حقيقة قد تغيرت وتذوقت الأدب، فتلك بُغيتنا، ولم تبقَ لك من حاجة إلى زيارتي، فاسمحي لي إذن أن أحييك، وأن أشكر لك تشريفك هذا المكان، وأن أودِّعَكِ!

فنظرت المرأة إلى وجهه لحظة، ورأت الجِدَّ في ملامحه والعزم في عينه، ولحظتْ منه حركةَ انصراف عنها إلى كُتبه وورقه ومشاغله الفكرية. وشعرت كأن سماءه الباردة قد نادته إليها، وأن عالمه الصارم قد استرده إليه، فلفظت من بين شفتيها بصوتٍ كالهمس: وداعًا!

ولم تَزِدْ على تلك الكلمة شيئًا، وتناولت قفازها، وجعلت تضع أصابعها فيه على مهلٍ، ثم قالت: وأشكرك!

ومضت إلى الباب، واختفت كما يختفي الشبح، وذهبت كما يذهب الحلم.

الفراق​

مرَّت أيام على ذهاب تلك المرأة الجميلة، و«راهب الفكر» منصرف إلى أعماله المعتادة، لا يفكِّر فيها كثيرًا، ولا يأبه لأمرها؛ فقد كان يعتقد في قرارة نفسه أنها — لا محالة — عائدة إذا انقضى الأسبوع؛ شأنها في كلِّ مرة. ولكن اليوم الموعود جاء ولم تأتِ، فخامره شيء من القلق سرعان ما تبدد؛ فقد تذكر أنها كانت تتخلف أحيانًا عن الموعد المضروب … ولعلها في هذه المرة — وقد انصرفت في شبه استياء — أرادت أن تشعره بغضبها عليه فتباطأت، وأنها لن تتوانى عن المجيء في الأسبوع المقبل، ولكن الأسبوع المقبل جاء ولم تحضر.

هنا اتَّخذ تفكيره في شأنها صورة جديدة لم تبدُ له من قبلُ، فقد توالت الأيام عليه بعدئذٍ وهو يسلك سلوكًا غريبًا. ولعلَّ خادمه لَحِظ ذلك منه … فما من طَرقة على الباب لم يسأله سيده عن طارقها … وهو الذي كان لا يرفع رأسه من أعماق كتبه وورقه ولو هُدِم الباب من الطرق؛ بل إنَّ سيده جعل يصيح بين لحظة وأخرى: اذهب وافتح الباب، فقد خيِّل إليَّ أني أسمع طرقًا.

فيذهب الخادم ولا يجد أحدًا … أما جرس التليفون فقد كان يهرع إليه بنفسه، وينتزع السماعة انتزاعًا ليطرحها بعد قليلٍ خائب الأمل. ولم يعُد يقرأ بريد الصباح بتلك العناية السابقة، ولكنه كان يفرز الخطابات فرزًا سريعًا، باحثًا بعينيه المتلهفتين عن خطٍّ بعينه، ويفضُّ الرسائل على عَجَلٍ، راجيًا أن يعثر من بينها عن رسالة بالذات!

ولبث كذلك أيامًا أخرى لا يفعل شيئًا إلا انتظارها: لماذا لم تَعُدْ؟ كيف تُمضي هذه الأسابيع دون أن تأتي؟ ما الذي منعها من المجيء؟ كان لا ينفك يلقي على نفسه هذه الأسئلة وعينه لا تفارق الباب شوقًا إلى شبحها، وأذنه تترصد جرس التليفون لهفة على صوتها: أتراه قد نَسِيَ أنه هو الذي رجا منها الانصراف إلى غير عودة؟ أطلب إليها ذلك حقًّا؟ أكان جادًّا في الطلب؟ يا للعجب! أهو مجنون حتى يريد فراقها ويطلبه، ويسألها إياه؟ ولكنه فعل ذلك للأسف.

نعم … إنه يتذكَّر الآن كل شيء … لقد أفهمها أنه لا يجد مسوِّغًا لزياراتها، وتركها وانصرف إلى شأنه، وهي تنتظر منه كلمة لطيفة، إلى أن يئست فذهبت! وكان آخر ما سمعه منها همسة الوداع، تبعتها كلمة واحدة هي: «أشكرك»!

كيف يأمل الآن في عودتها بعد ذلك؟ وهيهات أن يستطيع العثور عليها اليوم … فهو لا يعرف اسمها، ولم يَحْفِلْ قطُّ أن يسألها أين تقطن؟ وهو لا يعلم اسم زوجها، ولا بد أن هذا الزوج قد ذكر له اسمه يوم جاءه زائرًا … ولكنه كعادته لا تلتقط أذنه الأسماء التي تُلفَظ، ولا تحتفظ ذاكرته بها إلا إذا توثَّقت بينه وبين أصحابها الصلة … وهو في هذه الحالة لم يكن يُقدِّر أنه سيحتاج يومًا إلى الحرص على معرفة هذه السيدة أو زوجها. إنها ذهبت إذن إلى غير رجعة … وإنه لفراق لا لقاء بعده. ولقد أضاعها في الفضاء كما تضيع الضربة الطائشة كرة «التنيس»! ألم يقل لها يومًا إنها في نظر القدر ليست إلا كرة، وإنه هو ليس إلا «مضربًا» في يده، مُسخرًا لغايته؟ ترى لماذا أراد القدر أن يطوِّح المضرب بالكرة هكذا إلى حيث لا يدري لها مقرًّا؟! أترى القدر حقًّا هو الذي أراد، أم هي حماقته؟ إنها كانت شيئًا جميلًا اعتاد أن يراه … إنها كانت عطرًا اعتاد أن يتنسَّم شذاه … إنها كانت لعبة بديعة اعتاد أن تسرِّي عنه … إنها كانت روحًا لطيفًا يملأ بيته حياة، ونورًا بهيجًا يبدد ظلام أيامه! إن زيارتها الأسبوعية كانت قد استقرت في برنامج عمله، ورسخت سويعاتها في صميم مشاعره … إنه اعتاد انتظارها، فكيف يعيش الآن بغير هذا الانتظار؟ وهذه الفكرة وحدها كانت تقطع سويداءه كأنها سكين … لم يبقَ له منها حتى حلاوة انتظارها! أستمضي به الشهور هكذا، وهو لا يستطيع حتى أنْ ينتظرها؟!

ومرَّت براهب الفكر ليالٍ مروعة لم يَنعم فيها بالنوم الهنيء؛ فقد كان طيفُها يمرُّ برأسه في الإغفاءة الأولى، وتبدو له في ثيابها التي اعتاد أن يراها في مثلها، وفي عطرها المحبوب الذي يملأ قلبه سعادة. ولقد كان يراها في أحلامه أحيانًا، وكأنها عادت تعتذر عن غيبتها الطويلة، وتخلُّفها فيما مضى من أسابيع وهي تخلع قفازها على مهلٍ، وتنظر إليه نظرة الود العميق … فيفيق من صدمة هذه الرؤيا، ويفتح عينيه، ويعلم أنه حلم … فيظل في فراشه، لا يستطيع رقادًا بعد ذلك حتى الصباح! إنه عذاب ما كان يتوقعه، وما كان له في الحساب، حتى القراءة التي كان يعتصم بها أحيانًا ما أفلحت في إنقاذه.

لقد نهض من نومه مذعورًا ذات ليلة؛ إذ خُيِّل إليه في الحلم أنها تطرق الباب، فلما رأى خيبة أمله، واستعصى عليه النوم؛ لجأ كعادته في ليالي السهاد إلى الكتب، وتخيَّر كتابًا في الفلسفة «لأبي بكر الرازي»، جعل يطالع منه هذه الصفحة من رأيه في الحب:
«إن مفارقة المحبوب أمرٌ لا بدَّ منه اضطرارًا بالموت، وإن سلم من سائر حوادث الدنيا وعوارضها المبدِّدة للشمل، المفرِّقة بين الأحبَّة. وإذا كان لا بدَّ من إساغة هذه الغصة، وتجرُّع هذه المرارة، فإن تقديمها والراحة منها أصلح من تأخيرها والانتظار لها؛ لأن ما لا بد من وقوعه متى قُدِّم أزيحت مئونة الخوف منه مدة تأخيره. وأيضًا فإن منع النفس من محبوبها قبل أن يستحكم حبُّه، ويرسخ فيها ويستولي عليها؛ أيسر وأسهل … وأيضًا فإن العشق متى انضمت إليه «الألفة» عسر النزوع عنه، والخروج منه، فإن بلية «الألفة» ليست بدون بلية العشق، بل لو قال قائل إنه أوكد وأبلغ منه لم يكن مخطئًا، ومتى قصرت مدة العشق، وطال فيه لقاء المحبوب كان أحرى ألا تخالطه وتعاونه «الألفة»! والواجب في حكم العقل من هذا الباب أيضًا المبادرة في منع النفس، وزَمِّها عن العشق قبل وقوعها فيه، وفطمها منه إذا وقعت، قبل استحكامه فيها … وهذه الحجة يُقال إنَّ «أفلاطون» الحكيم احتجَّ بها على تلميذٍ له، بُلي بحبِّ جارية، فأخلَّ بمركزه من مجلس «أفلاطون». فأمر أن يُطلب ويُؤتَى به، فلما مَثل بين يديه قال له: أخبرني يا فلان! هل تشكُّ في أنه لا بدَّ لك من مفارقة «حبيبتك» هذه يومًا ما!
قال: ما أشكُّ في ذلك!
فقال له «أفلاطون»: فاجعل تلك المرارة المتجرعة في ذلك اليوم في يومنا هذا، وأَرِحْ ما بينهما من خوف المنتظر، الباقي بحاله الذي لا بدَّ من مجيئه، وصعوبة معالجة ذلك بعد الاستحكام، وانضمام الألفة إليه!
فيقال: إن التلميذ قال «لأفلاطون»: إنَّ ما تقول أيها السيِّد الحكيم حق … لكني أجد انتظاري له سلوة بمرور الأيام عني أخف عليَّ.
فقال له «أفلاطون»: وكيف وَثِقت بسلوة الأيام ولم تَخَفْ أُلفتها؟ ولِمَ آمنت بأن تأتيك الحالة المفرقة قبل السلوة وبعد الاستحكام، فتشتد بك الغصة، وتتضاعف عليك المرارة؟
فيقال: إن هذا الرجل سجد في تلك الساعة «لأفلاطون». وشكره، ودعا له، وأثنى عليه، ولم يعاود شيئًا ممَّا كان فيه، ولم يظهر منه حزن ولا شوق … إلخ.
قرأ «راهب الفكر» ذلك ثم طوى الكتاب، وهو يقول في نفسه: آه لهؤلاء الفلاسفة الذين يحسبون أنهم بمثل هذا الكلام الجيد والمنطق السديد يحلُّون مشكلات العواطف الإنسانية! ثم تأمَّل ما قرأ منذ لحظة؛ وتذكر ما كان من أمره مع تلك الجميلة … إنه سلك معها المسلك اللائق به وبها، فلم ينبُ عن القصد من زياراتها، ولم يخرج عن الغرض النبيل الذي كان يحملها على المجيء، ولم يلفظ كلمةً ما كان ينبغي يلفظها، ولم يُبْدِ عاطفة ما كان يجب أن يظهرها!

لقد تصرَّف معها — من البداية إلى النهاية — عين التصرف الذي كان يصدر عن الفيلسوف الإسلامي «أبي بكر الرازي»، وعن الفيلسوف اليوناني «أفلاطون»، لو أنهما كانا في مكانه، ولقد خشيَ الألفة أن تستحكم، والجِد أن ينقلب عبثًا؛ فقطع الصِّلة من الفور! وها هي ذي النتيجة واضحة صارخة! أتراه لم يكن يدرك حقيقة مشاعره نحوها، من أول الأمر؟! أم أنه يدرك بعض الإدراك، ولكنه حسب الأمر أقل خطرًا من أن يشغل باله أو يقتضيه البتُّ السريع … وإذا كانت العاطفة لم تظهر جلية إلا بعد أن أدى واجبه وقطع الصلة وأغلق الباب، فما ذنبه عندئذٍ، وما جريرته؟ وما المطلوب منه وقتئذٍ في نظر «الرازي» و«أفلاطون»؟!

لم يتلقَّ بالطبع جوابًا عن هذه الأسئلة، ولم يكن في حاجة إلى جوابٍ، بل كان في حاجة إلى ما يخفِّف عنه ما به؛ فهو، من غير شكٍّ، قد قام بما أوصى به الفلاسفة … ولكن الفلاسفة، رقدوا في بطون كتبهم، متدثرين في صحائف منطقهم البارع، وتركوه ساهرًا يدمي جفنه الأرق، ويحرق قلبه الشجن!

السُّهاد​

انصرمت أسابيع أخرى، لياليها بيض من السهاد، وأيامها سود من القنوط … وهو على حاله ما تغير … فهو لم يستطع أن ينساها على الرغم مما بذله من جهودٍ، وما فرضه على نفسه من إرادة، وما تشبَّث به من عنادٍ. فكل شيء حوله كان يذكِّره بها؛ فهذا الباب الذي كانت تدخل منه، وهذا المقعد الذي كانت تجلس عليه، وهذه النافذة التي كانت تلتمس منها ضوء الشمس، وهذه الخزانة التي كانت تتأمل كتبها المرصوصة، وهذا المكتب الذي كانت تنظر إلى ورقه المبعثَر؛ بل إن الجدران كانت تذكِّره بصدى ضحكاتها الرقيقة وأحاديثها وأكاذيبها … وحواره معها؛ ذلك الحوار الذي لم يكن يأخذه على سبيل الجِد.

ولم يكن يدري أنه سيضطر يومًا إلى الحرص على ذكراه، والاعتزاز بكلِّ كلمة كلماته، والتعلق بكل نبرة من نبراته … إن حديثه معها الذي كان حينًا تافهًا وأحيانًا باردًا، هو عنده اليوم شيء نفيس لا يُقدَّر بمال … إنه غذاؤه الذي تعيش عليه الآن روحه … إنه يخرجه من ذاكرته في كلِّ يوم بنصِّه ليحدِّث به نفسَه من جديد … إنه ليجترُّ اجترارَ البعير لغذائه القديم، وهو سائر يتضوَّر في مجال الصحراء الجرداء … بل إنه ليفرغه — كل مساء — من رأسه ليتأمله كلمة كلمة؛ كمن يفرغ اللآلئ من صندوقها ليرى وهجها لؤلؤة لؤلؤة … كل هذا صنعه في تلك الأسابيع الطويلة بعد أن يَئِس اليأس كله من لقائها … على أنه أحيانًا كان يندم الندم المرَّ على ذهاب تلك الأيام، في مثل تلك الأحاديث!

آه … لو علم لخاطَبها بكلامٍ رائعٍ حقًّا، وأسال بين يديها نفسَه كلَّها، ولكنه مع ذلك لم يندم على سلوكه معها ذلك السلوك الرفيع؛ فهي امرأة متزوجة، وما كان ينبغي أن يكون بينهما أكثر مما كان! ربما هو يطمح الآن، في قرارة نفسه، إلى شيء من المودة! من المودة الحارة العميقة، يربط أحدهما بالآخر … ولكن من ذا يضمن له أن طموحه كان يقف عند هذا الحد؟ ما من شكٍّ لديه في أنه أحسن صُنعًا بإسدال الستار على هذه القصة في الوقت المناسب؛ فهو ليس الرجل الذي يحيد عن واجب الشرف، أو يصرف زوجة عن واجبها المقدس نحو زوجها … لقد قام بواجبه المحتوم، وما كان في وسع مثله أن يفعل غير ذلك.

أما الألم الذي عاناه بعدئذٍ ويعانيه، فهو شيء خَفِيٌّ لا يراه أحد، ولا يعلم به إنسان، ولا ضرر فيه للناس، ولا مساس فيه بحقوق الغير! وما دام قد سمح له بهذا الألم، فلماذا لا يسمح له أيضًا بالحب؟ بهذا الحب الخفي الذي لا يراه أحدٌ، ولا يدري به حي! واستيقظ «راهب الفكر» ذات مرة في جوف الليل، وأضاء مصباحه، وجلس إلى مكتبه، وقد وطَّن العزم على أن يستأنف حديثه مع مَن أحب … ويمضي في تلك الصلة الروحية مع طيفها … ذلك الطيف الذي يوقظه في ليله، ولا يفارقه في نهاره، فليفرِد لها صفحات يدوِّن فيها رسائل إليها … لن تطَّلع هي، ولا ريب أبدًا، عليها؛ فربما كان في ذلك تسرية عنه، وربما كان فيه أيضًا إكبار للحب بغير إنكار للواجب!

•••

ودقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهو يمسك بالقلم ليسطر إليها هذه الرسالة:

صديقتي!​

آه … لو أتيح لكِ أن تعلمي ما حدث لي بعد ذهابكِ؟ إنك تنامين الساعة مِلْءَ جفنيْك، ولن يخطر على بالكِ أن هنالك رجلًا ساهرًا من أجلك … ومَن هذا الرجل؟ هو ذلك الذي ترككِ تذهبين دون أن يبدو عليه اهتمام بحضورك وغيابك. إني ألمح الدهشة في عينيكِ لو علمتِ ذلك، ولكنك لن تعلمي أبدًا، ولا ينبغي أن تعلمي أبدًا! كل ما أطمع فيه أن أحادثك هنا طويلًا، وليس من الضروري أن تبادليني الحديث؛ فإني أعرف وقع ما أقول في نفسك، وأرى ابتسامك لما يروقكِ من القول، وتقطيبك لما يسوءك منه، فأنت حاضرة أمامي مُتتبِّعة لكلامي بوجهك، وأهدابك، ونظراتك، وشعرك، وثغرك!
سأحدثك كثيرًا عن كل ما يجول بنفسي من أشياء، دون أن أخشى أن أثقل عليك، وهُنا فضيلة الحديث على هذا الورق الصامت، فهو يستطيع أن يخدعني على الأقل، ويوهمني بأنك لا تضيقين بي ذرعًا، وأنك تصغين إليَّ، وبك عطف عليَّ.
آه … ما الذي يجعلني أذكر «العطف اليوم»؟ تلك كلمة لم ألفظها منذ زمن طويل … إن حياتي في الحق لأقتم مما كنت أتصور … نحن أهل الفكر نسير دائمًا في صحراء محرقة؛ فلا نفطن إلى مشقة الطريق إلَّا يوم تصادفنا واحة خضراء، فنجلس في الظلِّ ساعةً، وقد تبدَّت لنا قسوة الحياة علينا، وتساءلنا: كيف احتملنا كلَّ ذلك حتى الآن؟ ثم لا يلبث أن يدعونا واجبنا إلى المسير، فننتزع أنفسنا انتزاعًا؛ لنقذف بها في ذلك الجحيم من جديدٍ! كوني أيتها الصديقة لي عزاءً … وليكن طيفكِ لي رفيقًا يمشي إلى جانبي … إني في حاجة إلى مجرد طيفك، لأن طريقي موحش حقًّا … إنه ليس الصحراء كما قلت لك الساعة، فالصحراء فيها على الأقل متعة السكون! وإن النفس لتصفو في إصغائها إلى السكون، ولكني أسير في عالمٍ يضجُّ بالسفالة والقبح، وأسبح في بحرٍ يصطخب بالحقارة والسخف! إني لأثور على نفسي أحيانًا وأقول: لماذا لا أترك كلَّ هذا وأعيش كما يعيش الآخرون؟ ولكني لا أستطيع، لأني أريد أن أحلم بأشياء جميلة، ولا بدَّ دون ذلك من الثمن، وهو تحمُّل سخرية الناس بنا على الأقل … ثقي أيتها الصديقة بأني لا أجني أحيانًا غير ذمِّ الناس؛ كأني قد ارتكبت جرمًا لا يُغتفَر … لعلَّك قد قرأتِ كثيرًا مما يُكتَب عني في الصحف، ورأيت أي صورة يصنعونها لي من حين إلى حين … لقد كان ذلك يؤلمني في أول الأمر، ولكني لم ألبث أن اعتدت ذلك، ثم انتهيت إلى الاعتقاد بأن هذا هو ما يجب أن يكون، فما ينبغي أن يُحسَن الظنُّ بالناس أكثر مما ينبغي! إنهم كذلك دائمًا، وكانوا هكذا في كل زمان غير قديرين على أن يصوِّروا الأشياء إلا على صورتهم، وها أنا ذا اليوم كلما رأيت صورة لي، أو وصفًا في صحيفة من الصحف ابتسمت قائلًا: تلك هي الصورة التي لا يستطيعون أن يصنعوا غيرها، أو يروا سواها.
آه … إننا لفي حربٍ دائمة … لا من أجل فنِّنا وحده، ولا في سبيل مُثلنا العليا وحدها، ولكن مع أولئك الذين كرَّسنا حياتنا لنعطيهم شيئًا جميلًا!
لا أريد أن أطيل في هذه الرسالة الأولى؛ خشية أن تنفري! إني حريص على خيالك حرصي على حقيقتك؛ لأني لا أملك غيره، فلأضنَّ به حتى على نفسي، وأتمنى لكِ نومًا هنيئًا!»
وطرح القلم من يده، ونهض ليسلم نفسه لنومٍ لا يدري أيجيء أم لا يجيء!

رسائل إلى طيفها​

توالت بعد ذلك رسائله إليها على مدى الأيام، سائرة على هذا النحو:

صباح ١٤ فبراير سنة …​

«صديقتي!

ما أجمل هذا الصباح! السماء زرقاء زرقة لم أرَ مثلها من قبلُ! لكأنَّ الملائكة في صفاء الأطفال تلهو فرحةً، وتلوِّن بريشة مرحة صورًا «مائية» زرقتها زاهية، وخضرتها نديَّة، لكل ما تقع عليه عيني اليوم من مظاهر الطبيعة! إن هذا «الأكواريل» العلوي يملأ نفسي أنا أيضًا صفاءً سماويًّا! إني لست في كل الأحيان أبصر الألوان التي تحيط بي، أو أسمع الأصوات التي تترنَّم حولي.

كل شيء حولي الآن يتكلم ويضيء ويتحرك!

لم يبقَ عندي شكٌّ في أن خادمي قد رأى مني عجبًا؛ فصوت الكناري المحبوس في قفصه لدى الجيران لم يعد يزعجني؛ بل إني أُصغي إليه باسمًا … فنحن الآن صديقان أليفان … يفهم أحدنا الآخر … ولا أرضى أن يُغلِق خادمي النافذة بينه وبيني، حتى في ساعة عملي … فهذا العصفور — فيما يخيل إليَّ — لديه هو الآخر كلام عنك يريد أن يحدِّثني به!»

مساء ٢٥ فبراير …​

«صديقتي!

أجلس هذا المساء في شرفتي؛ لأن البدر الليلة في التمام، وفي السماء بعض غمام يوهمنا في سَيْرِه أنَّ القمر هو الذي يسير! ما لهذا القرص من النور يركض هكذا في الفضاء؟! ترينه على موعدٍ مع حبيب؟! إن القاهرة الساعة هادئة نائمة، أشرف عليها من مكاني القَصِيِّ، بيوتها متساندة متعانقة في حضن «المقطم»؛ كأنها فراخ الطير في وكر أمها؛ بعضها قد أغلق عينيه أو نوافذه، واستسلم للنعاس … والبعض ساهر، قد فتحها تلمع مضيئة في ظلام الليل! تُرى أين بيتك من بينها؟ وماذا أنت الساعة تصنعين؟ لا شك عندي أنك الآن بجوار زوجك السعيد، تحدبين عليه بتلك الرقة التي أعرفها فيك … إني لأراك دائمًا في صورة الزوجة المُثلى، ذلك الطراز من الزوجة، الذي طالما تمنيت الظفر به، ولكن الحياة ضنت به عليَّ!

ما من رجلٍ في التاريخ سعد بزوجة عظيمة إلا تخيلتها على صورتك، وأعطيتها ملامحك، وأعرتها سماتك وصفاتك! كنت أقرأ عن «كارل ماركس» عندما طُرد من بلاده؛ لأنَّ قومه وجدوا في كتاباته الاشتراكية خطرًا على كيان المجتمع! لقد أبت زوجته إلا أن تخرج معه، وتشرد كما يشرد … وأراد أهلها أن يستبقوها بينهم، وأن يجنِّبوها مصير زوجها المبهم وطريقه المدلهم، فما زادها ذلك إلا تشبُّثًا به، وبواجبها الزوجي، فتبعته إلى أرض فرنسا … فما كادا يحطان فيها حتى أُرغما على الخروج منها … فخرجا إلى «إنجلترا» … كل هذا التشريد مع شظف العيش، وحلك الأفق، ما زعزع إيمان الرجل بفكرته، ولا إيمان الزوجة بزوجها! لست أدري لماذا أرى وجهك أنت، كلما تذكرت تلك المرأة الفاضلة؟

والبارحة أَعَدْتُ قراءة حياة السياسي «دزرائيلي» ﻟ «موروا» لا لشيء إلا لأتصفح من جديدٍ صورة زوجته «ماري آن»! ليس الذي يدهشني الصفحات الأولى لتلك الحياة الزوجية؛ فالصفحات الأولى دائمًا بهيجة في كل حياة زوجية. ولقد قامت «ماري آن» بواجب الزوجة، التي تعرف كيف تجعل زوجها يعيش في فردوس من السعادة كان هذا الرجل في أشدِّ الحاجة إليه؛ فلقد كان يحسُّ أنها لا تعيش إلا من أجله، ولقد كان في لحظات يأسه، وفتور همَّته، وشعوره بمرارة الخيبة والهزيمة — وما أكثر هذه اللحظات في هؤلاء الرجال — محتاجًا أشد الحاجة إلى مَن يعزيه ويواسيه! ولقد عزَّته وواسته وآزرته بما خفَّف عنه وهوَّن عليه!

ولكن الصفحات الرائعات التي تعجبني، وتهز نفسي هي صفحاتها الأخيرة … يوم رقدت هذه الزوجة مريضة … لقد كانت تعلم — منذ سنوات — أنها مصابة بمرض قتال؛ هو سرطان المعدة … غير أنها جاهدت جهاد الأبطال في إخفاء ما بها عن زوجها؛ كيلا تسبِّب له إزعاجًا، وكانت تتحامل على نفسها، لتظهر إلى جانبه كلما اقتضت واجباتها الاجتماعية ظهورها، وقد وضعت على صدرها — كما توضع «النياشين» — «أيقونة» كبيرة داخلها صورة زوجها. ولقد تقدم بهما السنُّ والإعياء والمرض؛ حتى تعذَّر على أحدهما العناية بالآخر، فكان هذان الزوجان المتهدمان يتبادلان أحيانًا الرسائل من حجرة إلى حجرة … فكان يكتب إليها قائلًا: «إني الآن مُسْتَلْقٍ على ظهري فاعذري الخطَّ والقلم … لقد أرسلت لي الساعة أمتع وأفكه خطاب وصلني في حياتي … إن منزلنا قد غدا فيما أرى مستشفى! ولكن المستشفى معك خير عندي من قصر مع غيرك.»

وكانت هي تقول للأصدقاء: «حياتي، بفضل طيبته، لم تكن سوى لحظة سعادة مستمرة.»

وكان هو يجيب: «لقد تزوجنا منذ ثلاثين عامًا … ولم أشعر معها بلحظة ضجر.»

واشتدَّ بها المرض آخر الأمر، فلم تستطع إخفاءه، ولم تنقطع مراسلاتهما اليومية البيتية، فكان يكتب إليها: «ليس عندي ما أقوله لك سوى: إني أحبك.»

وكانت هي تكتب إليه: «يا أعز ما أملك … إني مشوقة إليك إلى حدٍّ مخيفٍ … يا لَفداحة ما أدين به إلى طيبتك وإلى حنانك الدائم.»

وقُطِع كل أمل في شفائها؛ فقد رفضت معدتها كل غذاء، ورأى الناس لأول مرة على وجه «دزرائيلي» الرزين انقلابًا مخيفًا، ينم عن فجيعته، وماتت تلك الزوجة في الخامس عشر من ديسمبر ۱۸۷۲م.

ووجدوا في أوراقها هذه الرسالة:

«زوجي العزيز … إذا غادرت هذه الحياة قبلك، فاؤمر بأن ندفن نحن الاثنين معًا في قبر واحد، والآن فليباركك **** … أيها الطيب! أيها العزيز! لقد كنت لي نعم الزوج … وداعًا يا عزيزي «ديزي»! ولا تعشْ بمفردك … إني أرجو من كل قلبي أن تجد من يكرس لك نفسه تكريس المخلصة لك.»
«ماري آن»
ولقد تأثَّر لكارثته الأصدقاء والأعداء على السواء، حتى «جلادستون» — خصمه السياسي العنيد — نَسِيَ سخيمته، وكتب إليه يقول:

«لقد تزوج كلانا في العام نفسه فيما أذكر … ولقد ظفر كلانا في خلال ثلث قرن بسعادة زوجية لا تقدَّر بثمن، وأنا الذي أعفاه القدر من الضربة التي نزلت بك أستطيع أن أفهم …»
وأكَّد له أنه يتألم حقيقة معه، ومن أجله … وقد كان مخلصًا في ذلك!

ومرَّت الأيام على «دزرائيلي» بعد ذلك شاقَّة عسيرة. ولو كانت «ماري آن» حية، لفخرت بما كانت توفره على زوجها من متاعب يضيق بها رجل؛ فإنه منذ زواجه وهو ينعم بمنزلٍ وخدمٍ على أتمِّ نظام، دون أن يشغل باله بشيء! لقد كان يقول في حسرة: «وما من أمرٍ يستلزم مشقة أو عناء، لا تستطيع هي أن تواجهه! وما من صعوبة أو مشكلة، لا تستطيع هي أن تدبِّر لها الحلول! لا أعرف امرأة في مثل دأبها على ما فيه راحتي، وسهرها على ما فيه خيري.»

وهكذا ماتت «ماري آن» وليس في مقدورها بعد الآن أن تحمي رجلها العظيم. وفَقَدَ زوجها — بموتها — بيته، ذلك المكان الدافئ، حيث يجد الروح والجسم والاستجمام، وحيث النقد ينقلب إطراء، واللوم ملاطفة وعزاء! إنه لم يعرف، بعد اليوم، عذوبة المأوى! لقد كان يقول لسائقه: إلى «البيت»! فما يلبث أن يذكر أنه لم يعد له بيت، فتتساقط العبرات من عينيه … ولولا بعض الأصدقاء الذين كانوا يسهرون عليه، ويرحمون ما آل إليه، لما أصبح أكثر من حطامٍ، ولكن مهما يكن من عناية الأصدقاء، فهل هي تغني عن حنان المرأة؟ وفي صمت الحجرة وظلام الوحدة، جلس ذلك الرجل مترصدًا للذكرى الهاربة؛ ذكرى صوتها المرح.

تلك خلاصة هاتيك الصفحات التي هزَّت نفسي من ذلك الكتاب، نقلتُ إليكِ أكثرها كي تحبي «ماري آن» كما أحببتها … ولعلك ترينها تشبهك، كما رأيتها أنا شبيهتك.»

ليلة ١٩ مارس سنة …​

«صديقتي!

هنالك امرأة أخرى أحبها كثيرًا … لأنها أيضًا على مثالك، وإن كنت لا أرى لها جمالك؛ فإن تماثيلها أو صورها المتحركة في جدران معابدها لا تنقل إلينا غير جمال فني، لا يمكن أن نرتب عليه أي صلة بجمالها الطبيعي! تلك هي «إيزيس» المصرية! لا أريد أن أتعرض للجانب الديني أو الإلهي في أسطورتها … فالذي يعنيني فيها هو جانب الزوجة … إن وفاءها لزوجها «أوزوريس» لمعجزة في نظري من معجزات القلب الإنساني! كان «أوزوريس» ملكًا على أرض مصر قبل أن يسطَّر لمصر تاريخٌ علمي، فجعل منها أمة متحضرة في زمن قليل، فاختفت منها العادات الوحشية، وانقرض آكلو لحوم البشر، واستتبَّ فيها الأمن، وحلَّت الديانات وعبادة الآلهة.

ثم شرَّع «أوزوريس» للناس القوانين، وعلَّمهم الزراعة، والحرف، وتأسيس البيوت، وتوطيد أركان مجتمع متمدن. فلما تمَّ له ذلك، بدا له أن ينشر مثل هذه الحضارة في أرض أخرى غير أرض مصر! فجعل يتغيَّب عن مصر من حين إلى حين، تاركًا زوجته «إيزيس» تحكم المملكة في غيبته، فكان حكمها هي الأخرى أصلح حكم! وسارت في كل شيء على غرار زوجها، حتى أحبهما الناس، وأحاطوهما بالتقديس، ولكن عين الشر لا تنام.

لقد كان لذلك الملك عدو لدود، هو أخوه «سيت» … كان يطمع في أن يتولى هو حكم البلاد في غيبة أخيه، فلما خاب أمله، دفعه الحقد إلى أن يدبِّر مؤامرة يتخلص بها من أخيه الملك «أوزوريس»، فانتظر حتى عاد من مملكته، ودعاه إلى وليمة فاخرة، أعدَّها احتفالًا بعودته … وكانت الملكة «إيزيس» تحذِّر زوجها دائمًا من عدوه «سيت»، ولكن الملك الذي يجهل قلبه الشر، لا يستطيع أن يعرفه في قلوب الآخرين!

وذهب «أوزوريس» إلى وليمة خصمه، فلما انتهَوا من الطعام والشراب، أحضر «سيت» صندوقًا بديع التركيب، يخلب الأنظار ببراعة فنِّه! كان قد صنعه مطابقًا لجسم أخيه الملك … فلما رأى عينيه تلمع إعجابًا بالصندوق … التفتَ إليه وإلى المدعوين — وكانوا كلهم من أعوانه المتآمرين — وقال: «من طابق الصندوق جسمه فهو له!»، فتعاقب المدعوون على الصندوق، كلٌّ بنوبته يرقد فيه، فلا يطابقه … إلى أن جاءت نوبة الملك، فنهض باسمًا، لا تخطر له الخيانة على بالٍ … ورقد في الصندوق، فهجم الحاضرون عليه وأغلقوه وصبُّوا فوقه مغلي الرصاص، فختموه، وأمر «سيت» بالصندوق، فأُلقي في النيل على مقربة من المصب، وهكذا خُتِمت حياة «أوزوريس» وهو في الثامنة والعشرين من عمره؛ كما قال قوم … ومن أعوام حكمه؛ كما قال قوم آخرون!

إلى هنا لا أجد في الأسطورة ما يهمني؛ فقد كانت تلك أسطورة أكثر الملوك في العهود الغابرة، حتى في أساطير أوروبا الحديثة نجد مثل هذا القصص … فرواية «هملت» ﻟ «شكسبير» إنما تقوم على ملكٍ تآمر عليه أخوه، واغتاله طمعًا في الملك، ولكن الأخ الخائن في «هملت» استعان بالملكة زوجة أخيه، فشاركته الجريمة، كما بادلته الغرام الآثم … لكن انظري هنا ماذا فعلت «إيزيس»؟ إنها ما كادت تعلم بما حدث، حتى جزَّت خصلة من شعرها، وارتدت ثياب الحِدَادِ، وغادرت قصرها، وتركت سلطانها ومجدها، وكل ما تملك، وانطلقت هائمة على وجهها، تبحث عن الصندوق الذي يحوي جثمان زوجها؛ فلقد كانت تعتقد أن الميت لا يظفر بالراحة إلا إذا دُفِنت جثته وفقًا لطقوس الدين!

وضربت في أرجاء الأرض أيامًا طوالًا، تسأل كلَّ عابر وعابرة عن ذلك الصندوق الجميل الموشَّى! فلم تسمع من أحدٍ أنه رآه، فلم تقنط، واستأنفت السير في بقاع الأرض تبحث وتسأل وتتوسل وتستعطف، فلم تظفر بطائلٍ. إلى أن عثرت آخر الأمر ببضعة ***** يلعبون على شاطئ النيل، أخبروها أنهم رأَوا الصندوق يُلقى عند مصب النهر، فذهبت إلى ذلك المكان تبحث وتتحرى من جديد … ولكن جهدها كان ضربًا من العبث … وساق إليها القدر أخيرًا بعض الملاحين، فذكروا لها أنهم علموا أن البحر حمل الصندوق إلى ساحل «بيلوس»! فركبت البحر إلى تلك المملكة البعيدة … وسألت هناك، فلم يدلها أحد على بُغيتها. وأمضَّها التعب وأرمضها الأسى … فجلست متهالكة عند صخرة على الشاطئ، فرأت صيادًا شيخًا سألها عن أمرها فأخبرته؛ فقال لها إن أمواج البحر قد قذفت بالصندوق إلى قلب شجيرة حناء، وإن تلك الشجيرة نمت نموًّا هائلًا عجيبًا، مخفية الصندوق في صدر جذعها الضخم، وإن ملك هذه البلاد مرَّ يومًا بتلك الشجرة فعجب لسُموقها وروعتها، وأمر بها فقُطِعت، وجعل من جذعها عمودًا يدعم به سقف قصره … فلما علمت «إيزيس» بذلك، قامت متحاملة إلى ذلك القصر … ولم تجرؤ على اقتحامه … فجلست بجواره عند نافورة ماء، وجاء العصر فخرجت الأميرات بنات الملك يتنزهن، فأبصرنها، واقتربن منها وحادثنها … فلاطفتهن، وبيدها ضفَّرت شعورهن وبأنفاسها عطرتهن … لأن أنفاسها أذكى من عبير الأزهار وأطيب.

وعادت الأميرات إلى القصر، فتعجبت أُمُّهن الملكة من ذلك الشذا المنبعث من ضفائرهن وثيابهن، فأخبرنها بأمر تلك الغريبة الجميلة الجالسة عند عين الماء. فأمرت الملكة أن تُدعى هذه الغريبة إلى القصر وتُكرم. ثم رجت منها أن تكون مرضعًا للأمير الصغير؛ وعند ذلك كشفت «إيزيس» عن حقيقتها، وقصَّت عليهم قصتها، وسألتهم أن يمنحوها ذلك العمود، فرقُّوا لها، وبادروا فشقُّوا الجذع، وأخرجوا من جوفه الصندوق، فما كادت تراه وتبصر جثة زوجها فيه، حتى انطلق عويلها من صدرها، كما ينطلق اللهب من جوف البركان، وحملت الصندوق معها، وركبت به البحر عائدة إلى مصر، وعلى أرضها فتحت الصندوق مرة أخرى لتبكي البكاء المرَّ على رفات زوجها ملك تلك الأرض … وأخفت الصندوق بما فيه إلى حين إعداد مراسيم الجنازة وطقوس الدفن … وإذا عين الشر تتفتح من جديدٍ، فقد تمكَّن «سيت» من العثور على الصندوق … ونهشه الغيظ وأكله الغضب، فأخرج الرفات من مكانها، وقطعها أربع عشرة قطعة، نثرها في طول البلاد وعرضها.

وعلمت المسكينة «إيزيس» بهذه النكبة الجديدة، فنهضت من جديدٍ تسعى في أثر زوجها، واتَّخذت قاربًا من غاب البردي، طافت به النيل تبحث في كل مكان عن بقايا الزوج المحبوب، وظلت تبحث الأعوام لا يمسُّها ضجر ولا يقعدها كلل، وكلما عثرت على قطعة من عزيزها أو عضو من أعضاء حبيبها، دفنته حيث وجدته وبنت عليه نصبًا … ولعل هذا هو السر في أن ﻟ «أوزوريس» بمصر عدَّة قبور.

هكذا فعلت «إيزيس» الزوجة! وهكذا كنت تفعلين أنت أيضًا لو أنك في مكانها، لأنكِ أيتها الصديقة العزيزة تحملين عين القلب! إني لا أشك في هذا لحظة … عين القلب الذي ينبع منه كل هذا الحب، وكل هذا الوفاء!»

مساء ۱۹ مارس …​

«صديقتي!

إني لا أنتهي من تعنيف نفسي على مسلكي معك. كيف عميتُ فلم أرَ في مجرد مجيئك إليَّ مغزًى رائعًا؟! إن الرغبة في الدنو من رجلٍ يعيش مع الكتب، هي في ذاتها فكرة جديرة بامرأة رفيعة! ليس من السهل دائمًا على كل امرأة أن تأنس إلى رجلٍ يعيش كما أعيش. ومن عجب أنه لم يبدُ عليك لحظة واحدة أنكِ ضِقْتِ ذرعًا بي، بل أنا الذي كان خاليًا من الرزانة والتؤدة، فعجَّل بقطع تلك الصلة الجميلة التي لم يكن بها خليقًا، وها أنا ذا قد حرمت نفسي — كما ترين — ذلك الحسن الوحيد الذي كان له الشجاعة أن ينفذ إلى حجرتي المغبَّرة بتراب المجلدات … ها أنا ذا قد أغلقت بيدي نافذة حياتي عن شعاعك، فلو دريت أي ظلام أحيا فيه الآن!

تصوَّري القمر قد انفصل عن الأرض فجأة في يومٍ من الأيام، وسبح في الفضاء حتى وجد كوكبًا آخر جذبه إليه، وتركنا إلى الأبد بدون نوره؟ كيف تكون الحياة على سطح أرضنا؟ إن استطعنا أن نحيا بعد ذلك، فثقي بأنها ستكون حياة بلا جمال ولا حب ولا شعر! وما قيمتها إذن مثل هذه الحياة؟ أأدركت الآن ماذا خسرت بفقدك؟!»

صباح ۲۱ مارس …​

«صديقتي!

لم يزل يدهشني إقدامك على معرفتي، وعدم تبرُّمك بحديثي، كلما قلَّبت الأمر وجدته عجيبًا حقًّا … نَدَرَ من النساء مَن تحمَّلت الحياة مع رجل يعيش مع أفكار … لذلك كان هذا الطراز النادر من النساء موضع إكبار، لقد حدَّثتك عن بعضهنَّ! ولكنِّي أحبُّ أن أحدِّثك عن واحدة، تعرفينها ولا شكَّ، وتحلينها من نفسك محل القداسة!

تلك هي «خديجة» زوجة «النبي العربي»، صورتها تخطر لي دائمًا، ولا تبرح ذهني كلما فكرت في الزوجة المُثلى؛ تلك التي تتخير زوجها وهو غارق في ميدان كفاحه، فتقف إلى جانبه في الهزيمة والفوز واليأس والأمل! تشد أزره، وتتلقَّى معه الضربات، وتسهد معه الليالي، وتتلطخ معه بالدماء، وتُضمد له الجروح، وتبذل له ما تملك من راحة ومال؛ حتى يصل في النهاية إلى النصر الأخير!

هكذا فعلت «خديجة»! إنها حملت على عاتقها أشياء كثيرة، حتى الحب هي التي حملته في قلبها أولًا … وقدمته إلى «محمد» فبادلها إياه وقاسمها حمله … فهو قبل أن يعرفها لم يعرف قلبه الحب … لقد كانت حياته — حتى الخامسة والعشرين — حياة الشاب الهادئ البعيد عن النساء، العاكف على عمله، يرعى الغنم في الفلاة، ويلجأ إلى التأمُّل العميق … فلم يكن للَّهو والمرأة — حتى ذلك الوقت — مكان من اهتمامه أو تفكيره … كانت العفة المطلقة هي صفته الغالبة وقتئذٍ، وكان له من الزهد والعلم والصبر والتواضع ما ميَّزه عن بقية الشبان، وما جعل قومه يسمونه «الأمين»!

ما الذي كان يشغل رأس الشاب «محمد» في تلك السن، ما دام اللهو والمرأة لا محلَّ لهما عنده؟ أتراه كان يحس في قرارة نفسه بمصيره العظيم؟ لا ريب في ذلك! لقد كان هذا دائمًا شأن أغلب أولئك الذين انتظرتهم أقدار عظام، وتملَّكتهم منذ نشأتهم مُثلٌ عليا وأحلام، عمرت كل أعوام شبابهم، وحلَّت فيها محلَّ اللهو والمرح! إن كل شاب يعيش مع شبح امرأة جميلة؛ إلا الشاب الموعود برسالة عظمى، فهو يعيش دائمًا مع شبح المجد المنتظَر!

لعلَّ هذا يفسِّر لنا بعض الشيء حياة الفتى «محمد» حتى الوقت الذي لَقِيَ فيه أول امرأة أحبَّها؛ «خديجة»! ومَن يدري لو لم تكن «خديجة» هي البادئة بالحب ما الذي كان يحدث؟ كل شيء يدل على أن الزواج لم يخطر له على بالٍ، والزوجة والمرأة آخر ما كان يفكر فيه وقتئذٍ؛ فلقد كان يسير في طريق تأمُّلاته الداخلية وأحلامه العليا؛ وكأنه لا يمشي على هذه الأرض، إلى أن لحظته «خديجة» ذات يومٍ، ولمست كتفه، فأفاق قليلًا، ورفع عينيه إليها!

لقد كان ذلك رائعًا حقًّا من امرأة مثلها، ذات شرف وثروة، أن تبدأ هي الخطوة الأولى نحو رجلٍ فقير يتيم! هي التي تقدَّم إليها أكرم رجال قريش نسبًا، وأعظمهم شرفًا، وأكثرهم مالًا … طلبوها وبذلوا الأموال فلم تلتفت إليهم، وأرسلت تابعتها «نفيسة» دسيسًا إلى الشاب «محمد» تعرض عليه يدها، وتزوجته، ورأت أيام شكِّه وقلقه وتعسه وشقائه!

رأته وهو يدخل عليها مرتعدًا من الروع الشديد قائلًا: «دثِّروني دثِّروني!»، فتدثره حادبة عليه، قائلة في قلق: «رحمة بي! خبِّرني بأمرك!»، فيقول لها: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداءً خلفي: يا محمد! يا محمد! فأنطلق هاربًا في الأرض! لقد خشيت على نفسي! إني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا! وإني لأخشى أن أكون كاهنًا! يا «خديجة»! و**** ما أبغضت — بُغْضَ هذه الأصنام — شيئًا قطُّ، ولا الكهان!»

فتقول له: «هوِّن عليك! و**** ما يخزيك **** أبدًا … إن **** لا يفعل ذلك بك أبدًا … إنك لتصِل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وإن خُلقك لكريم!»

وبهذا تسرِّي عنه … ولا تهزأ به كما هزأ به قومه الذين سبُّوه وسفَّهوه وآذَوه، وحَثَوْا على رأسه التراب! بل آمنت به وصدَّقته، يومَ لم يجد حوله أحدًا يحمل كلامه محل الجِد. ولقد جاءها يومًا يخبرها مرتاعًا أنه رأى «ملكًا» هبط عليه من السماء وكلَّمه، وسمع صوته! وليس يدري أملكٌ هو حقًّا، أم شيطان؟ فأرادت أن تقطع شكَّه بيقينٍ، فقالت له: «إذا جاءك صاحبك، هذا الذي يأتيك فأخبرني به … فلما نزل عليه «جبريل» أخبرها … فنزعت خمارها الذي تنحسر به، وقالت له: هل تراه الآن؟» فنظر محمد فلم يرَ «جبريل» … فقال: «لا!» … فصاحت فَرِحة: «اثبت وأبشر! فوالله إنه لملَك، وما هو بشيطان؛ إذ لو كان شيطانًا لما استحيا!»

وهكذا ظلَّت إلى جانبه تبدِّد شكوكه، وتؤمن برسالته … إلى ساعتها الأخيرة … ويوم علم أعداء «محمد» بقرب وفاتها، تهامسوا فرحين: «خديجة» في الموت … ولم يستطع «أبو لهب» عدو النبي الأكبر أن يكتم اغتباطه، فجعل يقول لمن معه: «أجل … عما قليل تذهب تلك التي كانت تشد أزره، وتعز شأنه!»

ولفظت «خديجة» روحها الذي كان منبع ذلك الحب! الذي استطاع، بقوته وسموه، أن يفتح قلب «محمد»، وأن يملأه كل تلك الأعوام التي عاشتها. بل إن هذا الحب لم ينطفئ بموت «خديجة»، ولقد ظلَّ مكانها من قلبه قائمًا دائمًا، لم تستطع قطُّ امرأة أن تزاحمها فيه، حتى «عائشة» التي كانت أحبَّ امرأة إليه بعد ذلك … ما استطاعت أن ترتفع إلى مكان «خديجة» من نفسه، وقد غرَّها يومًا شدة حب النبي لها، فقالت له بدلالٍ: «ألست خير النساء عندك؟!» فأجابها للفور: «وخديجة؟» فقالت له: «ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك **** خيرًا منها!» … وكانت زلَّة … لم تدرك مداها إلا بما بدا على وجه محمد من غضبٍ شديدٍ … إنها لم تره قطُّ غضب منها على هذا النحو … فقد نهض تاركًا لها المكان، وهو يقول: «و**** ما أبدلني **** خيرًا منها، آمنت بي حين كذَّبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس.» وكظمت «عائشة» غيظها في صدرها وهي تهمس: «لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة»، «حقًّا … لقد صدقت … نعم … ليس في الأرض غير قليل من النساء مثل «خديجة» … إن المرأة النادرة هي هبة **** الكبرى!»

آه أيتها العزيزة! لو سألوني عنكِ، لقلت: ليس دنياي اليوم إلا أنت!»

مساء ٢٢ أبريل …​

«صديقتي!

كم من عمري أدفع ثمنًا لصورة من صورك، أجعلها في إطارٍ ثمين، وأضعها هنا فوق مكتبي، أتأملها في كل صباح، وفي كل مساء! لكن، لا … حتى لو وجدت الصورة فلن يكون لي الحق في وضعها هكذا!

كل ما أملك هو أن أضعك في قلبي … حيث لا يراك أحد، ولا يوجد سلطان ينزعك من هذا المكان … ائِذني لي في طرح القلم الآن، حتى لا أزعجك بحديثٍ طويلٍ … إني قائم إلى الشرفة، أجلس في هذا الليل الجميل صامتًا أتأملك!»

صباح ۲۳ مايو …​

«صديقتي!

أهكذا كُتِب عليَّ ألا أسمع عنكِ خبرًا؟ أما أنتِ فتعرفين من أمري، على الأقل ما يُنشر عني في الصحف! خطر لي هذا الخاطر وأنا أقرأ كل صباح الصحف والمجلات بعين فاحصة! إني أقف الآن طويلًا عند كل خبرٍ يمسُّني، أو كل كلمة تُنسب إليَّ، وأذكر أنك سوف تطَّلعين على ذلك فيملؤني الخجل!

أيتها العزيزة! سامحيني! إني ولا شك غير جدير بك! أين أنت السيدة الفاضلة، التي لا يعرف المجتمع عنها إلا الخير، مني أنا الذي تُحصى عليه كل كلمة سخيفة، وكل حركة حمقاء!

آه لو كان في مقدوري إقناعك بأن تحسِني بي الظن قليلًا! ثقي بأن هنالك فرقًا كبيرًا بين حقيقتي الباطنة، وحقيقتي الظاهرة لعامة الناس! أقسم لك إني في الباطن خير بكثيرٍ مني في الظاهر؛ لأن الباطن هو ملكي ومن صنعي، ولكن الظاهر هو ملك الناس، ومن صنع الظروف! وأنا لست ممثِّلًا، ولم أحاول يومًا التمثيل، فأصنع للناس ظاهرًا رائعًا بيدي؛ بل تركتهم هم يصنعون لي ما شاءوا من أردية، دون أن أحفل بغير حقيقتي التي أعيش معها داخل نفسي!

ثقي بأني أعيش داخل نفسي في عالمٍ نقي مرتفع قدسي، فإذا خرجتُ إلى المجتمع انطفأت تلك الأضواء من حولي، وزال عالم السحر الذي كنتُ فيه، وبدوت في ثيابٍ من السخف، لست أدري كيف أُلقيت عليَّ؟!

إني لأدهش أحيانًا لأولئك الذين أُعطوا المقدرة على خداع الناس، فيظهرون في المجتمع في مسوح القديسين … وهم في باطنهم من أفجر الماجنين … بينما أنا أبدو أحيانًا للناس هازلًا دائم الابتسامة، وفي باطني الجد، وفي طبيعتي الصرامة! إني رجل مخلص مع نفسه وكفى، وليس يعنيه بعد ذلك الباقي! كل ما يحيا في أعماق النفس يهمني، أما ما يطفو على السطح من زَبَد، وما يُعرَض على الأنظار من صدف؛ فلا شأن لي به … حتى حبي لك؛ من ذا يصدق أنه كائن حي موجود؟

آه لو علم الناس أني أحب! ما من أحدٍ في الوجود يرى ذلك الحب المضيء في قاع نفسي كاللؤلؤة! حتى ولا أنت!»

•••

هكذا لبث يكتب إليها على هذا النحو حتى دخل الصيف … وذهب إلى شاطئ البحر … ثم أقبل الخريف! وعاد إلى «القاهرة»، وهو دءوب على رسائله إلى طيفها، لا ينقطع عنها ولا يسهو. وأقبل الشتاء التالي، ومضى نحو عام على زيارتها الأولى له وهو على حاله، لا يتغير! يكتب إليها ويكدِّس الرسائل فوق الرسائل، دون أن يسمع عنها خبرًا أو يلقاها في طريق … ولقد طمع في أن يضعها القدر أمامه يومًا، بل إنه أمل في أن يراها في مصيف «الإسكندرية» أو يبصرها مصادفة في مكان، ولكن المصادفة ضنت، والقدر أبى! إنه مع ذلك كان يحس في قرارة نفسه أنه سيلقاها ذات يوم … لأن من المستحيل أن يكون كل شيء بينهما قد انتهى على هذه الصورة! ولكن ذلك شعور داخلي لا أكثر ولا أقل! وهو شعور طبيعي يخامر كل قلب يبحث عن حبيب بعيد، هي همسة الأمل الذي لا يموت، ولا يمكن أن يموت في الإنسان!

إصبع القدر​

دخل الشتاء! وشعر «راهب الفكر» بحاجة إلى الدفء وحنين إلى الشمس! إنه يخشى الشتاء؛ لأنه لا يطيق برده مع برد الوحدة! إن طيفها استطاع أن يؤنسه في الربيع والصيف والخريف، ولكن ليالي الشتاء الطويلة! آه … ليس أقسى من الفراق مع الشتاء! يا لَذكراها يوم كانت تأتي ها هنا، وتخلع معطفها، وتنزع قفازها! ثم تلقي بقبعتها، وتنثر شعرها الجميل! لا … ليس في مقدوره أن يبقى في ذلك المكان، في مثل ذلك الوقت من العام، حيث كل شيء يقطر كرذاذ المطر بمرارة الذكرى! عند ذاك خطر له أن يترك مسكنه زمنًا، ويهبط فندقًا يستطيع أن يسري فيه عن نفسه، وأن يشغل باله عن «طيفها» وقتًا.

واستصوب الفكرة، فنهض من فوره إلى حقيبته فأعدَّها! ثم انطلق إلى «حلوان»، ونزل فندق «جراند أوتيل»، وكان الجو منعشًا، والهواء جافًّا، والبرد غير قاسٍ ولا قارس، فلم يغيِّر من عادته شيئًا، وجعل يخرج في الصباح إلى أقصى المدينة؛ مخترقًا طرقاتها الخالية ومنازلها الصامتة! إن حلوان حقًّا هي مدينة السكون! كل شيء فيها هادئ، يومئ بالهدوء، وكل شيء فيها يكاد يضع سبابته على فمه؛ كيلا يبدر صوت يزعج قُطَّانها وضيوفها الآتين للراحة والاستجمام! وكانت الصحراء في خارج المدينة بُغيته؛ يجلس على حافتها الساعات؛ كأنه على حافة بحرٍ عجاج! يشاهد كيف تلعب كرة الشمس مع كثبان الرمال، كأنها حورية الماء تلعب مع الأمواج! فهي تارة ترمي على صدر الرمل شعرها الأشقر، فيصفر وجهه ويحمر، وتارة تتوارى عنه خلف الغمام الرمادي، وتتركه شاحب اللون كالخائف من ذهابها! وتارة تمزق قليلًا غلائل غمامها، وتبسم بسمات متقطعة، فتبدو كثبان الرمال كالرقطاء قد رَقشتها قطع السحب بظلِّها المتناثر! إلى أن تنتهي الطبيعة من تلك المغازلة، وتضع حدًّا لتلك المداعبة بين الضوء والظل، فينهض «راهب الفكر» عائدًا إلى الفندق! ويجلس في شرفته المطلة على الحديقة، يتناول الشاي، وهو غارق في ذلك الكرسي الضخم المريح، من الخيزران المبطَّن بالوسائد! حتى تهبط الظلال، أو يبرد الجو فينهض داخلًا بهو الفندق، أو صاعدًا إلى حجرته! وكان بمفرده دائمًا يسلِّم على من يحيِّيه من عارفيه بتحية مختصرة، لا تشجع أحدًا على مصاحبته أو إخراجه من وحدته! حتى في قاعة الطعام؛ اتَّخذ له مائدة صغيرة في أحد الأركان لا يشاركه فيها أحد!

لبث على هذا الحال يومين … وفي اليوم الثالث وقع حدث لم يكن في الحسبان! لقد عاد من نزهة الصباح، فصادف في بهو الفندق رجلًا جالسًا يطالع كتابًا! ما كادت عينه تلمحه حتى اضطرب كالقصبة، وخفق قلبه خفقة شديدة، وصعد الدم إلى وجهه، وخيِّل إليه أن مَن في البهو يسمعون دقات قلبه وضربات نبضه! وخاف أن يبدو عليه شيء، فأسرع متعثرًا إلى حجرة يخفي فيها ما ألمَّ به … يا للعجب! إنها إصبع القدر … نعم! هو الذي ترقب كثيرًا وانتظر … ولم يجد إلى ضالَّته سبيلًا … ولم يَدْرِ لها مكانًا في هذا الفضاء الواسع! ها هي ذي إصبع القدر تشير الآن إلى الطريق في صورة ذلك الرجل الجالس! إنه لم يكن قد رأى هذا الرجل غير مرة واحدة، ولكنَّ صورته كانت قد رسخت في ذهنه، وشخصه كان قد اتَّخذ له في نفسه مستقرًّا منذ زمن طويل! وكيف ينسى هذا الرجل وهو … زوجها! نعم … إنه زوجها بعينه … زوجها الذي جاء إليه في مسكنه منذ نحو عام، يحدِّثه عنها ذلك الحديث الذي لم ينسه ولن ينساه!

«زوجها هنا؟ إنها هي أيضًا هنا إذن! هي هنا؟ هي هنا؟!» ردَّد ذلك لنفسه عشرات المرات وهو في حجرته، وقد ذهب عنه الاضطراب قليلًا، وحلَّ محله الفرح، أو على الأصح شيء كالفرح ممزوج بالخوف … إنه بالطبع يتوق إلى رؤيتها … ولكن مع ذلك … يحس برهبة! إنه يريد رؤيتها … ويخاف رؤيتها! نعم! وليس يدري علة ذلك الخوف!

أتراه يخشى أن يعجز عن ضبط نفسه أمامها فتقرأ ما في وجهه … وتطَّلع على سره؛ وتتبين لساعتها أنها أمام رجل غير ذلك الذي ذهبت عنه منذ عام، وودَّعته وهو هادئ بارد، مشغول عنها وعن وجودها وذهابها بورقِه وكتبه وأفكاره وتأملاته؟! من غير شك أنها بغريزتها ستشم رائحة الرجل الجديد! إن للمرأة لغريزة تدرك بها ما يقع في نفس الرجل منها، وإن لم يجرِ بينهما كلام … بل إنها تستطيع — دون أن تنظر إليه — أن ترى بعين خفية إذا كان قد رمقها أو لم يرمقها، وأي موضع من جسمها وقع عليه بصره! إنها مثل تلك الزهرة التي تعرف بالغريزة أي نوع من الهوام يفتن بألوانها … وتدرك بالطبيعة متى أثَّر سحرها فيه فتتأهب لاستقباله والانطباق عليه؛ كما أنها تعرف عجزها عن استهواء بعض الأنواع فتتركه يمرُّ بها … ويذهب عنها؛ وكأنها عنه مشغولة لاهية! لم يكن يدير في رأسه مثل هذه الأفكار من قبل، ولكنه الآن، وهو موشك أن يلقاها وجهًا لوجه، أدرك للمرة الأولى خطر تلك الحاسة الخفية في المرأة؛ فهي التي ستمزق قناعه، وتكشف عن عواطفه، لا كما صوَّرها هو وسطرها وأقنع بها نفسه، ولكن!

على أنَّ هنالك خوفًا آخر كان يحسُّه؛ إنه يتهيَّب مجرَّد لقائها! إنَّ لها عنده الآن لَهَيْبَةً! إن البُعد والشوق والأحلام جعلت تنسج لها في نفسه — رويدًا رويدًا على مرِّ الأيام — صورة لم تَعُدْ من صور البشر! لقد نَسِيَ تفاصيل قسماتها الواقعة، ودقائق ملامحها الحقيقية! ولم يعد يذكر منها إلا جمالًا مثاليًّا، وجلالًا خلقيًّا!

إنها في نظره اليوم شيء معنوي رفيع، أكثر مما هو كائن موجود، إنها قصيدة، ولم تَعُدْ حقيقة … إنها أسطورة، وليست حياة. إنه سيقابلها الآن لا كما كان يقابلها بالأمس … بل إنه سيبدو عليه — ولا ريب — احترام لشخصها، قد تُرَاع منه وتُدهش … سيكون شأنه معها شأن مَن يقابل قديسة من القديسات وقد بُعثت حية، أو ملكة من ملكات الحكايات التي عمرت أدمغة الأطفال، منذ غابر الأجيال.

ثم هنالك أمر آخر … كيف يسلِّم عليها … وعلى أي وجه يُدار الكلام معها؟ أيتكلَّف لها ويتصنَّع، ويجعل أنه قد نسيها قليلًا، وأنها امرأة لا يحمل لها إلا ذكرى شاحبة عابرة! هذا هو الوضع المعقول في نظرها ونظر زوجها … ولكن كيف السبيل إلى ذلك! وهي التي عاشت معه بطيفها طوال الأيام والليالي … يبثُّها خواطره ونوازعه، حتى زالت بينهما الكلفة، واستحكمت الألفة!

طفق يفكِّر في كل ذلك حتى حان وقت الغداء، فتردَّد وحار؛ أينتظر في حجرته، ويطلب أن يؤتى إليه بالطعام؟ أم يتشجَّع وينزل إلى القاعة، ويتعرض لمواجهة الأمر؟! إن شوقه إلى رؤيتها في حقيقتها كان قد بلغ أيضًا مبلغًا لا تنفع عنده المقاومة، ولا تفيد الإرادة … لماذا لا يقابلها؟ إنه لحسن الحظ قد أُعْطِيَ الوقت الكافي لتدبُّر موقفه وتهدئة رُوعه؛ ففيمَ الخوف؟ وكيف كان يصنع إذن لو أنه أُخذ على غِرة، ورآها في البهو بغتةً وجهًا لوجه؟! كل ما ينبغي له الآن أن يضبط نفسه، وقد هُيئت وأعدَّت لملاقاة ما هو حادث، وأن يكون طبيعيًّا في تصرفاته على قَدْرِ الإمكان … وليترك الأمر للقدر فهو الذي يخلق الظروف التي يتحرك فيها الناس ويسكنون، ويلتقون ويفترقون! ونهض وقد صحَّ عزمه على النزول إلى القاعة، والجلوس في مكانه المعتاد إلى الخوان الصغير، كأن لم يتغير شيء في نفسه، ولا في يومه … غير أن شيئًا داخليًّا ذكَّره بالمرآة، فوقف أمامها لحظة يصلح — لأول مرة — من هندامه قبل أن يغادر الحجرة، ولم تعجبه ربطة عنقه، فحلَّها وعقدها من جديدٍ، ونظم شعره!

وأضاع في تلك الأشياء وقتًا لم ينفقه في مثلها طول حياته، ولم يسخر مع ذلك من نفسه؛ لأنه لم يكن يفكر في ذلك، بل كان يفكر فيها «هي»، وفيما ينبغي للقائها … وهبط أخيرًا إلى قاعة الطعام، واتَّخذ مجلسه فيها، وهو يجهد في التمسُّك بالهدوء، ويحاول أن يتجنَّب بأنظاره الناس، ولكن عينه، مع ذلك، كانت تبحث خفية «عنها»، وعن زوجها بين المقاعد والموائد … على أن من الغريب أنه لم يعثر لهما على أثرٍ، وانتهى الغداء ولم يَرَ أحدًا … ولم يأكل بالطبع في ذلك اليوم أكلته المعتادة، فإن قلقه النفسي أخمد شهيته … أين هما؟ أتراهما يتناولان الطعام في حجرتهما؟! هذا معقول! إذن، فلا أمل له في أن يراهما إلا في البهو أو الشرفة أو الحديقة!

وخرج يمشي وئيدًا في تلك الأمكنة بحثًا عنهما … عجبًا! أهو الآن الذي يطاردهما بعد أن كان يريد الهرب منهما؟! ولكن هكذا الإنسان! الآن وقد اختفى شبحهما امتلأ قلبه شجاعةً، ونفسه رغبةً في أن يراهما، ولو مرة واحدة أخرى! إن كل خوفه الآن هو أن يفلتا منه، ويذهبا بلا رجعة، وهو الذي لم يكن يفرح بالعثور عليهما، ولكن فيمَ اليأس؟ إنهما الساعة، ولا ريب، يستريحان بعد الغداء … ولن يخرجا من حجرتهما قبل العصر، فليَدَعْ كل شيء للمصادفة، ولِيَسِر هو في طريقه على نظامه السابق! يقرأ وقت القراءة، ويكتب وقت الكتابة، ويتنزَّه وقت التنزُّه، ويتناول الشاي في الشرفة إذا جاء العصر. وقد فعل … وجلس ذلك اليوم في مقعده الخيزراني بشرفة الفندق. وإذا هو يبصر «زوجها» في الحديقة يمشي في بعض مسالكها، مع ضابط في الجيش برتبة «البكباشي»؛ على كتفيه شارة النسر والنجمة، ولم يَرَ أحدًا آخر معهما ولا قربهما … أين «زوجته» إذن؟ من يدري؟ ربما تركها في الحجرة … أو ربما خرجت مع إحدى صديقاتها، فليس من الضروري أن يمكثا معًا طول الوقت، ولا بد أن يراها معه في فرصة من الفرص، فقد يتَّفق ألا يلتقي النزلاء من المعارف يومين أو ثلاثة، في مثل هذا الفندق الكبير … ولكن لا مناص من تلاقيهم يومًا من الأيام. وكان هو يرى الزوج من مقعده … ولكن الزوج لم يكن قد فطن إليه حتى الساعة، وقد خطر في باله — وقتئذٍ — أن يتحيَّن من الزوج التفاتة فيُظهِر نفسه له، لعلَّه يُقبِل عليه، وتتجدَّد بينهما المعرفة، وتتوثق الصلة، حتى إذا صادفها مع زوجها بعد ذلك، كان موقفه منها أدنى إلى السلامة، وأقرب إلى المألوف!

وجعل يرقب الزوج من شرفته، فأبصره يحادث صديقه الضابط حديثًا خافتًا، لا يستطيع سماعه بالضرورة! ولكن البادي من حركات يده يدلُّ على أنَّ الحديث خطير، وأنه يجهد في تهدئة صديقه وإقناعه، ولم يكن مظهر الزوج هو الذي يسترعي النظر، إنما هو منظر صاحبه الضابط … كل شيء في ذلك الضابط ينمُّ عن نفس ثائرة، ويكاد ينطق بهياجٍ عصبي مكتوم، إنه كان يمشي يهتز ويترنَّح وينفخ ويزيد؛ كأنه مرجلٌ يوشك أن ينفجر!

هذا كلُّ ما استطاع راهب الفكر أن يعرفه من مظهر الرجلَين، ولقد كانا في سنٍّ واحدة على وجه التقريب، فكلاهما في نحو الثامنة والثلاثين أو التاسعة والثلاثين، وكان من الواضح أن الرابطة بينهما أوثق من رابطة الصداقة العادية، ولبِثا في حديثهما وإشاراتهما وقتًا، ثم استدارا ليعودا إلى داخل الفندق، فلم ينتظر «راهب الفكر» حتى يبصراه … وخَشِيَ أن يشغلهما عنه ما هما فيه … وأغراه القلق بالعجلة، وحثَّه الشوق على خلق الفرصة بنفسه … فنهض سريعًا، وتصنَّع الخروج من الفندق ساعة دخولهما حتى يقابلهما بالباب، وقد تم هكذا كما أراد. ولكن الزوج وقد رآه، لم يفعل أكثر من أن حيَّاه تحية سريعة مقتضبة … ومضى مع صاحبه دون أن يقف أو يبسم أو يبدو عليه انصراف عمَّا يشغل باله وبال صاحبه الضابط من شئون.

دخلا وتركا رجل الفكر واقفًا ساهمًا لا يدري ما يصنع، وأفاق من ذهوله فلم يَرَ لنفسه مخرجًا غير الخروج من الفندق، كما أوهم أنه انتوى؛ ومشي في الطريق على غير هُدًى، وهو يقلِّب في رأسه ما حدث! إنه كان ينتظر على الأقل تحية أطول من هذه مع شيء من الاهتمام … وبضع كلمات يتبادلانها تُفسح المجالَ للقاء آخر، وتنمُّ عن حرصٍ على صِلة يُرجى لها النماء، لقد كان في تحية الزوج، على قِصَرها، معنى الاحترام، ولكن ليس فيها معنى الرغبة في إنشاء صداقة أو اتصال. ألا تراه يبالغ في مطالبة الناس بما يريد هو، وبما لم يخطر في بالهم هم؟ ما ذنب هذا الزوج المشغول الآن بشئونه، المنصرف إلى أحواله، الخالي الذهن مما يجري في رأس هذا الأديب؟! إن الإنسان ليفسِّر تصرفات الناس أحيانًا، ويضخمها أو يصغرها؛ تبعًا لعلاقتها بمشاعره وأهوائه … أما هي في ذاتها فليست ضخمة ولا ضئيلة، ولكنها متناسبة مع منطق الظروف المجردة من كل اعتبار … ووجد في هذه الفكرة تسرية عنه، فعاد إلى حجرته في الفندق وهو يوصي نفسَه بأن يأخذ الأشياء كما تقع، وأن يقبَل من الناس ما يعطون، لا ما كان ينتظر منهم! وألا يتعجَّل الأمور، ولا يصطنع الفرص ويختلق المناسبات! ونام ليلته هادئًا. وجاء اليوم التالي فلم يحدث جديد … إلى أن تناول عشاءه في قاعة الطعام، وفرغ منه؛ فخرج مارًّا ببهوِ الفندق! فما كاد يضع قدمه فيه حتى أبصر أمامه «الزوج» جالسًا بمفرده، وفي يده كتاب مفتوح، وكأنه ينظر فيه بعين، ويرقب بالعين الأخرى شخصًا ينتظر قدومه!

وضبط «راهب الفكر» نفسه هذه المرة، وتأهَّب لتأدية تحية مختصرة لا يزيد فيها عن حد اللياقة ولا ينقص ذرة … وإذا هو لدهشته يرى الزوج قد نهض لاستقباله محتفلًا به، راجيًا منه أن يتفضَّل بالجلوس معه لحظة، وكان في عينيه ونبراته حرارة الإخلاص والرغبة الصادقة، لا تكلُّف المجاملة أو مراعاة الواجب، فلم يتردد رجل الفكر! ولبَّى دعوته وهو فرِح في قرارة نفسه، وبدأ الزوج الحديث قائلًا: أخشى أن أكون قد أزعجتك؛ فأنت قد جئتَ «حلوان» ولا شكَّ للراحة … أو لتضع مؤلفًا جديدًا في هذا الهدوء! إني أخشى أيضًا أن تكون قد نسيتني، ولعلَّك رددت التحية البارحة، وتكرَّمت بقَبول دعوتي الآن، وأنت لا تذكر من أنا … فلقد تقابلنا مرة واحدة منذ عام!

فبادر الكاتب يقول بابتسامة كلها مودة: إني أذكر كل شيء كأنه بالأمس، لقد كنتَ أنت المتفضِّل بزيارتي!

فأطرق الرجل؛ كأنما يهرب من شبح ذكرى، وقال بصوتٍ خافتٍ غامض: نعم.

ثم لم يلبث أن تدارك أمره، فرفع رأسه على عَجَل قائلًا: أنزلتَ هذا الفندق منذ وقت طويل؟!

فقال رجل الفكر: منذ ثلاثة أيام!

فقال الزوج: عجبًا … وكيف لم أرك إذن إلا البارحة؟!

فلم يُجِبِ الكاتب عن هذا السؤال … بل سأله هو أيضًا: وأنتم؟ متى جئتم «حلوان»؟

وكان وضع السؤال بصيغة الجمع مقصودًا، ولكن الزوج أجاب دون أن يفطن إلى مراد الكاتب: لقد جئتُ منذ أسبوعين!

هنا أطرق «راهب الفكر» حتى لا يرى الزوج تغيُّرَ وجهه، فقد أدرك من هذه الإجابة أنَّ الزوجة لم تحضر مع زوجها … وشعر في تلك اللحظة بإحساسَين متناقضَين: أحسَّ شيئًا من القنوط، وشيئًا من الراحة في الوقت عينه؛ فهو يتحرق لرؤيتها، ولكنه لا يكره تأجيل لقائها حتى يعدَّ له نفسه الإعداد الكافي … إن هيبة لقائها كانت مشقة … فليتنفس الآن الصعداء … وحسبه اليوم أن يعرف أخبارها إلى أن يحين اليوم الموعود. والتفت إلى الزوج لعله يعرج بالحديث إلى الزوجة، منتظرًا منه أن يكون هو البادئ، ولكن الزوج كان هو الآخر مترددًا … وكأنه يرجو أن يُحرَّك لذلك أو يُدفَع إليه، وهبط عليهما صمت؛ خاف الزوج أن يطول، فبدَّده قائلًا: أتعجبك «حلوان»؟

فقال الكاتب للفور: نعم … وأنت؟

فتردَّد الزوج قليلًا، ثم قال: إني في الحقيقة جئتها لسببٍ خاص!

وتشجَّع «راهب الفكر» وسأله: أأنت هنا وحدك؟

– نعم … ولكن ابن خالي الضابط الذي رأيته معي البارحة ينزل هنا أيضًا منذ أربعة أيام … إنه مصاب بالأرق … ولم يَنَمْ ليلة واحدة منذ مجيئه … إنه ليكاد يُجَنُّ … لقد طلبت له أحد الأطباء في الليل … لا شيء أفظع من الأرق! إنه لقدير أن يُجِنَّ رجلًا، أو يدفع به إلى الانتحار.

قال ذلك في نبرة المخاطب لنفسه؛ المؤمن بما يقول، المجرِّب المعاني لما يصف … وتذكر «راهب الفكر» أرَقه السابق هو الآخر مصادقًا وهو يقول مُؤمِّنًا: نعم! … نعم!

واستأنف الزوج الكلام قائلًا، وكأنه يحدِّث نفسَه: إني في موقف يشقُّ على النفس احتماله!

وأراد الأديب أن يجذب الحديث إلى حيث يرمي، فقال: لو كانت السيدة زوجتك معك لأعانتك على احتمال كل شيء! فأطرق الرجل، وقال مغمغمًا: زوجتي؟!

فقال الكاتب بنبرة أراد أن تكون طبيعية: إني لم أزل أذكر حديثك لي عنها … وقولك لي إنها أمست تحب الكتب، وتُقبِل على القراءة!

فرفع الزوج رأسه، وقال في شبه صيحة مكتومة: إنها الآن تكتب يا سيدي!

– تكتب؟!

لفظها الكاتب في دهشة يمازجها رضًا، ولكن الزوج قال بصوتٍ بعيدٍ عن الرضا، قريب من الأسف والأسى: نعم! تكتب اعترافات!

– ماذا؟!

قالها «راهب الفكر» مستفهمًا مستغربًا، ولكن الزوج اعتدل في جلسته، وقد اتخذ وجهه صورة أخرى، فيها معانٍ مختلفة من العزم والحزن والتوسل والتجلُّد، وأنشأ يقول: إني انتظرتك هذا المساء هنا عن قصدٍ وتعمُّد؛ فإني بعد أن رأيتك البارحة، وعلمت أنك في هذا الفندق، خطر لي أن أعرض عليك ما انتويت عرضه، ولم يكن من السهل عليَّ أن أفاتحك في الأمر. ولكن ما دام الحديث قد جرَّنا إلى ما كنت أريد، فإني أسمح لنفسي أن أطلعك على أمرٍ خاص بي، قد يهمك الاطلاع عليه وقد لا يهمك! ولكني، على كل حالٍ، محتاج إلى أن تصدقني الرأي فيه! وفيما يجب أن يُتبع … ثم إذا شئت فإني أخبرك بما أنتظره منك بعد ذلك!

فلم يبدُ على «راهب الفكر» أنه فهم شيئًا كثيرًا من هذا القول، وأدرك الزوج ذلك من وجهه، فقال له: ستفهم كل شيء بعد اطِّلاعك على اعترافاتها. ومن اللغو أن أقصَّ عليك القصة وهي مسطورة بخطها في كراسة! إني لا أريد أن أثقل عليك، أو أضيع من وقتك! حسبك أن تقرأ تلك الصفحات الليلة، إذا أردت قبيل نومك، فتلمَّ بكل موقفي … حتى نستطيع في الصباح أن نتناقش في الأمر مليًّا … ألديك ما يمنع من ذلك؟

فأشار الكاتب برأسه أنه «لا يوجد مانع»، فنهض الزوج وهو يقول: «اسمح لي بدقيقة واحدة كي أحضر لك الكراسة من حجرتي!»

وانصرف مسرعًا تاركًا «راهب الفكر» في شبه ذهول … أي كراسة؟! وأي اعترافات؟! تُرى ماذا كانت تكتب هي أيضًا؟ وماذا كانت تقول؟ عجبًا! أهذا ممكن الحدوث؟ ولم لا؟! لعلها كانت تكتب إليه هو؛ كما كان يكتب إليها … لعلها كانت تملأ تلك الكراسة حديثًا مع طيفه؛ كما كان يملأ رسائله حديثًا مع طيفها، ولقد كانا يتراسلان إذن ويتكاتبان، دون أن يعلم أحدهما بما يفعل الآخر! لقد كان كل منهما يبثُّ الآخرَ على الورق حبَّه وحنانه … ويعترف بدفين عواطفه ويخفيها في طيات الصفحات! إنه إذن لم يكن يلقي في الهواء الصيحات، وما كان ينفث سدًى في جوف الليل بالآهات … كل هذا كان يبلغ قلبها على البعد، وكانت تجيب … يا لَأعجوبة **** التي تربط هكذا بين القلوب!

تدفقت هذه الخواطر، وتراقصت في رأس «راهب الفكر»، ولكنَّه تذكَّر موقف الزوج، بل ذكر موقفه هو مِن الزوج … وماذا هو قائل له وصانع معه؟

إن ذلك الزوج الحزين قد رأى أن يُطلِعه على كراسة زوجته … ولا شك في أنها قد وقعت في يده على غير إرادتها … ولا جدال في أنه يريد أن يناقشه الحساب فيما ورد فيها … ما أحرج هذا الموقف! إنه لم يخطر له على بالٍ أن يسيء إلى زوجٍ، أو يعتدي على كرامة زوجة … وكيف يدرأ عن نفسه تلك التهمة؟ وكيف يطيق أن يفقد تقدير هذا الزوج له، واحترامه إياه؟! حقًّا إن هذا الزوج المهذب لم يُبْدِ إشارة واحدة تنمُّ عن قلَّة تقدير، أو نقص احترام «الراهب الفكر» … ولكن المعول عليه ما يجول في خاطره، وما يجوس داخل نفسه … وهو ما لم تشأ كياسته أن تُظهره، وما لم يُرِد تهذيبُه أن يبديه! ما هو الطريق السويُّ في هذه الحال؟ لا شكَّ أنه الصدق … فليصارحه بالحقيقة … والحقيقة هنا بسيطة نقية، وتصرفاته كلها لا غبار عليها ولا مأخذ. فكل ما بينه وبينها من علاقة لا يعدو العاطفة الطاهرة المكتومة في صدر الورق … مهما يكن من أمرٍ فهو لا يعرف بعدُ مدى حديثها في الكراسة، ولا ما كاشفته به من مشاعرها … ولا كيف وصفت هذه العواطف! لا ريبَ عنده في أنها عواطف نبيلة رفيعة … غير أنه لا بدَّ من الاطلاع عليها، قبل أن يعرف حقيقة موقفه من الزوج! وسرعان ما تقشَّع ذلك الحرج الذي أحسَّه منذ قليلٍ؛ ولم يبقَ في نفسِه غير السعادة الفياضة، والشوق الملتهب إلى مطالعة كراستها!

وظهر الزوج عائدًا يحمل دفترًا متوسط الحجم، أحمر اللون، داخل غلافٍ حكومي قدَّمه إلى «راهب الفكر»، وهو يقول له: إني واثق بالطبع من شرفك … وأعرف أنك ستقدِّر أن ما بهذه الصفحات سرٌّ عائلي لا يجوز إفشاؤه، إذا استطعتَ أن تقرأ هذه الكراسة الليلة؛ لتعيدها إليَّ في الصباح، فإنك تُحسن صنعًا، وأكون لك شاكرًا … على كل حالٍ موعدنا في الغد … وأرجو لك نومًا هنيئًا!

وتصافح الرجلان … وافترقا.

وذهب «راهب الفكر» توًّا إلى حجرته، ودخلها حاملًا الكراسة؛ كأنه يحمل قلبه!

الكراسة الحمراء​

«… أريد أن أكتب! نعم، لا بدَّ أن أكتب كلَّ ما عندي! إن نفسي غارقة في أمواجٍ من الانفعالات، لا يكفي في تسكينها أن أُفضي ببعضها إلى صديقة … لا بد أن أتكلم لأزيح عن نفسي ما يملؤها، ويكاد يخنقها من ضيقٍ ويأسٍ، وفرحٍ وأملٍ! إن إحساسي بضرورة الكتابة شيء لم يسبق لي أن عرفته أو فهمت له معنًى، ولكنها اليوم رغبة لا تُقاوم، أحسُّها في كلِّ كياني … أريد أن أعترف بكل ما خالجني، ويخالجني من أشياء قد تكون غريبة مخيفة، لكن مِمَّ أخاف ما دمتُ لن أُطلع مخلوقًا على ما أسطر ها هنا؟!

أليس لي حتى حق الهمس بما أحسُّ بين طيَّات الورق؟ سأقصُّ كلَّ ما حدث بالصراحة والدقة … وسأقول ما أعتقد، بالحق والصدق، ولن أدافع عن نفسي، أو أحاول أن ألتمس لتصرفاتي الأعذار … فما أنا في حاجة إلى ذلك في هذه الصفحات الخاصة. لستُ كذلك أريد هنا أن أدوِّن مذكراتٍ، أو يومياتٍ مرتَّبة مؤرخة، فهذا شيء لا يعني امرأة مثلي … إنما هذه الصفحات ليست أكثر من صيحات! نعم! كلُّ ما أريده هنا هو أن أصيحَ بملْءِ فمي … أصيح بدون أن يسمعني أحد … في مثل هذا الجو الذي أعيش فيه، لا بد أن تُعطى لي هذه الحرية على الأقل! آه … يا لي من شهيدة!

هذا المساء أيضًا أتحمَّل مشهدًا جديدًا من مشاهد الاضطهاد! إنها عمتي أوفدَتها أسرتي اليوم سفيرة إليَّ لتُلقي عليَّ دروسًا في الأخلاق! كلا، إن الأمر حقًّا أصبح لا يُطاق … وإنه لمن المستحيل عليَّ معالجة هذا الموقف الذي يسوء من يومٍ إلى يومٍ … وإني لأرى الآن جليًّا أنه لو تكرر هذا المساء — مرتين أو ثلاثًا — فإني لن أحجِم عن ترك كل شيء وأهرب، أو أقدِم على عملٍ ذي خطر! فكل شيء مباح لامرأة مُهانة على النحو الذي وقع لي اليوم! إني أحس أني مقيَّدة بالسلاسل! كأني كلب! على أن الكلب له على الأقل حق النباح، أما أنا فلا أستطيع الصياح … إذ لمن أصيح؟! هل أصيح للنجوم شاكية لها بأني أختنق في السجن الذهبي، الذي أُحاط فيه بسجَّانين، لا يلقون في نفسي غير الرعب والهلع؟ إن حياتي الصغيرة لتثور، إنها لترتعد بكل قواها المكتوفة! نعم … إني لأبحث عن مَثَلي الأعلى في موضعٍ مختلفٍ كل الاختلاف عن ذلك الذي صنعوه لي صنعًا!

إن حاجتي إلى حياة حرَّة كانت دائمًا حلمي المسيطر على نفسي الناشئة، ومع ذلك فقد نشأت في أسرة كبيرة عديدة الأفراد، كلهم متفق على مضايقتي إلى أقصى ما يستطيع، وكلهم يحاول أن يبحث في مجرد نظراتي، وأن ينقب في أعماق أفكاري؛ ليرى إذا كان يجوز لي أو لا يجوز أن أتصرف هذا التصرف أو ذاك! إنهم لا يكلُّون ولا يتعبون من مراقبتي وملاحظتي … لا أريد أن أقول إنهم شريرون، ولكني أريد فقط أن أقول: إني لا أتفق معهم أبدًا في الأفكار، وإن طريقة تفكيري وفهمي للأشياء تختلف عن طريقتهم على الإطلاق! إنه لَشقاء لي ولهم! إنها لَمصيبة من تلك المصائب التي تأتي بها الحياة فلا نملك لها دفعًا، ولا نستطيع لها تعليلًا! إني لست عاقلة جدًّا! أعرف ذلك، ولكنهم هم أيضًا ليسوا إلا خلاصة حقيقية لكل تلك الفضائل السخيفة المصطلَح عليها … إن ما يسمونه «العائلة» شيء مؤثر حقًّا … وشيء طيب، ولكنه شيء «يضايق»!

اليوم كان النزاع يدور حول «المرضعة»؛ فقد قيل إنها امرأة ذات سير معوج، وقد جعلت عمتي بالطبع تسرد عليَّ الأدلة والبراهين والحكم والمواعظ! وأنا أصغي إلى نصائحها غير الجذابة في هدوئي المعتاد، ولم أحاول حتى أن أغضب أو أتجهَّم! فلقد كان «قرفي» بلغ حدًّا زهَّدني في أي رد أو كلام … ولكني اكتفيت بأن قلت لها في ابتسامة مصطنعة: إني في الوقت الحاضر لا أرى في سلوك المرضعة المعوج خطرًا على طفلتي التي لم تبلغ العامين!

آه! إني لأكاد أجنُّ في عزلتي النفسية … لا شيء يخفِّف من شدتها أو يلطِّف من وقعها! آه … الحياة … الحياة … أريد أن أذهب إلى حيث تدفعني أهوائي وتقودني رغباتي! أريد أن أحلق في فضاء المغامرة! لا أن أقعد هنا كعصفورٍ كسروا جناحه! نعم … إني عَطْشَى لأن أُصغي إلى رجل … إلى رجال يقولون لي إني جميلة! توَّاقة إلى أن أرتجف تحت لمسات أيديهم المداعبة، وأستمع إلى رجائهم المنبعث من قلوب محترقة … فأتأبَّى عليهم وأتمنَّع! أو أسلم بجنون، وأتصرف في كياني وقلبي وجسدي! أمنح نفسي، أو أسترد ما منحت! وأهب جسمي، وأرجع في الهبة! أريد أن أعرف لعب الحب … نعم، أنا أيضًا أريد أن أحب، وأن أكون محبوبة! أريد أن يداعبني ويلاعبني رجل يحبني حبَّ الجنون! ولا بأس عندي بعد ذلك من أن يكون مصيري مصير الزهرة التي تُنتزع — وقد ذبلت — من صدر الثوب الأنيق! الحب! … الحب!

آه … لَكَم أقاسي في سجني هذا من داءٍ لا وصف له ولا دواء! حقًّا، إني أعلم عن نفسي أني أصبحت لا أُطاق، بأزمات صمتي وحالات كآبتي. والواقع أنه ما من شيء حتى ولا أبرع «نكتة» تستطيع أن تُدخل على قلبي السرور، أو تنتزعني على الأقل من ذلك الحزن العصبي الذي يخيم على نفسي … أنا المرأة الشابة التي في الخامسة والعشرين، الجميلة كما يقولون … التي تعيش إلى جانب زوج ذي مركز راسخ مستقر … لا أظن من المفيد توجيه اللوم إلى آرائي … إني معترفة بأني قد أكون على خطأ … ولكن ثِقوا أنه من الخير أن أُترَك في حالتي هذه … فهي أفضل من إرغامي على الخروج منها؛ لأني إن هوجمت في معقلي الأخير هذا، فإني أخشى أن أفقد توازني، أو أن يخرج من يدي زمام الأمر!

حقًّا إنه لَجَوٌّ لا أستطيع التنفس فيه … الجو الذي أعيش فيه، يحف بي ظلم هؤلاء الناس! من الإنصاف أن أزعم قليلًا أني على حقٍّ في هربي من هذا المحيط الجاف الجامد، وأني أحسنت صُنعًا بالْتجائي إلى مخدعي، محاولةً نسيانَ تلك المناقشات الحمقاء … مُفضِّلةً الحديثَ مع نفسي في حجرتي، على الحديث مع عمتي العانس، في أمثال ما عرضت له هذا المساء! نعم إن لي من العمر خمسًا وعشرين سنة … ولكن هل كُتب عليَّ أن أضيِّع حياتي كلها في أشباه تلك اللحظات التعسة؟!

لقد مضى نحو ثلاث سنوات وأنا زوجة رجل كامل الأخلاق، لا عيب فيه، مستقيم استقامة جديرة بأن تُعطَى مثلًا لشبيبة الجيل الحديث. وإني بالضرورة لا أستطيع أن أخالط من الأصدقاء غير أولئك الذين يسمح لي زوجي بمخالطتهم، وكلهم من طرازه وعلى صورته. على أنه ليس في المقدور أن يتمَّ بيني وبين زوجي حديث دون أن تصدمنا أبسط العبارات، وترغمنا على السكوت فجأة؛ إذ نلحظ في الحال أننا في سبيل أن نضلَّ، وأن أقدامنا إنما تسعى إلى حيث تختلف طبيعة كلٍّ منا ذلك الاختلاف الواضح!

نعم! ما من موضوعٍ نستطيع طَرْقَه معًا؛ فكل شيء يجب أن تلاحظ فيه قيود الزوجية وواجبات الوفاء الزوجي! ما أشقَّ العيشَ هكذا! كلا … ليس في بيتِنا رحابة الصدر، وسماحة النفس! ما من أحدٍ هنا يفهم عاطفة ملتهبة، أو يغفر زلة، أو يتغاضى عن جنون! على النقيض: كل شيء هنا يجب أن يفوح برائحة «الشرف» و«الحياء» و«العفة» … إلخ! أي رائحة البِلَى والقِدم والعوائد العتيقة والحجرات المغلَقة! أنا التي اعتقدت أنها ستنجو بنفسها، وتُعتَق من كل هذا بالزواج؟! إني لأتساءل الآن: أي الحياتَين أَقْبَضُ للنفس وأسخف؟! لعلَّ الفرق بينهما أنه، فيما سبق، كانت لي فسحة الأمل على الأقل، ولم يكن عليَّ عبء الزوج!

آه … إني وحيدة … لَكَم كان ينبغي أن يكون بين الزوج وزوجته ذلك الحب العنيف الذي لا طعم للحياة بدونه، لا ذلك الحب الفاتر الذي لا فرق بينه وبين الصداقة الهادئة، لَكَم كنت أطمح إلى تذوق طعم السعادة في هذا الاتصال الوثيق، الذي يسمونه «الزواج»، وأعرف ذلك الشعور الذي تحسُّه الجارية المعبودة من مولاها، وأبهر إعجابًا بذلك الرفيق لحياتي، الذي جعلته المقادير من نصيبي، فأرى كياني كله قد أضاء بما انعكس عليَّ من أشعة قوته، لطالما حلمتُ وتمنيتُ أن أحب حبًّا جنونيًّا من كلِّ قلبي! حبًّا يُفقدني رشدي وصوابي! دون أن يخطر ببالي البحث عن سبب هذا التفاني العارم، أو سر ذلك السحر الذي يمكِّن ذلك الحبيب المجهول من أن يجعل مني تلك العاشقة المفتونة الممنونة!

تلك الأحلام الذهبية المشرقة التي طالما شيدتها قد انجلت وأسفرت عن ماذا؟ عن زوجٍ وضعوني تحت وصايته، زوج جاد أكثر مما ينبغي، وها هو ذا أمري قد انتهى إلى ما صرت إليه: مومياء حية! لم يزل أكثر الناس لا يفهمون ما هو «الحب»؟ وإن العواطف القوية تُعَدُّ لديهم من الأشياء الضارة الخطرة، وإنه لا يجوز لنا أن نحب إلا ذلك الزوج الذي قيَّدتنا به الظروف، حتى وإن اختلفنا معه كل الاختلاف في الطبع والمزاج، والميول! إنهم لا يريدون أن يفهموا أن هنالك أنواعًا عدَّة من الحب، وأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بغير أن يحب من أعماق كيانه.

آه! يا لها من حياة … حياة البيت! ما أبهجها حقًّا! في الصباح ماذا أصنع وقد انتهيت من زينتي؟ لا شيء غير الخروج إلى الحوانيت مع بعض الصديقات … أو إلى حديقتنا أو حديقة بعض المعارف لنلعب «التنيس» مع الصديقات. بالطبع، فإن زوجي لم يعُد يجد فراغًا لِلَّعبِ معي أو مع غيري؛ فقد أصبح رجلًا مشغولًا بعمله ككل الأزواج، بعد العام الأول من عقد القران … فإذا لم أخرج، فليس عندي غير التسكُّع الكئيب في أرجاء المنزل! أترك حجرة لأدخل أخرى، إلى أن أستقرَّ آخر الأمر قرب «الراديو»؛ لأُصغي إلى الأغاني، وأجد في آهاتها صدى أحزاني. فإذا لم أجد في الأغاني ما يطربني لجأت إلى القراءة … آه … لقد أدركت … أدركت لماذا كان زوجي يوصيني دائمًا بالكتب، إنه كان يعلم أن السأم ينتظرني، ولكنَّ القليل منها، أجد فيه ما يروي ظمأ نفسي! لقد خاب أملي في الكتب ومؤلفي الكتب!

ويأتي زوجي من عمله متعبًا فنتغدى في صمتٍ، ثم نأوي إلى حجرتنا، أو أتركه يذهب إليها وحده أحيانًا، وأجلس أنا في الصالون أطالع بعض المجلات. فإذا جاء العصر، زارنا بعض أقارب زوجي ومن بينهم ابنة عم له … فتاة سخيفة تخفي — تحت مظهرها الساذج — نفسًا خبيثة شريرة! فنجلس نتحدث في شئون فارغة، ونقصُّ حكايات تافهة مضجِرة، إلى أن يحين وقت العشاء، ثم نأخذ فيما كنا فيه من باطل الأحاديث، أو ننكبُّ على مائدة «الكونكان» أو «البيناكل»، مع بعض المعارف، إلى أن تأتي ساعة النوم فنفترق … كلٌّ إلى فراشه بعد أن نلفظ العبارة المألوفة: «تصبحون على خير …» ونأوي إلى مضاجعنا، فننام ملْءَ جفوننا نومًا طويلًا هادئًا؛ كأنه نوم الأطفال المطيعين البررة!

إني لا أغالي في شيء، تلك هي حياتي، وإني يوم وطَّنت عزمي على أن أسطِّر اعترافاتي قطعت على نفسي العهد ألا أقول غير الصدق، مهما يكن قاسيًا أو شائنًا أو مخجِلًا!

آه! إني سئمتُ! إني ضجرة … وإني لأعذِّب نفسي بمحاولتي تذكُّر لحظة سعيدة مرَّت في تلك السلسلة التي لا تنتهي من أيامي التي سلفت، ولكني الآن قد سئمت … أريد اليوم أن أتنفَّس قليلًا! وأن أتذوَّق سحر الحياة … لكن كيف؟ ومتى؟ إني لا أجرؤ على سؤال الغيب عن مصيري! خشيةَ أن يقول لي إن غدي كأمسي!

أخيرًا … يبدو لي أن السماء قد سمعت زفرات قلبي … وأنها قد أزمعت أن تقف لحظة إلى جانبي … فها هو ذا زوجي يعود اليوم من ديوانه يعلن أنه مسافر غدًا لأعمالٍ مصلحية تقتضي غيبته بضعة أسابيع. لقد مضى عليه أكثر من عام لم يتركني يومًا واحدًا! لقد تنفَّست وهو يعلن إليَّ ذلك الخبر … ولكني كتمتُ ما بي، كي لا يظهر على وجهي الفرح، واتخذت هيئة القلق والكدر، وقلت له كالوالهة: «مسافر؟ يعني ضروري من سفرك يا «محمد»؟»

فقال: «ضرورة! مأمورية مستعجلة في الأقاليم!»

فعبَّرت له عن حزني لمجرد فكرة فراقه، ولو كان ذلك ليومٍ واحدٍ … وقد حرصت على أن تبدو على وجهي مظاهر الضيق والألم!

واليوم الثلاثاء، سأتناول الغداء في منزل والدتي، حيث يجتمع بعض أفراد العائلة، حسب العادة المتَّبعة كلَّ أسبوع، ويا لها من اجتماعات ثقيلة! بل هي سخرة لا بد من تحمُّلها؛ فأقل ما فيها من مشقة وجوب الحيطة والاحتراس في كل كلمة ألفظها؛ خشية أن تُفسَّر أسوأ تفسير … لذلك أفضِّل الصمتَ المطلَق على أن أُتَّهم بالجنون والخروج على قواعد الحشمة والأدب! على أني أحيانًا أوثر أن يتهموني بأي شيء على أن أشترك في تفاهاتهم وأباطيلهم وإشاعاتهم التي يغتابون بها الناس هناك … وهل أستطيع أن أردَّ على أقاويل عمتي، وهي تحكم — برجعيتها وضيق أفقها — على تصرفات صديقتي «مرفت» زوجة «البكباشي حسني» ابن خال زوجي، الذي يعزُّه دون بقية أقاربه؟! هذه الصديقة المسكينة كل جريمتها أنها أرادت أن تعيش، وأن تتنفَّس قليلًا! وأن تحيا كمخلوقٍ حرٍّ متمدِّن … ولكنها — في نظر عمتي وأمثالها من أفراد أسرتي — امرأة ساقطة؛ أفعالها وأحوالها تشبه أفعال وأحوال العاهرات! يا لها من ألفاظ شنيعة، تكاد أذني تثور لسماعها! وغير عمتي واحدة أخرى من قريباتنا لا تنسى أن تضيف: «الحق أن كل شيء في هذه المرأة يدل على الخفة والطيش والاستهتار … حتى العطر الذي تتعطر به!»

ويمضي على هذا النحو كلُّ مَن حضر! فيتبرع بكلمة ينهش بها تلك المرأة الشقية، متخذين منها، ومن مثيلاتها مادةً للحديث والسمر! لقد كنتُ أدرك أنه ما من جدوى في الدفاع عن مثل هذه المرأة في مثل هذه الولائم! فهي طبق ضروري من أطباق المائدة! وإن لحمها ألزم للحاضرين من لحم الضأن أو الإوز، أو الديك الرومي!

لقد كنت أكتم ازدرائي لهؤلاء الناس الذين يشتهون أن يتغذَّوا «بفضائح» الآخرين … حتى الشابات من فتيات الجيل الحديث، ممن أُومِنُ أن آراءهن في ذلك مخالِفة لآراء العجائز المحافِظات، يجدن اللذة عينها في هذا «الطبق»، وهذا اللون من الطعام؛ طبق «الفضيحة» و«الإشاعة» … ما من أحدٍ يلتمس العذر لمن يغتابونهم … فيذكر ضعفهم الإنساني الذي قد يكون هو المسئول أولًا وأخيرًا … لا … فالجميع مع إدراكهم لذلك يستمرئون استغلال هذا الضعف الإنساني لملذاتهم الاجتماعية … لَعَلِّي أنا وحدي التي كانت في قرارة نفسها تلتمس الأعذار لجميع الغوايات والغلطات على هذه الأرض … تاركةً حق الحكم عليها للديَّان وحدَه … الواقع أنَّ في أسرتي — كما في أكثر الأسر — أفرادًا يحبون التظاهر بالغيرة الكاذبة على الأخلاق، ويؤثِّرون على الآخرين من الضعفاء الذين لا يجرءُون على معارضتهم، حتى وإن كانوا في حقيقة الأمر لا يشاركونهم عين الرأي … إني لعلى ثقة بأنهم في غيبتي يحكمون عليَّ أنا أيضًا أشنع الأحكام … ولكن ماذا يهم؟ فليقولوا ما شاءوا … فإني لن آكل معهم هذا اللون من الطعام؛ لأن معدتي لا تقوى على هضمه!

في الساعة الرابعة … أختي الصغرى تسألني بالتليفون عما نصنع اليوم؟ سنذهب الآن عند بنت عمنا … لنلعب قليلًا من «الكونكان» أو «البوكر» أو «البيناكل»، وفي المساء نذهب إلى سينما «…»؛ لنشاهد الفيلم الجديد «هناء الغرام»؛ فقد حجزت لنا أختنا الكبرى «بنوار»، فلا مفر من الذهاب؛ لأن إرادتها عندنا أمرٌ لا بد من طاعته! على أني في الحقيقة أحب «السينما»! وتروقني بعض الأفلام المصرية! إنها على الأقل خير لي من مجالسنا العائلية! ولكن ما الذي يدعوني إلى إضاعة هذا العصر عند بنت عمي، أُصغي إلى بقية الحلقة التي لا تنتهي من «التشنيعات»؟ أما يكفي ما سمعت في الظهر عند والدتي؟! كلا … إني أفضِّل الذهاب مع زوجي ومع زوج أختي الكبرى إلى «ميناهاوس» نتناول الشاي؛ على الاستمرار في تناول الناس بالنميمة في منزل ابنة عمي!

آه … لو كنتُ أعلم ما يخبِّئه لي القدر! لو كنت أعلم تأثير ذهابي يومئذٍ إلى «ميناهاوس» على مجرى حياتي كلها لأحجمت عن الذهاب … إني كلما فكرت في ذلك لا أتمالك عن البكاء بدموعٍ غزار! لا دموع الندم، بل دموع أذرفها على ذكريات، هي — ولا ريب — أجمل وأروع وأغرب ما مرَّ بي في الحياة!

في نحو الخامسة، كنا في طريقنا إلى «ميناهاوس»، وكان الجو لطيفًا فاخترنا مائدة في الحديقة، وأقبل علينا الخادم، فسألني زوجي عمَّا أطلب، ثُم أوصى الخادم بإحضار ما طلبنا، وأدرنا أعيننا لنجيل النظر فيما حولنا، وإذا … وإذا عينان ترنوان إليَّ من مائدة أمامي على نحوٍ هزَّ نفسي! لقد كان صاحب هاتين العينين شابًّا، بديع القسمات، منتظم الملامح، معتدل القد، تبدو عليه أناقة تنمُّ عن سلامة ذوقٍ وحُسن اختيار! فحوَّلتُ في الحال عينَي إلى جهة أخرى … ولكن، على الرغم من ذلك، فإن نظراتنا تقابلت غير مرة … وفي مدى الساعة أو الساعتين لجلوسنا كانت عينا أحدنا تبحثان عن عينَي الآخر دون علمٍ منا، ثم تتجنبانها، ثم تعودان إليهما من جديدٍ! لطالما حاولتُ عبثًا أن أُقصي نظراتي عن نظراته … لقد حدث في نفسي شيء لا يمكن تفسيره … شيء عميق غامض، يجذبني جذبًا إلى ناحيته. وبغير أن يقوم بيننا تعارفٌ شخصي، شعرتُ لفوري أني واقعة تحت تأثيره … وليس هذا بالأمر الشائع الحدوث … فإنه ليصادفنا في حياتنا النسائية رجل عابر يعترض طرقنا، فتتحاذى الأكتاف، وتتقابل النظرات … ولكنها نظرات عدم الاكتراث … ثم يمضي كلٌّ منا لشأنه … بل إنه ليحدث أحيانًا أن نعرف شخصًا بالذات فلا يخطر على بالنا قطُّ أنه سيتخذ في أنفسنا محلًّا، ولا في وجودنا مكانًا … ولكن القضاء يشاء … فإذا الحب قد أوثَقَنا بسلاسله، وإذا نحن نتساءل: كيف وقع هذا؟ ولماذا؟ … فلا نتلقَّى غير إحساسٍ يصعد من أعماق قلوبنا صائحًا: إن هذا الحب كان دائمًا موجودًا.

هذا الشاب ليس عندي بغريبٍ … بل الغريب حقًّا؛ هو هذا الاتفاق أو المصادفة أو القدر الذي وضعني أمامه اليوم وجهًا لوجه … هذا الشاب الأنيق لم يكن غير «…» الممثل الأول، في فيلم «هناء الغرام»، الذي سنشاهده هذه الليلة … ولطالما شاهدته من قبل في أفلام أخرى … ولطالما سمعت بأخباره من الصديقات، وقرأت عنه في المجلات، أعجبت به ذلك الإعجاب العام الشائع الذي يكنُّه له كثير من النساء … ولكني … ولكني، منذ هذا العصر، أحس أن رباطًا خاصًّا وثيقًا يقيدني به!

ذهبنا في المساء إلى سينما «…» ورأيت هذا الشاب على الشاشة خيالًا نابضًا، وأصغيت إلى صوته يتدفق حرارة، خيِّل إليَّ أنها تنساب في مفاصلي، وتشيع في نفسي، وتصعد إلى رأسي، فتكاد تفقدني صوابي … تُرى أهو في الحياة كما هو في الرواية؟ أتراه في الواقع يحادث من يحب من النساء بمثل هذا الحديث العذب وهذه العاطفة الملتهبة التي يحادث بها هذه الممثلة التي تشاركه التمثيل؟ أتراه حقًّا يستطيع أن يحب هكذا؛ كما يتطلَّب دوره في الفيلم أن يحب؟ أتراه ينتصر دائمًا هكذا في ميدان الحقيقة ويفوز بأمتع النساء وأصعبهن منالًا، كما يستطيع ذلك في هذه الروايات؟

ليس في عزمي — مطلقًا — أن أرمي بنفسي في أحضان هذا السيد المفضال الذي لن أراه، ولا شك، بعد اليوم أبدًا، إلا من «بنوار سينما». ولكن لا بأس مع ذلك من مجرد التأمل ومحادثة النفس! لقد قلت في نفسي: إن رجلًا، في هذا الشكل والقد والتأثير، لو عُنيَ بأن يغزو قلب امرأة، لكان من المحتمل أن تخضع هذه المرأة، وإن كانت من أحرص النساء! ترى ماذا يحدث لو أن رجلًا مثل هذا وقف في طريقي، كلَّمني بهذا الصوت الساحر؟! لو أنه أمرني بتلك اللهجة التي تمتزج فيها شبه رقة حالمة، بشبه بهيمية عارمة! إذا أمرني بتلك اللهجة الحلوة الصارمة أن أتبعه، فماذا تراني صانعة؟ إن الجواب على هذا ليس بالشيء الهيِّن، ولا بالأمر اليسير!

لقد شعرتُ تلك الليلة بأني فريسة عواطف شتى حلوة وغريبة، وما استطعت — لحظة — أن أصرف ذهني عن التفكير في هذا الرجل! لقد جثم طيفُه على مخيِّلتي … وجعلت صورته تتبعني بغير انقطاعٍ؛ ذلك أن كلَّ شيء فيه يعجبني؛ نظرته وصوته وإشارته وإيماءته! لقد جعلت أفكر، وأتصور، وأعجب لمتناقضات الحياة! كيف يسمح لرجل ثري بدين مصاب بضغط الدم، أن يرقد في سرير ممثلة شابة جميلة، باعتبار أنه خليلها، مع ما في هذا المنظر من إيذاء لشعور كل ذي فهمٍ وذوقٍ … ولا يسمح لممثل شاب جميل مثل «…» أن ينام في فراش امرأة لطيفة من نساء الأسر؟! آه … إني لأتمنى ذلك مرة! مرة واحدة؛ أن أنام بين ذراعي هذا الرجل … يا لي من خاطئة! إن مجرد هذا التفكير خطيئة! ولكن … أليس الاعتراف بالخطيئة جديرًا ببعض الغفران؟ إن إخراج هذه الخواطر من صدري، ورفعها عن كاهلي، وإلقاءها في هذه الصفحات؛ ليشعرني بإحساس مَن تخفَّف من عبء ثقيل … ولكني مع ذلك لست أعرف ما بي … ولم أستطع الرقاد تلك الليلة، ولم أكفَّ عن المشي في الحجرة، أدور فيها، وأقطعها طولًا وعرضًا … حتى صاح بي زوجي آخر الأمر: «عجبًا لكِ … ألا ترقدين؟ ما لك تدورين هكذا؟»

ما لي؟! هل في إمكاني أن أصارحه بما بي! بي يا سيدي الزوج أني لو وجدت في فراشي رجلًا مثل «…» لكنت قد رقدت منذ زمن طويل!

هنالك شيء لست أفهمه؛ لطالما شُغِفَ الرجال بالممثلات، يغدقون عليهن الإعجاب، ويغرقونهن في البذخ والترف، فلماذا نحن النساء لا نفعل كما يفعلون، فنسبغ عطفنا على الممثلين، ونحوطهم بعنايتنا وحبِّنا؟ يقولون إنها الفضيلة والأخلاق تأبى ذلك علينا! إني لأعجب لهذه الفضائل والأخلاق التي تحلل لهم ما تحرم علينا، وتغفر لهم ما لا تغفره لنا أبدًا نحن النساء الضعيفات!

•••

استيقظت هذا الصباح مبكرة لأجهِّز الحقيبة لزوجي المسافر ضحى اليوم! ثم جاء موعد السفر فودَّع أحدنا الآخر وداعًا روحيًّا طيبًا … ثم أوصاني ببعض حاجات له أقضيها في أثناء غيبته … وذهب!

وها أنا ذي أشعر بجوٍّ من الحرية يغمرني … فتأهبتُ على عَجَلٍ للخروج، وغادرت المنزل بحجة شراء بعض الحاجات من الدكاكين، ولكني بدلًا من ذلك رحت أهيم على وجهي في الشوارع … أملأ عينَي الفرحتَين بألوان المارة وأصناف المعروضات في واجهات الحوانيت … وتعقَّب خطايَ رجل وسيم، وهو يقول: «أما شِيك صحيح!» أنا مستعد أكون تحت تصرفك طول حياتي.

فأسرعت في خطواتي، وأنا أقول له: «وأنا غير مستعدة أن أضيع وقتي مع حضرتك خمس دقائق!»

وأَلْهَتْنِي أمثال هذه الحوادث والمحادثات في أثناء سَيري في الطرقات، إلى أن جاء الظهر، فقادتني قدماي — على الرغم مني — قرب سينما «…» وما استطاعت نفسي أن تقاوم تلك الرغبة الملحَّة في دخول السينما … لقد دفعني إلى ذلك دافعٌ أقوى مني! لقد كان كل أملي هو أن أعرف شيئًا عن هذا الممثل «…» الذي شغل فكري بهذا المقدار!

ولكن ها هنا مفاجأة حياتي التي لا يمكن أن تدانيها مفاجأة! كلا … بل ذلك هو العجب الذي لا يرقى إليه خيال الروائي … فمهما خصبت قريحة الروائيين فإنهم لا يستطيعون الإتيان بمثل مفاجآت الحقيقة! إنهم قلما يصوِّرون الحقيقة؛ لأن الحقيقة أحيانًا أروع خيالًا مما يتوهمون … لو أني قرأت في إحدى القصص ما أرويه مما اتفق لي، لهززت كتفي غير مصدقة ولا مكترثة!

هل أنا أحلم؟ كلا … بل هي الحقيقة … أو قل هي المصادفة، أو القدر، أو النصيب! ما وطئت قدماي عتبة السينما، حتى أبصرت الممثل «…» أمامي واقفًا بجوار شباك التذاكر … فألجمتني عاطفة قوية … أهو وجوده المفاجئ الذي سبَّب لي هذا الاضطراب؟ أعتقد ذلك؛ فلقد ملكت نفسي حتى لا أُشعره بالْتفاتي إليه … وأخرجت سريعًا من حقيبة يدي نقودًا، وحجزت محلًّا لم أُعْنَ باختياره، ولم أَدْرِ أفي حفلة «الماتنيه» هو أم «السواريه»، ثم هممت بالانصراف على عَجَلٍ … وإذا المصادفة مرة أخرى، أو هو القدر! لست أدري ماذا أسمي ذلك الذي يصرِّف أمورنا على نحوٍ مباغتٍ غير متوقع الحدوث … لقد سمعت لدهشتي صوت الممثل «…» الحلو النبرات يناديني بأدبٍ قائلًا: لا مؤاخذة يا هانم … وقعت منك حاجة!

يا لكَ من منطقي بارع أيها الشيطان! ما أمهرك في اختراع الأسباب المعقولة، والمناسبات المقبولة! لقد حدث فعلًا وأنا أخرج النقود من حقيبة يدي أن سقطت منها ورقة، مدوَّن بها الحاجات التي سألني زوجي قضاءها، فالْتقطها الممثل «…» سريعًا وناولني إياها، فرفعت عينَي نحوه فألفيته يحدجني بنظرة غريبة من عينين تلمعان ببريقٍ فجائي كله نشوة! فأحدثت هذه النظرة هزَّة في كل جسمي، فمددت يدي لآخذ الورقة، فإذا يده تلامس يدي، فشعرت بيده ترتجف؛ كأنها مسَّت سلكًا مشبَّعًا بالكهرباء، فأحسستُ في تلك اللحظة كأني ثمِلة بخمرة مجهولة لذيذة، لا تستطيع قوة في الوجود أن تخرجني عن نطاق سحرها … ومع ذلك فقد تجلَّدت، وشكرته وتحركت للانصراف، ولكنه بادر قائلًا: «إني سعيد يا سيدتي لهذه المصادفة التي سمحت بأن ألقاكِ اليوم، فلقد رأيتكِ أمس الأول مرة في حديقة «ميناهاوس»، والآن عندما أبصرتكِ مقبِلة تملَّكني فرح، لا يقاس إلى جانبه أي فرحٍ آخر مهما عظم!»

كان يقول هذا وكأنما كان يتحدث بلساني … فأنا أيضًا تملَّكني لرؤيته مثل هذا الفرح، ولكني لا أستطيع مطلقًا أن أخبره بذلك. لقد كنت أمامه صامتة، ولكني أحسُّ سعادةً، لا قِبَل لي بوصفها، وأنا أسمع هذا الاستعطاف من فمِه، وبصوته الحار المترنم.

ودار بيننا هذا الحديث.

– إني امرأة خجلة، ولست أدري كيف أجيب.

– لا يا سيدتي! إني حقيقة لست أدري من أنت … ولا ماذا تصنعين؟ ولكن الذي أريد أن أعتقده هو ألا يكون من المستحيل أن تفكري فيَّ قليلًا! إني كثير الادعاء! أليس كذلك؟

فأخذت في الضحك … وقلت له: إنه ليتَّفق لي أن أفكِّر في أناس كل فضلهم أنهم يحبسونني في سجن من السأم … أفلا أستطيع أن أفكر أحيانًا في فنان استطاع بمواهبه أن يؤثر في نفسي؟

– لا أحب يا سيدتي أن يتَّجه اهتمامك إلى الفنان وحده … إن لديَّ شيئًا آخر غير هذا … لا تنظري إليَّ فقط بوصفي ممثلًا!

– وكيف تريدَني أن أنظر إليكَ إذن؟

– لا تؤاخذيني! إني أعرف أنك ستحكمين عليَّ حكمًا سيئًا … فهذا حقًّا عمل جنوني … وليس من حقي أن أطلب إليك تصديق رجل لا تعرفينه، ولكني أرجوك أن تثقي في إخلاصي! البارحة عندما رأيتكِ في «ميناهاوس» خُيِّل إليَّ أني أرى رؤيا إلهية … لقد غمرني إحساس بأنه كان ينبغي أن يعرف أحدنا الآخر منذ زمن طويل! إني أعلم أني لا أستحق منكِ هذا العطف … فأنت جميلة يا سيدتي، ولا شكَّ في أنكِ محبوبة … ومدلَّلة من أولئك المحيطين بك، ولكني، مع ذلك، أرجو أن تنظري إليَّ بعين التسامح … وألا ترفضي رجائي!

وهنا رأيت أن الحديث قد وصل إلى مرحلة خطرة … فأنا لست مدرَّبة بعدُ التدريبَ الكافي على هذا النوع من المغازلات الجريئة، حتى أستطيع اجتياز مثل هذه الأحاديث برشاقة ولباقة، دون أن أورِّط نفسي، أو أصدم شعور غيري … ثم إنه، فضلًا عن ذلك، فإن «…» لا يغازل، ولا يداعب، ولا يمزح! فهو جاد فيما أرى! أو على الأقل يبدو لي أنه كذلك؛ فصوته يغمره الشعور الصادق، وعيناه تنطقان برجاء يائس ذليل، وشفتاه تبتسمان ضراعة واسترحامًا، وخياشيمه تضطرب رهبةً وأملًا، ونفسه التي يقدمها كأنها قربان! كل هذا وجد إلى قلبي سبيلًا سهلًا ممهدًا … لعلَّ مَن تقع في يده هذه الصفحات يومًا يتهمني بالطيش وعدم الاتزان، ولكن هل نستطيع دائمًا أن نفسِّر كلَّ شيء بالعقل الرجيح والمنطق السديد؟

فليقف عاذلي موقفي؛ ليرى تلك الكلمات، ويطلع على ما اضطرم به قلبي … ثم ليرمني بعدُ بما يشاء … إني لواثقة بأنه سوف يقف حائرًا مترددًا، قبل أن يصدر في أمري حكمًا!

وقلت أخيرًا للممثِّل «…» وأنا أهمُّ بالصعود إلى السيارة: شكرًا! … و… وداعًا!

فقال وهو ما زال محتفظًا بيدي في يده: لا يا سيدتي! لا تقولي وداعًا … بل إلى لقاء هذا المساء … سأنتظر هنا في حفلة «السواريه» … إنها لقسوة منك شديدة إذا أنت لم تحضري … كوني كريمة … إني مع ذلك — بغير أن أطالبك الآن بجواب — سأنتظرك … وسأحِل نفسي الليلة من كل موعد أو اتفاق … لا تقولي شيئًا … أرجوكِ … دعي لي على الأقل حلاوة الأمل!

في هذه اللحظة أدركت أن الحبَّ قد أمسى سيدي ومولاي … ما من أحد يستطيع أن يدرك قوة تلك الكلمات التي قالها لي! لقد هزمتني، واكتسحتني، وسيطرت عليَّ … وما إنْ جاء المساء حتى كنت قد نسيت كل شيء، حتى تلك الحاجات التي كلَّفني زوجي باقتنائها، لم يكن في رأسي غير فكرة واحدة … لقد كنت على استعدادٍ أن أدوس كل ما يعترض سبيلي إلى رغبتي، ولو كانت الإنسانية جمعاء! لقد شعرت بأني أصبحت جارية رِقًّا لقوة غريبة مسيطرة. كان يجب عليَّ أن أتخذ واحدًا من أمرَين: إما أن أنساه، وإما أن أقع في ذراعيه، وقد وطنت عزمي على اختيار الأمر الثاني! لماذا انتهى بي الأمر إلى هذا الاستسلام! إلى هذه الحمى! إلى هذه التضحية بكل كياني؟ وكيف رضيتُ أن أعرِّض نفسي لأشياء لا أجرؤ على مجرد تصورها؟ ولكن عبثًا أحاول التماس الأسباب … إني منذ ساعات قد تسلط عليَّ حبٌّ أعمى، من العبث أن أقاومه أو أكافح في سبيل الانتصار عليه! إن مجرد ذكر اسم «…» أو مرور طيفه على خاطري كافٍ لأن يُلْقِيَ في رأسي الجنون! لقد أمسى بالنسبة إليَّ رمزًا لِسِحر الحياة الذي طالما تمنيته، وجريت خلفه؛ كما نجري خلف سراب! ليس من السهل أن أجد تعليلًا قويًّا لما سيحدث لي! إني أتهم نفسي بالمسِّ من الشيطان … لقد حاولت أن أخجل من هذا الحب، وأعمل على ازدرائه … ولكن كلما اقتلعت منه شعرة نبتت شعرات … إن القلب ليتخذ مائة طريق يصل بها إلى ما يريد!

لطالما قالوا إن الحياة رواية تُمثَّل … هذا صحيح … ولعلَّ الأصح أنها فيلم سينمائي، قد صنعه القدر في معمله صنعًا … وهيَّأ لكلٍّ منا دَوره الذي لا يتعداه؛ ليعرِضنا بعد ذلك خيالات تتحرك طبقًا لسابق مشيئته، على لوحة المكان تحت أشعة الزمان.

هكذا اعتقدتُ أنَّ القدر هيَّأني لهذا المصير، ولهذا لم أستطع مقاومة تلك الرغبة التي كانت تدفعني إلى لقاء هذا الرجل الخلاب. ولكن كيف الذهاب لِلقائه في دار السينما في حفلة المساء أمام الناس؟ هنا خالجني شيء من الرهبة، ولكن لا ينبغي أن أتفكَّر ولا أن أتدبَّر … لم يعدِ الزمام بيدي، فلأسيرنَّ كما يأمرني قلبي، نحو ذلك المجهول بمفاتنه ومخاطره.

إن «الحب» إذا تراءى لنا، نحن النساء، فإنه ليهبط علينا متدثرًا في أجمل المشاعر وأروع الإحساسات، فينبت — عندئذٍ — في صدورنا إيمان! … نعم … إيمان بأن لنا رسالة … رسالة نِسوية لا تدركها إلا الأنثى! هي أن تعطي السعادة لذلك الذي عرف كيف يعطينا السعادة! هذا الإيمان الذي يمدُّني بالقوة، ويجعلني أصيح قائلة: «إني أحب … إني أحب … وما من عقلٍ أو حَزم أو منطق يحُول بيني بعد الآن وبين الهدف! لا بد لي من بلوغ مأربي … وفي سبيل أن أفوز ﺑ «…» لن أُحْجِمَ — إذا لزم الأمر — عن ارتكاب جريمة.»

آه … لو وقع ما أكتب الآن في أيدي أولئك الغيورين على التقاليد، لثاروا عليَّ، وودُّوا أن ينشبوا أظفارهم في عنقي! ذلك أنهم لن يستطيعوا أبدًا فَهم عواطفي! إن عقولهم الهادئة، ومنطقهم المطمئن ليقف مشدوهًا بليدًا أمام امرأة تعوي وتخور؛ كحيوان جائع، صارخة: إني أحب … أحب … أحب …

ولكن ماذا أعمل لأخفي غيبتي؟! وأنا التي تتبعها عيون الرقباء من كل جانب؟ حتى خدمي يتجسسون عليَّ، وعندي الدليل … ليس من العسير عليَّ أن أجد طريقة … وأنا التي تُرغَم دائمًا على الالتجاء إلى الكذب في كل يوم.

رأيت أن أتصنَّع المرض، وأزعم أنَّ صداعًا شديدًا يضطرني إلى ملازمة حجرتي، والتبكير في النوم … وعلى هذا أخبرت الخدم بأني لن أتناول العشاء، وأن في مقدورهم إذا شاءوا أن يتصرفوا في ليلتهم كما يشتهون، ولقد بادروا — بالطبع — إلى تنفيذ هذا الأمر المحبوب!

على أني فيما بعدُ لم أشغل بالي إلى هذا الحد، بأمر إخفاء سهراتي الليلية!

في نحو التاسعة والنصف كانت الأنوار كلها قد أطفئت … وخيَّم على المنزل صمتٌ عميق.

آه … ما أسعد الإنسان بالحرية! ها أنا ذي حرة أخيرًا! من الدقة أن أتحرى في نفسي، عما إذا كانت تلك اللحظات الأخيرة قد أيقظت عقلي، ونبَّهت ضميري؟ لا أظن ذلك! الأمانة تقتضيني هنا أن أعترف بصراحة، إني لا أذكر مطلقًا أني راجعت نفسي في شيء، أو أني عيرتها بالخجل من تلك الساعات المقبلة التي قد تجرُّ عليَّ في أذيالها العار!

لم يخطر على بالي هذا … لقد كان ما يشغلني أهم من ذلك؛ لقد أردت أن أستجمع كل مواهبي لأجعل نفسي جميلة.

لو أن «…» استطاع أن يراني في تلك اللحظة لشاهد منظرًا عجيبًا رائعًا؛ ذلك منظري وأنا أمام مرآتي؛ كالقطة المتنمرة، هائجة هادئة في الوقت عينه، راضية عصبية، أتهيأ وأتجهز بعناية دقيقة، ورغبة عنيفة في أن أخلب لبَّ هذا الرجل!

واخترت ثوبًا من القطيفة السوداء، أعرف أنه «يَحْبِكُ» جسمي حَبْكًا يُظهِر محاسنه، ويبدي تفاصيله. وهو مع ذلك غاية في البساطة … ولم أُرِدِ التزيُّن بسوارٍ في معصمي، ولا بخاتمٍ في إصبعي، ولا بقرطٍ في أذني، نبذت كل حلية من الحلي، ولقد أردت أن أترك لوجهي وحده ولجسمي! لي أنا وحدي كل الفضل في سلب فؤاد هذا الرجل، وتأملت نفسي مرة أخيرة في المرآة، شدَّت من عزيمتي، وقوَّت من ثقتي بنفسي، غير أني لم أنسَ مع ذلك أن أجرع كأسًا من الويسكي، الذي يُعنى زوجي بتخيُّر أجوده … فأعانتني هذه الكأس على اكتساب تلك الإرادة الثابتة، وتلك البديهة الحاضرة التي يضفيها الكحول على العقول؛ كأنه السحر … ورفعت سماعة التليفون، حتى لا يدق جرسه في غيبتي … ثم … ثم في غير ترددٍ ولا إحجام، خرجت ذاهبة إليه.

في الساعة الحادية عشرة إلا ربعًا وقف بي «التاكسي» أمام دار سينما «…» فدخلت، وكان الفيلم الكبير قد بدأ، فسألت القائم بالباب عن الممثل «…» فأخبرني أنه دخل «الصالة» فقلت: إني أريد مقابلته!

فسألني: «نقول له من؟»

فشعرت بالدم يصعد في وجهي، فهذا سؤال محرج ما كان يحسن أن يُلقى على سيدة في هذا الموقف، ولم يخطر لي قطُّ أن أحدًا سيلقيه عليَّ. ومن الإنصاف والأمانة أن أورد هنا أني حاولت في تلك اللحظة فقط أن أُلقي على نفسي درسًا في الأخلاق، وأن أُثني عزمي على المُضِيِّ فيما أنا فيه، والعدول عن هذا اللقاء.

ولكن ماذا كان في مقدوري أن أفعل؟ إني لم أكن في وعيي، لقد كنت أشبه الأشياء بقشة تتقاذفها الأمواج … كنت قد ألقيت بنفسي في أحضان المغامرة وانتهي الأمر، وما من قوة وقتئذٍ كانت تستطيع الوقوف في وجهي! لقد كنت متأهبة للإقدام على كل شيء من أجله؛ فلتكن الفضيحة! ولتقع المأساة … كل شيء أقبله إلا الرجوع على أعقابي، والعدول عن غرامي … تلك هي التضحية الكبرى التي لن أقبلها من أجل شيء في الوجود … ومع ذلك شعرت بضربات قلبي تشتد وأنا في موقفي هذا!

وكان يجب أن أخرج منه سريعًا، فقلتُ على عجلٍ للقائم بالباب في لهجة جمعت بين عنف الأمر، ولطف الرجاء: «قل له واحدة ست طالبة تقابله!»

ولم يجد ذلك الرجل مناصًا من تنفيذ رغبتي، فذهب واختفى قليلًا ثم عاد وفي أذياله الممثل «…» يكاد يعدو نحوي … إلى أن اقترب مني، فأمسك في الحال بيدي، وجذبني برفقٍ إلى «بنوار خالٍ داخل السينما»! وهو يقول لي بصوته المتدفق بحرارة الفرح: آه يا سيدتي … يا له من فرح؟ أنتِ أنتِ … ها أنتِ ذي أخيرًا … إني لسعيد! وأجلسني في صدر «البنوار» … وتناول يدي، وطبع عليها قبلة، وكان الظلام — لحسن الحظ — مخيمًا، والجمهور مشغولًا بعرض الفيلم … فدار بيننا هذا الحديث في همسٍ كأنه همس الحلم:

– ألا تُدهَش قليلًا لمجيئي؟

– إني كنت أنتظرك، وكان يجب أن تأتي!

– ولكنك لن تتصور معنى مجيئي هذا، ولا ما ينتج عنه؟

– أظن أني أستطيع أن أتصور هذا، وأن أدرك موقفك! ولكن ثقي يا سيدتي العزيزة أنه كان مقدَّرًا لنا أن نتلاقى، وأن يعرف أحدنا الآخر … وأنه مهما نفعل فلن نتجنب هذا القدر … لقد أدركت ذلك؛ كما قلت لك منذ الساعة التي رأيتكِ فيها أول مرة في «ميناهاوس»، ولقد انتظرتك، وكنت واثقًا من أنكِ آتية … انتظرتكِ على الرغم من أني لم أتلقَّ منك جوابًا صريحًا بالمجيء … ولكن كنت أشعر بمصيرنا … هل تَشُكِّين أنتِ في أنه كان ينبغي لنا أن يحب أحدنا الآخر؟

وهنا كاد يثب قلبي من بين جنبي! لقد تحدَّث عن الحب … وامتلأتُ بفرحٍ بلغ مداه حتى كاد ينقلب حزنًا خفيًّا … وعندئذٍ حانت مني الْتفاتة إلى الشاشة، وما كنت منذ دخولي قد أعرتها التفاتًا، فلقد شاهدت الفيلم بالأمس … وما كان يشغلني اليوم أقوى وأروع من أن أُعْنَى بسواه … ولكني رأيت فجأة مشهدًا مثيرًا لحبيبي «…» الجالس إلى جواري في الظلام، يسكب في قلبي الغرام! رأيته وهو يعانق الممثلة الأولى في الفيلم! وقد كانت تتحرك بطيفها على الشاشة بجسمها الممشوق ووجهها الحلو الوضَّاء في ثوبٍ بديعٍ يكشف عن ذراعيها المطوقتين عنق «…» صاحبي. لست أنكر أن الغيرة بدأت تَعَضُّ قلبي! ولقد جعلت أتأمل هذه الممثلة الجميلة، أُصغي إلى حديثها لبطلها الممثل «…» وحديثه هو لها … وألفاظ الحب التي يناغي بها أحدهما الآخر … وتساءلت في أعماق نفسي: لِم لا يكون حديثه لها حقيقيًّا؟! إنهما كانا معًا بالطبع في أثناء صنع الفيلم، وليس بمستعصٍ على مثل هذه الممثلة أن تفوز به، وهن الخبيرات المدرَّبات الإخصائيات بسلب أفئدة الرجال … فهل تستطيع مثلي أن تنافس مثلها في هذا الميدان؟!

وشعرت عندئذٍ بطنينٍ في أذني وجفاف في حلقي … وخيِّل إليَّ أني أصحو وأهبط من حلمٍ لأرتطم فجأة بالحقيقة الخداعة … ها هو ذا الحب يُمثَّل أمامي على الستار الأبيض … فمن أدراني أنه لا يُمثَّل أيضًا إلى جانبي في هذا الظلام؟ إن الممثل هو عين الممثل في الحالين … فأين الحقيقة؟ وأين الرواية؟ أو تراه يميز هو بين الاثنين؟ أيعرف من كان مثله الفاصل بينهما؟ الحب؟ هل يستطيع «…» أن يحبني؟ إن عقلي وإدراكي لقاصران عن تلمُّس الحقيقة في هذا الظلام! كل ما أعرف الآن هو أني أنا أحبه … ولكن أي مدى بيني وبينه؟ وأي فارق بين حياته الصاخبة البراقة، وبين حياتي الهادئة الحبيسة؟ بل أي مكان فسيح — إذا جد الأمر — لآلامٍ كبرى لا بد أن أُعِدَّ لها نفسي … إني منذ الآن أرتعد لمجرد التفكير في كل هذا … أينبغي لي أن أحبَّ رجلًا مثل هذا، مهيَّأ لإلقاء الفتنة وبذر الاضطراب في قلوب النساء! المتعلمة منهنَّ والجاهلة، والخبيرة والبريئة؟! وهل في الإمكان الاحتفاظ بمثله وتقييده؟ آه … التقييد والقيود؟! ها أنا ذي أتحدث الآن عن القيود، وأنا التي أنفقتْ وقتها في لعن قيودها الموضوعة حول عنقها!

مهما يكن من أمرٍ فما أحلى القيود مع «…» وما أسعدني برباطٍ يشدني إليه أبد الدهر! ومررت بيدي على جبيني أفكِّر في كل هذه المغامرة، وخيِّل إليَّ لحظة أن من الحكمة أن أهرب بنفسي الآن، وأن الأجدر بي أن أعود من فوري إلى سجني وحظيرتي.

أأفعل هذا الساعة، وأخبره أني أشعر بدوارٍ وأنصرف؟ أم أنه ينبغي لي أن أمضي في هذا الطريق … هذا الطريق الخطر الذي تكفي فيه زلة قدم صغيرة؛ لأسقط في الهاوية؟! إني على الرغم مني أحسُّ أني فقدت كل إرادة … إني نائمة أو منومة … إن شيطان الغواية كان قد لبس نفسي وجسمي! … أوَلستُ امرأةً مثل الأخريات؟ ضعيفة! طيِّعة! قابلة للتأثير! خاضعة للمؤثرات؟!

لقد قلت في نفسي: ماذا يحدث لو عدلتُ الآن، ورجعت من منتصف الطريق؟

لا شيء سوى عودتي إلى حجرتي الباردة، أَعَضُّ بناني ندمًا على إحجامي وفراري من وجه ذلك المصير المجهول، والخطر المقنع الذي قد يخفي ابتسامة حلوة مع تقطيبه المخيف؟ ما فائدة المقاومة الآن؟ لقد أردتُ هذا الذي حدث ويحدث، وتمنَّيته، ورغبت فيه بكل قواي وكل جوارحي! إني الآن على أعتاب اللذة أو الألم … أوَلم أقل من قبلُ إني أفضِّل العذاب على هذا العدم الذي يكتنف حياتي؟

ومع ذلك، لماذا أفترض حدوث الألم؟! لماذا أقدِّر مسبقًا خيبة الأمل؟ ها هو ذا «…» إلى جانبي ينتظرني! تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها … تلك هي الحقيقة التي تستحق أن أحياها. وبدَّدت هذه الفكرة كل تردُّدي … فأشرق قلبي من جديد بضياء الرجاء … وكان الفيلم قد قارب النهاية دون أن أنتبه أو أصحو من خواطري! فما شعرت إلا ويد «…» تمس يدي بلطفٍ، وصوته يهمس في أذني قائلًا: «يحسن بنا أن ننصرف الآن، إذا شئت، قبل أن تضاء الأنوار!»

ولقد ارتحت لاقتراحه، وأعجبت بلباقته وفطنته! فمما لا شك فيه أني أخشى أن يراني أحد يعرفني، إذا أضيء المكان، فنهضت في الحال … وتناول هو يدي، فقادني إلى باب السينما، وقال: «إني تحت تصرفك … أين تحبين أن نقضي السهرة؟»

فترددت وتمنَّعت برفقٍ قائلة: ولكني في الحقيقة!

فأسرع يقول: «هدية القدر لي … فلن أفرط فيكِ بهذه السهولة! لا … لن أقبل عذرًا! … ولن أُصغي إلى اعتذار! … إنكِ …»

ونظر في معصمه إلى ساعته الأنيقة، وقال: الساعة الآن نصف الليل إلا عشر دقائق، لا بد أنكِ تودِّين أن تأكلي شيئًا … في منزلي طعام خفيف، أرجو أن يعجبك!

وقبل أن يسمع مني جوابًا أشار إلى أحد الواقفين بالباب ليحضر سيارة «تاكسي»! وكان «التاكسي» بالمصادفة على مقربة من الباب، فما لبثت أن تقدمت فأعانني «…» على الصعود إليها، واتخاذ مكاني بها، ثم صعد وجلس إلى جانبي، وأمر السائق بالذهاب إلى «الزمالك» … فسارت السيارة في ذلك الليل الهادئ وهمس «…» في أذني: «لا أريد أن أتسرع فأسألك عن اسمك … ولكنك لا شك تسمحين لي في أن أناديك بصديقتي!»

فقلت له: «بالطبع أنت صديقي!»

وهنا قال في عذوبة: ما دمت صديقك فلا أظنك تأبين عليَّ أن أقبِّلَك!

وطوَّقني برقَّة وحرص؛ كأنه يطوق شيئًا مقدسًا، ووضع شفتيه على شفتي وضعًا لطيفًا خفيفًا، قبلة شبه طاهرة؛ كأنها قُبلة الخطوبة!

ووقفت السيارة أخيرًا أمام عمارة فخمة في حي «الزمالك»، فنزل «…» وأعانني على النزول، ووضع في كف سائق «التاكسي» ورقة نقدية، ثم تأبط ذراعي وصعد بي إلى مسكنه، وهو «شقة» ظريفة أنيقة فلمحت في ركن الصالون مائدة منصوبة، عليها أطباق من اللحم البارد والحلوى وزجاجة من الويسكي، وساعدني في خلع معطفي … بينما شفتاه تلمسان يدي، وذراعي ونحري، لمس النسيم!

لقد تجنَّب في كياسة — تشبه الحياء — أن يتعجَّل أيَّ الْتصاق بين جسمينا! لكأني به ذلك الذواقة، الذي يريد أن يستمرئ الكأس على مهلٍ. وقال لي بابتسامة وديعة: «أرجوكِ أن تعتبري البيت بيتك.»

وجعل ذراعه حول خصري، واتخذ رأسي من كتفه شبه وسادة … فقادني إلى حجرة نومه وتلقى جسمينا «ديوان» وثير!

وقال لي في همسة عذبة: يا حبوبتي!

وطوَّقني والْتصقت شفاهنا، وتنفَّسنا والعين في العين، فخيِّل إليَّ أني أشرب أنفاسه شربًا، وأنها تهبط إلى سويداء قلبي، فأدركت عندئذٍ أن جسدي كان جوعان حبًّا! وأن هذا الرجل يستطيع أن يصنع بي ما يشاء … وهنا شعرت بأصابعه اللبقة تفك أزرار ثوبي، وتجردني منه بغير لهفة ولا عجلة … ثم جعل يعجب بي وأنا هكذا … ثم أخذ يداعبني بيده وفمه … إنها عين القبلة التي عرفتها فيما مضى … ولكنها من قبل كانت تُطبَع على جسد هامد … يتمنى في قرارته الخلاص، ويود لو يدفع عنه تلك المداعبات الثقيلة التي يتكلَّف احتمالها تكلُّفًا.

أما هذا الحبيب «…» فلا شيء منه أكرهه قطُّ، لقد خُيِّل إليَّ أني أريد بدَوري لو أغطي جسده بقبلاتي … وأخيرًا حملني، وأنا في شبه غيبوبة إلى سريره المعطر، وتركني واختفى لحظة، ثم عاد متدثرًا في «روب دي شامبر» خفيف من الحرير «الستان»، لم يخلعه عنه وهو يطرح جسمه إلى جانبي، وبدأ المداعبة والملاعبة من جديد!

وجعل يهدهدني بكلمات الحب: «يا حبيبتي … يا معبودتي … يا حياتي … إلخ!» إلى أن صرنا جسمًا واحدًا … لا تفصل بيننا شعرة.

آه! اليوم فقط أدركت لماذا تحطِّم النساء كلَّ قيدٍ يحُول بينهن وبين الرجل الذي يكشف لأعينهن العمياء عن ملذات الحب! أين كنت غافلة عن اللذة الكبرى؛ لذة منح النفس للحبيب والفناء فيه، والإحساس بأني شيء ضعيف هش بين يديه، وانتظار أحلى المشاعر التي يهيجها في! ما أسعدنا نحن النساء بأن نذعن لمثل هذا الرجل، وأن نطوي إرادتنا تحت جناحيه!

إني لأحس أني الآن امرأة جديدة إلى حد الاعتقاد بأني لم أكن أكثر من بكرٍ بريئة، قبل أن يدخل الممثل «…» في حياتي، وإنه لَحَقٌّ ما أعترف به هنا … فهناك رجال نجد في الاتصال بهم ألمًا وعنفًا يملؤنا سخطًا … وإنهم ليُمعِنون في أنانيتهم، دون أن يلقوا بالًا إلى الاشمئزاز الذي يثيره فينا أحيانًا منظرهم هذا الدال على الاستهانة الصريحة، ودون أن يُعنَوا في موقفهم هذا بإخفاء معنى الآلية و«الروتين» … أو سترها ولو بقليلٍ من المداعبة اللطيفة، والمغازلة الرقيقة … هذا الشعور بالازدراء والاشمئزاز الذي قد يعتري المرأة، عند لقائها برجل للمرة الأولى، قلما يتغير … إلا إذا استطاع أن يغلف كل شيء في دِمَقْسٍ من لباقة الحسِّ والإحساس، لا يجرح ولا يخدش!

إني مع «…» لم أرَ شيئًا صدمني على الإطلاق؛ فإن كياسته قد غمرتني في جوٍّ مشبَّع باللذة الحالمة، وحَمَتْني من مجرَّد التنبُّه إلى ملاحظة ما يصنع أو أصنع … لقد تَمَّ كلُّ شيء في نشوة من الملاطفات والقبلات! وبعدُ؟ … وبعدُ فما أثر ذلك عنده بعد أن وقع هذا الأمر؟ لقد بدا عليه شيء من الاعتراف بالجميل! ولقد كانت ذراعه تسندني إلى صدره في حركة المالك القابض على ملكه … أما أنا فكنت آوي إلى جسمه وأدعه، وكان مجرد التفكير في الانفصال عنه يملؤني حزنًا … لقد تمنيت لو أبقى بين ذراعيه طول الخلود!

ولبثنا هكذا حتى مطلع الفجر … وما كانت تلك الليلة إلا عناقًا طويلًا … وعرفت عندئذٍ أني امرأة مثل الأخريات أستطيع الاستمتاع! لقد كشف لي هذا الرجل عن المجهول فيَّ … وعرَّفني إلى نفسي، ولقد سكرت من تلك النشوة الحلوة، ومن همسات أغنية الغرام التي كان ينشدها لي طول الليل، فاسترخت أعضائي ولانت، ودبَّ النعاس بين أهدابي بطيئًا بطيئًا … ورحت في نومٍ بين ذراعيه لذيذ … كم من الوقت نِمت؟ لست أدري! ربما نِمت ساعة أو أكثر أو أقل … كل ما أعلم هو أني استيقظت فألفيت «…» مستندًا إلى مرفقه … ورأسه مائل على رأسي، وهو يرنو إليَّ … فابتسمت!

فقال عندئذٍ بصوتٍ يقطر رقة: «كنت أتأملك في أثناء نعاسك … لقد خيِّل إليَّ أني ثملت بعطرك الساحر … إنك تحسنين اختيار عطورك فيما أرى … لقد كنت أمسك أحيانًا بأنفاسي خشية إيقاظك … لقد كنتِ تبتسمين في نومكِ؛ كأنكِ في حلم، وغدا وجهك عذريًّا كأنه وجه ****!»

وهنا طلبت إلى «…» مرآة لأستوثق من نفسي بنفسي، وأصلح من شأني … وكانت نظراته تلتهمني. ولكني لم أشعر بحياء يدفعني إلى ستر جسمي العاري. بل كنت سعيدة … فإن المرآة قد ملأتني ثقة واطمئنانًا على محاسني!

على أنَّ الطلاء القرمزي، الذي كان يصبغ البارحة شفتَي، تحوَّل إلى لون وردي، والسواد المحيط بأجفاني تبدَّد، وبدا كأنه هالة رسمتها أنامل التعب المسترخية حول أهدابي! وشعري المرتَّب تبعثر، وتناثرت خصلاته على وجهي المحموم … لقد اتَّخذت هيئتي وضعًا غريبًا؛ لكأني أنظر في المرآة إلى «اللذة» مصورة في إطار! ولقد أخذت «…» شبه رعدة، وهو يتأملني هكذا، فخطفني بين ذراعيه من جديد، اختطاف النسر للحمامة، وضمَّني ضمة شديدة مجنونة، فأحسست في تلك اللحظة بشعورٍ من الزهو والتيه، يغمرني غمرًا لا عهد لي به من قبل! وجعل كلٌّ منا يرمق الآخر بنظرات كلها اضطراب وفزع؛ كأنه لا لقاء بيننا بعد الآن! وأخذت أشعة الشمس الأولى تتسلل من خلال أستار النافذة، وتلقي دنانيرها الذهبية على سجادة الحجرة! ثم انعكست على مقابض أدوات الزينة الفضية، فوق منضدة «التواليت»، ثم أضاء نورها وجه الساعة الموضوعة هناك، فإذا نحن في السادسة … وكان لا بد إذن من الانصراف! فنهضت في الحال، ونهض «…» تاركًا لي الحجرة لألبس فيها ثيابي، وذهب هو ليرتدي ثيابه في الحجرة المجاورة، ثم نزلنا على عجلٍ إلى الطريق، وصعدنا إلى سيارة «التاكسي»، ونحن نستقبل بوجوهنا الملتهبة نسيم الصباح، وقد كان مطلع النهار جميلًا، وَصَفَتِ السماءُ صفاءً أحسَّته نفوسنا؛ كما أحسَّته عصافير الأشجار التي حولنا فزقزقت، وعبَّرت بلغتِها عما لا نستطيع نحن التعبير عنه، وأوصلني «…» إلى منزلي، وافترقنا على أن نعود إلى اللقاء في المساء … ودخلت بيتي … ويا لها من وحشة! لقد خالجني فجأة شعور بأني أدخل سجنًا! لأعيش وحدي وقد بترت عني سعادتي بترًا … إن من المستحيل عليَّ بعد سحر تلك الليلة أن أتصور استئناف حياتي المخيفة، التي جاء الكذب أيضًا — الكذب الجسيم — ليزيدها كربًا: آه! يا لها من ليلة! لن أنسى هذه الليلة ما حييت! لقد أضحكني منظر صديقتي «مرفت» وهي فاغرة فمَها دهشةً، عندما رويت لها خبر هذه المغامرة … لقد قالت لي: «وكيف تسلِّمين نفسك من أول ليلة؟»

ولكن لم تلبث أن سلمت معي مقتنعة، وأنا أجيبها باسمة: لأني لستُ امرأة من الطراز القديم … تلك التي كانت تحاول دائمًا أن توهم الرجل أنها قاومت طويلًا حتى غُلِبت على إرادتها … لماذا هذا؟ أوَكُتِب على المرأة أن تؤدي دائمًا دور مسلوبة الإرادة؟! لا يا عزيزتي «مرفت»! هذا ليس خليقًا بامرأة تعيش في عصرنا! إن المرأة يجب أن تُفهِم الرجل أنها مساوية له، وأن الأمر بإرادتها هي أيضًا، وأنها تعطي عندما تريد هي أن تعطي … في الليلة الأولى أو الليلة الأخيرة سيان عندها ذلك، ما دامت هي تريد، وتحس أنها تريد!

وتعاقبت بعد ذلك أيام لذيذة، على غرار تلك الليلة المشهودة … نعم، قد أُتهم بالجنون … ولكن آه … ما أحلى الجنون إذا كنا نجد فيه ذراعين مفتوحتين دائمًا لضمِّنا إلى صدرٍ كالعش الأمين … يخفق فيه قلبٌ بحبِّنا وإعزازنا!

لقد كانت لنا في كل يوم أحلام وآمال … ففي هذا المساء قال لي وأنا في حضنه: ماذا تقولين لو سافرنا معًا، وهربنا بعيدًا بحبنا؟

فقلت له: «وبيتي وأهلي؟»

فقال: «اتركي كل شيء، وتعالَي نظلُّ سعادتنا تحت أشجار البرتقال في فلسطين!»

وا أسفاه! … مشروعات كهذه لم تكن سوى أوهام … لو أن الأمر يتعلق بقلبي وحده لما ترددت في اللحاق به إلى آخر الدنيا … ولكني بعد أيام فكرت في الأمر مليًّا، وحكَّمت عقلي طويلًا فيما أنا مُقدِمة عليه … إن زوجي على الرغم من فتوره الحالي نحوي، وقربه الذي لم يعد يثير فيَّ أي عاطفة قوية، ما أساءني قطُّ يومًا، بل إنه ليعزني ويودني … وفجأة بدا لي شبح عملي المخيف البشع، وما سوف يحدثه له من آلامٍ لو أني أطعت هواي، وهربت من بيتي، أو قطعت صلاتي الزوجية بمثل هذه الفضيحة! وتيقظتْ في نفسي تلك اللحظة بقية ضميرٍ وإخلاص، فلم أقبل بحالٍ أن أجعل زوجي وطفلتي ضحايا ضعف وأخطاء وعواطف هي عندي أقوى من إرادتي! إن الخوف من الإساءة إليهما كتَّفني وشلَّ عزيمتي!

ثم هنالك شيء آخر: لقد فكَّرت في مصير تلك المرأة التي تذهب إلى رجلٍ لتضع حياتها بين يديه، دون أن يكون في جيبها قرش؟ حقًّا، كيف أستطيع، وأنا المجردة من كل ثروة خاصة — إذا انفصلت عن أسرتي، وترفعت عن مدِّ يد السؤال إلى أموال والدتي — أن ألقي بعبئي على كاهل «…»، وأفرض عليه أمر معاشي وكسوتي وزينتي وترفي! إن كرامتي لتأبى ذلك، وإذا أرغمني حبي وضعفي على التفريط في هذه الكرامة، فهل يطيق هو أن يتحمَّل هذا العبء طويلًا؟ … لا … لا ينبغي أن يضلَّني الحب إلى هذا الحد، وليس من الضروري أن ينتهي الحب دائمًا بالهرب مع الحبيب، وهو لا شك لم يخطر بباله قطُّ هدم عش الزوجية، والانطلاق معه بعد قطع الرباط الرسمي المقدس، لأنه يدرك عواقب ذلك!

إن مثل هذه الفكرة وحدها كفيلة بإطفاء جذوة غرامه … إنما الذي أراده ولا ريب بتلك العبارة، التي لفظها ونحن في نشوة الغرام؛ أن أدبر وسيلة، أو أخترع حجة للسفر معه بضعة أسابيع إلى فلسطين أو غيرها، دون أن يفطن زوجي أو تتنبَّه أسرتي للباعث على هذه الغيبة. ولكن هذا مستحيل، ومهما أوتيت من سَعة الحيلة فلن أجد الوسيلة، حسبنا إذن هذا القدر من اللقاء، ولا يجب أن نطمع في أكثر منه، وإلَّا تعرضنا لكارثة لا يحب كلانا أن تقع!

معبود من الطين​

الصدمة التي أصابت «راهب الفكر» بعد أن قرأ صفحات تلك الزوجة، بلغت حدًّا يصعب تصويره، وإن كان لا يصعب تصوره؛ فلم تكن قداسة حبِّه وحدها هي التي انهارت وتلطَّخت، ولكن كل شيء … كل شيء عزيز عليه سقط فجأة من عليائه في التراب وتلوَّث.

يا له من عجبٍ! كيف استطاعت هذه المرأة أن تكون كذلك؟! وكيف استطاع هو أن يصنع لها ذلك التمثال الشاهق بنُبله وطهارته! لقد جلَّ الخطب عن الحزن بل عن الجِد … وانقلب كل شيء في عينيه هُزءًا وسخرية! لقد تبيَّن له أمره.

يا له من أحمق! لقد كان شأنه شأن طائفة الوثنيين الذين صنعوا من الطين والوحل آلهة يعبدونها! وذكر رسائله إليها! وما كان ينعتها به ويتخيلها عليه! لم يبقَ ريب في أن كل سطر من سطوره ليس إلا ضحكة ممتدة تشهد بحمقه وغفلته.

وا أسفاه! ذهبتْ إذن هباءً كل تلك العاطفة المسكوبة على الورق من أجلها! وانقلبت تلك العبادة الرفيعة — التي عفَّر بها جبينه في محرابها — شيئًا مخجلًا مهزءًا كألعاب المهرجين ما دام مثل هذه المرأة هي التي كانت في المحراب!

لبث الكاتب تلك الليلة المشئومة ساهرًا حتى طلع عليه الصبح، وهو في جلسته لم يغيِّرها، ولم يشعر بنفسه، ولا بشيء حوله … ولم يعرف أين يستقر بقلبه الدامي ورأسه المكدود؛ فهو تارة يتوجع على الرغم منه؛ توجعَ من خُلع له ضرس، وإن كان فاسدًا، وتارة يضحك ذلك الضحك الذي وصفوه بأنه أحيانًا كالبكاء، وهذا ليس من خيال الشعراء؛ فلقد حدث ذلك «لراهب الفكر» تلك الليلة! لقد خادع نفسه كثيرًا، وقال لها: «ما لي ولهذه المرأة؟! وماذا يهمني من سلوكها ومن عشقها وسقوطها؟! أأنا زوجها؟!»

هذا منطق العقل، ولكن صوت النفس كان يرتفع في صمته الجلي راعدًا بين أركان قلبه: «إنها كانت لك أكثر من زوجة! لقد عشت معها ولها بكل فكرك وعواطفك … وخيالك، ومطالعاتك، ومؤلفاتك، ومشاهداتك! إنها كانت شيئًا يسندك، ويعينك، ويشجعك، ويقويك! إنها كانت لك نوعًا من الدين!»

حقًّا إنها كانت له كل ذلك، ولو لم تكن كذلك لما أحس الليلة هذا الفراغ المخيف … نعم إنه قد فقد شيئًا كبيرًا، يشعر لفقده بفجيعة.

ولم يستطع حكم أعصابه، فتساقطت العبرات من عينيه، وخجل من نفسه، وهو يلمح في مرآة الحجرة قطرات الدمع على خدَّيه … وهو الذي ما بكى قطُّ في شبابه الأول!

تذكر حقيقة تلك المرأة، وما قرأ الساعة من خبر فجورها، فضحك من أمره، أو أراد أن يتضاحك … ولكن هيهات أن يقنع نفسه … فقد اختلطت عَبَراته وضحكاته، وامتزجت في شهقة واحدة … فلم يعد من السهل فرز الضحك من البكاء!

كل هذا حدث له، وكل الأفكار مرَّت به، ما عدا أمرًا واحدًا نسِيه كل النسيان، ولم يتَّجه إليه تفكيره ولا خاطره؛ ذلك هو الزوج ذاته الذي أعطاه الكراسة؛ فقد ألهته مصيبته هو عن مصيبة الزوج، فلم يرها ولم يشعر بها، حتى حان موعد خروجه في الصباح، فتذكر أنه وعد الزوج بِرَدِّ هذه الصفحات إليه!

وهنا طفق يفكِّر في أمر هذا الرجل، ويسأل نفسه: لماذا وضع هذه الكراسة بين يديه؟ ولماذا يريد أن يناقشه فيها؟ وما وجه الكلام في مسألة كهذه؟ وماذا عليه هو أن يجيب؟ وما هذا الهدوء الذي يبدو على ذلك الزوج التعس؟! مهما يكن من أمر فلا مفرَّ من لقائه، بل إن في مقابلته لراحة له، وفي الحديث إليه عزاء! فكلاهما قد نُكب، وكلاهما قد أُصيب. وقد أحسَّ «راهب الفكر» عطفًا شديدًا على ذلك الزوج، ورحمة به، وحدبًا عليه، وشعر بأنه كأن عاطفة واحدة تربط أحدهما إلى الآخر؛ لكأنهما متضامنان في النازلة! ولكأن غريمًا واحدًا هو الذي نال منهما وثلَّ هناءهما!

وأسرع فارتدى ثيابه، ولم يجد رغبة في تناول فطوره، فاكتفى بجرعة من الشاي، وخرج من حجرته حاملًا الكراسة التي أيقظته فجأة وبقسوة من أجمل أحلامه!

نزل إلى بهو الفندق وهو يُخفي كل أثرٍ للانفعال، يمكن أن يبدو على وجهه، فوجد الزوج في انتظاره، وفي يده كتابه، فحيَّاه وجلس إلى جانبه صامتًا، ثم قدَّم إليه تلك الصفحات المخجلة، وهو لا يدري ماذا يقول … ولكن الزوج قال بصوتٍ خافتٍ مرير، وهو يتناولها من يده: قرأتها؟

– نعم!

لفظها «راهب الفكر» وهو مطرق، لا يجرؤ على النظر إليه … وسكت الزوج قليلًا، ثم قال بأدبٍ: إني آسف إذ أرغمتك على قراءة مثل هذه الصفحات … ولكني أعتقد أنك تدرك الآن موقفي، وتغفر لي إثقالي عليك، فإن زوج هذه السيدة التي قرأت عنها ما قرأت، لا بد أن يكون في حاجة إلى معونة رجل في مثل عقلك وخلقك.

فغمغم الكاتب قائلًا: ثِق بأني طوع أمرك، ورهن إشارتك … أرجو أن أكون نافعًا لك، في كل ما توجِّهني إليه من شئونك!

فقال الرجل، وقد استراحَ قليلًا في جلسته: يحسن بي أن أقصَّ عليكَ كل شيء من البداية؛ كي تحيط بظروف هذا الموضوع من نواحيه كلها، فأنت قد تجهل اسمي الكامل حتى الساعة! إني «…» من أسرة معروفة كما ترى، وكذلك زوجتي، وإن كانت أسرتي الآن متوسطة المال والجاه. ولقد نشأت منذ الصغر في مدرسة إنجليزية حتى بلغت رشدي، فالتحقت بمدارس الحكومة المصرية، ونلت شهادة «البكالوريا» ثم أرسلتني أسرتي إلى إنجلترا، لأتمَّ دراستي فيها، فمكثت هناك ست سنوات، عدتُ بعدها إلى مصر، وانخرطت في سلك الوظائف … وبالطبع فكَّر أهلي وقتئذٍ في البحث لي عن زوجة، ولكني كنت ممن يعتقدون أن الزواج نعمة لا نستحقها إلا بعد أن نبلغ في الحياة شوطًا مستقرًّا؛ فهو تتويج لجهود الشباب، وينبغي أن يبدأ في وقتٍ ينتهي فيه الجهاد الأول في سبيل المركز الاجتماعي، ويطمئن فيه الإنسان إلى عمله ومستقبله، فيهوِّن بذلك على شريكته متاعب المرحلة الأولى، ويشيِّد أسرته الجديدة على أسسٍ من الأمان لا من القلق، ويفتح نوافذ بيته على أفق باسم، لا على قفر مكفهر! لذلك لم أتزوج إلا وأنا في نحو الخامسة والثلاثين.

وقد اختارت لي أسرتي هذه الزوجة من أسرة عريقة، تربطنا بها أواصر المعرفة من قديم … وقد رأى أحدنا الآخر في فترة الخطوبة، ثم تَمَّ الزواج. ولم أشعر قطُّ بأن قلبينا ينطويان على شيء غير المحبَّة والمودَّة المتبادلتَين، ولم أَرَ منها قطُّ شيئًا ساءني إلا قلَّة اكتراثها بالكتب والمطالعة … وهذا شيء مقدَّس عندي؛ فإنَّ الكتاب لديَّ ضرورة من ضرورات الحياة! ولعلِّي اكتسبت عادة القراءة من طول إقامتي في «إنجلترا»؛ فقد كنت أسكن ضواحي «لندن»، وكان عليَّ أن أركب القطار في اليوم مرتين، في ذهابي إلى الجامعة، وعودتي منها، فكنت ألاحظ في أول عهدي أنه ما من راكبٍ واحدٍ لا يحمل كتابًا يطالعه في أثناء الطريق، ثم في البيت الإنجليزي … ما أمتع القراءة بجوار المدفأة! وأحاديث الأسرة حولها في مختلف شئون الحياة والفكر! لطالما تمنيت أن أبادل زوجتي الآراء فيما نطالع ونشاهد؛ فنملأ حياتنا الزوجية الطويلة بخير ما تملأ به حياة، لكن وا أسفاه! كانت هذه الزوجة — مثل كثيرات غيرها — ذات ثقافة سطحية مصطنَعة براقة المظهر، ولكنها في لبِّها وجوهرها لا تُعنى بغير التافه من شئون الدنيا، ولقد سميتها مازحًا «الفتاة الطائشة». ولقد أردت أن أصلح من أمرها، وأصنع منها المرأة التي أريد، وبدأت معها بما هو أيسر لها وأسهل على طبيعتها؛ وهي الرياضة، فعلَّمتها «التنيس» فحذقته في وقتٍ قليلٍ … من الإنصاف أن أقول لك: إنها ذات ذكاء عجيب، ولها إرادة لا تقاوم. ولقد أرادت فعلًا أن تُصغي إلى رجائي وتُعنى بالقراءة، وتمَّ لها ما أرادت، وكان ما تعلمه أنت من إقبالها على قراءة كتبك، مما أخبرتك به في حينه عند زيارتي الأولى لك!

وسكت الزوج لحظة، فقد أبصر «راهب الفكر»، يطرق شارد اللب. والواقع أنه أطرق مفكرًا في زيارات تلك الزوجة له، تلك الزيارات التي يجهلها الزوج حتى الآن! أترى من الواجب عليه أن يخبره بأمرها اليوم، أو يمضي في الصمت؟! وتردد لحظة ووازن بين الأمرين، فرجحت كفة السكوت؛ فالسكوت الساعة من ذهبٍ حقًّا، ولا ينبغي أن يفتح أي باب تنفذ منه شكوك جديدة، قد تحُوم حوله وحول هذه المرأة. ورفع رأسه استعدادًا للإصغاء، فمضى الزوج في كلامه: قرأت كتبك إذن يا سيدي الأستاذ كما قرأت غيرها … ولا شك في أنك تأسف مثلي للنتيجة … لم يَدُر في خلدك ولا خلدي أن كل ما استطاعت هذه السيدة أن تكسبه من ذلك هو أسلوب تكتب به مثل هذه الاعترافات! ولكن ما ذنبك أو ذنب المطالعة في ذاتها؟! كل شيء نبيل يمكن أن يكون أداة سمو وأداة عبث. وإن العِبرة أحيانًا باليد التي تتناول الأشياء لا الأشياء في ذاتها؛ فاليد القذرة قد تلطخ كل نظيفٍ، واليد المطهرة قد تنظف كل قذر … على أني أستطيع أن أؤكد لك أني ما علمت قطُّ يومًا عن امرأتي سوءًا، وإنه ليدهشني قولها في كراستها؛ إن أسرتها كانت تلقي عليها دروسًا في الأخلاق تثقل عليها، وتقيدها بالسلاسل، كأنها كلب ليس له حق النباح! كل ما أعلمه أن أسرتها، فيها من يتمسك بالقديم، وفيها من نشأ على الحديث … وإن للفتيات الحديثات اتجاهًا حرًّا يعدُّ فضيحة في نظر الأمهات والعمات، وكثيرات من البنات عُرِف عنهن الخفة في السلوك في المجتمعات، والسهرات، وعلى شواطئ البحر! والمغالاة في الملبس والمظهر … والتحرر إلى حدِّ قبول مغازلة الشبان في الطريق أو في «التليفون». ولكن الأمر في الغالب يقف عند هذا الحد، وإذا تزوجت بنت من هذا الطراز، ففي الغالب يتغير سلوكها السابق، ويتجه إلى احترام الزوجية والحرص عليها … فهل كانت زوجتي من هذا الصنف من البنات، وكان هذا ما تعلمه أسرتها عنها، وما تراقبها من أجله؟ أو كان في الأمر شيء أكثر من هذا؟! لست أدري! وكيف تريد لزوجٍ مثلي، تعلَّم كيف يحترم الزوج زوجته، يخطر في باله أن ينبش في مثل هذه الأشياء؟ كل ما في مقدوري العلم به هو ما خبرته بنفسي، من اتصالٍ بزوجتي طول هذه الأعوام الثلاثة … أني لم ألمح عليها قطُّ أي نفور مني! وكيف استطاعت أن تخفي ذلك عني؟ ولماذا تخفيه؟ ولماذا لم تصارحني؟

لقد كنا سعداء في عامنا الأول، وأظنها لم تنكر ذلك … وأحسبها ذكرت أنها بدأت تملُّ الزوجية بعد أول عام … ولكنها كانت قد وَلدت **** جميلة، وكنت أظن عاطفة الأمومة تصرِف الزوجة عن ذلك التعلُّق الجامح بزوجها باللهو والمرح والنزهة … لقد تحدَّثتْ عن تغيُّري بعد العام الأول من عَقد القران … واتَّهمتني بأني أوصيتها بالقراءة لعلمي أن السأم ينتظرها … أظن أن هذا هو سوء التفاهم الخالد في كل الحياة الزوجية، منذ نشأت على الأرض أسرة وزواج … ما من زوجة منذ القدم حتى اليوم لم تقل لزوجها هذه العبارة: «إنك قد تغيرتَ … كنتَ تحبني فيما مضى أكثر من الآن!» والحقيقة أن الزوج لم يتغير، ولكن لون الحب هو الذي تغير، دون أن يؤثر ذلك في بنائه؛ كما يتغير لون العمارة الجديدة من الزمن دون أن تفقد حجرًا … ولا يزيدها لون القِدم إلا إشعارًا بجلال الرسوخ، أو كما يتغيَّر لون التقدير الذي يظفر به الأثر الفني. ألا تلاحظ أن كتابًا من كتبك مثلًا قد استقبله الناس عند ظهوره بالطبل والضجيج؟! ثم يخفت كل هذا مع مرِّ الأيام، ولا يبقى للكتاب إلا ذلك التقدير الهادئ العميق المستقر في النفوس؟ لا يتزعزع اعتباره … ولا يبلى ولا يُنسى … وتظل الأعوام تسلِّمه للأعوام … وقد أصبح حقيقة راسخة، لا تُثَار فيها المناقشة، ولا يُبَاح فيها الجدل … ويدخل في نطاق الأعمال التي تسمونها «الكلاسيك» … بوقارها الصامت الذي حلَّ محل بريقها الصاخب؟ فيمَ إذن كان الاحتفال بالعيد الفضي والعيد الذهبي للحياة الزوجية؟ أهو شيء غير مظهر تقدير لذلك الحب الزوجي وقد رسخت أعمدة هيكله في صدر الزمان؟! ولكن المرأة — للأسف — تنسى ذلك أو تتناساه، وإذا تذكرته فإنها لا تقتنع به، فكل هذا لا يعدل عندها اللحظات الطائرة العابرة لذلك الحب البراق الفوار! لا يؤثر فيها كثيرًا ذلك الحب القيِّم النفيس الباقي؛ لأنها جبلت على الشغف بكلِّ ما يبرق في عينيها، ويخطف بصرها ومهجتها، ويطير بلبِّها! وإنها لتدفع الذهب، وترمي به في سبيل اقتناء سوار من الزجاج، أو حلية من الخزف بهرتها ألوانها!

لم يكن هنالك إذن تغيُّر منِّي نحوها أو فتور! على النقيض، فهي فهمت بعد أن وُلِدت لنا **** أن حبَّنا قد سما وجلَّ عن مظاهر العبث والملاعبة التي كان الحب الزوجي يحتاج إليها في أول مراحله ليثبت وجوده، ويبرهن على قوته … فهو الآن موجود بذاته، قويٌّ بنفسه … وتستطيع الزوجة أن تحسَّه في زوجها من كلمة أو إشارة أو إيماءة! أو من مجرد نظرة جزع يلقيها عليها إذا شحب وجهها ذات صباح، أو أصيبت ببردٍ خفيفٍ!

لا أظن كثيرًا من الأزواج عاملوا زوجاتهم بمثل ما كنت أعامل زوجتي! إني كنت أتصرف معها كما لو كانت «ليدي» من سيدات الأرستقراطية الإنجليزية! فما كنت أسمح لنفسي بالتدخل في شئونها، ولا حتى بلمس خطاباتها التي كانت ترِد باسمها، ولم أسألها يومًا أين كانت؟ ولا أين تذهب؟ ولا مَن هنَّ صديقاتها؟ على أني كنت دائمًا «تحت تصرفها»، وفي متناول يدها؛ فلم أتركها يومًا بمفردها، لا عن قصد حراستها أو تعمُّد مراقبتها … أو رغبة في الاطمئنان على سيرها، فتلك أفكار لم تخطر لي قطُّ على بالٍ، وإنما كنت أرى من واجبي ألا أتغيَّب عنها! وألا أخرج إلا معها، وألا أدعها تعتقد لحظة أن لي حياة منفصلة عن حياتها؛ فأنا رجل قد فهم الزواج على أنه شركة روحية! ولقد نفَّذت من جانبي كل ما يجب عليَّ في هذه الشركة، وقدَّمت كلَّ نصيبي من رأس المال … حتى أصدقائي لم أرد أن أستأثر بهم، وأنفرد بمجلسهم، وأمنحهم من الوقت ما قد يكون من حظ شريكتي، فعملت على أن أشركها معي في استقبالهم، والاجتماع بهم، ولم يكن يدور بخلدي قطُّ أنها ستكتب يومًا فتقول: إنها كانت تتبرَّم بهم وبي … وإنها كانت تضيق بوجودي، وتختنق لأني لم أتركها يومًا واحدًا … وإنها لم تتنفس إلا يوم أعلنت إليها خبر اضطراري إلى التغيب في أعمال حكومية بضعة أسابيع! هذا في الحق قد جاوز كل تقديري، وحرق كل تدبيري، وكيف يقع في وهمي أن كلَّ ما حسبته أنا حُسن معاملة، وظننته تصرفًا محمودًا، ورأيته تفانيًا في واجبي وإخلاصي؛ هو بالذات موضع الشكوى مني، وموطن ذنبي وجريرتي؟! إذا كان أحد يرى أني أخطأت فثِق بأن هذا حدث بغير علمي، وبدون قصد مني! وأن حياتي معها على هذا الوضع هي إذن سلسلة أخطاء … وكان عليها أن تنبِّهني إليها!

أما أنا فلا أعرف إلَّا أني صنعت كل شيء حتى لا تقع في الملل الذي تتحدث عنه، فما كان يسرني إلا أن تقترح هي نوعًا من النزهة أو السهرة فتجد بُغيتها، وتظفر برغبتها … فما من حفلة من الحفلات العامة أو الخاصة أو الخيرية، فيها شيء من الطرافة أو المتعة والتسلية لم نشاهدها؛ لطالما ذهبت بها إلى أفخم الملاهي ودور السينما وسباق الخيل! ولقد ذهبت بها في شتاء عامنا الأول إلى «الأقصر» و«أسوان»! أما في الصيف فكان الرأي لها أن تختار بين: «أوروبا» أو «الإسكندرية» أو «العزبة» في الريف … وقد أمضينا كل صيف في جهة من هذه الجهات، ولست أدري ماذا كان يجدر أن أصنع، لمداواة ضجرها ولم أفعله؟ إلا أن يكون للملل أو السأم معنًى آخر غير الذي ينصرف إليه ذهن مثلي، ولقد ذكرت هي هذا المعنى صراحةً في كراستها، وعبَّرت عنه بما سَمَّته «الرغبة في المغامرة»! أظنك توافقني على أن هذه «الرغبة» لا يمكن أن تخطر في بال زوج، فالمغامرة والزوجية ضدَّان لا يتَّفقان، إلا إذا كنت تراني زوجًا رجعيًّا مخرفًا، وكانت الزوجية في زماننا هذا، وفي بلدنا هذا، قد بلغت من التقدم والتطور «المودرن» شوطًا أعجزني إدراكه، وفاتني اللحاق به، على الرغم من اتصالي الدائم بأحدث أوضاع المجتمع الأوربي! إذا كانت زوجاتنا ترى «المغامرة» حاجة لا بد منها، وضرورة لا يُستغنى عنها! وإلا كانت الحياة الزوجية سأمًا لا يطاق … والعواطف الزوجية نوعًا من «الروتين» الفاتر … فإني لا أملك الحكم في ذلك بمفردي، وأترك لمثلك الحكم فيه وللمجتمع. إنما الذي أرى من حقِّي الكلام فيه، هو أني فهمت الزوجية كما يفهمها أكثر الناس، أو كما كنت أتوهَّم أنا أن أكثر الناس يفهمونها … وثِق، وأقسم لك بشرفي … (معذرة … إني لم أعد أدري أَمِن حقِّي أن أقسم لك بشرفي المسلوب! ولكني أرى في عينك أنك تصدقني!) … ثِق بأني كنت لهذه السيدة زوجًا لا غبار عليه!

وأطرق الرجل لحظة … وكأنَّ عينَيه تخترقان الماضي … وتنبشان أحداث ذكريات عزاز! وتأثر «راهب الفكر» لمنظره، ولم يجد كلمات تصلح لإظهار ما يكنُّه له وقتئذٍ … وخاف أن ينبس بلفظٍ جارحٍ لشعوره، فآثر الصمت والإصغاء.

ورفع الزوج رأسه بعد قليلٍ مستأنفًا حديثه: وهكذا سارت حياتنا الزوجية على الصورة التي وصفتها … وأنا أجهل كل الجهل — كما قلت لك — نزعات زوجتي الداخلية وخلجاتها الخفية! ولا أعلم إلا أني أعيش حياة زوجية سعيدة في ظل زوجة راضية قريرة العين، وابنة نحلم بتربيتها أحسن التربية … إلى أن كان ذلك اليوم منذ أسبوعين.

فقد لزمت المنزل ذلك العصر، لأكتب تقريرًا مهمًّا في بعض شئوني المصلحية، ودسست وجهي في أوراق الملفات، وأنا أردُّ تحيةَ زوجتي الموشِكة على الخروج، ذاكرةً لي على عَجَل — فيما أظن — أنها ذاهبة لزيارة صديقة من صديقاتها، ولم أحفل أنا بالطبع بهذا الأمر؛ فهو شيء معتاد … ولم أحاول حتى مجرد رفع رأسي للنظر إلى هندامها؛ فقد كنت مشغولًا بعملي! ولكني أذكر أن عطرها المثير الجميل كان يملأ خياشيمي … ولكن هذا أيضًا ليس عندي بمستغرب! إن أناقة زوجتي وترفها لمن الأشياء التي كانت تسرني … وخرجت مسرعة، ومكثتُ أنا غارقًا في أوراقي.

ومضى نحو نصف الساعة، وإذا خادم لنا كنا قد جئنا بها حديثًا من الريف لمعاونة الخدم في تنظيف البيت، دخلت تحمل هذه «الكراسة»، وكانت كما الآن داخل غلاف حكومي من أغلفة عملي، ووضعَتْها بجانب ملفاتي ظنًّا منها أنها لي، وكدت أن أشكرها، وأدس الكراسة بغلافها في ملفٍّ، ظنًّا مني أنها جزء من أوراقي قد سقط … ولكن … ولكني لمحت لون الكراسة الأحمر، ففتحتها فلحظت أن هذا الخط أعرفه؛ إنه خط امرأتي … وما شأن كتابات زوجتي بملفاتي الرسمية؟ فسحبت بيدي الكراسة، وأنا أقول للخادم: أين وجدتِ هذا؟

فأجابت بأنها وجدتها ملقاة على الأرض تحت أقدام «دولاب» الحلي في حجرة «الست»، وقد دخلتها لتنظمها بعد خروجها، كما أمرتها الخادم الكبرى المسئولة المشغولة … كما قامت بعملٍ آخر في الحديقة مع المرضع، فأشرت إليها بالانصراف إلى عملها … ووضعت الكراسة فوق المكتب في غير اكتراث؛ إذ لم يكن من الممكن أن أتصورها تحوي ما تحويه، وكان ذهني خاليًا كل الخلوِّ من أي ريبة … وعدت إلى عملي، ولم يعلق في رأسي ذلك كله؛ إلا أن هذا شيء يخص زوجتي، قد جاءت به الخادم خطأ! ويجب ألا أنسى ردَّه إليها عند عودتها … أو الأفضل أن أطلب الخادم من الفور، وآمرها بأن تضع هذه الكراسة في حجرة «الست» … وتركت عملي ورفعت رأسي عن ورقي … ومددت يدي أتناول الكراسة … وأنا أهمُّ بنداء الخادم، وإذا سؤال يخطر لي فجأة: فيمَ تستطيع زوجتي أن تكتب كل هذه الصفحات؟ وقلبت أصابعي على الرغم مني بعض صفحات الكراسة، وإذا بصري يقع على ألفاظ وعبارات وقف لها شعر رأسي! وعدتُ أقرأ من البداية كل ما في يدي … والعَرق يسيل في كلِّ بدني … والرعدة تسري في أناملي، فلا تحسن تقليب تلك الصفحات … وكلما مضيت في القراءة شعرت بالظلام يدب في عيني، والدوار يصعد إلى دماغي! فتماسكت وتحاملت، وجعلت أسرع في القراءة وأنا ألهث إسراعًا حتى لا أخر على الأرض، قبل إتمام هذه الصفحات … إلى أن قرأت كل شيء.

مستحيل … من المستحيل قطعًا أن أصف ما حدث لي وقتئذٍ … هنالك أشياء تُحَسُّ، ولكنها لا توصف … وإنها لتشتدُّ حتى تُفقدنا صدمتُها إدراكَنا الوقتيَّ بما حولنا … وإنها لتهول حتى تخرج من نطاق المشاعر المعنوية إلى محيط الآثار المادية في جسم الإنسان؛ فلقد نسيت في لحظة كل شيء، ولم أعِ شيئًا، إلا أنَّي أحسُّ ألمًا كالمغص في المعدة وميلًا إلى القيء … وشعورًا شديدًا بالإغماء … قاومته بكل ما بَقِيَ لي من قوة حتى لا أُشعر أحدًا بما أنا فيه … وتمددت على مقعدي، وألقيت برأسي إلى الوراء … ولبثت هكذا لا أفكر إلا في استرداد قواي … إلى أن انقطع تصبُّب العرق … وبدأ النور يعود رويدًا رويدًا إلى بصري … والدوار يزول والتنفس ينتظم … فاعتدلت في مقعدي منهوكًا، وأنا أمسح وجهي بِكُمِّ ردائي المنزلي … وذهب عني قليلًا هذا الأثر المادي للصدمة … ونشط إدراكي من جديدٍ … فكان أول ما اتَّجه إليه، ليس الحزن ولا الأسى، ولا الألم ولا الغضب؛ فتلك مشاعر لا نحسُّها في الأحداث الجسام إلا فيما بعدُ … إننا إذ نفاجأ بموت عزيز علينا لا نفكر في البكاء، ولكن نفكر في كيف يُدفن … أما الدموع فيأتي دورها بعد ذلك؛ إنها للذكرى لا لمعالجة المواقف، لذلك ما فكرت وقتئذٍ إلَّا في أمرٍ واحدٍ؛ كيف يكون موقفي منها؟!

من العبث أن يُلقى مثل هذا السؤال على العقل وحده في مثل هذه الظروف؛ فكل شخص يتصرف في ذلك الحين طبقًا لطبيعته ونشأته وثقافته. ومن الدقة أن أقول لك: إني لم أحاول قطُّ أن أتدبر الأمر أو أحكِّم عقلي فيه … فلم يكن هذا وقته … بل لم يكن هنالك وقت لذلك على الإطلاق … فإن نفسي كلها قد استحوذ عليها شعور واحد، هو مزيج من الرعب والاشمئزاز والنفور، لمجرد الخاطر بأن عينَي قد تقع على هذه الزوجة وهي عائدة! كان ما يشغلني ويقلقني هو أمر لقائها بعد ذلك! كلا! إن هذا لا يمكن تصوُّر وقوعه … لو قيل لي وقتئذٍ: إن الموت قد تجسَّد فانظر إليه؛ لكان أهون على نفسي من النظر إلى وجهها بعد الآن … ليس في مقدوري أن أصف لك هلعي من مجرد فكرة النظر في وجهها … ذلك الوجه الجميل الذي ما كنت أملُّ أبدًا من النظر إليه … وتركز تفكيري كله عند ذاك في تلك النقطة … كيف أراها؟ كيف أستطيع أن أراها؟ إنها لا شكَّ عائدة هذا المساء، وستدخل عليَّ تحيِّيني؛ لأنها طبعًا لا تعلم بعدُ بأني قد علمت، فماذا أنا قائل؟ وماذا أنا صانع؟ كلا … إنه المستحيل بعينه … إني أتخيل إمكان كل شيء في هذا الوجود، إلا إمكان وقوع عيني عليها ذلك اليوم … ونهضت واثبًا على قدمي … وأنا لا أرى لنفسي غير الهرب … نعم! فلأهرب أولًا من مرآها؛ إذ محال أن يظللنا سقف واحد بعد الساعة! الهرب أولًا منها … الهرب … وليكن التفكير في الباقي بعد ذلك.

وذهبت مسرعًا إلى حجرتي فارتديت ثيابي، وأعددت حقيبتي، وقد وضعت فيها كراستها مع ملابسي، وكل ما أحتاج إليه في غيبة طويلة … وطفقت عيني تقع على الرغم مني على أثاث تلك الحجرة التي قضينا فيها معًا أيامًا سعيدة … فإذا كل شيء فيها الآن يصيح بالخيانة … هذا السرير الذي وصفته هي في صفحاتها … وهذا البساط الذي كانت تمشي فوقه رائحة غادية، يوم رأت صاحبها أول مرة … وأنا لا أدري سر قلقها ولا سُهادها … كل سؤال له عندي الآن جواب! حتى سبب انتقالها إلى حجرة أخرى خاصة بها … لقد ذكرت هي لي أنها كانت تخشى أن تزعجني بالليل، كلما نهضت لتشرف على طفلتنا في حجرتها مع المرضع، وأن من الخير الآن أن يكون لكل منا حجرة مستقلة، فصدَّقتها وشكرت لها حرصها على راحتي وراحة الصغيرة. ولكن متى اقترحت ذلك بالضبط؟ أليس ذلك بعد عودتي من رحلتي وغيبتي المشئومة؟ تلك التي تم خلالها ذلك الإثم! ولماذا أرادت ذلك؟ أليس رغبة منها في التحرر والخلو إلى نفسها وإلى تدوين اعترافاتها! ومن يدري؟! ربما استطاعت أن تخرج ليلًا، وتعود دون أن يفطن أحد! ومن يدري إلى أين خرجت عصر اليوم بهذه السرعة، واللهفة التي أنسَتْها — ولا شك — إخفاء كراستها حيث كانت تخفيها؟! لعلَّها كانت تضعها في خزانة حُليها ذات المفتاح الذي لا يفارقها … ولكن القضاء شاء أن تسقط الكراسة اليوم دون أن تتنبَّه، وهي تخرج حلية تزين بها جمالها الفاجر!

كل تلك الخواطر مرَّت كالبرق في ذهني، وأنا في حجرتي أمام حقيبتي … فأدركت للفور أنَّ ذهابي أمر لا بدَّ منه. وإذا كانت الجمادات تصيح بي هكذا، وتذكِّرني وتحدِّثني، وتجيبني عن كل سؤال! فما بال الأشخاص؟ وما بالها هي … بما في عينيها من نظرات لن يستطيع الكذب بعد الآن أن يسدل عليها قناعه؟!

وخرجت من حجرتي، وناديت أحد الخدم، فحمل الحقيبة، ووضعها في سيارة «تاكسي» أمرت بإحضارها … وذهبت دون أن أخبر أحدًا أين أذهب. فأنا نفسي لم أَدْرِ ما أقول للسائق، وهو يسألني عن مقصدي! إلى أن خطر لي في الطريق أن أنزل هذا الفندق «بحلوان»، فلطالما نزلته وأنا أعزب قبل الزواج كلما طلبت الاعتكاف والاستجمام. جئت هنا وأنا كالشيء المحطَّم، ولم أَنَمْ ليلتي ولا ما تلاها من ليالٍ! وأعدت قراءة اعترافاتها مرة ومرتين! إنها حقًّا لفظيعة، إن الخيانة الزوجية لأمر فظيع! وإنها تذكر تفاصيلها، وتسرد وقائعها، لا بلهجة النادم التائب عن زلة … ولكن بلهجة الواثق المتحدي بأن هذا حقها المشروع! يا ***! أتلك شريكتي وأم طفلتي التي كانت تعيش إلى جانبي معزَّزة مدلَّلة كل تلك الأعوام؟!

ومضى أغلب الأسبوع الأول وأنا في عذابٍ أعفيك من سماع وصفه وتفصيله … فقد لا يهمك ذلك، وحتى لو سألتني ذلك فإني لن أستطيع له تصويرًا، ويكفي أن أؤكد لك أني صرت إلى حالة تشبه الجنون، أو تقرب فعلًا من الجنون … فإن عدم النوم مع التفكير المضني المستمر، والأعصاب الثائرة المنهكة، وتركيز الذهن في نقطة واحدة ليل نهار؛ كل ذلك كاد يوقعني حقًّا في مرضٍ عصبي خطير! لقد كان من المتعذر على بصري أن يرى شيئًا غير صور دائمة شبه مجسَّدة، لما وصفته في صفحاتها من مناظر الزنا! لقد أصبح رأسي صندوقًا لا يحوي غير هذه الصور معروضة لذهني، لا تتغيَّر ولا تتبدَّل أيامًا بِرُمَّتها … لقد كنت أحيانًا أضرب رأسي بيدي ضربًا شديدًا، أريد تحطيم ذلك الصندوق الشنيع! لقد كدتُ ذات ليلة ألقي بنفسي من النافذة تخلصًا من تلك الصور.

ولقد فهمت منذ تلك اللحظة ما الذي يدفعنا في أكثر الأحيان إلى الانتحار! إنه ليس الألم؛ بل فكرة … ليس أخطر على الإنسان من اضطهاد الفكرة … ليس الخطر علينا من الحقائق والواقع؛ بل من الصور والأشباح! فإن الذي يدفعنا غالبًا إلى الموت هي أشباح.

على أني في تلك اللحظة تذكَّرت ابنتي! هي التي أنقذتني، فتركت كل شيء، وجعلت أفكر فيها، لقد كنت نسيتها! وبتفكيري فيها تغيَّرت تلك الصور المخيفة، وانزاحت قليلًا من رأسي … فشعرت ببعض الراحة! لقد أنقذتني ابنتي من بعض آلامي، ولعلها أنقذتني كي أنقذها، وأنه واجب عليَّ محتم أن أنتشلها من أحضان مثل هذه الأم. وهنا حدث تحوُّل في اتجاهي كله؛ لم تعد الزوجة تعنيني! بل إنه على الرغم من الصدمة التي حلَّت بي لم يخطر ببالي قطُّ لحظة واحدة أي خاطر إجرامي، أو أي رغبة في عقاب أُنزله بها أو بشريكها في الإثم! حتى اسمه لم أحاول معرفته أو التحري عنه، وربما كان هذا راجعًا إلى طبيعتي أو نشأتي وتربيتي كما قلت لك، إنما الذي خطر لي هو البُعد بنفسي في الحال عن هذه الأدران! وأذهلتني المفاجأة عن كل شيء أو شخص غيري … فهربت بمفردي؛ ولو تنبَّهت لحملت معي ابنتي، ولكني أحمد **** أني لم أتسرع، ولم أرتكب حماقة؛ فإني في مطلع الأسبوع الثاني، وقد عرفت بعض الهدوء، وبدأت جفوني تعرف بعض النوم! عكفتُ على تدبير أمري، فنظمت شأني وضمدت جراح نفسي، وغسلتها بمطهر رائع الأثر، أتدري ما هو؟ هو الجيد من الكتب! إنك لم ترني هنا إلا وبيدي كتاب … إني وأنا أغرق نفسي في المطالعة القيمة؛ إنما أغرقها في محلول بلسم.

ولما سكنت العاصفة في رأسي قليلًا، بدأت التفكير في الموقف كله، فرأيت أن التصرف السليم هو في كتمان كل ما حدث عن الناس، ومفاوضة زوجتي سرًّا في الطلاق على هذا الأساس؛ وهو أن تنزل لي عن حقها في حضانة البنت؛ وأن أتسلَّم طفلتي من الفور، وأربِّيها على مبادئي، وكما يحلو لي!

وأظن المنطق يقضي بأن مبادئي أسلم لهذه البنت على الأقل وأشرف لها من مبادئ أمها … وإذا أرادت الأم أن تحرص على مستقبل ابنتها، فلتحذر كل الحذر من أن يطَّلع المجتمع على هذه الفضيحة! ولها أن تخلق سببًا شريفًا تبرر به الطلاق، ولن تجد هي صعوبة في اختراع سبب له؛ «فالطلاق» اليوم أصبح «موضة» وبدعة، شأنه شأن «المغامرات»! إنما عليها أن تجد سببًا لا يَشين ابنتها في المستقبل؛ فالويل للطفلة إذا علم الناس الحقيقة، فهم سوف يقولون مع المثل السائر: «البنت لأمها»، وبذلك يُقضى على سمعة هذه الصغيرة منذ الآن!

ولكن بقيت أمامي مشكلة؛ من الذي يفاوض هذه الزوجة؟ أما أنا فمستحيل أن تراها عيني أو يخاطبها لساني … إن مجرد تخيُّل ذلك يصيبني بقشعريرة أخاف أن ينتكس معها أمري. وهنا خطر لي أن يقوم بذلك عني رجل يُعتمَد عليه، يوثَق بشرف كلمته وحفظه للسر، ولم أتردد في اختيار هذا الرجل! فقد كان هو ابن خالي، ذلك الضابط الذي رأيته معي! فلقد نشأنا معًا منذ الصغر، ودرجنا على المودة والإخلاص من قديم، وكان هو من بين جميع أقاربي الصديق الوفي، والأخ العطوف. وعلى الرغم من اختلافنا في المشارب والميول، وافتراقنا في الطبائع والاتجاهات؛ فإننا متَّحدان في جوهر السلوك، متلاقيان في كثير من الخصال؛ فهو يختلف عني منذ الصبا في ميله إلى الحياة العسكرية وتبرمه بالحياة الفكرية، وفي تفضيله الحصان على الكتاب، وبراعة الرماية على متعة القراءة … ولكننا نتَّفق في فهمنا لكلمة «الواجب»، وفي تقديرنا لمعنى الشرف … إنه رجل، وكان دائمًا رجلًا، حتى يوم كنا *****ًا نلعب لعبة «الحصاة»، يخفيها أحدنا في إحدى يديه، ويسأل الآخر عنها، فإذا غلط ضربه بالمنديل المفتول كذا ضربات! كنا معشر الأطفال اللاعبين نحاول التنصل أحيانًا، والمماطلة أو المغالطة! أما هو فكان صريحًا مستقيمًا ماضيًا؛ كأنه سيف … إذا أخطأ مدَّ كفَّيه من تِلقاء نفسه، وتلقَّى الضرب وهو يتلوَّى من الألم حتى يوفي بالشرط.

كان هذا الأخ هو الذي فكرت فيه … ولم أفكر في أحد غيره، حتى ولا أمها؛ خشية تسرب الخبر في الأسرة، وانتشار التهامس، ثم الثرثرة، والقيل والقال، ولكن ابن خالي هذا لو قلت له: اكتم عني فلن يتكلم، وإن ذُبح … فاستقدمته بالتليفون إلى هذا الفندق، فجاء على عجلٍ، وكان الوقت عصرًا أو بعد العصر بقليلٍ، فلم أرَ أن أَصِفَ له الأمر بنفسي أو أخبره؛ لئلا أزيد فيه أو تخونني أعصابي، فأصورها تصويرًا ظالمًا … وآثرت أن أضع بين يديه الكراسة يطالعها أولًا، قبل أن أنطق بحرفٍ، وهو عين النهج الذي اتَّبعته معك بعد ذلك … فحمل الكراسة ومضى بها إلى بيته في القاهرة، على أن يجيئني بها في اليوم التالي وقد قرأها؛ إذ كان من المتعذر عليه المبيت خارج بيته تلك الليلة، فقد سافرت زوجته إلى مدينة «أسيوط»، لتكون بجانب شقيقتها الحامل التي تضع … وتركت له إدارة المنزل، ورقابة ولدَيْه، كلاهما يذهب إلى المدرسة؛ فالولد الأكبر في الثامنة من عمره، والأصغر في السادسة، فهو كما ترى قد تزوج قبلي بسنوات!

وجاء الغد، وعاد إليَّ ابن خالي بالكراسة … ولكن بأي وجه؟! لقد كان شاحبًا شحوبًا هالني وأفزعني، ورأيت في عينيه كأن مصيبتي أفدح مما ظننت وأعظم، وأخذتني عليه شفقة، وكاد يذهلني ما به عما بي، فقلت له وأنا أجلسه بجواري: «هوِّن عن نفسك، ولا تدع كارثتي تفعل بك كل هذا! ولنعالج الأمر بعقل هادئ … فأصغ إليَّ أحدثك بما استقرَّ عليه عزمي، وأرجو أن تقرَّني فيما اعتزمتُ.»

فلبثَ مُطرِقًا، ولم أسمع منه إلا غمغمة تصعد من أعماق قلب مجروح قائلة: «سحقًا للنساء!»

وأردت أن أعيد الصفاء إلى ذهنه؛ لنتعاون على حلِّ المشكلة حلًّا حصيفًا، ولكنه انتفضَ قائمًا، وكأنه لا يُصغي إليَّ، وفاجأني بقوله، وهو ينظر إلى مكان «التليفون»: اسمح لي أطلب «الترنك»! لا … لا بدَّ من الاستعلام في «أسيوط»!

فاستوقفته وأنا أردِّد في شيء من العجب: «أسيوط»!

فقال في لهجة عصبية تدلُّ على خروجه عن طَوْره: «من أدرانا يا أخي؟ من أدرانا؟ لقد جاءنا تلغراف حقيقة بأن شقيقتها موشِكة على الوضع، فسافرتْ … وقد حادثتها تليفونيًّا البارحة فوجدتها حقيقة هناك، ولكن كل هذا لا يقوم دليلًا … إنها تذهب كثيرًا إلى «أسيوط» أخيرًا! ولمن؟ لقد ذهبت هذا العام أكثر من … أكثر من …»

وظلَّ يَهذي بكلامٍ كثيرٍ عن زوجته، فأدركت من الفور أني قد ارتكبت غلطة كبرى، من دون أن أشعر. إن الكراسة فيها لو تذكرت نبذة عن زوجته، وآراء البعض فيها وفي تصرفاتها، وانفراد زوجتي بالدفاع عنها، وعن أفعالها … وهاك نَصَّ بعض دفاع زوجتي في صفحاتها:

«… هذه الصديقة المسكينة كل جريمتها أنها أرادت أن تعيش، وأن تتنفس قليلًا! وأن تحيا كمخلوق حرٍّ متمدن! ولكنها في نظر عمتي وأمثالها من أفراد أسرتي، امرأة ساقطة؛ أفعالها وأحوالها تشبه أفعال وأحوال العاهرات!

ما من أحد يلتمس العذر لمن يغتابونهم فيذكر ضعفَهم الإنسانيَّ، لعلِّي أنا وحدي التي كانت في قرارة نفسها تلتمس الأعذار لجميع الغوايات والغلطات على هذه الأرض!» إلخ … إلخ.

ما الذي أطاش عقلي فأسلِّم زوجًا آمنًا صفحاتٍ بها هذه العبارات عن زوجته؟! الحق أني ما تنبَّهت لذلك! إن عينَي عميتا عن كل ما تعلَّق بغيري، ولم تريا إلا ما خصَّني وألمَّ بي! إن الأثرة فينا أقوى منا، وإن الأنانية ركبت في كل حاسة من حواسنا؛ كما يركب «المحرك» في كل آلة من الآلات.

فلقد دفعت إليه الكراسة وأنا لم أفطن إلى أنَّ فيها ما يمسُّه، ولعلَّه قرأها فتسمَّر بصره على ما يخصه، وأرغمته على الجلوس ليفضي إليَّ بذات نفسه، فجلس وطفق يبدي لي ألمه لما قرأه عن زوجتي! ويحاول تعزيتي تارة والثورة لي تارة أخرى! لكنه في أكثر الأحيان كان يسهو عن موقف الصديق المحمَّل بمهمة، ويخرج عن صفة القريب والخَ***، المطالب بالرأي والنصح، ولا يبقى منه إلا زوج تنهش الريب والشكوك قلبه.

ولم يلبث أن نَسِيَ قصَّتي قليلًا، وأفاض في شرح قصته؛ فذكر لي أنه هو أيضًا لم يَنَمْ ليلته تلك بعد مطالعة الكراسة، وأنه قام في البيت هائجًا ينبش في هدوء الليل، وأطفاله نيام والخدم راقدون، صناديقَ زوجته وأمتعتها وخزانتها وأثوابها، يفتح ما طاوع يده، ويكسر ما استعصى عليه فتحه … باحثًا … منقِّبًا عن ماذا؟ عن اعترافات زوجته هي الأخرى! لم يعثر بالطبع على شيء، فليس كل النساء يحتفظن بكراسات، ولا كل الزوجات يسجلن الاعترافات، فتلك، ولا شك، مزية من مزايا زوجتي، المغامِرة المولعة بالحرية، المتمدنة المشغوفة بالحياة … وزوجته على كل حالٍ تكبر في السنِّ قليلًا زوجتي … ولها من ظروفها وميولها وطبيعتها، ما قد يجعلها تختلف عن صديقتها بعضَ الاختلاف في الأسلوب والطريقة على الأقل، بفرض اتحادهما في لب المبادئ. ولكن ابن خالي وقع فريسة تلك الصور الشائنة التي طالعها، فخلط بين زوجته وزوجتي، ولم يميز بينهما في وضع من الأوضاع! وتوهَّم زوجته قد سارت عين الشوط الذي قطعته زوجتي في طريق الخيانة، وطفقت ذاكرته تمدُّه بتفاصيل لم يأبه لها في حينها، والآن يرى لها من المعاني ما ترتعد له الفرائص.

هو أيضًا قد تغيَّب في مهامَّ رسميةٍ، وهو أيضًا طالما سمع من زوجته كلمات، ولحظ إشارات تشبه ما قرأ في صفحات صديقتها، ولطالما أحبَّ زينتها، ووافق على بهرجها؛ ظنًّا منه أن هذا يُرضيها ويُرضي المتَّبع المألوف عند نساء هذا العصر، دون أن يخطر بباله الشك في وفاء زوجته، أو الارتياب في أمانتها! إنه كان يصدِّق كل كلامها هو الآخر، ليس من السهل مطلقًا على زوجٍ أن يرتاب في زوجته … ولقد صدق من قال: «إنَّ الزوج هو آخر مَن يعلم شيئًا عن حقيقة مسلك الزوجة»! فإنَّ جوَّ الثقة الذي تنسجه الألفة الطويلة، والاتصال الوثيق واحتكاك اللحم باللحم، وامتزاج الدم بالدم، واختلاط الاسم بالاسم، ورباط الأطفال، وحِبال الحياة بما فيها من آلام وآمال؛ كل ذلك يلقي بالزوج في عالمٍ من الطمأنينة، تهمد فيه حواس الشك، وتنغلق فيه أهداب اليقظة وتتثاءب الفطنة وتنام.

إن الزواج هو وادي العميان، يتعطَّل فيه بصر الإنسان ببعض حقائق الأشياء؛ فهو قد لا يرى ما حدث، وقد يرى ما لم يحدث! ومن يدرينا أن زوجته ذهبت بالفعل في طريق الغواية إلى حدِّ الخيانة الصريحة؟ ولماذا يبني هذا الفرض على كلمات لزوجتي ليس فيها ما ينمُّ عن ارتكاب إثم بالذات؟ هذا على الأقل ما أردت أن أُقنع به ابن خالي؛ أعالج به موقفه المؤلم! ولكن الإقناع في هذه الأمور لا ينفع، والمنطق لا يغني شيئًا! ليس أخطر في الزوجية من تَنبُّه الريبة النائمة؛ فإنها متى صحت دَبَّ فيها نشاط عجيب، فلن تعرف النوم بعد ذلك أبدًا … ولقد حفظ ابن خالي العبارات الخاصة بزوجته في الكراسة، واستظهرها كلمة كلمة؛ فعبارة: «أرادت أن تعيش، وأن تتنفس قليلًا كمخلوق حرٍّ … وأفعالها وأحوالها التي تشبه أفعال وأحوال العاهرات … وجميع الغوايات والغلطات» … إلخ، إلخ.

كل كلمة من هذه انقلبت في رأسه عينًا يقرأ بها كتاب حياته الزوجية من جديد … ويا لهول ما قرأ! إنه في كل لحظة يأتي إليَّ بما يسميه برهانًا جديدًا على جرائم امرأته، وآخر ما رسخ في اعتقاده فكرة خطيرة؛ هي أنه يشكُّ في نَسب ولده الأصغر … إنه على رزانته التي كنت أعرفها فيه يقسم لي إنه ليس ابنه، ويدعوني إلى أن أحدق في وجهه، وأتفرَّس في ملامحه، فهو يزعم أنه لا يشبهه مطلقًا كما يشبهه الابن الأكبر … ولكن لماذا لم يقُل هذا الكلام من قبل؟! وكيف لم يفطن إلى مسألة الشَّبه حتى الآن! من العبث أن تجادل في ذلك رجلًا وضعه القدر هذا الوضع.

إني من ساعة أن رأيت وجهه الذي رجع به، أدركت أن الواجب يقضي عليَّ بأن أمنعه من العودة إلى منزله، وهو على تلك الحال؛ خشية أن يرتكب حماقة مما يندم عليه الإنسان عند هدوئه. ثم إني خِفت عليه من أثر الصدمة في أيامنا الأولى، وأثر الوحدة … ولقد جرَّبت هذا قبله، وأعرف مداه! فعملت على استبقائه في هذا الفندق يومين أو ثلاثة حتى نتدبر الأمر معًا. وخاطبنا منزله بالتليفون فأحضروا له هنا بعض ما يلزم له من الملابس والحاجات الصغيرة، ثم خاطب هو بعض من يثق به من قريباته العجائز؛ ليَبِتْنَ في منزله؛ ويُعنين بأمر الولدَين، ويشرفن على البيت والخدم في أثناء هذه الغيبة القصيرة التي قال للجميع: إنها من ضرورات عمله الرسمي … ثم جعلتُه يطلب إجازةً مرضية بضعة أيام كما سبق لي أنا أيضًا أن فعلت! ولبثنا هنا هكذا كما رأيتنا! أما هو فلم يَنَمْ منذ حضوره إلا بحقنة من «المورفين» رجوت الطبيب البارحة أن يلجأ إليها. وأمَّا أنا فبعد أن كنت أحمل نكبتي وحدها، وأطمع في معونة ابن خالي عليها؛ إذا بي أصبح وعلى كاهلي نكبتان … وإذا هو في حاجة إليَّ أنا، كي يُعان.

والآن وقد انتهيتُ من سرد قصتنا عليك، أراك تدرك ما أنا فيه، وتعذرني إذا التمست عندك الرأي والمشورة!

وسكت الزوج سكوتَ من قد أَفرغ كل ما في جعبته، وبدا على وجهه ما يبدو على مَن ألقى مسألة يُنتظَر عنها الجواب!

ولم يكن من السهل على «راهب الفكر» أن يخرج فجأة من جَوِّ تلك القصة التي سمعها؛ ليجيب أو يفكر أو يدبِّر … فهو لم يكن بالغريب عنها هو الآخر … إنه شخص من أشخاصها، دون أن يعلم أحد … وإن صلته الخفية ببطلتها، التي حركت كلَّ هذه المأساة؛ لمِمَّا يوقر نفسه بخوالج من العسير إخفاؤها … ولكنه لم يجد بُدًّا من أن يقول شيئًا، فرفع رأسه وقال بإخلاصٍ: إنِّي في خدمتك … كن على ثقة بذلك!

فغمغم الزوج: أشكرك!

وأطرق، وظهر عليه تردد! كأنه أراد الكلام وأمسك عنه … أو أنه كان يتوقع من محدِّثه دخولًا في الموضوع، لا ترديدًا لعبارة مجاملة … وفطن «راهب الفكر» إلى ذلك، فبادر يقول: نعم … لا بدَّ للأمر من مخرج!

فقال الزوج لساعته: مسألتي أنا واضحة، الحلُّ عندي هو ما ذكرت الآن؛ الطلاق بلا صخبٍ، واحتفاظي بابنتي من الفور، ولا يعنيني شيء آخر بعد ذلك … ألديك اعتراض على هذا؟

– لا … هذا هو الحل الوحيد الجدير برجلٍ محترمٍ مثقف مثلك.

قالها «راهب الفكر» بلهجة حارة صادقة.

ومضى الزوج يقول، وهو شاخص ببصره إلى الفضاء: ولكن المسألة الدقيقة العسيرة؛ هي مسألة ابن خالي! إنه لم يضع يده مثلي على خيانة صريحة، أو اعترافٍ مكتوبٍ يستطيع بمقتضاه أن يريح ضميره، ويتصرف تصرفًا قاطعًا، ولكنها شكوك وأوهام، تعذبه ولا تؤدي به إلى حلٍّ من الحلول … ماذا ترى في أمره؟ ماذا ينبغي له أن يفعل؟ إنه لا يستطيع أن يطلِّق زوجته ويشرِّد أسرتَه، لمجرد رِيَب خامرته … ثم إني أمنعه من أن يشير إلى الكراسة بحرفٍ، إذا خطر له أن يواجه زوجته بما جاء فيها من عبارات تمسُّها؛ لأن هذه الكراسة شيء يجب أن يُنسى، وسرٌّ لا يملك أحدنا أن يذيعه … ما رأيك؟

فتحيَّر «راهب الفكر» فالإجابة هنا من أصعب الأمور، ولكنه أخذ يقول، وكأنه يخاطب نفسه: رأيي؟ لا أريد أن أتحمَّل تَبعة رأيي، ولكني أقول لك إن الريب والأوهام والشكوك، دون دليل قاطع محسوس؛ هي أقتَل للنفس، وأضيع للشخص من كل حقيقة … إنك بالطبع تذكر مأساة «عطيل»، وإذا كان «شكسبير» لم يجد حلًّا لغيرة «عطيل» وشكوكه، فهل أجد أنا هذا الحل؟ ولكن الذي قد أراه علاجًا — وأنا غير واثق ولا ضامن — هو المصارحة!

لماذا لا يذهب ابن خالك إلى زوجته، فيسارُّها ويصارحها في حجرتهما المغلقة، ويفضي إليها بشكوكه دون أن يذكر الكراسة … فليقل مثلًا إنه بلغه كذا، وإنه مرتاب في كذا … وليُخرِج من جوفه كل ما فيه من سم هذا الدواء … ولينظر النتيجة؛ فإما أن يرى من زوجته ما يثبت شكه في إدانتها … وإما أن يرى من كلامها ونبراته ما يقنعه ببراءتها … أظن هذا هو الأمر الذي كان يجدر ﺑ «عطيل» أن يفعله منذ البداية، قبل أن يستفحل معه الداء! ومَن يدري لو أنه صنعه من أول الأمر … ماذا كان يحدث من نتيجة؟ … أعتقد أن هذا هو الحل.

أتذكر حديث الإفك؟ ذلك الاتهام الشائن الذي ألصقه بعض الناس ﺑ «عائشة» زوجة النبي محمد ﷺ؟ إن عذاب الشك الذي عرفه «محمد» وقتئذٍ لجدير حقًّا بنبي إنساني! إن هذا الحادث في حياته لم يأتِ عبثًا … إنه خير دليل على أنه جاء ليهدي الإنسانية، وهو بشر منها، يتعذب بكل أنواع عذابها الأرضي! ما الذي صنعه «محمد» عند ذلك؟ صارح زوجته بالأمر.

أوصِ ابن خالك بأن يفعل ذلك هو أيضًا، وأن يُقْدِم عليه رابط الجأش، هادئ الأعصاب … فتلك مسألة يتوقَّف عليها مستقبل أبناء، ولا يجوز لنا مواجهتها، ونحن نتخبط في ظلامٍ من عواطفنا المضطربة، ونفوسنا الثائرة.

– أتظنُّ من السهل أن يحتفظ الإنسان بهدوء نفسه، وصفاء بصيرته مع زوجته وهو في مثل هذا الموقف؟

– لم أقلْ إِنَّ هذا سهل ميسَّر! ولكن لا بد له من أن يبذل جهدًا في سبيل ذلك … ولا بد لك من إقناعه ورياضته على امتلاك ناصية نفسه، حتى يرى الأشياء جليةً قبل البتِّ.

فأطرق الزوج لحظة … ثم قال، وكأنه يخاطب نفسه: كيف أنصح له وأنا لا أتصور أن هذا في الإمكان … حذار من أن تطلب إليَّ أنا — أيضًا — أن أقابل زوجتي وجهًا لوجه؟ لا تحاول ذلك معي! أرجوك!

ولفظ العبارة الأخيرة بنبرة تكاد تشبه الصرخة، زمجر فيها الغضب، وتراءى الرعب، ووثب العنف والإصرار … فبادر «راهب الفكر» يقول: لا … لا تَخَفْ! الأمر معك مختلف، ولم يخطر ببالي قطُّ أن أسألك أمرًا كهذا!

فاطمأنَّ، وقال: بالتأكيد أمري مختلف كل الاختلاف؛ فأنا ليس لديَّ ما أقول لهذه السيدة، بعد أن قالت هي كل شيء! لقد قرأت في كراستها ما فيه الكفاية، وقد أفصحت هي بما ينبغي لإدانتها وبأكثر مما ينبغي … أما ابن خالي، فلا بدَّ له من أن يقرأ في عَيْنَيْ زوجته.

– هذا بالضبط ما أردت أن أقول!

قالها «راهب الفكر» كمن يتنفس الصعداء … وصمت الزوج قليلًا، ثم قال: الآن قد انتهينا من أمر ابن خالي … وسأتولى علاج شأنه، بما ارتأيت له أنت من رأي، وبقيَ أمري أنا … لقد ذكرت لك أني كنت قد اعتمدت عليه في مفاوضة زوجتي، ولا جدال في أنه لم يَعُدْ يصلح لهذه المهمة، فحسبه ما هو فيه، ولا مفرَّ من اختيار غيره، ولن أبحث طويلًا فيما أرى، فإني مهما أنقِّبُ عن رجلٍ ثقة، ساكن الروع، حسن التصرف، سديد الرأي؛ فلن أجد خيرًا منك أنت.

فصرخ «راهب الفكر»؛ كمن فوجئ بوخزة: أنا؟!

ولم يكن لمثل هذه الصرخة مبرر ولا مقتضٍ عند من لا يعلم سرَّها وسر صاحبها. فأُخذ الزوج، ونظر في وجه جليسه نظرة المستقصي … فتمالك «راهب الفكر» نفسه، وتدارك أمره، ولطَّف من صوته قليلًا: إني … إني … أعجب لاعتقادك أني أصلح لهذه المهمة.

فقال الزوج باقتناعٍ: ولِم لا؟ ليس من الضروري أن يقوم بهذا العمل قريب من الأقرباء! إني مطمئن إليك أنت كلَّ الاطمئنان … إن ثقتي بكَ لا حدَّ لها، وإني شاعر بأنكَ تستطيع أن تتمَّ المهمة في جَوٍّ من الكتمان، وأن تؤدي لي هذه الخدمة على خير الوجوه.

– ليس أحب إليَّ من خدمتك في ظرفك هذا … لكن.

– لا تقل «لكن»! ب**** لا تقل «لكن»، إني ساعة لَمَحْتُك هنا، لمعت في رأسي هذه الفكرة؛ كأنها البرق الخاطف، بل لكأنه وحي من السماء هبط عليَّ أن ألجأ إليك … ولقد وضعت في يدك الكراسة عن تدبير … وكان كل أملي أن أسألك المعونةَ، وقد صرت وحدي كما ترى، فهل أنت خاذلي بعد كل هذا؟

فأطرق «راهب الفكر» برهة … ولم يجد من الطبيعي أن يرفض توسُّل هذا الرجل … إنه يكره هو أيضًا رؤيتها، ويخشى لقاءها وجهًا لوجه … لكن أمره معها على كل حالٍ هيِّن بالقياس إلى ذلك الزوج. وإذا كان على أحدهما أن يراها ويحادثها بعد الذي حدث، فلا ريب في أنه هو الأَولى بالمواجهة، الأقدر عليها … فليتحمَّل عن زوجها المسكين ذلك العبء … وليكتم حرجه في صدره، وليقدم … ورفع رأسه، وقال بصوت العزم: فليكن.

فقال الزوج وهو يشد على يده: أشكرك … ولن أنسى لك أبدًا هذا الصنيع!

ولم يلتفت «راهب الفكر» إلى جليسه … فقد حلَّق بذهنه لحظة … ثم قال له؛ وكأنه يخاطب نفسه: أهي في منزلها؟ هل أراها هناك؟ … لا … لن أذهب إليها في بيتها … فأنا بالطبع غريب عن البيت، كيف أزورها في غيبتك دون أن أثير فضول الجميع؟ إذا وافقتني فإني أدعوها بالتليفون إلى زيارتي!

فقال الزوج مرتاحًا دون تردد: افعل ما شئت!

– أتراها ما زالت في … في بيتك حتى الآن؟

فقال الزوج وهو يفكر: لست أدري … إني منذ غادرت البيت لا أعلم ما صارت إليه، ولكن أغلب ظني أنها هناك … إني أعرفها حق المعرفة … إنها ذات ذكاء … وقد فهمت، ولا ريب، كل شيء من اختفائي المفاجئ مع الكراسة، ولا أرى إلا أنها أوهمت الجميع أني على سفرٍ … ولبثت هي تنتظر!

– تنتظر؟!

– نعم، تنتظر خطواتي التالية؛ لتعرف منها اتجاهي بعد هذا الحادث.

وصمت الرجلان صمتًا قصيرًا قطعه الزوج صائحًا: ابنتي! أتوسَّل إليكَ أن تأتي إليَّ بابنتي. أنقذ ابنتي من يد هذه الأم … لن أطلب إليك شيئًا آخر غير هذا … ابنتي … ابنتي … وسمعة ابنتي … ومستقبل ابنتي.

– أعدك بذلك!

لفظها «راهب الفكر» في شبه همسة، كلها عزم وتصميم!

اللقاء​

غادر «راهب الفكر» «حلوان» في اليوم نفسه عائدًا إلى بيته، ولم يضيع وقتًا؛ فقد أمسك في الحال بسماعة التليفون وطلب الزوجة، وجرى ذلك كله بسرعة، صرفته عن التفكير في نفسه. وكأنما هو مُسيَّر بدَفعة من يد ذلك الزوج التَّعِس، فلم يكن همُّه إلا تنفيذ ما كلَّفه به، وقد استطاع أن يقنع نفسه بأن تلك المرأة أجنبية الآن بالنسبة إليه … وأنَّ في مقدوره أن يلقاها بهدوء وقلة اكتراث؛ كأنما هو يراها لأول مرة، ولن يكون بينهما غير حديث وجيز شبه رسمي؛ كذلك الحديث الذي يجري بين محامٍ وخصم في دعوى مدنية؛ فالمسألة لن تعدو … عرضًا بسيطًا لمطالب الزوج وإصغاءً لردِّها بالقبول أو الرفض … وهي لا بد قابِلة ذلك العرض الكريم بغير جدالٍ تجنبًا للفضيحة … ولكن … ولكن صوتها الرقيق ما كاد يرن بدلالٍ قائلًا: «آلو» حتى ارتجفت السماعة في يده … إنه صوتها، إنه على الرغم من كل شيء صوتها الذي عرفه قديمًا … مهما يكن رأيه فيها اليوم؛ فإن مجرد صوتها لم يزل يُحدِث في نفسه أثرًا … إن في الإنسان منطقة عجيبة سحيقة لا تصل إليها الفضيلة ولا الرذيلة، لا تشع فيها شمس العقل والإرادة، ولا ينطق لسان المنطق، ولا تُطاع القوانين والأوضاع، ولا تتداول فيها لغة أو تستخدم كلمة … إنما هي مملكة نائية عن عالم الألفاظ والمعاني … كل ما فيها شفاف هفاف يأتي بالأعاجيب في طرفة عين … يكفي أن ترن في أرجائها نبرة، أو تبرق لمحة، أو ينشر شذا عطر، حتى يتصاعد من أعماقها في لحظة من الإحساسات والصور والذكريات، ما يهز كياننا ويفتح نفوسنا على أشياء لا قِبل لنا بوصفها، ولا بتجسيدها، ولو لجأنا إلى أدق العبارات وأبرع اللغات … وهنا أحسَّ الخطر وخاف أن يتهدج صوته أو يضطرب نطقه فسكت ليتمالك … إلى أن ردَّدت هي مرتين: «آلو … آلو …» فتنحنح، وتكلم بسرعة معرفًا بنفسه … فأبدت دهشة مع شيء من الفرح … وخشيَ أن يطول الحديث، أو يخرج عن قصده، أو يُحرَج فيه، فبادر يخبرها بأنه مكلَّف من قِبَل زوجها بأن يراها في شأن مهم، وأنه ينتظرها في أقرب وقت؛ فضربت له موعدًا ذلك المساء، وختم للفور حديث «التليفون» على هذا النحو المقتضب، حتى لا تزول عنه صبغة الجد وصفة التكليف … وجلس إلى مكتبه ينتظرها؛ كما كان يجلس أيام زيارتها الأولى … يا للعجب! نعم إنه ينتظرها الآن … ولطالما انتظرها وهو جالس إلى هذا المكتب عينه، وأنظاره اليائسة الضارعة متَّجهة إلى ذلك الباب … ها هي ذي آتية عما قليل … وعما قليل يرى قدميها تجتازان هذه الأعتاب … إنها عائدة الآن … وعودتها حقيقة واقعة لا وهم من الأوهام، ولا حلم من الأحلام … نعم، هذا صحيح! لكن … لكن شتان! وامتدت يده فأخرجت من بين ملفات أوراقه رزمة رسائله إليها، وجعل يتصفَّحها، ويقرأ قوله لها:
«هنالك امرأة أخرى أحبها كثيرًا لأنها أيضًا على مثالك، وإن كنت لا أرى لها جمالك؛ تلك هي «إيزيس» المصرية.»
«هكذا فعلت «إيزيس» الزوجة، وهكذا كنت تفعلين أنت أيضًا لو أنكِ في مكانها؛ لأنك أيتها الصديقة العزيزة تحملين عين القلب! إني لا أشك في هذا لحظة … عين القلب الذي ينبع منه كل هذا الحب، وكل هذا الوفاء!»
«… إن المرأة النادرة هي هبة **** الكبرى … آه أيتها العزيزة! لو سألوني عنكِ لقلت ليس في دنياي اليوم إلا أنتِ!»
ثم قوله في رسالة أخرى:
«إني في حاجة إلى مجرد طيفكِ! لأن طريقي موحش حقًّا …»، «آه لو علم الناس أني أحب؟! ما من أحد في الوجود يرى ذلك الحب المضيء في نفسي كاللؤلؤة … حتى ولا أنت!»
ووقع بصره في إحدى الرسائل على قوله لها:
«ما من رجل في التاريخ سعد بزوجة عظيمة إلا تخيلتها على صورتك، وأعطيتها ملامحك، وأعرتها سماتك وصفاتك! لا ريب في أنك الآن بجوار زوجك السعيد تحدبين عليه بتلك المشاعر الرقيقة، التي أعرفها فيك! إني لأراكِ دائمًا في صورة الزوجة المُثلى.»
وهو لم يقوَ على ضبط نفسه؛ فإن اليد التي وصفت تلك المرأة بأنها «زوجة مثلى» لتسخر الآن — ولا شك — من حُسن ظنِّه وصائب تقديره!

وانهالت كلتا يديه على الرسائل تقطيعًا وتمزيقًا، وملأ بها سلة الأوراق المهمَلة عند أقدام مكتبه!

… حقًّا إنها لحماقة كبرى! كيف استطاع أن يُخطئ في أمرها هذا الخطأ؟ وكيف استطاعت عيناه أن تبصرا جمالًا روحيًّا، ونُبلًا سماويًّا، ومُثُلًا عُليا في مثل هذه المخلوقة؟ أتراها غفلة منه وسوء بصر بالأشياء، أم هي طبيعة الفنان أحيانًا تحوِّل القبح إلى حسن، والتفاهة إلى روعة وجلال؟ إنها مثل جهاز «الكاليدوسكوب» الذي يحوِّل قطع الورق الملون وفتات الزجاج المشوَّه إلى صور رائعة الرسم، وأشكال بديعة التنسيق!

لعلَّ تلك وظيفة من وظائف الفن والأدب والفكر! أن تكون للإنسانية بمثابة ذلك الجهاز الذي يجمِّل الأشياء! لقد صوَّر هو في تلك الرسائل امرأة مثالية، ولو أتيح للناس الاطلاع على رسائله لرأَوا صورة للزوجة الفضلى، تبعث في نفوسهم الرجاء، وتقوي في قلوبهم الثقة بالخير والفضيلة، وتلقي في روعهم الإيمان بوجود الجمال الخلقي، فلماذا ننزع من رءوس الناس هذا الوهم الجميل، ونقول لهم: إن ما ترونه من كمال مثالي، وجمال علوي، ليس سوى قطع من حياة امرأة ملونة المظهر، ملوثة المخبر، وفتات شخصية نسائية أهش من الزجاج وأحقر؟ أي فائدة تُجنى إذا كشفنا للناس عن حقيقة الأمر، وفجعناهم في آمالهم، وأطلعناهم على ذلك التزييف، وأريناهم كيف أنَّ تلك القطع الآدمية والفتات البشري، قد استوت خَلقًا بديع البناء كامل البهاء، بمجرد انعكاسها على تلك المرايا الكاذبة في ذلك الجهاز «الكاليدوسكوبي» القائم في قلب الأديب أو رأس الفنان؟ إنَّ إيهام الناس بوجود عالم الحق والخير والفضيلة هو واجب كل مفكر! وله أن يتخيَّر الوسيلة التي يراها، والأسلوب الذي يحذقه، لغرس هذا الوهم في النفوس … عجبًا! لماذا يسميه الآن وهمًا، ولا يسميه إيمانًا؟ أفقد إيمانه هو الآخر بوجود الفضيلة لأن امرأة خيَّبت أمله؟! الواقع أنه كان يشعر ويفكر في تلك الساعة، لا بوصفه أديبًا أو مفكرًا، ولكن بوصفه رجلًا، وليس أدل على ذلك من اجترائه على تمزيق تلك الرسائل، ولو أن الأديب أو الفنان هو الذي كان يتصرف وقتئذٍ، لأبقى على رسائله قائلًا: «ماذا تعنيني حقيقة النموذج بعد أن أبدعت المثال؟» أو على الأقل: وما العلاقة بين رسائلي وتلك المرأة؟ إني كنت أخاطب طيف امرأة لا صلة لها بهذه المرأة … الطيف من صنعي، والمشاعر مشاعري، فلأبقِ على ملكي ومخلوقات ذهني … بل لأنشرها إذا شئت على الناس، كما نشرت وأنشر غيرها من صفحات!» ولكن الرجل فيه … الرجل المخدوع المفجوع هو الذي كان يحس، ويفكر ويتصرف. ولئن كان زوجها لا يفكر اليوم إلا في بتر كل سبب يربطه بها … فكذلك هو، ذلك الذي كان لها في الخفاء شبه «زوج روحي» قد اتجه تفكيره هو الآخر إلى بتر كل ما كان يصله بها من أسباب … ولم يكن بينهما من رباط مادي سوى تلك الرسائل، فكان حتمًا عليه أن يصنع بها ما صنع … ولقد شعر حقًّا ببعض الراحة، وقد فعل ذلك!

ومرَّ الوقت سراعًا، وغربت الشمس، وأقبل المساء! إن موعد مجيئها قد قرب … إنها في الطريق إليه … إنه يسمع وقع خطواتها، لأن دقات قلبه تخبره بذلك! لقد أخذت دقاته تسرع، كأنها تتابع تلك الخطى، أو كأن بين هذه وتلك عرقًا نابضًا، ولكن … لماذا قلبه يدق؟ ليس يدري! ليس هو الحب على كل حال … هذا ما يؤكده لنفسه على الأقل! وهل يمكن أن يحمل لها اليوم غير الكراهية والازدراء؟ إنما هو نوع من الاضطراب يخالج المقبِل على لقاء غير عادي! فهو يحسُّ بعواطف شتى في وقتٍ واحدٍ، يحس شيئًا من الارتياح الداخلي لرؤياها، ولكنه لا يعلل هذا لنفسه إلا بأنه حب استطلاع!

نعم إنه مشوق إلى أن يرى وجهها الآن، وما صارت إليه، ويصغي إلى كلامها وما ينطوي عليه! وإنه ليحس شيئًا من الرهبة منها، ويتمنى في قرارته أن يجدها قد تغيرت، وذهب سلطان جمالها، حتى يلقاها هادئًا غير مكترث لها، ويحس كذلك شيئًا من الغيظ والغضب، والأسى والأسف، لأنها عائدة الآن بغير الثوب الخلقي النقي، الذي تركت به تلك الحجرة آخر مرة … كل هذه المجموعة من المشاعر امتزجت في نفسه تلك الساعة، وأثارت ساكنها، فجعل كل همِّه القبض على زمام أعصابه، والتهيؤ لمقابلة الزائرة رابط الجأش كعهدها به فيما سلف.

ودق جرس الباب! فانتفضَ قائمًا على الرغم منه، ثم تنبَّه للفور فجلس في مكانه من المكتب، وتشاغل بالكتابة، وفتح خادمه باب المسكن، وسمع صوتها وهي تسأل عنه، وخطواتها وهي تدنو منه، إلى أن دخلت عليه الحجرة، وقالت: «بونسوار» يا أستاذ!

فرفع رأسه بتؤدة، وردَّ التحية بهمسة، وأشار لها بيده إلى مقعد، وعاد فدسَّ رأسه في الورق، متشاغلًا بالكتابة من جديد! وكانت تلك خير وسيلة يكتسب بها وقتًا، يهدِّئ فيه روعه! ذلك أنه نظر إليها — عندما رفع رأسه — نظرة خاطفة، وكانت تلك النظرة كافية، فقد أدرك منها كلَّ شيء! إنها هي بجمالها … هي بحُسنها للأسف، وسحرها! ولكنَّ فيها مع ذلك شيئًا قد تغيَّر! جمالها اليوم ليس جمال الأمس … إنه الآن جمال خطر! إنه الجمال المتحفِّز … الجمال المتحدي … الجمال الذي يحلو له أن يهجم، وأن يصرع، وأن تكون له ضحايا! إنه الجمال المخيف الشرير … إنه الجمال الآثم … إن طريقة زينتها وحدها تنطق بذلك! فصبغة الشفاه ورسمها … و«الرميل» حول الأعين والحذق في وضعه … والعطر والتفنن في اختياره؛ كل شيء فيها الآن يكاد يصيح قائلًا: «حذار مني!» إنها لم تعُد الزهرة النضرة وكفى … ولكنها الزهرة ذات الرضاب المسموم والألوان الزاهية، لغرضٍ معلومٍ! إنها الزهرة القانصة … التي تتفتح بهاءً لِتُطبق على فريستها فناءً … رأى منها ذلك كله في هذه النظرة … وهو لا يدري أعينه هي التي أبصرت ذلك حقًّا، أم رأسه وما صوَّره فيه الوهم … فهو لم يكن ينتظر زيارة امرأة بريئة، بل امرأة يعلم من سيرتها ما علم!

مهما يكن الأمر، فها هي ذي تلك المرأة أمامه، بكل سحرها وحُسنها الغابر والحاضر … فليغمض عينيه عن شكلها ورسمها … وليضرب صفحًا عن شخصها واسمها، وليواجه المهمة التي نُدب لها بغير إبطاء، وينفض يديه من هذا الأمر، ويخرج من هذا الموقف … وآنس من نفسه بعض الهدوء والاطمئنان، فنحى أوراقه بيده، والْتفت إلى الزوجة قائلًا بلهجة جادة جِد أصحاب الأعمال أو رجال القانون: الموضوع الذي استدعى تشريفك بالحضور يتلخص فيما يأتي …

ولم يُتِمَّ كلامه، فقد قاطعته الزوجة الحسناء قائلة: «باردون!» تسمح لي بسؤال؟

– تفضلي!

– أخبرتني بالتليفون أنك قابلت زوجي … أين قابلته؟

– في «حلوان»!

– حلوان؟ آه … هو إذن في «حلوان»؟ لا … لست أقصد مقابلتك له أخيرًا … إنما أسأل أين قابلته أول مرة؟

– أول مرة؟ أذكر أنه تفضَّل بزيارتي هنا.

– متى كان ذلك؟

– منذ أكثر من عام.

– أتذكر لأي علَّة زارك زوجي منذ أكثر من عام؟

– كان ذلك لأجل … لأجلك!

– لأجلي! لماذا؟

– للحديث عنك، وعن القراءة والكتب، والأدب.

– كنت تعرفني إذن في ذلك الوقت؟!

– نعم … بالطبع!

– وهل رأيتني يومئذٍ؟

– طبعًا!

– أين؟

– هنا … كنت تتفضَّلين بالزيارة من آنٍ لآن!

– إذن لم تكن زيارتي اليوم للمرة الأولى … إذن معرفتي بك ومعرفتك بي لم تنشأ الساعة للمرة الأولى … إذن وافقني على أنه ليس من الطبيعي مطلقًا أن تلقاني الآن، بعد افتراقنا بعام، فلا تجد ما تستقبلني به من كلام، غير هذه العبارة الجافة تصدمني بها: «الموضوع الذي استدعى تشريفك بالحضور يتلخَّص فيما يأتي.»

فأطرق «راهب الفكر»، وارتبك قليلًا، وأخذ يعبث بالقلم على ورقة بيضاء، ثم قال بغير أن ينظر إليها: إني آسف … ولكن … بأي لهجة تريدين أن أخاطبك؟ لا أظن أني غيَّرت كثيرًا طريقتي في الخطاب معك!

– أعترف أنك لم تكن معي يومًا قَطُّ مسرفًا في اللطف، ولكنك على بخلك في التودد إليَّ، وتحفُّظك في معاملتي، كنتُ أشعر، برغم ذلك، أنك طبيعي، وأنك لم تتكلَّف تجاهلي، كما فعلت الساعة!

– إني أردت أن أوفر من وقتكِ، وأن أطرق الموضوع مباشرة … فصمتت على مضضٍ، ثم قالت: إني مصغية!

لفظتها على مهلٍ، وهي تُخرج من حقيبة يدها صندوقًا أنيقًا للسجاير على أحدث طراز، تناولت منه سيجارة، ووضعتها في فمها، ثم قدَّمت الصندوق إلى الأديب تعزم عليه … فاعتذر شاكرًا.

فقالت باسمة: «آه! حقًّا … أنت لا تدخن!»

فأجابها بنظرة تكاد تنطق بمرارة: وأنتِ أيضًا فيما مضى … أما اليوم فأنت تدخنين!

ولكنه تجنَّب الحديث في هذه الأشياء، وآثر أن يشرع فورًا في الكلام الجِدي … إلا أنه لم يدرِ كيف يبدأ، فالتفت إليها كالمستعين بها، سائلًا: ما هو — في اعتقادك — السبب في غيبة زوجك؟

فانتهزت الفرصة، وقالت متحدية، وهي تشعِل سيجارتها بوقادة (ولاعة) ذهبية ثمينة: من فضلك لا تُلْقِ عليَّ أسئلة … اطرق أنت موضوعك مباشرة، وقل ما أردت أن تقول، ولا تنتظر مني غير الإصغاء!

فسكت لحظة، وقد أدرك أن الحديث في مثل هذا الجو لن يوصل إلى نتيجة، فغيَّر من لهجته قليلًا، وقال لها: أما زلتِ مصرةً على اتهامي بأني أسأت استقبالك؟

فغيَّرت هي أيضًا من لهجتها بعض الشيء وقالت: بالتأكيد! لقد كنت أنتظر منك أن تقدِّر لي على الأقل قَبولي دخول بيتك بعد أن طردتني منه، منذ أكثر من عام … يوم طلبت إليَّ — في هذه الحجرة بالذات — أن أكفَّ عن زيارتي لك!

– دخولك بيتي اليوم هو لأمر يخصُّك، ويخص زوجك!

– كان في إمكاني أن أسألك سرد هذا الأمر بالتليفون … ولكني لم أكد أتلقَّى دعوتك، حتى هرعتُ إلى زيارتك بغير تردُّد!

– ليست هذه أول مرة تدخلين فيها بيت رجل، بغير تردد!

لفظها في نبرة صارمة ذات معنى، فالتفتت إليه في الحال، وقد فهمت … على أنها لم تغضب ولم تعترض، بل ابتسمت راضية، وقالت وهي تنفخ دخان السيجارة من فمها: لا بأس … إني أفضِّلك قاسيًا معنِّفًا … لقد كنت معي كذلك أحيانًا فيما مضى … وفي هذا على الأقل شيء من الاهتمام! ولكن … من أين جاءك أنها ليست أول مرة أدخل فيها بلا ترددٍ بيتَ رجل؟ أترى زوجي قد أخبرك؟ أم تراه قد أطلعك على …؟!

– نعم! على كل شيء!

قالها على عجلٍ كمن يلقي عن كاهله عِبئًا، فقد هوَّنت عليه بعض مشاق الحديث، وسلكت به أقصر السبل إلى لبِّ القضية … ورفعت سيجارتها إلى فمها، وجذبت منها الدخان طويلًا، ثم مضت تقول أيضًا، وهي رابطة الجأش: وقرأت إذن بالضرورة …؟!

– كراستك!

لفظها سريعًا وهو ينظر إليها ويراقب عينيها … لكن يا للعجب! ما هذا الهدوء؟! ما من هُدْب فيها قد ارْتَجَفَ، بل لقد كانت عيناها مصوبتيْن إلى عينيه كأنهما تقرآن فيهما عوامل نفسه، وتدرسان خوالج فكره، ولم يجد هو بُدًّا من أن يغضَّ نظره، ويتشاغل بالعبث بقلمه … فهو الذي قد تخونه عينه ونظراته … أما هذه المرأة … فكل ما بدا منها عندئذٍ ضحكة ناعمة طويلة تموَّجت في فضاء الحجرة مع الدخان المائج … ختمتها بقولها: ما تنتظر لتخبرني برأيك فيما قرأت؟

فتمسَّك بالهدوء وقال لها: ليس رأيي يا سيدتي هو الذي يجب أن تسألي عنه … بل رأي زوجك!

– زوجي ليس صاحب اختصاص في هذا الأمر … إنما هو اختصاصك!

– اختصاصي؟!

قالها بلهجة الغارق في لجة لغز أو أحجية، وضحكت هي منه، وقالت: أنسيتَ هكذا سريعًا أني كنت تلميذتك؟ يجب أن تعلم يا أستاذي العزيز أن دروسك قد أثمرت!

– أستغفر **** … أستغفر ****!

لفظ ذلك، لا بلهجة التواضع، بل في صيحة الأسف والخجل، والاحتجاج والذعر … ولم تُلْقِ هي بالًا إلى مقصده، بل أنشأت تقول: ربما كان هذا غرورًا مني … نعم … لا شك في أنه منتهى الغرور أن ألصق نفسي بكَ، وأقرن عملي بعملكَ، وأزعم أني كتبت شيئًا يستحقُّ الْتفاتك … إن ما قرأت ليس أكثر من محاولة قصصية … لك أن تسميها ما شئت، ولكن واجبي يقضي عليَّ بأن أعترف لك بالجميل … فأنت على كلِّ حال الذي حبَّب إليَّ الكتب … ولقد أغرتني المطالعة، بعد ذلك، بمعالجة الكتابة! فكتبت — كما ترى — تلك الكراسة في أوقات فراغي … وقد اختفت للأسف قبل أن تتم … وكان في نِيَّتي أن أقدِّمها لك عند تمامها … وأن أتَّخذها ذريعة على الأقل لمعاودة رؤيتكَ … وكنتُ على ثقة بأنها ستشفع لي عندك، وستقنعك بأني كنتُ جادة يوم جئتك لتغرس في نفسي حب الأدب، وأنك ظلمتني بإبعادي عنك، وطردك إيايَ من جوارك … وإني — حتى بعد أن غادرتك احترامًا لرغبتك — ظللت مقيمة على أن أمضي فيما وجَّهتني إليه، راجية أن ألقاك يومًا بشيء يرضيك، ويضطرك إلى الندم على سوء ظنك بي! وقد شاء القدر أن يصل إليكَ عملي ناقصًا من يدٍ غير يدي … وهذا لا يهم! فالقيمة كلها عندي الآن هي في اطِّلاعك على هذه الكراسة المتواضعة … وإني مع اعتقادي بأن هذا المجهود البدائي لن يظفر برضاك الكامل، أراني مبتهجة على كل حالٍ لهذه النتيجة، منتظرة منك أن تبدي لي رأيك بكل صراحتك وقسوتك وخشونتك، التي اعتدت أن تختصَّ بها تلميذتك، فما هو رأيك؟ تكلَّم؟ لماذا تنظر إليَّ هكذا؟!

الواقع أنه فوجئ مفاجأة؛ فهذا كلام ما كان يتوقع سماعه … هي إذن بريئة من الإثم، وتلك الاعترافات المزعومة لم تكن سوى عمل أدبي خيالي … اندكَّ إذن صرح الاتهامات الموجهة إليها، وانهار الأساس الذي بُنيت عليه مهمته … فهي لم تَخُن زوجها، ولم تدنِّس شرفها … بل إنها لم تَخُنْه هو في إيمانه بها، ولم تلوث الصورة التي رسمها في نفسه لها! ليته إذن لم يتعجَّل فيمزق رسائله إليها! وافرحتاه لو كان هذا الأمر صحيحًا … وظل يتفرس في وجهها وكأنه يريد أن يخترق حجب نفسها، وأخيرًا قال لها في صوتٍ، لا يتبيَّن منه تصديق أو تكذيب: اعترافاتك إذن لم تكن حقيقية؟

– لا، بالتأكيد!

– وذلك الممثل السينمائي؟

– لم أره قط في حياتي!

– شخصية وهمية؟

– بلا شك!

– وكل تلك الحوادث والتفاصيل والوقائع، هي من نسيج قريحتك؟

– طبعًا!

– يا لها من قريحة خصبة!

قالها على نحوٍ لم تستطع أن تستشفَّ منه مرماه، ولم تَدْرِ أساخر هو أم جاد؟ وأرادت أن تكشف عن حقيقة قصده. فقالت: ما أظنك كنت تعتقد أنَّ لي قريحة روائية؟

– أعترف بأني ما كنت أعتقد أنك بهذه البراعة!

– إني مغتبطة … حدِّثني أيضًا عن براعتي في هذه القصة!

– بل فلنتحدَّث عمَّا هو أهم … فلنتحدث عن براعتك في دفاعك!

– دفاعي؟!

لفظتها في شيء من التجهُّم والاحتجاج … ولكنه مضى يقول: الحق أنه دفاع بارع جدًّا … دفاع ما كان يخطر لأحدٍ على بالٍ! ولست أدري كيف استطعتِ في هذا الوقت القصير، منذ أن حادثتكِ في «التليفون» عصر اليوم، وعلمت مني أني مكلَّف بتلك المهمة الخطيرة من قِبل زوجك، أن تُعدِّي دفاعَك بهذه السرعة، وبهذه المهارة؟!

يقولون إنك ذكية، وكنت أعرف ذلك من قبلُ، ولكني لمست ذكاءك الساعة على صورة رائعة! ثم طريقة تمثيلك للدور الذي أردت تمثيله، والمرأة بطبعها ممثلة قديرة، ولكنك تمتازين في التمويه والكذب، على ما أعهده فيك من قديم! ولا أحسبك نسيت قولك لي ذات مرة إنك تحبين الكذب كما تحبين «السينما، والتنيس، وسباق الخيل والكونكان»!

ثقي بأني — لسوء حظك — قوي الذاكرة جدًّا … خصوصًا فيما يتعلق بك، وبما سمعت منك، وقرأت لك!

وكان في صوته شيء من الحرارة والعنف؛ فلم تكره ذلك، وصوَّبت إليه نظرة فتَّاكة، وقالت: لا يدهشني أن يكون هذا رأيك فيَّ!

فقال، وهو يعبث بقلمه على ورقة: من واجبي أن أصارحك برأيي … ولقد طلبتِ إليَّ الساعة هذه الصراحة … وها أنا ذا أقدمها إليكِ خالصة.

فقالت في شبه تنهد: للأسف … هذا رأيك فيَّ دائمًا منذ زيارتي الأولى … إني سيئة الحظ معك … هذا كل ما أستطيع أن أقول!

– لا أظن أني ظلمتك! ربما كنتُ حقًّا قد أسأتُ فهمَك، وقدَّرتك أكثر من حقيقتك!

ولفظ العبارة الأخيرة في همسٍ لا تسمعه، ونظر بإحدى عينَيه على الرغم منه إلى رزمة رسائله الممزقة في السلة، ثم رفع صوته قائلًا لها: والآن يا سيدتي … هل لي أن أسألك بدَوري أن تَصْدُقِيني القول … لا من أجلي، بل من أجل زوجك، فنحن حتى الساعة لم نتقدَّم خطوة نحو الغرض الذي اجتمعنا له الليلة!

فاتخذت هيئة الجِد فجأة، وقالت بقوة: بل أنا التي يحق لها أن تسألك: لماذا تُكذِّبني؟ وبأيِّ حقٍّ يجوز لك أن تُلصق بي مثل هذه التهمة الخطيرة؟ وكيف تسوِّغ لنفسك أن تسمِّي تقريري الحقيقة أنه دفاع بارع؟ ما أظن زوجي قد أقامك نائبًا عامًّا لتحقِّق معي وتفنِّد أقوالي! إذا كانت تلك هي المهمة التي كلَّفك بها، فأخبرني حتى أفهم حقيقة الموقف!

فنظر إليها مليًّا وهو هادئ هدوءًا لم يكن ينتظره، فهو قبل حضورها كان يخافها، ويتوهم أنه لن يستطيع مواجهتها، بغير أن يخفق قلبه، ويتلعثم لسانه! ذلك أنه كان لا يزال — على الرغم من كل شيء — يعيش مع طيفها. الذي تمثل فيه كل الصفات العليا التي ترفعه إلى طبقة المعبودات! هذا الطيف هو الذي كان في حقيقة الأمر يخافه، ويقدِّر ضعفه وانخذاله في حضرته! أما هذه المرأة، فقد كفاه مجيئها بلحمها ودمها وحديثها، حتى يحس الاطمئنان والأمان، ويدرك أنه سيد موقفه، وقد بدأ ينسى الطيف، ويتأمل الواقع! ويدرس هذه المرأة في كل عبارة تلفظها، ويَزِن حقَّها وباطلها ومرامي لينها وثورتها … إنه لم يعُد يخشاها … ولكن من المبالغة أن يزعم أنه فقدَ كلَّ اهتمامه بها … والاهتمام أحيانًا كالرماد الساخن لنارٍ كانت متأججة! قد لا يخيف، ولكن لا ينبغي أن يطرح من الحساب، على أنه في تلك اللحظة لم يكن يفكر في غير مهمته، وقد تلقَّى عنفها بابتسامة، وقال: زوجك النبيل لم يُقِمْني نائبًا عامًّا! ولعله رأى من لطفه أن يعفيني من هذا المنصب الشاق، ولكنكِ أنتِ التي ألقت في روعي أن صراحتي تسرُّها، وأوهمتني أني حر في أن أقف منها الموقف الذي أراه، وقد رأيت أن أحكم عليكِ لا لكِ! هذا كل ما في الأمر!

فهدأ صوتها ورقَّ، وكأنها آثرت أن تعود فتأخذ محاورها باللين، وتكتسبه بالرفق والوداعة، فقالت: أتقسم أن ضميرك مستريح لهذا الحكم الذي أصدرته عليَّ؟

– ضميري مستريح!

– أَلِيَ أن أعرف على أي أساسٍ بنيت حكمك، يا سيدي القاضي؟!

– على أساسٍ تؤمن به كل امرأة … على الإحساس!

– الإحساس؟!

– نعم … الإحساس، وهو أساس لا يكفي وحده لإقامة العدالة في المحاكم، ولكنه عندي في مثل حالتك يكفي كل الكفاية! إن إحساسي وأنا أُصغي إلى دفاعك الساعة — واسمحي لي مرة أخيرة أن أسميه دفاعًا — هو غير إحساسي وأنا أقرأ اعترافاتك … إني لم أهتز لكلمة من كلماتك الآن … وأنت ماثلة أمامي بشخصكِ نابضًا، والحديث يتدفق من فمك حارًّا، ولكن كل حرف قرأته في كراستك كان يقف له شعر رأسي … إنها تفاصيل لا يمكن أن تكون ملفَّقة … إنها الحقيقة قد قُلْتِها أنت بحذافيرها … إنها وقائع قد عِشْتِها بكلِّ دقائقها … إنه الصدق كله قد أودعتِه تلك الصفحات المروعة! إن المسكين زوجك كاد يجنُّ وهو يطالعها، ولقد شاء لي أن أطالعها في ليلة! فكانت ليلة! أعني أني كدت أنا أيضًا … نعم … لقد كانت شيئًا فظيعًا … نعم … إنها لا يمكن أن تكون غير حقيقة رُوِيَت بكل دقة … كل سطر فيها ينطق ويصيح بشيء حدث بلا مراء!

حقًّا يا لها من صفحات! كيف تستطيع امرأة أن تعرض كل هذا على الورق؟!

قال ذلك وأطرق كأنه يخاطب نفسه … ونظرت إليه الزوجة لحظة صامتة، ثم قالت: ليس هذا بالدليل الكافي … لماذا لا تقول إنها موهبتي؟! أليس من الكُتَّاب من يُلبِس الخيال ثوب الحقيقة؟

– هذا هُراء! إن الكاتب قد يتخيل حوادث، ويلفق وقائع! ولكن المشاعر والإحساسات لا تُخترع ولا تلفَّق، فهي لا بد أن تنبع من الصدق القراح، وتصدر عن نفس تشعر بها حقيقة، وتنبعث عن قلب ينبض بها حية، ويحسُّها فعلًا طبيعية، كأنها جزء من كيانه الداخلي.

فإذا سلَّمنا معك بأن حوادثك مخترَعة، ووقائعك متخيَّلة، فماذا تقولين في مشاعركِ العميقة، التي بدا منها ميولكِ الدفينة للمغامرات الغرامية العنيفة، على هذه الصورة المحمومة التي أودعتِها صفحاتك؟!

فابتسمت لقوله، ثم قالت: وهل كنتَ تنتظر من امرأة أن تكتب في موضوع غير هذا! إن المغامرات الغرامية هي حلم كل امرأة!

– كل امرأة على طرازكِ!

– بل كل امرأة إطلاقًا، ما دامت جميلة وفي إمكانها أن تسحر رجلًا، وكذب من قال لك غير هذا، وإني أعرف نساءً كثيراتٍ، وعددًا لا يُحصى من الزوجات لا حديث لهنَّ اليوم فيما بينهنَّ إلا هذا النوع من المغامرات! إن الزمن قد تغير، وأنت في عزلتك، بين كتبك، لا تعرف ما يحدث في المجتمع … وأغلب من أعرف من الأسر والبيوت تجري فيها أشياء لا أدري ماذا تقول فيها، لو اطَّلعت عليها؟ ثِق بأنه من النادر الآن أن تجد الزوجة التي لا يكون لها إلى جانب زوجها صديق أو خليل، أو مجرد أنيس، ما دامت قد استطاعت أن تحصل عليه فهي لن تتردد … اطرح من حسابك تلك التي لا تستطيع! لقد أصبح اليوم مما يَمَسُّ كرامة المرأة الجميلة أن يقال: إنها عاطلة من المعجبين، وإنهنَّ ليتباهين أحيانًا فيما بينهنَّ بعددهم، ويتبارين في اكتساب أجملهم وأشهرهم وأغناهم … إني أعرف صديقة متزوجة، تفخر بأنها تملك أثمن مجموعة من المحبِّين … مجموعة يمثِّل كل رجل فيها ما تشتهيه المرأة من صفة؛ فلديها الثري، ولديها الشاب الوسيم، ولديها صاحب الاسم والجاه ولديها صاحب النكتة والظَّرف! وكل واحد من هؤلاء يظن أنها له وحده … ولكن الحقيقة أنهم هم كلهم لها وحدها! كل هذا يحدث، وأخشى ألا تصدقني إذا قلت لك: إن هذا يكاد يأخذ مجرى الحياة العادية في كثير من البيوت والأسر، دون أن يقع ما يعكر صفو الزوجية، أو يحطم ذلك الرباط المقدس!

إني لم أسمع حتى الآن في محيط صديقاتي بحادث طلاق أو انفصال، من أجل سبب كهذا بالطبع! كثير من أولئك الأزواج لا يعلمون كل شيء عن زوجاتهم … ولكن العواقب على كل حال سليمة … والعواصف التي تهبُّ على الحياة الزوجية قليلة، لذلك أرجو منك ألَّا تسرف في لومي، على تلك الصورة التي رسمتها للزوجة الحديثة! ولو كنتُ في مكانك لذهبت من فوري إلى زوجي، ونصحته بألا يبالغ هو الآخر … وإني آمل أن تصنع ذلك لا من أجلي ولا من أجل زوجي، بل من أجل حياتي الزوجية وطفلتي … فإنه لمن الحمق أن نحطمها، ونُشقي ثمرتها لسببٍ كهذا … هل أنتظر منك أن تقف هذا الموقف؟ إني مصغية إلى إجابتك! تكلم! لماذا تنظر إليَّ هكذا؟

الواقع أنه كان ينظر إليها مشدوهًا … هذا ليس تمثيلًا … إنه اعتقاد! إنها طبيعتها … إنها تتفوَّه بهذا الكلام، وكأنها تنطق بأشياء عادية مما تجري به الألسن دون جدال … أشياء بديهية لا يقف عندها التفكير … تُرى هل أُلغيت مبادئ الأخلاق في هذا المجتمع … وحذفت كلمات الفضيلة والعفة والحياء من القواميس المعمول بها دون أن يدري؟!

ولبثت تنتظر ردَّه، وهي تُخرِج من حقيبة يدها صندوق مسحوق «البودرة»، وإصبع الأحمر، فتصبغ وجهها وشفتيها … وهو يتأمل ذلك، ويذكر يوم كانت زينة المرأة شيئًا خفيًّا، يتمُّ في حجرة مغلقة … فإذا هو اليوم عمل علني تجريه في كل مكان تحت أنظار الرجال، والسيجارة كانت لا تدخنها من النساء غير العاهر، والخمر لا يحتسيها غير المومس! فإذا حرائر النساء يدخنَّ ويَسْكرنَ علانية في السهرات والمجتمعات والحفلات! كذلك كلمة الخليل أو العشيق كانت المرأة تلفظها قديمًا هامسة بين طيات الحجب وكأنما تلفظ إثمًا … فلا عجب، ما دام كل شيء يتطور، إذا تحدثت النساء اليوم عن العشاق المعجبين بملء أفواههن أمام الناس، كأنما يتحدثن عن أثوابهن، ويُشِدْنَ بأحاديث المغامرة بالبساطة التي يدخنَّ بها «سيجارة»، ويصِفن حوادث الغواية بالعناية التي يطلين بها الشفاه … كل هذا طبيعي عندهن الآن فلا فائدة من المناقشة! ولكنها ترمقه بعينيها تنتظر كلامه … ماذا تريد منه بعد ذلك على وجه الدقة؟ فالتفت إليها أخيرًا، قائلًا: لم أفهم بالتحديد، ماذا تنتظرين مني يا سيدتي؟

فقالت بكل هدوء: أنتظر منك يا سيدي القاضي ألا تكون جلادًا، بل تكون قاضي صلح!

– صلح؟!

لفظها في مزيجٍ من الدهشة والارتياع والسخرية.

فلم تخرج عن هدوئها، وقالت مبتسمة: ولِم لا؟ ألا يَسُرُّك أن يتمَّ بيني وبين زوجي كلُّ تفاهم وصفاء؟!

فقال بشيء من التردد: بالطبع يسرني ذلك … ولكن؟

– ولكن ماذا؟ إنها خير خدمة تقدمها للطرفين … ومن يدري؟! ربما كانت هذه هي المهمة التي كُلفت بها.

– على النقيض!

– أكانت مهمتك إذن إشعال نار الخصام في بيتنا؟

– لا يا سيدتي … بل مجرد تبليغك طلبات زوجك!

– ما هي طلباته؟ … الانفصال طبعًا.

– الطلاق بغير ضجَّة … وتسليمه الطفلة.

– هذا ما توقعت بالضبط، فأنا أعرف زوجي … تلك هي حلوله الهادئة العاقلة الرزينة … لكن … إذا احتكمنا إلى فكرك أنت … فكرك العميق المتسع … ألا ترى خيرًا من كل هذا أن نَرمَّ عشَّنا المتصدع، وأن ننشئ ابنتنا في حجرنا؟

– لست مكلَّفًا بمهمة التحكيم، بل بمهمة التبليغ.

فسكتت قليلًا … ثم قالت: لقد قمتَ بمهمة التبليغ من قِبل زوجي، فهل لديك مانع من أن تقوم كذلك بمهمة التبليغ من قِبَلي، فتخبر زوجي بكل ما أخبرتك به الآن؟ أي بذلك الذي سمَّيته أنت دفاعًا … قل له: إني أرفض اتهامي بالخيانة … وإن الكراسة ليست سوى قصة خيالية! أتتفضَّل بتبليغه ذلك، وإخباري بالنتيجة؟

فتفكر «راهب الفكر» لحظة … ثم قال: ليس لديَّ ما يمنع من تبليغه ذلك!

فقالت، وهي تنهض للانصراف: لن أطمع في أن تقف إلى جانبي، وتعرض الأمر بما فيه مصلحتي، فأنا ما زلت أعتقد في سوء حظي معك! إني لم أظفر قطُّ يومًا بقليلٍ من عطفك، ولكني أنتظر منك على كل حالٍ ألا تؤذيني بكلمة تلقيها ضدِّي! كُنْ على الحياد التام على الأقل.

– لكِ ذلك!

الزوجة المُثلى​

ذهب «راهب الفكر» في اليوم التالي إلى «حلوان» لِيَعرض على الزوج أقوالَ الزوجة، وتلقَّاه الزوج هاشًّا له، معجبًا بنشاطه، مُقدِّرًا لعنايته بإنهاء الموضوع في هذا الزمن اليسير، ولكنه لم يكد يجلس إلى القادم، ويصغي إلى ما جاء به، حتى أطرق مليًّا وقد صدمته عواطف شتى سريعة! فقد لاح له بصيص أمل خفق له قلبه، غير أنه لم يكن أكثر من خطفة البرق في ليلٍ ملبَّد بالسحب، بَرْق أضاء جوانب نفسه لحظة … ولكن ليكشف بعدها عن الحقيقة الواقعية … وهي غيوم سوداء، مكتَّل بعضها فوق بعض … لقد كان لقولها إنها بريئة، وإنها لم تكتب سوى صفحات وهمية بعض اللمعان المفاجئ! ولكن الزوج ما لبث أن تذكر عبارات الكراسة التي يحفظها عن ظهر قلب، فانقبضت نفسه من جديدٍ، وتلبَّد كلُّ شيء فيها: هذا محال! أهذا ممكن؟ أهذا معقول؟ والتفت إلى «راهب الفكر» يقول بمرارة وعتاب: أهكذا تذهب عني أمس باليقين المريح، لتعود إليَّ اليوم بالشك المؤلم؟! لقد كنت أرثي — كما تعلم — لابن خالي وما هو فيه من عذاب الشك! لقد حمدت **** أني على يقين، وأن أمري ميسور الحل … أهذا معقول؟ ألا تراها تحاول تغطية موقفها، وتبرئة نفسها؟! أجبني … هل صدقت أنت هذا القول؟ هل تستطيع حقًّا أن تصدقها؟! أخبرني بالحقيقة … بحقيقة شعورك؟ ما رأيك في قولها هذا؟ إني أريد الاستماع إلى رأيك!

فلزم «راهب الفكر» الصمت لحظة، ثم قال متوسلًا: لي عندك رجاء … لا تطلب رأيي … تلك مسألة عائلية دقيقة، لا يحسن بي أن أتدخل فيها برأي … كل ما لي أن أفعل هو أن أقوم بينكما بدور الرسول أو السفير … اجعلاني فقط واسطة اتصال بينكما … لا أكثر!

– أوَيصحُّ أن تتركني هكذا فريسة الشكوك؟!

– إني آسف … فكِّر لنفسك … وأَصْغِ إلى صوت قلبك وإحساسك … واقطع برأيك أنت وحدك … ولا تضعني موضع الحرج … إني لا أشك في أنك تفهم دقة موقفي في مسألة كهذه.

– فاهم!

لفظها بإذعانٍ يستثير الشفقة، وجعل يطرق ويفكر، ويقلب في رأسه الأمر على وجوهه … ثم استوى ناهضًا فجأة، وهو يقول: لا تؤاخذني! انتظرني لحظة!

ومضى واختفى برهة، ثم عاد يحمل الكراسة، وجلس في مكانه يقلِّب صفحاتها على غير هدًى، ويطالع فقرات من هنا وهناك … ثم صاح: وهذه حكاية وهمية؟ أهذا كلام خيالي؟ اسمع هذا … اسمع أرجوك!

وأخذ يتلو عليه قولها في الكراسة:
«… إن زوجي على الرغم من فتوره الحالي نحوي، وقربه الذي لم يعُد يثير فيَّ أي نشوة قوية، ما أساءني قطُّ يومًا، بل إنه ليعزني ويَودُّني. وفجأة بدا لي شبح عملي المخيف البشع، ما سوف يحدثه له من آلام، لو أني أطعت هواي وهربت من بيتي، أو قطعت صلاتي الزوجية بمثل هذه الفضيحة. وتيقظت في نفسي تلك اللحظة بقية ضمير وإخلاص، فلم أقبل بحالٍ أن أجعل زوجي وطفلتي، ضحايا ضعف وأخطاء وعواطف، هي عندي أقوى من إرادتي!
ثم هنالك شيء آخر: لقد فكرت في مصير تلك المرأة، التي تذهب إلى رجل، لتضع حياتها بين يديه، دون أن يكون في جيبها قرش! حقًّا كيف أستطيع، وأنا المجردة عن كل أموال خاصة، إذا انفصلت عن أسرتي وترفَّعت عن مد يد السؤال إلى ثروة والدتي، أن ألقي بعبئي على كاهل «…»، وأفرض عليه أمر معاشي وكسوتي وزينتي وترفي؟ إن كرامتي لتأبى ذلك، وإذا أرغمني حبي وضعفي على التفريط في هذه الكرامة، فهل يطيق هو؟!
لا ينبغي أن يضلني الحب إلى هذا الحد … وليس من الضروري أن ينتهي الحب دائمًا بالهرب مع الحبيب … وهو لا شك لم يخطر بباله قطُّ هدم عش الزوجية، والانطلاق معه بعد قطع الرباط الرسمي المقدس؛ لأنه يدرك عواقب ذلك … وإن مثل هذه الفكرة وحدها كفيلة بإطفاء جذوة غرامه، إنما الذي أراده، ولا ريب بتلك العبارة التي لفظها، ونحن في نشوة الغرام، أن أدبر وسيلة، أو أخترع حجة للسفر معه بضعة أسابيع إلى فلسطين أو غيرها، دون أن يفطن زوجي أو تنتبه أسرتي للباعث على هذه الغيبة! ولكن هذا مستحيل! ومهما أوتيت من سَعة الحيلة، فلن أجد الوسيلة … حسبنا إذن هذا القدر من اللقاء! ولا يجب أن نطمع في أكثر منه، وإلا تعرضنا لكارثة لا يحب كلانا أن تقع.»
هنا كفَّ الزوج عن القراءة، والتفتَ إلى «راهب الفكر» قائلًا: أخبرني كيف يكون هذا خيالًا، والأشخاص هم عين أشخاص الحقيقة؟! فالزوج والطفلة والزوجة ووالدتها … كل أفراد أسرتنا هم بعينهم وظروفهم … ولكن هذه السيدة العاشقة تريد أن تبرئ نفسها، لأنه ليس في مصلحتها ولا مصلحة غرامها أن تهدم عش الزوجية … لهذه الأسباب التي كتبتها بخطِّها. فهي لا بدَّ لها من أن تستبقي الزوج، لتستبقي العشيق … أمر واضح … أما حجتها فهي واهية، وما أظن أحدًا يصدقها غير مغفل، ولو أني أُحسَب اليوم في عداد المغفلين … إلا أن ذلك حدث بغير إرادتي … أما عملها على إدخال هذا الوهم عليَّ وتصديقي له، فهو إمعان منها في الاستهانة بي، وإساءة الظن بإدراكي … وإنه لكثير عليَّ أن أكون مغفلًا مرة أخرى عن وعي وإدراك … لا يا سيدي … اذهب إليها حالًا من فضلك، واستكتبها ورقة بتسليمي الطفلة … وأَقسم لها عني بأنه لا أمل لها أبدًا في إعادة الحياة الزوجية … حتى وإن ثبت صحة زعمها … فأنا لا آمن على بنتي أن تُربى في كنف أم خطَّت بيدها هذا الكلام الشنيع! وطوى صفحات الكراسة بحركة عصبية، وأراد أن ينهض فاستوقفه «راهب الفكر» قائلًا: وإذا رفضت تسليم الطفلة، وتمسَّكت بحقها الشرعي في حضانتها؟

– ماذا تقول؟

– هذا مجرد فرض! حتى أكون مستعدًّا لما يطرأ.

– إذا رفضت … أكِّد لها على أني لن أتردد عندئذٍ في أن أسلك الطريق الآخر، الذي أردت أن أجنِّبها وأجنِّب الطفلة نتائجه … طريق القضاء والفضيحة … ولديَّ اعترافاتها مكتوبة أقدمها للتحقيق، وما أظن — أو تظن هي — أن هنالك محكمة تحكم ببقاء الطفلة في حضانتها بعد ذلك!

فالأجدر بها إذن أن تفهم غايتي، وتقدِّر عملي في إنقاذ سمعتنا جميعًا … فالطلاق الهادئ، وتسليمي الطفلة هو في مصلحتها ومصلحتنا كلنا، فخير لها ألا تثير أي إشكال … هذا كل ما في الأمر!

وسكت وهو يسأل بنظراته «راهب الفكر» عما إذا كان يود الاستعلام عن شيء آخر، فأجابه سلبًا بإشارة إنجاز مهمته، وقال وهو يمد يده بالتحية: وكيف حال ابن خالك؟

– حاله سيئة!

لفظها بقلقٍ وحزن، ثم مضى يقول: مسألة ابنه الأصغر هي النكبة … هذه الفكرة متسلطة عليه إلى درجة خطرة … لقد غافلني، وذهب البارحة لينظر مرة أخرى في وجه هذا الابن، وعاد في حالة مخيفة … يؤكد لي أنه ليس ابنه، وتدمع عينه وهو يحدِّثني عن ذلك الطفل، وقد سأله ببراءة وطهارة: لماذا تنظر في وجهي هكذا يا بابا؟!

إنه لا يدري ماذا يصنع! وهل هو مخطئ أو مصيب؟ وماذا يكون موقفه من هذا الابن غدًا؟ ثم من الزوجة؟ إن هذا المسكين في حالة مخيفة فعلًا! إنه لا ينام ولا يأكل. إني أؤكد لك أنه لم تَبْقَ له أعصاب تحكم إرادته.

وأطرق مهمومًا، فشدَّ «راهب الفكر» على يده مشجعًا، وحيَّاه صامتًا، وانصرف عنه راجعًا إلى مسكنه بالقاهرة.

وفي ذلك اليوم طلب حضور الزوجة مرة أخرى، ليعرض عليها قرار الزوج النهائي، فجاءت في المساء، فأجلسها إلى المكتب … وقبل أن تنطق بحرفٍ قدَّم إليها قلمًا وورقة، وقال لها بلهجة سريعة صارمة: اكتبي!

فالتفتت إليه دهِشة: أكتب ماذا؟

– قَبولك كل شروط الزوج؛ منعًا للفضيحة!

فنظرت إليه مليًّا، كَمَن يبحث في سريرته، وقالت: ألم يعد هنالك أمل؟!

فأجابها باقتضابٍ: مطلقًا … لا أمل ولا فائدة!

– أخبرني أولًا ماذا حدث؟ وماذا قلت له؟ وماذا قال لك؟

فأخبرها بكل شيء … وأعاد على مسمعها كل حرف فاه به زوجها، وكل كلمة تلاها عليه من اعترافاتها، وتفصيل رأيه وموقفه، ومسلكه إذا قبلت، ونواياه إذا رفضت … ففكرت في كل ذلك لحظة … ثم أخرجت من حقيبة يدها صندوق سجائرها، وتناولت سيجارة وأشعلتها بولاعتها، ثم نفخت في الهواء نفخة، وقالت متأففة: يا لحمق الأزواج!

وتعجَّب «راهب الفكر» لكلمتها، فسألها بكل رفقٍ: وما الذي بدا من حمق زوجك على الأقل؟

– عجبًا! أوَلا ترى حمق تصرفه؟

– وتصرفك؟!

فتنهَّدت تنهُّد اليائس وقالت: لا حيلة لي فيك! إنك دائمًا ضدي … إنك لا ترى أبدًا غير أخطائي أنا، وعيوبي، ولا تبصر سوى هفواتي أنا، وذنوبي! بماذا أسأتك؟ أخبرني! ماذا صنعت لك غير أني حملت لك مودة و… ومحبة لم تقدِّرها ولم تلتفت إليها.

فأطرق «راهب الفكر» وقد أصابه شبه رعدة، ولكنه قال في الحال بصوتٍ أجش: إن زوجك يا سيدتي هو المعتدَى عليه!

– وأنا لست مُعْتَديًا عليها؟! وهو الذي يريد أن يحرمني بيتي وابنتي من أجل غيرة حمقاء؟!

– أمِن الحماقة أن يغار الزوج على شرفه؟

– لا تتكلم هكذا! يدهشني أن أراك تتكلم هكذا كما يتكلم الرجعيون وأصحاب الأفكار القديمة! الزمن قد تغيَّر الآن، والنظرة إلى هذه المسائل قد تطورت واتسعت! والمبالغة في تلك الأشياء لا تجدها إلا في الطبقات السفلى! إذ تسمع، بين آنٍ وآن، أن زوجًا ذبح زوجته أو أخته بسبب الغيرة أو الاشتباه في السير والسلوك! أما في طبقاتنا الراقية فلا يصح أن نجعل من هذه التوافه مأساة بأي حالٍ … أنت رجل مفكر، حر التفكير … فكيف تنسى أن الحرية هي أساس كل شيء الآن؟ … والمرأة مثل الرجل مخلوق له حريته، والزوجة لم تعد قطعة أثاث، توضع في حجرة مغلقة في منزل الزوجية، بل هي آدمية لها حق التنفس والحياة! ولا بد أن تكون لها حريتها، وأن تذكر دائمًا أن لها قلبًا حرًّا، قد خُلق لينبض بالحب والكره، وأنَّ لها جسمًا حرًّا، لا يُملَك إلا بإرادتها ورغبتها، وأن الزواج لا ينبغي أن يفسَّر بأنه قيد يوضع في عنق المرأة … إنها اليوم ترفض كل قيد، حتى وإن كان من ذهب!

فهز «راهب الفكر» رأسه، وقال هامسًا كالمخاطب نفسه: الحمد *** أني لم أتزوج!

ولم تسمع الزوجة همسَه، فسألته: ماذا تقول؟

– لا شيء … إنما أودُّ أن ألفت نظرك إلى أن الزواج قبل كل شيء، عقد من العقود، لا قيد من القيود؛ عقد بين طرفين لكل منهما حقوق، وعلى كل منهما واجبات، وقد أُخذ رأيك فيه قبل إبرامه، وقَبِلْتِ أن تَحترمي شروطه، فما من أحدٍ يقيدك بقيدٍ … ولكنك مطالَبة بتنفيذ عقد!

– لا يا سيدي لا تغالطني من فضلك! لا فرق بين القيد والعقد إذا كانت الشروط تَمَسُّ حرية الإنسان، وأنت اليوم تسميه عقدًا؛ لأننا أرغمناكم على الاعتراف بحريتنا، ولكنه في الحقيقة قيد، بل لقد كان قيدًا ماديًّا في يومٍ من الأيام، إني لم أزل أشعر بقُشَعْرِيرة كلما تذكرت ما قرأناه في كتاب التاريخ، ونحن تلميذات في مدرسة الراهبات الفرنسية، عن زوجات الفرسان في القرون الوسطى.

لقد كان الفارس من أولئك الفرسان النبلاء، قبل ذهابه إلى الحرب يصنع لزوجته قيدًا من الفولاذ، له قفل ومفتاح يقيد به الجزء السفلي من جسم زوجته، ويطلقون على هذا القيد «حزام العفة» ويظل مغلقًا على هذه المواضع من بدن الزوجة المسكينة، حتى يعود الزوج من حربه بعد مدة طويلة … فيخرج مفتاحه ويحل القيد ويحرر جسم امرأته … ماذا تسمِّي هذه الزوجية؟ أهي عقد أم قيد؟!

– حقًّا إن الأزواج لحمقى! كما قلت أنت الساعة بالضبط! كيف فرطوا في استخدام هذا «الحزام» في العصور الحديثة؟! إنه لحزام مدهش … ما أحوج أكثر الأزواج إليه اليوم! إني لأعجب كيف لا يطالبون بصنعه وإحضاره مع «جهاز» كل عروس بدلًا من «البار» الأمريكاني، الذي لا يخلو منه أثاث في قَرَانٍ حديث!

فحملقت فيه بعينيها … وقالت: أتمزح؟ إنك لا شك تمزح!

– بالطبع، خُذي قولي على أنه مزاح … ما الفائدة؟! كل كلام غير قابل للتنفيذ هو بالضرورة نوع من المزاح!

فقالت، وهي تضحك: وإذا كان هذا قابلًا للتنفيذ؟

– ما كان يقع في غيبة زوجك الذي وقع!

قالها طبعًا في سرِّه، ولزم الصمت، فاستأنفت هي كلامها بغمزة من عينيها كلها مكر: أتحسب المرأة الحديثة من البلاهة، بحيث لا تجد لذلك حلًّا إذا أرادت؟ ثِق بأنها قديرة على أن تجعل لهذا الحزام أو القيد جملة مفاتيح!

– إني مُصدِّقك، والعلم الحديث والصناعة الحديثة كفيلان بمساعدة المرأة الحديثة في ذلك!

فقالت ضاحكة: ليس للزوج المحترم عندئذٍ إلا أن يستبدل القفل والمفتاح بختمٍ من الشمع الأحمر، عليه توقيعه الكريم، لتكمل المهزلة!

– اطمئني! لا أرى في نية الرجال في عصرنا الحاضر أن يقوموا بمهازل من هذا الطراز! ولقد نزلوا فيما أرى عن جميع الضمانات، ولم يتركوا على نسائهم من رقيب غير ضمائرهن وحدها، وأظن النتيجة مرضية جدًّا.

فنظرت إليه لحظة، ثم قالت: لا أحب منك هذه السخرية، كما لا أحب فيك عواطفك الجامدة، ومشاعرك الرجعية … أخبرني! ما دمنا نتكلم بمثل هذه الصراحة! لماذا تستنكر أن يكون للمرأة حريتها في الحب، وهو كل شيء في حياتها؟

– تقصدين حريتها في حب من تشاء كما تهوى؟

– شيئًا كهذا!

– لا لزوم بالضرورة للكلام من الناحية الأخلاقية، فأنا لا أحب مطلقًا أن أعطي أحدًا دروسًا في الأخلاق! فهي ثقيلة لا يحتملها أكثر الناس — وأنت منهم ولا شك — ولا أذكر الفضيلة والرذيلة، والعفة والحياء، فهي ألفاظ فقدت اليوم معناها، ولم تعُد تصلح إلا للاستخفاف والتندر في المجالس والمجتمعات! ولكني أقول لك باختصار: إن المرأة إذا كانت لم تتزوج بعدُ فهي حرة، تحب من تشاء، وتغازل من تشاء، ولكن عليها أن تلتفت إلى هذا الأمر البسيط؛ وهو أن الذي يحطم قواعد المجتمع، لا بد للمجتمع أن يحطمه!

– ثِقْ بأنَّ مجتمعنا العصري اليوم لا يحطم أحدًا.

– تلك مسألة لا أتدخل فيها، وهي متروكة لفطنة المرأة وحكمة المجتمع، فإذا وجدت المرأة أو الفتاة أنها، على الرغم من حريتها الكاملة وانطلاقها الجامح، ما زال المجتمع يحتفظ لها بمكانها المحترم، ويرشحها للزواج المرتجى؛ فهذا وضع … وأما أنها ترى أن المجتمع قد أسقطها من قائمة «الفضليات»، ونفَّر منها طلاب الزواج … وسلَّم لها بالحرية، وحكم عليها بالتشرد؛ فهذا وضع آخر … إن صاحب الأمر والنهي في سلوك المرأة غير المتزوجة هو المجتمع وحده! إنه القيِّم عليها … لا أهلها، ولا نصحاؤها … فهي قد تحررت اليوم — كما تقولين — من سيطرة كل إنسان، ولن يحدَّ من جموحها أحد غير حيطان المجتمع، هي التي تصدها وتوقفها، لترى مكانها بين الأمكنة … المجتمع هو الذي يتولى الآن سلطة الولاية، وهو الذي يمنح الثواب ويوقع العقاب، ويشتد أو يتسامح، ويدمغ المرأة أو الفتاة بطابع السمعة الطيبة والاسم الحسن، أو يكتب على جبينها بإصبع صبغة الأحمر التي تخلط بها شفتيها: «إني غير مسئول عن هذه!»

– تلك هي المرأة الطليقة … والمرأة المتزوجة؟

– المرأة المتزوجة قد أبرمت عقدًا، كما قلت لك، وقد تعهدت فيه بالحب لزوجها والوفاء له … ولا بد أن تفي بوعدها! المرأة اليوم تكثر من الكلام عن الحرية! إن الحرية الحقيقية هي في احترام العقود لا في الإخلال بها.

– ما من عقد — كما قلت لك — يستطيع أن يتحكم في قلبي ومشاعري! إني أحب زوجي وقت العقد، ولكن مَن يضمن لي أني أُقيم على حبِّه بعد ذلك؟ ما قيمة العقود التي تُبنى على عواطف الإنسان المتغيرة؟

– إذا تغيَّرت عواطفك فغيِّري العقد! اذهبي إلى زوجك، وقولي له بكل هدوء: إن عواطفي قد اتجهت إلى شخص آخر، ولم يعد في استطاعتي القيام بتعهداتي في الوفاء لك منذ اليوم! والأمانة تقتضيني أن أطلب إليك الطلاق، ولقد حافظت على اسمك وشرفك حتى هذه اللحظة!

هذا ما يجب أن تفعله المرأة إذا وثقت بصدق عواطفها، ولم تكن هازئة ولا مغامرة ولا ضعيفة عن صد شهوة عابرة … ولكن المرأة تريد أن تأخذ من الزوج اسمه وماله وبيته، لتجعل من ذلك كله إطارًا براقًا لخيانتها! إنها تريد أن تُدخِل الغش في العش، والتدليس في العقد، هذا العقد القائم في الحقيقة على وجود كلٍّ من الطرفين … الزوج عليه الكفاح في سبيل اللقمة، أو في سبيل رفاهية الزوجة! والزوجة عليها الكفاح — على الأقل — ضد نزعات نفسها، ثم إنفاق موارد الزوج في معاشهما المشترك، فلماذا تريد الزوجة أن تختلس مال الزوج، كي تتزين به لرجلٍ آخر؟! لماذا يشقى الزوج من أجل امرأة تخونه مع رجلٍ لم يَشْقَ من أجلها؟ تهزئين بحزام العفة، وبأولئك الفرسان النبلاء، ولا ترثين لهم وهم يذهبون لبذل أرواحهم في الحروب دفاعًا عن بيوتهم وزوجاتهم، ليعودوا فيجدوا هاته الزوجات قد بذلن عرضهن لمن لم يسفك من أجلهن قطرة دم؟! لماذا يحلو للزوجة دائمًا أن تجعل من زوجها ثورًا، يدور ويكد ويكدح في ساقية الحياة، ليروي ظمأ ملذاتها؟!

– يا له من دفاع مجيد عن حقوق الزوج!

قالتها باسمة، وهي تشعل سيجارة، فقال: بل دفاع عن حقوق الطرفين!

– ولماذا لم تتكلم بهذه الحماسة عن خيانة الأزواج؟

– إني لم أُبِحْ للزوج أن يخون زوجته!

– وإذا خانها، أليس لها الحق في أن تخونه؟

– لا.

– النغمة القديمة التي نسمعها من الرجال! تبيحون لأنفسكم ما تحرِّمون علينا لأنكم أنتم السادة ونحن الإماء!

– بل لأن الرجل هو الذي يَعرق، والمرأة هي التي تُنفق! اكدحي كما يكدح زوجك، واعرقي كما يعرق، فإذا تساويتما في التضحيات تساويتما في الحقوق … لا أقول إن الرجل يجب أن يخون، ولكنه إذا خان خان من ماله! ولكن الزوجة تخون من مال زوجها.

ثم هنالك شيء آخر … هو النسل … فالزوج يخون، ولا يدخل على زوجته نسلًا مدلسًا … أما الزوجة فإذا خانت أدخلت على زوجها نسلًا ليس من صلبه! لن تكون هنالك مساواة مطلقة بينكن وبين الرجال في هذا الإثم، إلا إذا تطور الزمن تطورًا آخر، فرأينا الزوجة تناضل في الحياة، وتكتسب بالقدر الذي يربحه الزوج! ثم يستطاع بواسطة العلم أو بغيره من الوسائل أن يُفرَز للزوج نسله عن نسل غيره، بغير وقوع في شكٍّ أو ارتياب، إلى أن يتم ذلك، فلا تتحدثن عن المساواة في الخيانة!

– إذا حدث ذلك فلن تكون هنالك زوجية، ولن يكون لها محل على الإطلاق!

– ولن يكون للخيانة عندكنَّ لذة ولا طعم؛ إذ لن يكون الزوج ضحيتها!

– يا لك من خبيث!

لفظتها في ضحكة ناعمة أخفت ما فيها من كلفة مرفوعة بينها وبينه في الحديث للمرة الأولى! ولم يلحظ هو ذلك، فقد رأى الوقت يمضي ولم ينجز بعدُ شيئًا من المهمة، وبحث عن القلم والورقة بعينيه، ثم قال لها بلهجة الجِد: هلمِّي اكتبي! لقد تكلمنا بصراحة أكثر مما يجوز!

فلم تلتفت إلى القلم والورق، بل نظرت إليه قائلة: على العكس! إني فرحة بهذه الصراحة بيننا في الكلام! إني أشعر براحة كبرى، وأنتَ تحادثني بغير تحفُّظ، وأحادثك بغير كلفة.

– إذن أريحيني أنا أيضًا، واكتبي!

فتنبَّهت للأمر، وصاحت: أكتب ماذا؟! أحقًّا تظن أني امرأة خائنة؟!

فكتم نفادَ صبره، وقال: من قال لك إني أظن ذلك؟! ليس من حقي أن أحكم عليك ولا لك، ولكن واجبي أن أدعوك إلى تحقيق طلب زوجك الذي لن يرجع فيه، وإذا كان لك بي بعض الثقة فاعلمي أن ما رأيت من زوجك يقطع بأن أي حياة زوجية بينكما لم تَعُد ممكنة!

فتأمَّلت قوله لحظة، ثم قالت بنبرة إخلاص: ولكن! ولكني لا أكره زوجي! إني على الرغم من كل شيء أحمل له دائمًا كل احترام، وكثيرًا من التقدير والمودة!

– ليس عندي شك في ذلك!

– إنه يغالي! إنكم تبالغون في النظر إلى ما وقع مني كأنها مأساة كبرى! إنها لم تخرج عن كونها عواطف لا تضرُّ أحدًا، كان من طيشي أن دوَّنتها … ومن سوء طالعي أن وقعت في يده … وهذه ليست أول حماقة تأتيها زوجة … إن من بين صديقاتي المتزوجات سيدة ولعت بالمقامرة إلى حدٍّ أنساها بيتها وزوجها وأولادها، فهي ليل نهار مكبَّة على المائدة تلعب «البوكر الأمريكاني»، وهو اليوم آخر بدعة في السهرات، مع أنه أخطر من «البكاراه»! وقد استنفد مالها، وأضاعت كل ما وصل إلى كفِّها في اللعب، حتى باعت أواني المنزل الفضية لتلعب بها، وزوجها ينظر إلى كل هذا ويضرب كفًّا على كفٍّ … ولكنه لم يفكر في طلاق أو فراق، وقد يكون عَذرها وفهمها … وأدركَ أن هذا أقوى من إرادتها … ولا بد أنه سامحها أو سيسامحها يومًا من الأيام … يجب أن يتَّسع صدر الزوج لهفوات الزوجة، هَبْنِي أخطأت! ألن يأتيَ اليوم الذي أندم فيه؟ ألا تذكر «تاييس»؟ أنسيت أنك أعطيتني يومًا كتاب «تاييس»، لأطالعه؟ لقد طالعته، وعلمت أن هذه المرأة التي قضت حياتها في الدعارة قد انقلبت في آخر حياتها قديسة! وقد غفر **** لها، وقبِل منها التوبة … لماذا لا تتاح لي أنا أيضًا الفرصة التي أتيحت «لتاييس» على الأقل؟ أجبني، ولا تكن قاسيًا عليَّ! أرجوك!

فنظر إليها مفكرًا في الجواب، ثم قال: «تاييس» لم تكن لها ****، ولم يكن لها زوج … وثِقي بأن زوجك — على الرغم من كل شيء — يحترم فيك زوجته التي أعزَّها ووثق بها، وأقسم إنه ما من مرة ذكرك أمامي، وهو يروي لي قصتك إلا قال عنك «هذه السيدة» … ولم ينسب إليكِ أي وصف محقر، حتى في أشد ثورات غضبه! إنه رجل مهذب بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ، وهو زوج كامل حقًّا … لكن … كل ما في الأمر أنه يرى — بصفته أبًا لطفلة — أن من واجبه أن ينشئها نشأة أخرى، على مبادئ غير مبادئك … وأظن هذا من حقِّه، بل هو واجبه المحتم عليه أمام ابنته، فمن هذا ترين أنك — وأنت الزوجة — لا تملكين أن تكوني مثل «تاييس» الطليقة.

فأطرقت برهة … ثم رفعت رأسها بقوة انتثر لها شعرها الجميل، وجعلت تقول: هذا فظيع، ذلك الذي أسمعه منك، حتى التوبة لا تريدون أن تقبلوها مني! ولكن أنت المسئول منذ اليوم الأول.

ففتح «راهب الفكر» فاه دهشة، وقال: أنا المسئول عن ماذا؟

– إني يوم جئتك هنا — منذ أكثر من عام — لم يكن ذلك للأدب ولا للكتب، بل لأني كنت في أزمة نفسية شديدة … لقد كان مضى على زواجي نحو سنتين … وبدأت أحس شيئًا من خيبة الأمل … أو من الفتور الذي يعتري الحياة الزوجية … إني كنت دائمًا قبل الزواج فتاة ثائرة النفس محبَّة للحياة الدافقة الحارة … شديدة الفضول لكلِّ جديد … أمقت الوتيرة الواحدة في كل شيء: في الحديث، وفي المعارف، وفي المشاعر، وحتى في الحب! إن الحياة كان معناها عندي الحركة، لأن الموت هو الخمود … حركة العواطف الدائمة كحركة الجسم الدائمة … تلك هي الحياة. ولكن الزواج ليس إلا الجمود والركود في صورة علاقة باردة بين خطيبين محبَّين انقلبا صديقين فاترَين … لقد فسر لي هذا ما كنت أسمعه عن كثيرات ممن تزوجن زواجًا موفقًا حُسدن عليه، ومع ذلك كنَّ يبحثن سرًّا عن خليلٍ أو عشيقٍ أو حتى عن مجرد صديق يشعرن بقربه أنهنَّ مع رجل غير الزوج! إن الزوج لم يعد يوحي إلينا بأنه رجل … إنه يوحي إلينا باحترامه ومحبَّته ومودته والرحمة به … إنه كالأخ وابن العم القريب العزيز … ولكنه ليس الرجل … أي ليس ذلك الشخص الغريب الذي يدفعنا الفضول إلى معرفته، ويثير فينا لقاؤه تلك المشاعر الغامضة اللذيذة، وينبِّه فينا غريزة حبِّ التزيُّن والفتنة وانتزاع الإعجاب … ذلك كان إحساسي بعد عام من الزواج … وكنت قد سمعت بك كثيرًا من زوجي إطراءً منه لكتاباتك … ففكرت في لقائك، وذهبت إليك كما تعلم … ولكن للأسف لم تفتح لي صدرك ونفسك، ولم تأخذ بيدي في أزمة قلبي … وتركتني للعواصف والأنواء! إنك لم تفهم وكفى … ولم تُرِدْ أن تفهم!

فاختلع قلب «راهب الفكر»، وأطرق حتى لا تلمح في وجهه شيئًا، ثم تماسك وأمسك بالقلم والورقة، وقال: سامحيني يا سيدتي! هنالك أشياء سأعيش وأموت ولا أفهمها … والآن هل تتكرمين؟

فنظرت إلى الورقة والقلم وهو يدنيهما منها، وقالت بعد ترددٍ: إني … إني لم أفقد كل أمل بعدُ.

قالتها ونهضت لتنصرف، فقال لها في قلقٍ: ماذا أنت صانعة؟!

فأجابت في ابتسامة مبهمة: لن أقول لك الآن … إذا خاب سلاحي الأخير فإني سأحضر لأخبرك. وانصرفت قبل أن تسمع منه جوابًا!

المعركة​

مضى يوم و«راهب الفكر» ينتظر صامتًا، لا يدري ما يفعل، وقد وضعته الزوجة في هذا الموقف المحير، ولكن انتظاره لم يَطُلْ؛ إذ ما جاء ظهر اليوم حتى دَقَّ جرس تليفونه، وإذا هو الزوج يخاطبه بصوت الغاضب، ويخبره بأن الزوجة قد عرفت مكانه في «حلوان»، وأنها ذهبت إليه ضحى اليوم باكية، فاستقبلها كما يستقبل سيدة أجنبية ما سبق له أن رآها … وأجلسها في بهو الفندق بأدبٍ، ولم يُتِح لها أي فرصة للكلام في أي موضوعٍ خاص، ولم يُبْدِ لها قطُّ أنه فطن إلى دموعها، أو حفل بها، أو اهتمَّ بسببها.

ثم استأذنها بعد أقل من دقيقة، معتذرًا لها بعملٍ يستوجب ذهابه، وانصرف تاركًا لها الفندق … على ألا يعود إليه إلا ليأخذ أمتعته، ويقيم في جهة أخرى مجهولة، ولن يخبر بمقره الجديد أحدًا حتى يُصفِّي كلَّ ما بينه وبينها.

ورجا صاحبه أن يُسرع بكل الطرق إلى إنهاء هذا الموضوع بالحسنى، قبل أن ينفد صبره فيلجأ إلى الوسائل الأخرى المعروفة، مع ما فيها من صخبٍ وعنفٍ وسوء عاقبة! وانتهت المحادثة بينهما، ووضع «راهب الفكر» السماعة وهو متردد فيما يقدم عليه: أيطلبها كالمعتاد بالتليفون، ويسألها الحضور، أم ينتظر حضورها من تلقاء نفسها كما وعدت؟!

مما لا ريب فيه أنها آتية على كل حالٍ، ومجيئها على هذا النحو خير من طلبها، لأنها ستأتي لتتكلم هي، لا لتصغي إلى ما يعرض عليها من مطالب، فالأجدر به إذن أن يتركها حتى تأتي بقدمها. كل ما يرجوه ألا تبطئ في المجيء، وهو يقدِّر أنها لن تبطئ بعد أن قوبلت تلك المقابلة الباردة الحاسمة من زوجها، وقد صدق تقديره، فما كاد الليل يجنُّ حتى أقبلت … لكن على أي صورة … إنها لم تَبْدُ على حالٍ كسيرة، بل ظهرت براقة خلابة، كقطعة من النور، تتلألأ في ظلام المساء! ودخلت عليه الحجرة تخطر في ثوبٍ حريري، يبدي محاسن جسمها، وقد سبقها عطرها، وكأنه يفتح لها عن بُعد طريق الفتنة … يا لقوة العطور! لكأن المرأة — في هجومها للسيطرة على الأفئدة — عرفت من قديم كيف تلجأ إلى الحرب الكيميائية! ولم تجلس في مقعدها، بل دنت من مكتبه، وبادرته قائلة: أين القلم والورقة؟

فلم يستطع إخفاء ارتياحه، وصاح: أتكتبين؟

– نعم! … أيدهشك هذا التسليم السريع؟!

– خاب سلاحك الأخير إذن؟!

– صدقت، لم تعد أي حياة زوجية بيني وبينه ممكنة!

– رأيت بعينيك؟!

– كيف علمت؟ هو الذي أخبرك طبعًا أني ذهبت إليه!

– نعم! أخبرني بكل شيء!

– نعم! لا فائدة … إني منذ وقع نظري عليه للوهلة الأولى أدركت أني أمام رجل آخر! ليس هو زوجي الذي أعرفه … لقد أحسستُ عندئذٍ أن كل شيء قد انتهى … ومن الخير أن نطوي صفحة زواجنا بسلامٍ! إنه رجل مهذب حقًّا، ولا أظنك سمعتني أشكو يومًا من خُلقه! لقد رأيت منه اليوم أنه يؤذيه ويجرحه أن يحادثني في مثل هذا الموضوع … وأن كل ما يريد حقًّا هو البعد عني، بغير إثارة كلام! فلا أقلَّ من أن أريحه في ذلك، وألا أعارضه في رغباته … أما الطفلة فإني واثقة بأنه لن يحرمني رؤيتها وقتما أريد، لأن فكرة تعذيبي لن تخطر ببال مثله، مهما يكن الحال، فليكن له ما أراد! وليذهب كلٌّ منا في طريقه … أَمْلِ عليَّ ما ينبغي أن أكتب!

فأَمْلَى عليها الصيغة التي رآها تتفق مع مطالب الزوج، ووقَّعت عليها بإمضائها، وأخذ الورقة فطواها وحفظها في ملف عنده! واستقرت هي في مقعدها، وأخرجت سيجارة من حقيبة يدها، وقالت باسمة، وهي تتنفس: الآن أنا حرة … أصنع ما أشاء!

– طبعًا!

– وأستطيع أن ألقى منذ الليلة من تحلو لي مقابلته، وها أنا ذي قد تجمَّلت، كما ترى، لأني على موعد في سهرة ستكون ولا شك لذيذة ممتعة!

– هنيئًا لك يا سيدتي.

قالها بنبرة لا يتبيَّن منها مغزاها الحقيقي؛ أهو المجاملة، أم السخرية، أم الغيظ! ورفعت هي أهدابها ببطء ناظرة إليه، كأنها تحاول أن تفسر معنى عبارته، ولكنها لم تستطع، فقد أطرق وتشاغل بترتيب الأوراق فوق مكتبه، ومضت هي تقول: حقًّا … ما أجمل الحرية! إني كنت حمقاء؛ إذ حاولت التشبث بزواجي هذا … لماذا لا أجرب حظي مرة أخرى؟ إني صغيرة السن، ولست فيما أظن قبيحة المنظر … ألا ترى ذلك؟

فرفع رأسه، ونظر إليها متسائلًا: أرى ماذا؟

فلم تتراجع، وقالت بجرأة: ترى إذا كنت قبيحة أو جميلة؟!

فتمهَّل، ثم قال دون أن يلتفت إليها: ألم يحدِّثك في ذلك أحد بعدُ؟

– كل الناس … إلا أنت.

فأخذ يعبث بأوراق مكتبه، ويقول: يخيَّل إليَّ أني أبديت فيك رأيًا!

– نعم … في حمقي، وجهلي، وطيشي، وسوء تصرفي!

– لقد أبديتُ إذن رأيي!

– في ذلك، نعم! ولكن … ولكنك لم تقل لي مرة واحدة إني جميلة!

– رأيي في هذا لا يعتدُّ به كثيرًا.

– عندي أنا يُعْتَدُّ به كثيرًا.

– أشكرك على هذا التقدير المبالغ فيه!

فنفخت دخان سيجارتها من فمها في الهواء بحنقٍ، قائلة: أعوذ ب**** منك … إنك فظيع … فظيع … هل تظن امرأة تستطيع أن تتحمَّل هذا؟ أتصدق إذا قلت لك إنك الرجل الوحيد ممن صادفت، الذي لم يخاطبني في الحب؟! ولم يقل لي «أحبك»! إني أحيانًا أكاد أنفجر غيظًا منك، ويخيل إليَّ أنك تهينني وتجرح نفسي وتمس كرامتي … وأتمنى لو أستطيع يومًا أن أقتص منك … لماذا لم تحبني؟ لماذا لم تعجب بي؟ لماذا أنت وحدك تعاملني هكذا؟ ما الذي لم يعجبك في شكلي وجسمي؟ لطالما ألقيت على نفسي هذه الأسئلة ووددت لو أظفر بجواب!

وأطرق «راهب الفكر» … ومضى يعبث بقلمه فوق ورقة ويرسم عليها رسومًا لا معنى لها … وربما كان ذلك ليخفي بعض خلجات، مرَّت كالنسيم فوق شغاف قلبه … ولكنه قال لها دون أن يلتفت إليها: ما كان يجب أن تشغلي بالك بسخافات كهذه!

فنظرت إليه مليًّا، كأنها تفحصه فحصًا دقيقًا، وقالت: لا أستطيع أن أصدقك … إن موقفك مني ليس طبيعيًّا … إني لأعجب كيف تسمِّي سخفًا اهتمامي بك … إنك ولا شك تزدريني! أعرف ذلك ولا أكابر فيه … ولكن … ولكن ذلك لا يمنع من أن تُسَرَّ على الأقل لشعوري نحوك … ربما كنت تخافني أو تحسب أني أحادثك اليوم هكذا لغرضٍ آخر … خصوصًا في ظروفي الحاضرة … ولك الحق في هذا الظن … فالظواهر كلها تؤيده! لكن ثِق بأنه ما من غرضٍ لي غير مصارحتكَ بكل ما يدور في خاطري! إذ من التعسف حقًّا ألا نكون صريحَين في كل شيء، وقد دخلت أنت في شئوني الخاصة على هذا النحو! اطرح من رأسك إذن أي غاية أخرى لي فيك! لن أفكر في الزواج منك مطلقًا! إني أعلم أنك لن تتزوج بمثلي أبدًا! أليس كذلك؟ ألم أعبِّر عن الحقيقة؟! تكلم!

– الزواج منك شرف لا أستحقه.

– أف! لا تكن قاسيًا في التهكم بهذا المقدار! أخبرني لماذا لا تكون الآن باسمًا صافي النفس معي، بعد أن أذعنتُ لك، ووقَّعت الورقة عن طِيب خاطر؟ إلا إذا كنت أنت أيضًا تريد أن تقطع بي كل صلة أسوة بزوجي! وهو موقف يخرجك عن حيادك العادل … صارحني بحقيقة موقفك مني؟

– ثقي بأني لن أخرج على موقف الحياد أبدًا!

– إذن خاطبني بلهجة الصداقة، التي لا شكَّ في أنك تخاطب بها زوجي.

– ليس هنالك ما يدعوني إلى مخاطبتك بلهجة العداوة!

فامتعضتْ لهذا الجواب الجاف! ولكنها مضت في حديثها الليِّن: فلنتحدث إذن كأصدقاء، سأكشف لك عن كل خوالجي: أتدري ما هو نوع الزوج الذي أحلم به؟ هو نوع ليس من طراز زوجي ولا من طرازك! إن السعادة الزوجية لا يمكن أن تتوافر لامرأة في عصرنا الحديث، إلا مع زوجٍ باهت الشخصية، قليل الذكاء … لقد خبرت ذلك بنفسي، وأحصيت بين كل معارفي عدد السعيدات الناعمات، في بحبوحة الحرية، المتمتعات بالراحة العائلية، فإذا هنَّ المتزوجات برجالٍ من ذلك الصنف المتوسط في مواهبه، المتواضع في مداركه! إن غلطتي الكبرى هي أني وقعت في نوعٍ لا يصلح لامرأة مثلي … ألست معي في هذا الرأي؟!

– إني من رأيك!

– وأنتَ، هل تسمح لي أن أسألك عن الطراز الذي يعجبك من المرأة؟

– قليلة الذكاء، باهتة الشخصية!

فضحكت بملْءِ فِيها، حتى بدا لؤلؤ أسنانها يبرق في ضوء الليل الشاحب، فقد كانت الحجرة لا يضيئها وقتئذٍ غير مصباح المكتب الكهربائي، ورمته بنظرة؛ سحرها لا يقاوم! ومضت قائلة: وتربيتها رجعية؟

– مثلي!

– وشكلها؟ حسناء؟

– مثلك!

ألقاها في نغمة لا يعرف فيها جِدها من هزلها! وحاولت هي أن تكشف مراده لحظة، ثم قالت: آه … لو لم أكن واثقة بأنك تسخر، لعددتُ هذا أول اعتراف منك بأني حسناء!

– وماذا يقدِّم هذا أو يؤخِّر؟!

فقالت بصوتٍ مبتهجٍ حلو: إنه كسب عظيم لي … لقد ظفرت على الأقل بإعجابكَ في شيء ما!

– لا تبالغي يا سيدتي!

فأخفت امتعاضها قائلة: «يا سيدتي»؟! دائمًا يا «سيدتي» بعد كل هذه المعرفة، وكل هذه الصلة، ما زلت تدعوني «يا سيدتي»؟! متى إذن تقول لي يا «صديقتي»؟!

– «صديقتي»؟!

لفظها من فم بارد فاتر، ولكن وقْعها هبط في مكان حار من قلبه وذاكرته … وتذكر رسائله وكراستها، وكيف وردت هذه «الكلمة» فيما كتب هو، وفيما كتبت هي … وكيف عاشت هذه «الكلمة» حياتين مختلفتَين؟ إحداهما في سحبه، والأخرى في أديمها … فهزَّ رأسه استهزاءً بهذه «الكلمة»، وبنفسه، وبالجميلة التي بجواره … ولزم الصمت، وطال انتظارها لكلامه عبثًا، فقطعت هي صمته قائلة، بصوتها الناعم: تستكثر عليَّ صداقتك أيها البخيل، وأنا التي كانت تنتظر أكثر من ذلك!

– ماذا كنت تنتظرين أكثر من ذلك؟

– أن أكون لك على الأقل مثلما كانت «تاييس» للراهب «بافنوس»!

– تاييس؟!

– لا أظنك نسيت أنه الكتاب الذي وضعته أنت في يدي، يوم لقيتك ها هنا لأول مرة … ثِق بأني قرأته بإمعانٍ كلمة كلمة، ورأيت كيف استطاعت «تاييس» أن تخلب لبَّ الراهب، وتجعله يخلع مُسُوحه، ويهجر صومعته، ويجري في أثرها كالمجنون … إنها هي استطاعت ذلك … أما أنا؟ ومع ذلك فلقد طالما سألت نفسي: لماذا جعلْتَني أطالع هذا الكتاب بالذات؟

وصوَّبت إليه عينين أرغمتاه على الإطراق … ولو كان هذا السؤال مفاجئًا لما تمكَّن من إخفاء اضطرابه … ولكن جنوحها بالحديث نحو هذه الصخور، كان قد بدرت بوادره منذ حضورها الليلة … فلم يبدُ على وجهه تغيُّر … وقال مالكًا زمام نفسه: جعلتكِ تطالعينه لتعتبري بنهاية تلك الغانية!

فقالت ضاحكة ضحكتها الناعمة: إني اعتبرت ببدايتها.

– لست أنا المسئول إذن عن اختيارك!

– أوَكنت تريد مني أن أكره بدايتها الباسمة، وأحب نهايتها القاتمة؟!

– نهايتها ليست قاتمة، بل مضيئة بنور الفضيلة … لقد كان جسمها محاطًا بالدَّنس، ولكن روحها كانت مرتفعة طاهرة، كالزهرة البيضاء الناهضة بساقها فوق الطين!

– عجبًا لك! هذه تعرف كيف تلتمس لها الأعذار، مع أنها كانت في نظر الناس ساقطة؟!

– لا أهمية لذلك … إن الساقطة تكون أحيانًا في رذيلتها ومباذلها أمام الناس، ولكنها في فضيلتها وطهارتها أمام ****! والحرة أحيانًا تكون في رذيلتها ومباذلها أمام ****، وفي فضيلتها وطهارتها أمام الناس! «تاييس» كانت نقية أمام ****، وهكذا حدثت لها الأعجوبة، وانقلبت تلك التي كانت ساقطة في نظر الجميع، قديسة تتفتح لها أبواب السماء!

– ولكن الراهب «بافنوس» لم يحب فيها القديسة، بل أحب المرأة!

– نعم … للأسف!

– ما من رجلٍ يحب في المرأة غير المرأة!

– هذا صحيح، ولكن ذلك الراهب حقَّت عليه اللعنة، وفقدَ السماء إلى الأبد، فقدَ سماءه التي أنفق حياته كلها يتطلع إليها! إنَّ لكلِّ راهب سماءه!

– أراك أنت قد اعتبرت جيدًا بنهاية الراهب!

– لقد أحسنتُ صنعًا؟

– لا!

قالتها بشيء من التحدي … فهزَّ كتفيه، وقال لها: هذا رأيكَ أنتَ، وماذا كان يُنتظر من مثلك؟

–كان يُنتظر من مثلي أن تنصحك، وأن تصارحك بالحقيقة وتقول لك: إن كل من يرفض الحب — عندما يأتي — هو ذلك الذي حلَّت عليه الخيبة! مضى عهد القديسين والأولياء الصالحين! اخرج معي الآن إلى المجتمع الحاضر، لتعرف في أي عصر تعيش! إنه ليدهشني من رجلٍ مفكرٍ مثلك أنه ما زال يحيا مع شبح الأفكار الميتة، وخرافات الكتب القديمة!

– أعيش مع الشيء الباقي … إن الأفكار لا تموت.

فضحكت وقالت: بل لا شيء يموت مثل الأفكار … إنَّ لكلِّ جيلٍ أفكاره، كما أنَّ لكل عصر ثيابه … إن الأفكار كورق الأشجار تتساقط في كل خريف! أين هي الأفكار التي كانت حية منذ ألف عام، بل منذ مائة، بل منذ خمسين؟! ولكنَّ القُبلة هي القُبلة … لم تفقد حرارتها من ألف ألف عام … بل منذ خلق الإنسان؟! والعناق هو العناق، ما زال يثير في الجسم والنفس عين الإحساس منذ مبدأ الأجيال!

– تقارنين الكتب والأفكار بالقُبل والعناق؟! يا لها من مقارنة جميلة!

فابتسمت ابتسامة خلَّابة، وقالت: ترى أيها الرابح في نظرك بهذه المقارنة؟!

– لا محلَّ في نظري للمقارنة على الإطلاق!

– لسببٍ بسيطٍ، وهو أنك تجهل ما هي القُبلة؟

– وهل خسرت بهذا الجهل شيئًا كبيرًا؟!

– خسرت كلَّ شيء!

– يا للطامة الكبرى!

قالها في نبرة استهزاء … ولكنها مضت تقول بجِدٍّ: هي بالفعل طامة كبرى! لقد كنتُ مثلكَ إلى وقتٍ قريبٍ، أحسب القُبلة — وضع الشفاه على الشفاه — رمزًا للحب! أو معنى للوفاء! لا … إنها ليست رمزًا ولا معنى … إنها مادة حية بذاتها، مجردة من كل معنى وكل رمز! لا شيء حقًّا يفسد حيوية المادة غير تلك المعاني أو الرموز، التي نلقيها عليها، ونكتم بها أنفاسها … المادة هي المادة بحرارتها المنبعثة من داخلها، لا من المعاني التي تُسبَغ عليها! مصيبتك — وصدقني فيما أقول — مصيبتك الكبرى هي أنك ترى في القُبلة مادة باهتة، مختنقة تحت غطاء معنًى من المعاني.

إني في زواجي كنت أجد القُبلة هكذا … ويوم وجدت مَن كشفَ لي هذا الغطاء عنها، أحسست كأن ستارًا قد رُفع أمامي عن جنَّاتٍ من الإحساسات واللذات لم أَرَ لها نظيرًا ولا شبيهًا، لا في عالم الخيال ولا في دنيا الأحلام! إن تصورات المخيِّلة الذهنية لا تستطيع أن تطرق باب المشاعر الجسدية، ولا أن تحيط بها إلا كما يحيط الهواء الخارجي بجدران إناء مختوم! لعل هذا يفسر لك لماذا كتبت كراستي؟ إنه كان طيشًا مني حقًّا … ولكني لم أستطع مقاومة تلك الرغبة في أن أسجل تلك اللحظات الأولى لمشاعري الجديدة المستيقظة … لقد شعرت — وأنا أصفها على الورق — كأني أعيشها مرة أخرى ومرات! ولقد أردت فعلًا أن أعيشها مرة أخرى ومرات … ثِق أيها الصديق بأن الدنيا كلها، بأفكارها، وفضائلها، ورذائلها، وعقائدها، ومُثُلها العليا ومطامعها العظمى، كل ذلك يذوب في لحظة واحدة … في حرارة قُبلة حقيقية!

كانت تقول ذلك، وشفتاها الرطبتان تهتزان، كأنهما كرزتان توءَمتان يهزُّهما النسيم فوق شجرة … واختلس «راهب الفكر» إليها النظر؛ ورأى ذلك الجمال كله، وتأمَّل تلك الكرزتين، وما يمكن أن يكون فيهما من عسل … وذلك البدن البضَّ الغضَّ اللَّدِن، وما يمكن أن يُحدِث لمسُه من أثر … لقد صدقت … إن جسمها الذي أمامه لم يكن عنده أكثر من جدار يضع عليه صورًا من اختراع خياله، ومعانيَ مِن ابتكار ذهنه! أما الجدار ذاته فلم يلمسه، ولم يعرف ما وراءه … كيف استطاعت هي أن تقول هذا القول الصائب؟! حقًّا … إن رءوسنا بما تفرز من معانٍ تغلِّف بها المادة، لَتُقصينا بدون أن نشعر عن لمس حقائق الأشياء!

إنها المبارزة الدائمة بين المعنى والمبنى، والفكر والجسد، والروح والمادة، كل منهما يريد أن يحجب الآخر، فلا تبصر منه غير ظلالٍ شاحبة؛ فالفكر إذا طغى يفسِّر لنا الجسد بمعانيه، والمادة إذا طغت تفسر لنا الروح برسلها! لا … لا شيء يفسر المادة غير المادة، ولا يكشف عن الروح غير الروح! لا بد أن يلتحم صدر بصدر، وتلتصق شفة بشفة، حتى يخرج من ذلك الاحتكاك قبسٌ من شعورٍ خاص، هو وحده الذي يرينا ما لا يستطيع الفكر المجرد أن يتخيل!

إنها على حق، وإنه لَيُغالي في تقدير الفكر! وما هو سوى عين واحدة من عينَي كياننا المطلِّ على الحقيقة! إذن لماذا أَغمض العينَ الأخرى، ولم يَستخدم الجسدَ كما استخدمَ الفكرَ، أداةً للمعرفة؟ ليس يدري … إنه في علاقاته الجنسية — كما في طعامه وشرابه — لم يكن يتناول غير القدر اللازم لخدمة فكره … إنه لم يخطر له أن يجعل من تلك المآكل وليمة شهية، ينقضُّ عليها بأنيابه، ويلتذها لذاتِها، ويحسُّ كأن حلقه ينعم بمرور الطعام الفاخر فيه، وملامسته له! وكأن غشاء المعدة مرتاح بلذة الامتلاء، والبطن سعيد بذلك الضغط الخفيف اللطيف على جدرانه اللينة! إنَّ كلَّ جزء من جسمنا، وكل عضو من أعضائنا، هو مخلوق حي، له سعادته الخاصة به، وهي سعادة بعيدة عن كلِّ خيال ذهني!

وكما أن الأسنان تسعد وتنتعش وتقوى، إذا قضمنا بها تفاحة، كذلك كل طرف من أطرافنا يسعد بالقضم أو اللمس أو العناق … حتى أصابعنا تنتعش إذا لمست جسمًا ناعمًا جميلًا … ولكن «راهب الفكر» لم يعطِ لأصابعه غير لذة لمس الكتب وإخراجها من خزائنها في ظلام الليل! كل شيء في جسمه قد سخَّره لخدمة ذهنه! ذلك الساحر الدجال الذي لم يصنع شيئًا لأعضاء الجسم المستعبدة، غير أن لفَّق لها لذَّاتٍ وهميةً.

ونظر «راهب الفكر» إلى أصابعه نظرة إشفاق، وكأنه يقول لها: «صبرًا … صبرًا على خداع ذلك الذهن الساحر!»

وكأنها ترد عليه قائلة: «إلى متى هذه السخرية؟! نريد أن نلمس شيئًا آخر غير الكتب!»

يا لها من فتنة تستيقظ على مهلٍ! إنها بوادر الثورة تهمس من كل طرفٍ من أطراف بدنه! وإنه ليتمثل تلك اللحظة التي تهبُّ فيها كل شعرة من شعراته صائحة: «فليسقط الفكر»! وإذا كان «الراهب بافنوس»، لم يصمد لهذه الثورة بإيمانه المتأصِّل العريق فطرحَ الإيمان؛ أفيستطيع هو الصمود بالفكر؟ والفكر ليس صلبًا كالإيمان!

فالإيمان قاطع، لا يحتمل الشك، ولا يقبل المناقشة والجدل … ولكن الشك هو نافذة الفكر، التي تجدِّد دمه بهواء المناقشة والجدل!

إن إيمان «بافنوس» حماه، وذاد عنه حتى اللحظة الأخيرة! ولكن الفكر، باتجاهاته، وتأملاته، وآرائه، وشكوكه؛ سيحاور الثوار، ويفاوضهم من اللحظة الأولى! وقد ينتهي به الأمر إلى الانضمام إلى ثورتهم، والْتماس الأعذار لها، واختراع الحجج لتبريرها! وقد يتزعمها، ويقوم على رأسها، ويسعى في تنظيمها! إذا حدث هذا فلا بأس، ولكن من ذا يتنبأ بمصير ثورة؟ إن نار الثورة تأكل فيما تأكل زعماءها … إنها عقاب الطبيعة لكل طغيان، حتى وإن كان الفكر والإيمان! إن ثورة الأعضاء إذا شبَّت حقًّا فهي لن تقف في جموحها أمام الفكر، وهو ساحرها القديم، وسيدها العظيم! إنها ستجتاحه فيما تجتاح، حتى وإن لبس لها ثياب الذلة، ولوَّح لها براية التسليم!

وهكذا مضى «راهب الفكر» في تصور هذه الثورة، وما تسفر عنه، وخُيِّل إليه أنه غرق في لجَّتها وانتهى الأمر … ونسيَ أنه لم يزل في منطقة المعاني الفكرية، على الرغم من نقده لها، وشكِّه فيها، وأنه لم يزل خاضعًا لإفرازات الرأس وحده.

ولبثت هي ترمقه في صمتٍ، وكأنها أدركت — بغريزة الأنثى فيها — ما يجول في خاطره، وقرأت بعين خفية تلك اللغة الخفية التي لا يفهمها غير الأنسجة والخلايا! ولعلَّها رأت في وجهه وقتئذٍ، لا ملامح الراهب المستنكر، بل ملامح المفكر المتشكك! إنها تراه في أقرب أوقاته إلى التخاذل والتساهل!

فانطلقت تقول: نعم! إني لا أعرف أيَّ نوعٍ من النساء قابلت في حياتك! إنك لم تخبرني بذلك بعدُ! ولكني أؤكد لك أنك لم تصادف امرأة استطاعت أن تسيطر بجسدها عليك وعلى جسدك!

فنظر إليها نظرة اطمأنت إليها … وشجَّعتها على المُضي في كلامها، فمضت تقول: تلك التي تغمرك بقبلاتها، فتحسُّ كأنَّ كلَّ ذرة من ذراتك قد شربت وارتوت.

فلم يُجِبْ، فمضت تقول: تلك التي تُشعرك بأنها جوعى، وأنها تريد لو تضعك في جوفها بلحمك وعظمك … إني لأتخيلك مع هذه المرأة … وقد عرفت كيف تثير فيك جوع الذئاب، وأتصور أسنانك هذه وهي تضغط على لحمها الطري! إنك ستكون مخيفًا، رائعًا لذيذًا في الوقت نفسه! وإني لواثقة بذلك … وأعرف ما سيحدث كأنه حقيقة وقعت!

ولزم هو صمته، ولم تكن هي في حاجة إلى كلامه، فقد أفضت نظراته بكل شيء … إنه في تلك اللحظة كان أشبه الأشياء بسفينة عظمى، وقفت فيها المحركات، وقد أخذ بزمامها قارب صغير، يقودها إلى داخل الميناء … إنها أدركت منه — وقتئذٍ — أنه يدخل وئيدًا وئيدًا ميناء نفوذها، فابتسمت له ابتسامة ظفر أو إغراء أو ابتهاج … أو كلها مجتمعة، لا أحد يدري … كل ما كانت تعلم — عند ذاك — هو أنها قد أفلحت في استدراجه إلى ميدانها! ها هنا، حيث أسلحة الغريزة تعينها، في إمكانها أن تقهره! أما أن تذهب إليه في ميدانه، حيث يعتصم بحصون الفكر، والكتب والأدب، فقد باءت بالخيبة منذ الجولة الأولى. وضحكت ضحكاتها الناعمة، وأخذت في حديث تافه، وجذبت بحركة طبيعية لا تكلُّفَ فيها ولا إغراق، طرفَ ثوبها فكشف عن أعلى ساقيها وحدجته بنظرة ناعسة من خلال أهدابها الطويلة علمت منها أن الدم قد صعد في رأسه! نعم … لقد حدث ذلك حقًّا … لقد رفع الثوار راية العصيان … وبهذا صعد الدم الأحمر في الرأس! إن الفكر الآن محاصر، والدم حوله في كل مكان … والحواس، والخلايا، والذرات والأعضاء؛ هي الآن صاحبة السلطان!

وعندئذٍ نهضت كالغزال رشيقة خفيفة، ونظرت في ساعتها الصغيرة في معصمها، وقالت: أوه … لقد تأخَّرت عن موعدي!

ومدَّت يدها الرقيقة الملساء إليه تحييه … وضغطت على يده … فتناول هو يدها ولم يتركها، وقال لها كمن يصحو من نومٍ: موعدك؟

فقالت بابتسامتها الخلابة، وهي ترميه بتلك النظرة التي لا تقاوم: ألم أقل لك — عند مجيئي — إني على موعدٍ في سهرة لذيذة ممتعة؟!

– مع رجل؟!

– طبعًا … ومع مَن إذن؟

قالتها بضحكة قصيرة لطيفة، فترك يدها، وقال متصنعًا عدم الاكتراث: اذهبي إذن!

فقالت بحنوٍّ: أيسوءُك هذا؟

– أنت حرة في تصرفاتك، لقد قلتِ إنكِ تريدين أن تنطلقي حرة، تفعلين ما تشائين … اذهبي إذن وافعلي ما شئت، وأَلْقِي بنفسك في أحضان كل رجل! اذهبي! … اذهبي! … وألقي بجسمك بين ذراعَي أي رجل!

فرَنَتْ إليه لحظة، ثم قالت بدلالٍ: أراكَ قد غِرْتَ!

– أنا؟

– إني لست **** حتى أجهل الغيرة!

– اذهبي … لا أريد أن أراك! لقد تَمَّ كلُّ ما بيني وبينك، ولم يبقَ ما يدعو إلى وجودكِ معي، اذهبي إلى موعدك، وإلى سهرتك اللذيذة الممتعة!

– إني ذاهبة … ولكن ألا تريد أن تعرف مع مَن هذه السهرة؟

– لا ضرورة لأن أعرف!

– هو رجل تعرفه!

– هذا لا يعنيني!

– إنه رجل ظريف جدًّا … أأخبرك باسمه؟

– لا.

– سأقول!

– لا أريد أن أسمع.

– أكتبه لك إذن … أعطني قلمًا وورقة!

ولم تنتظر … بل أسرعت ودنت من مقعده، وأخذت تنبش أوراق المكتب بدلالها، واستخرجت منها ورقة بيضاء، وتناولت القلم، وجلست بإحدى فخذيها على ساعد المقعد. فالتصق جسمها بجسمه، وانحنت برأسها لتكتب فانحدرت بعض خصلاتها المعطرة على جبينه … ثم تحركت فأحسَّ أحد نهديها يلامس خده، ويكاد من ضغطه الرقيق ينبعج بلطفٍ ورقَّة، كما تنبعج كرة المطاط لضغط أصابع اليد، وشَمَّ رائحتها تملأ أنفه، رائحة جسم الأنثى ممتزجة بعطورها!

إن لِعَرق المرأة وأنفاسها من الرائحة الذكية أحيانًا، ما يزري بأي عطرٍ مصنوع، فهي رائحة طبيعية في المرأة كما في الزهرة … ولكنها لا توجد في كل النساء، كما أن الشذا الطيب لا يوجد في كل الأزهار! وإن فيها لَسِرًّا تعرفه الطبيعة، ولا تعرفه الصناعة، هو الذي يجعل في تلك الرائحة الطبيعية إغراءً جنسيًّا لا يُقهر.

ولم يستطع «راهب الفكر» أن يميِّز رأسه من قدمه، فقد أمسى شيئًا ليس له زمام … ولم يفطن حتى إلى معنى كلماتها وهي تمازحه، ولكن أذنه منتشية بحلاوة صوتها، ولم يُبْدِ اهتمامًا بكلماتها التي تخطها فوق الورق، ولكن عينه تلتهم تلك اليد الرَّخْصة البضَّة!

إنه لم يعد إنسانًا مفكرًا أو قابلًا للتفكير، في أي صورة من صوره، لا التافه منه ولا النافع، إنما هو كتلة لحم ودم وأعصاب بغير قياد! وكان الليل ساجيًا جميلًا … والضوء القليل المنبعث من مصباح مكتبه، يلقي أشعته الهادئة على وجه تلك الفاتنة، وخصلات شعرها المنثور، ونحرها وصدرها؛ فيبدو كأنَّ كلَّ ذلك فيها يتحرَّك ويلعب بفعل الظلال والنور! ولبث هو بين كل هذا هادئ المظهر! ولكنه في داخله يهتزُّ كالمرجل، بل إنه كان في هدوئه الخارجي، وعنفه الداخلي، كالقنبلة التي تنفجر في ساعة معينة! لقد كان يحسُّ أنه لا بد من انفجاره … ولكنه لم يكن يدري متى على وجه التحقيق؟ مجموعة أعصابه هي التي ستبتُّ في ذلك! كل ما يعي هو أنه لم يزل في نفسه منطقة تقاوم، لتؤخر تلك اللحظة التي يجد فيها ذراعيه قد انطلقتا من تلقاء نفسيهما، تطوقان هذه المرأة ليقطعها فمه تقبيلًا! ولكن على الرغم من هذا السكون الذي يسبق العاصفة … فقد أدركت هذه المرأة كلَّ شيء، وفطنت إلى ما به! وشعرت بما في أفق نفسه، كأنها طير من طيور البحر التي تحسُّ بغريزتها الزوابع قبل وقوعها.

بل لقد رأت منه هذه المرأة — في صمته وسكونه وجموده — شيئًا واهيًا، كتمثالٍ من رمال، يتداعى إذا لُمِس لمسة أخرى من أناملها! وعندئذٍ لم تتردَّد، ومالت نحوه بجسمها، حتى أحسَّ ثديها الطري كالفاكهة الناضجة يكاد يبلغ فمه … وأدنت رأسها من رأسه، وجعلت أنفاسها الحارة تُلهب وجهه … وهمست في أذنه كنسيم الربيع بدفئه الرطب المنعش، وهي تُريه ما خطَّت يدها على الورق: «حبيبي الذي بيني وبينه الموعد هو … أنت»!

في تلك اللحظة كانت يده قد امتدَّت، بدون أمر منه، تريد خصر الفاتنة، وشفتاه، بدون أن تطيعاه، قد تحركتا تبحثان عن …

وإذا … وإذا جرس التليفون يرنُّ كأنه الرعد الصاخب في فضاء الحجرة.

وهنا … وهنا انتفضا انتفاضة فصلت بينهما … وأسرع هو إلى السماعة فتناولها … وإذا هو الزوج يخاطبه بصوتٍ يتهدج قائلًا: «البقية في حياتك … ابن خالي توفيَ اليوم؛ انطلقت فيه رصاصة طائشة وهو ينظِّف مسدسه … أنا الآن في «جراند أوتيل»! في «حلوان» … لإجراء اللازم نحو إخراجه، وتشييع الجنازة.»

وانتهت المحادثة … ووضع «راهب الفكر» السماعة، وقد تبدَّد كل ما كان في نفسه وجسمه … وعاد إليه فكره يقود خطواته … ونسيَ الزوجة … ولم يذكر إلَّا الزوج ومُصابَه بابن خاله … ورأى الواجب عليه أن يذهب إليه فورًا في «حلوان»، ليكون إلى جانبه وفي عونه، فهو قد بلَّغه في تلك الساعة بالمصاب، وأخبره بمكانه ليدعوه بلطفٍ إلى لقائه. ونظر «راهب الفكر» إلى ساعة المكتب الصغيرة، فإذا هي العاشرة والنصف، فأسرع إلى حجرته الداخلية، ليتأهب للخروج، ورأى الزوجة واقفةً تنظر إليه متسائلة عن الخبر الذي قلَبه هكذا في لحظة، فقال لها بصوتٍ أجش ولهجة سريعة: ابن خال زوجك تُوفِّي!

– توفِّي؟!

ولم يلتفت إليها … ويمَّمَ شطر باب الحجرة، وهو يقول لها مع إشارة من يده: إني خارج! وداعًا يا سيدتي!

فعلمت أنه لم تَعُدْ هنالك فائدة … وتركها ماضيًا لشأنه، وهو يخاطب نفسه هامسًا: مات الرجل … لعنة **** على النساء! لعنة **** على النساء!

الخاتمة​

في ضحى اليوم التالي كانت جنازة «البكباشي» ابن خال الزوج تَسير في موكبها العسكري إلى المقبرة! وقد وضعوا نعشه فوق عربة مدفع، ملفوفًا في العلم الأخضر، وسارت جنود فرقته، على جانبَيِ الطريق، ببنادقهم منكسة! ووقْع خطواتهم على الأسفلت يُحدِث صوتًا منظومًا متزنًا، في ذلك الصمت الرهيب! وكان يقطع الصمت، بين آنٍ وآن، نغمات موسيقى الجيش، تعزف لحن «شوبان» المحزن! ثم تصمت هي أيضًا، لتدع دقات الطبل وحدها تلقي في النفس روعة كئيبة، وتغمر الموكب كله في جوٍّ مهيب! وكان «راهب الفكر» بين المشيِّعين، يمشي مُطْرِقًا في أحد الصفوف ورأسه نهب لأفكار شتى! إنَّ الناس حولَه يعتقدون — ولا شكَّ — أنَّ الفقيد مات قضاءً وقدرًا؛ لأنهم يجهلون ظروفه الداخلية، ولكنه هو يكاد يوقن أنه انتحر بذلك «المسدس»!

لقد أدرك ذلك منذ أن تلقَّى نعيَه البارحة! إنَّ الزوج لم يقطع له برأيٍ حتى الساعة، فقد كان مشغولًا بإجراءات الدفن، ولكنَّه أخبره أنه عاد إلى الفندق أمس، ليأخذ أمتعته، ويرى ابن خاله ويُفضي إليه بما اعتزمه، فوجده في حجرته يفحص مسدسًا له … فارتاع لهذا المنظر، وخامره منه شيء! ولكن ابن خاله طمأنه قائلًا: إنه يتسلَّى بتنظيف مسدسه، وهذا أسهل من تنظيف شرفه … ومزح معه لأول مرة منذ وقع في أزمته الأخيرة! وكان هادئ المظهر، هدوءًا يبدِّد كلَّ قلق أو ريبة … فتركه مؤقتًا، وذهب إلى حجرته يُعِدُّ حقائبه، وإذا طلق ناري يدوِّي في الفندق كله … فحدَّثته في الحال نفسه بالكارثة، وهرع إلى حجرة ابن خاله فألفاه صريعًا!

وهو لا يستطيع أن يقرِّر أكثر مما رأى، ولكنه ختم قوله لراهب الفكر بنظرة ذات مغزًى، علم منها أنه يوقن مثله في دخيلته بأن هذا التعس قد انتحر، ولكنه لا يحب أن يفهم أحد ذلك … ربما كانت تلك الحقيقة برمَّتها، وربما كان الأمر قد وقع على خلاف ذلك! ولكن الزوج بادر بحَزْمِه ولباقته، وحسن تصرفه المعهود فأخفى كل رائحة لمأساة عائلية، وكل أثر ينمُّ عن وجود صلة بين الموت والزوجة والأطفال! ولعلَّه فَهِم أن الميت قد آثر الانسحاب من الحياة، عندما شعر بأنه عاجزٌ عن علاج شكوكه … وأنه مُقبِل على تحطيم أسرته، وتلويث اسم الطفل البريء، الذي يرتاب في نَسبه، وأنه فضَّل أن يجني على نفسه، ولا يجني على غيره! وإذا كانت تلك رغبته، فلا أقل من أن تُحترَم، وأن يُوضع ستار كثيف على ما سبقَ، وفاتَه من مؤثرات، وما اكتنفها من بواعث!

ورفع راهب الفكر رأسَه، ونظر إلى النعشِ أمامه، ثم عاد فأطرق، ومضى في تأمُّلاتِه هامسًا: يا ألله! ما أقوى ذلك الرباطَ المقدَّس عند الرجل! إنه في الحقيقة رباطُ الرجلِ بطفله … وإنَّ منبعَ القداسة فيه ذلك الدم الذي يجب أن يجري بينهما نقيًّا؛ فإذا تلوَّث أو تدنَّس، أو داخَله الغش، أو خالطه التدليس، أو مرَّ عليه شبح الشك والارتياب؛ فإن الرجل قلما يتحمَّل ذلك! هذا ما لا تفهمه المرأة، لأن كل *** يخرج من بطنها هو لها، دون حاجة إلى أن تفرز أو تميز بين دم ودم! ولهذا قَلَّ أن تدرك معنًى لقداسة ذلك الرباط!

لا قداسةَ عندها لشيء إذا اصطدم بغريزتها، أو وقف في طريق شهوتها!

وتذكَّر «راهب الفكر» ما جرى البارحة، وما كاد يقع … يا للخجل! كيف استطاعت هي في لحظة أن تنسيه كلَّ شيء؟! وأن تخرجه حتى على أبسط قواعد الأخلاق، ومبادئ السلوك؟!

كيف كان يستطيع أن يلقى زوجها وجهًا لوجه بعد ذلك؟ هذا الزوج الذي احترمه، ووضع في يده أسراره، ووثق به وبرأيه ولجأ إليه، واعتمد عليه! وجعل منه وكيلًا له يفاوض الزوجة عنه.

ماذا كان يقول فيه لو علم أنَّ وكيله الأمين، قد وقع هو الآخر في أحضان زوجته، ومثَّل عينَ الرواية المخجلة، وقام بذات الدور الذي لعبه ذلك الممثل الموصوف في الكراسة؟!

ثم هو الذي كان قد احتقرها، واقتلعها من نفسه، وطرحها من تقديره، وعرفها غير جديرة بحبِّه، ورآها عاريةً عن كل ما يدعو إلى احترامه! كيف أغمض عينه عن ذلك في طرفة عين، وتحركت نفسُه إليها، ورغب فيها، وتهيأ لعناقها؟!

الحق أنه في تلك الليلة كان قد شعر نحوها بعاطفة جديدة، عاطفة لا علاقة لها بحبه الأول الرفيع، فهي عاطفة أخرى بعيدة عن كل جَوٍّ نَقِيٍّ، في إمكانها أن توجد مع وجود الاحتقار! هي نوع من أزهار الحبِّ التي تنبت في المستنقعات! لكن … كيف حدث ذلك؟ ما من ريبٍ في أنها هي! هذا الحب الأخير هو صنعها هي … ومن غرسها! كما أن الحب الأول كان من صنعه هو وغرسه!

هذا هو نوع الحب الذي تريد مثلها اليوم أن تثيره في النفوس! يا للمرأة! ذلك الجهاز المشبَّع بالكهرباء … الذي يُلقي، منذ مطلع الأجيال، تيارات وموجات، لا تلتقطها غير الغرائز، فما العطور التي عرفتها المرأة منذ فجر التاريخ — بما تذيعه في الجوِّ من شذا — إلا إشارات لا سلكية تخاطب بها حواسَّ الرجال، وكذا النظرات والبسمات والتنهدات! وكل ما هُيئ لكي يحدث على البُعد أثرًا يطيش بالعقول. ولطالما حاول الشعراء أن يلتقطوا تلك الإشارات بنفوسهم الرفيعة، وأن يفسِّروها بلغة النفس العليا، ولكن … هذا تفسيرهم هم، ولا شأن له بما يرمي إليه جهاز الإصدار.

ولقد حاول سلطان الدين أن يصدر — من قبابه ومآذنه وأبراجه — تيارات مضادة، يعالج بها الأمر، ويخاطب بها العقل والقلب، ويوعد ويتوعَّد، ويرهب ويرغِّب، ويرعد ويبرق … وكان لهذا بعض التأثير أيام أن كانت المرأة حبيسة خدرها وبيتها، وجليسة أهلها ولِداتها … لم تصل بعدُ إلى فمها كلمة الحرية … ولم تعرف بعدُ قَدَمُها الطرقَ الصاخبة والمجتمعات الحافلة … فكان إشعاعها مقصورًا على التسلل من حجرة إلى حجرة، أو من بيت إلى بيت، وكانت تيارات الدين تطغي على كل البيوت، وتسكت فيها كل إشارة … أما اليوم، فقد تركت المرأة العصرية البيت والحجرة لصوت الدين! يدوِّي فيهما كيف يشاء، ونزلت هي إلى الشوارع والحوانيت والمقاهي والملاهي! وكل مكان، في كل حين … تخطر بعطرها وزينتها وابتساماتها ونظراتها … جهاز لا سلكي متنقل في ثياب امرأة، يلقي في وجه كل عابر بموجاته التي لا تُقهر ولا تُرَدُّ!

هكذا في عصورنا الحاضرة ضعفت تيارات الأديان، عن صد تيار المرأة، وشحبت عبارات النصح والإرشاد، ولم يبقَ لها من الحرارة في أغلب القلوب والعقول أكثر مما لأشعة الشمس في ساعة الأصيل!

لا بدَّ للمرأة إذن من موجات أخرى قوية، تحوِّل مجرى حياتها إلى ناحية رفيعة! الآن وقد فتحت نوافذ الحرية الاجتماعية وأبوابها على مصراعيها؛ لا أمل في قوة أي نور يأتي من الخارج! إنه لن يُبهر عينًا، ولن يفاجئ بصرًا، ولن يُحدث أثرًا!

هنالك أمل واحد؛ هو أن يخرج هذا النور، وتنبعث هذه الموجات من داخل المرأة نفسها على نحوٍ جديدٍ، ذلك أن المرأة ستهزأ منذ اليوم بكل رأي أو قول فيها يأتيها من بعيدٍ، ولن يكون هناك قيمة إلا لكل ما يصدر عنها هي، ويخرج منها! بل يجب أيضًا أن يكون ما ينبع من داخلها قطعة من غريزتها، وجزءًا من طبيعتها!

الأمل الوحيد معقود على شيء واحد: عاطفة الجمال! إن المرأة منذ خُلِقت وظهرت من مبدأ الأجيال، وفي أعماقها عاطفة، هي عندها أقوى من الدين والعفة والفضيلة … تلك هي رغبتها دائمًا أن تكون جميلة. ذلك يفسِّر لنا قدر المرأة حتى قبل أن يُعرف الزجاج، فإذا استطاعت المرأة أن تدرك أنَّ هنالك نوعًا من الإشعاع يمكن أن يضيء فيها، فيمنحها جمالًا لا تستطيعه المساحيق ولا اللآلئ، فإن المشكلة تكون قد حُلَّت!

إن الحسناء المزيَّنة المصنَّعة، هي كالمصباح البديع المصنوع من الذهب الإبريز، ولكن أين النور؟ النور شيء معنوي! إنه ليس اللهب، وليس الشرر، إنه النور؛ ذلك الإشراق الهادئ الطاهر الذي لا يحرق ولا يؤذي، ذلك الشيء الذي ليس بمادة تُلمس، ولكنه يبعث في النفس متعةً لا تدنس، ذلك السر الذي يمكن يودَع في المرأة كما أودع في الزهرة، فأضاءها بألوان تُلقي الخشوع عن بُعد في نفوس الناظرين، وجعلها تُعبَد لذاتها على عرش آنيتها، وصانها من عبث الانتفاع المادي الرخيص، الذي لا يرى فيها غير نبتٍ يصلح للاعتصار ثم يُلقى، وثمرة تُقتطف للاستقطار ثم ترمى!

إذا حرصت المرأة على اقتناء ذلك النور الداخلي … فقد انقلب جهازها اللاسلكي نعمة كبرى … تتحرك وتتنقل فترسل، حيثما تسير، موجات من الأضواء العلوية تنير القلوب، وتيارات من الأفكار السامية تلهم النفوس، وإشارات تخاطب الجوانب الرفيعة في الإنسان!

لكن … هنالك معضلة؛ مَن الذي يمهِّد لها سبيل ذلك؟! إن أدوات إشعاعها المادية يُهيِّئُها لها أناس مختصون، هم: صناع العطور، وصناع الحلي، وتجار المساحيق! لا بد من مختصِّين آخرين يهيئون لها أدوات إشعاعها الروحي!

هنا تبرز مهمة «رهبان الفكر»! نعم! كيف نسي ذلك؟ أوَليس هو الذي قال يوم زارته أول مرة: إنه يريد أن يجعل منها عروسًا تمرح بشعرها المرسل، وروحها المضيء في مروج الفكر الرحبة المزهرة، وأن يجعلها ملكة، تعرف كيف تمس، بصولجان روحها، نفوس الرجال، كما يمس المرود العين، فإذا تلك النفوس قد تفتَّحت لترى ما لم تَرَ! وإذا النشاط قد دبَّ فيها فتثمر القرائح وتنهض الهمم، وإذا الخير قد فاض، والحياة قد نبضت في الأشياء والكائنات!

أوَلم يقل إنه يرجو لها روحًا تضيء داخل نفسها البلورية، فينطق لسانها بالحديث الرفيع، وتطلق من صدرها المشاعر العالية والأفكار السامية؟ إذن ما الذي جرى؟ ها هو ذا رجل الفكر قد أخفق كما أخفق رجل الدين؟ كلاهما قد أحسن الظنَّ بطبيعة المرأة أكثر مما ينبغي، ونسج حولها أضغاث أحلام!

ولم يُفِق «راهب الفكر» من هذه التأملات إلَّا أمام المسجد، فقد وقف سَيْر الموكب، ونُقل الجثمان إلى الداخل حيث صلُّوا عليه، بينما انتحى أهل الفقيد ناحية يتقبَّلون تعزية المشيعين! وانفضَّت أكثر الجموع منصرفة بعد ذلك، ولم يبقَ إلا الأقرباء والأخصاء، فقد رافقوا الراحل إلى المدافن، وكان «راهب الفكر» بالطبع بين هؤلاء، فلَبِثَ معهم حتى أُنزلت الجثة القبر، وحيَّتها جنود الفرقة التحية العسكرية الأخيرة بإطلاق واحد وعشرين طلقة مدفع، وجعل اللحادون يهيلون عليها التراب، والمقرئون يلقِّنون الميت ما ينبغي أن يقول للملائكة عند اللقاء، ويصيحون به: «يا عبد **** هذا آخر يوم لك في الدنيا، وأول يوم لك في الآخرة!»

تأمل «راهب الفكر» هذه الصيحة فيمن تأملها من الحاضرين، والتفت ينظر إلى أثرها في وجوههم الواجمة الخاشعة … لا ريب في أنهم قد أدركوا منها جميعًا تلك الحقيقة الرهيبة: ما أقصر أيام الدنيا بالقياس إلى أيام الآخرة!

أما هو فقد أدرك منها حقيقة أقسى وأرهب … ما أقصر حياة الجسد بالقياس إلى حياة الروح! كم من الأعوام عاش جسد هذا الرجل؟ ثمانية وثلاثون عامًا؟ ولكن روحه ستعيش الأبد كله … هذا الجسد بحيويته وخلاياه وأنسجته وإفرازاته وملذاته وحرارته وفورته … كل هذا قد تفكك وتحلل واختلط بالتراب، وصُبَّ عليه الماء، وعُجنت ذراته بالغبراء! فلن تستطيع ذرة بعد اليوم أو خلية أن تثور على الروح، أو تطالبها بمتعة الحسِّ، أو لذة من لذات اللحم والدم! يا له من انتصار للروح رهيب! إذن كانت الخلايا على حقٍّ وهي تثور في إبَّان قوتها وعنفوان توقُّدها؟

إنها كانت تعلم مصيرها المخيف … وتَعُدُّ أيام سلطانها عدًّا، وتدرك أنها ذرات، لا في جسم الإنسان، بل في بحر الزمان ومحيط الأبد، الذي تمخر فيه الروح إلى غير حدٍّ! إذن، فيمَ كانت الروح تنافسها وتحسدها على أعوامٍ لن تتجاوز الستين، أو الثمانين أو المائة! ولماذا لا تدع لها هذه الأعوام القليلة الضئيلة … ما دام أمامها هي الخلود؟!

لماذا هذه المعركة بينهما دائمًا في هذا الميدان التافه: «جسم الإنسان الهش قصير الأجل؟!» علامَ هذا النضال القائم بينهما خلال حياته المادية الضئيلة الخطر؟ لماذا لا تترك الروح هذه الأعوام المعدودة للمادة، تحياها كما تريد في سلامٍ؟! ليس يدري «راهب الفكر» ما الذي كان يهتف داخل نفسه بهذا الكلام؟ أتراها حواسه المقهورة، راعها ذلك المنظر فنهضت تحاول الثورة من جديد! ما الذي يحُول بينه وبينها الآن؟ لماذا هذا التزمت والورع الكاذب؟ لم لا يتخذها خليلة؟ ليست هي التي تعارض ذلك! وإن لم ينعم بها هو فإن غيره سينعم بها ولا جدال! ولا شيء يوقر ضميره، فليس هو الذي أغراها، ولكنها هي التي تغريه. أما زوجها فلا يهمه أمرها بعد اليوم … وقد انقطع ما بينهما بالطلاق، فهي الآن امرأة حرة في نظر المجتمع! لها أن تفعل ما تشاء … وليس في اتصاله بها الآن أي مساس بكرامة الزوج أو تهجُّم على حق له! ثم مَن الذي سيخبره؟ إن هذه المرأة معه ستكون محاطة بجدران من الكتمان، لن تتوافر لها مع رجل آخر! إنه سيكون أحرص على سمعتها وسمعة الزوج من أي خليل آخر! ولو كان لهذا الزوج أن يفاضل في هذا المجال لما اختار غيره هو!

تلك هي الخواطر التي طافت بنفسه، ولم يغادر بعدُ فناء المقبرة … وهنا لمحت عينه فجأة صديقه الزوج الحزين المسكين على مقربة منه، وقد لمعت فوق خده دمعة! فثاب إلى رشده، ونظر يمينًا وشمالًا، كأنما خيِّل إليه أن الناس قد خرقوا بنظراتهم جمجمته، ونفذوا إلى أفكاره … ويا لها من أفكار! سيعجبون ولا ريب كيف تخطر على بال مثله في «مقبرة»! ولكن لحسن الحظ! ربما خُلقت الجماجم من عظام سميكة لتحجب أحيانًا مثل هذه الخطرات عن العيون … لا … لا ينبغي أن يفكر هكذا … حتى لو رضي الزوج أن تنشأ علاقة كهذه بينه وبين تلك المرأة، فإن هذا الرضا لا يبرر عمله، ولا ينزع عنه صفة القبح! إن اللذة الحسية ليست كل اللذة! هنالك أيضًا اللذة المعنوية … إذا استمعنا إلى صياح حواسنا وخلايانا وحدها، وصدقنا مطالبها لما كان الإنسان أكثر من حيوان! ولكن هنالك لذات لا تعرفها أعضاؤنا المادية! إن للتضحية في سبيل الواجب لذة، وللحرمان في سبيل الشرف لذة، إن الحياة بغير القِيَم المعنوية هي حياة تافهة لا معنى لها! وماذا يكون الفارق بين «راهب الفكر» وثور في حقل إذا فقد اللذات الروحية، ولم يكن له غير لذات الأنسجة والذرات؟! كلا! إن الروح في حياتنا القصيرة ليست مصدر شقاق وشغب وشقاء … تلك مزاعم الجسد! ولكنها منبع سعادة من نوع آخر! ولو آمنت المرأة بأن كبح جماح النفس من أجل واجب الزوجية يمنحها من السعادة الروحية ما يعوض عليها ملذات البدن؛ لما استهانت برباطها المقدس لحظة واحدة، فكيف إذن «براهب الفكر» هو الذي يعيش للجمال الفكري، ويبصر بنور الروح، أيستهين برباطه المقدس، الذي يربطه بالقيم المعنوية؟!

وكان الزوج قد اقترب منه، وأخذ بذراعه في صمتٍ فسار معه إلى خارج المقبرة، وقد انتهت المراسيم، وأخذ الحاضرون في الانصراف!

ودعا الزوج «راهب الفكر» إلى سيارته، وفي أثناء السير بدا منه تلميح إلى مسألة زوجته … وما تم فيها. فأخرج «راهب الفكر» الورقة التي وقَّعتها الزوجة، وقدَّمها إليه، فقرأها ودسَّها في جيبه، وتناول يد صديقه وضغط عليها ضغطًا ينم عن شكره، وتقديره لهذا الصنيع!

وخطر «لراهب الفكر» شبح الزوجة، وخاف أن تعاود المجيء إليه متذرعة بحجة من الحجج، لتحاول فتنته مرة أخرى! وقد يضعف أو يلين لشيطان سحرها وغوايتها، فما يجدر به أن يفعل؟ لا بدَّ من تدبُّر الأمر منذ الآن!

إن خير حلٍّ هو أن يغادر «القاهرة» فترة من الزمن، تكفي لدفن كل هذه الحوادث تحت غبار النسيان، وتمكِّن كلَّ ذي شأن فيها من الانصراف إلى طريقه في الحياة!

ووقفت السيارة حيث أراد «راهب الفكر» أن ينزل، فمدَّ يدَه، مودعًا، لصديقه الزوج قائلًا: إني مسافر صباح الغد إلى الريف! أمكث فيه شهرين أو ثلاثة.

•••

وعاد «راهب الفكر» بعد شهور إلى «القاهرة» بنفسٍ صافية، وروح راضية … وقد علم من خادمه بما توقع قبل سفره … فقد حضرت تلك المرأة مرتين في الأسبوعين الأولين … ولما أيقنت أن سفره سيطول حقيقة، ذهبت إلى غير عودة … وجلس «راهب الفكر» إلى مكتبه من جديدٍ مستأنفًا أعماله الأولى … وقد اختفت تلك الزوجة من محيط حياته اختفاءً تامًّا، فلم يَعُدْ يسمع عنها شيئًا، ولم يُرِدْ أن يزعج الزوج فيبدأ هو بِطَرْق بابه، ولعلَّه قد نسيه أو أحبَّ أن ينساه، لينسى الظروف القاتمة التي عرفه فيها، فليس هو — على أي حال — الذي يذكِّره بما كان.

ومرَّت الأيام … وإذا هو يرى صورة تلك المرأة وأخبارها بارزة في صفحات المجلات، وأخبار المجتمعات، وقد تزوجت شخصية معروفة بالتفاهة وقلة الذكاء، فأدرك أنها قد ظفرت أخيرًا بالزوج المثالي للمرأة العصرية.

أما هو فقد رجع إلى عادته السابقة، يفضُّ رسائل قرائه في الصباح باسم الثغر، هادئ الأعصاب، وإذا هو، بعد زمنٍ قليلٍ، قد وقعت في يده رسالة بين البريد ارتجف لها.

إنها من امرأة تسأله أن يحدد موعدًا للقائها، لأنها تريد أن تحادثه في شأن من شئون الأدب والفكر! فصاح في نفسه: «لا … لا …» كفى! ألم يعرفهن؟!

وضغطت أصابعه على الرسالة يريد أن يمزقها، ولكن … ولكنه ثاب إلى رشده قائلًا: الشجاعة ليست في تجنُّب مزالق الجسد، وتحاشي مواطن الزلل، بل في مواجهتها بمصباح الحقائق ونور المثل العليا!
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

أعلى أسفل