• سجل عضوية لنشر مواضيع ومشاركات ومحادثة الأعضاء بدون إزعاج الإعلانات

متسلسلة فانتازيا وخيال عصر الأهوال (للكاتبYoKio_HTM) | السلسلة الثالثة | ـ حتي الجزء الثالث (1 مشاهد)

قيصر ميلفات

ميلفاوي موثق
مستر ميلفاوي
كاتب ذهبي
عضو
ناشر قصص
ناشر صور
ميلفاوي متميز
ميلفاوي كوميدي
ميلفاوي شاعر
ناشر موسيقي
ميلفاوي سينماوي
ميلفاوي نشيط
ناشر قصص مصورة
ناشر محتوي
مترجم قصص
نجم ميلفات
ملك الصور
إنضم
30 مايو 2023
المشاركات
5,814
مستوى التفاعل
4,866
نقاط
1,300
النوع
ذكر
الميول
طبيعي

-------------------------

(الجزء الاول)

مرّت عصور لا تحصى وحدثت ظواهر غريبة جعلت السحرة حائرين ومندهشين، ولكنّهم لم يشهدوا ولم يسمعوا عن شيء كهذا.

كانت السماء ساطعة بشدّة حتّى جعلت الليل نهارا بالعالم الواهن بأجمعه، وتزعزعت الأرض في جميع النواحي دون أن تترك مكانا لأيّ شخص للهروب.

فزع الناس في مختلف المدن وانكمشوا في أماكنهم بينما يحضنون أعزّاءهم كما لو أنّها نهاية العالم.

شاهدوا انشقاق الأرض وانقلاب الجبال، فبكى الأطفال، وارتعدت قلوب النساء والرجال، إذ ما سبق لهم أن رأوا مثل تلك الأهوال.

كانت استجابات سكّان العالم الواهن في تلك اللحظات موحّدة بدون استثناء، إذ غمرتهم الدهشة والرعب، كونهم يعلمون أنّ النور الذي يزيّن سماءهم ويضيء عالمهم ما هو إلّا نذير شؤم إذا صحّ التعبير بالتفكير في ما سيأتي بعده من أحداث.

كانت الملاجئ تعجّ بالناس وبالكاد استطاع الجميع الاحتماء، ففي الأشهر الأخيرة حامت فرق عديدة من السحرة حول العالم وقطعوا العالم طولا وعرضا ونشروا الخبر بوثائق مرسومة من طرف الأباطرة أنفسهم وحرصوا على أن يعلم كلّ شخص في العالم بالحدث العظيم القادم.

تكلّف زعماء القرى ونبلاء المدن بتسجيل كلّ كبير وصغير حتّى يُتأكَّد من حضور كلّ شخص في الملاجئ.

اتُّخِذت المدن الكبرى التي حكمها الجنرالات كملاجئ، لذا يمكن القول أنّها كانت آمنة أكثر من أيّ مكان آخر أصلا بحراستها الشديدة وغناها الوفير.

وفي منزل ما بعاصمة الشعلة القرمزيّة، اختبأ أحد الأطفال في حضن أمّه بينما يحدّق من تحت ذراعها إلى السماء عبر النافذة: "أمّاه! أمّاه! أمّاه!"

عانقته أمّه بشدّة وردّت: "نعم يا بنيّ، أمّك هنا، لا تقلق، سيكون كلّ شيء على ما يرام. ما هذه إلّا عاصفة وستمرّ؛ هل تعلم لمَ أنا متأكّدِة؟ ذلك لأنّ بطل عالمنا، جنرال شعلتنا القرمزيّة الأعلى، قد قال ذلك."


قبض الطفل ذراعيها بشدّة وقال مشكّكا: "حقّا؟ بطل الأبطال باسل قال ذلك؟"

ربّتت الأمّ على رأسه وأجابت بينما تعتلي وجهها ابتسامة خافتة: "هل سبق أن كذبت أمّك عليك يا بنيّ؟"

هزّ الطفل رأسه واستقام ثمّ أحكم قبضتيه وقال بوجه مشرق: "إذن لن أخاف بعد الآن يا أمّي."

سقط بعد ذلك على الأرض من شدّة اهتزازها، فصرخ من الخوف وعاد ليختبئ في حضنها، فضحكت الأمّ بشكل خفيف وقالت: "حسنا، حسنا، بنيّ 'حسن' ولد شجاع، مثل باسلنا حامي عالمنا."

انضّم إليهما الأب الذي شاهد بصمت تزيّنه ابتسامة تظهر مدى اعتزازه بأسرته، لكنّه سرعان ما غمره ذلك الهاجس الذي نتج عن خفقان قلبه من الرعب، فوجد أنّ الأمّ تشاركه نفس الشعور بعدما رأى نظرتها الحزينة التي أخفتها عن صغيرهما.

كان حال الناس لا يختلف كثيرا عن هاته العائلة الصغيرة؛ ففي مكان آخر، وقف *** يبدو في السابعة من عمره بينما يرتعد بسبب الأرض الهزّازة وبسبب الخوف: "لا تقلقي يا والدتي، أنا، 'عماد'، أعدك أن أحميك مهما حدث، فأنا شخص سيعمل تحت خدمة بطل البحر القرمزيّ مباشرة عندما يكبر كما فعل والدي عسى أن ترقد روحه في سلام."

كان صوته يهتزّ بشكل متناسق مع اهتزاز الأرض، لكنّ كلماته كانت شجاعة ومليئة بالفخر. نظرت إليه أمّه وابتسمت قبل أن تردّ: "نعم، أعلم ذلك يا عزيزي، فأنت ابن أبيك بعد كلّ شيء."

دمعت إحدى عينيْ الفتى لكنّه جمع شتات نفسه وقال: "ذلك صحيح، أنا عماد بن أشرف، عاهدت أبي أن أحميك يا والدتي، مهما كانت الظروف. لن أترك أيّ شيء يحدث لك ما حييت."

نظرت الأمّ بحنان إلى طفلها الذي يبذل ما في استطاعته ثمّ فتحت ذراعيها على مصراعيهما وقالت: "كلّ ما أريده منك هو ألّا تسبقني كما فعل أبوك وأن تبقى معي في هذه الدنيا. تعالَ يا عزيزي، أمّك تشعر بالوحدة، أيمكنك أن تمنحها عناقا؟"

ابتسم عماد ورمى نفسه في حضن والدته، فزال أحد السببين اللذين كانا يجعلانه يرتعد.

استعدّ السحرة في مواقعهم بالمدن الكبرى بينما قاد آخرون الناس وطمأنوهم وحرصوا على عدم اندلاع الفوضى. كان العالم الواهن حاليا موحّدا قلبا وجسدا.


ظلّت القلوب مرتعدة ولم يعلم أحد متى سينتهي هذا الأمر، فمرّ اليوم الأوّل على ذلك الحال ولم يصب الأذى أحدا.

وفي اليوم الثاني، انفجرت البراكين المجاورة وسمع الناس الوحوش السحريّة في المناطق السحريّة تصرخ وتزمجر بينما تبعث نيّات قتلها عبر العالم كلّه.

كانت هناك مدن جاورتها براكين أصبحت هدفا للمقذوفات البركانيّة والحمم الجاريّة والمتفجرات التي زحفت تحت الأراضي.

صرخ حرّاس تلك المدن وكانت ردود أفعالهم متشابهة، إذ استعدّوا تماما لمواجهة خطر الطبيعة الذي تشكلّ في صورة صخور بركانيّة تسقط من السماء كالنيازك.

انفجار

ولكن، قبل أن تبلغهم تلك النيازك، توقّفت فجأة في السماء، أو يجب القول اصطدمت بشيء ما لصحّة القول، فعبس السحرة وراقبوا بحذر ما يحدث.

"ما الذي يحدث بالضبط؟"

تساءل أحد جنرالات إمبراطوريّة الرياح العاتيّة بينما يشاهد تلك القبّة المضيئة التي ظهرت فجأة فوق مدينتهم وغطّتها بأكملها.

كان الحال نفسه مع باقي الجنرالات وأتباعهم في مختلف المدن التي تجابه نفس المشكلة. لم يستطيعوا أن يصدّقوا أنّه يوجد حاجز سحريّ-أثريّ حول مدنهم بهذا الشكل.

لم يسبق لأحد منهم أن رأى شيئا كهذا. كان الحاجز السحريّ-الأثريّ يمتدّ عبر الحائط المحيط بكلّ مدينة نحو المساء مكوّنا بذلك قبّة من الطاقة السحريّة التي تزيّنت برسومات بدت كدوائر عديدة بخطوط تقطعها بأنماط متنوّعة. شكّلت الدوائر في النهاية دائرة كبيرة باتّصال بعضها مع بعض.

بلع الجنرالات أرياقهم في شتّى الأنحاء ورفعوا أسلحتهم الأثريّة نحو الأعلى وصرخوا كما لو أنّهم يتشاركون نفس الأفكار بالرغم من المسافة بينهم: [يحيـــا بـــاسل!]

تبعهم بعدئذ كلّ الجنود: [يحيـــا بـــاسل!]


تردّدت تلك الجملة على مسامع الجميع فعلموا أخيرا ما كان يفعله باسل في تلك الشهور حينما كان يبني مصفوفاتٍ كما أعلن الإمبراطور كريمزون أكاغي.

صعدت القشعريرة مع أجساد الناس الذين شهدوا ما حدث قبل قليل، وارتفع ضغط دمهم من شدّة الحماس، وصرخوا: [يحيـــا بـــاسل!]

كانت تلك الجملة كتعويذة سحريّة تغذّي أرواحهم؛ ففكرة دعم باسل لهم هكذا جعلت قلوبهم المرتعدة تضخّ الدم إلى شرايينهم بسرعة أكبر ولكن هذه المرّة بسبب سعادتهم، فلم يسعهم سوى أن يهتفوا باسمه، باسمه فقط بدون أيّ لقب.

استطاعت تلك الحواجز حمايتهم من المتفجّرات التي زحفت تحت الأرض، فذلك الحاجز كان يحمي الملجأ بينما يغطّيها ككرة نصفها على سطح الأرض والنصف الآخر تحت الأرض.

لم تتوقّف البراكين حتّى بعد مرور يوم كامل واستمرّت في الهيجان، ولكنّ المصفوفات لم تتأثّر بذلك ولم تضعف مهما مرّ من الوقت، كما لو أنّ مصدر طاقتها غير محدود.

وبحلول اليوم الثالث، هاجت البحار وارتفعت الأمواج وانطلقت لتغزو اليابسة من كلّ الجهات. لم يكن هناك ساحل إلّا وسُحِق سحقا.

اختفت الأراضي شيئا فشيئا وغزت المياه العالم، فعاد الرعب ليسكن قلوب الناس مرّة أخرى.

"هل يمكن أنّ هذه نهاية العالم في الواقع؟"

كان العديد من الأشخاص الذين فكّروا بذلك بعدما مرّوا باليومين الماضيين وما زالوا يختبرون حاليا ما لم يختبره أحد قطّ في تاريخ عالمهم.

كانت هناك فيضانات بأمواج بحر هائلة سحقت العديد من المدن المهجورة وحولّتها إلى أنقاض في غضون ثوان، ولكن حتّى بعدما ازدادت شدّة تلك الأمواج مع الوقت إلّا أنّها لم تستطِع اختراق مصفوفات باسل التي أحاطت الملاجئ.

مرّت الأمواج عبر تلك المدن بعدما محقت المناطق المحيطة بها تماما، فتغيّرت تضاريس العديد من المناطق، إذ صارت بعضُ الجبال سهولا، ووديانٌ أنهارًا، وغاباتٌ أراضٍ مجرّدةً.


حلّ اليوم الرابع فتساقطت الصواعق كالمطر الغزير من السماء وأحرقت بعضا من الغابات التي نجت من الأضرار السابقة، وخلّفت وراءها صدوعا على الأرض في جميع أنحاء العالم. كانت تلك الصدوع في الواقع كوديان سحيقة عند النظر إليها عن كثب، ممّا أوحى إلى قوّة تلك الصاعقات.

وبدءا من اليوم الخامس حتّى نهاية اليوم السابع، تزلزل العالم وهاجت البراكين وفاضت المحيطات وتساقطت الصاعقات بدون توقّف فجعل ذلك الناس تتيقّن من أنّ هذه نهاية عالمهم حقّا. لم يسع بعضهم تحمّل الرعب الذي يحيط بهم خارج الملاجئ التي حمتهم من كلّ تلك المصائب وفقدوا الوعي.

بلع جنرالٌ ريقه في أحد الملاجئ وحدّق إلى الحاجز الذي يحيط بالمدينة وقال: "فقط ما الذي كان ليحدث لو لم يشيّد بطل البحر القرمزيّ هذه الملاجئ؟ هل كان لينجو سحرة القسم الأوّل من مستويات الربط حتّى؟ كان هذا ليسبّب إبادة جماعيّة لكلّ شخص تحت المستوى الثامن على الأقلّ، وأعني بالإبادة أي بدون مقاومة، لأنّه حتّى لو قاوم ذلك سحرةُ المستوى الثامن فما فوق فلا أظنّ أنّهم سينجون أيضا."

كان حال باقي الجنرالات في مختلف المدن مثله تماما، إذ شهدوا قوّة ورعب التحوّل الروحيّ لعالمهم.

كان هناك بعض الجنود الذين راودتهم بعض الأسئلة حول ما سيحصل تاليا: "يا أيّها الجنرال آو، هل كان يعلم الجنرال الأعلى يا ترى ما سيحدث عند التحوّل الروحيّ؟ أعني هذه الكوارث الطبيعيّة."

كان المخاطَب هو رئيس عائلة آو، آو لان من إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، والذي حدّق إلى تابعه ثمّ نظر إلى الحاجز الذي يحيط بالمدينة مرّة أخرى: "هل تظنّ أنّه لو كان يعلم سيخفيه عنّا؟"

أحسّ الجنديّ بالهلع بما أنّ الجنرال قد أبدى تعبيرا سيّئا وتكلّم بنبرة صوت مهدِّدة، فسارع الجنديّ بالاعتذار: "اعتذاراتي يا سيّدي، لقد كان هذا التابع جاهلا."

ظلّ الجنرال آو ينظر إلى الحاجز باهتمام شديد ودهشة كبيرة، قبل أن يحدّق إلى تابعه ويجيب: "حتّى الجنرال الأعلى لا يعلم؛ فعلى ما يبدو، تحوّل العوالم الروحيّ يختلف من عالم إلى آخر والظواهر المصاحبة لذلك ليست ثابتة، ولكنّنا نعلم على الأقلّ أنّ مثل هذه الكوارث الطبيعيّة كانت أكيدة بالرغم من أنّنا لم نعلم عن الترتيب الذي ستحدث عليه أو الشكل الذي ستتّخذه."

تصنّت التابع رفقة زملائه بصمت ونظروا إلى الحاجز أيضا بتعجّب.

انتهت ليلة اليوم السابع وحلّ فجر اليوم الثامن، فرأوا الهواء يتموّج ويصدر اهتزازات غريبة أينما حطّت أنظارهم، فلاحظوا بعض التشوّهات الغريبة في الفضاء كالضبابيّة التي تراها العين تحيط بالنيران.

كانت تلك الضبابيّة في الهواء تحدث في العديد من الأماكن، وبدت مخيفة كونها جعلت الناس يحسّون بالهواء ثقيلا، إذ صارت في الواقع جاذبيّة العالم أقوى مع مرور الوقت كما لو أنّها تحاول سحق كلّ شيء.

لم يعلم أحد عمّا كان يحدث للوحوش السحريّة نظرا لكونهم محتجزين في الملاجئ، وكون المناطق المحظورة كلّها معزولة عن العالم تماما بسبب التغيّر المفاجئ في حواجز الحماية السماويّة.


كانت هناك حواجز حماية سماويّة تتغيّر تدريجيّا مع مرور الوقت إذ كانت طاقتها السحريّة تصير أنقى أكثر فأكثر بينما تبعث طاقاتها إلى أعماق المناطق المحظورة لتتخلّل التربة والأشجار والأحجار.

كلّ شيء في تلك المناطق المحظورة صار يتوهّج بطاقة تبدو أقوى وأنقى بكثير من الطاقة السحريّة، تلك كانت طاقة روح العالم الواهن.

فلو كانت الطاقة السحريّة هي طاقة الحياة التي تتمثّل في الجسد والدم والعقل، فالطاقة الروحيّة هي الطاقة التي تنبع من الروح نفسها.

مثلما يصير الساحرُ ساحرًا روحيًّا والوحوشُ السحريّةُ وحوشًا روحيّةً، كذلك العوالم السحريّة تغدو عوالمَ روحيّةً؛ كانت هذه إحدى قوانين الوجود.

والآن عندما بلغ العالم الواهن هذه المرحلة، لم يكن هناك عودة. وطيلة الأسبوع القادم، استمرّت تلك الظواهر بالحدوث دون توقّف حتّى حان الوقت الذي تفكّكت فيه المصفوفات التي صنعها باسل واحدة تلو الأخرى.

***

كان الأسبوع الماضي مرعبا للغاية من الأسبوع الذي سبقه، إذ لاحظ الناس عالمهم يتغيّر حرفيّا وخصوصا عندما ازدادت قوّة تلك الجاذبيّة لدرجة تؤثّر فيها على التضاريس مثلما فعلت تلك الكوارث الطبيعيّة الأخرى، حتّى صار العالم الواهن مختلفا عمّا اعتادت عليه الأعين.

انقسمت القارّات وانهدمت الجزر وتغيّرت مواقعها فصارت خريطة العالم الحالية بدون فائدة. كان الشرق قد غدا غربا، والجنوب شمالا، وبدأ الناس يشكّون في حقيقة كون السماء فوقهم أم أسفلهم.

حدث كلّ هذا ولكنّ المصفوفات التي صنعها باسل جعلت الملاجئ منيعة ضدّ كلّ هذه التحوّلات والتغيّرات، فحتّى عندما انقلبت الجبال وزحفت القارّات وتساقطت المقذوفات البركانيّة وغرقت الأراضي تحت المحيطات، صمدت الملاجئ وحافظت على استقرارها ولم تتغيّر مواقعها.

فعندما غرقت المناطق المجاورة كانت الملاجئ بارزة فوق المياه، وعندما تحرّكت الأراضي تحرّكت الملاجئ معها محافظة على نفس البقعة التي كانت عليها كما لو أنّها تتكيّف مع كلّ تغيّر يحدث.

تدمّر العالم الواهن تماما بحلول اليوم الرابع عشر، وتوقّفت كل تلك الظواهر أخيرا مريحةً قلب الناس الذين اسودّت ملامحهم لمّا لاحظوا المصفوفات تختفي بدءا من مركزها في السماء وتبدّد في الهواء مندمجةً مع الجزيئات السحريّة.

ارتعب الناس لكنّ الجنرالات أكّدوا بعدما دقّقوا الملاحظة لوقت طويل: "لقد انتهى الأمر، لقد انتهت تلك الظواهر المخيفة."

وفي هذه الأثناء، في الأرض المسالمة المباركة، وقفت أنمار بحرص شديد بالقرب من البحيرة المباركة، برفقة قادة التشكيل والجنرال منصف والتاجر ناصر والجنرال رعد وبعض الكيميائيّين والحدّادين، وترقّبوا الشيء الأخير المتوقّع حدوثه.

ردّدت أنمار: "ستبدأ نهاية تحوّل العالم الروحيّ، أو يمكنك القول تحوّل العالم الروحيّ الحقيقيّ."

استغرب التاجر ناصر فسأل: "التحوّل الروحيّ الحقيقيّ؟ ما المقصود بذلك يا سيّدتي أنمار؟"

عبست أنمار وردّت بعد لحظات من الصمت: "الآن، سيتحوّل جوهر العالم السحريّ إلى جوهر روحيّ بشكل كامل، وبذلك يتجدّد العالم كما لو أنّه يُصلح ويعالج نفسه، وتبدأ بعد ذلك الوحوش السحريّة بقمّة المستوى الرابع عشر الاختراق إلى المستويات الروحيّة."

بلع العديد من الأشخاص أرياقهم عند التفكير في هذا الأمر، فبالرغم من أنّهم قضوا على معظم الوحوش السحريّة بذلك المستوى، إلّا أنّه ما يزال هناك وحوش أخرى وخصوصا بقارّة الأصل والنهاية، وسيأتي وقت وتُنعش فيه من جديد كلّ تلك الوحوش التي قضوا عليها.

أكملت أنمار: "الآن، ستختفي كلّ المصفوفات التي صنعها باسل، والتي بُنِيَ أساسها على أوردة الطاقة السحريّة التي ستتعرّض لتغيّرات بعد التحوّل روحيّ."

بالفعل، كان باسل قد استخدم الحكمة السياديّة ليجد هذه الأوردة، وأوّلها كان الوريد الذي تتبّعه انطلاقا من مدينة العصر الجديد برفقة العالم المجنون. كانت هذه هي الغاية من رحلة باسل، لكنّه لاحظ اتّصال ثلاث مناطق بمنبع ذلك الوريد ذاته الذي كان في نهر ددمم التنين، إذْ كانت المناطق الثلاث هي مدينة العصر الجديد والأرض المسالمة المباركة ووكر الوحش النائم.

أراد باسل في ذلك الوقت أن يكتشف حقيقة الوريد، لكنّه ظلّ بدون تأكيدات لقلّة الدلائل، واستمرّ ذلك حتّى اكتسب الرخصة من الوحش النائم وعلم عن السبب الذي جعل ذلك الأخير يضع وكره في ذلك المكان بالتحديد.

وبالطبع، اكتشف لمَ وضع معلّمه أساس أكاديميّة الاتّحاد العظمى في الأرض المسالمة المباركة، ومدينة العصر الجديد في ذلك المكان بالتحديد؛ كان ذلك لأنّ تينك المنطقتين، مثل الوكر، كانتا متّصلتين بشكل مباشر بمنبع الوريد في نهر ددمم التنّين.

ارتحل في العالم بعدئذ ووجد بعض الأوردة الطبيعيّة التي توجد في أيّ عالم، وربط المصفوفات التي صنعها بها حتّى يستمدّ منها الطاقة اللازمة، وبذلك كان قد انتهى من عمله بمساعدة أوبنهايمر فرانكنشتاين.

كان هذا ما عناه عندما سأله أوبنهايمر فرانكنشتاين عن سبب رحلتهم عند مغادرتهم لمدينة العصر الجديد وأجابه باسل: "ليس صعبا، سنبحث عن أشياء، ونضع أشياء، ثمّ ننتظر، وبذلك سنصنع أشياء."

حدّقوا بعد كلام أنمار إلى السماء والمناطق المحيطة بهم، ثمّ قال كين نبيل: "وماذا عن هذه المنطقة؟ فعلى عكس المصفوفات التي بناها السيّد باسل، هذه الأرض المباركة أصلا حصنٌ خام احتاج أن يُصقَل وذلك ما حصل عند بناء الأكاديميّة، ولكن ماذا سيحدث عند التحوّل الروحيّ الحقيقيّ؟"

ترقّب الجميع الردّ من أنمار، فلا أحد غيرها امتلك الإجابة في نظرهم، لكنّها تنهّدت وقالت: "هذا أمر مجهول أيضا. فهذه الأرض المباركة ستتعرّض للتغيّر بدون شكّ عند التحوّل الروحيّ الحقيقيّ، لكنّني لا أعلم كيف سيكون لك، وبالطبع باسل أيضا لا يعلم، وإلّا كان ليخبرنا بذلك."

حكّ الجنرال رعد ذقنه وقال: "إذن حال هذا مثل حال الكوارث التي حدثت في الأيّام الأربعة عشر الماضية. فحتّى لو علمنا أنّ التحوّل الروحيّ الحقيقيّ هو المرحلة الأخيرة، يبقى التغيّر الذي سيحدث لبعض المناطق يختلف من منطقة إلى أخرى."

أومأت أنمار إليه: "نعم، للأسف."

شبك تورتش ذراعيه على صدره بينما يضع يده اليسرى على ذقنه وقال: "ومتى سيحدث هذا بالضبط؟ أعني، قد مرّ الأسبوعان."

أومأت أنمار: "صحيح، قد مرّت الأيّام الأربعة عشر، لذا لن يطول هذا، وفي أيّ لحظ..."

لم تكمل أنمار كلامها حتى تزلزلت الأرض من جديد. شعروا كما لو أنّ صاعقة ما نزلت على رؤوسهم من الدهشة؛ لاحظوا أنّ هذا الزلزال مختلف تماما عن تلك الزلازل السابقة.

فبعدما مرّ العالم بكلّ تلك الظواهر الكارثيّة وسُحِق تحت تأثير الجاذبيّة، لاحظوا أمام أعينهم الفضاء يتمزّق وينفتح كفم عملاق. بدأ ذلك يحدث في شتّى أنحاء العالم الذي سطع فأصبح الكوكب بكامله يبدو ككرة مشعّة من الضوء الأزرق الفاتح؛ صار يبدو كنجم أزرق في الفضاء الشاسع.

لم يفهم أيّ أحد ما كان يحدث، وغاب البشر عن الوعي قبل أن يفكّروا في ذلك حتّى، ولحقهم في ذلك السحرة حتّى المستوى السابع، وبالكاد حافظ السحرة من المستوى الثامن حتّى المستوى الثالث عشر على وعيهم فلم يقدروا أن يستوعبوا بعقولهم المشوّشة وأرواحهم المضطربة ما يحدث، وظلّ سحرة المستوى الرابع عشر صامدين أمام انكسار الزمكان.

وقفت أنمار صامدة برفقة الجنرالين رعد ومنصف، وقائديْ تشكيل بطل البحر القرمزيّ تورتش وشي يو، وبعض الحدّادين والكيميائيّين الذي بلغوا المستوى الرابع عشر، من بينهم الكيميائيّون الثلاثة والحدّاد سميث واثنين من معاونيه الذين علّمهم باسل تقنياته عندما قدم إلى عائلة كريمزون أوّل مرّة. وأخيرا، وقف أوبنهايمر فرانكنشتاين بعيدا عنهم بدون صعوبة بينما يقترب من صفاء الغائبة عن الوعي بين ذراعيه.

كان هؤلاء هم سحرة المستوى الرابع عشر الموجودين هنا واستطاعوا الصمود. فالجنرال رعد امتلك موهبة مدهشة مكّنته من مواكبة سرعة أنمار وتورتش وشي يو اللذين تعلّما على يد باسل وأنمار جنبا إلى جنب مع القادة الآخرين. أمّا الجنرال منصف فقد استهلك حبّة الولادة الجديدة السحريّة ولحقهم، بينما ظلّ الكياميائيّون والحدّادون في المستوى الرابع عشر منذ مدّة طويلة منتظرين تحوّل العالم الروحيّ حتّى يستطيعوا الاختراق إلى المرحلة التاليّة.

أمّا أوبنهايمر فرانكنشتاين، فقد كان شخصا ذو موهبة مرعبة، ولولا ضعف اهتمامه بالسحر مقابل اهتمامه الشديد بالتجارب والخيمياء وتطوّر المخلوقات لكان قد بلغ مرحلة الصاعد الحقيقيّ منذ مدّة طويلة، لكنّه كان يصرف وقته في تجربة العديد من الأشياء على جسده وعلى مخلوقات أخرى.

حدّقت شيرايوكي إلى أنمار بصعوبة بينما تجثو على ركبتيها وتتنفّس بصعوبة، محاولةً الحفاظ على وعيها في ظلّ هذه الظروف المتقلّبة حرفيّا.

فمهما حاولوا فهم ما يحدث لم يستطيعوا، فتارة كانوا يجدون الشخص الذين يرونه أمامهم خلفهم أو بجانبهم كما لو أنّ صورهم تنعكس وتختفي باستمرار.

شعروا بالغثيان الشديد وآلمتهم رؤوسهم فشعروا أنّها ستنقسم لأجزاء، وتغيّرت درجة حرارة أجسادهم حتّى اختفى إحساسهم بالحرارة وصاروا لا يفرّقون بين البرودة والسخونة.

ومع ذلك، حصل هذا فقط للسحرة بالمستوى الثامن وما فوق، ولم يتأثّر الأشخاص الغائبين عن الوعي، كما لو أنّ غيبوبتهم أنقذتهم من العناء الذي لم يكونوا ليتحمّلوه لو اختبروه.

صرخ الجنرال رعد: "فليخبرني، أحد، عمّا، يحدث، اللعنة، هل هذا، من، المفترض، أن يحدث، هكذا؟"

لم يحصل الجنرال رعد على أيّ إجابة، وذلك لأنّه لا أحد قد فهمه أصلا، فكلامه في الواقع قد تجزّأ بطريقة غريبة.

فهو حقّا قال الكلام بشكل عادي، لكنّ بعضهم سمعوا جزءا من كلامه فقط بينما آخرون سمعوا الكلام معكوسا أو عشوائيّا كما لو أنّ الكلمات غير متّصلة لتكوّن جملا مفيدة.

عبست أنمار وحاولت التحدث: "هذه، التشوّهات، الفضائيّة، تحدث لأنّ، فضاء، العالم بنفسه، يتغيّر. فبعدما ينتهي، كلّ، هذا، لن يكون عالمنا، كما كان، عليه بشكل، كلّيّ."

بالطبع، بالرغم من أنّها حاولت الشرح، إلّا أنّ بعضا من كلماتها فقط ما استطاعوا استقباله.

كان هناك شخص آخر فهم الحالة جيّدا بدون أن يشرح له أحد، وأوّل ما فعله هذا الشخص عندما بدأ التحوّل الروحيّ الحقيقيّ هو الذهاب للاجتماع بـ"الشخص"... لا... بل للاجتماع بـ"الشيء" الأكثر أهميّة عنده حاليا.

كان ذلك أوبنهايمر فرانكنشتاين، والذي حمل صفاء وأمّنها عنده حتّى لا تفترق عنه ولو بتشوّه الفضاء.

لاحظت أنمار ذلك أيضا فاقتربت من شيرايوكي وحاولت إمساكها، لكنّها وجدت نفسها تمدّ يدها للفراغ فجأة، وعندما استدارت رأت شيرايوكي خلفها. لم تعلم ما إذا كان ذلك بسبب الهلوسات الناتجة عن الصداع الذي يشقّ رأسها أم بسبب تشوّه الفضاء جعل مسار تحرّكاتهم عشوائّيا.

استمرّت بالمحاولة حتّى نجحت أخيرا في إمساك شيرايوكي بالصدفة، فلاحظت أنّ لا تفترق عن صديقتها بالرغم من كلّ ما يحدث.

لاحظ تورتش ما حدث عندما كانت أنمار وشيرايوكي تختفيان في نفس الوقت، ففعل نفس الشيء مع شي يو، فلاحظ الآخرون الأمر وقلّدوهم بالرغم من أنّ ذلك استغرق وقتا طويلا، واستمرّ ذلك حتّى استطاعوا أن يتّحدوا كلّهم لتشرح أنمار ما يحدث من خلال ما فهمته.

كان معلوما أنّ العالم سيتوسّع بشكل عجيب عندما يتحوّل روحيّا، ولكن اختلفت طريقة حدوث ذلك من عالم لآخر، لذلك كانت أنمار تشرح لهم ما يحدث حاليا حتّى لا يهلعوا.

أصبح العالم مضطربا وساكنا في نفس الوقت، إذ غاب معظم المخلوقات فيه عن الوعي وظلّ قلّة فقط مستيقظين ليروا مدى عجزهم عن فعل شيء أمام القوة الغامرة التي تصحب التحوّل الروحيّ.

كان هناك سحرة اعتقدوا أنّ الغيب عن الوعي حاليا يُعدّ نعمة بدل مواجهة هذه العشوائيّة في الزمكان.

دار النجم الأزرق في الفضاء حول نفسه بسرعة كبيرة وبدا كما لو أنّه يكبر بينما يزداد ضوؤه إشعاعا، أو كما لو أنّ الفضاء حوله يتموّج بطريقة غريبة ويجعله يبدو أكبر ممّا كان عليه.

كانت هناك أراضٍ تظهر من تحت البحار وأخرى تنبثق في السماء، ولكن ذلك لم يكن بسبب الدمار، بل بدا الأمر كما لو أنّ تلك الأراضي قد نُقِلت آنيا إلى هناك بدون إحداث أيّ ضرر.

همدت أمواج البحار فقط لتهيج في مكان آخر، كما لو أنّ الأمواج الهائجة استُبدِلت بالهادئة، أو بالأحرى، كما لو أنّ بحرا قد استُبدِل بآخر.

لم يستطع أحد تفسير هذه الأشياء مهما حاولوا، وفقط اقتنعوا بحقيقة تحوّل العالم لعالم روحيّ؛ كان مثل هذا الأمر لغزا محيّرا لهم، لكنّهم استسلموا عن محاولة فكّه؛ علموا أنّ هذا من ألغاز الكون التي لن يستطيعوا كشفها مهما مرّ الزمن.

كانت هذه أقوى عجائب الأساطير في العوالم الروحيّة، فليس هناك عالم روحيّ وإلّا اختبر أشياء لا يتقبّلها العقل عند تحوّله.

لماذا يتحولّ العالم إلى عالم روحيّ؟ لأنّه يستجيب لحاجة السحرة الروحيّين للطاقة الروحيّة. لماذا هناك سحرة روحيّون؟ لأنّ العالم ينتج الطاقة الروحيّة. كان وما زال هذا الأمر غامضا، وبسبب ذلك قد لا يكون هناك في كلّ العوالم ولو شخص واحد لا يزال يبحث ويحاول كشف الستار عن ذلك الغموض؛ لقد كان هذا يفوق قدرات السلاطين حتّى.

هل وُجِد العالم الروحيّ أوّلا أم كانت الأسبقيّة للسحرة الروحيّين؟

بالرغمّ من أنّ باسل قد وجد ذلك العالم الثانويّ واستطاع أن يستمدّ الطاقة الروحيّة منه، إلّا أنّه بدون ذلك حتّى فالعالم الواهن كان سيستجيب لرغبة الصاعد الحقيقيّ في بلوغ المستويات الروحيّة وينتج طاقة شبه روحيّة في بعض المناطق قبل أن يتحوّل إلى عالم روحيّ حتّى، وعندما ينقّي الصاعد الحقيقيّ طاقته السحريّة لدرجة معيّنة ويدمجها بالطاقة شبه الروحيّة سيُنتج الطاقة الروحيّة.

أمكن تسمية الطاقة شبه الروحيّة بالطاقة الروحيّة المزيّفة، لأنّها ليست طاقة روحيّة حقيقيّة بل مجرّد طاقة سحريّة نقيّة لدرجة نقاوة الطاقة الروحيّة.

ومع ذلك، يظل اللغز دائما محيطا بمن كانت له الأسبقيّة – العالم الروحيّ أم السحرة الروحيّون؟

مرّت مدّة لا يعلم أحد عن طولها، فتضاءلت سرعة دوران النجم الأزرق حول نفسه حتّى صارت غير ملحوظة، وبدأ الضوء الأزرق ينقشع كسحابة تبدّدها رياح عاصفة، فصارت السماء طبيعيّة من جديد، إلّا التضاريس التي كانت بشكل محدّد وأصبحت في شكل آخر تماما.

في هاته اللحظات، كان الكوكب يبدو أكبر بكثير عمّا سبق لدرجة لا يمكن فيها الغفل عن الفرق، فحتّى الأراضي والبحار التي كوّنته ذات مرّة اختفت بين أراضٍ جديدة وبحار أخرى.

طالت غيبوبة الغائبين عن الوعي، ورسّخ المستيقظون أقدامهم على الأرض ونظر بعضهم إلى بعض بأوجه بلهاء توصف درجة جهلهم بحالتهم.

بلع تورتش ريقه وقال: "هـ-هل انتهى الأمر أخير؟"

لم يجبه أحد لمدّة كونهم كانوا بمثل درجة اندهاشه وروادهم نفس السؤال، حتّى استطاعت أنمار التيقّن أخيرا: "هذا ما يبدو عليه."

استغرب الجنرال رعد لمّا هدأت الاوضاع ورأى الوضع حوله، فانتبه الآخرون أيضا لمحيطهم لتعتليهم نفس التعبيرات. قال بينما يتحسّس الجوّ بيديه: "ما هذا الضباب الغريب؟"

كان يحاول اكتشاف سبب امتلاء المنطقة حولهم بذلك الضباب الذي غطّى مدى شاسع للغاية.

"هذا؟!" حتّى أنمار تعجّبت: "نحن بالتأكيد ما زلنا في نفس المكان الذي كنّا فيه قبل أن يبدأ ما حدث. هذه أرض الأكاديميّة من دون شكّ، فأنا ما زلت أستطيع الشعور بالأكاديميّة والبحيرة المباركة والمناطق المحظورة التي تحيط بهذا المكان. ولكن هذا الإحساس...!"

اقتربت شي يو من أنمار لتسألها عن الإحساس الذي شعرت به: "هل سبق لكِ أن مررت بمثل هذه التجربة؟ أعني هذا الضباب."

"لا أعلم..." كانت أنمار متفاجئة للغاية من الفكرة التي طرأت في بالها: "هذا الشعور، هذا يذكّرني بالإحساس الذي يراودني لمّا أحلّق في السماء وأخترق السحب بوحشي المستدعى."

"ماذا؟" فتح الجنرال عينيه على مصراعيهما وقال: "معك حقّ. الآن بعدما قلتها، حقّا هذا يبدو مثل المرّة التي حلّقنا فيها بوحشك المستدعى."

هزّ يده في الهواء كما لو أنّه يحاول إزاحة الضباب وقال: "إذن... هذا... هل هذا ممكن؟"

نظرت أنمار إلى شيرايوكي التي ما زالت تجد صعوبة في الوقوف ثمّ إلى الآخرين قبل أن تقرّر: "سأذهب لأتحقّق من شيء ما."

"انتظـ..."

أراد الجنرال أن يوقفها حتّى يعرف ما نيّتها، لكنّ أنمار كانت قد رحلت بالفعل واختفت بعيدا.

تجاوزت الأرض المسالمة المباركة ودخلت إلى المناطق المحظورة التي تحيط بها. استطاعت أن تدخل إلى المناطق المحظورة كالعادة لكنّها لم تضِع وقتها هناك لترى الاختلافات التي حصلت بما أنّها كانت مستعجلة.

لم يكن هناك ذلك الضباب في بعض المناطق التي مرّت بها لكنّه كان موجودا في مناطق أخرى.

لم يبدُ على أنمار أنّها تنوي التوقّف بالرغم من أنّها قطعت مسافة طويلة جدّا. بدا الأمر كما لو أنّها تريد أن تصل لمكان ما لكنّها لا تعلم أين هو. جرت وجرت لمدّة طويلة وقطعت مسافة طويلة للغاية، لكنّها لم تلمح شيئا غريبا.

كانت ملامحها جادّة، وأصبحت حادة عندما لمحت شيئا ما أخيرا. بدت كما لو أنّها بلغت ما أرادت، فتحوّلت نظراتها الجادّة والحادّة ببطء إلى نظرات تعجّب تامّ.

أمام عينيها، لم يكن هناك أرض لتجري فوقها، كما لو أنّها تقف عند جرف، إلّا أنّه لم يكن بجرف فعلا نظرا لانعدام الطرف الثاني من الأرض أمامها، كما لو أنّها وصلت إلى حافّة العالم.

كانت تقف هناك بينما تحّدق إلى الضباب الذي يحيط بها من كلّ جهة، فبلعت ريقها ونظرت إلى الأرجاء من جميع الجهات لتتيقّن أخيرا من شكّها.

"هذا...! لقد حدث فعلا. هذا الضباب، إنّه ليس بضباب في الواقع وإنّما سحاب!"

بلعت ريقها وصرّحت لنفسها الحقيقة المذهلة: "الآن، قد أصبحت الأرض المسالمة المباركة والمناطق المحيطة بها عبارة عن جزيرة عائمة في السماء!"

***

(سعيد لأنّ خواتم التخاطر تعمل الآن، يبدو أنّ غدوّ عالمنا عالما روحيّا لم يؤثّر على عملها.)

تحدّث الجنرال رعد عبر خاتم تخاطره مع شخص ما. بدا سعيدا للغاية أنّه لم يواجه مشكلة في الاتّصال بمن يريد، وكان أسعد بعدما سمع الشخص الآخر يقول له: (لقد اتّصلت بسيّدي تشارلي ويبدو أنّه والعاصمة بخير وعلى ما يرام.)

كان هذا هو الجنرال براون، معلّم الجنرال رعد وتلميذ الجنرال تشارلي.

(هذا مفرح حقّا، انتظر من فضلك...)

قوطعت محادثة الجنرال رعد من تورتش الذي أبلغه بالتالي: "ليس هناك أيّ ضحايا في الأرض المسالمة المباركة، إلّا أنّ هناك من لا يزال فاقدا للوعي وهناك من تلازمه آلام في الرأس، ولكن لا يبدو أنّ هناك خطر على حياتهم. إنّ 'شي يو' و'هيل' يقدّمان المساعدة بعنصر العلاج."

كان هيل من بين الشخصيّات المهمّة حاليا في العالم الواهن، وأتى إلى هنا مرافقا العائلة الإمبراطوريّة للأمواج الهائجة، عائلة أزهر.

ارتفعت معنويّات الجنرال رعد: "حقّا؟ هذا جيّد. الآن كلّ ما علينا أن نأمله هو ألّا يكون هناك ضحايا في مختلف بقاع العالم."

كانت شي يو قد أسرعت إلى المنزل الذي تقيم فيه عائلة باسل وأنمار حتّى تطمئنّ على لطيفة والأُخريَيْن، وكذلك فعل بقيّة قادة التشكيل، وغادر الكيميائيّون والحدّادون للاطمئنان على الأباطرة برفقة الجنرال منصف، وظلّ هنا تورتش والتاجر ناصر برفقة الجنرال رعد فقط.

كان تورتش يريد معرفة ما الذي جعل أنمار تهرع بذلك الشكل، لكنّه كان قلقا على عائلة باسل لذا أرسل الآخرين بينما انتظر عودة أنمار. كان حال التاجر ناصر نفسه، إذ كان مهتمّا للغاية في تصرّف أنمار والجنرال رعد سابقا.

أكمل الجنرال رعد بعد ذلك كلامه مع معلّمه: (يا سيّدي، يبدو أنّ كلّ شيء على ما يرام هنا أيضا. قد يكون بإمكاننا الشعور بالسعادة كما نشاء الآن ونخفّف من شدّة توتّرنا.)

أجابه الجنرال براون بعد صمت وجيز: (لقد انتهى إذن. انتهى التحوّل الروحيّ لعالمنا أخيرا! هل يجب أن نفرح لأنّ هذا الأمر انتهى بدون مأساة أم نفكّر في المستقبل الذي ينتظرنا مجهّزا لنا معارك ضاريّة؟)

(هاهاها،) ضحك الجنرال رعد بصوت مرتفع وقال: (لطالما كنتَ هكذا يا معلّمي، دائما تفكّر في الأخطار القادمة فقط.)

تنهّد الجنرال براون وردّ بجدّيّة: (أولستَ الشقيّ الذي يعامل الأمور برخاء دائما؟ لقد اعتقدت أنّك تعلّمت درسك وأصبحت جادّا، فما بال استهتارك هذا الآن؟)

كانت معنويّات الجنرال رعد مرتفعة حتى أنّه لم يسمح لمعلّمه أن يبدأ بمحاضرته الآن، فقال: (هيّا، هيّا، لا تكن صارما هكذا يا معلّمي. إنّني جادّ ومجتهد طوال الوقت، فأنت يجب أن تعلم ذلك أكثر من أيّ شخص آخر. في ذلك اليوم، عندما جابهنا ذلك الشيطان، تغيّرت حياتي تماما.)

حدّق إلى الأفق وأكمل: (ولكن، ما لا تعلمه يا معلّمي هو، أنّه كما تغيّرت حياتي بلقائي بذلك الشيطان وغرقت في ظلام عميق بسببه، تغيّرت حياتي مرّة أخرى بلقائي بشقيّ قرمزيّ مغرور.)

ضحك الجنرال براون قبل أن يجيب: (هاهاها، ما هذا؟ ما هذا يا ترى؟ أو لم تكن العنيد الذي عارض فكرة الاتّحاد معه وعائلة كريمزون؟ فما هذا الذي أسمعه من فمك؟ هل حقّا تخبرني الآن أنّ السيّد باسل جعلك ترى النور في ذلك الظلام العميق؟)

احمرّ وجه الجنرال رعد وندم على قول ما قال. لقد ذلك بدون أن يشعر أو يكفر فيه كثيرا. قال بسرعة: (لـ-لا، لا تفهمني بشكل خاطئ من فضلك. أعني فقط أنّ وجود شقيّ مزعج مثله يجعل الحياة مشغولة وينسيك في بعض الأشياء.)

استمرّ ضحك الجنرال براون لمدّة وجيزة بسبب طريقة استجابة تلميذه على إغاظته له، وقال بجدّيّة بعدما اكتفى من الضحك: (ولكن معك حقّ يا رعد، لقد فقدتُ الأمل في ذلك اليوم حقّا وظننت أنّنا ميّتين لا محالة إذا حدث وظهر ذلك الشيطان مرّة أخرى، لكنّني استطعت رؤية الأمل عندما التقيت بالسيّد باسل. في الواقع، لم أهتم أبدا بعائلة غرين آنذاك عندما قرّرت مساعدته، فما جعلني أنضمّ إليه كان هو رغبتي في رؤية ما يمكن أن يصل إليه؛ كانت تلك أمنيّتي الأنانيّة أن أرى شخصا قادرا على الوقوف في وجه ذلك الشيطان الذي لم نكن قادرين على فعل شيء ضدّه.)

ضيّق الجنرال رعد عينيه بينما ينظر إلى الأفق ويفكّر في كلام معلّمه. ابتسم بعد ذلك وقال بينما يحكّ رأسه: (إنّني حقّا تلميذك في نهاية المطاف يا سيّدي.)

فهم الجنرال براون لمَ قال تلميذه مثل هذا الكلام؛ لقد كان الجنرال رعد يشعر تماما مثله لكنّه لم يرِد أن يقول ذلك بشكل صريح.

قال الجنرال براون: (بالمناسبة، أين هو السيّد باسل الذي نتحدّث عنه؟ ألم يصل إلى هناك بعد؟ هل استطعتم الاتّصال به على الأقلّ؟)

(ذلك...)

أراد الجنرال رعد أن يجيب معلّمه لكنّه رأى أنمار عائدة بسرعة، فجعل معلّمه ينتظر مرّة أخرى وأسرع للقائها: "ماذا حدث يا أيّتها الفتاة الشقراء؟"

أجابت أنمار عن سؤال الجنرال رعد مباشرة: "يبدو أنّ شكّنا كان في محلّه... نحن نطفو في السماء الآن."

نزل فكّ الجنرال رعد السفليّ حتّى كاد يصل لصدره. لقد شكّ في الأمر لكنّه ما زال مفاجئا حقّا عندما يسمع أنّه حدث فعلا.

تحمّس بعدما جمع شتات نفسه من الصدمة: "نحن الآن في السماء؟ إذن هذا الضباب، إنّه سحاب! هذا... هذا مذهل! رائع للغاية!"

نظرت أنمار إلى الأكاديميّة ثمّ قالت: "لنتحدّث عن هذا عندما نجتمع بالآخرين، فأنا أريد أن أطمئنّ على عائلتي والآخرين بسرعة."

ابتسم الجنرال رعد: "لا تقلقي، لم يُصَب أحد بأذى. لقد سمعت أن السيّدة لطيفة وأمّك برفقة جدّة الفتى القرمزيّ بخير. أمّا تلك الفتاة الصغيرة، إنّها بخير بجانب أخويها اللذين أسرعا إليها وأبعداها عن ذو الوجه الطفوليّ. أمّا الإمبراطور وعائلته، فلا حاجة لك للقلق بشأنهم، فهم بتمام الخير جنبا إلى جنب مع الشخصيّات المهمّة الأخرى من بينهم الفتاة البيضاء التي التحقت بعائلتها."

نظرت أنمار إلى عينيْ الجنرال رعد مباشرة وظلّت على ذلك الحال لمدّة كافيّة حتّى جعلت الرجل يستغرب ويسأل: "ماذا هناك؟ هل هناك شيء ما على وجهي؟"

ابتسمت أنمار ابتسامة خفيفة كما لو أنّها قد اكتشفت شيئا مثيرا للاهتمام وقالت: "السيّدة لطيفة."

ضيّق الجنرال رعد عينيه وقال: "مـ-ماذا؟"

قالت أنمار مرّة اخرى: "جدّة الفتى القرمزيّ، الفتاة الشقراء، الفتاة البيضاء، الفتاة الصغيرة..."

بدت أنمار مستمتعة.

زاد استغراب الجنرال رعد: "كما قلت، ماذا؟ ما هذا فجأة؟"

حدّقت أنمار إليه بطرف عينيها وقالت: "جدّة الفتى القرمزيّ والفتاة الشقراء والفتاة البيضاء والفتاة الصغيرة، لكنّها 'السيّدة لطيفة'."

فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما وفهم أخيرا ما ترمي إليه الفتاة الشقراء. أصبح متوتّرا وأراد أن يقول شيئا: "هـ-هذا... لـ-ليس ما تعتقدين."

ضحكت أنمار واقتربت من الجنرال رعد أكثر وهمست: "لا تقلق، ليس لديّ مشكلة بتاتا، وحتّى باسل لن يكون ضدّ الفكرة إذا كان ذلك سيجعل أمّه سعيدة، ولكن المشكلة تكمن هناك بالضبط، "إن كان ذلك سيجعل أمّه سعيدة". لو اعتقد ولو قليلا أنّك ستكون خطرا عليها ولو بشكل غير مباشر، فلن يقبل أبدا وسيكون ضدّ الفكرة، وخصوصا إذا كانت لا تشعر هي بشيء من جهتك."

وضعت يدها على وجنتها وأغمضت عينيها ثمّ أمالت رأسها قبل أن تقول متحسّرة لكن راضية في نفس الوقت: "فكما ترى، باسلي لديه 'عقدة الأمّ'، وبشكل حادّ."

سرحت أنمار بأفكارها بعيدا لبعض الوقت واحمرّت وجنتاها وبدت تستمتع لوحدها قبل أن تعود للواقع، فتحرّكت للأمام لتصبح بجانب الجنرال رعد وهمست: "حسنا، لا تجعل هذا يحبطك، فلو جعلتها تقع في شراكك، حتّى باسل لن يجد عذرا، لأنّه سيكون بذلك 'هو بنفسه' يقف في طريق سعادتها."

لم يستطِع الجنرال رعد قول شيء، وفقط حدّق إلى هذه الفتاة المرعبة التي استطاعت ملاحظة هذا الشيء بالرغم من أنّه أخفاه عن الجميع.

سألت أنمار: "منذ متى؟"

سمعها الجنرال رعد تسأل فاستفاق من دهشته. لم يحاول المراوغة لأنّه علم أنّ ذلك سيكون مشينا له فقط أمام هذه الفتاة التي تقرؤه كالكتاب المفتوح وأجاب بصدق: "عندما كان الفتى القرمزيّ في تلك البيضة المشعّة الغريبة. لقد ذهبتُ لأرى ما أصابه، والتقيت بالسيّدة لطيفة هناك."

حكّ وجنته بسبّابته بينما يحاول تجنّب التقاء عينيه بنظر أنمار.

أومأت أنمار ثمّ قالت: "لن أسألك عن السبب الذي جعلك تقع في حبّها، لأنّك على الأغلب وقعت في حبّ تلك الابتسامة الحنونة التي في نفس الوقت تبدو حزينة وتجعلك تريد حمايتها وإزالة جزء "الحزن" منها، هذا بدون ذكر جمالها الباهر الذي سيجعل ذلك حتميّا."

"كـ-كـ-كيف عرفتِ هذا؟"

كان الجنرال رعد متوتّرا للغاية.

ابتسمت أنمار وقالت مغمضة العينين: "حدس المرأة."

تحرّكت للأمام لكنّها توقّفت فأضافت: "إنّها حبّك الأوّل، أليس كذلك؟ فوفوفو♪"

تركته مذهولا هناك واتّجهت نحو الاكاديميّة بسرعة. كان مزاجها جيّدا في الواقع؛ فلِوقت طويل، اهتمّت والدتُها ووالدةُ باسل بطفليهما فقط ونسيتا نفسيهما وقيّدتا روحهما بالماضي، لذا شعرت أنمار أنّ هذه خطوة جيّدة يمكنها أن تجعل قلبيْهما يُشفيان قليلا. فلو تقدّمت والدة باسل خطوة للأمام، قد تفكّر أمّها في فعل نفس الشيء أيضا.

ليس كما لو أنّها لا تتفهمّ جرحهما بفقدانهما الحبيب، لكنّهما في نظرها تستحقّان أن تحظيا بالسعادة والهناء لما تبقّى من عمرهما كامرأتين عاديتين. ليس كما لو أنّهما ستنسيان جاسر وأكاي بفعلهما ذلك على كلّ حال. وبالطبع، كلّ هذا يتوقّف عند خيارهما؛ فإن لم تريدا هذا فالأمر ينتهي هناك.

نظر الجنرال رعد إلى أنمار وتنهّد ثمّ أغمض عينيه ورفع كتفيه بينما يهزّ رأسه أفقيّا: "لربّما هي الفتاة الوحيدة التي يمكنها التعامل بشكل مثاليّ مع ذلك الشقيّ المزعج بعد كلّ شيء."

فتح عينيه ليرى أنمار من جديد، ثمّ حاول الاتّصال بمعلّمه مرّة أخرى، لكنّه لاحظ شيئا غريبا يحدث فجأة. لم يستطِع أن يعلم ما هو، لكنّه عندما رأى خيوطا من الضوء تظهر في السماء كاد لا يصدّق عينيه.

تصدّعت السماء كقطعة من الزجاج تعرّضت لصدمة، فبدت التصدّعات كخيوط من الضوء، ثمّ انكسر الفضاء وظهرت شروخ فضائيّة عديدة في السماء.

"مـ-ماذا؟!"

هلع الجنرال رعد فهرع إلى أنمار التي توقّفت أيضا لترى ما كان يحصل.

سأل الجنرال رعد بصوت مرتفع: "مـ-ما الذي يحدث؟! هل تعلمين عن هذا؟ لقد ظننت أنّ كلّ شيء انتهى؟ اعتقدت أنّ التحوّل الروحيّ اكتمل!"

ولكن بالرغم من أنّه سأل بصوت مرتفع، إلّا أنمار بدت لا تفقه شيئا أيضا ومتعجّبة مثله ممّا يحدث.

تمتمت أنمار ولم تقدر على رفع صوتها من الصدمة: "لا أعلم... هذا... كيف لهذا أن يحدث؟ لماذا؟!"

بلعت ريقها وقالت: "حتّى باسل لم يتوقّع هذا... هذا لا يجب أن يحصل أبدا، فلماذا؟ ما الشيء الشاذّ الذي سبّب هذا؟"

فكّرت أنمار لوقت طويل لكنّها لم تستطِع المعرفة، فليس هناك أيّ تفسير منطقيّ لما يحدث أمام عينيها.

راقبت أنمار والآخرين تلك الشروخ الفضائيّة بفارغ الصبر وانتظروا ليعرفوا ما تأثيرها. لقد كانوا حاليا يواجهون "المجهول"، لذا كانوا حذرين بشان التعامل معه.

وكما لو أنّ "المجهول" يتلاعب بقلوبهم وأحاسيسهم، حرص على جعل صدمتهم فريدة ولا مثيل لها، إذْ رأوا قدما تزحف من أحد الشروخ، فاقشعرّت أجسادهم مباشرة.

ارتعبوا فقط من حقيقة ظهور تلك القدم، وليس بسبب أيّ هالة أو نيّة قتل موجّهة نحوهم، لأنّهم كانوا يعلمون أنّ هذا دخيل، وليس أيّ دخيل؛ لقد كان ذلك دخيلا على عالمهم.

تشوّشت أفكار أنمار وازداد ضغط دمها وتسارعت ضربات قلبها، وكلّ ما كانت تفكّر فيه في الوقت الحالي هو شخص واحد، ولسبب ما، كان هو نفس الشخص الذي يفكّر فيه الجنرال رعد أيضا.

بلعت ريقها ثمّ اسودّت تعابيرها لمّا تذكّرت اليوم الذي مات فيه معلّمها.

تذكّرت الشخص... لا... بل الشيطان الذي كان سببا في ممات معلّمها، فصرّت على أسنانها وانتظرت الدخيل حتّى يظهر.

فمجرّد لحظات وجيزة منذ ظهور القدم حتّى ظهور الجسد مرّت عليها كعصور عندما فكّرت في ذلك الشيطان.

***

قبل انتهاء التحوّل الروحيّ للعالم الواهن بحوالي ثلاثة أيّام، في قارّة الأصل والنهاية، أو بالأحرى في العالم الثانويّ الذي دخل إليه باسل.

كان باسل مستلقيّا على الأرض بالرغم من أنّ جسده بدا سليما معافى، بينما يراقب 'الرمح الطاغيّة' حالته باستمرار.

"اللعنة، لقد مرّ أكثر من عشرة أيّام يوما وما زال لم يستيقظ. ظننت أنّ حالته تحسّنت عندما تعافى جسده من تلك الجراح القاتلة، لكنّه ظلّ هكذا بعد ذلك لمدّة أربعة أيّام."

كان الرمح يخاطب نفسه: "ولكن حقّا... كيف لهذا البرغوث أن يمتلك مثل هذا الجسد؟ هل ذلك اللعين فعلا هو من كان السبب في امتلاك هذا الغرّ جسدا كهذا؟ إنّ قدراته الشفائيّة تتجاوز قدرة سيّد روحيّ بامتيّاز. لقد كانت تلك جراحا قاتلة لساحر بمستويات الربط لكنّه صمد أمامها، وفوق ذلك تماثل جسده للشفاء في أسبوع فقط."

بالطبع كان السارق الخسّيس السبب الرئيسيّ في امتلاك باسل جسد يجذب طاقة العالم بلا حدود، حتّى أنّ جسده كان مميّزا عن باقي البشر، إذ كان أقوى وسرعة شفائه أكبر ونموّه أسرع؛ كانت تلك إحدى قدرات عشيرة النار القرمزيّة التي توارثها أبناؤها وصارت أقوى جيلا بعد جيل حتّى بلغت كمالها في باسل، ولكن سرعة الشفاء التي شهدها الرمح الطاغيّة لم تكن بسبب السارق الخسّيس، وإنّما اكتسبها باسل عندما ذهب إلى وكر الوحش النائم.

طفا الرمح بجانب باسل بعدما كان مستلقيّا على الأرض، ثمّ اقترب منه وبدا كما لو أنّه يحدّق إليه بعمق، وبدا في نفس الوقت يفكّر لوقت طويل.

تحرّك فجأة بسرعة كبيرة واتّجه نحو باسل مستهدفا إيّاه كما لو أنّه ينوي اختراقه، ولكن فجأة توقّف، لكنّه ليس بإرادته بل لأنّ يدا كان تقبضه وتحرمه من التحرّك.

تكلّم الرمح: "كما توقّعت، إنّك مستيقظ بالفعل يا أيّها الوغد. لماذا تستلقي هناك برخاء؟"

وضع باسل يده على جبهته ثمّ رفع ظهره عن الأرض ليجلس. تنهّد وقال: "لقد استيقظت قبل قليل فقط. لا تكن مستعجلا هكذا."

انزعج الرمح مرّة أخرى: "لقد أخبرتك مرارا وتكرارا ألّا تخبرني ألّا أكون مستعجلا. لماذا أصلا ظللت مستلقيا هناك بعدما استيقظت؟"

ابتسم باسل كما لو أنّه قد رأى الاستجابة التي توقّعها، ثمّ قال: "حسنا، حسنا. لا داعٍ لكلّ هذا الغضب. لقد كنت أراقب ما تفعل فقط."

"أنت..." سخن رأس الرمح حتّى انفجر منه الدخّان وصرخ: "يا أيّها اللعين! وأنا الذي كنت..."

توقّف الرمح فجأة عن التكلّم كما لو أنّه كان على وشك نطق شيء لا يجب عليه قوله.

ارتفعت حافّة فم باسل فقال مبتسما مغمضَ العينين: "مررت بفترة عويصة لمدّة طويلة كما تعلم، لذا كنت بحاجة للترفيه عن نفسي، ولكن من كان يتوقّع أنّك ستكون قلقا عليّ♪"

"سأقتلك!"

صرخ الرمح لكنّه لم يستطِع فعل شيء. فبالرغم من أنّه سابقا حاول مهاجمة باسل إلّا أنّه فعل ذلك علما أنّه لا يستطيع إيذاء باسل الذي يُعدّ سيّدا عليه حاليا، لكنّه أراد أن يؤكّد ما ظنّه –استيقاظ باسل.

"هوهوهو،" ضحك باسل ثمّ وقف: "تعلم تمام العلم أنّ ذلك مستحيل عليك، على الأقلّ حاليا."

استنكر الرمح كلام وباسل وردّ: "همف... سيأتي وقت وأخترقك؛ ليس هناك ما لا أستطيع اختراقه في هذه العوالم. وأيضا، لا تسئ الفهم يا أيّها الشقيّ الكريه، بالطبع كنت قلقا، ولكن ليس عليك، فإنّما كنت قلقا على نفسي. لقد كنت محاصرا هنا لوقت طويل، وظننت أنّني سأخرج أخيرا لكنّك نمت هناك كالميّت فاعتقدت أنّني سأمضي وقتا أطول في هذا العالم المملّ. فكما تعلم، لا يمكنني الخروج من هذا العالم بإرادتي."

نظر إليه باسل وشعر أنّ الرمح يبدو كفتاة غير صريحة مع نفسها: "حقّا؟"

لم يستطِع باسل منع نفسه من إغاظة الرمح أمامه.

انزعج الرمح: "لا تغتّر بنفسك يا شقيّ، فأنا..."

أراد الرمح أن يبدأ في سرد سيرته الذاتيّة فقاطعه باسل: "حسنا، هذا كافٍ كتخفيف لتوتّري. والآن أخبرني، كم مرّ من الوقت وأنا على ذلك الحال؟"

لقد كان باسل يقاتل من أجل نجاته، لكنّ إحساسه بالوقت اختفى تماما. كان للألم دور في ذلك أيضا.

كان الرمح منزعجا من طريقة تصرّف باسل: "يا أيّها...!"

لم يجد كلمات ليقولها لهذا الشقيّ الذي يتصّرف كما يحلو له، فيُزعج الآخرين عندما يريد التخفيف من توتّره والترفيه عن نفسه.

بدا الرمح كما لو أنّه تنهّد وأجاب بدون أن يطيل ذلك النقاش: "لقد مرّ أكثر من عشرة أيّام."

"هذا..!" تفاجأ باسل قليلا.

بالطبع توقّع أنّ أيّاما ستكون قد مرّت، لكنّه لم يشعر بهذه الأيّام التي مرّت بتاتا.

تذكّر شيئا فسأل: "بالمناسبة، هل طول اليوم هنا مثل طوله في العالم الواهن؟"

ردّ الرمح: "صحيح. هذا العالم متزامن مع العالم الثانويّ بالفعل."

وضع باسل يده على ذقنه ثمّ قال: "إذن لم يتبقَّ وقت طويل على التحوّل الروحيّ الحقيقيّ. لا يمكنني الاتّصال بالآخرين حاليا حتّى لو خرجت من هذا العالم والمجال الذي يحيطه لأنّ العالم سيكون يتعرّض للتحوّل ولن تعمل خواتم التخاطر أثناء ذلك، لذا يجب أن أدعوَ لسلامتهم فقط."

فكّر لقليل من الوقت قبل أن يقرّر: "حسنا، سأمكث هنا للأيّام القادمة حتّى ينتهي التحوّل الروحيّ وأستحوذ على روح ذلك الوحش، ثمّ أنطلق عائدا إلى أكاديميّة الاتّحاد، ففي الوقت الذي ينتهي فيه التحوّل الروحيّ لن يسعني التحمّل لمدّة أطول بدون أن أجعل روحي الكاملة مكتملة."

استغرب الرمح من كلام باسل فسأل: "ما الذي تقصده بلن يسعك التحمّل بحلول ذلك الوقت؟"

تنهّد باسل: "إن لم أستحوذ على روح وحش ما فسأموت. حالتي ليست مستقرّة الآن، لذا سأمكث هنا محاولا ضبطها قدر المستطاع ريثما يحين وقت الاستحواذ على روح الوحش."

زاد استغراب الرمح: "انتظر، انتظر... حالتك غير مستقرّة؟ أعلم أنّ الروح الكاملة تكون غير مستقرّة وتحتاج لروح وحش روحي حتّى تغدو روحا كاملة مكتملة، ولكنّ عدم الاستقرار هذا لا يُعدّ خطرا على الساحر الروحيّ إلّا بعد مرور حوالي شهر، فكيف لك أن تكون في هذه الحالة العويصة بالرغم من مرور ثلث الوقت العاد... انتظر... هذا له علاقة بما حدث لك بعدما انتهيت من الاختراق!"

عبس باسل ثمّ قال: "نعم. لقد اعتقدتُ لوهلة أنّ روحي ستندثر حقّا، لكنّني نجحت في ما لم يسبق لأحد النجاح فيه أو التفكير في محاولة تطبيقه حتّى."

أثير اهتمام الرمح حتّى أنّه اقترب من باسل وبدأ يدور حوله ببطء محاولا اكتشاف ما حدث لهذا الشقيّ، لكنّه لم يلحظ شيئا شاذا.

قبضه باسل وأوقفه ثمّ قال: "أمم... مثير للاهتمام، إذن حتّى أنت الذي تُعدّ مرتبطا بي نوعا ما لا يمكنك ملاحظة شيء."

ارتفعت زاوية باسل ثمّ قال بينما يحدّق إلى يديه: "لا أعلم إن كان السارق الخسّيس يخطّط لفعل نفس الشيء لو نجح في سلب جسدي منّي، لكنّني أفهم أخيرا سبب امتلاك ذلك الوحش السحريّ الحكمة بالرغم من أنّه لم يصر وحشا روحيّا بعد. مثير للاهتمام، هذا مثير للاهتمام كثيرا! إنّني متحمّس لرؤية ما سأصل إليه. لربّما أريد الآن معرفة ما سأصل إليه أكثر من أيّ وقت مضى، أكثر من بعض الألغاز الكونيّة حتّى."

كانت نظرات الفضول التي تعتلي وجه باسل عادةً أكثر حدّة هذه المرّة حتّى أنّ ابتسامته أصبحت عريضة للغاية.

كان الرمح مستغربا من تصرّفات باسل، فلم يستطِع الصبر أكثر: "هيا، أخبرني يا أيّها اللعين. عمّ تتحدّث؟ ما الذي حدث؟"

أكمل باسل التحدّث مع نفسه بينما يضحك بصوت منخفض: "لا، انتظر، لولا التقائي بالوحش النائم وغدوّ جسدي هكذا لما نجحت في هذا الأمر أصلا. نعم، هذا أمر اعتُقِد مستحيلا أن يحدث في المقام الأوّل، لذا لا يمكن لجسد ليس مثل جسدي الحالي أن ينجوَ من هذا ويستطيع تحمّله."

"وبالطبع، لا يمكن لهذا أن يحدث في وقت لاحق لأنّ التوازن سيختلّ بشكل لا يمكن ضبطه حتّى لو صار الجسد جاهزا عندئذ. يجب أن يكون الجسد جاهزا عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة لأنّ هذا الأمر لا يمكن أن ينجح إلّا بعد الاختراق مباشرة."

حاول الرمح جذب انتباه باسل له: "أنت..."

حاول الرمح التكلّم مع باسل لكنّ هذا الأخير استمرّ في التكلّم مع نفسه كما لو أنّه يقول ما يفكّر فيه بصوت مرتفع من شدّة حماسه: "إذن هذا مؤكّد. لم يكن السارق الخسّيس ينوي فعل ما فعلت، فجسدي، الجسد الذي أعدّه، لم يكن جاهزا لِما فعلتُ، لكنّ الوحش الذي أعدّه من أجل نفسه يصلح تماما لي."

"يا أنت..."

أحكم باسل قبضتيه وقال بعدما ضحك: "هوهوهو، هذه ستكون سرقتي الأولى لك يا أيّها السارق الخسّيس، أو ربّما يجب أن أقول الثانيّة إن احتسبت هذا الأبله أمامي؟ سأستغّل ما أعددته لنفسك جيّدا، هوهوهو... هوهوهو..."

كان باسل يتصّرف بشكل هيستيريّ، وذلك أوضح فقط حجم وروعة ما فعل. لقد كان منغمسا في أفكاره بشكل تامّ.

"إنّني أناديك يا أيّها الشقيّ الوسخ!"

صرخ الرمح وحاول اختراق وجه باسل، لكنّه توقّف كما لو أنّ هناك شيئا يمنعه بشكل غريزيّ من التسبّب في الضرر لباسل.

رفع باسل رأسه ونظر إلى الرمح الذي يهتزّ في مكانه بشكل عنيف بينما يحاول اختراقه لكن بلا جدوى، فقال بلا مبالاة: "يا أبله، أما زلت تحاول قتلي؟"

زاد اهتزاز الرمح بشكل عنيف بعد كلام باسل، وانفجر الدخان من رأسه الساخن بينما يصرخ: "يا أيّها اللعين...!"

لم يكن باسل يدري أنّ الرمح كان يناديه باستمرار لكنّه تجاهله، وعامله كالأبله فوق ذلك.

كان الرمح يعود لهدوئه كلّما انفجر الدخّان من رأسه كما لو أنّه يفرغ غضبه المكبوت.

تنهّد الرمح: "لم ألتقِ شقيّا كريها مثلك من قبل."

لم يهتمّ باسل بما قاله الرمح وقال: "حسنا، هذا لا يهمّ حاليا. سأتدبّر خلال هذه الأيّام الثلاثة، فانتظر ريثما أنتهي. قريبا ستخرج من هذا العالم الذي مللتَه."

لم يجبه الرمح، فجلس باسل بمكانه بينما يتدبّر لثلاثة أيّام.

كلّ يوم مرّ عليه أشدّ وأصعب من الذي سبقه، وبدأ يبلغ حدود صبره شيئا فشيئا لكنّه صمد؛ كان عليه أن يصمد مهما كلّفه الأمر.

عام الرمح حول باسل في هذه الأيّام الثلاثة محاولا اكتشاف ما حصل له، لكنّه لم يستطِع فهم شيء. بالطبع كان باسل مختلفا عن السحرة الروحيّين لأسباب عدّة وكان مثيرا للاهتمام كفاية، لكنّ الرمح كان مهتمّا أكثر بعدما شهد تصرّفات باسل سابقا.

لقد تعرّف على هذا الفتى لمدّة قصيرة لكنّه علم أنّ باسل يحبّ حلّ الألغاز وتثير الأمور الغامضة اهتمامه، ومع ذلك لم يسبق له أن شهده يتصرّف هكذا مهما كان الموضوع الذي تحدّثا عنه.

بالأحرى، لم يتصرّف باسل هكذا حتّى عندما التقاه، فانزعج الرمح عندما تذكّر هذا لوهلة.

"ولكن حقّا... فقط ما الذي فعله هذا الشقيّ الملعون؟ إنّه يستمرّ في مفاجئتي، أنا الرمح الطاغيّة."

قال الرمح ذلك جهرا ولم يخشَ سماع باسل له كون هذا الأخير كان في حالة الصفاء الذهنيّ الروحيّ بشكل كلّيّ.

باسل حاليا يمكنه استخدام تقنية 'انقسام الوعي' التي تسمح للشخص بالتدبّر والتدرّب في نفس الوقت، أو بمعنى آخر تجعله قادرا على الدخول في حالة الصفاء الذهنيّ الروحيّ بينما يظلّ واعيا بما يحصل حوله، لكنّه لم يكن في وضع يسمح له بفعل ذلك حتّى. كان عليه بذل كلّ جهده في ضبط استقرار حالته.

وأخيرا، بعدما اكتمل تحوّل العالم الواهن الروحيّ الحقيقيّ، كان باسل قد بلغ حدوده بالفعل، وكان عليه الإسراع بالاستحواذ على روح الوحش وإلّا واجه الموت. لقد كانت حياته مهدّدة أكثر أيّ وقت مضى.

فتح عينيه ونهض عازما، ثمّ قال: "لنتحرّك!"

طاف الرمح بجانبه: "لنتحرّك يا أيّها الصعلوك! أخيرا سأخرج من هنا. فافافا، انتظريني يا أيّتها المؤخّرات، أنا آتٍ لاختراقك♪ انتظرنَني يا أيّتها الجميلات، أنا آتٍ لمواساتكنّ♪ فافافا!"

نظر باسل إلى الرمح الذي يبدو نشيطا بنظرات ملولة، وفكّر في داخله: (هذا الأبله، هل كان كلّ هذا الوقت يريد الخروج من هنا من أجل هذا فقط؟ قد يكون التحكّم في رغباته الجامحة صعبا.)

تنهّد باسل وأكمل التحرّك بدون التعليق جهرا على كلام الرمح.

***

عندما تحرّك باسل والرمح بنيّة الخروج، حلّق فجأة الباب الذي أتى بباسل إلى هنا وذهب إلى جانبهما وبالضبط إلى جانب قدميْ باسل كما لو أنّه يخبره أن يركب فوقه.

فقط عندما نوى باسل الخروج من هذا المكان ظهرت وسيلة خروجه، وبالطبع كان هذا بفضل امتلاكه لمفتاح هذا العالم.

وضع باسل قدمه على الكلمات العتيقة التي تُقرأ 'أنا السلطان' ثمّ حلّق إلى الأفق، وفجأة أشعّ الضوء بشكل شديد من الباب حتّى اختفت المناظر التي كان باسل يراها، فقط ليتحوّل الضوء بعد ذلك إلى ظلمة غير محدودة.

استمرّت الظلمة في إحاطتهما لوقت غير معلوم حتّى وجدا نفسيهما أمام المدخل الذي دخل منه باسل إلى هنا والذي صار مخرجا لهما الآن.

نزل باسل والرمح فانغلق الباب وراءهما بشكل صعوديّ على عكس الدخول عندما نزل للخلف، والتصق بعد ذلك في مكانه كما لو أنّه لا يمكن فتحه.

نظر باسل بعد ذلك إلى الباب لوقت طويل فلاحظ الرمح ذلك وعلم أنّ تينك العينين هما عينا الفضول والاهتمام الشديد.

بالطبع كان باسل مهتمّا في هذا الباب؛ لم يُلقِ له بالا سابقا لأنّ اهتمامه بالكوخ نفسه والعالم الثانويّ كان أشدّ، ولكن بعدما أشبع فضوله نوعا ما بخصوص ذينك الاثنين، صار اهتمامه موجّها نحو الباب.

قال بعينين جدّيتين: "هذا الباب... هل هو حقّا باب؟"

استغرب الرمح من كلامه: "ما الذي تقصده؟ بالطبع هو باب، ألم ترَ ذلك بنفسك؟"

حدّق باسل إلى الباب بنفس العينين لكنّه لم يستطِع تخمين شيء، فاستسلم للآن كونه يملك شيئا أهمّ ليفعله.


اهتمّ الرمح بالأحرى في شكّ باسل؛ لا يعلم لماذا، لكنّه بدأ يكوّن ثقة غريبة تجاه أحاسيس هذا الغرّ الذي كشفّ طنّا من الأسرار من أبسط التلميحات.

سأل الرمح باسل بعدما جُذِب اهتمامه: "لماذا اعتقدت ذلك؟ ما الذي أثار شكّك؟"

كان باسل ينوي التحرّك لكنّه توقّف ثمّ أجاب: "ذلك... قد يبدو هذا غبيّا في نظرك، لكنّني وجدت قصصا عندما زرت غرفة أحد أعدائي السابقين، ولسبب ما هناك شيء مشابه لما فعله هذا الباب عندما نقلنا في إحدى تلك القصص."

قال الرمح: "أمم... عمَّ تتحدّث هذه القصّة؟ ما اسمها؟"

لم يخبر الرمح باسل أنّ هذا شيء غبيّ وسأله باهتمام على عكس ما توقع باسل، والذي بدوره حكّ وجنته بسبّابته وردّ: "لا أعلم عن اسمها الأصليّ، لكنّني أطلقت عليها اسم 'الفانوس السحري'. تتكلّم عن فتى فقير وجد فانوسا سحريّا فصار غنيّا وقويّا، واكتسب بعض الكنوز أثناء ذلك، وأحد هذه الكنوز سمح بالتنقّل بكلّ سهولة، وذاك هو الكنز الذي ذكّرني بهذا الباب عندما نقلنا."

لم يقل الرمح شيئا فأكمل باسل: "جعلني ذلك أشكّ نوعا ما، لكنّني أيضا أظنّ أنّ القصّة التصقت بذهني بعدما أعجبتني وهذا تأثيرها فقط. لا تهتمّ بذلك."

لم يردّ الرمح فتحرّك باسل للأمام ونزل الأربع عشة درجة بدون مشقّة، فتحرّكت التماثيل فجأة عندما وصل إليها وانحنت له بالضبط مثلما فعلت عند دخوله. ومباشرة بعد ذلك صدى صوت: [الصناديد في انتظار السلطان!]

كان الرمح متفاجئا من هذا المنظر وتذكّر ما حدث عندما انحنت له التماثيل عند دخوله أيضا. لقد صُعِق في ذلك الوقت تماما عند حدوث ذلك، لكنّه نسي السؤال بشأن ذلك بعدما تفاجأ بأشياء أخرى صعقته أكثر، مجازيّا وحرفيّا.

لم يستطِع منه نفسه من طرح السؤال: "لماذا ينحنون لك؟ لماذا ينادونك بالسلطان؟ لا أظنّ أنهّم سينحنون لك هكذا حتّى لو امتلكت المفتاح. كيف فعلتها؟ كيف جعلت هؤلاء الصناديد العبيد ينحنون لشخص آخر غير سيّدهم؟"

نظر باسل إلى الرمح لبعض من الوقت ثمّ ردّ: "الصناديد العبيد قلتَ... لا أحبّذ سماع هذا. من الآن فصاعدا، نادهم 'الصناديد' فقط."

ردّ الرمح بسرعة: "من يهتمّ بهذا الشيء التافه! هيّا فلتجبني على سؤالي فقط."

كان باسل يبدو يحترم أولئك الملقّبين بالصناديد العبيد، ولم يرد سماعهم ينادون بهذه الطريقة أبدا.


لقد علم عنهم بسبب النظرة التي اختلسها على السارق الخسّيس عندما نقل له معلّمه الحكمة السياديّة. لقد كانوا كلّهم أبطالا جدراء ولم يحقّ لأحد مناداتهم بالعبيد في نظره.

أجاب باسل: "إنّي لم أجعلهم ينحنون لي كما قلت. إنّهم يفعلون هذا من تلقاء أنفسهم."

صرخ الرمح: "لا تمزح معـ..."

قاطعه باسل بإكمال كلامه السابق: "أنا فقط... تحدّثت معهم. كلّ ما فعلته هو تبادل حوارات صريحة معهم."

تفاجأ الرمح كما لو أنّه لم يتفاجأ بسبب باسل من قبل؛ فهذا الشقيّ أمامه حقّا كان يفعل في كلّ مرّة شيئا استثنائيّا.

قال بسرعة: "تحدثتَ معهم؟ هل تخبرني أنّهم يفعلون كلّ هذا فقط لأنّك تحدّثت معهم؟"

تنهّد باسل وأجاب: "إنّك تعلم أنّ مصفوفة هذا العالم الثانوي تقوم على هذه التماثيل، على هؤلاء الصناديد. الأمر هو، عندما كنت أحاول إيجاد المفتاح بشقّ الأنفس باستخدام الحكمة السياديّة وما اكتشفته من السارق الخسّيس، عندما كنت أحاول فكّ هذه المصفوفة، استطعت لوهلة الشعور بإرادات عديدة تلتمس العون منّي."

"كانت تنادي 'يا من كان الأوّل في بلوغ هذا المدى، حرّرْنا، وأعدْ لنا فخرنا.' وبصراحة، شككت أنّه ربّما يكون فخّا من المصفوفة لذا تردّدت لوقت طويل قبل أن تصبح الأصوات أقوى فأقوى حتّى رأيت فجأة بعضا من الذكريات العتيقة. ذكريات مُحِقت فيها قبائل وشعوب بينما قاتل هؤلاء الصناديد بكلّ فخر، ولكن في نفس الوقت امتلأت هذه الذكريات بحسرة وحزن شديديْن جعلاني أختبر مآسي تحطّم الروح لا القلب فقط."

"فعلا كنت شاكّا، لكنّني وثقت بتلك الحسرة وذلك الحزن. تلك المآسي لم تكن شيئا يُستخدَم لإغوائي؛ لقد كانت شيئا حقيقيّا؛ شيئا كان لا بدّ لي من الاقتناع به؛ هكذا جعلني هؤلاء الصناديد أقبل نداءهم. لو كان أحدهم مضطرّا لإغوائك بنوايا سيّئة بأسرع وقت ممكن، فلن يستخدم هذا، بل سيحاول بكلّ جهده تحفيز جشعك وطمعك بشتّى الطرق."

تنهّد باسل مرّة أخرى وأكمل: "لقد علمتُ عنهم بسبب السارق الخسّيس فيما قبل، ولكن عندما رأيت تلك الذكريات عبر إراداتهم فهمت ما شعروا به أخيرا. ولا أعلم عن السبب بالضبط لكنّنني أظنّ أنّه بسبب تفهّمي لهم... هم، أو إراداتهم، بدأت تخاطبني."

***

قالوا: "يا أيّها الشجاع الذي بلغ هذا الحدّ، كما فهمت مشاعرنا استطعنا بلوغ مشاعرك، وإنّما فعلا نتشارك الهدف. حيواتنا الفخورة ما هي إلّا أرواح مستعبدة الآن، لكنّنا بكلّ جهدنا، وبعصارة أملنا، انتظرنا أن يظهر شخص مثلك."


أكملوا: "بالرغم من أرواحنا المستعبدة إلّا أنّنا استطعنا الإبقاء على جزء بسيط من وعينا وإراداتنا كملاذنا الأخير، معلّقين آمالنا على ظهور شخص شجاع وقادر على بلوغ هذا الحدّ. واليوم، فعلا قد ظهر المنتظر، وفعلا قد تحقّقنا من مشاركتك لنا نفس الهدف."

ردّ باسل عليهم بينما ما يزال مندهشا: "هل تخبرونني أنّكم حتّى في هذا الموقف ما زلتم لم تفقدوا الأمل؟! حتّى وأنتم على هذا الحال ما زلتم تقاتلون؟!"

فقط ما قدر الشجاعة والصبر والأمل الذي يجب أن يتحلّى به الشخص حتّى ينتظر عصورا فقط من أجل لحظة كهذه، بينما روحه مستعبدة؟ حتّى باسل كان مصعوقا بهذه الحقيقة، وازداد احترامه لهؤلاء الصناديد أكثر فأكثر.

قالوا: "لقد فشلنا وليس يئسنا. لربّما تظلم الشمس في جهتنا، لكنّها تشرق في جهة أخرى."

بلع باسل ريقه وصعدت معه القشعريرة؛ فقط إلى أيّ مدى سيستمرّ هؤلاء في القتال من أجل العوالم؟

غُمِر باسل بتلك المشاعر الجيّاشة ولم يستطِع أن يقف هناك متفرّجا.

ضرب بيده على صدره وصرّح: "لطالما احترمت الشجاع، ولكنّ شجاعتكم فريدة. لطالما تشبثت بالأمل، لكنّكم أعطيتم الأمل مفهوما جديدا. ولهذا، أنا، باسل بن جاسر ولطيفة، والابن الروحيّ لإدريس الحكيم وخليفته، أعدكم أن أردّ لكم حقّكم وفخركم وأحرّر أرواحكم. سأربط نفسي بشجاعتكم وأغطيها بأملكم حتّى يحين اليوم الموعود."

بدت الأصوات متفاجئة إذ قالوا: "هل تخبرنا أنّك ستحملنا على عاتقك طوال الطريق؟ هذا المسار الروحيّ لم يقدر عليه أّيٌّ منّا حتّى؛ حِمْلُ كلُّ واحد منّا كان كافيا لسحق صاحبه، وأنت ها هنا تريد حَمل كلّ أحمالنا وإكمال المسار الروحيّ؟"

وقف باسل شاخصا وقال: "ذاك مساري الروحيّ."

صمتت الأصوات لفترة قبل أن تنبثق مرّة أخرى: "سمعنا واكتفينا. وكما قررّت أن تحرّرنا، وتعيد لنا فخرنا، فقسما لك ولاءنا."

شعر باسل بالشرف والفخر بسبب تلك الكلمات التي تلّقاها وأقسم بدوره: "وأنا بدوري، يا أيّها الصناديد، ستكون هذه الخطوة الأولى نحو القمّة، نحو السيادة العظمى. بصفتي حامل أعبائكم في مساري الروحيّ، أعدكم أن أحرّركم من لعنتكم الأبديّة. لأقطعنّ لسان من يلقّبكم بالعبيد مرّة أخرى، ولأخلدنّ أسماءكم كالأبطال الذين قاوموا وقاتلوا من أجل العوالم."

كان هذا هو ما كرّر باسل قوله عندما كان يعبر الطريق الذي صنعه الصناديد عند دخوله.


***

كان الرمح يستمع بهدوء فقال فجأة: "ماذا إذن؟ هل ستقطع لساني؟ فافافا! للأسف، أنا لا أملك لسانا."

حدّق باسل إليه بعينين ملولتين وقال: "على كلّ، بسبب حدوث ذلك استطعت النجاح بشكل أسهل عبر مساعدتهم المستميتة في حل المصفوفة. يوما ما يا أبله، عندما تصير هاته الأرواح من جديد أولئك 'الصناديد الأحرار'، لن تجرؤ على مناداتهم بذلك الاستحقار."

"همف..." استنكر الرمح كلام باسل وقال: "ذلك لا يهم، كلّ ما عليّ هو اختراق مؤخّراتهم وستراهم خاضعين لي."

تنهّد باسل بسبب تفكير الرمح وبسبب أنّه لم يفهم الفكرة الرئيسيّة.

لم يعنِ باسل أنّهم سيحاولون فرض سيطرتهم وطغيانهم، لكنّه لمّح إلى شجاعتهم التي شهدها والتي تجعل القلب يرفرف.

تحرّك باسل للأمام فقال الرمح: "إذن أنت تقول لي أنّهم ما يزالون يملكون القدرة على فعل شيء كهذا لشخص غير سيّدهم؟ فتلك كانت مجرّد شظايا من إراداتهم ما زالت سليمة، فكيف لهم أن يستطيعوا أن يفعلوا هذا بها فقط؟"

فكّر باسل في ذلك وسرح بأفكاره بعيدا. بالفعل سؤال الرمح كان في محلّه، لكنّ الرمح لم يعلم شيئا عن شجاعة هؤلاء ولا عن الأمل الذي يتحلّون به؛ لذا حتّى لو كانت مجرّد شظايا، كانت إراداتهم قويّة لدرجة لا توصف حتّى أنّهم استطاعوا القيام بذلك شرط أن يكون الشخص الذي ينحنون له ويقرّون به يملك المفتاح على الأقلّ.

لم يجب باسل الرمح وبدل ذلك قال: "إن لم تفهم كلامي السابق فلن تفهم ما سأجيبك به. هيّا بنا، هناك مسألة هامّة في انتظارنا."

انزعج الرمح: "ها؟! لا تغترّ بنفسك يا أيّها الشقيّ، أنا الرمح الطاغيّة..."

بدأ الرمح يروي سيرته الذاتيّة كعادته واستمرّ في ذلك طوال الطريق حتّى خرج باسل من العالم الثانوي ووجد نفسه بالمجال الذي يحيطه.


كان هذا المجال يعزل هذا المكان عن العالم الواهن بالرغم من أنّه جزء منه في الأصل، وبسبب ذلك لا تعمل خواتم التخاطر حتّى الآن. فعندما سقط باسل في غيبوبة بعد قتال الأقدم الكبير فالتشر، لم تستطِع أنمار الاتّصال بمعلّمها إلّا بعدما خرج من هذا المجال.

وبالطبع باسل حاول الخروج من هذا المجال، إلّا أنّه في طريقه لاحظ وجود كائن يتربّص به.

كان هذا الكائن يستطيع إخفاء حضوره في الواقع وحتّى أنّه لم يسمح لنيّة قتله بالتسرّب منه. كان متخفّيا بشكل مثاليّ، إلّا أنّ باسل كان لديه إحساس كلّيّ بهذا المجال في هاته اللحظات بما أنّه شخص يملك مفتاح العالم الذي وُضِع هذا المجال من أجله.

ارتفعت حافّة فمه ثمّ التفت إلى الجهة التي يختبئ فيها ذلك الكائن وقال: "نعم، ليس هناك وحش آخر قد يكون اخترق إلى المستويات الروحيّة قبلك في هذا العالم. وبالطبع، بالرغم من أنّك كنت واثقا في قوّتك الحاليّة التي جعلتك تأتي إليّ وحدك إلّا أنّك ما زلت حذرا كما كنت."

"أو ربّما أتيتَ لوحدك وتركت الآخرين بعيدا حتّى لا أستطيع كشف حضورهم نظرا إلى كونهم لا يستطيعون الهروب من استشعاري الروحيّ الآن. نعم، هذا يبدو أقرب للحدوث. اعتقدتَ أنّك لن تُكشف أبدا إن كنت لوحدك بمستواك الحالي."

لم يستقبل باسل إشارة من الجهة التي يتحدّث إليها، فرفع يده وقال ساخرا: "حقّا... إنّك حذر للغاية. لا تقلق، إنّني لا أعتقد أنّك هناك وأجرّب الأمر، بل إنّني متأكّد أنّك هناك وأنتظر ظهورك؛ فأنا على الأقلّ أريد إلقاء نظرة عميقة عليك قبل أن أبدأ القتال معك."

انتظر باسل للحظات بعد أن قال ذلك، فبدأ ظلّ ذلك الكائن يتحرّك كما لو أنّه وجد كلام باسل يخلو من الكذب واقترب ببطء حتّى ظهرت صورته الكاملة.

"إذن هذا هو شكلك."

***

كانت هناك أسطورة في العالم الواهن من بين أساطير عدّة تتعلّق بالوحوش السحريّة المرعبة التي ترقد في قارّة الأصل والنهاية، وكان يُعتقد بأنّ فحوى هذه الأسطورة مجرّد خيال خالص بلا أيّ ذرّة من الصدق.

فالأساطير الأخرى مثل أساطير طائر الرخّ وطائر الفتخاء ونمر الضوء الخاطف والسلحفاة التنّينيّة كانت أقرب للواقع بعد شهادات من أشخاص زاروا القارّة وأقرّوا أنّهم وجدوا علامات توحي لوجود هاته الوحوش وحملوا معهم دلائل ولو بسيطة على ذلك، ولكن في المقابل تلك الأسطورة ظلّت محض أسطورة.

فبالرغم من أنّ هناك أقاويل تدور حول وجود ذلك الوحش، إلّا أنّه ليس هناك أيّ شهادات موثوقة وإنّما كلمات اعتُقِد أصحابها مجانين بعدما عادوا من القارّة.

وفي الواقع، كان هؤلاء الأشخاص ذوي نسب وأصل معلوم، إلّا أنّهم عندما عادوا كانت حالتهم العقليّة مزريّة وبدؤوا يمزجون الواقع بالخيال بسبب الصدمة التي مرّوا بها في القارّة، وبسبب ذلك لم تزن كلماتهم شيئا.

اختلفت الأقاويل والإشاعات عن هذا الوحش السحريّ، فأحد المجانين قال أنّه تنّين ينفث ويتغذّى على النيران، وآخر قال أنّه سحليّة مجنّحة تملك خواصّ التنانين، وآخر قال أنّه بدا كهجين بين عنقاء وتنّين، وآخر قال أنّه من فصيلة قريبة للتنّين إذْ امتلك ساقين وجناحين فقط على عكس التنانين التي تملك أربع سيقان وجناحين.

كلّ هذه الاختلافات جعلت من الأسطورة بلا أساس فهجر السحرة في العالم الواهن فكرة وجود هذا الوحش وأقرّوا بعدم صحّتها بتاتا، واعتقدوا أنّ كلّ شخص يعود من قارّة الأصل والنهاية يقول مثل هذه الأشياء مجنون.

وكما لو أنّهم مريضون بمرض ما، أعطِيَت لهذه الحالة اسما خاصّا، ألا وهي 'جنون التنين'.

وبالطبع، علم باسل عن هذه الأسطورة كأيّ ساحر في العالم الواهن، وعندما قاتل حشد الوحوش السحريّة بقيادة ذلك الوحش السحريّ الغامض في المرّة الأخيرة في هذه القارّة، بدأت الشكوك تتملّكه بشأن حقيقته، إلّا أنّ شكّه بالطريقة التي تحصّل بها على تلك الحكمة كان أقوى ممّا جعله يتناسى أصل الوحش السحريّ.

والآن، بعدما نودِيَ العديد من السحرة بالمجانين سواءً كانوا فعلا مجانين أم لا، أكّدت عينا باسل حقيقة تلك الأسطورة التي تناقلت لأجيال عديدة في العالم الواهن بدون أن يصدّقها أحد.

صدر صوت من الوحش: "كن فخورا يا بشريّ، إنّك أوّل بشريّ يرى شكلي الحقيقيّ بوضوح، بالرغم من أنّ شكلي الحالي يختلف عمّا كان عليه سابقا بكثير."

ابتسم باسل وقال: "فعلا، مثير للاهتمام. لم أكن أظنّ أنّني سأرى سلالة الوايفرن في العالم الواهن في الوقت الحالي قبل مرور سنين عديدة على التحوّل الروحيّ وحدوث طفرات في تطوّر الوحوش، أو على الأقلّ قبل أن تنتقل إلى هنا وحوش من العال آخر. حقّا مثير للاهتمام!"

حدّق باسل بعمق إلى الوحش الذي اتّخذ شكل التنين لكنّه كان أصغر حجما، وامتلك أربع سيقان إلّا أنّ ساقيه الأماميّتين كانتا قصيرتين كما لو أنّهما في طريق النموّ على عكس ساقيه الخلفيّتين اللتين بدتا ناضجتين، وغطّت قشور صلبة جسده من رأسه إلى حافّة ذيله.

كان لونه الأسود الحالك يدبّ الرعب في القلوب، وتوهّجت عيناه بضوء برتقاليّ كما لو أنّهما نجمين في ظلام الفضاء الفسيح، واستطاعتا أن تحرقا الشخص بالنظر إليه فقط.

تكلّم الوحش: "عدّ نفسك محظوظا يا بشريّ، لأنّك ستكون خطوتي الأولى نحو سيادة هذا العالم. لقد رقدت هنا لعصور لا تُحصى، وانتظرت هذا اليوم بفارغ الصبر، انتظرت اليوم الذي يمكنني فيه أخيرا الاختراق إلى المستويات الروحيّة والتغذّي على روح ساحر روحيّ."

بالفعل، كما كان يستحوذ السحرة الروحيّون على أرواح الوحوش الروحيّة، كانت هذه الأخيرة بدورها تتغذّى على أرواح السحرة الروحيّين.

لم يزح باسل الابتسامة عن وجهه وقال: "تخبرني أن أكون محظوظا لأنّني سأكون أوّل ساحر روحيّ تتغذّى على روحه إذن... تبدو واثقا للغاية، ولكن لا عجب، فبعدما رأيتك يمكنني تفهّم ثقتك تلك."

رفرف الوحش جناحيه فجعل عاصفة تهبّ بالأرجاء وحلّق في السماء بينما يقول: "لم أرَ لي مثيلا في هذا العالم لذا لا أعلم إن كان أصلي هو هذا العالم، لكنّني بدون شكّ وُلِدت هنا. ومنذ أن وُلِدت كنت متميّزا عن باقي الوحوش السحريّة، فنموت أسرع منها بكثير وبلغت المستويات العليا قبل أيٍّ منها. وعندما وصلت إلى المستوى الرابع عشر أخيرا، توهّج حجر أصلي وأرشدني إلى ذلك المكان حيث استطعت ان أكسب حكمة خوّلتني التفوّق على أيّ وحش في كلّ العوالم وليس هذا العالم فقط."

قال باسل: "هل تظنّ أن تلك الحكمة التي كسبتها هديّة؟"

ضحك الوحش وقال: "لا تكن سخيفا، بالطبع كنت أعلم أنّها فخّ من أحدهم، لكنّني وفوق ذلك قبلت بها. لو مُنِحت لي أكلة مسمومة لكن لذّتها خياليّة، فسآكلها عندما أكون متيقّنا أنّ جسدي يستطيع التفوّق على السم."

هزّ باسل رأسه أفقيّا وقال: "للأسف، إنّك تجهل السمّ الذي بلعته. ولكن لا تقلق، فأنا يمكنني أن أعفيك من ذلك السمّ، لأنّني بالفعل مثلك؛ أكلت الأكلة بالرغم من علمي بالسمّ الذي فيها. الفرق الوحيد بيننا هو أنّني أعلم عن السمّ ومخاطره أكثر ممّا تظنّ نفسك تعلم عنه، ولهذا قلت لك تقلق، فأنا واثق أنّك ستفرح عندما تكمل روحك روحي."

ارتفع باسل إلى السماء وابتعدّ الرمح الطاغيّة عنه في هذه الأثناء.

لقد كان باسل لا يستطيع استخدام الرمح الطاغيّة في الواقع بالرغم من امتلاكه له. فكما فعل إبلاس عند مواجهته لإدريس الحكيم باستخدامه لذلك الصحن الفخّار الذي كان سلاحا روحيّا من مستوى سلطان أصليّ وتسبّب في استدعاء 'ممتحني الظلام'، كذلك يمكن أن يحدث لباسل إذا استخدم الرمح الطاغيّة.

لم يكن في وضع يخوّله القدرة على مواجهة ممتحنِي ظلامٍ اُستُدْعُوا بسبب سلاح روحيّ بمستوى شاهق كالرمح الطاغيّة، حتّى لو كان هذا الرمح في أضعف حالاته حاليا.

حاليا، كان باسل في مرتبة السيّد الروحيّ، أي في نطاق الأرض الواسعة، لكنّه كان لا يزال لا يملك سلاحا روحيّا خاصّا به، وهذا لا يمكن حدوثه في الواقع إلّا بعد اكتساب روح الوحش؛ فالسلاح الروحيّ يندمج مع الروح، لكنّ الروح يجب أن تكون كاملة مكتملة.

أخرج باسل رمح الخشبيّ الذي أهداه معلّمه له وقال بعدما نظر إلى الوحش بعينين تحلّلان الوضع: "أرى أنّك من سلالة الوايفرن لكنّك تطوّرت. بالطبع ستتطوّر عندما تكون تتأصّل عند اختراقك للمستويات الروحيّة، لكنّني أشعر أنّ ذلك ليس كلّ شيء."

صمت للحظات قبل أن يطرح السؤال الذي يراوده منذ فترة: "ما الذي منحته لك تلك الحكمة؟"

لم يكن الوحش مرحِّبا كما كان متوقَّعا: "لمَ عليّ أن أحكي لك هذا؟ لنُنْهِ هذا الأمر يا بشريّ، فأنا لا أطيق الانتظار هنا أكثر ممّا انتظرت بالفعل."

تنهّد باسل: "إنّني أقابل قليلي الصبر فقط مؤخّرا. أتريد الخروج من المنطقة المحظورة لهذه الدرجة؟ حسنا، ليس كما لو أنّني لا أتفهّم شعورك، فلو تقيّدتُ في مكان واحد لأشهر فقط أشعر أنّني سأموت من الملل."

"همف..." استنكر الوحش كلام باسل: "لقد حان الوقت أخيرا لأحكم هذا العالم كما خطّطت منذ أن علمت عن تميّزي وانفرادي. لن يتسيّد هذا العالم البشر لكن الوحوش."

لم يضف باسل شيئا وشحن طاقته السحريّة في الرمح الخشبيّ الذي تحوّل بعد ذلك إلى رمح أبيض حرارته تجعل العظام تذوب من مسافة بعيدة.

لقد كانت تلك إمكانيّة عنصر النار بالدرجة الرابعة، بلونها الأبيض.

رفع باسل الرمح الأبيض للأعلى وقال: "حسنا، لنجرّب شيئا."

تضخّم الرمح فجأة بأضعاف كثيرة وصار ضخما للغاية بسبب طاقة عنصر التعزيز، وقلّص باسل حجمه بعد ذلك كثيرا كما لو أنّه يركّزه حتّى صار الرمح الأبيض مجرّد نصل صغير.

كان هذا هو نفس الهجوم الذي ابتكره باسل عند مقاتلته شهاب سعير. لقد كان يستخدم إمكانيّة عنصر النار ويضخّمها بعنصر التعزيز ويتحكّم فيهما بالتحكّم المثاليّ. لم يكن أيّ ساحر أو حتّى ساحر روحيّ يمكنه أن يقوم بمثل هذا الأمر.

رفع إصبعه للأعلى فتحرّك النصل الأبيض طبقا لذلك وارتفع عاليا في السماء، ثمّ أخفض إصبعه فظهر نصل آخر بنار بيضاء بطول الوحش فوق هذا الأخير ونزل بسرعة كبيرة حتّى يقطعه.

لقد كان هذا هو الامتداد الكلّيّ لعنصر تعزيز باسل، أوّل إمكانيّة يكتسبها باسل لعنصر سحريّ، حيث كان بإمكانه إرسال طاقته السحريّة عبر امتداد أساسه الطاقة المعزّزة.

هجوم كهذا يمكنه محق ساحر بالمستوى الرابع عشر حتّى في الواقع، فحتّى لو كانت تلك مجرّد طاقة سحريّة إلّا أنّ الذي كان يتحّكم فيها كان ساحرا روحيّا، بدون ذكر قوّتها التي تُقدّر بقوّة صاعد حقيقيّ.

رفع الوحش رأسه للأعلى وفتح فمه واستقبل النصل الناريّ بصدر رحب، فعبس باسل كما لو أنّه لاحظ أنّ ما أراد التأكّد منه كان على وشك الحدوث.

وبالضبط، بدل أن يجرح النصل الناريّ الوحش، استطاع هذا الأخير بأعجوبة أن يبلع هجوم باسل كما لو أنّه وجبة خفيفة بمضغة واحدة.

اعتلى وجه باسل تعبيرا جدّيّا: "إذن النار لا تنفع معه بتاتا إذا كانت بهذا المستوى، وبالأحرى تكون تغذيّة جيّدة له. لقد شككت في قدرة دفاعه ضدّ النيران لكن هذا تجاوز التوقّعات. فقط كم تأصّل من مرّة حتّى لا يتأثّر بنار سحريّة بهذه القوّة؟."

كانت الوحوش السحريّة تتأصّل عندما تقترب تكون تخترق إلى المستويات الروحيّة، واختلف بعضها عن بعض بسلالة الدم الذي يجري في عروقها وعدد المرّات التي يمكن للوحش التأصلّ فيها من أجل أن يكتسب خواصّ وقوى الدم الأصليّ الذي يجري في عروقه.

كان الوايفرن عبارة عن سلالة قيل أن ددمم التنانين يجري في عروقها، إلّا أنّ ندرتها كانت عظيمة للغاية في العوالم الروحيّة.

كانت إمكانيّة الوحوش الروحيّة في الارتفاع إلى مستوى أعلى تكمن في عدد المرّات التي استطاعت التأصّل فيها؛ فوحش تأصّل عدّة مرّات يمكنه بلوغ مستويات عليا بسرعة وسهولة كُبرَيَيْن.

كان عدد المرّات التي يمكن للوحوش الروحيّة التأصّل فيها مجهولا، وكانت هناك أقوال على أنّه لا ينتهي أبدا؛ فحتّى عندما ينجح الوحش في اكتساب جسد السلالة الأصليّة ودمها وقدراتها، يبقى قادرا على التأصّل وهذه المرّة يحاول أن يعود إلى أصل كينونته.

بالرغم من أنّ الوحوش السحريّة لا تؤسّس عالمها الروحيّ كما يفعل السحرة الروحيّون، فهي أيضا تملك نظام نموّها الروحيّ.

كانت ألقاب السحرة الروحيّين هي نفس ألقاب الوحوش الروحيّة بجميع المستويات إلّا المستوى الأخير منها، لكنّ تسميّة النطاقات اختلفت نظرا لاختلاف نظام نموّ كلّ طرف.

فمقابل كلّ نطاق بلغه السحرة الروحيّون قابله نطاق بلغته الوحوش الروحيّة، وكانت مستوياتها كالتالي:

نطاق تأصيل الدم – سيد روحيّ"

"نطاق تأصيل اللحم – حاكم روحيّ"

"نطاق تأصيل العظم – ملك روحيّ"

"نطاق تأصيل الروح – إمبراطور روحيّ"

"نطاق الروح المبارَكة – روحانيّ مبارَك"

"نطاق الروح الساميّة – روحانيّ سامٍ"

"نطاق الروح الأسطوريّة – روحانيّ أسطوريّ"

"نطاق الحجر الروحيّ الحقيقيّ – سلطان روحيّ"

"نطاق الحجر الروحيّ المقدّس – سلطان مقدّس"

"نطاق أصل الحجر الروحيّ – سلطان أصليّ"

"حجر الروح الأصليّ – روح أصليّة."

وكما اتّبع السحرة طريق إنشاء عالمهم الخاصّ، ناشدت الوحوش الروحيّة أصل روحها وكينونتها فقط، ولم يكتمل الاثنين إلّا عندما اجتمعا معا؛ فاستحوذ السحرة على أرواح الوحوش، وتغذّت الوحوش على عوالم السحرة.

***

كان الوحش أمام باسل في نطاق تأصيل الدم، كما كان باسل في نطاق الأرض الواسعة، لكنّهما كانا مختلفين تماما عنّ أيّ أسياد روحيّين في كلّ العوالم.

شحن الوايفرن طاقته السحريّة حتّى جعل المناطق المحيطة به تحترق فقط بهالته الساخنة، ثمّ ركّز الطاقة التي استجمعها في نقطة واحدة أمام فمه، والتي اتّخذت شكلا معيّنا جعل باسل يندهش، إذْ كان الشكل هو النصل الناريّ الأبيض الذي أطلقه تجاه العدوّ سابقا.

فتح الوايفرن فمه فانطلق النصل الناريّ بسرعة كبيرة جعلت باسل يفتح عينيه على مصراعيه.

لقد كانت تلك السرعة تفوق توقّعات باسل إذ كانت في الحقيقة تساوي ضعف سرعة النصل الذي أطلقه تجاه الوايفرن في المقام الأوّل.

أحاط نفسه بحاجز من الريّاح المعزَّزة وشحذ رمحه الخشبيّ ثمّ جابه النصل الناريّ وجها لوجه.

انفجار

تبخّر الهواء وانتشرت الشرارات في جميع النواحي وظهر باسل بعد لحظات من تبدّد البخار سليما.

صرّح مندهشا: "إذا لقد اكتسب إحدى قدرات التنانين بشكل كامل!"

كانت هذه القدرة هي امتصاص نار العدوّ وإعادة إلقائها بقوّة تصل لأضعاف قوّتها الأصليّة.

كان هجوم باسل قادرا على قتل ساحر بالمستوى الرابع عشر، لكنّ هجوم الوايفرن كان قادرا على جرح سيّد روحيّ أعزل.

لاحظ باسل أنّ هذه ستكون معركة طويلة الأمد لذا قرّر ألّا يضحيّ بقدراته الشفائيّة حاليا.

اختفى الاثنان فجأة بدون الانتظار للحظة أخرى وبدآ يتبادلان الضربات بينما ينتقلان من مكان إلى آخر يبعد عن المكان السابق بأميال في لحظات.

انفجار انفجار انفجار

كلّ اصطدام منهما خلّف دمارا وكوّن حفرا عميقة وواسعة.

تجنّب باسل استخدام عنصر النار تماما، واعتمد على عنصريْ التعزيز والريّاح، بينما استمرّ الوايفرن في استخدام عنصر النار وقدراته الجسديّة المرعبة.

كلّ ركلة من الوايفرن كانت قادرة على سحق جبل، كما أمكنها سحق سحرة مستويات الربط بسهولة.

كان هذا هو أقوى وحش يجابهه باسل من ناحيّة القوّة الجسديّة، دون ذكر قدراته الأخرى.

اهتزّت الأرض تحتهما بشدّة بعدما تبادلا الضربات لدقائق معدودة، قبل أن يتراجعا للاستعداد لهجومهما الثاني.

ظهر حول باسل خمس نسخ نتيجة لإمكانيّة عنصر التعزيز، وكلّ نسخة حملت سيفا أثريّا بالدرجة السابعة فاندهش الوايفرن من هذا الأمر.

ابتسم باسل ثمّ قال: "ما زال الأمر مبكّرا على الاندهاش."

أشعّت الأسلحة الأثريّة بالدرجة السابعة في نفس الوقت وتحوّلت بعد ذلك إلى أنصال شفّافة يحيطها ضوء أزرق.

اتّسعت عينا الوايفرن أكثر بسبب المنظر أمامه؛ لقد كانت تلك خمسة أسلحة أثريّة بالدرجة السابعة يُتحكّم فيها مثاليّا في آن واحد، دون نسيان سلاح باسل الرئيسيّ.

تعجّب الوايفرن من قدرة هذا الشابّ في استغلال إمكانيّة عناصره لأقصى درجة، واعتقد أنّ عنصر السحر لا يهمّ بتاتا إذا كان المستخدم باهرا في عمله حقّا.

انطلقت النسخ الخمس وأحاطت الوايفرن من جميع الاتّجاهات بسرعة ثمّ ظهر بعدئذ باسل فوق عدوّه بعيدا ببضعة أمتار.

شحنت النسخ الخمسة طاقاتها السحريّة في الأسلحة الأثريّة بتزامن مع سلاح باسل الرئيسيّ، فتكوّنت خمس عواصف أغلقت كلّ ممرّات الفرار أمام الوايفرن، ثمّ رمى باسل رمحه بكلّ قوّته وتحكّم فيه عن بعد.

حلّق الرمح حول العواصف وربط بعضها ببعض فكوّن بعد ذلك حقلا كرويّ الشكل تتضارب بداخله الريّاح وتتكهرب من شدّة احتكاكها.

"دعني أجرّب عليك إمكانيّة عنصر الرياح التي أتقنتها مؤخّرا."

كان ذلك الهجوم عبارة عن كرة ضخمة جدّا من الرياح المتكهربة والمعزَّزة يمكنها صنع وديان إذا ما لامست الأرض.

لم تقطع تلك الريّاح المتكهربة الأشياء فقط ولكن بخّرتها ببرقها الذي توهّج بين الحين والآخر بينما تتراقص أنصال لا متناهيّة مخلّفة أصوات رنّانة كموسيقى موت مرعبة.

ظلّ الوايفرن في مكانه ولم يحاول الهروب عندما وجد نفسه محاطا، ثمّ شحن طاقته السحريّة وفجأة توهّجت قشور جلده بضوء أزرق فاتح جعل دكنة جسده تبدو كعدّة من الجواهر يرتديها كحليّ.

أغلق باسل يده اليمنى فأغلِقت كرة الرياح المتكهربة من الداخل حتّى لامست هدفها فزادت سرعة الرياح وصدت الأصوات الصاخبة في جميع الأنحاء قبل أن يفتح باسل يده مرّة أخرى لتنفجر كرة الرياح المتكهربة

انفجار انفجار انفجار

بعدما أطلق باسل ضغط تلك الكمّيّة الهائلة من الطاقة، كلّ انفجار حدث ولّد انفجارا آخر فصنع بذلك سلسلة انفجارات تكسر حاجز الصوت باستمرار وأمطار من الأنصال تخترق الهواء بسرعة البرق.

بالطبع كان باسل والعدو يستخدمان الطاقة السحريّة حتّى الآن، ولكن ذلك كان فقط لأنّ الطاقة الروحيّة التي خزّناها ما زالت قليلة للغاية كونهما بلغا المستويات الروحيّة للتوّ، ولكن هذا لم يخفّض من درجة الرعب التي وصلت إليها هجماتهما وقدراتهما الدفاعيّة حتّى لو استخدما الطاقة السحريّة فقط.

عاد الرمح إلى يد باسل كما فعلت الأسلحة الأثريّة الخمس بعدما اختفت النسخ الخمس التي كانت تحملها، إذ استنزفت كلّ قوّتها في هذا الهجوم.

نظر باسل إلى البخار والنتاج عن سلسلة الانفجارات منتظرا رؤية ما حلّ بالوايفرن، لكنّ نظراته كانت جدّيّة كما لو أنّه اكتشف بالفعل ما حصل.

وبعدما تبدّد البخار وظهرت صورة الوايفرن رأى باسل الأمر بعينيه، إذ كان العدو سليما معافى، فجعل زاوية فم باسل ترتفع بعدما وجد الأمر ساخرا؛ فالشعور الذي يحسّ به الآن هو تماما ما أحسّ به أولئك الذي تفاجؤوا بسلامته بعدما ظهر بدون أيّ خدش على جسده بعدما تلقّى هجماتهم.

ولكن ما جعل الأمر ساخرا أكثر بالنسبة له هو أنّ السبب في سلامة هذا الوايفرن من ذلك الهجوم لم تكن قدراته الشفائيّة، بل قدراته الدفاعيّة الطبيعيّة؛ لقد كان جسده صلبا لدرجة مخيفة.

اختفى توهّج قشور جلد الوايفرن وعاد جسده لطبيعته، فنظر بعد ذلك إلى باسل ثمّ قال: "لربما فاجأتني بما فعلتَ، لكنّ ذلك لم يعنِ أنّه باستطاعتك جرحي. جسدي هو أقوى جسد بين الوحوش في هذا العالم، وسيصير أقوى جسد في الوجود بدون شكّ."

كان باسل مبتسما بالرغم من هذه الحالة التي وجد نفسه فيها، فضاقت عينا الوايفرن: "ما الممتع يا بشريّ؟"

ردّ باسل بوجه مشرق: "هل تمزح معي؟ إنّني أرى وايفرن استطاع التأصّل لهذه الدرجة واكتسب مثل هذه الخواصّ المدهشة التي تميّزت بها التنانين من الأساطير، فكيف لي ألّا أتحمّس؟ خصوصا عندما أفكّر في الوقت الذي أستحوذ على روحك به."

زمجر الوايفرن وحملق إلى باسل بنظراته الشرسة كالعادة: "للغرور حدود يا شقيّ، لاسيّما أمامي."

ارتفعت حافة فم باسل الذي هزّ كتفيه قبل أن يردّ: "لن تجده غرورا عندما يحدث. ثق بي، ذات يوم، ستشكرني لأنّني استحوذت على روحك وجعلتها جزءا منّي، جزءا من شيء أعظم."

جعلت ابتسامة وكلام باسل المستفزّ الوايفرن ينزعج كثيرا، فاختفى ذلك الأخير فجأة من أمام عينيّ باسل الذي لم يدرك شيئا حتّى وجد نفسه محلّقا في الأفق بقوّة هائلة جعلته يشعر كأنّما جبال لا تُحصى تدفعه وتحاول سحقه.

عانى من العديد من الإصابات لكنّه كان يُشفى تلقائيّا بينما تظهر جروح جديدة، وعندما استطاع إيقاف نفسه في السماء بعدما حلّق لعشرات الأميال، كان جسده خاليا من الجروح كما لو أنّه لم يُصب بها في المقام الأوّل.

عبس وفعّل عيني الحكيم ثم نظر إلى الوايفرن البعيد مباشرة من أجل يرى ما يخفى. لم يعد متردّدا في استخدام أوراقه الرابحة بعد تلك الضربة العنيفة التي لم يجد لها تفسيرا حتّى الآن.

"ذلك لم يكن سحرا، ولا قدرة طبيعيّة للوحوش، ذلك كان شيئا أشبه بـ..."

لم يكمل باسل تمتمته حتّى وجد الوايفرن أمامه، لكنّ عيني الحكيم قدرتا على تتبّع مسار الوحش فاستطاع باسل المراوغة في آخر لحظة، فإذا بالهواء يتموّج وحاجز الصوت يتفرقع بتكرار تحت ضغط وقوّة ركلة الوايفرن التي رواغها باسل.

لم يمنح الوايفرن باسل وقتا للتفكير واختفى مباشرة بعد ذلك كما فعل في المرّتين السابقتين، فتساقطت الضربات على باسل الذي راوغ معظمها قبل أن تصيبها إحداها فسحقت بطنه وكسرت أضلاعه وقفصه الصدريّ.

كانت تلك ركلة مباشرة قويّة للغاية أكثر من التي تعرّض لها سابقا.

جعلته الركلة هذه المرّة يخترق الأرض أسفلهما بعمق شديد مخلّفا بعد اصطدامه بها وديانا سحيقة.

زمجر الوايفرن وقال بفخر: "يبدو أنّك نسيت شيئا مهمّا يا بشريّ؛ في المناطق المحظورة، الوحوش الروحيّة لها الأفضليّة بدون شكّ، فالمنطقة المحظورة ذاتها تصبح أرض تغذيّتنا، وحتّى لو فقدت بعضا من طاقتي يمكنني تجديدها عبر حاجز الحماية السماويّة."

بالفعل، كان حاجز الحماية السماويّة يجدّد طاقات الوحوش السحريّة الميّتة، ولكن عندما كان الوحش الروحيّ يظهر في المنطقة المحظورة، كان يستطيع استمداد الطاقة من الحاجز إلى حدّ ما حتّى يجدّد طاقته الخاصّة أو يشفي جراحه.

أكمل الوايفرن: "هذا دون ذكر أنّني ما زلت في قمّة حيويّتي. أنا كائن سيبلغ ما لم يبلغه أحد في العوالم الروحيّة، لذا إنّني رحيم بنفس الدرجة. هاكَ ماهيّة الأمر، سلّمْني روحك تجدْ الطمأنينة في موتك، عاندْ حتّى النهاية تعانِ الأمرّين قبل موتك."

كان الوايفرن يتكلّم بالرغم من أنّ باسل تحت الأرض كما لو أنّه كان يعلم أنّ عدّوه سينهض من جديد كما لو أنّ شيئا لم يحدث.

وبالفعل، ظهر باسل محلّقا من أعماق الأرض إلى السماء فنفض الغبار عن ملابسه وقال: "كفانا من هذا الكلام المبتذل. إنّك تعلم أنّ هذه ستكون معركة نقاتل فيها حتّى آخر رمق منّا كالساحر والوحش الروحيّين الأوّليْن."

"همف،" استنكر الوايفرن كلام باسل وقال: "إنّك لا تعلم شيئا يا بشريّ؛ لقد أخبرتك عن حالي في المنطقة المحظورة وأفضليّتي فيها عنك، لكنّ ذلك ليس كلّ شيء، فهذا المجال الذي أتيت لأقاتلك فيه بنفسه يُعدّ منطقة داعمة لي."

حدّق باسل إلى الوايفرن وقال: "تحسب نفسك تعلم كلّ شيء فقط لأنّك عشت عصورا مديدة، ولكن اكتساب المعرفة لا يعمل بذلك الشكل. دعنِ أشرح الأمر بدلا عنك."

أشار باسل إلى الوحش وأكمل: "الحكمة التي اكتسبتها قبل تحوّلك الروحيّ جعلتك تكسب قدرات فهم عميقة للطبيعة وقوانينها، ولهذا كنت قادرا على تطوير عقلك وقدراتك. أصلا، قيل أنّ الحكماء القدماء اكتشفوا الفنون القتاليّة عن طريق قدرات الوحوش الخاصّة التي تكسبها في المستوى الثامن، لذا لو امتلك وحش ما حكمة أولئك الأشخاص بجانب كونه 'وحش'، فالنتيجة واضحة."

صرّح باسل: "لقد وجدت ما فعلته سابقا مشابها للفنون القتاليّة وطريقة عملها، وها أنا ذا متأكّد من ذلك كلّيّا؛ لقد أصبحت وحشا روحيّا قادرا على استخدام الفنون القتاليّة. وعلى ما يبدو، فإنّ فنّك القتاليّ يملك خواصّا تجعلك سرعتك ووزنك أكبر بأضعاف عدّة."

"هوهوهو،" ضحك باسل وقال: "يبدو أنّ السارق الخسّيس قد استطاع بطريقة ما اكتساب حكمة أولئك العظماء عبر التاريخ وصنع شيئا يمكنه منح هذه القدرات المدهشة إلى الوحش الروحيّ الذي سيستحوذ على روحه."

نظر باسل بجدّيّة إلى الوايفرن: "كلّما اكتشفتُ شيئا جديدا عن رعب ما جهّز له السارق الخسّيس أصبحتُ أكثر تشوّقا لرؤية وجهه بعدما أسرق كلّ ذلك منه."

ضاقت عينا الوايفرن: "ما الذي تتحدّث عنه يا أيّها الشقيّ؟ هل تظنّك تملك الوقت لمخاطبة نفسك؟"

اختفى الوايفرن مرّة أخرى وسقطت ركلاته العنيفة على باسل بثقل جبال عديدة وسرعة البرق.

انفجار

تصدّعت الأرض ولحقها انفجارات صوتيّة في كلّ مكان، إلّا أنّ حدقتا الوايفرن كانتا متّسعتين، وليس فقط لأنّ باسل راوغ هجومه، بل لأنّه لم يستطع معرفة مكان عدوّه.

صدر صوت من فوقه فجأة: "يبدو أنّك تحاول إثبات شيء ما باستخدامك لفنّك القتاليّ فقط، لكنّك لا تعلم شيئا عن الفنون القتاليّة بقدر ما أفعل. توقّف عن إحراج نفسك."

كان الوايفرن سيصرخ من شدّة الغضب ويحاول أن يلتفّ ليضرب باسل لكنّه وجد نفسه مقموعا تحت قبضة باسل التي حرّكها بقوّة دفع هائلة عبر فنّه القتاليّ "خطوات الريّاح الخفيفة"، وذبذبها بفنّ "سحق الأرض" فجعلها تخترق كل ما تلامس.

سقط الوايفرن من السماء قبل أن يفعل شيئا وحدث له بالضبط كما فعلَ لباسل عندما جعله يخترق الأرض بشكل عميق.

***

"هيّا، أعلم أنّ مجرّد ضربة كهذه لا يمكنها فعل شيء لك."

قالها باسل بينما ينظر إلى أعماق الأرض بعينيه الحكيمتين، إذْ كان في الواقع قادرا على رؤية الوحش الذي لم يكن بمقدوره فعل نفس الشيء.

وبالطبع، كان الوايفرن سليما معافى كما قال باسل، ولكن في الواقع لم تكن تلك "مجرّد ضربة". لقد كانت تلك الضربة إحدى الضربات التي قضى بها باسل على الوحوش عندما قدم لإنقاذ أبطال الأجيال. قوّة تلك الضربة لوحدها كانت قادرة على سحق وحوش المستوى العاشر حتّى تماما.

انتفاض

انبثق الوايفرن من أعماق الأرض بسرعة خاطفة وحدّق إلى باسل بتعجّب قبل أن يقول: "لم أستطع التأكّد في المعركة التي واجهك فيها أتباعي آنذاك، لكنّني أرى الأمر بوضوح الآن. أنت... إنّك قادر على استخدام فنّين قتاليّين!"

ابتسم باسل وتحرّك خطوة واحدة في السماء، فتشوّهت صورة رجله التي كان يراقبها العدوّ وبدت كما لو أنّها سوط يتحرّك، ثمّ أصبح جسده بالكامل ضبابيّا وظهر في عدّة أمكنة.

كلّ هذا حدث في لحظة قصيرة جعلت الوايفرن يرتعش إذْ طرأت في باله فكرة مرعبة للغاية.

ظهر باسل فوقه مرّة أخرى وأسقط عليه نفس اللكمة السابقة ليعود بذلك الوايفرن إلى أعماق الأرض من جديد.

قال باسل ساخرا: "نعم، لقد حزرتَها بشكل صحيح في اللحظة الأخيرة. إنّها ثلاثة فنون قتاليّة وليس اثنين."

استخدم باسل عند تحرّكه فنّه القتاليّ الثالث، اختراق السماء، وألقى اللكمة بفنّيه القتاليّين الآخريْن، خطوات الرياح الخفيفة وسحق الأرض.


نظر إلى الأعماق وقال من جديد: "هيّا، انهض. يبدو أنّني سأستمتع بالقتال أخيرا بعد مدّة طويلة. ولكن أوّلا..."

ركّز باسل على أنفه وفمه فأغلق حاسّة الشمّ لديه وقال: "لماذا يجب أن يكون القتال ضدّ خصم جيّد ممتعا هكذا بينما لا أطيق رائحة الدماء؟ قد يكون هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يسعني تجاوزه مهما تدرّبت."

كان باسل يمكنه قمع حواسّه بهذا الشكل الآن بكلّ سهولة، وليس فقط لسبب واحد بل العديد؛ لقد كان يتدرّب على حواسّه منذ بداية تعلّمه على يد إدريس الحكيم، وأتقن "انقسام الوعي" المزيّف ضدّ فضيلة كرم. وبدون كلّ ذلك، قد بلغ الآن المستويات الروحيّة التي تسمح له باستخدام انقسام الوعي الحقيقيّ، لذا كان قمع حاسّة من الحواسّ الخمس شيئا بسيطا، هذا بدون الإشارة إلى امتلاكه الحكمة السياديّة.

برز الوايفرن بدون ضياع للوقت وصرخ تجاه باسل: "لا تغترّ بنفسك يا أيّها الغرّ. لربّما تملك بعض الأوراق الرابحة في جعبتك، لكنّها لا تنقصني أيضا. ولا تقلق بشأن الدماء، لأنّ الدماء الوحيدة التي ستغرق فيها هي دماؤك فقط."

لم يكن كلام الوايفرن من فراغ؛ فحتّى الآن، لم يذرف قطرة من الدماء على عكس باسل الذي سالت دماؤه بغزارة عندما تعرّض لهجمات الوايفرن. لقد كان جسد هذا الأخير صلبا لدرجة مخيفة حقّا.

حدّق باسل إليه: "لقد أغلقتُ حاسّة شمّي لسبب."

اختفى الوايفرن من مكانه، لكنّ باسل اختفى أيضا في نفس الوقت، ولم تكن هناك عين عادية يمكنها ملاحقة تحرّكاتهما حاليا، إذ قطعا عشرات الأميال في ثوانٍ، وكان الدمار الذي خلّفاه وراءهما هو كلّ ما جعل الشخص يعلم أنّهما مرّا من مكان معيّن، إذْ تشتّت الجبال لقطع صغيرة وتغيّرت تضاريس الأرض أسفلهما.

كان باسل يستخدم عنصريْ التعزيز والرّياح والفنون القتاليّة كلّها، بينما كان الوايفرن يعتمد على قواه الناريّة وفنّه القتاليّ وجسده الصلب.

كانت الأغلبيّة لباسل بشكل واضح؛ فالوايفرن لم يستطِع ضرب باسل بالرغم من سرعته الجنونيّة، وتلقّى ضربات باسل باستمرار، ولكن حتّى لو كانت الأفضليّة لباسل لم يعنِ ذلك أنّه قدِر على جرح الوحش.

ابتعدا عن بعض وفكّر باسل لقليل من الوقت مع نفسه: "يبدو أنّه يجب عليّ القيام بترقية بسيطة حتّى أنجح في اختراق دفاعه ذاك. لا بأس، لقد اعتدت على المخاطرات والمغامرات."

ما أن قال ذلك حتّى أطلق العنان لهالته كسيّد روحيّ وطافت التعاويذ الذهنيّة الروحيّة دائرةً حوله، والتي تلاقى بعضها ببعض بينما يتردّد صوت كصوت قرع الكؤوس نتيجة لذلك، وفجأة بدأت التعاويذ تزداد عددا وتتوهّج بضوء فضّيّ-أزرق ساطع.

بدأت الحروف الرونيّة التي تتكوّن منها التعاويذ تتحوّل وتكوّن أنماطا مختلفة عن السابق مع حفاظها على بعضٍ من شكلها دون تغيّر.


حدّق الوايفرن إلى ما يحدث مع باسل وضاقت عينيه وأصبح أكثر حذرا من السابق. لم يعلم ما كان باسل يفعله بالضبط، لكنّه لاحظ أنّ ذلك له علاقة بتعاويذ الفنون القتاليّة.

فتح باسل يديه على مصراعيهما فإذا بالتعاويذ تتوغّل جسده ثمّ روحه وتبدأ في التغذّي على طاقة الأرض الواسعة الروحيّة.

"هل يمكن...؟!"

فهم الوحش ما الذي كان يفعله باسل أخيرا وصرخ: "هذا... أن يستخدم المرء فنّين قتاليّين لأمر مستحيل في المقام الأوّل، لكنّ هذا الشقيّ يستخدم ثلاثة، والآن تخبرني أنّه يحاول استخدام مراحل عليا من فنونه تلك؟ فقط من هذا الغرّ؟"

صرّ الوايفرن على أسنانه وقال: "كما تميّزتُ وانفردتُ عن باقي الوحوش، يبدو أنّ هذا الشقيّ لا مثيل له بين السحرة أيضا. يا له من قدر؛ إذن الفائز هنا سيكون المخلوق الفريد الذي يتفرّد بسيادة العوالم! ذلك لن يكون أحدا غيري!"

اهتزّ جسد باسل ونبض بشدّة فظهرت بعض الأطياف أمامه، ثلاثة أطياف بالضبط، وبدت كما لو أنّها ظهرت من جسده.

لقد كانت هذه الأطياف شيئا معروفا عند الفنّانين القتاليّين، إذْ تحتّم عليهم مواجهتها عند محاولة استخدام الدرجة الخامسة من كلّ مرحلة من مراحل الفن القتاليّ. لقد كانت تلك الأطياف هي اختبار العالم.

في المرحلة الأثريّة، ظهر هذا الاختبار أمام الفنّانين القتاليّين عند محاولة استخدام الفرع الكبير جدّا، أي الغصن الخامس من المرحلة الأثريّة التي تتكوّن من سبعة أغصان.

وغاية هذا الاختبار كانت هي نفس الغاية التي وُجِدت كلّ اختبارات العالم من أجلها؛ ألا وهو اختبار جدارة المرء.

ابتسم باسل ثمّ استعدّ لهجوم الأطياف الذي كان يتوقّعه، وما أن انتهى من ذلك حتّى اختفى الطيف الأوّل وظهر خلفه مباشرة كما لو أنّه انتقل عبر الفضاء، ثمّ اخترق الطيف الثاني الهواء بقوّة تسحق الأشياء بتذبذب يحوّل الجبال لغبار، بينما ابتعد الطيف الثالث قبل أن يعود بزخم أكبر وقوّة دفع هائلة.

لقد كان كلّ طيف تجسيدا لأحد الفنون القتاليّة الأثريّة الثلاثة التي يملكها باسل.

راقب الوايفرن بحرص حتّى تحرّكت الأطياف، ولم تمرّ حتّى لحظة واحدة بعد حدوث ذلك فكان قد فهم وقرّر ما يجب فعله.


تحرّك بسرعة خاطفة مستخدما فنّه القتاليّ وشحن طاقته الروحيّة حتّى يستخدمها ضدّ العدوّ الذي كان في مأزق. لقد كان يعلم أنّ هذه هي الفرصة المثاليّة لاستخدام بعضا من الطاقة الروحيّة القليلة التي يملكها.

كانت يد الطيف الأوّل عبارة عن شرخ في الفضاء بدا متمكّنا من فصل الجسد عن الروح، وأنشأت قبضة الطيف الثاني قوّة متذبذبة عبر الهواء وحاولت السقوط على باسل بوزن عظيم، وتبدّدت صورة الطيف الثالث من شدّة سرعته والذي فجّر الصوت بتكرار في طريقه.

وأخيرا، قدم الوايفرن من الأعلى بسرعة وقوّة أكبر من سرعة وقوّة الطيف الثالث حتّى.

مع العلم أنّ الطيف الأوّل مَثَّل فنّ "اختراق السماء"، والطيف الثاني مَثَّل فنّ "سحق الأرض"، ومَثَّل الطيف الثالث فنّ "خطوات الرياح الخفيفة".

لقد كان هذا هو أسوء موقف يمكن لشخص يقاتل عدوّا مكافئا له أن يجد نفسه فيه.

زنين

ذبذبة

انفجار


توالت الأصوات واحترق الهواء من شدّة النار التي صنعها الوايفرن بطاقته الروحيّة وجعل الجوّ حارّا كما لو أنّ الشمس أقرب بضعفين عمّا هي عليه.

باام باام باام باام

تردّدت أربعة أصوات مباشرة بعد الاصطدام بين الهجمات السابقة فظهر باسل بعدما تجلّى البخار ببعضٍ من الكدمات والجروح على جسده، والتي كانت تتماثل للشفاء بالفعل.

وفي نفس الوقت، وجد الوحش نفسه يحلّق عشرات الأميال بعيدا، لكنّه هذا المرّة صُعِق تماما، وليس فقط لأنّه كان يحلّق بعدما ضُرِب، بل لأنّ الدماء كانت تسيل من جنبه وفمه.

ظلّ سارحا في أفكاره لمدّة طويلة غير مصدّق لما حدث. لقد كان متيقّنا من أنّه أصاب باسل وسبّب له جرحا عظيما. لقد كان واثقا أنّ الأفضليّة قد أصبحت له بشكل كلّيّ. ومع ذلك، ها هو يجد نفسه محلّقا مجروحا بشدّة على عكس عدوّه الذي لا يبدو مصابا بجراح خطيرة.


صرخ الوايفرن من بعيد: "ما الذي فعلته يا أيّها اللعين؟"

تنهّد باسل ثم قال: "يبدو أنّ هذا نجح. لقد كان تأجيل استخدام درجة كبرى من الفنون القتاليّة الأثريّة كلّ هذا الوقت يستحقّ. فالآن، أمكنني هزيمة تلك الأطياف اللعينة بكلّ سهولة بمستواي الحالي."

لقد كان باسل يقف عند الغصن الرابع من كلّ فنّ أثريّ، ولم يشأ أن يتجاوز ذلك حتّى لا يضطرّ لمجابهة تلك الأطياف التي لا تتأثّر في الواقع سوى بالفنون القتاليّة ولا شيء آخر.

أكمل: "لقد انتظرتُ حتّى أبلغ المستويات الروحيّة وأصبح قادرا على استخدام المرحلة الروحيّة من تلك الفنون. فبدل أن أنتقل إلى الغصن الخامس من الفنّ الأثري، انتقلت مباشرة إلى المرحلة الروحيّة وتغلّبت بذلك على تلك الأطياف بسهولة."

ابتسم باسل ثمّ قال: "الآن، يمكنني أذيّة جسدك الذي تفتخر به، وأذيّته بشدّة."

"المرحلة الروحيّة من كلّ فنّ؟! هل تمزح معي يا أيّها اللعين؟ كيف لك أن تعلم عن أسرار الدرجات السابقة وفهمها وإدراك ألغازها وأعماقها حتّى تتجاوزها هكذا؟ لا يمكن لأيّ شخص أن يفعل كلّ هذا في تلك اللحظات القصيرة."

أجاب باسل: "صحيح. أنا لم أحاول أفهمها، ولم أحاول إدراكها أو تجاوزها، أنا فقط سمحت لنفسي باستخدام المرحلة الروحيّة من كلّ فنّ. لقد كنت قادرا على ذلك من البداية. فالمعرفة التي أحتاجها لترقيّة مستوى فنوني القتاليّة حتّى منتصف المرحلة الروحيّة موجودة في أعماق روحي."

لقد كانت تلك هي المعرفة والخبرة التي اكتسبها معلّمه إدريس الحكيم طوال حياته، وكان باسل قادرا على اكتسابها عن طريق الحكمة السياديّة.

تمتم الوايفرن: "مستحيل... هذا لا يُعقل... ما التفسير؟!"

بدأت أفكار الوحش تتضارب: "ثلاثة فنون قتاليّة أثريّة، بل روحيّة الآن، ثلاثة عناصر سحريّة، قدرات غريبة مثل التي يستخدمها بعينيه، وجسد فريد يستطيع الشفاء ذاتيّا في لحظات وجيزة. فقط ما الذي ما زال يخبّئه في جعبته؟ فقط من هذا اللعين؟ لقد انتظرت لعصور، فلمَ يجب أن يظهر شخص مثله في هذا العصر بالضبط؟ في هذا العصر الذي يُفترض أن يكون عصري!"

رفع باسل حاجبه ثمّ قال: "أنت يا أنت... لا تخبرني أنّك هلعت؟ المرح بدأ لتوّه، فحافظ على تصرّفك المتعجرف من فضلك وإلّا صار هذا مملّا."

تراجع وحش الوايفرن للخلف قليلا بعد سماع كلام باسل وبدأ خيار "الهرب" يومض في عقله بعدما كان واثقا تمام الثقة أنّه سيكون الفائز.


تحرّك باسل للأمام فتراجع وحش الوايفرن للخلف أكثر، واستمرّ ذلك بالحدوث حتّى تعثّر باسل فجأة وسقط على ركبتيه ساعلا الدماء.

توقّف وحش الوايفرن واندهش ممّا حدث.

ردّد باسل بينما يعاني من الألم: "اللعنة، لقد بدأ الأمر... ولكنّي قمت بذلك آخذا حدوث هذا في الاعتبار."

كشّر الوايفرن عن أنيابه فجأة وقال بصوت مرتفع بعدما ضحك: "كـ-كما توقّعت، لا يمكن أن تفعل شيئا كاستخدام ثلاث فنون قتاليّة روحيّة وتنجو بفعلتك هذه ببساطة."

حملق باسل إلى وحش الوايفرن الذي فهم الأمر بشكل خاطئ.

لقد كان باسل يعلم أنّ هذا سيحدث، ولكنّه لم يحدث بسبب استخدامه لثلاثة فنون في الواقع، بل كان هذا بسبب الخلل الذي كان يواجهه منذ أن اخترق إلى المستويات الروحيّة، وكلّ ما فعله استخدامه لثلاثة فنون روحيّة هو زيادة الضرر الذي يتلقّاه وتقليل المدّة التي كان يملكها قبل أن يختلّ توازن روحه بشكل كلّيّ ويموت؛ كانت هذه هي المخاطرة التي قصدها سابقا بقوله ذاك.

تقدّم وحش الوايفرن للأمام هذه المرّة وقال: "تريدني متعجرفا؟ دعني أريك ذلك يا أيّها الشقيّ اللعين. لقد أخبرتك مرارا وتكرارا أنّك لا تعلم حدودك، وها أنت ذا تجد نفسك بلا حول ولا قوّة منتظرا حكمي القاسي عليك. فلتمت!"

استعدّ الوايفرن للانقضاض على باسل، والذي بالرغم من أنّه كان في هذه الحالة كانت الابتسامة ما تزال تعتلي وجهه الدامي: "هذا ما أردته يا أيّها الوغد. هذا ما أسمّيه قتالا ممتعا! لا تحاول الهرب مرّة أخرى."

***

"لم ولن أهرب! لقد تفاجأت قبل قليل فقط، والآن هدأت أعصابي، ولهذا قرّرت. لقد قرّرت أن أجعلك تعتزّ بموتك عندما تعلم أنّني استخدمت قوّتي الكاملة في قتلك."

شحن الوايفرن طاقته الروحيّة فأحاطت به نيران زرقاء، ما جعل باسل يندهش من مقدرة وحشٍ على استخدام إمكانيّة عنصر سحريّ.

قال الوايفرن بثقة: "لو كنت أستطيع على فهم قوانين العالم واكتساب القدرة على استخدام الفنون القتاليّة، فإمكانيّات السحر شيء بسيط."

توهّج بعد ذلك صدره بضوء أزرق فاتح فصرّح باسل: "ينوي استخدام حجره الأصليّ إذن!"

كانت الوحوش تملك شيئا يميّزها عندما تبلغ المستويات الروحيّة؛ فبينما يؤسّس السحرة عوالمهم الروحيّة وينشئون أسلحتهم الروحيّة، كانت الوحوش تنشد أصل حجر الأصل، والذي كان يُعدّ جوهر روحها.

ولهذا، عندما كانت الوحوش الروحيّة تريد إنشاء سلاح خاصّ لها، كانت تعتمد على حجر أصلها كما يعتمد السحرة على العالم الذي يبنونه والذي يبدأ بالأرض الواسعة.

وقف باسل ثمّ فتح ذراعيه على مصراعيهما وقال بينما يبصق الدماء: "نعم، أرني كلّ ما لديك؛ فأنا أريد أن أختبر كلّ قوّتك بلحمي ودمي قبل أن تصبح ملكي. هيّا، استخدم سلاحك الروحيّ غير الكامل وتعال."

كانت الوحوش الروحيّة قادرة على استخدام الأسلحة الروحيّة بسبب الحكمة التي تكون قد اكتسبتها، وكانت قادرة على استخدامها مباشرة بعد الاختراق بالرغم من أنّها تكون غير مكتملة نظرا لنقص روح الساحر التي يُفترض التغذّي عليها.

كانت هذه إحدى أفضليّات الوحوش الروحيّة على السحرة الروحيّون. لقي العديد من السحرة مصرعهم بسبب تلك الأسلحة الروحيّة غير المكتملة التي لم يكونوا يملكونها عندما اخترقوا لتوّهم إلى المستويات الروحيّة.

امتدّ الضوء الساطع من صدر الوحش إلى باقي جسده وغلّفه ثمّ التصق بجسده من كلّ حرف وزاوية، فإذا بالضوء ينقشع تدريجيّا بينما تظهر قشرة صلبة جديدة على الجسد.


أصبح الوحش عبارة عن وايفرن مدرّع بدرع ساطع يبدو كألماس أزرق، وكانت أطراقه تبدو كمناجل مخصّصة لحصد الأرواح إذ بدت قادرة على قطع الأسياد الروحيّين بكلّ سهولة.

لقد كان هذا الوايفرن استثنائيّا بدون شكّ؛ ففي العوالم الروحيّة، وجود وايفرن نجح في التأصّل لهذه الدرجة كان نادرا للغاية في حدّ ذاته، فما بالك بوايفرن مثل هذا قادر على استخدام الفنون القتاليّة وإمكانيّات السحر وقدرته الطبيعيّة هي جسد صلب لا يُخترق إلّا بقوّة عارمة وله قدرة طبيعيّة أخرى تجعل النيران عديمة النفع تجاهه؟

تكلّم الوايفرن: "أتعلم ماذا أطلقتُ على هذا الشكل؟ سمّيته 'حاصد الأرواح الأصلي'. هذا يعني أنّه لا أحد سينجو منّ حكمي بعد رؤية هذا الشكل."

قال باسل مبتسما: "إنّك استثنائيّ بدون شكّ. ربّما لو لم تصادفني لاستطعت التهام أرواح العديد من السحرة والسحرة الروحيّين وبلغت مستوى شاهقا وحكمت به العالم الواهن. ولكن وا أسفاه، تحتّم عليك لقائي، وأيضا وا حسرتاه، حتّى أنا لا يمكنني تخيّل حدوث الأمور بشكل مختلف؛ إنّنا مرتبطين ببعض كثيرا، وأشعر أنّه كان لا بدّ من إكمال أحدنا للآخر. أشعر أنّ هذا اللقاء كان حتميّا."

كان كلاهما واثقا من نفسه كثيرا، فقال الوايفرن مجيبا: "أتّفق معك في الجزء الأخير، أمّا عن الجزء الأوّل، فأنا الذي سيكون الفائز."

وبالرغم من أنّه كان واثقا إلّا أنّه ما زال حذرا من خدع هذا البشريّ وما يمكن أن يكون ما زال يخبّئه في جعبته، وخصوصا بعدما كان يرى تلك النظرات الواثقة في عينيه التي تشعره أنّه في الجانب الخاسر دوما.

تحرّك الوايفرن بعدما بدّد تلك الأفكار من عقله وانطلق تجاه باسل مباشرة من الأمام دون أيّ مراوغات كما لو أنّه يتحدّاه، كما لو أنّه يقول: "نعم، أستطيع حصد روحك وأنت تراني."

وفي الجهة الأخرى، توهّجت عينا باسل ودرات النجوم الثلاثة بسرعة خاطفة ثمّ ظهرت فوق رأسه ثلاث كرات فضّيّة تبدو تحمل بداخلها مجرّات لا تُحصى تشمل حكمة سيّاديّة تستطيع رؤية وتحليل كلّ شيء والتحكم فيه بشكل سليم.

تفاجأ الوايفرن في منتصف طريقه بما حدث لكنّه لم يتوقّف بل وزاد من سرعته حتّى تردّد صوت احتكاكه مع الهواء وأطلق صفيرا تبعته أصوات انفجارات صوتيّة عديدة. كان الأوان قد فات على التراجع، وكلّ ما كان بمقدوره فعله هو التقدّم للأمام حتّى لو لاحظ أنّ البشريّ أمامه بالفعل كان ما يزال يخفي ورقة رابحة.

وفي اللحظات الأخيرة، وكما لو أنّ الزمن تباطأ، سمع الوايفرن باسل يتمتم له: "دعني أريك ورقتي الرابحة الحقيقيّة."

كان باسل في طور الحكيم السياديّ بشكل كامل وبدا في عينيه كلّ شيء بطيئا، إذ كان بإمكانه رؤية مسار الأشياء برؤيته الحكيمة السحيقة، وتوقّع تحرّكاتها التالية بتحليله الحكيم الشامل، والسيطرة على كلّ ذرّة من جسده وطاقاته بالتحكّم الحكيم السليم.


لم يعلم الوايفرن ما حدث حتّى كان باسل يقف أمامه مُشفى تماما ويبدو في أتمّ صحّته، وعلى استعداد تامّ لمواجهة هجومه الخاصّ.

انفجار

انشقّت الأرض أسفلهما وانفلقت السماء فوقهما.

انشقّت الأرض عندما حدث الاصطدام فاهتّزّت مئات الأميال المحيطة بهما، لكنّ السماء انفلقت لسبب آخر، وما أدرك الوايفرن السبب حتّى وجد نفسه يكاد يخرج إلى الفضاء الخارجي.

عندها، علم أنّ السماء انفلقت بسببه، أو بالأحرى بسبب اللكمة التي تلقّاها من باسل وجعلته يعكس مساره تماما ويعود من حيث أتى ويتجاوز ذلك بكثير.

أراد تحليل ما حصل بالضبط لكنّه لم يفهم شيئا، وظلّ في حالة صدمة بينما يغيب عقله عن الوعي ويعود لرشده مرارا وتكرارا، قبل أن يتوقّف عن الارتفاع في السماء ويبدأ في السقوط أخيرا، ليشعر بتلك الصاعقة تمرّ في كلّ عرق وعصب من جسده؛ كانت تلك الصاعقة هي الألم الذي لم يحسّ به إلّا بعد مرور بعض من الوقت من إدراكه للضربة التي تلقّاها.

نظر إلى جسده فوجد درعه متصدّعا من كلّ مكان، لكنّه صُعِق مرّة أخرى عندما وجد صدره مُخترَقا.

كان هناك ثقب على صدره لم يصل عمقه للجهة الأخرى من جسده، لكنّه بالتأكيد ددممّر أكثر مناطقه الحيويّة، وبالتحديد حجره الأصليّ الذي كان فيه شقّ يمتّد على منتصفه.

سقط بلا حول ولا قوّة. حاول الطيران لكنّه كان عاجزا. حاول تغيير مساره لكنّ جسده لم يستجب له.

تجاوز السحب فاستطاع أن يلاحظ باسل ينتظره بالأسفل بنفس الابتسامة التي كانت تعلو وجهه طوال الوقت، فلم يسعه هذه المرّة أن يكون حتّى متعجرفا ويستخفّ بتلك الابتسامة التي صار يراها نذير شؤم.

ما الذي حدث؟ كيف فعلها؟ لماذا؟ متى؟

لخبطت التساؤلات عقله لكنّه لم يجد تفسيرا مقنعا.


بالطبع لم يجد؛ فهو لم يعلم شيئا عن الحكمة السياديّة التي تمنّى كلّ شخص في العوالم الروحيّة امتلاكها، وحتّى السلاطين كان يسيل لعابهم عندما يفكّرون في احتماليّة اكتسابها.

استطاع باسل بحكمته السياديّة أن يوازن الخلل في روحه بعدما استخدمها لأقصى قدراتها، وبذلك صار قادرا على استخدام الفنون القتاليّة بالمرحلة الروحيّة بسلاسة، إلى جانب طاقته الروحيّة التي جعلت من عنصريّ التعزيز والرياح يبلغان مرحلة لم يبلغاها من قبل. وكلّ هذا جُمِع في لكمة واحدة.

قال باسل بينما ينتظر وصول الوايفرن إلى الأرض: "ما رأيك بأقوى لكمة أملك؟ حتّى لو كانت بدون عنصر النار، ما تزال قوّيّة لهذه الدرجة. حسنا، سأطلق عليها 'لكمة انفلاق السماء'."

اصطدام

سقط الوايفرن في أعماق الأرض في أحد الوديان التي صنعتها هذه المعركة، وطلّ عليه باسل بينما يقول: "حسنا، لن أخبرك هذه المرّة أن تنهض هذه المرّة، فأنا لست عديم الرحمة، ولكن بالرغم من أنّ المعركة ممتعة إلّا أنّني على عجل للذهاب، فما رأيك أن تستسلم بما أنّ النتيجة صارت واضحة وضوح الشمس؟"

لم يجبه الوايفرن مباشرة، وبدا كما لو أنّه يفكّر فمرّت عدّة ثوانٍ قبل أن يصرخ بشكل هيستيريّ: "أنا خسرت؟ هذا لم يحدث ولن يحدث أبدا! أنا سليل التنانين العظيمة الذي سيحكم العوالم الرئيسيّة والثانويّة ويبلغ الأصل! لقد انتظرت لعصور، وها قد حان وقتي أخيرا. هذا لا يمكن أن يحصل أبدا. لا يمكن أن يحدث هذا! أبدا، أبدا! أنا سيّد هذه المنطقة المحظورة، فدعني أريك ما يمكنني فعله يا أيّها الشقيّ اللعين!"

لاحظ باسل بعينيه الحكيمتين أنّ طاقة حاجز الحماية السماويّة يستجيب لرغبة الوايفرن في الحصول على الطاقة الكافية لعلاجه وتجديد طاقته السحريّة والروحيّة.

كانت تلك العمليّة بطيئة لكنّها كانت خطيرة. فحتّى أقلّ قدر من الطاقة يمكن أن يستفيد بها الوايفرن في هذه المعركة.

قال باسل بعدما تنهّد: "يبدو أنّك تُصعّب الأمور عليّ حقّا. حسنا، لا مفرّ، سأجعلك ترى ما يمكنني فعله في هذا المجال."

ضحك الوايفرن في الأعماق وقال: "هل تمزح معي يا لعين؟ لقد أخبرتك سابقا، فهل نسيت أنّني اكتسبت تلك الحكمة في هذا المجال الذي تحكمه تلك النيّة الساميّة؟ إنّني أكثر نفوذا هنا أكثر من أيّ مكان آخر في هذه القارّة."

ارتفع حاجب باسل الأيسر وقال: "نيّة ساميّة؟ آه، تتحدّث عن الأبله. لقد كدت أنسى أنّ ذلك ما كنتُ حتى أنا أشير إليه به. حسنا، حسنا، دعني أريد شيئا مثيرا للاهتمام."


التفت باسل ولاحظ ذلك الرمح يتسكّع في الأرجاء، ولسبب ما شعر أنّ الرمح يشعر بالملل حتّى أنّه كان يستكشف المناطق المحيطة ويتبع بعض الحشرات النادرة.

"يا أبله، تعال إلى هنا."

رنّ صوت باسل في عقل الرمح، فتصرف هذا الأخير كما لو أنّه لم يسمع شيئا واستمرّ في بحثه عن الحشرات النادرة بينما يهمهم.

حملق باسل إليه: "هوهو، تتجاهلني، حسنا، تجاهلني كما تريد."

مدّ باسل يده كما لو أنّه يحاول إمساك شيء ما، وفي تلك الأثناء صاح الرمح بحماس: "أووه! لقد وجدتها، حقّا وجدتها!"

وفجأة، وجد الرمح نفسه يُجذب قسرا إلى ناحية باسل حتّى وصل إلى يده.

صرخ الرمح من شدّة الغضب: "يا أيّها اللعين! كيف لك أن تعاملني هكذا أنا الرمح الطاغيّة؟ هل تريدني أن أفرمك؟ لمَ تقاطع بحثي عن كنوز مهمّة؟ لقد كنت قريبا للغاية من إمساكها. اللعنة! كنت قريبا حقّا!"

"كنوز مهمّة؟" تعجّب باسل: "ألست كنت تبحث عن بعض الحشرات فقط؟"

"هااااه؟!" صاح الرمح: "بعض الحشرات فقط؟ هل تمزح معي؟ الحشرات التي أبحث عنها تُعدّ من أندر الحشرات في العوالم الروحيّة."

ردّ باسل عليه بعينين ملولتين: "لكنّها تبقى مجرّد حشرات. لا يهمّ إن كانت نادرة أم لا."

"يا أيّها اللعين،" غضب الرمح: "لن يسعني إيجادها الآن مهما حاولت بعدما استشعرت حضوري سابقا. حتّى لو بحثت لسنين لن أجدها. إنّها تختفي تحت الأرض عميقا و..."


قاطعه باسل قائلا: "كفانا حديثا عن الحشرات اللعينة."

أنت...!"

أكمل باسل: "على كلٍّ، هناك أحدهم يريد لقاء النيّة الساميّة التي تتسيّد هذا المجال، فما رأيك أن تلقي التحيّة؟"

"هيهي،" ضحك الرمح بعدما تغيّر مزاجه لمّا سمع 'النيّة الساميّة' وقال بصوته الخشن الذي اعتاد التكلّم به في الخفاء: "حسنا، حسنا، هذا السيّد العظيم سيمنح الشرف لهذه الروح الفقيرة أن تلتقيه. هيّا، أين أنت؟"

يبدو أنّ الرمح الطاغيّة اشتاق للعب دور السيّد العظيم الذي افتقده بعدما التقى باسل.

مرّت مدّة ولم يسمع الرمح ردّا، فالتفت إلى باسل وصرخ: "يا أيّها الوسخ القذر، هل كنت تخدعني؟"

تنهّد باسل: "هدّئ من روعك، فإنّي لست في مزاج لأخدعك الآن. أظنّ أنّ أحدهم عاجز عن الكلام فقط."

نظر الوايفرن إلى الرمح من الأعماق ولم يسعه قول أو فعل شيء سوى التعجّب: "هاه؟! إِه، إِيــــــــــه!"

***

"هوهوهو،" ضحك باسل على ردّة فعل الوحش الغريبة وقال: "هل تفهم ماذا يعني هذا؟"

ارتعب الوحش في الأعماق بينما يقول: "هذا... هذا غير ممكن... كيف لك أن تملك كلّ هذه الامتيازات؟ كيف لغرّ بدأ حياته للتوّ أن يملك ما لا يملكه سلاطين العوالم الروحيّة حتّى؟ كيف للعين مثلك أن يملك سلطة على حاكم هذا المجال؟"

ابتسم باسل وردّ بصدر رحب: "لا تقلق، ستكتشف كلّ هذا عندما أستحوذ على روحك. ثق بي، لربّما لستَ سعيدا لأنّني سأسلب روحك، بمعنى سأقتلك، وهذا طبيعيّ للغاية، أو بالأحرى عليك أن تقاتلني من أجل حياتك، ولكنّك ستعلم أنّه لا يمكنك بلوغ عظمة مثل التي ستبلغها معي."

رفع باسل الرمح فوق رأسه ثمّ اخترق به الأرض فإذا بالوايفرن يشعر بانقطاع اتّصاله بطاقة الحاجز السماويّ.

كان هذا المجال قادرا على استنزاف طاقة قارّة الأصل والنهاية من أجل المصفوفة والعالم الثانويّ، ولهذا بإمكان هذا المجال عزل الطاقة الخارجيّة تماما أيضا.

لقد كان هذا المجال مُعدّ خصّيصا من أجل العالم الثانويّ الذي دخله باسل، والذي كان يحكمه الرمح الطاغيّة، ولهذا كان باسل حاليا يستطيع فعل ما يشاء في هذا المجال كونه يملك سلطة على الرمح الطاغيّة بنفسه.

فزع الوحش أكثر لمّا حدث ما حدث، وفهم أخيرا لمَ كان باسل واثقا طوال الوقت بالرغم من أنّه يُفترض أنّه وجد نفسه في منطقة العدوّ المفضّلة.

"مستحيل...!"

نهض الوايفرن بتلك الطاقة القليلة التي قدر على تحصيلها وثقب أعماق الأرض فبدأ يهرب.

كان هدفه واحد: "يجب أن أخرج من هذا المجال بأقصى سرعة حتّى أستطيع أن أحتمي بأتباعي. يجب أن أهرب من هذه القارّة وألتهم أرواح السحرة قدر المستطاع. اللعنة، لماذا لم أفعل هذا ما أن اخترقت إلى المستويات الروحيّة؟ تبّا...!"

كان الوايفرن واثقا للغاية، وكان ذلك لسبب جيّد، إلّا أنّ وجود شخص مثل باسل لم يكن في وضع الحسبان.

ترك باسل الرمح مغروسا في الأرض وتحرّك متتبّعا حركة الوايفرن من فوق الأرض. لقد كان يستطيع أن يشعر به بتحكّمه الحكيم السليم الذي جعله قادرا على التحكّم في استشعاره الروحيّ لدرجة مخيفة، إذ صار قادرا على معرفة عدد النمل والدود الموجود تحت باطن الأرض حتّى.

قفز باسل فجأة ثمّ اندفع بسرعة فائقة نحو الأرض من جديد وقبضته تتقدّمه، فإذا به يخترق الأرض التي تزلزلت وانشقّت وصُنِع نفق يؤدّي مباشرة إلى مكان الوحش.

اهتزاز

وجد الوايفرن نفسه فجأة تحت قوّة غامرة لم يستطِع مراوغتها بسرعته البطيئة.

كسر

تحطّم درعه المتصدّع وانكسرت عظامه وفُرِم بعضا من لحمه تحت قوّة لكمة انفلاق السماء، وشُلّ جسده تماما لقليل من الوقت.

فتح عينيه ليجد باسل بجانبه، فإذا به يصرخ من الهلع ويتسارع دمه بشكل مذهل، فتوهّج حجر الأصليّ المشقوق وعصر كلّ ما يملك من طاقة متبقّيّة واستخدمها كلّها من أجل تزويد التعاويذ الذهنيّة الروحيّة بالطاقة اللازمة لتفعيل الفنّ القتاليّ.

فرقعة

تفرقع الصوت في المرّة الأولى فاختفى الوايفرن قبل أن يتفرقع الصوت عدّة مرّات متتالية بدون أيّ وجود للوحش.

كان باسل على أهبة الاستعداد نظرا لكونه يعلم أنّ كلّ ما يجول في خاطر العدوّ هو الهرب حاليا، لذا ما أن اختفى الوحش حتّى كان باسل خلفه بالضبط.

كانا هذه المرّة في السماء.

كانا سريعين لدرجة جعلت فيها كلّ تحرّكاتهما السابقة تبدو بطيئة.

انشقّ حجر الوحش الأصليّ أكثر وكان ذلك علامة على تجاوزه حدود طاقته، فهو لم يعد يستخدم الطاقة الروحيّة بشكل عادي، بل بدأ يستخدم الطاقة التي تكوّن الحجر الأصليّ نفسه؛ كلّ هذا من أجل نجاته.

تكلّم باسل بروية بينما يتبع الوحش: "أخبرني، لقد قلت سابقا أنّك وُلِدت هنا، كيف ذلك؟ هذا العالم لا يملك سلالة الوايفرن التي تفضّل العوالم الروحيّة الغنيّة بالطاقة. هل تعلم شيئا عن كيفيّة وصولك إلى هنا؟"

كان الوحش في حالة يُرثى لها، سواء جسديّا أو ذهنيّا أو روحيّا، لكنّ هذا الشقيّ يسأله مثل هذا السؤال في مثل هذا الوقت. هل يعبث معه الآن؟

كان غضب الوحش بنفس درجة خوفه، لكنّه عجز فعل شيء غير الهرب.

صرخ يائسا: "ستندم على هذا يا أيّها اللعين. أقسم لك أنّك ستندم على هذ-"

انقطع كلام الوحش فجأة، ولمّا علم عن السبب وجد جسده مثقوبا، وحجره الأصليّ غير موجود.

حدّق إلى باسل فوجد الحجر الأصليّ بيده، فقال بصعوبة شديد بينما يضعف صوته شيئا فشيئا: "ذلك... إنّه يخصّني... أعد..ه إلــ...ـيّ..."

سقطت جثّة الوحش بعدما مات، فظهر في مكانها طيف أزرق فاتح اتّخذ شكل الوايفرن لكنّه كان صغيرا للغاية، وبالضبط بحجم القبضة.

نظر باسل بعد ذلك إلى الحجر الأصليّ في يده ثمّ اقترب إلى الطيف وقال: "حسنا، لنجمع روحك الآن."

كان ذلك الطيف هو روح الوايفرن، والتي استطاع باسل، بعدما صار صاعدا، رؤية مثلها عند العديد من الوحوش السحريّة بالرغم من اختلافها قليلا كاختلافها مثلا من حيث كثافة طاقتها وقوّة إرادتها.

والآن بعدما صار سيّدا روحيّا، كان قادرا على لمس تلك الأرواح، ولهذا وضع يده على روح الوايفرن التي كانت ما تزال هناك، ودمَجها بالحجر الأصليّ، فدخلت إلى الحجر الأصليّ كما لو أنّها تعود إلى مكانها الطبيعيّ.

نبض قلب باسل بسرعة كبيرة وبدأت الجروح تظهر على لحمه وشحُب وجهه كثيرا؛ كانت تلك علامة على بلوغه حدوده. لم يعد احتواء الضرر ممكنا حتّى بالحكمة السياديّة وشفاء جسده الذاتيّ المذهل.

لقد كان يجب عليه البدء في عمليّة الاستحواذ حالا.

ظهرت الأرض الواسعة تحت قدميه، فوضع عليها الحجر الأصليّ، فإذ به يُمتصّ تدريجيّا حتّى اختفى تماما بها، فأعاد باسل الأرض الواسعة إلى روحه وبدأ عمليّة الاستحواذ على روح الوحش.

كان يجب على الشخص دمج طاقة الحجر الأصليّ بنفسها مع طاقة الأرض الواسعة، ودمج روح الوحش مع روح الساحر بأكملها، ولهذا توجّب إزالة الشوائب الضارة من طاقة الحجر الأصليّ والروح على حدّ سواء.

لم يكن لباسل مشكلة في هذا في الواقع، بل كان هذا هو الجزء الأسهل بالرغم من صعوبته وأهمّيته للعديد من السحرة، ولكن باسل كان عليه الآن أن يستغلّ هذه الروح التي أعدّها السارق الخسّيس من أجل موازنة الاضطراب.

تمتم باسل: "والآن، فلنجعل العوالم تشهد أو ساحر روحيّ يملك روحين."

كانت الأرض الواسعة التي ظهرت في بحر روح باسل تُعدّ روحا بذاتها، ولهذا عندما كان يكوّن روحه الخاصّة بينما يخترق إلى المستويات الروحيّة، كان عليه فصل تلك الأرض الواسعة عن الأرض الواسعة التي سينشئها بنفسه كساحر روحيّ.

وبسبب هذا أصبحت لديه أرضين واسعتين، وبمعني آخر، أصبح يملك روحين.

كان هذا غير اعتيادي أبدا، فلا جسد كان قادرا على احتواء روحين، ولا روحين كانتا قادرتين على الوجود بتناغم في جسد واحد.

ولكن باسل حصل على جسد مذهل عند لقائه بالوحش النائم، لذا أتمّ شرط وجود جسد قادر على احتواء روحين، وتبقّى له الشرط الثاني، ألا وهو مناغمة الروحين.

فهم باسل أنّ السارق الخسّيس قد أعدّ روح هذا الوحش حتّى يناغم بين الروحين، لكنّه لم يكن متأكّدا مئة بالمئة. فالتناغم الذي سعى السارق الخسّيس كان مختلفا تماما عن التناغم الذي يحاول هو فعله.

فالسارق الخسّيس كان يحاول فقط دمج أرض واسعة بالأخرى، أيّ جعلهما أرضا واسعة واحدة من جديد، واحتاج لروح وحش قادرة على الارتباط بكلا الأرضين الواسعتين، لكنّ باسل كان يحاول الحفاظ على استقلاليّة كلّ أرض واسعة بينما يحافظ على تجانسهما معا.

ظهر الحجر الأصليّ من الأرض الواسعة فجأة، لكنّه كان في الواقع نصفا فقط. طاف هذا النصف في المجال الروحيّ والتصق بالأرض الواسعة الثانيّة التي كانت أصغر من الأولى.

مرّ بعض الوقت بينما يعاني باسل، فبدأت الأرض الواسعة الثانيّة تكبر حجما بينما تصغر الأرض الواسعة الأولى، واستمرّ ذلك حتّى أصبح حجمهما متساويا.

توهّجت الأرضان الواسعتان في نفس الوقت فحلّقت طاقات العناصر السحريّة من الأرض الواسعة الأولى مرورا إلى الثانيّة، واندمجت معها، فتكوّنت هناك ثلاثة عناصر مماثلة للأصليّة في الأرض الواسعة الأولى.

صار جسد باسل ليّنا كما لو كانت عظامه تنصهر تحت لحمه الذي احمرّ من السخونة حتّى اشتعل وبدأ يحترق.

أسرع باسل وكوّن حاجز يربط الروح الأولى بالثانيّة، وكان هذا الحاجز مكوّنا من تعاويذ الحكمة السياديّة وحروفها الرونيّة. فعل هذا حتّى يحاصر بقايا السارق الخسّيس التي كانت تسكن الروح الثانيّة.

وعندما نجح في هذا أخيرا ظهرت روح الوايفرن تطفو بين الأرضين الواسعتين، بينما تتوهّج بضوء أزرق فاتح يمتدّ منها على جهتين، ويرتبط بكلّ أرض واسعة.

توهّج جسد باسل وانطلقت الطاقة تصاعديّا من جسده بعدما صنعت دويا من شدّة قوّتها.

كانت تلك الطاقة كثيفة للغاية حتّى أنّها جعلت العديد من الوحوش السحريّة تهرب إلى أبعد مكان ممكن بالرغم من أنّها أصلا بعيدة عن المجال الذي يوجد فيه باسل.

تجلّت صورة باسل بعدما تبدّدت تلك الطاقة التي أحاطت جسده قبل قليل، فإذا به يظهر على خير وسلام، مشفى معافى كما لو أنّ شيئا لم يحدث.

أحكم قبضتيه وصرخ: "لقد نجحت! لقد فعلتها! يا معلّمي، لقد فعلتها حقّا! لقد كانت روح الوايفرن بتلك الحكمة التي تلقّتها قادرة على الارتباط بكلا الروحين والمساهمة في مناغمتهما حقّا. وهذا لم يكن لينجح في النهاية بدون الحكمة السياديّة. لم أخب ظنّك بي يا أيّها المعلّم!"

شعر باسل بسعادة لا توصف، وليس فقط لأنّه نجح في فعل ما لم يسبق لأحد النجاح فيه، بل أيضا لأنّه أحسن استخدام الحكمة السياديّة التي تلقّاها من معلّمه. لقد كانت السعادة تغمره لأنّه لم يضع تضحيّة معلّمه هباء.

ابتسم ثمّ قال: "حسنا، الآن يمكنني فعل ذلك أيضا."

مدّ يده فإذا بالرمح ينقلع من الأرض ويأتي محلّقا إلى يده.

كان الرمح ليصرخ بسبب هذا في العادة، لكنّه كان متحمّسا للرحيل أخيرا بعدما انتهى باسل.

"هيّا، أخيرا سنذهب. لا تخبرني أنّك ستبدأ بصنع سلاحك الروحيّ أيضا. ذلك سيتطلّب وقتا طويلا ولا يسعني تحمّل دقيقة أخرى هنا."

قال باسل بينما يحافظ على ابتسامته: "لا تقلق، سنخرج في وقت قريب، لكنّني بالفعل سأصنع سلاحيّ الروحيّ قبل ذلك."

"هاه؟" صرخ الرمح: "لا تعبث معي يا أيّها اللعين. صنع السلاح الروحي يستغرق أسابيع حتّى ينتهي كلّيّا، فكيف لك أن تخبرني أنّنا سنذهب في وقت قريب؟ دعني من هذا الكلام، أنا أريد الذهاب الآن، حالا، توّا، فورا."

كانت ابتسامة باسل ما تزال تعتلي وجهه: "سترى. فأنا لن أصنع سلاحا روحيّا من البداية، بل فقط سأجعل سلاحا روحيّا سلاحيّ الروحيّ."

ضحك الرمح الطاغية: "فافافافهمت، وكيف ستفعل ذلك بالضبط؟ هل تظنّ أنّه فقط لأنّك تملك الحكمة السياديّة يمكنك فعل ما تشاء؟ فافافا!"

ضحك الرمح باستمرار: "وأصلا، أين يمكنك أن تجد سلاحا روحيّا جاهزا؟ هل نسيت أنّك الساحر الروحيّ الوحيد في هذا العالم؟"

حدّق باسل إلى الرمح ولم يزح تلك الابتسامة عن وجهه، فلم يسع الرمح سوى أن يقول: "لماذا تستمرّ بالابتسام بهذا الشكل. إنّ هذا مقزّ..."

لم يكمل الرمح كلامه حتّى استوعب كلام باسل أخيرا. لقد استبعد نفسه من لائحة الأسلحة الروحيّة التي يمكن السيطرة عليها بسبب غروره وقوّته، لكنّه تذكّر أخيرا أنّ هذا الشقيّ يملك سلطة عليه.

"انتظر، لا تخبرني... لا تفعل هذا! إنّك تمزح، أليس كذلك؟ دعنا نهدّئ أعصابنا، حسنا؟ لنتكلّم بروية ونفهم ما يدور هنا."

قال باسل: "الوحيد الفاقد أعصابه هنا هو أنت. إنّني في كامل هدوئي ورزانتي حاليا."

صرخ الرمح وحاول الابتعاد عن باسل لكن بدون جدوى: "هيّا، لا تكن سخيفا، هذه إحدى خدعك القذرة، أليس كذلك؟ إنّك تحاول أن تعبث معي فقط، أليس كذلك؟"

ابتسم باسل في وجهه فصرخ الرمح: "اللعنة، تلك الابتسامة من جديد. إنّها الابتسامة اللعينة التي تفعلها عندما تخطّط لفعل شيء خبيث."

توهّجت جبهة باسل الذي بدأ يردّد: [ما العالم الواهن إلّا جزء لا يتجزّأ من سيادة الفلّاح الفاطن. من حاول حلّ اللغز والهروب من النكران ضاع في بحر السلوّان، كلٌّ ارتهن في هوان وامتهان، حتّى يحين أوان كشف البهتان وجلب الأمان والاطمئنان، ببرهان السلطان ذو الطغيان.]

[أنا السلطان!]

توهّج الرمح الطاغيّة حتّى تحوّل هو بنفسه إلى ضوء اندمج بعد ذلك مع الضوء المنبعث من جبهة باسل.

لم يسع الرمح فعل شيء بينما تخضع روحه لسيطرة باسل، وفجأة أحسّ بشيء غريب، شعر كما لو أنّه يذوب كحديد يُصهر ليُخلط بعنصر آخر. كان ذلك الإحساس مشمئزّا بالنسبة له بما أنّه لطالما امتلك سلطة متفرّدة، ولكنّ ذلك الشعور كان دافئا في نفس الوقت نظرا لكونه قد اختبر وحدة قاسية لعصور مضت.

"ما الذي تفعله يا أيّها الشيطان الصغير؟! توقّف...!"

كان الرمح مذعورا كونه وجد نفسه يُجذب إلى أعماق روح باسل، بلا حول ولا قوّة.

ابتسم باسل نفس الابتسامة التي بدت للرمح شيطانيّة، وردّ بشكل ساخر: "ماذا؟ أظننتني سأخضعك لي ببساطة؟ بالطبع لا! لقد أخبرتك، إنّني عزمت على تحدّي السارق الخسّيس ولو عنى ذلك سرقة كلّ شيء منه والتعرضّ لخطر سلبه جسدي وروحي منّي، ووفقا لذلك، سأجعلك تصاحبني في رحلتي."

صرخ الرمح: "إنّي ألعنك ما حييت يا أيّها الشقيّ القذر...!"

***

لم يمرّ وقت طويل حتّى كان الرمح الطاغيّة مندمجا بروح باسل الثانيّة، والتي كانت هي الروح التي يسكنها السارق الخسّيس. كان لا بد من دمجه بالروح الثانيّة حتّى يتمّ ذلك بنجاح كون طاقة تلك الروح مألوفة لطاقة الرمح كثيرا.

جعل هذا الأمر دمج الرمح بالروح سلسا، لكنّه جعله خطرا للغاية على باسل، إذ كان الرمح سلاح السارق الخسّيس الروحيّ، وقد يستغلّه هذا الأخير من أجل أخذ السيطرة.

كان باسل يعي بهذه المخاطر، ومع ذلك فعلها؛ أراد أن يحطّم كلّ ما بناه السارق الخسّيس كلّيّا. أراد أن يسرق منه كلّ شيء.

صرخ الرمح في أعماق باسل: "يا أيّها الشقيّ، إن لم تجسّدني في الخارج حالا، فسأجعل حياتك مريرة."

تنهّد باسل ثمّ قال: "لا تقلق، لم أكن أنوي فعل ذلك أصلا. لن يسعني تحمّل ثرثرتك في أعماق روحي."

توهّج جسد باسل وانبعث منه ضوء تشكّل على شكل رمح؛ كان ذلك هو الرمح الطاغيّة.

شعر باسل أنّ الرمح يحملق إليه، فقال: "ماذا هناك؟"

ردّ الرمح: "لقد فعلتها حقّا. لقد تجرّأت وفعلتها اخيرا يا أيّها اللعين. تذكّر، إنّك ستندم على هذا."

تجاهل باسل كلام الرمح ثمّ توجّه نحو خارج المجال.

كانت سيطرته على المجال أكثر قوّة بكثير عمّا كانت عليه، لكنّه لم يكن يستطيع استخدام قوّة هذا المجال ولا قوّة ذلك العالم الثانويّ ببساطة لأنّه ذلك سيجعل من نفوذ السارق الخسّيس داخل روحه الثانيّة أقوى فقط.

لاحظ باسل أنّ هناك وحوش سحريّة تنتظره في الخارج، فعلم أنّ هذه وحوش قد أتت إلى هنا بناء على طلب الوايفرن لكنّها لم تستطِع ولوج هذا المجال لوحدها.

كانت هذه الوحوش بالمستوى العاشر فما فوق، فكلّ الوحوش التي كان مستواها أضعف هربت بعدما نجح باسل في مناغمة الروحين وانفجرت طاقته.


كانت الوحوش تحمل نيّة قتل شرسة تجاه باسل، لكنّه ما أن حدّق إليها حتّى تجمّدت في مكانها. لقد كان عددها يصل إلى الآلاف إّلا أنّها لم تستطِع تحريك شعرة من أجسادها.

كان هناك سببان رئيسيّان، فباسل كان سيّدا روحيّا وليس أيّ سيّد روحيّ، بل سيّد روحيّ بروحين، وهذا أمر غير طبيعيّ ولم يُشهد له مثيل في كلّ الأزمنة والأمكنة، فكانت الهالة التي يبعثها شديدة للغاية. أمّا السبب الآخر، فقد كان حقيقة استشعار هاته الوحوش لروح سيّدهم في أعماق روح باسل.

لم تتزحزح الوحوش السحريّة من مكانها وظلّت منتظرة مغادرة باسل بسلام، آملةً ألّا تُقتل على يديه.

لم يهتمّ باسل لها بعد ذلك واتّصل مباشرة بأنمار تخاطريّا؛ لقد خرج أخيرا من المجال الذي كان يمنع اتّصاله.

عبس فجأة وقال: "لمَ هذا لا ينجح؟"

حاول مرّة أخرى لكنّه لم يستطع الاتّصال بها: "هذا غريب!"

غيّر اتّجاه اتّصاله إلى تورتش لكنّ نفس الامر حدث، فحاول الأمر مع باقي قادة التشكيل والكبير أكاغي إلّا أنّه لم يستطع التواصل مع أحد.

قال باسل مستغربا: "ما الذي يحدث بالضبط؟ هل هناك خلل بخواتم التخاطر بعد التحوّل الروحيّ للعالم؟ لا، هذا غير محتمل. إذن..."

وفجأة، تلقّى باسل اتّصالا من شخص لم يتوقّع أنّ يتلقّى اتّصالا منه أبدا. لقد ربط خاتم تخاطره بخاتم تخاطر هذا الشخص فقط من أجل العمل، لكنّهما لم يتكلّما تخاطريّا أبدا.

لقد كان ذلك الجنرال كاميناري رعد.

(ماذا هناك أيّها الرجل الأشقر؟ هل هذا له علاقة بسبب عدم قدرتي على التواصل مع أنمار والبقيّة؟)

لم يقل الجنرال رعد شيئا إلّا بعد مرور قليل من الوقت، لكنّ كلامه لم يكن ردّا على سؤال باسل،
بل مجرّد كلمات متفرّقة، ومتردّدة، ومذعورة: (أ-أ-أ-أنـ-أنا آس-آسف)............يتبع!!!!!!

(الجزء الثاني)


فجأة، تلقّى باسل اتّصالا من شخص لم يتوقّع أنّ يتلقّى اتّصالا منه أبدا. لقد ربط خاتم تخاطره بخاتم تخاطر هذا الشخص فقط من أجل العمل، لكنّهما لم يتكلّما تخاطريّا أبدا.

لقد كان ذلك الجنرال كاميناري رعد.

(ماذا هناك أيّها الرجل الأشقر؟ هل هذا له علاقة بسبب عدم قدرتي على التواصل مع أنمار والبقيّة؟)

لم يقل الجنرال رعد شيئا إلّا بعد مرور قليل من الوقت، لكنّ كلامه لم يكن ردّا على سؤال باسل، بل مجرّد كلمات متفرّقة، ومتردّدة، ومذعورة: (أنـ-أنا آسف... لديّ خبر سيّئ... أرجوك أنصت بهدوء...)

اقشعرّ جسد باسل. لم يكن الرجل الأشقر ليبدأ كلامه بالتأسّف أبدا عندما يتحدّث معه. كان هذا دليلا على جدّيّة الوضع، وخصوصا بعدما أتبعه بقوله 'خبر سيّئ' و'أرجوك'.

(أيّ خبر سيّئ؟)


***

قبل فترة طويلة، وبالضبط عندما انتهى تحوّل العالم الروحيّ الحقيقيّ، في أكاديميّة الاتّحاد المباركة العائمة في السماء.

ترقّبت أنمار والآخرون بحذر أحد الشروخ الفضائيّة التي ظهرت في أنحاء العالم، وخصوصا أنمار التي جعلت حذرها في أقصى الدرجات الممكنة. لقد علمت من باسل أنّ العوالم مختومة عن بعضها لذا لا يمكن لأحد من عالم آخر أن يأتي لعالمهم، لكنّ ما يحدث أمامها ددممّر تلك الفكرة تماما.

ظهر صاحب تلك القدم بالكامل من الشرخ الفضائيّ، فتعجّبت أنمار وحدّقت إليه كما لو أنّها تحاول اكتشاف هويّته، إلّا أنّه كان مجهولا لها، فذلك لم يكن الشيطان الذي توقّعت ظهوره.

"من تلك...؟"

سأل الجنرال رعد لكنّه لم يتلّق إجابة كما لم يتوقّع أصلا أن يتلقّاها. كان ذلك سؤالا خرج من فمه بالفطرة بعدما شاهد شخصا اتخذت هيئته شكل مرأة ارتدت فستانا أحمر يشتعل بلهب أحاط جسدها وركب كتفيها فتشكّل على هيئة عنقاء لوهلة قبل أن يختفي مخلّفا وراءه شرارات ترقص على شعرها الذهبيّ.

كان فستانها المشتعل يغطيّ جسدها لكنّه كان يكشف عن ذراعيها النحيلتين والناعمتين مثلما كان مفتوحا من جهة الفخذين لتظهر ساقيها الرفيعتين. جعل الفستان منحنيات جسدها تُرسَم بأناقة وأبرز صدرها وردفيها فأظهر جمالها بدل أن يخفيه.

كانت الهالة حولها جليلة وكان من الواضح أنّها امرأة عليلة، فالهواء حولها أصبح عطرا طيّبا فقط بوجودها فيه، وانتعشت الأرض عندما نزلت عليها كما لو أنّها تفرح بوجودها. كانت طاقة حياتها مدهشة لدرجة أثرت فيها على المنطقة التي تحيط بها، فالأزهار زهت، والتربة خصبت، والأوجه نضرت.

حدّقت أنمار والآخرين إليها عندما نزلت على الأرض باندهاش، ولم يعلموا عن نواياها إذ كانت مغمضة العينين حتّى الآن.

كانت تحرّكاتها سلسة وراقية، فكلّ خطوة منها جعلتها تبدو في حلّة جديدة.

مشيت فجأة نحو أنمار والبقيّة، فاستعدّ أولئك الأربعة وشحنوا طاقاتهم السحريّة، لكنّ المرأة اختفت من أمام أعينهم دون أن يلاحظوا، وبالرغم من أنّهم حاولوا استشعار حضورها إلّا أنّهم فشلوا.

"&@&@-&&@&@&@&-&&@&@&@-@&@"

سمعت أنمار كلاما من ورائها فجأة فاستدارت وتراجعت في نفس الوقت بضعة خطوات للوراء بسرعة، وذلك ما فعل الجنرال رعد ثمّ تورتش ثمّ التاجر الناصر.


تقطّر وجه أنمار بالعرق بالضبط كما حدث للثلاثة الآخرين؛ لقد وصلت تلك المرأة إلى خلفهم دون أن يشعروا بتاتا بها، حتّى أنّهم لم يدركوا أنّها خلفهم إلّا بعدما تكلّمت.

أمالت المرأة رأسها للجانب قليلا كما لو أنّها مستغربة، ووضعت سبّابتها اليمنى على ذقنها وبدت تفكّر في شيء ما. مرّت لحظات قبل أن تزيل سبّابتها عن وجهها وتشير بها للأعلى كما لو أنّها تذكّرت شيئا، فأظهرت خاتما يبدو أثريّا من خلال النظر إلى الرموز المنقوشة عليه، ثمّ نظرت إلى أنمار.

"نسيت وضع خاتم اللغة. هل تفهمونني الآن؟"

تكلّمت المرأة من جديد لكنّ كلامها هذه المرّة كان مفهوما.

"من أنت؟"

قالتها أنمار بينما تتّخذ أقصى درجات حذرها كالعادة.

حدّقت المرأة إلى أنمار بعمق وقالت: "يبدو أنّكم تفهمونني، إذن لا شكّ في أنّ هذا هو العالم الواهن. لن تعرفوني حتّى لو أخبرتكم عن هوّيتي، لذا سأتجاوز كلّ ذلك وأسألكم عمّا أريد."

تيقّنت المرأة من أنّها في العالم الواهن بعدما علمت أنّ الأشخاص أمامها يفهمونها بعدما وضعت خاتم اللغة على إصبعها.

لم يستطِع أحد من الأربعة قول شيء، فعقولهم ما زالت تحاول مواكبة ما يحصل حاليا.

"هناك عنصر العلاج في العالم الواهن، صحيح؟ أريد أن أسألكم عن سحرة العلاج في هذا العالم. هلّا أخبرتموني أين يمكنني إيجاد أحدهم؟ من الأفضل أن يكون أفضلهم."

تفاجأ الأربعة من السؤال غير المتوقّع على الإطلاق، فومضت صورة شي يو في عقل تورتش، والذي سأل بعدئذ، عابسا: "ما الذي تريدينه منهم؟"

نظرت المرأة إلى تورتش كما لو أنّها تقرأ تعبيراته ومشاعره ثمّ قالت: "أمم... يبدو أنّكم تعلمون أين يمكنني إيجادهم. أنت..."

وجّهت سبّابتها نحو تورتش فانتبه لها، لكنّه وجدها أمامه دون أن يعلم متى تحرّكت.

"أخبرني."

قرّبت وجهها من وجهه وحدّقت بعينيها إلى عينيه عن كثب، فتوتّر تورتش وتجمّد في مكانه عندما وجد نفسه مقيّدا بجمالها الخلّاب؛ فعيناها البرتقاليّتان التهبتا من حين إلى آخر عندما رمشت برموشها الطويلة، والتصقت الشرارات بحاجبيها المحدّ*** اللذين بدوا كما لو كانا مرسوميْن، فأنار وجهُها الناضرُ العقولَ كما تنير الشمس العالم بلهبها.

. وفي نفس الوقت، وجد تورتش بها شيئا غريبا؛ كانت أذناها طويلتين بشكل غريب عن آذان البشر، إذ امتدّتا للجانبين، لكنّهما فقط تناسقتا مع تركيبة وجهها وزادتاها جمالا.

"تورتش!"

صرخت أنمار وأرسلت نيّتها وإرادتها وهالتها في نفس الوقت، فعاد النور إلى عينيْ تورتش بعدما اختفى منهما، فابتعد عن المرأة بضع خطوات، ثمّ هز رأسه أفقيّا وردّ عليها: "لا أعلم."

أمالت المرأة رأسها وابتسمت مغمضة العينين بلطف، فاختفت من أمام ناظر الأربعة لتظهر من جديد أمام تورتش، والذي رأى إصبعا يقترب من جبهته، لكنّه لم يدرك في الواقع أنّ ما اقترب من جبهته كان إصبعا حتّى فات الأوان.

نقرة

حلّق تورتش طائرا لعشرات الأمتار بينما يحتكّ جسده مع الأرض حتّى اصطدم بحجر ضخم بجانب البحيرة المباركة.

اتّسعت أعين الثلاثة الآخرين لمّا رأوا تورتش يحلّق بذلك الشكل بسبب مجرّد نقرة على الجبهة من وسطى يد المرأة اليمنى.

"تورتش!"

صرخت أنمار وأسرعت لترى حال تورتش، فتلك النقرة كانت غير طبيعيّة. لقد كان تورتش ساحرا بالمستوى الرابع عشر لكنّه عومِل كحشرة لا تحتاج لمجهود كبير من أجل القضاء عليها، ومجرّد إصبع واحد كافٍ لسحقها.

وضعت المرأة سبّابتها اليمنى على خدّها وأمالت رأسها قبل أن تقول: "هذه الأخت الكبرى تكره الكذّابين لعلمك♪"

كانت نظراتها عادية، كما لو أنّ ما يحصل حاليا لا يحتاج أن يؤثّر عليها بأيّ شكل من الأشكال.

أكملت بعدما أزالت إصبعها عن وجهها: "لكن لا تقلق، كلّ ما فعلته هو تحذيرك. لم أقتلك 'بعد'. والآن، هل أنتم مستعدّين لإجابتي بصدق؟"


بالرغم من أنّ أنمار ذهبت لترى حول تورتش، إلّا أنّ المرأة لم تحاول فعل شيء لها وظلّت واقفة هناك بصمت كما لو أنّها تنتظر الإجابة التي تنشدها فقط.

حملت أنمار رأس تورتش من رقبته وحاولت إيقاظه: "يا تورتش، أجبني. هيّا، استيقظ. لا يمكن أن تكون هذه نهايتك."

سعل تورتش الدماء مع عودة تنفّسه وحاول فتح عينيه إلّا أنّ الصداع شوّش دماغه وشلّ جسده. كان يحسّ كما لو أنّ هناك صاعقة سقطت عليه من حيث لا يدري. لم يسعه أن يحرّك إصبعا واحدا لبعض الوقت.

أصبحت نظرات أنمار حادّة فالتفتت إلى المرأة وحدّقت إليها بنيّة قتل شرسة جعلت المرأة تندهش حتّى أنّها أخرجت صوتا: "أووه.."

ابتسمت المرأة وقالت: "لديك عينان جيّدتان أيّتها الفتاة الصغيرة. هذه الأخت الكبرى تمدحك♪ أنت تجعلينني أريدك أيضا، لكن أوّلا أريد سحرة العلاج."

لم تُوقف أنمار نيّة قتلها تجاه المرأة، لكنّها مع ذلك كانت قادرة على التفكير بشكل سليم؛ لقد كانت تعلم أنّ الشخص الذي أمامها يمكنه سحق سحرة مستويات الربط بكلّ سهولة ولو اجتمعوا بالمئات والآلاف عليه.

حلّلت الموقف وخصوصا كلمات المرأة، فتلك الكلمات حتّى الآن كانت دليلها الوحيد.

(سحرة العلاج؟ هدفها الأوّليّ؟ خاتم اللغة؟)

فكّرت أنمار فاتّسعت عيناها فجأة بعدما أدركت ما يحصل.

(لا شكّ في أنّ هذه المرأة من عالم آخر، ولكن لا يبدو أنّ هدفها هنا هو العيث فسادا، وإنّما البحث عن سحرة العلاج؟ لماذا إذن؟ لأنّها تحتاج إليهم؟ ولكن لماذا؟)

(تقترب ندرة عنصر العلاج من عنصر التعزيز، وهذه حالته في العالم الواهن، إذن ماذا عن العوالم الأخرى؟ هل باقي العوالم تملك عنصر العلاج أصلا؟)

أدركت أنمار شيئا آخر: (هذه هي، لو أتت للعالم الواهن فقط لتبحث عن سحرة العلاج، فلا بدّ وأنّ عالمها ينقصه عنصر العلاج أو على الأقلّ هو نادر بشكل أكبر من ندرته في العالم الواهن، أو قد تكون فقط تبحث عن ساحرِ علاجٍ واعدٍ بعدما لم تجد موهبة جيّدة في عالمها؟)

(إذن... هي هنا حتّى تأخذ معها سحرة العلاج؟)

(هذا... تبّا، هذا سيّئ للغاية. ذهبت شي يو لتطمئنّ على عائلتي، ويبدو أنّها برفقة هيل، لذا أفضل ساحريْ علاج في العالم الواهن مجتمعين معا. لو أدركت هذا الأمر ستتّجه إلى هناك وتختطفهما، ولكن سوء الأمر لا يتوقّف عند ذلك الحدّ، بل يزيد عندما أفكّر في مقاومة ذينك الاثنين والآخرين. لا أعلم حتّى الآن عنها شيئا لذا لا أضمن عدم قتلها لأيٍّ منّا. حتّى تورتش أصبح على هذا الحال فقط لأنّه كذب عليها.)

(اللعنة، ماذا يجب أن أفعل؟ هل أكذب عليها؟ لكنّها ستعلم بدون شكّ كما حدث مع تورتش.)

(لماذا استطاعت المجيء لعالمنا أصلا؟ أليس الاتّصال بين العوالم مختوما؟ ما الذي حدث...؟)

توقّفت أنمار عند تلك الفكرة فجأة كما لو انّها اكتشفت شيئا، وأعادت ترتيب أفكارها مرة أخرى: (نعم، الاتّصال بين العوالم مقطوع حاليا، ولكن ذلك الختم وُضِع على عالمنا عندما كان سحريّا، فما الذي سيحصل عندما يتحوّل إلى عالم روحيّ إذن...؟)

"أخبريني أيّتها الفتاة الصغيرة، أين يمكنني إيجاد سحرة العلاج؟"

قوطِع تفكير أنمار الذي بدا طويلا للغاية لكن في الواقع لم يستغرق سوى لحظات وجيزة. كانت أنمار في قمّة حذرها وشغّلت دماغها لأقصى درجة، لذا استطاعت أن تفهم الكثير حتّى الآن في مدّة قصيرة جدّا.

والآن، وجدت نفسها بلا خيارات، فهي لا يسعها الكذب ولا تستطيع إخبارها بالحقيقة كذلك؛ لا يمكنها أن تضحّي بـشي يو وهيل، أو ربّما حتّى أشخاص آخرين.

(ماذا أفعل؟ تبّا، ما أفعل؟ يا باسل...)

شعرت بأنمار بضعف الحيلة، فلا شيء كان سينفعها أمام قوّة غامرة كهذه. لقد كانت تعلم أنّ هذه المرأة يمكنها الرؤية عبر وهمها بسهولة كما يمكنها الرؤية عبر أكاذيبها، ويمكن للمرأة أن تقتلها بسهولة أيضا لذا لا يمكن لأنمار محاولة قتالها.

أمالت المرأة رأسها للجانب قليلا: "أمم... لا أظنّ أنّك لم تسمعيني، فلماذا لا تجيبينَني؟ هل..."

رأت أنمار المرأة ترفع قدمها بينما تتكلّم، وفجأة أصبح صوتها البعيد قريبا بدون أن يقتطع كلامها: "...يمكن أنّك تفكّرين في إخفاء الحقيقة عنّي؟"

كانت المرأة أمام أنمار، ومرّة أخرى وصلت بدون أيّ إشعار؛ لقد كانت سرعتها جنونيّة وملاحظتها لم تكن ممكنة.

بلعت أنمار ريقها: "أنا... أنا لن..."

حاولت أنمار قول شيء ما لكنّها توقّفت فجأة عندما رأت المرأة تنظر إلى اتّجاه آخر. نظرت أنمار إلى نفس الاتّجاه فلاحظت نفس الشيء يحدث بأحد الشروخ الفضائيّة كما حدث عند ظهور هذه المرأة، إذ ظهرت قدمٌ أوّلا قبل أن تتجلّى صورة الشخص الذي خرج من الشرخ.

عبست المرأة عندما رأت ذلك الشخص وأصبح تعبيرها جدّيّا بعدما كان عاديا.

"نيهاهاها! يبدو أنّني بالفعل وصلت إلى العالم الواهن. إذن العوالم الأربعة عشر الرئيسيّة أصبحت كلّها عوالم روحيّة الآن. مثير للاهتمام، بالفعل مثير للاهتمام. هل يا ترى توقّع الملك الأصليّ حصول ما يحصل الآن أم لا؟ حسنا، ذلك لا يهمّ. إنّني متشوّق لرؤية التغيّرات التي ستحدث على العوالم الروحيّة الآن، نيهاهاها!"

كان هذا الشخص يبدو قصير القامة للغاية، وكانت أذناه طويلتين لكنّ طولهما امتدّ للأعلى، وارتدى درعا غطّى جسده بأكمله لكنّه لم يستطِع إخفاء تلك العضلات الزاخرة وذلك الجسد العريض الذي بدا بمقدوره حمل جبل بكلّ سهولة بالرغم من قصره.

كانت لحيته الكثيفة والطويلة تزيد من رجولة منظره الرجوليّ، وظهر شعر رأسه المضفور من تحت خوذته التي كان لها قرنان بدَوَا كنابيْن من أنياب تنّين ما.

زادت تعبيرات المرأة سوادا عندما سمعت الرجل القصير يتكلّم، ولم تحاول كبح نيّة قتلها التي كانت ترسلها باتّجاهه منذ ظهوره.

وبالطبع، شعر الرجل القصير بذلك فالتفت ليجد المرأة تحملِق إليه، فاسودّ وجهه هو الآخر ونظر باستحقار إليها.

"هذا يا هذا♪ أوَ ليست هذه شمطاء الوباء؟ أوه، أوه، إنّها حقّا شمطاء الوباء! إذن سبقتني إلى هنا أيّتها الشمطاء. نيهاهاها! يا للقدر♪ لم أظنّ أنّني سأجتمع بك بهذه السرعة بما أنّ الاتّصال بين العوالم مقطوع، لكن الشخص لا يمكن أن يعلم ما يمكن أن يحصل في هذا العالم الفسيح. آنا مخطئ يا شمطاء الوباء؟"

بدأ الرجل القصير يخاطب المرأة وكان من الواضح أنّه يعرفها وتعرفه.

انزعجت المرأة أكثر بعدما سمعته فتكلّمت معه بنبرة معاديّة: "تشه، إنّ فمك قذر وثرثار كعادته يا أيّها الفاصولياء المشعَّرَة."

ردّ الرجل القصير عليها: "هذا يا هذا♪ لستُ بمستواك بعد. لربّما بعد عشرة آلاف سنة قد أصبح بمثل قذارتك وخبثك، نيهاهاها!"

***

لم تعلم أنمار في هذه الأثناء إذا كان ظهور الرجل القزم علامة جيّدة أم سيّئة، إذ خشيت أن يكون هدفه يشابه هدف المرأة الغامضة.

راقبت ما يحدث بين هذين الاثنين بينما تحاول مساعدة تورتش على جمع شتاته، لكنّها لم تستطع أن تتحرّك قيد أنملة في حضور تلك المرأة.

كانت محادثة المرأة والرجل القزم مفهومة للحاضرين نظرا لاستخدام كلّ منهما خاتم لغة العالم الواهن.

كانت هذه الخواتم يمكنها جعل الشخص يفهم أيّ لغة في العالم الذي صُنِعت من أجل فهم لغته، فهذه الخواتم استغّلت الموجات السحريّة من أجل ترجمة الأفكار المنطوقة إلى كلمات مفهومة.

بالرغم من أنّ العالم الواهن يملك لغة واحدة حاليا، فهو لم يكن كذلك في الماضي البعيد، ومع ذلك، حتّى لو تعدّدت لغاته كانت خواتم اللغة لتجعلها كلّها مفهومة لمالكها.

اختُرِعت خواتم اللغة بناء على نفس مبدأ فكرة خواتم التخاطر، فهذه الأخيرة جعلت الموجات السحريّة تنقل الأفكار بين شخصين ربطا روحيهما، بينما اقتصر دور خواتم اللغة على ترجمة الفكرة التي يحاول الشخص تبليغها عبر كلماته عن طريق الموجات السحريّة.

قالت المرأة بنبرة حاقدة: "ما الذي أتى بكرَة مشعّرة مثلك إلى هنا على أيّ حال؟ ألم تعزل نفسك منذ مدّة طويلة؟"

"نيهاهاها،" أجاب الرجل القزم: "لماذا تهتمّين بشؤوني هكذا يا أيّتها الشمطاء؟ هل ربّما تخافين أن أفسد عليك الأمر الذي أتيت من أجله إلى هنا؟ لا تقلقي، فالآن بعدما رأيتك، سأجعل كل درب تقطعينه أضيق من شرجك."

بصق

بصقت المرأة بعدما لم تتحمّل سماع كلامه وقالت: "لو تدخّلت في أموري فسأجعلك..."

قاطعها الرجل القزم ولم يسمح لها بإكمال كلامها وقال: "دعينا لا نقل العبارات المبتذلة، فليس كلّ شخص هنا يستطيع تحمّل الهراء والخراء كما تعلمين."

بالفعل كان الرجل القزم بذيئا في كلامه.

عبست المرأة بشدّة وأرادت قطع حنجرة الرجل القزم حالا.

نظر الرجل القزم إلى أنمار وتورتش ثمّ إلى الآخرين بينما يداعب لحيته، فارتفعت زاوية فمه وقال: "يبدو أنّك تحظين بوقت ممتع هنا، لمَ لا تشاركيني ذلك قليلا؟"


قالت المرأة بنظراتها العبوسة: "اهتمّ بشؤونك الخاصّة. لو أتيت إلى هنا لغرض ما فاذهب لقضائه. لست متفرّغة لنزواتك حاليا."

استمرّ الرجل القزم في مداعبة لحيته الطويلة بهدوء وقال: "أتيت إلى هنا لغرض واحد، وهو العودة ببعض الثمار التي تحتاج للرعاية المناسبة، وبلا شكّ ذلك هو نفس الغرض الذي أتيتِ من أجله، فلا داعٍ للمراوغة."

وضعت المرأة يدها تحت شفتها السفلى وقالت ساخرة: "فوفوفو، لم أكن أعلم أنّك مهووس بي لهذه الدرجة♪"

ضحك الرجل القزم مباشرة بعد ذلك وردّ: "نيهاهاها، ألا تعلمين أنّ كاره الشخص يعلم عنه أكثر من محبّه؟"

عمّ الصمت فجأة ولم يتكلّم أيّ منهما، لكنّ تلك النظرات التي كانا يتبادلانها عنت أكثر من ألف كلمة. لقد كانت الكراهيّة تتملّك كلّ واحد منهما تجاه الآخر.

اصطدام

دوي


لم تعلم أنمار والآخرين ما حدث إلّا بعدما ذلك الصوت الذي هزّ طبول آذانهم ودوّخ عقولهم وزعزع رزانة أرواحهم.

حدّقوا إلى السماء فوجدوا قبضة المرأة ملتقيّة بقبضة الرجل القزم، بينما تغطّي هالتهما الأرض المباركة بأكملها. لقد كان واضحا أنّهما كانا في مستوى شاهق بالمستويات الروحيّة.

كان عقل الجنرال رعد مشوّشا ولم يسعه سوى أن يتذكّر شعوره بالعجز الذي أحسّ به عندما التقى بذلك الشيطان في يوم الدمار الشامل.

أصبحوا كلّهم مجرّد شخصيّات ثانويّة في حدث يقوده ذانك الاثنان. كانوا مجرّد تحليّة في حضور الطبق الرئيسيّ.

***

ظهرت الشروخ الفضائيّة في مختلف أنحاء العالم، وحدث في بعضها كما حدث بالضبط في الشرخين اللذين ظهرا فوق أرض الأكاديميّة.

ظهرت امرأة من أحد الشروخ الفضائيّة كانت ترتدي الأسود من رأسها إلى أخمص قدميها، إذ غطّى معظم جسدها فستان أسود تزيّنت زواياه بشكليْ القمر والشمس، ووصل شعرها الأسود بطوله إلى ركبتيها.

كانت عيناها سوداوين حالكتين، وبدتا تحملان ظلاما غير محدود، بدون أيّ إشارة لبعض من الضوء فيهما.

ظهر بجانبها رجل ارتدى بدلة سوداء هو الآخر، وامتلك شعرا أسود ربطه على شكل ذيل حصان، وعينيْن خضراوين تألّقتا عندما انعكس فيهما الضوء كأرض الطبيعة المسالمة التي تزيّنها الورود والزهور.

نطق الرجل: "هل حقّا تظنّنين أنّ النصف الآخر موجود في هذا العالم يا ملكتي؟"


كانت نظرات المرأة جامدة كما لو أنّها جثّة متحرّكة، وحتّى الرمش لم ترمشه، وأجابت دون أن تغيّر تصرّفها ذاك: "لقد دلّتني المرآة إلى هنا قبل سنين، لكنّني لم أستطِع المجيء بسبب الملك الأصليّ. الآن، يمكنني فعل هذا."

ظهرت أمامها مرآة بيضويّة الشكل، وبلغ طولها طول الشخص الطبيعيّ، وتزيّنت زخرفتها بنقوش تنانين على إطارها. كان هناك تنّينان أفعويّان على الجانبين وتنّينان مجنّحان في الأعلى والأسفل.

حدّقت المرأة إلى المرآة وأطالت في ذلك كما لو أنّها تستمتع بالنظر إلى نفسها، بالرغم من أنّ تعبيراتها كانت جامدة.

قالت أخيرا بعد مدّة طويلة: "مرآتي يا مرآتي، اعكسي روحي وجدي لي نصفيَ الآخر."

مرّت بعض اللحظات قبل أن يتموّج سطح المرآة كبركة من الماء وتختفي صورة المرأة عليها وتبدأ بعض الألوان في التشكّل لترسم في النهاية شيئا آخر.

كان الشيء المرسوم عبارة عن شخص في الواقع، كان هذا الشخص شابّة تبدو في مقتبل العمر، وبدت معاكسة تماما للمرأة التي تحدّق إلى المرآة، إذ كانت تملك شعرا أبيض وعينين بيضاوين ووجها ناضرا مفعما بالحيويّة.

لقد كانت هذه الشابّة هي أزهر شيرايوكي!

قال الرجل بعدما تنهّد: "وأخيرا، أخيرا بعد سنين مديدة يمكن لأمنيّتك أن تتحقّق يا ملكتي! إنّني في غاية الشوق إلى رؤية حلمك يصير حقيقة!"

لم تنظر المرأة إليه حتّى وقالت: "إنّني أعلم أين أتّجه بالتحديد الآن. اتبعني يا 'وفيّ'."

"سمعا وطاعة يا ملكتي."

تحرّك الاثنان بسرعة فائقة واختفيا في الأفق.

***

في مكان آخر، ظهر أحدهم بدا هادئا لكن مختلفا عن المرأة التي ظهرت سابقا. فهذا الرجل لم يكن جامدا بتعبيراته ولكن رزين فقط. كانت عيناه حادّتين للغاية وعندما أغمضهما لم يفتحهما بعد ذلك إلّا نادرا كما فعل عندما ظهر في العالم الواهن.

لبس رداء ذا قلنسوة لونه أسود فلم يظهر شعره بسبب ذلك، وسروالا بنفس السواد ممّا جعله يبدو غامضا ومريبا.

التفت إلى جهة محدّدة بعدما بدا كما لو انه أدرك شيئا وتمتم: "معركة بهذا الاتّجاه؟ إذن هذا لم يحدث بين هذا العالم وعالمنا فقط. يبدو أنّ تحوّل هذا العالم الروحيّ جعل الختم يختلّ بسبب الطاقة الهائلة التي تصاحب التحوّل."

فكّر لبعض من اللحظات قبل أن يقرّر: "حسنا، لمَ لا نذهب لنرى ما الذي يتصارع من أجله هؤلاء."


انطلق بسرعة كبيرة كما فعلت المرأة والرجل سابقا.

***

في إحدى أراضي إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، ظهر شخص يركب تيّارا مائّيا ويصنع خلفه أقواس قزح كلّما تقدّم بعضة أمتار. كان لديه عينان زرقاوان وشعر أسود طويل بدا حريريّا وسلسا.

سُحِر الناس بمنظره عندما رأوه، فأغرمت به البنات وتطلّع إليه الرجال، وجعل وقاره العجائز يكنّون له الاحترام. بدا كصورة قدمت إلى الحياة.

نزل الرجل في إحدى المدن ثمّ اقترب من فتاة وسألها بصوت عذب وحنون: "أيمكنني سؤالك من هو أقوى شخص في هذا العالم؟"

ذابت الفتاة تحت نظراته وأمالت رأسها ثمّ اجابت برقّة: "بالطبع، إنّه جنرال إمبراطوريّتنا الأعلى، السيّد باسل."

ابتسم الرجل بوجهه البشوش فتسارعت ضربات قلب الفتاة أمامه وحسدها باقي الفتيات حولها.

لقد كان جميلا لدرجة جعل فيها النساء يعجبن به من النظرة الأولى. كان جماله هادئا على عكس باسل الذي كانت وسامته مشتعلة.

سأل الرجل الفتاة مرّة أخرى: "إذن أين يمكنني إيجاده؟"

ردّت الفتاة كما لو أنّها تحت مخدّرة: "لا أعلم، لكن يشاع أنّه في أكاديميّة الاتّحاد المباركة."

"أكاديميّة الاتّحاد المباركة؟" تساءل الرجل مع نفسه قبل أن يسأل مرّة أخرى: "أيمكنك الإشارة بيدك إلى الاتّجاه الذي يؤدّي إليها؟"

رفعت الفتاة يدها ثمّ أشارت بها بينما تحدّق إلى الشابّ. لم ترد إزاحة نظرها عنه. بالرغم من أّنّ وجهها كان محمرّا نظرا لخجلها، إلّا أنّ رغبتها في رؤيته تفوّقت على خجلها.

ابتسم الرجل ثمّ قال: "كما كان مقدّرا لنا الالتقاء اليوم، آمل أن يجمعنا المصير في يوم آخر. طاب يومك."

قال ذلك واختفى ولم يعلم ذلك الناس إلّا بعدما لاحظوا قوس قزح في الأفق.

اقترب بعض الجنود بسرعة كبيرة أخيرا ليروا ما حدث في هذه الأرجاء التي غمرتها صرخات البنات، لكنّهم وجدوا مصدر ذلك قد اختفى.

وبعدما استقصوا عن الأمر، تعجبّوا من طريقة سؤال ذلك الشخص. قال واحد من بينهم: "ولكن، ألم يتغيّر عالمنا كثيرا بعد التحوّل الروحيّ الذي شهدناه؟ هل ما زالت الأكاديميّة في نفس موقعها المعهود؟ وحتّى لو كانت كذلك، موقع هذه المدينة بنفسه تغيّر لذا لا يجب أن تكون إجابة تلك الفتاة دقيقة."


كان هؤلاء مجرّد جنود بسطاء لذا لم يعلموا حتّى الآن عمّا حدث للأكاديميّة.

ردّ شخص آخر: "من يهتمّ؟ لنعد إلى مواقعنا."

***

ظهر هذه المرّة شخصان بالقرب من الأكاديميّة، وشعر كلاهما بالمعركة التي كانت تحدث هناك.

كان الأوّل يرتدي رداء بدا مصنوعا من الجليد، وكان على رأسه تاج صغير بدا مصنوعا من الألماس ومزيّنا بأحجار كريمة بدت مغمورة بالطاقة الروحيّة.

كان الثاني شاحب الوجه بشعر شائك وعينين فارغتين من الحياة، كما لو كان شبحا وليس شخصا.

اتّجه كلاهما في نفس الوقت تجاه الأكاديميّة فوجدا منظرا مثيرا للاهتمام، ولم يسعهما سوى أن يقولا نفس الشيء: "التنين الصغير يقاتل عنقاء الشفاء!"

توقّف الرجل القزم الذي لُقِّب بالتنين الصغير وتلك المرأة التي لُقِّبت بعنقاء الشفاء عن القتال فجأة ونظرا إلى من ظهر فجأة.

ضحك التنين الصغير وقال: "نيهاهاها، أهلا وسهلا♪ يبدو أنّ هذا اليوم سيكون مشوّقا للغاية."

ظهرت بعد ذلك مباشرة المرأة التي بدا أنّها تبحث عن شيرايوكي برفقة الشخص الذي بدا خادما لها.

عبست عنقاء الشفاء وقالت بينما تنظر إلى المرأة التي أتت برفقة خادمها: "انظر إلى من أتى، أو ليست هذه الملكة الشريرة وخادمها 'وفيّ'."

أطلقت عنقاء الشفاء لقب الملكة الشريرة على تلك المرأة، والتي لم تنزعج ولم تحاول الردّ عليها حتّى.

قال التنين الصغير بابتسامة: "إذن، هل يمكنني تخمين أنّكم كلّكم أتيم إلى هذا العالم من أجل الغرض نفسه؟"

تكلّم الرجل ذو التاج الألماسيّ: "إنّها قاعدة غير مكتوبة أن تذهب للبحث عن المواهب الصاعدة في العالم الذي يتحوّل إلى عالم روحيّ."

فهم الشخص ذو التاج الألماسيّ ما قصده التنين الصغير لذا أجاب طبقا لذلك.


قال التنين الصغير: "هذا ما قاله أمير مملكة الصقيع، فماذا عنك يا شبح أرض الموتى؟"

يبدو أنّ الرجل ذو التاج الألماسيّ كان يُلقّب بـ'أمير مملكة الصقيع'، بينما كان يطلق على الرجل ذي الشعر الشائك 'شبح أرض الموتى'

أومأ شبح أرض الموتى رأسه فقط ردّا على التنين الصغير.

نظر التنين الصغير بعد ذلك إلى الملكة الشريرة ثمّ تنهد وقال: "أظنّ انّه لا حاجة لسؤالك أنت."

يبدو أنّه استطاع معرفة سبب قدومها إلى هنا بدون الحاجة للسؤال حتّى، وكان السبب هو معرفته لها.

كان كلّ هؤلاء الأشخاص عبارة عن سحرة روحيّين مشهورين للغاية في العوالم الروحيّة، وكلّ واحد منهم علم الكثير عن الآخر.

ظهر شخص آخر من جديد، وقد كان ذلك الشخص صاحب الرداء ذي القلنسوة.

قال التنين الصغير: "يبدو أنّهم يستمرّون في الانضمام إلينا."

ابتسم صاحب الرداء ذي القلنسوة عندما رأى التنين الصغير وقال: "ما أخبارك يا أيّها العجوز؟ لقد ظننت أنّني لن أراك إلّا بعد عشرة آلاف سنة بعدما سمعت أنّك عزلت نفسك."

"نيهاهاها،" ضحك التنين الصغير ولم يأخذ كلام ذلك الشخص كإهانة، ثمّ ردّ: "وأنا كذلك، لكن ماذا أفعل عندما تظهر بوّابة زمكانيّة وأنا عازل نفسي؟ بالطبع لم يكن لديّ خيار آخر سوى عبورها."

ضحك صاحب الرداء ذو القلنسوة وقال: "إنّني أشتاق لمعركة ضدّك يا أيّها العجوز."

ضحك التنين الصغير وردّ: "أنا اشتقت أيضا لرؤية مهارة 'القوّاس النجميّ'."

***

جعلت المعركة التي حدثت بين التنين الصغير وعنقاء الشفاء بعض الشخصيّات الغامضة تظهر، ولهذا كان من الغريب ألّا ينتبه لها الأشخاص الذين كانوا في أرض المعركة.

ظهر قادة التشكيل رفقة شيرايوكي بسرعة وذهبوا ليتأكّدوا أوّلا من سلامة أنمار.

لاحظت شي يو حالة تورتش فشحُب وجهها وهرعت إليه، لكن اسودّ وجه أنمار لمّا لاحظت هذا.

كانت شي يو هي هدف عنقاء الشفاء لذا لم يكن من الجيّد تركها تعالج تورتش حاليا وإلّا كُشِف أمرها.

ما أن وصلت شي يو إليهما حدّقت أنمار إليها بعمق وهزّت رأسها بشكل طفيف محاولةً إخبارها ألّا تفعل شيئا، فتعجّبت شي يو من طلب أنمار الغريب، لكنّها أطاعت الأمر بالرغم من غرابته؛ لقد علمت أنّ هناك سبب خلف فعلها ذاك.

"عالجيه."

اقشعرّ جسد أنمار لمّا سمعت تلك الكلمة، وذلك لأنّ الشخص الذي قالها لم يكن سوى عنقاء الشفاء بنفسها.

رفعت عنقاء الشفاء سبّابتها بهدوء ثمّ أشارت بها إلى شي يو وقالت: "أنتِ... إنّك ساحرة علاج، إذن عالجيه."

علمت عنقاء الشفاء بالفعل عن هوّيّة شي يو فقط برؤيتها، وعندما أدركت أنمار هذا أومأت لـشي يو حتّى تفعل ما طلبت عنقاء الشفاء منها.

لقد ظهرت كلّ هذه الوحوش حولهم فجأة، ولم يعد بإمكانهم سوى انتظار ما ستقرّره تلك الوحوش بشأنهم. كان عليهم فعل ما يقول أولئك الأشخاص الغامضون، وإلّا كانت العواقب وخيمة.

بدأت شي يو تعالج تورتش تحت مراقبة عنقاء الشفاء التي بدت تحلّل شي يو بدقّة كبيرة. ارتفعت زاوية فمها بعد قليل من الوقت كما لو أنّها رأت ما كانت تبحث عنه.

نزلت على الأرض ثمّ اقتربت ببطء من أنمار والآخرين، وجلّ تركيزها مصوّب تجاه شي يو ولا أحد غيرها.


عبست عنقاء الشفاء فجأة، وكان ذلك بسبب ملاحظتها لتورتش يقف بينما ينظر إليها باعثا نيّة قتله تجاهها.

وضع تورتش شي يو خلفه وقال: "ابقي خلفي رجاء يا شي يو، أنا لن أسمح لأيٍّ كان أن يلمسك."

ظهر قوس أثريّ في يده، فشحن طاقته السحريّة به فسطع القوس بضوء فضّيّ كهلال في سماء مظلمة.

وضع يده على الوتر الذي لم يظهر إلّا عندما وضع تورتش إصبعه هناك، فتشكّل سهم من الضوء، ولم تمرّ سوى لحظة واحدة قبل أن يلتهب السهم الضوئيّ بنار زرقاء.

بدا القوّاس النجميّ يراقب ما كان يفعله تورتش باهتمام رغما أنّ عينيه كانتا مغمضتين.

قالت عنقاء الشفاء باستياء: "هل يمكن أنّك تحاول مقاتلتي؟ أنا لا أفهم، كيف لك أن تصل لهذا القرار؟"

ما لم تفهمه عنقاء الشفاء هو محاولة تورتش قتالها مع علمه بتفوّقها الهائل عليه.

"اخرسي!"

سحب تورتش الوتر وصرخ في وجهها وقال: "إنّي لا أهتمّ بأيٍّ من ذلك، لكنّني لن أسمح لك أبدا أن تمسّي من أعزّهم في قلبي."

ضحك التنّين الصغير فجأة ضحكة مكبوتة، فتغيّر اتّجاه نظر عنقاء الشفاء إليه مباشرة، لكنّه لم يهتمّ بذلك، وبالأحرى لم يستطيع كبت ضحكه أكثر فصرخ: "نيهاهاهاها، لقد أخبرها أن تخرس، ولقد جعلها حقّا تخرس. هذه قطعة فنّيّة."

حملقت عنقاء الشفاء إلى التنين الصغير بكره كعادتها، لكنّها أرجعت اتّجاه نظرها إلى تورتش وقالت بينما تبعث نيّة قتلها: "أطلق!"

شعر تورتش بضغط رهيب ضدّ نيّة قتلها الغامرة، فبلع ريقه واستجمع شجاعته كلها حتّى يستطيع إطلاق ذلك السهم فقط.

أفلت الوتر فانطلق السهم بسرعة خاطفة، فانقسم السهم بعد ذلك لسبع أسهم كلّ واحد منها انطلق في اتّجاه مختلف لتجد عنقاء الشفاء نفسها محاصرة من جميع الجهات.

انفجار


سقطت الأسهم السبعة على عنقاء الشفاء، واحدا تلو الآخر، لكنّ تورتش لم يستطِع أن يفرح لأنّه علم ما كان قادما. وبالفعل، ظهرت عنقاء الشفاء تقف في مكانها كما لو أنّ شيئا لم يحصل.

صرّ تورتش على أسنانه وركّز على سلاحه الأثريّ، فبدأ القوس يتموّج ويتغيّر شكله، فصار القوس هلالا فضّيّا صغيرا، وهذه المرّة وضع تورتش إصبعين على مكان الوتر الذي تشكّل عندما وضع تورتش إصبعيه هناك.

ظهرت التعاويذ الذهنيّة بعد ذلك وأحاطت القوس والسهم، ثمّ اندمجت معهما حتّى تطبّق عليهما القوانين التي تغيّر طبيعة العالم حولهما.

ابتسم القوّاس النجميّ وصرّح: "مثير للاهتمام؛ تحكّمٌ مثاليٌّ في سلاح أثريّ بالدرجة السابعة، وفنٌّ قتاليٌّ أثريٌّ بالغصن الرابع."

أطلق تورتش السهم الذي اخترق الهواء بصفير يصمّ الآذان والذي لم يكن شكله واضحا في الواقع من شدّة سرعته، ولكن لم تكن السرعة لوحدها هي السبب في ذلك، بل حتّى إمكانيّة عنصر الضوء التي استخدمها تورتش والتي سمحت له بجعل السهم يختفي تماما.

أدار القوّاس النجميّ رأسه إلى الاتّجاه الذي أطلق تورتش السهم ناحيّته وبدا كما لو أنّه يتتبّعه بعينيه بالرغم من أنّهما مغمضتين، فقال: "إذا يمكنه استخدام نار زرقاء وإمكانيّة التمويه من عنصر الضوء، ويجعل فنُّه القتاليُّ أسهمَه تنزلق بدون أيّ احتكاك طبيعيّ بينما يجعل وزنها أثقل ممّا هي عليه بأضعاف. لقد سبق وأن رأيت هذا الفنّ القتاليّ، ولكن من الغريب جدّا أن يكون شخص من العالم الواهن يملكه."

حدّق أولئك الأشخاص الغامضون باهتمام أيضا، فموهبة تورتش كانت جيّدة جدّا بالفعل، والأشياء التي كانت في حوزته أثارت شكوكهم في مستوى المعرفة في العالم الواهن الذي كان يُفترض أن يكون ضعيفا.

وقفت عنقاء الشفاء هناك بدون أيّ تحرّك، وتلقّت الهجوم الذي ولّد انفجارا أكبر بكثير من الذي سبقه، ومع ذلك ظهرت مرّة أخرى بدون أيّ تغيّر عليها ولو طفيف.

نظرت إلى تورتش وقالت بنبرة ملولة: "هل انتهيت؟"

صرخ تورتش: "أنا لم أنتهِ بعـ..."

قوطِع كلامه عندما وجد عنقاء الشفاء أمامه بدون سابق إنذار بينما تقول: "ذلك لم يكن سؤالا حقّا."

رفعت يدها ثمّ نزلت بها على تورتش، وفي تلك اللحظة الوجيزة علم تورتش ورفقاؤه أنّه سيُقسم إلى قطعتين لا محالة.

بالرغم من أنّ أنمار والآخرين لم يكونوا مقصودين بذلك الهجوم، إلّا أنّهم شعروا بالموت يحوم حولهم.

صفعة


توقّفت يد عنقاء الشفاء فجأة، أو بالأحرى شيء ما جعل يدها ترجع للخلف كما لو أنّها صُفِعت، فضاقت عيناها بشدّة والتفت إلى جهة القوّاس النجميّ وقالت: "ما الذي تفعله الآن؟"

كان القوّاس النجميّ مغمض العينين كعادته، فردّ على عنقاء الشفاء بهدوء: "حاولي أن تهدئي قليلا. لا تنزعجي لهذه الدرجة فقط لأنّ طفلا تكابر عليك."

حملقت عنقاء الشفاء إليه ثمّ قالت بصوت حادّ: "لقد سألتك عمّا تفعله!"

لم تفهم أنمار والآخرون ما حدث، فقبل قليل اعتقدوا أنّ تورتش في عداد الموتى، لكن نظرا إلى ردّة فعل المرأة أمامهم، يبدو أنّ صاحب الرداء ذو القلنسوة من كان السبب في عيش تورتش لمزيد من الوقت.

حافظ القوّاس النجميّ على هدوئه وقال بعدما فتح عينيه الحادّتين: "لقد أثار الفتى اهتمامي."

حملقت عنقاء الشفاء إلى القوّاس النجميّ الذي كان قد أغمض عينيه، ثمّ أنزلت يدها لمكانها وعدمت نيّة قتلها ثمّ قالت: "حسنا، كما ترون♪ هذه الأخت الكبيرة تريد أمهر سحرة العلاج بهذا العالم الواهن، فلِمَ لا نسهّل الأمور علينا وتسلّموهم لي؟"

لم ترد عنقاء الشفاء قتال القوّاس النجميّ لأنّ ذلك لم يكن هدفها من المجيء إلى هنا، وكان بمقدورها تجاوز ما فعله تورتش لو عنى ذلك عدم مقاتلة القوّاس النجميّ حاليا.

صرخ تورتش بعدما ضربت عنقاء الشفاء الوتر الحسّاس: "كما لو أنّنا سنطأطئ رؤوسنا لك ببساطة ونسلّم لك أعزّ الناس إلينا!"

أمالت عنقاء الشفاء رأسها وقالت: "مرّة أخرى♪ ذلك لم يكن سؤالا حقّا."

اقتربت من شي يو بعد ذلك فتأهّبت أنمار والآخرون واستعدّوا لمواجهتها بكلّ ما يملكون.

انضمّ الجنرال رعد والتاجر ناصر إلى أنمار وقادة التشكيل وشيرايوكي ووجّهوا نيّات قتلهم نحو عنقاء الشفاء مجتمعين.

كانت نيّات قتلهم مصحوبة بالخوف في قلوبهم، وذلك لأنّهم علموا أنّ تجمّعهم ضدّها هكذا لم يغيّر شيئا، لانّ النتيجة ستكون نفسها مهما زادوا من عددهم.

شحنوا طاقاتهم السحريّة، وفعّلت أنمار والجنرال رعد وقادة التشكيل تعاويذ فنونهم القتاليّة، ثمّ استعدّوا لإطلاق هجوم مشترك.

استخدمت أنمار وفانسي عنصر الوهم ليمهّدا الطريق أوّلا، فوجدت عنقاء الشفاء نفسها تسقط في ظلام غير محدود، وفي نفس الوقت استخدم الاثنان إمكانيّةً لعنصر الوهم قد أتقنتها أنمار وتعلّمها فانسي بعدئذ.


سمحت لهما هذه الإمكانيّة بتطبيق أوهام داخل أوهام.

فبعدما يظنّ الشخص أنّه تخلّص من الوهم أخيرا، يجد نفسه في وهم آخر أوقع نفسه بنفسه فيه.

بمعنى آخر، كلّما حاولَ الشخص الهروب من الوهم زادَ من سهولة وقوعه في وهم آخر، كما لو أنّه في متاهة.

أثير انتباه شبح أرض الموتى لمّا لاحظ هذا وقال: "مثير للإعجاب أنّهما أتقنا إمكانيّة متاهة الوهم."

فعّلت أنمار سحر الاستدعاء، فظهرت بعد تضحيّتها بطاقتها السحريّة عشر وحوش سحريّة، كان واحد منها بالمستوى الثالث عشر، وخمسة بالمستوى العاشر، وأربعة بالمستوى الثامن.

كان ساحر الاستدعاء يستطيع استحضار وحش سحريّ بنفس مستواه على الأقلّ، واعتمد رفع عدد الوحوش المستدعاة على إتقانه لإمكانيّةٍ لعنصر الاستدعاء.

تفاجأ الأشخاص الغامضون كلّهم لمّا فعلت أنمار ذلك فقال أمير مملكة الصقيع: "من هذه الفتاة؟ ما حصانة عقلها حتّى تستطيع استدعاء كلّ هاته الوحوش بمستواها هذا؟"

كان استدعاء وحوش سحريّة أكثر يتطلّب طاقة سحريّة كافيّة، ولكن ما كان أهمّ أكثر من ذلك كان قوّة إرادة وعقل الساحر، إذ فقد بعض السحرة عقولهم بعدما استدعوا وحوشا أكثر بكثير من العدد الذي يستطيعون التحكّم فيه والحفاظ على سلامة عقولهم أثناء ذلك.

لاحظ شبح الموتى شيئا وابتسم بإظهاره لأسنانه التي كانت كلّها أنيابا وقال: "هذا استثنائيّ! إنّها تستخدم إمكانيّة أخرى لعنصر الوهم حتّى تستطيع النجاح في استدعاء كلّ تلك الوحوش."

نظر الآخرون إلى أنمار بحرص فقال أمير مملكة الصقيع: "هذا... إنّها تستخدم الإمكانيّة المسمّاة بـ'الوهم الذاتيّ المعزِّز' حتّى توهم عقلها أنّه يمكنه تحمّل ما هو أكثر فتعزّز بذلك قدرته الاستيعابيّة. بجدّيّة، من تكون هذه الفتاة؟"

لقد كانوا مستغربين للغاية؛ أوّلا فاجأهم تورتش بموهبته التي أظهرت عبقريّته، والآن يشاهدون هذه الفتاة تقوم بأشياء يفعلها سوى فئة ضئيلة في العوالم الروحيّة؛ مجرّد فتاة من هذا العالم الواهن.

ومض بعض الضوء في عينيْ شبح أرض الموتى اللتين كانتا خاليتين من الحياة، وتمتم: "أتساءل متى أكملت ربط نقط أصلها."

هذا ما عناه الأمر أن تكون 'ملكا بالمسار الروحيّ'. فأيّ شخص أكمل ربط نقطه الأصليّة بالمستوى الثامن من مستويات الربط أظهر موهبة فائقة في العوالم الروحيّة.


راقب الأشخاص الغامضون بعد ذلك قادة التشكيل والجنرال رعد، فقال أمير مملكة الصقيع: "يبدو أنّنا ربحنا الجائزة الكبرى بقدومنا إلى هنا؛ فعلى ما يبدو، هذا هو المكان الذي تجمّعت فيه أفضل المواهب في هذا العالم."

بدأ كلّ واحد منهم يضع عينا بالفعل على الشخص الذي أثار اهتمامه، وبدؤوا يفكّرون في الطريقة التي يتحصّلون بها عليه إذا ما حدث وشارك معهم شخص آخر نفس الاهتمام في نفس الشخص.

وكلّهم فكّروا في نفس الأمر: "تلك الفتاة قد أثارت اهتمام الجميع."

بعدما وجدت عنقاء الشفاء نفسها في ظلام غير محدود، لم تستطِع أن تشعر بشيء كما لو أنّ حواسّها قد قُمِعت، لكنّها لم تحاول فعل شيء بشأن ذلك ووقفت في مكانها فقط.

نزلت الصواعق والعواصف والجليد والنيران وركبت وحوش أنمار المستدعاة الموجة وأطلقت العنان لقدراتها وأسحارها في وقت واحد، ثمّ تبع ذلك هجوم الفنون القتاليّة المشترك الذي كان معزّزا هائلا للهجوم الكلّيّ.

بدا الأمر كما لو أنّ كارثة طبيعيّة شملت كلّ أنواع الكوارث الطبيعيّة قد تشكّلت في هذا المكان فقط لتتخلّص من شخص واحد.

انفجار انفجار انفجار

تسلسلت الانفجارات لمدّة طويلة بدون توقّف حتّى أصبحت الأرض المحيطة بعنقاء الشفاء شبه ميّتة. لو كانت هذه أرض أخرى غير الأرض المباركة لكانت قد أصبحت ميّتة بالفعل.

هذه المرّة، أملوا ان يكونوا قد جرحوا عنقاء الشفاء ولو بشكل طفيف، لكنّها ظهرت من جديد كما لو أنّ شيئا لم يحدث.

كان هذا متوقّعا، ولكن حتّى لو كان مُتوقّعا كان الأمر ما يزال صادما للغاية.

***

حدّقت عنقاء الشفاء إلى أنمار والبقيّة، فلوحّت بيدها بعد ذلك لتنطلق نار بيضاء نحو تلك الجماعة على شكل قذائف عديدة تستهدف كلّ قذيفة واحدا من الجماعة باستثناء تورتش وشي يو.

لم يفعل القوّاس النجميّ شيئا هذه المرّة بالرغم من أنّه صار مهتمّا في أنمار أيضا؛ كان ذلك لأن أحدا آخر سبقه بالفعل.

ظهرت الملكة الشريرة وخادمها وفيّ بجانب شيرايوكي، فبدّد وفيّ كلّ تلك النيران بصفعة بطاقته الروحيّة ببساطة.

نظرت عنقاء الشفاء إلى الملكة الشريرة وقالت بعدواة: "ماذا الآن؟ هل أثار أحدهم اهتمامك أيضا؟"

لم ترد الملكة الشريرة عليها، وأجاب وفيّ بدلا من ذلك: "ما أتت ملكتي إلى هنا إلّا للحصول على ما يخصّها."

"همف..." استنكرت عنقاء الشفاء كلامه: "كلّنا يعلم ماذا يحدث عندما تتحرّكان أنتما خارج قصركما، فلا داعٍ لتزيين الأمر بكلمات مثل الحصول على ما يخصّكما."

نظرت الملكة الشريرة إلى شيرايوكي بعمق لمدّة طويلة قبل أن تقول: "لقد طال انتظاري، وهذا أنا ذا أتلقي بكِ أخيرا."

كانت تلك كلمات عاطفيّة، لكن لم يعتلِ الملكة الشريرة أيّ تعبير، وبدت كدمية تتكلّم.

استغربت شيرايوكي كثيرا بسبب ما قالته المرأة أمامها وتراجعت بضع خطوات للخلف بعدما أحسّت بشعور سيّئ.

ظهر في هذه الأثناء أشخاص آخرون من ناحيّة الأكاديميّة، من بينهم الجنرال منصف وأخويا القطع والأباطرة الثلاثة وقائدا الأكاديميّة الآخران وورثة العائلات المرموقة في إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة.

لاحظوا جميعهم أنّ الأجواء محمومة ولم يحتاجوا لتفسيرٍ حتّى يفهموا ما كان يحصل. راقبوا الوضع بهدوء وانتظروا ليروا مجرى الأمور فيقرّروا ما يفعلون.

نظرت عنقاء الشفاء إلى الأشخاص الغامضين وقالت: "كما ترون♪ هذه الأخت الكبيرة تعاني الأمرّين مع هؤلاء الأطفال، ولا يمكنها تحمّل شغبهم بعد الآن، لذا أنصح أيّ أحد منكم بأخذ الشخص الذي أثار اهتمامه، لأنّني لن أراعي لأحد أكثر من هذا."


حملق إليها أمير مملكة الصقيع: "هل تحاولين افتعال القتال يا امرأة؟"

ابتسمت عنقاء الشفاء وردّت: "أوه، يبدو أنّك لاحظت ذلك، إنّك أذكى ممّا تبدو عليه يا رجل."

عبس أمير مملكة الصقيع للحظة قبل أن يتمالك نفسه بلحظة بعدها ويقول: "كلّنا يعلم عن القواعد، فما الذي يجعلك تعتقدين أنّه يمكنكِ تجاهلها؟"

"قواعد؟" أمالت عنقاء الشفاء رأسها: "منذ أن خُتِمت العوالم عن بعضها لم تعُد هناك أيّ قواعد يا رجل، وستتأكّد من كلامي جيّدا عندما يتجدّد الاتّصال مرّة أخرى."

قال الأمير: "هذه القواعد كانت منذ الأزل. من المعلوم أنّه ستكون هناك منافسة على المواهب الصاعدة في العالم الروحيّ الجديد، لذا يجب التنافس بعدل. نحن هنا لنمنح هؤلاء فرصا عظيمة في توسيع مدى رؤيتهم وآفاقهم بأخذهم معنا إلى عوالم أنضج بأضعاف من هذا العالم، ويجب أن يتقرّر هذا بإنصاف، لا أن يفعل كلّ شخص ما يحلو له."

حملقت عنقاء الشفاء إليه وردّت بنبرة حادّة: "لقد أتيت إلى هنا من أجل سحرة العلاج، وسأعود ومعي سحرة العلاج، ولن يمنعني من هذا أحد. تتكلّمُ عن القواعد كما لو كانت مقدّسة، لذا دعني أذكّرك بشيء مهمّ. الختم الذي قطع الاتّصال بين العوالم لم يكن سوى علامة واضحة على ما ينتظرنا في المستقبل، وأنا لست غبيّة كفاية لأتخلّى عن أدوات جيّدة بسبب قواعد تافهة قرّرها أسلاف لا يتذكّرهم التاريخ حتّى."

تدخّل التنين الصغير: "هذا يا هذا♪ انظر إلى هذه الشمطاء تتحدّث بجرأة كبيرة الآن؛ من كان ليتوقّع حدوث هذا قبل ختم العوالم؟"

ابتسمت عنقاء الشفاء وردّت عليه: "على الأقلّ لم أتملق أيّ أحد كما اعتاد أحدهم أن يفعل طوال الوقت. آه♪ أظنّك لهذا السبب عزلت نفسك؛ حتّى تفكّر في شخص آخر لتتملّق له."

عبس التنّين الصغير وقال: "لا تحاولي تفسير علاقتي بجلالته يا أيّتها الشمطاء بلسانك القذر ذاك. سمّيه تملّقا أو أيّا كان، فصاحب الجلالة استحّق احترامي، فأعطيته له. إنّني مختلف كثيرا عن شمطاء أينما تحلّ تنشر الوباء ولا تعلم شيئا عن الولاء."

حملق الاثنان إلى بعضهما قبل أن يتغيّر اتّجاه نظرهما إلى جهة أخرى، وليس هما فقط، بل كلّ الأشخاص الغامضين نظروا إلى نفس الجهة.

كشّر شبح أرض الموتى عن أنيابه وقال: "يبدو أنّ هذا سيصير أكثر تعقيدا."

كان في الجهة التي ينظرون إليها بضعة أشخاص أتوا في نفس الوقت لكن متفرّقين.

كانت هناك ثلاث مجموعات، وتكوّنت المجموعة الأولى من ثلاثة أشخاص لم يبدوا بشرا من خلال هيئتهم.

كانوا عبارة عن أشخاص بمواصفات الحيوانات، أو للدقّة، بمواصفات الوحوش.


امتلكوا هيكلا بشريّا، لكنّ الفرو غطّى معظم أجسادهم، فكان الأوّل يشبه الأسد والثاني يشبه النمر والثالث يشبه الفهد.

كانت المجموعة الثانيّة تتكوّن من شخصين بدا جلدهما أحمر اللون وامتلكا قرنين بطول اليد يبرزان من جبهتهما، وأجنحة كأجنحة الخفّاش.

أمّا المجموعة الثالثة، فقد تكوّنت من شخص واحد فقط أخفى جسده بمعطف أسود ذي قلنسوة وبدا غامضا حتّى لأولئك الأشخاص الغامضين.

تكلّم هذا الشخص ذو المعطف الأسود: "إنّ العنقاء معها حقّ يا ناس. كلّ شيء سيتغيّر من الآن فصاعدا، لذا عليكم أن تحذوا حذوها."

اهتزّت عينا القوّاس النجميّ المغمضتان كما لو أنّه أدرك شيئا ما.

حدّق الآخرون إلى المجموعات التي ظهرت فقال التنّين الصغير: "سيكون الأمر مريحا للغاية ألّا يظهر أمثالكم، صحيح؟"

تكلّم الشخص ذو مواصفات الأسد: "لقد أتينا إلى هنا لسبب واحد؛ ينقصنا العبيد."

أكمل بعده أحد الشخصين المجنّحين: "هذه فرصة لا مثيل لها. فبعدما قُطِع الاتّصال بين العوالم، صارت وتيرة أعمالنا بطيئة لقلّة العبيد الجدد."

حملق أمير مملكة الصقيع إليهم وقال: "هل تنون العيث فسادا في هذا العالم مرّة أخرى؟"

تكلّم الشخص ذو المعطف الأسود: "هذا ما نفعله، فنحن 'الشياطين'."

أكمل بعدما توقّف للحظات: "ودعني أصحّح كلامك. نحن لم نعث فسادا هنا قبل سبعة عشر عاما، وإنّما ألقينا التحيّة على هذا العالم الواهن فقط."

قال شبح أرض الموتى بعينيه الميّتتين: "تتكلّم كما لو أنّك كنت هنا في ذلك اليوم."

وضع الشخص ذو المعطف الأسود يده على القلنسوة ثمّ أزاحها عن رأسه وقال: "هذا لأنّني بالفعل كنت هنا."

صعدت القشعريرة مع الجميع لمّا رأوا وجه ذلك الشخص، والذي قال: "جيّد، جيّد، رأيت النظرات التي أردت رؤيتها. يبدو أنّ وضع القلنسوة كان له معنى. يمكنني أن أفهم السبب الذي جعل حكيم يتنكّر أينما ذهب."


عبس الجميع وأصبحت الأجواء متوتّرة للغاية وعجزوا عن الكلام، بينما كان الشخص الآخر مرتاحا وبدا مستمتعا: "هناك مصير غريب يربطني بهذا العالم؛ فحتّى بوجود ذلك الختم اللعين وجدت السبيل إلى هنا. هذه علامة، علامة تشير إلى وجوب إكمال ما لم أنهِه."

نطق القوّاس النجميّ: "يبدو أنّ الأمور لن تسير بشكل مريح. إذن، ما الذي أتيت لفعله تحديدا يا شيطان اليأس؟"

بالفعل، لم يكن ذلك سوى شيطان اليأس، إبلاس.

كانت أنمار والجنرال رعد في حالة صدمة من الهلع والرعب. فقط التفكير في احتماليّة مجيئه جعلتهما سابقا يفزعان، لكنّه ظهر الآن حقّا بدون أيّ سابق إنذار، كما يفعل في كلّ ظهور له.

نظر إبلاس إلى أنمار فصعدت القشعريرة معها، ثمّ قال بدون تغيير اتّجاه نظره: "لقد تأخّرتُ قليلا لأنّه وجب عليّ القيام ببحث بسيط حتّى أعلم أين أتوجّه، ويبدو أنّني وصلت إلى المكان الصحيح."

نظر بعد ذلك إلى القوّاس النجميّ والآخرين وأكمل: "لم آتِ هذه المرّة لقضاء مهمّة ما، وإنّما قدمت بناء على رغبتي الشخصيّة."

قال التنّين الصغير بنظرات جدّيّة: "لا خير في رغباتك الشخصيّة اللعينة، وقد تكون أسوء من المهمّات التي تُوكّل إليك."

ابتسم إبلاس وردّ: "شهرتي تسبقني. لقد وجدت لعبة جديدة في آخر زيارة لي، وأريد البدء في تطويرها حتّى أستخرج منها كلّ المتعة التي يمكنني اكتسابها منها."

نظر شبح أرض الموتى إليه وقال: "يبدو أنّ هذه اللعبة الجديدة لها علاقة بهؤلاء الأطفال."

أومأ إبلاس رأسه: "لا يمكنني إيجاد اللعبة الرئيسيّة للأسف، ولكن بالفعل لها علاقة بهؤلاء."

سأل أمير مملكة الصقيع: "إذن، ما الذي تنوي فعله الآن؟"

رفع إبلاس حاجبه مستغربا وقال: "ليس جيّدا، ليس جيّدا؛ حتّى الأطفال يعلمون الغرض من وجود الألعاب أيّها الأمير."

عبس الأمير وقال بنبرة حادّة: "وماذا إن قلت لك أنّ هذا غير مسموح؟"

ابتسم إبلاس: "هذا لا يهمّ، فهو لن يغيّر شيئا."


حملق إليه الأمير والبقيّة بينما كان اهتمام عنقاء الشفاء طفيفا بشأن هذه المسألة جنبا إلى جنب مع الملكة الشريرة وخادمها وفيّ.

قال الأمير: "هل تعتقد أنّه يمكنك تفعل ما يحلو لك في حضورنا مجتمعين؟"

قال إبلاس بوجه خالٍ من التعابير: "بلى."

قال التّنين الصغير هذه المرّة: "هل تقول هذا علما بقوّتنا يا أيّها الشقيّ؟"

ضحك إبلاس وقال: "هاهاها، لا تسِئ فهمي، أنا أتحدّث هنا عن متعتي الخاصّة. نعم، إنّني قادر على الاستمتاع بلعبي ولو كان ملكك الأصليّ هنا."

علم هؤلاء الأشخاص أنّ إبلاس يقصد كلامها كلّه، وهذا ما جعل الأمر عصيبا بالنسبة لهم.

لقد كان شخصا لا يهتمّ بأيٍّ كان، وسيفعل ما يحلو له في أيّ مكان وزمان.

والآن، كلّ ما كان يدور في بال هؤلاء الأشخاص هو من يسعى إبلاس وراءه. لقد وجدوا بعض المواهب النادرة للغاية أخيرا ولم يكونوا مستعدّين للتخلّي عنها ببساطة، وفوق ذلك، لقد كان هذا شيطان اليأس، ولا يمكنهم صرف النظر عنه والتصرّف كأنّ شيئا لم يكن.

فتح إبلاس ذراعيه على مصراعيهما وقال بنظرات متحمّسة: "فلنبدأ العرض يا ناس."

اختفى إبلاس ثمّ ظهر خلف أنمار مباشرة ثمّ وجّه قبضته نحو رقبتها كما لو أنّه يحاول إمساكها، لكنّه وجد نفسه محاطا فجأة بالتنّين الصغير وأمير مملكة الصقيع وشبح أرض الموتى والقوّاس النجميّ.

وفي نفس اللحظة التي ظهر فيها هؤلاء الأربعة حوله وجد إبلاس نفسه تحت هجوم من كلّ واحد منهم.

راوغ إبلاس فظهر في السماء، والتقت طاقاتهم الروحيّة في نقطة واحدة كانت هي المكان الذي اعتاد قلب إبلاس الوجود فيه.

رنين

تلاحمت طاقاتهم الروحيّة وأصدرت أصواتا كتلاحم السيوف. كانت تلك الطاقات بالفعل متشكّلة كأنصال روحيّة.


انفجار

كان ذلك الانفجار كفيلا بصمّ آذان أنمار والآخرين لثوانٍ طويلة.

ضحك إبلاس وقال: "هذا سيكون ممتعا. لنلعب دور البطل ودور الشرير. أنا أحاول القتل وأنتم حاولوا الحماية."

نظر التنّين الصغير إلى الملكة الشريرة التي وقفت هناك دون فعل شيء، وقال بنبرة حادّة: "هل ستقفين عندك مثل الشمطاء أم ستنضمّين إلينا؟"

حدّقت الملكة الشريرة إليه بعينيها الجامدتين، فردّ وفيّ على السؤال بدل منها: "إنّ ملكتي لا ترغب في هذا. ستأخذ الآن ما أتت من أجله، ما يحقّ لها، ونشدّ رحالنا عائدين."

حدّق إبلاس إلى الملكة الشريرة فوجدها تحدّق إلى شيرايوكي بعد كلام وفيّ، فقال: "لن يغادر هذا المكان أيّ شخص حتّى أنتهي ممّا أتت لإنهائه."

رفعت الملكة الشريرة رأسها ونظرت إلى إبلاس، فتكلّمت لأوّل مرّة منذ أن قدمت إلى هنا: "لا تجعل مزاجيّ عكرا يا أيّها الشقيّ."

استغرب إبلاس: "ماذا؟! هل لديك أيّ مزاج أصلا؟"

تحرّكت الملكة الشريرة نحو شيرايوكي فارتعبت هذه الأخيرة. لقد كانت تشعر أنّها تغرق في ظلام عميق كلّما التقت عيناها بعينيْ تلك المرأة، كما لو أنّها تُلتهم بدون القدرة على المقاومة.

وقفت أنمار بجانب شيرايوكي ثمّ حملقت إلى الملكة الشريرة وقالت: "إنّك تخيفين صديقتي، فهلّا تراجعت؟"

تكلّم وفيّ مباشرة بعد ذلك وبلسان حادّ: "ملكتي تفعل ما تشاء. لا أحد يأمر ملكتي. تنحيّ عن الطريق يا ****، وإلّا كانت العواقب وخيمة."

بالفعل كانت أنمار قيِّمة للجميع هنا بسبب الموهبة التي أظهرتها، لكنّ هدف الملكة الشريرة من المجيء إلى هنا كان شيرايوكي أصلا.

حدّقت أنمار إلى وفيّ ولم تتراجع بالرغم ممّا قاله.

كانت أنمار تفكّر هكذا: "ممّا لاحظت، هؤلاء الأشخاص سيفعلون كلّ ما بوسعهم لإنقاذ من أثار اهتمامهم، ولحسن الحظ يبدو أنّني أثرت انتباههم، وهذا أكِّد لي بعدما اقترب منّي ذلك اللعين."

فهمت أنمار وضعها الحاليّ بسرعة كبيرة وبدأت تنفّذ خطّتها في استغلال كلّ ما يمكنها استغلاله. لو كان هناك شخص آخر في الخطر، فما عليها سوى وضع نفسها في نفس الخطر وستنجو هي وذلك الشخص.

حدّق إبلاس إلى ما كانت تفعله أنمار ثمّ ابتسم وقال: "لا أتوقّع شيئا أقلّ من تلميذة حكيم."

صُعِق التنّين الصغير والآخرون تماما عندما سمعوا ما قاله إبلاس للتوّ.

فتحوا أعينهم على مصارعها فقال أمير مملكة الصقيع بتردّد: "هل... هل قال تلميذة الحكيم السياديّ؟"

قال التنّين الصغير: "لقد قال حكيم، وهو الشخص الوحيد الذي يشير للحكيم السياديّ بهذا في العوالم الروحيّة."

قال شبح الموتى: "غير معقول! لهذا السبب هي استثنائيّة لهذه الدرجة!"

فتح القوّاس النجميّ عينيه الحادّتين ونظر إلى أنمار كما لو كان يحلّلها قبل أن يقول: "إذن لقد كان ذلك فنّ سحق الأرض القتاليّ الذي استخدمته حقّا."

نظرت عنقاء الشفاء والملكة الشريرة وخادمها وفيّ والشياطين إلى أنمار كما لو أنهم ينظرون إلى مخلوق نادر للغاية.

ابتسم إبلاس بعد ردّة فعل الجميع وقال: "لقد أتيت إلى هنا حتّى أرى لعبتي الجديدة. أخبريني يا تلميذة حكيم، أين هو تلميذ حكيم المفضّل؟"

***

حدّق التنّين الصغير والآخرون إلى إبلاس بشكل غريب فقال أمير مملكة الصقيع: "ما الذي تتحدّث عنه؟ هل يمكن أنّ فاخر الفخور، وريث عشيرة الينبوع الذهبيّ هنا؟"

كانت هذه المعلومات صادمة للغاية. أّوّلا ينادي شيطان اليأس أنمار بتلميذة الحكيم السياديّ، والآن يلمّح إلى وجود تلميذه المفضّل هنا؟ كيف لذلك أن يحصل؟ منذ متى؟ ما الذي أتى فاخر ليفعله هنا؟ وقبل ذلك، متى أتى الحكيم السياديّ إلى هنا حتّى يملك تلميذة أخرى؟

ضحك إبلاس مستمتعا بينما ينتظر الجميع إجابته بفارغ الصبر.

صاح التنّين الصغير: "أجب عن السؤال اللعين أيّها الشقيّ!"

نظر إبلاس إلى التنين الصغير وقال: "هذا مضحك حقّا. إنّكم لا تعلمون شيئا كما لو أنّكم الأعداء بالرغم من أنّ عدوّ الحكيم السياديّ اللدود، خصمه ومنافسه الأبديّ يعلم. هل حقّا كنتم حلفاء؟"

لم يستطِع أحد منهم قول شيء، لكنّ عينيْ القوّاس النجمي المغمضتيْن اهتزّتا كما لو أنّه وجد شيئا غريبا في كلام إبلاس.

قال إبلاس: "ما أحاول قوله هو أنّني لم أعنِ بكلامي فاخر عندما قلت تلميذ حكيم المفضّل."

فتح القوّاس النجميّ عينيه الحادّتين كما فعل الآخرون وحدّقوا إلى أنمار بعد ذلك محاولين استيعاب ما سمعوا للتوّ.

لربّما لم يكن الحكيم السياديّ بمستوى شاهق في المستويات الروحيّة، لكنّه كان قادرا على مواجهة سحرة روحيّين بمستويات أعلى منه، والأكثر أهمّيّة من ذلك، لقد عنى الأمر الكثير أن يتدرّب الشخص على يد الحكيم السياديّ.

ففي العوالم الروحيّة، يقال أنّه لا أحد يفهم المسار الروحيّ والقوانين العالميّة أكثر من الحكيم السياديّ، ولو لم تكن موهبة إدريس الحكيم الطبيعيّة ضحلة للغاية لكان قد صار سلطانا منذ زمن بالفعل حسب أقوال بعض الهرمى المقموعين.

صرّح شبح أرض الموتى كما لو أنّه يسأل: "هناك تلميذ ثالث أيضا، وهذا التلميذ هو المفضّل للحكيم السياديّ؟ هل هذه مزحة؟ لماذا الآن بعد كلّ هذا الوقت؟"

ابتسم إبلاس وقال: "نعم، هذا هو السؤال الأهم حقّا. لماذا الآن؟"

نظر إبلاس إلى عنقاء الشفاء وأكمل: "هناك أشخاص قد بدؤوا يستعدّون لما هو قادم، لأنّهم يعلمون أنّ الفوضى ستعمّ العوالم الروحيّة لا محالة في المستقبل، وبالطبع نحن من سيكون السبب في هذه الفوضى."


حدّق أمير مملكة الصقيع إليه وقال: "ما الذي تلمّح له؟ هل تقصد أنّ الحكيم السياديّ مثله مثل هذه المرأة صار محتاطا بشأن المستقبل وقرّر تلمذة أشخاص آخرين؟"

رفع إبلاس كتفيه وقال: "من يدري؟"

عبس الأمير كما لو أنّه يخبر إبلاس أن يجيبه، فقال شيطان اليأس: "ليس جيّدا، ليس جيّدا، أشخاص مثلكم لا يجب عليهم تلقّي المساعدة منّي. هل نسيتم بهذه السرعة؟ إنّني الشرير هنا، وأنتم الأبطال. فلنترك الأمر على هذا الحال."

كانت هناك أمور مخفيّة كثيرة لا يعلمها هؤلاء الأشخاص عن الحكيم السياديّ، لكن إبلاس كان على علم بها، ولربّما كان السبب هو المصير الذي جمع إدريس الحكيم بإبلاس منذ صغرهما.

قال إبلاس بعدما سكت الآخرون: "حسنا، لنكمل متعتي الخاصّة."

"قبل ذلك،" قال التنّين الصغير: "أجب عن هذا السؤال. لو كانت هناك تلميذة للحكيم السياديّ وتلميذ آخر في هذا العالم، هل هذا يعنيّ أنّ الحكيم السياديّ بنفسه هنا؟"

نظر إبلاس إلى التنّين الصغير لكنّه لم يردّ عليه، فهو قد أخبر هؤلاء أنّه لن يجيبهم أكثر ممّا فعل. لقد كان يريد أن يستمتع بسرعة بدون ضياع أيّ وقت.

حملق التنين الصغير إليه بعدما لم يتلقَّ إجابة وقال: "حسنا، لك هذا يا هذا. لقد أخطأتَ بفعلك عندما أخبرتنا عن هوّيّة هذه الفتاة، لأنّنا صرنا الآن كلّنا مهتمّون فيها حقّا."

لقد كان هؤلاء على معرفة بالحكيم السياديّ بشكل شخصيّ، وقد سبق أن طلبوا منه تعليم بعض الأشخاص لكنّه رفض في كلّ مرّة. ومثل التنّين الصغير، كان هناك من يفكّر أنّه لو حما تلميذة الحكيم السياديّ فقد يكسب شيئا من ذلك من الحكيم السياديّ.

ابتسم إبلاس وردّ على التنين الصغير: "إنّك لا تفهم شيئا يا أيها العجوز. أنا أخبرتكم بهذا عمدا وليس سهوا، لأنّ الامور ستكون أمتع بكثير بهذا الشكل."

تشكّلت مطرقة يبلغ حجمها نصف حجم الشخص في يد التنّين الصغير اليمنى، والتي نُقش عليها حروف رونيّة عتيقة توهّجت ما أن رفع حاملها يده للأعلى.

همس التنّين الصغير للمطرقة كما لو أنّه يتحدّث إليها: "اسحقي رأسه يا ميولنير."

تحرّكت الحروف الرونيّة في المطرقة بشكل غريب وبسرعة كبيرة كاستجابة لكلام التنّين الصغير.

رمى التنّين الصغير المطرقة فجأة في اتّجاه عشوائيّ، والتي اختفت كما لو أنّها انتقلت لبعد آخر. لم تصنع أيّ صوت أو ضوضاء أثناء ذلك، كما لو انّها فقط اختفت من الوجود ببساطة.

وقف إبلاس منتظرا لبعض الوقت قبل أن يتفاجأ بظهور المطرقة بجانب رأسه من اللامكان.


رنين

تردّد صوت الصدمة الناتجة عن ضرب المطرقة لشيء ما، لكن إبلاس كان لها في الواقع بالمرصاد، إذ عكس مسارها بسلاحه الروحيّ بسرعة كبيرة للغاية بعدما التفّ حول نفسه في الهواء.

اختفت المطرقة بعد ذلك في الأفق كما لو أنّها لم تكن.

قال إبلاس مبتسما: "تعلم أنّ عينيْ الحقيقة يمكنها رؤية مثل هذه الألاعيب، أليس كذلك؟"

داعب التنّين الصغير وقال: "تعلم أنّ ميولنير لن تتوقّف إلّا بعدما تنفّذ ما أمليته عليها، أليس كذلك؟"

تحرّك إبلاس بد ذلك مباشرة بدون أيّ تأخّر وانطلق مستهدفا جماعة أنمار، فاعترض طريقه سيف أبيض تزيّن زهرة اللوتس قبيعته. لقد كان ذلك سيف أمير مملكة الصقيع، لكنّ إبلاس كان قد رأى حدوث هذا بالفعل فردّ الهجوم وراوغ بمهارة قبل أن يكمل طريقه نحو جماعة أنمار.

ظهر شبح أرض الموتى فجأة بدون أن يصنع حسّا وحتّى إبلاس كان متأخّرا في ردّة فعله كما لو أنّه رأى حدوث هذا بشكل أبطأ من المرّتين السابقتين.

قال إبلاس: "لم يلقّبوك بالشبح من فراغ يا أيّها اللعين."

ومع ذلك استطاع شيطان اليأس مراوغة المنجل الذي أحاط رأسه وكاد يقطعه.

وأخيرا، وجد إبلاس نفسه تحت ضغط رهيب، إذ رأى بعيني الحقيقة ذلك السهم الذي بدا قادرا على اختراق النجوم وتدميرها قادما إليه.

شحن سيفه الهلاليّ بطاقته الروحيّة وضرب السهم، فتولّد انفجار هزّ الأرض المباركة بأكملها.

لم يكن هناك عائق بينه وبين جماعة أنمار، وفقط عندما اقترب منها ظهرت المطرقة 'ميولنير' بجانبه مرّة أخرى ليصّدها بسيفه لكنّه حلّق بعيدا من قوّتها.

استمرّ التنّين الصغير في مداعبة لحيته وقال: "إنّك لا تظنّ بصدق أنّك قادر على فعل ما تشاء في حضرتنا مجتمعين، أليس كذلك؟"

تنهّد إبلاس وقال: "أنت والآخرون لا تفهمون شيئا حقّا. يبدو أنّني بدأت أشتاق لحكيم بالفعل."


لم يكن الأمر منوطا بقدرة إبلاس على مواجهتهم بالنسبة له، بل كان متعلّقا بقدرته على الاستمتاع بهذه الظروف وبلعبه لأقصى درجة ممكنة.

"حسنا،" قال إبلاس: "لنجعل مهمّة الأبطال أكثر صعوبة."

التفت إلى المجموعتين اللتين أتتا معه وقال: "ما رأيكم؟"

قال ذو مواصفات الأسد: "مثير للاهتمام، يبدو أنّنا سنحصل على عبيد ذوي جودة جيّدة."

أكمل أحد الشخصين المجنّحين: "عدّني مشتركا."

حملق التنّين الصغير والآخرون إلى الشياطين واستعدّوا للدخول في معركة جادّة.

***

كانت الأحداث في أكاديميّة الاتّحاد المباركة مجرّد جزء ممّا كان يحدث في بقيّة العالم الواهن.

ففي الوقت الحالي، كان العالم الواهن فوضويّا للغاية.

صدت صرخات الناس في بعض المناطق وسط أنواع متعدّدة من الهجمات.

كان هناك شياطين بمختلف أنواعهم يهاجمون الناس في بعض المدن ويخطفون السحرة والأطفال، وكان هناك أشخاص آخرون أجبروا الناس على الذهاب معهم، كما كان هناك من حاول التفاوض.

كان هدف هؤلاء هو العودة ببعض المواهب إلى عوالمهم التي أتوا منها عبر الشروخ الفضائيّة التي ظهرت في شتّى أنحاء العالم.

كان هناك شيطان بهيكل يشبه هيكل البشر إلّا أنّه كان أقصر قليلا وامتلك ذراعين ضخمتين مقارنة بجسده وأنفا طويلا بالرغم من أنّ وجهه كان صغيرا.

اقترب هذا الشيطان من أحد العائلات وفحص طفلا بعدما كسر ساقيْ والديْه أمام عينيه، فقرّر بعد ذلك أن يأخذه.

صاحت الأمّ: "أعد إليّ ابني، لا تأخذ ابني منّي. أرجوك، أرجوك، أرجوك..."

التفت الشيطان ووجه عابس كما لو انّه كان منزعجا من كثرة ترجّي الأمّ بصوت مرتفع، فلوّح بيده وقال: "اخرسي!"

كان تلويح من يده كفيلا بجعل جسد المرء يحلّق لعشرت الأمتار محطّما تماما مسبّبا في موت الشخص.

كادت هذه اليد تضرب المرأة، لكنّ الأب اعترض لها وحاول المقاومة بكلّ ما يملك لكنّه أرسِل محلّقا بجسد محطّم كما يُفترض أن يحصل.

نظرت الأمّ إلى الجهة التي رُمي زوجها إليها فوجدت عينيه تحدّقان إليها ولكن بدون أيّ حياة فيهما، فصرخت مرتعبة بشدّة وبكت بينما تقول: "أنقذونا، أين أنتم يا أيّها السحرة، أين أنتم يا تشكيل القائد الأعلى باسل؟ أين أنت يا بطل عالمنا؟ أنقذوا ابني."

حملق الشيطان إليها بعينين خاليتين من الاهتمام بترجّيها وقال: "لن ينقذكم أحد، فهذا مجرّد عالم واهن. لقد قتلنا كلّ السحرة القريبين من هنا قبل أن نبدأ عملنا حتّى."

سكتت الأمّ ونظرت إلى ابنها وقالت: "لا تقلق يا حسن، لقد اخبرتك أنّ بطل عالمنا سيأتي لإنقاذنا، أنا متأكّدة أنّه باستطاعته علاج والدك حتّى. لقد..."

لم تكمل كلامها حتّى كانت قد رُميت لتصطدم بزوجها.

كان الطفل حسن يحدّق إلى ما يجري بدون أن يستوعبه، ولم يصرخ حتّى؛ لقد كان يعتقد أنّ ذلك كان كابوسا.

***

حدثت أمور مشابهة لهذا في العديد من الأنحاء، ففي عائلة أخرى، كان هناك *** يقف مستقيما فاتحا ذراعيه على مصراعيهما أمام أحد الشياطين الذي كان يشبه السحليّة بالرغم من هيكله البشريّ.

كان الطفل يحاول الوقوف في وجه الشيطان بكلّ شجاعة ليحمي أمّه التي حاولت جذبه إلى الوراء لكن بدون فائدة؛ لقد كان طفلها عازما على حمايتها.

صرخ الطفل: "تراجع أيّها الشيطان اللعين، أنا عماد بن أشرف، لن أسمح لك أن تضع إصبعا واحدا على والدتي."

تحرّكت كل عين من عينيْ ذي مواصفات السحلية في اتّجاهين متعاكسين، ولم ينبس ببنت شفة. حرّك ذيله فجأة فرأى الطفل عماد ذيل الشيطان يعود لمكانه حاملا شيئا ما، وعندما علم ماهيّة ذلك الشيء فرغت عيناه من الحياة، إذ كان ذلك رأس أمّه معلّقا على ذيل الشيطان.

***


كان كلّ الأعداء سحرة روحيّين، لذا كان من المستحيل على أيّ ساحر من العالم الواهن التصدّي لهم.

لم يصل الدمار لدرجة الدمار الشامل قبل سبعة عشر سنة بما أنّ عدد الأشخاص الذين أتوا إلى العالم الواهن لم يكن كبيرا للغاية، لكنّه كان كافيا ليتسبّب في مآسي في العديد من الأماكن.

كلّ هذا حدث لأنّ العالم الواهن صار عالما روحيّا؛ فعندما يحدث شيئا كهذا لعالم ما، تتغيّر العديد من الأمور سواء بالنسبة للسحرة أو البشر.

فالسحرة يجدون موارد أفضل بكثير من السابق، وتظهر مواهب فذّة بين البشر لها إمكانيّات هائلة، لأنّ الطاقة الروحيّة في العالم تجعل بعض البشر متميّزين وموهوبين، وخصوصا الطاقة الروحيّة التي تصاحب التحوّل الروحيّ.

***

تحوّلت أرض الأكاديميّة لفتات بعد مرور دقائق قليلة فقط من دخول الشياطين كلّهم إلى المعركة بجوار إبلاس ضدّ الآخرين.

لم يبلغ القتال ذروته حتّى لكنّ الضرر الذي تسبّب فيه هؤلاء لما حولهم تخطّى المعقول.

ولكن كلّهم لم يهتمّوا بهذا، فإبلاس اهتمّ بمتعته الخاصّة، والشياطين الآخرون اهتمّوا بأخذ العبيد فقط، والتنين الصغير والآخرون اهتمّوا بحماية المواهب لا الأرض.

ولكن للأسف، صدق إبلاس في كلامه كما سلف وأخبرهم، ونجح في الاستمتاع كما أراد، وحاليا، كان التنّين الصغير والآخرون يعضّون شفاههم بسبب ما حدث.

كانت أنمار في قبضة إبلاس!

كان يحملها في السماء من رقبتها بينما ينظر إلى عينيها مباشرة. لم يستطِع أيّ شخص القيام بأيّ شيء بعدما وضع إبلاس يده عليها، وانتظروا فقط حدوث الأمر.

***

كان التنّين الصغير والثلاثة الآخرون مشغولين مع مجموعتيْ الشياطين الأخريين بينما استغلّ إبلاس الفرصة من أجل القبض على أنمار.

لقد كان مجموعة ذوي مواصفات الوحوش ومجموعة الشخصين المجنّحين تملك أشخاصا أقوياء كفاية لعرقلة من كان هنا على ما يبدو.

أطال إبلاس التحديق إلى عينيْ أنمار فأمال رأسه قليلا وقال مبتسما: "إنّك حقّا تلميذته، فأنا لا يمكنني رؤية اليأس في عينيك أبدا. ربّما هناك خوف، لكنّك تغلّبت عليه وهذه هي الشجاعة الحقيقيّة. أمّا اليأس، فلا يسعني إيجاده."

حملقت أنمار إليه بدون الردّ عليه، كما لو أنّها تتحدّاه.

قال إبلاس: "لقد أتيت من أجل لعبتي الجديدة، لذا كنت أنوي البدء في تطويرها بقتل كلّ شخص يعزّه، لكن اهتماماتي قد تغيّرت قليلا، فالآن صرت أرى أنّ وجود لعبة أخرى لن تضرّني بشيء. ألا تتّفقين معي؟"

نظر شيطان اليأس بعد ذلك إلى قادة التشكيل والآخرين ثمّ إلى أنمار من جديد وقال: "هناك، لقد لمحته. لقد رأيت للتوّ جذر اليأس في أعماقك. سيكون هذا مثير للغاية، فقد مرّ وقت طويل منذ آخر لعبة طوّرتها."

كان قادة التشكيل والآخرون في موقف عصيب إذ كان عليهم التفكير في طريقة ما لإنقاذ أنمار من يد إبلاس، لكنّهم لم يفكّروا في خطّة قد تنجح.

صرخ تورتش: "لا تهمّني الخطط حاليا، سنقذ السيّدة الصغيرة بأيّ ثمن ولو عنى ذلك مقتلنا جميعا، وإلّا لن نقدر أبدا على مواجهة سيّدنا. هل سمعتم؟"

ابتسم إبلاس وقال: "انظري إليهم، مفعمون بالحيويّة، ممتلئون بالرغبة في إنقاذك بأيّ ثمن، ولو كان الثمن حياتهم. أتساءل كيف ستشعرين عندما تتحطّم رؤوسهم واحدا تلو الآخر أمام عينيك دون قدرتك على فعل شيء؟ لربّما تكونين تلميذة حكيم، لكن حتّى هو رضخ لي عندما تعلّق الأمر بأحبّته."

اتّسعت عينا أنمار وقالت: "لا تفعل ذلك، ليس لديهم علاقة بكلّ هذا. أنت تريدني، أنا تلميذة الحكيم السياديّ، أليس كذلك؟ إذن لا تدخل الآخرين في هذا."

هزّ إبلاس رأسه أفقيّا وقال: "ليس جيّدا، ليس جيّدا، إنّك لا تعلمين أنّه عندما يتعلق الأمر بمتعتي الخاصّة، عندما يتعلّق الأمر بتطوير لعبي، فكلّ شخص وكلّ حدث يكون له كلّ العلاقة."

صرخت أنمار بصعوبة: "لا تعبث معي! توقّف، اللعنة!"


انطلق قادة التشكيل والجنرال رعد وشيرايوكي والتاجر ناصر تجاه أنمار، وكلٌّ منهم استخدام طريقة في التحليق، فهناك من استخدم عناصر السحر وهناك من اعتمد على الفنون القتاليّة وهناك واعتمد على شخص آخر في هذا.

كان هدفهم الوحيد هو إنقاذ أنمار من يد العدوّ، ولم يشمل هذا الهدف بقاءهم أحياء بعد ذلك.

كانت الابتسامة تعتلي وجه إبلاس في هذه الأثناء، وانتظر بصبر بينما يستمتع بوجوههم الآملة التي كان يتخيّلها كيف ستصير بعد لحظات.

أدار أنمار لتراهم قادمين وقال: "انظري بعناية، احرصي على مشاهدة جماجمهم تتحطّم. نعم، هكذا سأقتل كلّ واحد منهم، سأحطّم جماجمهم وأعصّر أدمغتهم، فتذكرّي وجوههم قبل فوات الأوان، لأنّ هذه ستكون آخر مرّة ترينهم فيها."

كان كلام إبلاس ثقيلا للغاية على قلب أنمار، وخصوصا عندما كان عاجزة عن فعل شيئا حقّا.

رفع إبلاس يده بينما يقترب أولئك، ثمّ داعب أصابعه يده اليسرى ببعضها كما لو أنّه يجهّزها لما قال أنّه سيفعله.

استخدم قادة التشكيل والجنرال رعد فنونهم القتاليّة، لكنّ شيرايوكي سُحِبت قسرا فجأة فوجدت نفسها تحت قيد الخادم وفيّ.

ونفس الأمر حدث مع شي يو التي كانت في حيازة عنقاء الشفاء.

لقد علمت الملكة الشريرة وعنقاء الشفاء أنّ مصير قادة التشكيل واضح فلم تريدا من ذلك أنّ يشمل ما جاءتا من أجله.

تردّد تورتش والآخرون لوهلة بعدما حدث هذا لكنّ الأوان كان قد فات على التراجع الآن، وبالأحرى كان عليهم إنقاذ أنمار أوّلا لأنّها كانت تبدو في خطر أكبر من شيرايوكي وشي يو.

قال إبلاس: "بمن تريدينني أن أبدأ؟ هل هو الشخص الذي يقودهم؟"

"اللعنة!"

صرخت أنمار لكن بدون فائدة، وفقط عندما شاهدت يد إبلاس اليسرى تمتدّ لإمساك رأس تورتش، ظهر أمامها قوس قزح وشخص يركب تيّارا مائيّا كما لو أنّه يتزلّج بلباقة عليه.

صنع هذا الشخص حاجز مائيّا بين إبلاس ومجموعة تورتش ثمّ ظهر بعد ذلك خلف إبلاس كما لو أنّه انتقل عبر الفضاء حتّى وصل بتلك السرعة، فحاول قطع اليد التي تقبض عنق أنمار، لكنّه لم ينجح إذ كان إبلاس قد راوغ بالفعل.


ولكن، كانت أنمار قد تحرّرت من يده، فقال ذلك الشخص مبتسما بينما يحملها: "هل أنت بخير يا صغيرتي؟"

لقد كان هذا هو الشخص الجميل الذي ظهر في أحد الأرضي يبحث عن أقوى شخص في هذا العالم.

قال هذا الشخص: "يبدو أنّني تأخّرت عن الحفلة يا جماعة؛ اعذروني، فما كان هذا إلّا قدر."

توقّفت معركة الشياطين والآخرين فجأة عندما ظهر هذا الشخص وفعل ما فعل.

صاح التنّين الصغير: "أووه، حتّى أنت جئت يا أيّها الشقيّ الوسيم، هذا جيّد جدّا. ساعدنا هنا."

فتح القوّاس النجميّ عينيه وقال: "هذه ليست أوّل مرّة تصل متأخّرا. لقد بدأت أشعر أنّك تفعلها عن قصد حتّى تبدو بطلا يا أيّها الوسيم."

حدّق ذلك الشخص إلى الحاضرين وقال: "يبدو أنّ تجمّعا مثيرا للاهتمام يحصل هنا."

حدّق أمير مملكة الصقيع إليه وقال: "يا خليفة التيّار اللامحدود، هل ستساعدنا أم لا؟"

نظر خليفة التيّار إلى الأمير وقال: "طبعا، طبعا، ألم أفعل هذا قبل قليل؟ الأمر بسيط، أليس كذلك؟ نحن الأبطال، والشياطين هم الأشرار. هيّا، لنفعل هذا."

كان هذا الشخص الوسيم مرحا.

رفع يده كما لو انّه يطلب الإذن للتكلّم وقال: "ولكن قبل ذلك، أخبروني، لقد أتيت إلى هذا المكان بعد بحث طويل، قاصدا أقوى شخص في العالم الواهن، فهل وجدتموه؟"

عبس الآخرون وفكّر كلّ واحد منهم في الشخص الأقوى بهذا العالم. هل هو أحد هؤلاء؟ أمّ أنّه الشخص الذي قيل أنّه التلميذ الثالث للحكيم السياديّ؟

قال التنّين الصغير: "لا أعلم عن ذلك بالضبط، لكن هناك خبر سينال إعجابك يا أيّها الشقيّ. أترى الفتاة التي تحملها الآن؟ يبدو أنّها تلميذة للحكيم السياديّ."

"هاهاها." ضحك خليفة التيّار: "لا تمزح هكذا يا أيّها العجوز، حتّى أنا لن أنخدع هكذا."


نظر خليفة التيّار إلى التنين الصغير والآخرين فوجد نظراتهم في قمّة الجدّيّة، فقال: "بـ-بجدّيّة؟"

لم يجبه أحد لكنّ ذلك كان تأكيدا على سؤاله.

نظر إلى أنمار ثمّ قال: "هل أنت هي أقوى شخص في هذا العالم؟ لا، انتظري، لقد أخبِرت أنّ اسمه باسل. كيف يمكن لتلميذة الحكيم السياديّ ألّا تكون أقوى شخص في هذا العالم الواهن؟ هذا غريب للغاية. هل يمكن أنّك تخفين قوّتك عنهم؟"

تدخّل إبلاس هنا وقال: "ذلك بسيط يا أيّها التيّار، باسل ذلك أيضا تلميذ للحكيم السياديّ."

"هاا؟!"

صاح خليفة التيّار: "هل تخبرني أنّ ذلك العنيد الذي لم يتّخذ سوى تلميذا واحدا طوال الألف السنة الماضية قد جعل اثنين من العالم الواهن تلميذين له؟ هل هذه مزحة القرن؟"

لم يرد على سؤاله أحد مرّة أخرى لكن ذلك كان بمثابة الإجابة.

تدخّل إبلاس وقال: "والآن، دعنا نكمل. أيّها التيّار، يا ترى هل يمكنك حمايتها وحماية الآخرين منّي في نفس الوقت؟"

"هو ليس لوحده،" قال التنّين الصغير بعدما اقترب من خليفة التيّار: "سأساعده في هذا أيضا، فما رأيك الآن؟"

يبدو أنّ التنّين الصغير ترك القوّاس النجميّ يغطّي عنه فأتى إلى هنا حتّى يوازن الأمور.

ابتسم إبلاس وقال: "سيكون هذا صعبا، لكن ليس مستحيلا. ومع ذلك، يمكنني دائما جعل مهمّة الأبطال أصعب ممّا هي عليه. فمثلا، أترى ذلك الجمهور هناك؟ من سيحمي أولئك؟ لديّ شعور قويّ للغاية أنّ أولئك قيّمون لها."

تحرّك إبلاس تجاههم بسرعة كبيرة بينما يضحك.

ظهر أمام الأباطرة الثلاثة والآخرين، فتفاجؤوا كلّهم بظهوره المفاجئ وتراجعوا بضع خطوات للوراء بدون أن يشعروا بذلك؛ كانت تلك غريزة أجسادهم.

نظر بعد ذلك إلى أنمار من جديد وحدّق إلى عينيها مباشرة فابتسم ثمّ غيّر اتّجاه نظره إلى الكبير أكاغي وقال: "أنت، سأبدأ بك أنت."


تسارع التنّين الصغير بعدما حدث هذا مباشرة، فوضع إبلاس يده على رأس الكبير أكاغي الذي لم يستطِع هو الآخرون المقاومة تحت ضغط إبلاس.

ظهرت مطرقة التنّين الصغير بجانب رأس إبلاس، لكنّه كان قد رأى حدوث هذا بالفعل فراوغ واختفى بعدما كان قد تحرّك بسرعة فائقة؛ كان يستخدم فنّه القتاليّ بجانب طاقته الروحيّة.

ظهر هذه المرّة خلف تورتش والآخرين وحمل هذه المرّة شينشي وقال مبتسما: "هل تظنّ أنّه يمكنك هزيمتي في لعبتي الخاصّة؟"

حاول إبلاس الضغط على رأس شينشي لكنّ سهما بسرعة الضوء جعله يبتعد بأقصى سرعة يملك. كان ذلك سهم القوّاس النجمي الذي استهدف رأس شيطان اليأس بالرغم من أنّه كان منشغلا بمواجهة الاثنين المجنّحين في الآن ذاته.

ضحك إبلاس بينما يقول: "أتساءل إلى متى يمكنكم الاستمرار في هذا."

استهدف بعد ذلك عدّة مرّات برودي وتورتش والأباطرة الثلاثة ومن يرافقهم، لكنّ التنّين الصغير والآخرين كانوا يكونون له بالمرصاد في كلّ مرّة.

ومع ذلك، لم يتوقّف إبلاس عن محاولته التي صارت تبدو كما لو أنّ العشرات منها تحدث خلال ثوانٍ فقط من شدّة سرعة إبلاس وأعدائه.

وفي النهاية، وجد إبلاس تلك الثغرة التي كان يبحث عنها، ثغرة لم يظنّ أولئك السحرة أنّهم سيتركونها.

لقد كانت عينا الحقيقة بمقدورهما رؤية الخبايا وتحليل أرض المعركة ورؤية وتوقّع تحرّكات الآخرين، وبالطبع كانت عاداتهم في التحرّك التي حُفِرت فيهم لآلاف السنين ظاهرة له تماما.

بالرغم من أنّ هؤلاء كانوا سحرة روحيّون مهرة للغاية وحرصوا على عدم إظهار خطوتهم القادمة إلّا عند أوان وقتها، لم يستطيعوا خداع عينيْ الحقيقة الخاصّتين بإبلاس.

بدا الزمن بطيئا في عينيْ إبلاس، وأبسط الحركات صارت تصنع مجرى من الطاقة الروحيّة يوحي للخطوة القادمة.

وفي النهاية، كان إبلاس يحمل الكبير أكاغي مرّة أخرى، وهذه المرّة كان الجميع بعيدا عليه وكان له وقت كافٍ حتّى يفعل ما يريد برهينته.

تكلّم إبلاس بينما يحدّق إلى أنمار ويحمل الكبير أكاغي في السماء من رأسه: "انظري إلى عينيه، انظري إليهما تخرجان من مكانهما ببطء شديد بينما أسحق رأسه."

اتّسعت عينا أنمار بشدّة وصرخت مرارا وتكرارا: "توقّف! ألست تريدني؟ ها أنا ذا. فلتأتِ، أعدك أنّني لن أسمح لأيٍ من هؤلاء بحمايتي."


ضحك إبلاس وقال: "إنّك لا تعلمين شيئا عن هؤلاء يا صغيرتي، فهؤلاء سيحمون تلميذة الحكيم السياديّ بعناية شديدة ولو عنى ذلك التخلّي عن حياة أشخاص آخرين لا تزن قيمة حياتهم نفس قيمة حياتك."

"توقّف، أرجوك! إنّه جدّي!"

ابتسم إبلاس وردّ: "نعم، لهذا السبب أنا أفعل هذا، لأنّه جدّك الغالي."

ابتسم الكبير أكاغي في هذه الأثناء وقال بصوت مرتفع: "اسمعي يا صغيرتي أنمار، لقد عاش هذا العجوز بما فيه الكفاية واطمأنّ على مستقبل هذا العالم. إنّني أعلم أنّ ما خلّفته في أيدٍ أمينة، وهذه كانت أمنيّتي منذ أن التقيت باسلنا. عيشي، ابقي على قيد الحياة، ورافقي الشخص الأحبّ إليك في المسار الروحيّ، تذكرّي هذا."

التفت بعد ذلك إلى الجنرال منصف ثمّ قال: "اهتمّ بعائلتنا يا بنيّ."

ابتسم إبلاس وقال: "حسنا، يكفي هذا كـكلمات أخيرة، بورِكت على إكمال المسرحيّة."

ضغط إبلاس بيده على رأس الكبير أكاغي ببطء، فصرخ هذا الأخير بينما يعاني من ألم شديد.

أحسّ بصداع يشقّ الرأس في الأوّل، ثمّ شُقَّت جمجمته حقّا، ثمّ تكسّرت، فانغرست أصابع إبلاس بين فتات العظام ليعصر أخيرا الدماغ، فخرجت عينا الكبير أكاغي من مكانهما.

كانت أنمار تنظر إلى ما كان يحدث مكذِّبة لذلك، ولكنّها كانت تعلم في صميم قلبها أنّ ذلك كان حقيقة.

صرّ الجميع على أسنانهم وصرخوا بعدما كانت أفواههم خرساء.

"الإمبراطور أكاغي!"

"سيّدي الإمبراطور!"

"جلالتك!"

صرخ الجنرال منصف: "لماذا؟ لماذا؟ اللعنة! لقد فعلنا كلّ شيء حتّى لا يحصل هذا. لقد استعددنا جيّدا حتى لا نجد أنفسنا في هذا الموقف، والآن أبي قد مات، اللعنة! أين أنت يا باسل؟!"

صرخوا بكلّ قوّتهم، فقد رأوا شخصا عزيزا على قلوبهم يموت بتلك الطريقة القاسية.

نزلت الدموع من عيني أنمار اللتين تملؤهما الكراهيّة تجاه إبلاس.

اندفعت نحوه بجنون بينما تصرخ: "سأقتلك، سأقتلك، سأذبحك يا أيّها الشيطان اللعين!"

أوقفها خليفة التيّار عن التحرّك ولم تستطِع الإفلات منه مهما حاولت.

"اتركني! اللعنة، لقد قلت لك اتركني حالا!"

قال إبلاس: "أرأيت؟ لقد أخبرتك أنّهم لن يسمحوا بموتك، لكن لا تلوميهم، فليس بيدهم خيار، فهم عليهم الاختيار بينك وبين هؤلاء الذين يُعدّون قمامة مقارنة بك. وأيضا، لا تلومي نفسك، فذلك سيكون غير مثير للاهتمام بتاتا، بل لوميني."

صرخت أنمار: "إبلاس!"

ضحك وقال: "نعم، هكذا. حسنا، حان دور الثاني."

وضع عينيه بعد ذلك على الجنرال منصف.

***

اهتزّ جسد أنمار بشدّة بعدما رأت إبلاس ينظر إلى جهة الجنرال منصف والآخرين وعلمت أنّه سيفعل ما فعل بالكبير أكاغي مرّة أخرى.

صرخت في وجه خليفة التيّار اللامحدود: "اتركني! هل تحرمني من محاولة إنقاذ عائلتي؟ أبعد يديك اللعينتين عنيّ!"

نظر خليفة التيّار إليها بدون الردّ عليها.

"لو نجوتُ اليوم ومات من أعزّ وأنا عاجزة عن فعل شيء بسببكم، فلأنحرّن عنوقكم واحدا بواحد. أفلتني!"

صرخت مرارا بينما تحاول الهرب من قبضة خليفة التيّار، لكنّها لم تستطع الإفلات منه مهما حاولت؛ لقد كان عازما على عدم تركها.

لم يحاول الاعتذار ولم يشعر بالذنب أبدا كما لو أنّه يظنّ أنّه يفعل الشيء الصحيح.

حاول التنّين الصغير منع شيطان اليأس من بلوغ الآخرين، لكنّه كان يفشل في النهاية تماما كما حدث مع الكبير أكاغي، وهذه المرّة كان إبلاس يحمل الجنرال منصف كما فعل مع حماه.

ابتسم إبلاس بينما يقول: "انظري إليه، ها هو الثاني."

سحق

بتلك البساطة، بدون أيّ وزن، بلا قيمة، كـكابوس، مات الجنرال منصف بعدما سُحِق رأسه قبل أن يعلم أنّه قبض عليه من شدّة صدمته بموت الكبير أكاغي.

صرخت أنمار وانهمرت دموعها، لكن إبلاس لم يتوقّف، بل ازداد حماسا مع مرور الوقت بينما يرى عينيْ أنمار تفرغان من الأمل وتمتلئان يأسا.


أشار بإصبعه إلى أخويْ القطع ثمّ قال: "أنتما التاليين."

حاول قادة التشكيل والآخرون مساعدة الكبير أكاغي والجنرال منصف لكنّهم لم يستطيعوا، وهذا لم يتغيّر الآن أيضا، فتوجّب على أخويْ القطع رفقة الآخرين الاعتماد على أنفسهم.

شحنوا طاقاتهم السحريّة وشحذوا أسلحتهم الأثرية، وحاول كلّ شخص منهم اعتراض طريق إبلاس بالرغم من الصدمات التي تلقّوها قبل قليل، إلّا أنّ فارق القوّة كان كبيرا لدرجة لا توصف. لم يكن هناك فرصة لهم في المقاومة أصلا.

حمل إبلاس كلا الأخوين في السماء، كلّ واحد بيد، ثمّ نظر إلى أنمار وقال: "هذا لن ينتهي أبدا حتّى تعلمين أنّني اليأس بحدّ ذاته، حتّى أصبح أنا كلّ ما يجول في خاطرك، حتّى يكون الهدف الوحيد من حياتك هو الانتقام منّي."

"توقّف!"

توقّع الجميع أنّ أنمار ستكون الشخص الذي سيصيح بذلك، لكنّها لم تنطق بشيء.

التفت شيطان اليأس ليجد **** تبدو في الثانيّة عشر من عمرها تحملق إليه بعينين خاليتين من الخوف.

صاح الأخ الأكبر، غايرو: "لماذا أتيتِ إلى هنا يا صفاء؟ عودي من حيث جئتِ حالا!"

ابتسم إبلاس وقال: "ليس جيّدا، ليس جيّدا، أو لم تأتِ كلّ هذا الطريق إلى هنا من أجلكما؟ كيف لكما أن تكونا بهذه القساوة؟ دعونا نستقبلها جيّدا."

صرخت أنمار: "ابتعد عن أخوَيّ!"

نظر إبلاس إليها بعينيْ الحقيقة للحظات طويلة قبل أن يضيق عينيه ثمّ يقول: "هذا... ليس سيّئا، ليس سيئّا. مثير للاهتمام! إنّ هذا العالم الواهن ما يزال يبهرني حقّا."

استغرب التنّين الصغير والآخرون من طريقة تصرّفه قبل أن يسمعوه يكمل كلامه: "من كان ليتوقّع وجود مخلوقا نادرا مثلك هنا؟ متى كان للعالم الواهن معرفة كافيّة حتّى يُصنع فيه هجينا هكذا؟"

عبس القوّاس النجميّ والآخرون بعدما سمعوا ما قاله وحدّقوا إلى صفاء بعناية كما لو أنّهم يحلّلونها بعيونهم الروحية، فوجدوا طاقتها السحريّة غريبة للغاية، إذ كانت كثافتها وكمّيّتها كبيرة جدّا بالرغم من أنّ تلك كانت مجرّد فتاة في الثانيّة عشر من عمرها، هذا بدون ذكر اليشم القرمزيّ الغريب البارز في جبهتها.


حملقت صفاء في هذه الأثناء إلى إبلاس ثمّ شحنت طاقتها السحريّة التي توهّجت بشكل غريب، إذ بدا الأمر كما لو أنّ هناك طاقتيْن سحريّتين متعارضتين لكن منسجمتان في نفس الوعاء.

لم تختلط الطاقتان ببعضهما لكنّ كلّ طاقة دعمت وعزّزت قدرات الطاقة الأخرى فنشأ بسبب ذلك طاقة جديدة تماما تحمل كلا مواصفات الطاقتيْن.

كانت تلك طاقة حياة الساحر، وطاقة حجر أصل الوحوش السحريّة، وكلاهما كوّنا طاقةَ ما كان يُدعى في العوالم الروحيّة بـ'الهجين الروحيّ'.

فتح التنّين الصغير عينيه على مصراعيهما مثل ما فعل الآخرون بعدما كادوا لا يُصدّقون ما يرون.

قال شبح أرض الموتى: "كيف لهذا العالم أن ينجح في صنع هجين روحيّ؟ هذا نادر للغاية حتّى في العوالم الروحيّة ولا يوجد سوى قلّة قليلة من يملك المعرفة الكافيّة من أجل هذا!"

ضحك شيطان اليأس وقال: "لكن ليس ذلك ما فاجأني، فهجين روحيّ ليس بذلك الشيء المميّز بالنسبة لي. ما أثار اهتمامي هو حجر الأصل الموجود فيها."

أعاد الآخرون النظر وركّزا هذه المرّة على الحجر الأصليّ، فتفاجؤوا أكثر من السابق، إذ لاحظوا هذه المرّة ما لم يسبق لهم رؤيته أو السماع به في العوالم الروحيّة.

قال أمير مملكة الصقيع مندهشا: "كيف لهذا أن يكون ممكنا؟ هذا يجب أن يكون مستحيلا. كيف لهم أن ينجحوا في صنع هجين روحيّ بحجر أصل بالمستوى الرابع عشر؟"

علّق القوّاس النجميّ: "من المعلوم أنّ الهجين يُصنع بحجر أصلٍ بالمستوى الأوّل ولا يمكن النجاح في العمليّة أبدا بحجر بمستوى أكبر، ولكن هذا العالم نجح في هذا. هذا يطرح العديد من التساؤلات، وأهمّها حاليا هو من كان وراء نجاح هذه العمليّة أصلا؟"

تمتم الشبح: "هل يمكن أنّ للحكيم السياديّ علاقة بهذا أيضا؟ لو اتّبعنا النمط حتّى الآن فسنجد أنّـ..."

قاطعه التنّين الصغير: "توقّف هناك يا هذا. هل تظنّ أنّ الحكيم السياديّ شخص قد يُقدم على مثل هذا الفعل الشنيع؟"

عبس الشبح لكنّه اتّفق مع التنّين الصغير.

لم يهتمّ إبلاس بمن كان وراء هذا الفعل، بل كان فقط مهتمّا بمتعته الشخصيّة حاليا. قال بينما ينظر إلى صفاء: "هذان سيموتان، ولا شيء سيمنع حدوث ذلك، فما الذي ستفعلينه يا هجينة؟"


انفجرت طاقة صفاء السحريّة الفريدة قبل أن يبدأ شكل جسدها يتغيّر تدريجيّا، إذ نمت عليها قشور صلبة كقشور التنّين، ونما لها ذيل وجناحين فكانت قد صارت تبدو كتنّين اتّخذ هيئة بشريّة.

صُدِم الحاضرون بأجمعهم، ولم يهم إن كانوا سحرة روحيّون أم مجرّد سحرة؛ فالسحرة اندهشوا فقط من مظهر صفاء الحالي والطاقة السحريّة التي انبعثت منها، بينما انذهل السحرة الروحيّون من الشكل الذي تحوّلت إليه وأصله.

بلع الشبح ريقه ثمّ قال: "هل... هل ذلك التحوّل بسبب ددمم التنانين؟!"

عبس التنّين الصغير وردّ بسرعة: "هذا مستحيل. ذلك على الأغلب ددمم الوايفرن، ولكن متى كان للعالم الواهن حجر أصل ودم وايفرن؟ هذا غير طبيعيّ. هذا كثير على أن يكون محض صدفة. فقط ما الذي حدث في العالم الواهن طيلة السنوات الماضية دون علمنا؟"

"حجر أصل ودم وايفرن! هجين روحيّ بحجر أصل وحش الوايفرن ودمه؟" لم يصدّق أمير مملكة الصقيع الأمر كذلك.

اندفعت صفاء نحو إبلاس في السماء بينما تبعث نيّة قتلها وهالتها في كلّ مكان؛ كانت هائجة وغاضبة لدرجة لا توصف. لم يكن أحد ليتخيّل أنّ تلك الطفلة الهادئة يمكنها أن تصير هذا المخلوق المفزع.

ضحك إبلاس وقال: "إنّك في المستوى الرابع أصلا، لكنّ الطاقة السحريّة التي اكتسبتها عند تحوّلك فجأة جعلتك تبلغين المستوى السابع من مستويات الربط، هذا منظر مدهش حقّا."

نظر أخوا القطع إلى وجه إبلاس المتحمّس فـعَلِما ما ينتظر أختهما الصغيرة، لذا صرخ بكلّ ما بوسعهما: "لا تقتربي يا صفاء! ابتعدي! أرجوك استمعي إلى أخويك هذه المرّة فقط. فلينقذها أحد من فضلكم. اللعنة!"

رفع إبلاس يده للأعلى ثمّ استعدّ ليخفضها من جديد حتّى تنفّذ ما خشي أخوا القطع حدوثه.

صرخ كاي: "اللعنة، أين أنت يا أيّها اللعين؟ ألست تتبعها في أيّ مكان؟ ألا يجب أن تكون حاضرا الآن وتمنع موتها؟"

عبس إبلاس كما لو أنّه لاحظ شيئا، وفي اللحظة التالية تغيّر مسار صفاء.

كان المنظر عجيبا، وخصوصا عندما لمح الجميع أنّ هناك شخص يبدو كنسخة كبرى من صفاء بشكلها الحالي.

لقد كان ذلك أوبنهايمر فرانكنشتاين!


ابتسم العالم المجنون وقال بدون مراعاة: "لقد أخبرتكما، أليس كذلك؟ أخبرتكما أنّكما ستندمان على جعلي أبتعد عنها."

بكى الأخوان بعدما تأكّدا من سلامة أختهما أخيرا وابتسم غايرو ثمّ خاطب إبلاس: "بؤسا لك يا أيّها اللعين. لن يسير كلّ شيء كما تريد."

التفت إليه إبلاس ثمّ قال: "هل تظنّني لم أكن قادرا على قتلها فقط لأنّ ذلك الشخص تدخّل؟ أنا فقط أردت رؤية تطوّر الأحداث بظهور الشخصيّة الجديدة."

حدّق أمير مملكة الصقيع إلى العالم المجنون ثمّ قال: "انتظر... انتظر، انتظر، هل هذا هجين روحيّ آخر؟ وبدم الوايفرن؟"

عبس التنّين الصغير وقال بعد فترة طويلة من الحيرة: "هناك اختلاف، فذلك الشخص لا يملك على الأقلّ حجر أصل بداخله كتلك الفتاة."

قال القوّاس النجميّ دون أن يفتح عينيه: "هذا يزيد الأمور تعقيدا فقط. كيف له أن يكتسب تلك الخواصّ إذن؟"

لم يجبه أحد على سؤاله المحيّر.

نظرت صفاء بغضب إلى أوبنهايمر فرانكنشتاين الذي كان يقيّد ذراعيها ويضغط عليها بمستواه السحريّ الذي كان يساوي ضعف مستواها. حاولت الإفلات من قبضتيه بينما تصرخ: "اتركني، يجب عليّ مساعدة أخويّ."

لم يجبها العالم المجنون، وقال غايرو بدل ذلك: "اثبتي في مكانك يا صفاء. اسمعي جيّدا، يجب عليك البقاء هناك مهما حدث. وأنت اسمعني يا أيّها المتربّص، لا تطلق سراحها أبدا. اهرب من هنا حالا."

ضغط إبلاس على رقبة غايرو وقال: "أنا من يحدّد من يمكنه المغادرة أم لا."

ضحك كاي وقال: "لقد أخبرناك، لن نجعل الأمور تسير كما تريد."

ابتسم إبلاس وقال: "لا، في الواقع، لقد قرّرت إعادة الترتيب. سأقتلكم وأجعلها تشاهد هذا قبل أن أقتلها وأجعل ذلك الشخص الذي ظهر يشاهد هذا. هذا سيكون ذلك مثيرا للاهتمام أكثر."

بدأ إبلاس يضغط على رأسيهما في نفس الوقت، فصرخ الأخوان بشدّة من قساوة الألم. صرخ غايرو في نفس الوقت: "تذكّري يا صفاء، لا تثقي في أيّ أحد سوى من وضعنا نحن ثقتنا فيه."

صرخت صفاء وثابرت حتّى تتحرّر لكنّها لم تنجح. نظر أوبنهايمر فرانكنشتاين إلى الأخوين مرّة أخيرة قبل أن يهمّ مغادرا كما أُخبِر.

سُحِق رأسا أخويْ القطع في الآن ذاته فانتهت معاناتهما، فانهمرت الدموع من عينيْ صفاء بينما تضرب العالم المجنون بجنون.

"لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لقد أخبرتك أن تتوقّف، قلت لك حرّرني. إنّهما عائلتي الوحيدة. لقد كانا عائلتي الوحيدة. سأقتلكم! سأقتلكم!"

لم يتوقّف العالم المجنون بالرغم من كلّ هذا، لكنّه توقّف أخيرا وذلك لأنّ شيطان اليأس ظهر أمامه.

تفاجأ العالم المجنون لأنّه كان واثقا في سرعته المدهشة إلّا أنّ إبلاس تفوّق عليها بكلّ بساطة.

أشار إبلاس إلى صفاء وقال: "لقد حان دورها الآن."

عبس العالم المجنون وقال: "لن أسمح بذلك."

اختفى إبلاس قبل أن يظهر أمام أوبنهايمر فرانكنشتاين، فحاول هذا الأخير التراجع إلّا أنّه علم أنّ الأوان قد فات وأنّ صفاء ستُؤخذ منه ليشاهد موتها.

وفي تلك اللحظة، ظهرت المطرقة 'ميولنير'، لكن هذه المرّة ظهر معها صاحبها الذي لوّح بها فنزلت صاعقة من السماء مصحوبة بهدير رعد هزّ الأرض المباركة. لم يحدث لإبلاس شيئا بالرغم من أنّه تلقّى تلك الصاعقة، لكنّها أجبرته على التراجع.

تكلّم التنّين الصغير بعدما جعل إبلاس يتراجع: "لقد قرّرت. هذان يعودان لي الآن."

تكلّم العالم المجنون فجأة: "لست أعود لأحد يا عجوز، وهذه الفتاة تعود لي أنا."

"هذا يا هذا♪" ضحك التنّين الصغير: "إذن، هل يمكنك حمايتها وحماية نفسك ضدّه؟"

قطب العالم المجنون لكنّه لم يستطِع الردّ على ذلك السؤال.

قال إبلاس: "هل يمكن أنّك نسيت أنّه يمكنني جعلك تلاحقني في الأرجاء مرّة أخرى بلا فائدة قبل أن أمسك بفريستي في نهاية المطاف؟"

استنكر التنّين الصغير كلام شيطان اليأس وقال: "ألاعيبك تنتهي هنا. لقد قرّرت أخذ هذين، ولن أسمح لك بمسّهما."

"جيّد، جيّد!" ضحك إبلاس بصوت مرتفع وقال: "هل تلمّح إلى أنّك لم تعد مهتمّا بما قد يحلّ بالآخرين طالما يمكنك حماية هذين؟"

لم يجبه التنّين الصغير ونظر إلى الشروخ الفضائيّة التي أتوا منها وقال: "أنا فقط أظنّ الوقت لألاعيبك لن يكون متاحا لفترة طويلة. هل تظنّ أنّ مكوثنا هنا غير مقيّد؟"

نظر إبلاس إلى الشروخ الفضائيّة وقال: "بالطبع لا أظنّ ذلك. لقد علمت منذ قدومنا إلى هنا أنّ هذه الممرّات الشاذة ستُقفل بعد فترة بعدما يستقرّ الختم الذي وضعه ذلك اللعين. ولكن هذا لا يهمّ، ما زال هناك وقت كافٍ لي."

صاح التنّين الصغير: "هل سمعتم يا رفاق؟ علينا المماطلة فقط حتّى يحين أوان المغادرة."

أومأ الأربعة الآخرون له.

تحرّكت الملكة الشريرة وخادمها وفيّ الذي يقبض شيرايوكي بعدما بدت كما لو أنّها قد رأت ما يكفي، ونوت المغادرة.

كان الحال نفسه مع عنقاء الشفاء، لكنّها اتّجهت نحو مجموعة الإمبراطورين. كان نظرها يركّز على الشخص الذي ظهر متأخّرا. لقد كانت تراقب هيل، ساحر العلاج من إمبراطوريّة الأمواج الهائجة.

لم تضع عنقاء الشفاء أيّ أحد في عين الاعتبار ولم تسمح لأّي شخص بالوقوف في طريقها قبل أن تقبض على هيل وتقيّده كما فعلت لشي يو بقيد روحيّ حولهما.

التفتت إلى جهة التنّين الصغير وإبلاس ثمّ همّت مغادرةً بعدما حقّقت هدفها.

صرخ تورتش: "انتظري أيّتها اللعينة! أين تظنّين نفسك ذاهبة؟ أعيديهما إلى هنا."

حاول الذهاب إليها لكنّ خليفة التيّار اللامحدود اعترض طريقه فصاح تورتش: "ماذا؟ هل ستعترض طريقنا مرّة أخرى؟ هل حقا تريد منّا المكوث هنا دون فعل شيء؟"

حملق خليفة التيّار إليه وقال: "لا يمكنني السماح بفقدان التوازن الحاليّ وإلّا ستموتون كلّكم هنا." أشار إلى إبلاس وقال: "لو سمحت لك بالمغادرة، فسيتلاعب ذلك اللعين بنا كما يشاء."

صرخ تورتش بعدما فقد رشده: "هل تظنّني أهتمّ بهذا الآن؟ ابتعد عن الطريق اللعين وإلّا أقسم لكم أنّني سأجعل حياة كلّ واحد منكم جحيما ولو مرّ على هذا آلاف السنين."

لم يتكلّم خليفة التيّار بعد ذلك وقيّد جماعة أنمار فقط منتظرا نهاية هذا الأمر.

غادرت الملكة الشريرة وخادمها بصحبة شيرايوكي، فصرخ الإمبراطور هاكوتشو: "ما الذي تفعلانه بأخذكما لأختي الصغيرة؟"

انطلق برفقة بعض السحرة الذي رافقوه إلى هنا، وبالرغم من أنّهم لم يكونوا جنرالات كانت مستوياتهم مرتفعة، إذ كان أضعف واحد منهم بالمستوى العاشر.

حملقت الملكة الشريرة إليهم ثمّ نظرت بعد ذلك إلى خادمها وفيّ الذي أومأ رأسه بعد رؤية عينيها وقال بعدما انحنى واضعا يده على صدره: "كما تتمنّين يا ملكتي."

التفت الخادم وفيّ إلى الإمبراطور هاكوتشو الذي يلاحقه برفقة الآخرين، وقال: "تراجعوا حالا. لا أضمن نجاتكم إن اقتربتم أكثر."


صرخ الإمبراطور هاكوتشو: "ما الذي تتحدّث عنه يا هذا؟ ما بالكم يا جماعة؟! كلّكم تتوقّعون منّا عدم رفع إصبع واحد بينما نشاهد أحبّاءنا يُخطفون!"

حدّق الخادم وفيّ إليه غير مهتمّ بكلامه، فلمحت شيرايوكي تلك النظرات على محياه فإذا بها تصرخ بكلّ ما تملك: "أخي الكبير، تراجع من فضلك! لا تأتِ، رجاءً!"

توقّف الإمبراطور هاكوتشو فجأة: "ما الذي تتحدّثين عنه؟ هل غسلوا دماغك ربّما؟ ما الذي فعلتماه لها يا أيّها..."

قاطعته شيرايوكي: "لم يفعلا شيئا يا أخي. لقد رأيت ما حصل للآخرين على يد ذلك الشيطان، وهؤلاء لا يختلفون عنه كثيرا. أنا لا أريد منكم أن تموتوا هباءً."

كان الإمبراطور حزينا للغاية. لقد كان كلام أخته الصغرى صحيحا، لكنّه لم يستطِع تقبّل الواقع: "ولكن..."

"أرجوك!" صرخت شيرايوكي: "لا أعلم ما الذي يريدونه منّي؟ لكنّني أعلم أنّهم سيقتلونكم لو اقتربتم أكثر. دع الأمر وشأنه. أرجوك استمع لي وعدّها أمنيتي الأخيرة لك."

نظر الإمبراطور إلى شيرايوكي لوقت طويل ثمّ أحكم القبض على سيفه الأثريّ ولم يقل شيئا. لم يستطِع أن ينبس ببنت شفة؛ لقد كانت أخته محقّة، لكنّه شعر أنّه عليه الذهاب إليها مهما كلّفه الأمر.

حدّق الخادم وفيّ إليه لبعض اللحظات قبل أن يستدير ليغادر.

صرخ الإمبراطور هاكوتشو: "تذكّروا كلّكم، سيأتي الوقت الذي ينتقم فيه عالمنا من كلّ شروركم اللعينة. تذكّرا أنتما، سأنقذ أختي الصغرى وأعيدها إلى هنا، وذلك بعد أن أدمّركما تماما. تذكّرا هذا، اللعنة!"

انهمرت الدموع من عينيه وخارت قواه بسبب الحقيقة القاسيّة؛ لقد كانوا ضعفاء للغاية مقارنة بهؤلاء.

اقتربت عنقاء الشفاء من الشرخ الفضائيّ الذي أتت منه، فتمتمت: "يبدو أنّ الممرّ ما زال مستقرّا حتّى الآن ولن يشكلّ خطرا كبيرا عليهما."

التفتت بسرعة كبيرة ثمّ دافعت بذراعها في آخر لحظة قبل أن تصدمها ذراع أخرى على وجهها.

قطبت عنقاء الشفاء وقالت: "هل تنوي التدخّل في أموري يا أيّها الشقيّ اللعين؟"


ابتسم إبلاس وقال: "لقد أخبرتك، لا أحد سيغادر هذا المكان إلّا بعد إذني، والذي لن أمنحه لأحد حتّى أكتفيَ تماما."

حملقت العنقاء إليه وقالت: "هل تظنّ أنّك قادر على منعي؟"

أمال إبلاس رأسه وأجاب: "لوحدك؟ لديّ تمام الثقة في ذلك."

أحاطها اللهب وتراقصت الشعلات حول جسدها وثارت طاقتها السحريّة واندفعت إلى السماء كبركان منفجر.

"لن ألعب معك لعبة المطاردة هنا." حملقت إلى إبلاس وقالت: "كن على استعداد للموت."

ابتسم إبلاس وقال: "لنفترض أنّه يمكنك قتلي، فهل يمكنك فعل ذلك بينما تحمينهما يا ترى؟"

ضاقت عينا العنقاء أكثر لمّا سمعت ذلك وحرصت على شي يو وهيل أكثر. لقد كانت تعلم كيف تسير ألاعيب هذا اللعين أمامها.

قالت بصوت بارد: "يبدو أنّ ملككم اللعين سيحتاج للبحث عن مدبّر حروبٍ آخر."

ردّ عليها إبلاس: "لا تقلقي، لا يمكنني رؤية نفسي أموت اليوم إطلاقا."

كانت رؤية إبلاس للأمور عميقة للغاية بسبب امتلاكه عيني الحقيقة، ولهذا كان لكلامه وزن كبير عندما قال أنّه لا يرى قدوم موته اليوم.

مرّت بعض اللحظات، وفقط عندما اقترب الاثنان من الاشتباك معا استشعرا، كما استشعر الآخرون، اقتراب شخصين يبعثان طاقة رهيبة عمدا كما لو أنّهما يخبران الجميع: "نحن قادمان."

حدّق إبلاس إلى تلك الجهة فاتّسعت عيناه الصفراوين وقال متحمّسا للغاية: "هذا... جيّد جدّا، جيّد جدّا!"

استطاع الآخرون معرفة هويّة الشخصين القادمين بعد لحظات، فقال التنّين الصغير: "هذا يا هذا♪ من كان يتوقّع ظهور شخصيّة كهذه هنا؟ وأنا الذي ظننت أنّه لا أحد من 'الطاولة المستديرة' سيظهر."


ترقّب الجميع وصل ذينك الاثنين، ولمّا ظهرت صورتهما علّق إبلاس: "هذا يوم عظيم! لقد كنت أريد مقابلتك حقّا في الآونة الأخيرة. إنّ هذا العالم الواهن رائع حقّا؛ ها أنا ذا ألتقيك أخيرا يا أيّتها الملاك ملاك."

كان ذلك الشخصان امرأة ورجل، وكان إبلاس يخاطب المرأة التي كان قوامها مثاليّا رفقة وجهها الناضر الذي أنار بجماله المكان الذي حلّته. كان شعرها الطويل يبدو كتدفّق من الحبر الأسود الذي لم تشُبْه شائبة.

لقد كانت هذه هي المرأة التي اشتُهِرت باكتسابها لمقعد في 'الطاولة المستديرة' بكلّ جدارة واستحقاق، وذاع صيتها كواحدة من بين أجمل عشر نساء في العوالم الروحيّة. تلك كانت الملاك ملاك!

نظرت الملاك ملاك إلى إبلاس ثمّ قالت: "إنّه لأمر محزن أن ينجح أمثالك في الوصول إلى هذا العالم الواهن. ما الذي أتيت لفعله هنا يا شيطان اليأس؟ ألا يجب أن تكون منشغلا بدراسة ختم ملكنا الأصليّ برفقة ملككم اللعين؟"

ابتسم إبلاس وقال مستمتعا: "أنا في عطلة. ألا تسافرين في عطلك يا ملاك؟"

أغمضت عينيها وقالت: "اعفني من هذا يا هذا. ليس هناك خير في عطلك. دعني أسألك، ما الذي تنوي فعله؟ وقبل ذلك، ما الذي فعلته حتّى الآن؟"

ابتسم إبلاس وقال: "هل أنت حقّا بحاجة للسؤال؟ أليس ذلك واضحا؟ أنشر اليأس بالطبع."

بدا إبلاس مستمتعا بكلامه مع هذه المرأة، ونسي أمر عنقاء الشفاء كما لو أنّها لم تكن هناك أصلا، وعندما تذكّرها أخيرا لوّح بيده وقال: "آه، أنت... انصرفي، انصرفي. إنّني لست مهتمّا فيك بعد الآن."

حملقت عنقاء الشفاء إليه بحقد شديد قبل أن تهدأ عندما فكّرت في استغلال هذه الفرصة وتهمّ مغادرة كما فعلت الملكة الشريرة.

حاولت أنمار والآخرون فعل ما بوسعهم من أجل إنقاذ شيرايوكي والآخريْن لكنّ النتيجة كانت متوقّعة؛ لم يستطيعوا الفرار من قبضة مجموعة التنين الصغير التي كانت تحميهم وتمنعهم من محاولة حماية أعزّ الناس إليهم.

لم تتوقّف دموع الإمبراطور هاكوتشو بينما كان يرى أخته الصغرى تختفي في الأفق، وصر على أسنانه وعض شفّته السفلى وتذوّق دمه ثمّ صرخ: "اللعنة!"

كانت عنقاء الشفاء هي أوّل شخص يغادر هذا العالم، فصرخ تورتش والآخرون وعيونهم ممتلئة بالكره والحقد تجاه كلّ شخص هنا. لم يهتمّوا إن كانوا يفكّرون لمصلحتهم أم لا، فهؤلاء كلّهم لخبطوا حياتهم في فترة وجيزة للغاية.

بالفعل، كلّ هذا حدث في وقت لا يتجاوز الساعتين، لكنّه كان متخِما كثيرا.


نظر إبلاس إلى الملاك ملاك ثمّ قال: "حسنا، إليك آخر الأخبار. أترين تلك الفتاة الشقراء هناك؟ تلك الفتاة تلميذة لِـحكيم."

عبست الملاك ملاك مباشرة بعدما سمعت إبلاس ينطق الاسم 'حكيم' ثمّ قالت: "تلميذة إدريس؟ كيف... انتظر، هل يمكن أنّه كان هنا طوال الوقت؟"

ابتسم إبلاس وقال: "نعم كان، لقد كان هنا."

عبس القوّاس النجميّ بعد سماع هذا الكلام، وفعلت الملاك ملاك نفس الشيء، إلّا أنّ هذين الاثنين كانا يفكّران في شيئين مختلفين تماما.

تسارعت ضربات قلب القوّاس النجميّ وتذكّر عندما قال إبلاس تلك الجملة: "هل حقّا كنتم حلفاء؟"

لقد سمع إبلاس يكرّر نفس طريقة الكلام، إذ قال 'كان' كلّما تحدّث عن الحكيم السياديّ.

ولكن في الجهة الأخرى، كانت الملاك ملاك تظنّ أنّه يقصد أنّ إدريس لا يوجد بعد الآن في هذا العالم، وهذا ما ظنّه الآخرون أيضا.

قالت الملاك ملاك بنبرة متعالية: "أخبرني أين هو الآن؟"

بدا إبلاس كما لو كان يعلم موقع إدريس الحكيم، فأرادت أن تعلم أين، إذ غاب لسنوات بالفعل.

ضحك إبلاس وقال: "كيف يمكنني قولها؟ أممم... البرزخ؟"

فتحت الملاك ملاك عينيها على مصراعيهما وقالت بعدما ضيّقتهما من جديد: "لطالما أردت قول هذا لك يا شيطان اليأس؛ إنّ مزحك سيّئة للغاية. حاول أن تعمل على تحسينها ولربّما ستجد بعض المعجبين بك."

ضحك إبلاس أكثر فأكثر بدون توقّف لمدّة طويلة، بينما زادت سرعة ضربات قلب القوّاس النجميّ، واعتلت نظرات الاستغراب الآخرين.

قال إبلاس بعدما وازن تنفّسه بعد ضحكه الشديد: "بالطبع ستكون سيئّة، لأنّها ليس مزحة أصلا."


قالت الملاك ملاك واثقة: "إن كنت تحاول القيام بألاعيبك هنا، فلا تحاول أكثر من هذا. لقد فشلتَ."

تنهّد إبلاس وقال: "هذا يؤلم حقّا يا ملاك. لقد ظننت أنّ كلماتي لها وزن."

ردّت الملاك ملاك عليه: "التفاهة لا تزن شيئا."

"ليس جيّدا، ليس جيّدا، كان حكيم ليصدّقني؛ لطالما صدّقني عندما صدق كلامي."

التفتَ إلى أنمار وقال: "حسنا، لمَ لا نجعل تلميذته تؤكّد الأمر؟"

حدّق الجميع إلى أنمار وانتظروا كلمة منها بفارغ الصبر، إلّا أنّها لم تقل شيئا ونظرت إلى الأسفل فقط بعدما تذكّرت موت معلّمها. لقد كانت حالتها مزريّة لكنّها أجبِرت على تذكّر أنّ الشخص الي أدّى إلى موت معلّمها هو نفس الشخص الذي قتل أعزّاءها، فلم يسعها سوى أن تُحبَط أكثر بينما تحاول حبس دموعها.

"هذا...!" قال التنّين الصغير بنبرة متفاجئة بعد استجابة أنمار بتلك الطريقة: "ما الذي يعنيه صمتها هذا؟ هذا غير معقول! هل... هل حقّا مات الحكيم السياديّ؟!"

تسارعت نبضات قلب كلّ واحد منهم، فقال شبح أرض الموتى: "متى؟ أين؟ كيف؟!"

صرخ أمير مملكة الصقيع: "ما الذي تعلمه عن هذا يا أيّها الشيطان اللعين؟"

ضحك إبلاس وقال: "ما الذي أعلمه؟ هذا مضحك حقّا. هل تدرك أنّك تسأل الشخص الذي قتل حكيم؟ ألم تستطِع فهم هذا من كلّ التلميحات من المحادثات السابقة؟"

صرخ خليفة التيّار: "لا تهرأ يا لعين! لم يكن ذلك العنيد ليخسر أمامك ولو بعد مليون سنة."

ابتسم إبلاس وقال: "للأسف، لقد خسر بالفعل."

ظلّت الملاك ملاك تحدّق إلى إبلاس بنظرات ممتلئة بالشكّ. لقد سمعت للتوّ خبرا صادما بالنسبة لها للغاية. لقد صُدِمت لدرجة لم ترد فيها التصديق فقالت: "هذا مستحيل. إنّك مخطئ لو لم تكن تكذب."

نظرت إلى أنمار وقالت: "وتلك، حتّى لو كانت تلميذة إدريس كما قلت، أنا متأكّدِة أنّها مخطئة فقط. إدريس حيّ لا محالة."

حملق إبلاس إلى وجهها البشوش الذي اعتلته نظرات الشكّ والتكذيب، وقال: "هذا يكفي. لقد حدث هذا بعد فسخ الاتّفاقيّة بين ملكنا العظيم وملككم المزيّف. زرت ها العالم فوجدت حكيم هنا، وبالطبع تقاتلنا كأيّ مرّة نلتقي فيها، إلّا أنّني كنت مقرّرا منذ زمن طويل أنّ المرّة القادمة التي سألتقيه فيها ستكون آخر مرّة بعدما يموت على يدي."

تنفّست الملاك ملاك بسرعة كبيرة واستمرّت في الصراخ: "توقّف عن قول الهراء. إنّك تفعل هذا فقط لأنّك تعلم عن علاقتي بإدريس. إنّك فقط تريد رؤية النظرات التي تعشقها تعتلي وجهي."

ردّ إبلاس: "بالطبع أريد رؤيتها، لكنّني أعلم أنّ الخدع لن تنطلي على شخص بمستواك. الحقيقة فقط ما يمكنها التأثير."

أكمل إبلاس بعد استراحة قصيرة: "لقد مات من أجل أن يحمي تلميذيْه. هذا من شيمه حقّا. أوه أجل، هناك تلميذ آخر أيضا، ويبدو أنّ حكيم يفضّله بشكل خاصّ."

كانت كلّ هذه المعلومات كثيرة للغاية على الملاك ملاك التي ظهرت لتوّها، وبالطبع لم تكن سهلة على الآخرين أيضا.

ولكن لا أحد من هؤلاء صُعِق بهذا الخبر مثل الملاك ملاك، إذ كانت علاقتها بإدريس الحكيم قريبة للغاية، حتّى أنّ العديد اعتقدوا أحيانا أنّهما كانا متزوّجيْن.

لقد كانت الملاك ملاك هي المرأة التي وقع إدريس الحكيم في حبّها.

***

حلّلت الملاك ملاك مصداقيّة كلام إبلاس فوجدتها كاملةَ الصدق، لكنّها لم ترد الاعتراف بالأمر وتقبّل حقيقة موت إدريس الحكيم؛ فهي كانت تعتقد أنّه ما تزال هناك احتمالية أن يكون شيطان اليأس مخطئا.

قالت: "لربّما تكون تلك الفتاة تلميذته، ويمكنني التأكّد من صحّة هذا بسرعة كبيرة، لكنّ موت إدريس لا يوضع في عين الاعتبار حتّى. لا أعلم أين هو الآن، لكنّني أومن أنّه حيّ يرزق."
تنهّد إبلاس وخاب ظنّه بعد سماعها ثم قال: "لا بأس، سيكون عليّ الصبر لوقت أطول فقط ريثما تعلمين أنّ ما قلته حقيقة."
"والآن،" أكمل إبلاس بعدما نظر إلى أنمار: "بالرغم من أنّني قتلت بعض الأشخاص الذين تعزّهم تلميذة حكيم تلك، فإنّي ما زلت أرى نورا في عينيها له مصدر آخر."
عبست الملاك ملاك وقالت: "هل ستفعل هذا حقّا؟ هل تنوي تركها في الظلمة فقط؟"
ابتسم إبلاس وردّ: "ذاك صحيح. عندما تغمرها الظلمة كلّيّا، لن تعلم أيّ طريق تتبع، فأكون أنا الشعلة التي تقودها عبر طريق واحد – طريق الانتقام منّي. سأكون أنا حينئذ بوصلة مسارها الروحيّ."
رفعت الملاك ملاك حاجبها وقالت: "وهل تظنّني سأسمح لك بذلك؟ إن كانت تلك تلميذة إدريس فعلا، فهي من دون شكّ ابنته الروحيّة. هل اعتقدت لوهلة أنّني سأترك ابنة إدريس تقع في الظلمات بينما أشاهد بصمت؟"
ضحك إبلاس وردّ: "بالطبع لا، ولكن ذلك بالضبط ما أحتاج منك أن تفعليه، لأنّ هذا سيكون مملّا بدون القليل من التشويق."
أوووم
ضجيج

استشعر إبلاس والملاك ملاك فجأة طاقات بعض الأشخاص الروحيّة التي كانت قادمة من مختلف الجهات، وعندما ظهر أولئك أخيرا اتّضح أنّهم كانوا بشرا وشياطين وآخرين من متخلف الأعراق.
كان هناك مخلوقات كالبشر لكنّ بشرتهم بدت شاحبة كما لو أنّها صنِعت من الثلج. كان هناك جنّ الغاب كـ'عنقاء الشفاء' وأقزام كـ'التنّين الصغير'، وكان هناك 'عفاريت' و'بشر متوحّشون' كـ'المستذئبين' والسحالي البشريّة والثيران البشريّة وأعراق أخرى.
قال إبلاس بعدما رأى تلك التجمّعات في مختلف الأنحاء: "يبدو أنّ الأمر سيزداد تعقيدا. أتساءل الآن إذا كان بإمكان بعض الأشخاص حماية من يريدون حمايتهم."
نظر بعد كلامه ذاك إلى التنّين الصغير والآخرين وأكمل: "لقد قمتم بعمل جيّد حتّى الآن، لكن أظنّ أنّ دفّة الأمور غدت تسير في صالحي كلّيّا الآن."
صرّ التنّين الصغير على أسنانه بينما ينظر إلى كلّ من ظهر. لقد كان أولئك أشخاص مهمّين من العوالم الروحيّة، ولم يبدُ أنّهم قدموا ليقدّموا لهم المساعدة، بالرغم من أنّ بعضهم كان بشرا.


فهناك العديد منهم من كانوا أعداء للشياطين، إلّا أنّهم لم يلقوا بالا لذلك حاليا وكلّ ما شغل بالهم كان الحصول على مواهب جيّدة والعودة إلى أوطانهم. كان الكثير منهم يفكّر في مصالحهم الشخصيّة فقط.
صاح إبلاس: "مرحبا بالضيوف الكرام. لندخل في صلب الموضوع. سأجعل من عملكم أقلّ شقاوة، ويمكنكم شكري بفعل ما تشاؤون فقط."
علمت مجموعة التنّين الصغير نيّة شيطان اليأس. لقد كانت الفوضى هي هدف إبلاس. لم يهتمّ أبدا بأيّ طرف سينحاز إليه هؤلاء طالما تعمّ الفوضى.
أشار إلى جهة أنمار: "أترون تلك الجماعة هنا؟ تلك المواهب هناك تُعدّ أفضل المواهب في هذا العالم. هناك أيضا تلك الهجينة الروحيّة والمخلوق النادر معها. لقد أتيتم في الوقت المناسب حقّا. لقد كان أولئك ينوون سرقة هذه المواهب كلّها والهرب بها قبل أن تأتوا حتّى."

عبست مجموعة خليفة التيار، والذي قال: "هذا اللعين! إنّه ينوي استخدام الفوضى لمصلحته. إذا عاث أولئك فسادا هنا، فلن يستطيع أيّ أحد رؤية مجرى الأمور إلّا شيطان اليأس الذي يملك عيني الحقيقة."
التفت خليفة التيّار إلى القوّاس النجميّ وقال: "هل تعتقد أنّه يمكنك رؤية مآل الأمور مثله؟"
ردّ القوّاس النجميّ: "ذلك مستحيل. لقد كان الحكيم السياديّ هو الشخص الوحيد في هذه العوالم من يمكنه منافسة شيطان اليأس في هذا المجال. أستطيع أن أركّز على هدف محدّد ولا يمكنني رؤية ما يمكن وصفه بـ'مجرى الأمور' مثلهما. إنّه لا ينادى بـ'مدبّر الحروب الشيطانيّ' من فراغ."
"اللعنة!"
تكلّم التنّين الصغير: "يجب أن نرحل حالا."
اتّفق الجميع معه واستعدّوا للمغادرة ولم يهتمّوا لإرادة أنمار والآخرين. لقد كانوا يعلمون أنّه عليهم الإسراع وإلّا فقدوا هذه المواهب العظيمة لأشخاص آخرين، ولربّما للشياطين حتّى.
توقّفت مجموعة التنين الصغير فجأة، وكان ذلك بسبب عدد السحرة الروحيّين الذي أحاطوهم من كلّ زاوية.
تكلّم رجلٌ سحليّة بدا أقرب إلى تنين بشريّ وصفا: "هذا غير جائز يا أيّها التنين الصغير."
أكمل بعده رجل ثور: "لم التسرّع؟ أو ليس 'تحوّل العالم الروحيّ' حدثا يجب فيه إظهار الإخلاص والاحترام؟"

أضاف أحد آخر امتلك جلدا أزرق وقرنين كقرنيْ الثور: "لقد كنت أعتقد أنّنا، نحن الشياطين، من كان وقحا وغير عادل. والآن، انظر إلى هذه الحثالة تحاول سرقة سلعتنا أمامنا."
اسودّت وجوه مجموعة التنّين الصغير وجعلت نيّات قتلهم الجوّ ثقيلا للغاية، حتّى أنّ مجموعة أنمار كانت بالكاد تتنفّس.
تجاهل التنّين الصغير هؤلاء ونظر إلى بعض الأقزام والبشر ثمّ قال: "ما الذي تظنّون أنفسكم فاعلين؟ هل تتّكئون على أكتاف الشياطين الآن؟"


داعب قزم لحيته وردّ بنبرة حادّة: "اللعنة على الشياطين. أنا فقط أريد بعض الموارد الجيّدة. في مثل هذه الأوقات، صقل المواهب ضرورة قصوى إن أردت النجاة. كيف يمكننا السماح لك بأخذهم هكذا؟"
نظر التنين الصغير إلى جهة البشر فقال أحدهم: "نفس الرأي. لا نعلم متى ستفتح العوالم مرّة أخرى، لذا هذه فرصتنا الأخيرة في تقويّة أنفسنا. مواهب كهذه محدودة في العوالم كلّها. فكما تعلم، قليل من السحرة يبلغون المستويات الروحيّة، وقليل من السحرة الروحيّين يمتازون بالجدارة لبلوغ المستويات العليا. قد تمرّ مدّة طويلة للغاية قبل أن نحصل على موهبة تصل إلى نطاق أرض العالم حتّى، وهذا سيعود علينا بالضرر. ستنمو قوّات أخرى بينما تضعف قوانا."
نظر أمير مملكة الصقيع إلى بعض الأشخاص الذين كانوا متجمّعين حول بعضهم، وتميّزوا كلّهم بأرديتهم التي كانت تبدو كأنّها مصنوعة من الجليد.
لقد كان هذا هو عرق إنس الثلج، وقد قيل أنّ دمهم اختلط بدم الجنّ واكتسبوا خواصّ الجليد والثلج ونشؤوا كعرق جديد. كان أمير مملكة الصقيع شخصا من هذا العرق، وحاول تسويّة الأمور مع الأشخاص من عرقه.
خاطب امرأة برداء أبيض ناصع جعلت الجوّ حولها باردا: "يا فويومي، تعالي إلى جانبنا. ألا تعلمين أنّ مساعدتي تمثّل مساعدة عالمنا؟"
غطّت فويومي فمها بكمّها ونظرت شزرا إلى الأمير: "يا! انظر إلى هذا الطفل اللطيف يظنّ نفسه حاكم العالم فقط لأنّه أمير مملكة الصقيع. كيف لك أن تلمّح إلى أنّك تمثّل عالمنا كلّه؟"
تنهّدت وأكملت: "أصلا، الآن بما أنّ العوالم قد ختمت، كل شخص سيصير أكثر حذرا من باقي الممالك والإمبراطوريّات في عالمه الخاصّ، فلمَ عليّ أن أقدمّ لك المساعدة فقط لأنّك من عالمي؟ تعلّم التواضع قبل أن تتحدّث معي يا فتى."
لقد كانت نبرة أمير الصقيع متعالية، حتّى أنّه بالفعل لمّح إلى أنّ مملكته تمثّل عالمه. وفي الجهة الأخرى، كان واضحا أنّ فويومي لم تضعه في عين الاعتبار، لا هو ولا مملكته برمّتها.
نظر باقي مجموعة التنين الصغير إلى الآخرين لكنّهم علموا أنّ إجاباتهم ستكون نفس الإجابات السابقة، لذا لم يحاولوا أن يسألوا حتّى.
اسودّ وجه التنّين الصغير فقال: "هذا يا هذا. فليكن. كلّ شخص يحصد ما يزرع، فلا تلوموني."
كان التنّين الصغير متحسّرا، لأنّه كان قريبا من الملك الأصليّ، وعلم أنّ الملك الأصليّ لم يكن ليريد حصول مثل هذه الخلافات بين أشخاص يُفترض بهم أن يكونوا قوّة موحّدة ضدّ الشياطين وحلفائهم.
أجاب القزم الآخر مرّة أخرى: "انظر، انظر♪ ضربني وبكى فسبقني واشتكى. لا يمكن للسخافة أن تبلغ علوّا أكثر من هذا!"
عمّ الصمت بعد ذلك للحظات بدت كالدهر، قبل أن ينطلق فجأة الأشخاص المحيطين بمجموعة التنين الصغير من كلّ جهة.

هاجت الطاقات الروحيّة وأصبح التنفّس أصعب بكثير على أنمار والآخرين، ولولا حماية مجموعة التّنين الصغير لماتوا فقط من تلك شرارات الطاقات الروحيّة الهائلة. احتدّت المعركة مباشرة بعد بدئها بين مجموعة التنين الصغير وأعدائهم.

التقت اللكمات والركلات التي زلزلت الأرض وفجّرت الجوّ كالرعد. كان همّ مجموعة التنين الصغير هو حماية مجوعة أنمار والمغادرة من هذا العالم في أقرب وقت.
ضحك إبلاس بينما يشاهد هذا المنظر مستمتعا بما آلت إليه الأمور. لقد كان كل شيء يسير كما يريد.
استدار ثمّ حدّق إلى الملاك ملاك التي وجدت نفسها برفقة الرجل الذي معها محاصريْن من كلّ الجهات. كان هناك دزينة من الشياطين تحيطهما، حاملين الكراهيّة الخالصة في أعينهم. كانت جلودهم حمراء أو زرقاء أو سوداء وامتلك بعضهم قرونا وبعض آخر أذيال. كان من بينهم أشخاص ببشرة بيضاء أو بألوان أكثر غمقا كالبشر لكنّ حدقات أعينهم كانت تشعّ بألوان مختلفة مع اسوداد ما يفترض أن يكون بياض العين.
"كيكيكي!" قال أحدهم بعدما ضحك بقذارة: "من كان يظنّ أنّنا سنلتقي بالهجينة اللعينة هنا؟ هذه فرصة لا تُعوّض للقضاء على واحدة من الطاولة المستديرة. كيكيكي!"
"فوفوفو!" قال شيطان آخر: "لا تضغط على الوتر الحسّاس، فالمسكينة قد عانت حياتها كلّها فقط لأنّها هجينة."
أكمل أحد آخر: "لو كانت مجرّد هجينة لكانت قد عانت بشكل عادي، لكنّها هجينة خائنة."

قال أحد آخر: "مخلوق قذر مثلك تجرّأ على خيانة الشياطين لا يجب أن يعيش. إنّك وصمة عار!"
لم تتغيّر نظرات الملاك ملاك بالرغم من كلّ الكلام الشائن الذي تعرّضت له. بدت غير مهتمّة بتاتا، حتّى أنّها كانت تعير انتباهها لإبلاس وليس لهم.
ارتفع ضغط ددمم دزينة الشياطين لمّا لاحظوا تجاهلها لهم فانطلقوا كلّهم مرّة واحدة تجاهها غاضبين.
"فلتموتي يا أيّتها اللعينة! سنعود بخبر سارّ بعدما نقضي على وصمة عار مثلك."
"وصمة عار وعضوة في الطاولة المستديرة. سيكون هذا خبرا مزلزلًا عندما نبلغه لإخواننا."
تحرّك الرجل الذي يرافق الملاك ملاك خطوة إلى الأمام ثمّ قال: "هل نلاحقه يا سيّدة ملاك؟"
لقد كان يعلم أنّ الملاك ملاك تراقب إبلاس، فأراد أن يعلم ماذا تنوي أن تفعل بشأنه.
نظرت الملاك ملاك إلى جهة أنمار ثمّ قالت: "أريد التأكّد من تلك الفتاة أوّلا. لا تسمح لهؤلاء بالاقتراب حاليا."
ارتسمت نظرات الفرح على وجوه الشياطين الذي كانوا يحاولون مهاجمة الملاك ملاك، وعندما اقتربوا منها ضحكوا وصرخوا بأصوات غريبة من شدّة الحماس، لكن...
طننن
بووف

اصطدموا فجأة بشيء في الهواء وأرسِلوا محلّقين لعشرات الأمتار بعيدا، لكنّهم لم يتضرّروا. نظروا إلى جهة العدوّ فوجدوا حاجزا غير مرئيّ يحيط بالملاك ملاك ومساعدها.
بصق أحد الشياطين الدم ثمّ قال بعبوس: "إذن أنت هو 'فاصل'."
لم يلقوا له بالا في البداية، لكنّهم علموا عن هويّته لسببين؛ أوّلهما هو عنصر السحر الذي استخدمه، وثانيهما هو وجوده مع الملاك ملاك.
كان وجه فاصل جامدا فقال بصوت يخلو من التردّد: "لا أحد منكم سيقترب من السيّدة ملاك."
قال أحد الشياطين: "قد تكون مشهورا كأفضل ساحر حواجز في هذا الجيل، لكن هل تظنّ أنّه يمكنك صدّنا كلّنا؟"
تجاهلهم فاصل وحرص على حماية سيّدته ثمّ نفسه.
لاحظت الملاك ملاك في هذه الأثناء أنّ أنمار كانت تراقب إبلاس. كانت نظرات أنمار تبدو مرعوبة أكثر ممّا هي غاضبة. ظنّت الملاك ملاك في البداية أنّ سبب خوف أنمار طبيعيّ لأنّ ذلك كان شيطان اليأس، لكنّها فوجئت للغاية عندما اتّجهت أنمار فجأة نحو إبلاس ملاحقةً إيّاه باستماتة.

***

كانت أنمار متضرّرة نفسيّا بشكل وخيم؛ فهي قد فقدت الكثير من الأشخاص الأعزّاء على قلبها، وكانت تفكّر في شعور باسل عندما يعلم عن هذا.

لقد كانت تعلم أكثر من أيّ شخص كم قدّر باسل الأشخاص القريبين منه. كانت تدري أنّ كلّ شيء فعله من أجل العالم الواهن كان في الواقع من أجل أولئك من يعزّهم، وعلى رأسهم أمّه.
عاشت أنمار حياتها كاملة بجانب باسل، وعلمت عن درجة حبّه لأمّه. لقد كانت تدري أنّ رغبة باسل في أن يصبح ساحرا لم تكن تنبع فقط من رغبته في الاستكشاف والمغامرة، بل لأنّه كان يريد أن يحمي أمّه من كلّ خطر ممكن. أراد أن يجعل تلك الدموع التي ذرفتها في العديد من الليالي تختفي.
كبر باسل بينما يشاهد أمّه تبكي في غالب الليالي بسبب فقدانها لزوجها الذي ضحّى بحياته في يوم الدمار الشامل من أجل عائلته. لم يرد باسل أن يشاهد معاناة أمّه هذه، ولهذا قرّر أن يصير قويّا.
كان باسل ينادى بالعديد من الألقاب ويُنصَر كبطل مذهل في العالم الواهن، لكنّ أنمار كانت تعلم أنّه لم ينشد أيّا من ذلك، بل أحسّ أنّ كلّ ذلك مجرّد وسيلة لتحقيق غايته–حماية أمّه.
بالفعل، كلّ ما فعله باسل من نعومة أظافره حتّى يومه هذا كان محاولة توفير بيئة آمنة لأمّه، وعندما علم عن الخطر المحدّق بعالمه من معلّمه، استنتج أنّ الطريقة الوحيدة لضمان نجاة أمّه بشكل كامل هي تقويّة العالم كلّه وتنميّته.
وبينما يحاول تحقيق مسعاه، صار لديه روابط عديدة مع الكثير من الأشخاص وزاد عدد من يريد حمايتهم، فاشتدّت عزيمته أكثر.
كانت أنمار خائفة من الضرر الذي يمكن أن يتعرّض له باسل عندما يعلم أنّ أشخاصا فعل كلّ ما بوسعه لحمايتهم ماتوا بتلك البساطة بدون أن يكون قادرا على فعل شيء، في غيابه.
وفي تلك اللحظة، لمحت شيطان اليأس يتحرّك نحو مكان معيّن، ففتحت عينيها على مصراعيهما وصعدت معها القشعريرة وتسارعت ضربات قلبها بشكل عنيف وشعرت أنّه سينفجر بداخل جسدها.
ارتفع ضغط دمها بشكل رهيب بينما تنظر إلى إبلاس وسخن جسدها حتّى صارت بشرتها حمراء؛ لقد علمتْ عن وجهته. لقد كانت وجهته هي أكاديميّة الاتّحاد المباركة!
علمت أنمار عن نوايا إبلاس مباشرة. لقد كان هذا أكثر شيء تخشى حدوثه، لذا حاولت تجنّب حتّى النظر إلى الأكاديميّة كي لا يعلم إبلاس عن وجود عائلتها هناك.
فعلت أنمار كلّ ما بوسعها، لكنّها للأسف كانت في مواجهة شيطان اليأس، ولم يكن ليخفى شيء كهذا عن عينيه المميّزتين اللتين تريان الحقيقة.

استغلّت أنمار انشغال مجموعة التنّين الصغير بالأعداء وتملّصت بعدما استخدمت عنصر الوهم بأقصى قوّتها. لم يكن هذا الوهم في الأصل ليخدع شخصا في مستوى خليفة التيّار اللامحدود الذي كان يحميها، لكنّه كان مشغولا تماما مثل باقي مجموعته بالعدد الكبير من الأعداء

لم تستطع مجموعة خليفة التيّار ملاحظة ذهاب أنمار إلّا بعد فوات الأوان، إذ كانت حوالي ثلاث ثوانٍ قد مرّت وأنمار ابتعدت كثيرا. أراد خليفة التيّار ملاحقتها لكنّه لم يستطِع أن يتجاهل الأعداء الذين أحاطوا به ومجموعته وكانوا سعداء بهروب أنمار.
تمتم متفاجئا: "استطاعت أن تخفي حضورها لتلك الدرجة وتنشِئ حضورا وهميّا في محلّها؟ أيّ غرائز طبيعيّة تملك؟ كيف لي أن أخدَع هكذا حتّى لو كنت مشغولا ولو كان هذا لثلاث ثوان؟ تلميذة ذلك العنيد...!"
لقد كانت موهبة أنمار مذهلة للغاية، وخير دليل كان حقيقة غدوّها تلميذة إدريس الحكيم. بالرغم من أنّ إدريس الحكيم علّمها من أجل باسل لأنّه أراد أن يكون هناك شخص يمكنه مرافقة باسل في المسار الروحيّ، إلّا أنّ هذا القرار بحدّ ذاته عنى أنّ أنمار كانت جديرة بمرافقة باسل في مساره الروحيّ.
لاحقت أنمار إبلاس بسرعة كبيرة راكبةً على ظهر وحش سحريّ له أربعة أجنحة كأجنحة الخفّاش وجسد تمساح بطول أربعة أمتار.
كانت سرعتها مذهلة للغاية وكان واضحا أنّ ذلك الوحش السحريّ له مستوى مرتفع. استخدم الوحش السحري قدرته التي جعلته يتسارع في كلّ مرة يرفرف بها جناحين بتناوب، ودعمت أنمار تلك السرعة بفنّها القتاليّ عبر ضغط الهواء واستغلال الانفجار الذي يحدث لزيادة السرعة.

لاحظت أنّ المسافة بينها وبين إبلاس تصغر، فوجدت الأمر غريبا للغاية. لقد كانت مجرّد ساحرة وكان من غير المعقول أن تستطيع اللحاق بساحر روحيّ مهما فعلت، فما بالك بإبلاس؟
وفي تلك اللحظات التي كانت مشوّشة فيها، التفت إبلاس ونظر إليها ثمّ ابتسم بشكل ساخر.
هاجت أنمار وصرخت: "يا أيّها اللعين...! توقّف!"
لقد كان يتلاعب بها. شعرت كما لو أنّه يخبرها أن تلحق به. أحسّت أنّها دمية يتحكّم فيها. لقد كانت تعيش أسوء كوابيسها.

كانت تلك الفوضى الذي افتعلها إبلاس فقط من أجل أن يجعل أنمار تلحق به. كان واثقا من أنّها ستستطيع التملّص من أيدي مجموعة التنين الصغير واللحاق به وسط كلّ هذه الفوضى.
لقد كان واثقا فيها لأنّها كانت تلميذة حكيم، لا غير.
***
عبست الملاك ملاك عندما شاهدت أنمار تلاحق إبلاس بذلك الشكل، وفهمت أخيرا أنّ خوف أنمار لم ينبع من قوّة من إبلاس أو لأنّه سيقتلها، بل كانت خائفة لأنّه كان ينوي سلب نورها وتركها تعيش في الظلمة.
علمت الملاك ملاك أنّ إبلاس كان ينوي تطبيق ما قاله سابقا. لقد كان ينوي جعل أنمار تيأس يأسا حقيقيّا.
قرّرت الملاك ملاك بعد ذلك أن تذهب لمساعدة أنمار مباشرة، لكنّها وجدت نفسها برفقة فاصل محاطة بأعداء ازداد عددهم عن قبل. فهذه المرّة، انضمّت المجموعتان اللتان أتيتا برفقة إبلاس إلى هنا.

تكلّم ذو مواصفات الأسد: "هل ما زلت تتذكّريني يا لعينة؟!"
أمالت الملاك ملاك رأسها مستغربة.
قال أحد الشخصين المجنّحين من المجموعة الثانيّة: "اليوم سأردّ الصاع صاعين يا خبيثة!"
رفعت الملاك ملاك حاجبها ثمّ قالت: "من أنتم؟"
لقد كان واضحا أنّ هؤلاء الشياطين لهم عداوة خاصّة تجاه الملاك ملاك، إلّا أنّها لم تتذكّرهم، ما جعل دماءهم تغلي. لم يكونوا قليلي الأهميّة لهذه الدرجة، ونسيانهم كان شيئا لا يُغتفر، لا سيّما بعد العناء الذي مرّوا به ضدّها في الماضي.
صرخ أحد المجنّحين من المجموعة الثانيّة: "اقتلوا هذه العاهرة!"
تحرّكوا كلّهم في نفس الوقت من أجل قتل الملاك ملاك. هناك من أراد الانتقام، وهناك من أراد التلذّذ بقتل الهجينة، وهناك من أراد اكتساب الشهرة بقتل عضوة في الطاولة المستديرة.
ومع ذلك، ظلّت الملاك ملاك هادئة أمام كلّ هؤلاء الأعداء. لقد كانت عضوة في الطاولة المستديرة، أقوى القوّات التي خدمت الملك الأصليّ.
***
بينما كانت أنمار تلحق إبلاس، التفت هو إلى جهة أخرى ثمّ عبس، لأنّه لاحظ أنّ هناك شخص آخر يلاحقه. لم يعجبه أن يتدخّل أحدهم في متعته الخاصّة، لكنّه لم يهتمّ، لأنّه حكم أنّ الشخص الذي يلاحقه غير أنمار لا يستحقّ الاهتمام.
كان ذلك الشخص هو الجنرال رعد.
لقد كان الجنرال رعد مرتبطا نوعا ما بشيطان اليأس منذ الدمار الشامل. فإبلاس كان الشخص الذي جعل الجنرال رعد يصبح ما هو عليه.
بسبب الرعب الذي زرعه إبلاس فيه في ذلك اليوم، اجتهد الجنرال رعد أكثر من أيّ شخص آخر من جيله وحطّم رقما قياسيّا كأصغر جنرال في تاريخ العالم المسجّل.
كلّ ما كان يدفعه ويحثّه على المضيّ قدما كان خوفه من ذلك الشيطان، ورغبته الشديدة في التغلّب على ذلك الخوف وعلى الشيطان بحدّ ذاته.
واليوم، كان عاجزا تماما مثلما كان قبل سبع عشر سنة. شاهد إمبراطوره يموت بلا حول ولا قوّة، وشاهد زملاءه يموتون ببساطة واحدا تلو الآخر.
كان الأسى وخيبة الأمل ولوم الذات يأكلون روحه ببطء شديد، وصار كرهه لشيطان اليأس أعظم بكثير.
ومنذ أن ظهر إبلاس، لم تفارق عينا الجنرال رعد صورته. كان يراقبه باستمرار. كان يريد أن يجد شيئا ليفعله حتّى يستطيع المساعدة بشيء أو إيجاد نقطة ضعف للتغلّب على ذلك الشيطان ولو حدث هذا بعد آلاف السنين.
وبعدما نشبت الفوضى، مثله مثل أنمار، استطاع التسلّل من قبضة مجموعة التنين الصغير وملاحقة شيطان اليأس.

استطاع أن ينجح في هذا بعدما تشوّشت مجموعة التنّين الصغير للحظات بعدما هربت أنمار.
استغلّ تلك اللحظات بشكل جيّد للغاية وفرَّ.
انطلق كصاعقة برقيّة في السماء.
***
مهما كانت قوّة السحرة، فهم مجرّد حشرات أمام السحرة الروحيّين. 'سيّد روحيّ' يمكنه سحق 'صاعد' بكلّ سهولة، ورجع السبب لاختلاف كمّيّة الطاقة السحريّة التي تتضاعف بشكل كبير عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة، والطاقة الروحيّة التي لا يملكها السحرة.
قيل أنّه لو اعتُبِرت الطاقة السحريّة والطاقة الروحيّة كسائلين، فإنّ قطرة من الطاقة الروحيّة تعادل عشرات آلاف القطرات من الطاقة السحريّة. ومع ذلك، يبقى هذا مجرّد تشبيه، إذ أنّ قيمة الطاقة الروحيّة تكمن في كونها تنبع من الروح بينما تنبع الطاقة السحريّة من طاقة حياة الشخص.
مفهوم 'الروح' كطاقة عند السحرة عنى الروح التي يكوّنها الساحر عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة، بينما عنى مفهوم 'حياة الشخص' طاقة المخلوق الحيويّة التي يمكن أن تُستنزف وتتجدّد مع مرور الوقت.
ولهذا، كثافة ونقاوة الطاقة الروحيّة تجاوزتا الخاصّتين بالطاقة السحريّة بأضعاف مضاعفة.
وبسبب هذا، ما كان الساحر ليهزم الساحر الروحيّ مهما فعل، وهذا شمل جميع النواحي، من حيث القوّة والسرعة والطاقة وحتّى طول العمر.
كان عجز أنمار والبقيّة أمرا طبيعيّا للغاية، لكن ما جعلها تتحسّر أكثر كان التفكير في أنّه حتّى لو كان باسل هنا، كانت الأمور لتؤول إلى هذا المنحى. نعم، وهذا بالرغم من أنّها علمت أنّه اخترق إلى المستويات الروحيّة.

ما الذي يمكن لسيّد روحيّ مبتدئ أن يفعله ضدّ وحوش عاشت لآلاف السنين تنمّي أرواحها؟ لقد كان المستوى بين الطرفين مختلفا كاختلاف النهار والليل، ولم يمكن تعويض ذلك بإشعال مجرّد شمعة أملًا في إنارة الظلام الذي يغطيّ العالم، أو استعمال غربال للتظلّل به من الجرم السماويّ الذي ينير العالم.
ولكن حسرة أنمار لم تتوقّف عند هذا الحدّ. بالفعل كان ألمها الأشدّ هو موت أعزّائها، لكنّها عانت أيضا من تلك الفكرة التي جعلت أفكارها تتضارب بشكل مستمرّ وتجعل رأسها يكاد ينفجر من الصداع.
شعرت بهذا لوهلة فقط، فقط للحظة وجيزة، لكنّها بالفعل 'اطمأنّت' عندما فكّرت في عدم وجود باسل في هذه الأثناء هنا.
لو كان باسل هنا، وشاهد بعينيه أولئك الذي بذل كلّ ما في وسعه لحمياتهم يموتون بينما هو عاجز عن فعل شيء، فسلامة عقله لن تظلّ كما هي.
كانت هذه هي الفكرة التي جعلتها تطمئنّ للحظة وجيزة للغاية قبل أن يشغل عقلها إنقاذ عائلتها. لقد كانت أنمار تعشق باسل منذ صغرها، ولطالما فكّرت لصالحه، وبسبب هذا فعلت بعض الأشياء بدون علمه، ما عاد عليها بردّ فعل عكسي في الماضي، لكنّ هذا لم يجعلها تبعد نفسها عن باسل بالرغم من أنّه حاول إبقاء مسافة آمنة بينهما.

عندما تقرّبت منه تلك الفتاة في صغرهما، أو عندما هاجمهما بعض السحرة عندما كانا يتدرّبان قبل أن يقرّرا الذهاب إلى العاصمة وآل الأمر لمجزرة، أو عندما اختطف حلف ظلّ الشيطان شيرايوكي... كانت أنمار ترمي بنفسها في وجه الخطر بدل باسل، والذي استشاط غضبا كلّما رأى هذا يحدث. وفي نهاية المطاف، بالرغم من أنّ باسل لم يدلِ به مباشرة، إلّا أنّها فهمت أخيرا سبب غضبه.

ولكن... كانت أنمار هي أنمار. في تلك اللحظة الوجيزة، ارتاح قلبها لأنّ باسل لا يمرّ بهذه المعاناة واقتصر الأمر على مرورها هي بهذه الأحداث الأليمة.
وأخيرا، أمام عينيها، اختفى إبلاس بعدما جعلها تقترب بشكل كافٍ، ليظهر بعد ثوانٍ معدودة أمامها مرّة أخرى طافيا في السماء.
حبست أنمار أنفاسها ونظرت إلى الأشخاص الذين كانوا في حوزة إبلاس. كانت لطيفة وسميرة وجدّة باسل، ليندا، مصلّبات في السماء وبالكاد استطعن الحفاظ على وعيهن.
كانت النساء الثلاث مقيّدات بطاقة إبلاس السحريّة ببساطة.
نظر إبلاس إلى أنمار وحدّق إلى عينيها اللتين كانتا تخلوان من الضوء بمرور الوقت، ثمّ قال بهدوء: "لطالما تساءلت عن ماهيّة اليأس. هناك من يقع في الهاوية بعدما يُسلب منه أحباؤه، وهناك من يفقد الأمل بعد خسران قواه، وهناك أيضا من يغرق في الظلام بعد فقدان ثروته. ولكن أتعلمين ما المشترك في كلّ هذا؟ نعم، كلّهم ييأسون بعدما يخسرون أعزّ ما يملكون."
ابتسم شيطان اليأس وقال ساخرا: "ولكن حتّى اليأس له درجات واختلافات، وكشيطان جعل اليأس مساره الروحيّ، النوع المفضّل من اليأس لديّ هو ذاك الذي ينبع من فقدان الأعزّاء. أتعلمين لمَ؟ لأنّ خسارة الشخص العزيز لا تُعوّض. لأنّ الموت هو الحقيقة المطلقة في هذا العالم. ولهذا، اليأس الناتج عن فقدان العزيز لهاوية حقيقيّة، على عكس خسارة القوّة أو المال أوّ أيّ كان، إذ تبقى هناك دائما -أو على الأقلّ في الكثير من الحالات- فرصة لاكتساب شيء كذلك مرّة أخرى."
"انظري!"
سمعت أنمار إبلاس يصرخ ليشدّ انتباهها قبل أن يقول: "شاهدي أحباءك يموتون، والعني نفسك وكلّ ما آل بك لمثل هذا المصير. العني العالم وتعلمّي اليأس عبر الحقيقة المطلقة في هذا العالم. واعلمي، أنّني أنا، شيطان اليأس إبلاس، مالك عينيْ الحقيقة، هو الشخص المؤهّل لجعل الحقيقة المطلقة يأسا ثابتا!"
"توقّف! لا علاقة لهنّ بأيّ من هذا. أطلق سراحهن! أفلتهن! أرجوك...!"
لم تكن أنمار واقفة بمكانها، فهي فعلت كلّ ما بوسعها لتبلغ هدفها لكنّها كانت ضعيفة للغاية أمام إبلاس. لم تنفعها صرخاتها ولا ترجّيها، إذْ لم يتغيّر تعبير شيطان اليأس الهادئ.
انتقلت بأقصى سرعتها حتّى تنقذ عائلتها لكن مئات الأمتار التي تفرقها عن عائلتها بدت كملايين الأميال. شعرت أنّ الوقت يمرّ بشكل بطيء للغاية بينما تشاهد طاقة إبلاس الروحيّة تتخلّل أجساد الثلاث.
وبالطبع، بذل الجنرال رعد كلّ جهده لمنع الأمر، لكن كيف لساحر أن يوقِف 'روحانيّ مبارك'؟
صارعت 'الملاك ملاك' الشياطين المحيطين بها رفقة مساعدها فاصل، وتوتّرت أكثر عندما فكّرت في أنّ تلك الفتاة، تلميذة إدريس، ستضطرّ لتحمّل مستقبل تتحمّل فيه مسؤوليّة موت أحبائها.
نظرت الملاك ملاك إلى جهة إبلاس بعبوس ثمّ تمتمت بغضب: "اللعنة...!"
لم تكن تريد أن تترك إبلاس يفعل ما يشاء مع تلك الفتاة، لذا كان عليها إنقاذ أولئك النساء الثلاث اللاتي كنَّ مهمّات للغاية بالنسبة للفتاة. وإلّا كان على الفتاة العيش متقبّلة تلك الحقيقة المطلقة.

صرخت بجهة مساعدها فاصل: "يا فاصل، استخدم كلّ ما لديك لتعزل أولئك المزعجين."
"ذلك..."
كان فاصل يعلم ما كانت الملاك ملاك تنوي فعله، لذا تردّد قليلا، لكنّه سرعان ما حسم أمره وردّ عليها: "حظّا موفّقا يا سيّدتي. سأحرص على عزل كلّ شيء."
لقد كان العمل المطلوب منه صعبا للغاية، لكنّه لم يهتم بذلك إذ كان عليه توفير الوقت الكافي وحسب.
أومأت الملاك ملاك رأسها ثمّ صفّق فاصل فجأة واستجمع طاقته الروحيّة في يديه فأثار انتباه كلّ الشياطين الذين كانوا يحيطونهما.
تموّجت الطاقة الروحيّة حول يديه قبل أن تتّخذ شكلا ليظهر حاجز فوق حاجز فجأة حتّى تراكمت مئات الحواجز فوق بعضها، ففتح فاصل ذراعيه على مصراعيهما ثمّ امتدّت الحواجز التي صارت حاجزا واحدا بسرعة فائقة لم تتح للشياطين أيّ فرصة باستدراك الأمور.
كان الحاجز قد أحاطهم كلّهم من جميع الجهات وسجنهم تماما.
مدّ فاصل يده بعد ذلك تجاه إبلاس ثمّ أحكم قبضته فتشكّل حاجز كرويّ ليحجز إبلاس في الداخل عندما كان مشغولا بـ'متعته' الخاصّة، ولكن بالرغم من ذلك، إلّا أنّه لم يسجن كما أراد فاصل.
كادت لطيفة والأخريان تفقدن الوعي، لكنّهنّ قاومن بكلّ مجهودهن. لقد كنّ يعلمن عن الحالة التي وجدن أنفسهن فيها بدون الحاجة لشرح أيّ شيء.
وبالرغم من كلّ ما تعرّضن له من ضغط نفسيّ وجسديّ، حدّقت النساء الثلاث إلى أنمار وابتسمن في نفس الوقت.
"اهتمّي بـ–"
وفقط عندما استطاعت لطيفة استجماع قواها وحاولت التكلّم، اختفى الضوء من عينيها، كما حدث لسميرة وجدّة باسل.
وفي نفس الوقت، كان الضوء المتبقّي في عينيْ أنمار يختفي تدريجيا بينما تستوعب الحقيقة المطلقة. لم تستطِع الصراخ حتّى، كما لو أنّها بكمت. لقد كانت تشعر في تلك اللحظة أنّ روحها تُكسر لقطع صغيرة كزجاجة تُسحق تحت حجر.

***

"اللعنة!"
صرخت الملاك ملاك بعدما تأخّرت. لم تكن في الواقع متأكّدة من إنقاذ أولئك الثلاث حتّى لو لم تتأخّر. لقد كنّ ثلاث 'نساء عاديات' في حوزة روحانيّ مبارك، فكيف لها أن تمنعه من قتلهنّ، لا سيّما وهو ليس بأيّ روحانيّ مبارك عادي؟
أمّا الجنرال رعد، فقدْ فقدَ عقله بالفعل ورمى نفسه على إبلاس بينما تنهمر الدموع من عينيه بغزارة. لقد كانت لطيفة هي أوّل امرأة يقع في حبّها في حياته بأكملها، لكنّ حياتها انتهت بهذا الشكل قبل أن يستطيع فعل شيء.

لم يسعه فعل شيء قبل سبع عشر سنة، فعاش وكلّ ما يجول في خاطره هو اليوم الذي يلتقي فيه بذلك الشيطان مرّة أخرى. تخلّى عن الرفاهيّة واللعب اللذين كانا يشغلان غالب وقته، وكرّس حياته كلّيّا من أجل الغدو أقوى كفاية.
وها قد أتى اليوم المنشود أخيرا، لكنّه هذه المرّة شعر بالضعف أكثر من المرّة السابقة. هذه المرّة فقد شخصا عزيزا على قلبه.
لقد كان يكنّ كرها عميقا لذلك 'الشخص'. كان يريد قطعه لقطع صغيرة ومحوه من الوجود. لقد كان يريد إنهاء حياته. وذلك 'الشخص' كان هو الجنرال رعد بنفسه!
لقد كره نفسه بشكل عميق لأنّه كان ضعيفا هكذا، سواء في الماضي أو الحاضر، وارتعب من فكرة احتماليّة كونه ضعيفا في المستقبل أيضا، فأراد أن ينهي كلّ شيء هنا والآن.
أيّ حياة يجب عليه أن يعيش من الآن فصاعدا؟
هل كانت كلّ هذه السنوات الماضيّة التي أغلق فيها قلبه بلا معنى؟
نكر إبلاس كلّ مجهوداته بهاته البساطة، فكيف له أن يحيا بعد هذا؟ هل هناك معنى؟
بالرغم من أنّه أخمد عواطفه ومشاعره لسنوات عدّة، إلّا أنّ ظهور ذلك الفتى القرمزيّ جعله يسترخي قليلا، ما جعل الحب يدفئ قلبه الذي اعتاد أن يكون جامدا، لكنّ حتّى ذلك الحبّ قد اختفى الآن.
وحتّى لو نجى وعاش ليرى المستقبل، سيجد نفسه أضعف ممّا هو عليه كما حدث اليوم بكلّ تأكيد. إذن، مرّة أخرى، هل هناك معنى لنجاته؟
لا، ليس هناك معنى، ولهذا يجب أن تنتهي حياته هنا والآن، تلك الحياة الواهنة التي لم ولن تقدر على حماية شيء.
صرخ الجنرال رعد بينما تنهمر دموعه، وتملّكه العار الذي كان يشعر به، ولم يسعه سوى أن يتأسّف ويطلب الغفران من أعماق قلبه: "أنا آسف يا أيّها الفتى القرمزيّ. يبدو أنّ نزالنا لن يحدث. حسنا، ليس كما لو أنّ شخصا مثلي يستحقّ منازلتك أصلا."
التفت إبلاس إلى جهة الجنرال رعد ثمّ حملق إليه بعينيه اللتين توهّجتا بضوء أصفر امتدّ كهالة أحاطت بالجنرال رعد وجمّدته في مكانه.
تعرّق الجنرال رعد وضاق نفسه حتّى شعر بالاختناق ووهن جسده بعدما تسارعت دقّات قلبه بشكل غير مسبوق، فظهر بخار حوله نتيجة لتسارع الدماء في جسده.

لم يفهم الجنرال رعد ما حدث إلّا بعدما تكلّم إبلاس وجعله يستيقظ من أوهامه. نعم، كان الجنرال رعد مقيّدا بأوهام، لكنّها لم تكن نتيجة لعنصر الوهم.
"أو لست الفرخ الذي اضطررت للعفو عنه عندما أتيت إلى هنا أوّل مرّة؟"
علم الجنرال رعد أخيرا ما حدث له. كلّ ما فعله هو مواجهة نظر إبلاس وكان مشرفا على الموت بالفعل.
لطالما استمتع إبلاس بالضحايا الذين يميّزهم كـ'لُعَب'، لكنّه لم يهتم إطلاقا بالآخرين، إذ كان يعدّ كلّ مخلوق -غير قلّة معدودة- مجرّد حشرات لا تستحقّ اهتمامه، ولا عفوه إذا حدث وتجرّأت على إزعاجه.
فمثلا عندما قدم إلى العالم الواهن أوّل مرّة، أزعجه صوت صبيّين فقتلهما ببساطة، ولكن عندما التقى بساحر بالمستوى الرابع في عالم افتُرِض أن يكون أعلى مستوى سحريّ به هو المستوى الثالث، أثير اهتمامه وبدأ يلعب مع ذلك الساحر ومعلّمه.

والآن، عندما كان يستمتع بلعبته، تجرّأت هذه الحشرة على التدخّل في أهمّ اللحظات، فكان سيقتلها ببساطة، إلّا أنّ اهتمامه أثير بعدما أدرك أنّ هذه الحشرة كانت لعبة قد سبق ونجت منه فيما سبق، ولو بالحظ.
كان هذا هو السبب الذي جعله يتوقّف عن هجومه الذي لم يستخدم فيه سوى نيّة قتله.
نعم، أدرك الجنرال رعد أنّ كلّ ما احتاج إبلاس لقتله هو أن ينوي ذلك. لقد كان هذا يفوق مجرّد اختلاف في المستويات بينهما!
لقد كانت تلك إحدى قدرات عيني الحقيقة، إذ سمحت له هذه القدرة بجعل نيّته، أو نيّة قتله في هذه الحالة، حقيقة. بالطبع كانت هذه القدرة مقصورة على أشخاص ضعفاء للغاية كالسحرة ولم تنفع ضدّ السحرة الروحيّين أو أشخاص بقدرات خاصّة.
نظر إبلاس إلى الجنرال رعد ثمّ إلى جثّة لطيفة بعد ذلك وفهم شيئا ثمّ قال: "أمم... تحب هذه المرأة. إنّها والدة تلميذ حكيم على حدّ علمي. أمم... حسنا، حسنا. لقد قرّرت."
أشار إبلاس بسبّابته إلى الجنرال رعد وقال: "أنت... ستكون مرسولي."
لم يفهم الجنرال رعد ما كان يتحدّث عنه ذلك الشيطان، لكنّه كان يعلم أنّه لم ينوِ خيرا.

استجمع الجنرال رعد قواه بالكاد حتّى يستطيع التكلّم: "اقـ-اقتلني. قاتلني!"
لم تتغيّر تعبيرات إبلاس وقال: "الحقّ في اختيار طريقة الموت، والحقّ في طلب القتال... كلاهما شيء لا يحقّ سوى للجدراء."
ارتفعت حافّة فمّ إبلاس قليلا ثمّ قال: "يبدو من المثير للاهتمام إبقاء حياة شخص مثلك يريد الموت بشدّة على يديّ بدل إنهائها. أتساءل، كيف ستعيش بذلك اليأس؟ كيف ستعيش كلّ يوم بينما تتمنّى لو قتلتك اليوم؟ أتساءل، كيف سيصير فرخ مثلك مستقبلا؟ ليس سيّئا، ليس سيّئا."
تستمر القصة أدناه

مدّ إبلاس يده كما لو أنّه يحاول إمساك شيء ما، فشعر الجنرال رعد بالاختناق كما لو أنّ هناك يدا غير مرئيّة تحكم الخناق عليه وتسحبه ناحيّة شيطان اليأس.
أمسك إبلاس الجنرال رعد ثمّ قال ببرودة: "حسنا، ابقَ معي لفترة ريثما أنتهي، فأنا لا أريد لأولئك أن يأخذوك. إنّني أريد مرسولا جيّدا يمكنه تبليغ الرسالة بجميع حذافيرها."
نظر بعد ذلك إلى أنمار التي كانت تنظر إلى الفراغ بعينيها الخاليتين من الضوء، ثمّ نظر إلى الملاك ملاك التي كانت حريصة على إبقاء أنمار قريبة منها وابتسم بعدما وجدها تحملق إليه بغضب.
كانت أنمار تشعر أنّ عالمها أظلم فجأة ولم تعلم ما الذي يجب فعله. لقد كان وعيها يتلاشى ببطء في ذلك الظلام لكنّه كان شعورا مريحا في نفس الوقت.
لربّما عليها التخلّي عن كلّ شيء واللحاق بعائلتها فقط. أحسّت أنّها كانت تتحرّر من القيود التي تربطها بهذا العالم وتجعلها تعاني، نعم، القيود التي تربطها... القيود... تربطها...
ومضت تلك الأفكار في عقل أنمار الخاوي وغمرته بالكامل حتّى زاد ذلك من رغبتها في التحرّر من تلك الآلام، إلّا أنّه كان هناك شيء يصرّ على تقييدها، شيء جعل ارتباطها بالعالم أقوى كلّما حاولت الابتعاد أكثر.
كان ذلك شعورا محفورا في أعماق روحها ولم تستطِع التخلّص منه بتلك البساطة، وأخيرا عندما تجرّأت واستجمعت شجاعتها لتتساءل عن ماهيّة الشيء الذي يقيّدها، آملةً في إيجاد طريقة للتخلّص منه، بدأت تلك القيود تتراخى وتتجمّع أمامها لتشكلّ صورة شخص.
"باسل..."
تمتمت أنمار فتفاجأ شيطان اليأس.
نظر إلى أنمار التي كان يظنّ أنّها وقعت في يأس عميق، فلاحظ أنّ الدموع كانت تتساقط بغزارة من عينيها، لكنّ ذلك لم يكن مهمّا. لقد كانت حدقتا عينيْها بالضبط ما أثار دهشته. تانك الحدقتان اللتان كانتا خاليتين من الضوء قبل مدّة قصيرة فقط صارتا مفعمتين بالحياة أكثر من أيّ وقت مضى.
صرخت أنمار: "إبـــــلاااااس! سأقتلك مهما كلّفني الأمر. سأجعلك تعيش أسوء كوابيسك مليارات المرّات حتّى تتحطّم روحك! سأدمّرك!"

كان إبلاس ما يزال مندهشا. لم يكن يتوقّع أن تعود هذه الفتاة إلى هذا العالم بعد وقوعها في ظلام عميق بهذه السرعة. ما السبب؟ ما كان المحفّز؟ هل فعلت الملاك ملاك شيئا؟
تساءل إبلاس لوقت طويل قبل أن يفهم أخيرا من نظرات أنمار وما تمتمت به قبل قليل عندما عادت إلى رشدها: "آه... هكذا إذن. فهمت، فهمت. يبدو أنّها لن تيأس يأسا حقيقيّا إلّا عندما أزيل مصدر نورها، وذلك للأسف هو تلميذ حكيم."
نظر إلى الفتاة التي كانت تشحن طاقتها السحريّة وتستعدّ لشنّ هجوم كامل بكلّ قوّتها ثمّ قال ساخرا: "لا أعلم كيف ستجعلين شخصا لا يحلم يرى كوابيسَ، لكن ها أنا ذا، فلتأتي."
لربّما لم يكن قادرا على جعلها تيأس تماما، لكنّ كلّ هذا كان أصلا من أجل تلميذ حكيم، لذا لا بأس. لقد كان ينوي أخذها معه حتّى يجعل تلميذ حكيم يخسر نفسه تماما، لذا لم يهم إذا كانت في رشدها قليلا. كلّ ما عليه فعله هو اللعب معها لوقت أطول عندما يعود بها إلى عالمه.
كيف ستكون قصّة فتى يحاول إنقاذ حبيبته من الشيطان الذي قتل كلّ أحبابه؟ وكيف ستكون ردّة فعل الفتى عندما يجد أنّ حبيبته التي كان يحاول جاهدا إنقاذها مجرّد وعاء فارغ من الحياة بالرغم من أنّ قلبها ينبض؟ ستكون قصّة رائعة عندما ينتهي المطاف بالفتى محاولا إنهاء حياة حبيبته المثيرة للشفقة حتّى يريحها من آلامها. ستكون قصّة مذهلة عندما يترجّى الفتى الشيطانَ أن ينهي حياته المثيرة للشفقة أيضا. أو ربّما ستكون القصّة الأروع عندما يصير الفتى ما يتمنّاه إبلاس...
اتّسعت ابتسامة إبلاس بعدما فكّر في كلّ الأمور الممتعة التي تنتظره، وتوهّجت عينا الحقيقة في نفس الوقت، فأدرك شيئا.
لقد حان الوقت ليغادر هذا العالم على ما يبدو، لكنّه لم يكن ينوي المغادرة خاوي اليدين كما أتى.
لاحظت مجموعة التنّين الصغير نفس الشيء بعدما شاهدوا عدم استقرار الشروخ الفضائيّة. لقد كان الختم الذي يفصل العوالم عن بعضها يشدّ وتره من جديد بعدما ارتخى بتحوّل العالم الروحيّ.
كان إبلاس يتّجه نحو أنمار مبتسما، وكانت سرعته فائقة ولم تستطع أنمار ملاحظته قطّ. لم تدرك أنمار أنّه كان خلفها إلّا بعدما لاحظت موجة متذبذبة جعلت الفضاء نفسه يتآكل، أو بشكل أدقّ، يُسحق.

تلك الموجة المتذبذبة امتدّت من قبضة الملاك ملاك نحو كفّ شيطان اليأس الذي كان ينوي خطف أنمار.
"هذا...!"
اتّسعت عينا أنمار للغاية. كيف لها ألّا تُصدم؟ لقد كانت ترى مرحلة متقدّمة للغاية من الفنّ القتاليّ الذي تعلّمته من معلّمها يستخدم من هذه المرأة المجهولة.
لقد كانت متأكّدة. لقد كان هذا وبلا شكّ المرحلة الروحيّة للفن القتاليّ الأثريّ 'سحق الأرض'.
"سحق الخلق."
صرّحت أنمار بذلك الاسم من كثرة دهشتها، ونظرت إلى المرأة التي كانت تقف أمامها كملاك حارس لها. لقد كانت متأكّدة الآن. هذه المرأة لها علاقة وطيدة بمعلّمها. هذا هو التفسير الوحيد لامتلاكها فن قتاليّ سامٍ كـ'سحق الخلق'، والذي سبق وقال لها معلّمها أنّ هناك ثلاث أشخاص يتدرّبون عليه وهي بنفسها من ضمنهم.
كان الشخص الأوّل هو إدريس الحكيم بنفسه، وكان الشخص الثاني هو أنمار، والآن ظهر أخيرا أمامها الشخص الثالث.

***

شعرت الملاك ملاك وإبلاس باقتراب أحدهم في هذه الأثناء، لكنّهما علما من يكون ولم يحتاجا أن يلتفتا لجهته حتّى.
لقد كان ذلك الشخص هو خليفة التيّار اللامحدود الذي استطاع أخيرا المجيء لمساعدة أنمار والجنرال رعد اللذين هربا من مجموعته. لم يكن قادرا على القدوم إلّا بعدما قضت مجموعته على بعض الأعداء واستطاعوا تغطيّة مكانه الفارغ.
لم يكن هناك وقتا للتحيّة لذا دخل في صلب الموضوع مباشرة: "ما المعمول الآن يا ملاك؟ بصراحة، لا أريد الاستسلام عن ذلك الفتى. سيكون عونا عظيما في المستقبل."
كان خليفة التيّار اللامحدود يعني بكلامه الجنرال رعد الذي كان في قبضة إبلاس. لقد كانت موهبة الجنرال رعد جيّدة للغاية وسيكون من المضيعة التخلّي عنه.
نظرت الملاك ملاك إليه ثمّ قالت: "استسلم. لن يمكننا استرجاعه في هذا الوقت الوجيز المتبقّي. ولا يبدو أنّه سيقتله أيضا."
ابتسم الخليفة بامتعاض ثمّ نظر إلى أنمار التي كانت تقف هناك منتظرة الفرصة للانقضاض على إبلاس وقال: "لن تستطيعي الانتقام حاليا مهما حاولت. ستكونين مجرّد لعبة يتحكّم فيها ذلك الوغد كما يشاء."
نظر الخليفة إلى الملاك ملاك ثمّ تنهّد وقال: "اذهبي مع ملاك. لو أردتِ حقّا الانتقام فعليك أن تذهبي مع ملاك وتنمّي قوّتك. أنا متأكّد أنّك ستصيرين شيئا مذهلا بالمستقبل بما أنّ ذلك العنيد اتّخذك تلميذة له."
لقد كان الخليفة في الواقع يريد أخذ أنمار معه، وليس هو فقط، بل كلّ من علم عن هويّتها وشاهد موهبتها، التي على الأغلب لا يملكها سوى الملوك بالمسار الروحيّ، ولكن بما أنّ الملاك ملاك ظهرت، قرّرت مجموعة التنّين الصغير التنازل عن هذه الفكرة.
لقد كانت الملاك ملاك أكثر من جديرة بأخذ أنمار معها، هذا بدون ذكر العلاقة الحتميّة التي تجمعهما.
عبست أنمار ثمّ قالت: "لن أغادر هذا المكان."
ارتفع حاجبا الخليفة بعدما سمع كلام أنمار ونبرتها الغاضبة، فظنّ أنّ حسّها السليم لم يكن موجودا، لذا حاول إقناعها بما هو في مصلحتها: "اسمعي، حتّى لو بقيت في هذا العالم، فما هو إلّا عالم روحيّ بدءا من اليوم، وليس به الكثير من الموارد التي ستساعدك على اللحاق بأقوياء العوالم الروحيّة. وفي الوقت الذي يختفي فيه الختم العالميّ، ستجدين نفسك في نفس الحالة التي وجدتِ نفسك فيها اليوم."
حدّقت أنمار إليه ثمّ قالت بنبرة عازمة ونظرة حاسمة: "لقد قلت أنّني لن أغادر هذا المكان. لا يمكنني المغادرة. كيف لي أن أغادر؟ كيف يمكنني تركه يواجه كل هذه المصائب لوحده بعدما تنزل عليه كالصاعقة من حيث لا يدري؟ إنّه لا يعلم شيئا عمّا يجري. يجب عليّ أن أكون في جانبه عندما يعلم بما حصل. يجب علينا أن نكون معا مهما كان."

ومضت صورة إدريس الحكيم في عقل أنمار ثمّ قالت بعدما تذكّرت ما قاله لها فيما سبق: "أنا رفيقة مساره الروحيّ."
نظرت الملاك ملاك والخليفة إلى أنمار باستغراب وتساءلا لوهلة عمّن تقصد بكلامها، ففهما أخيرا عندما فكّرا في التلميذ الآخر لإدريس الحكيم في هذا العالم.
لا! انتظر. انتظر، انتظر. ألم تكن هذه الفتاة فاقدة الرشد حاليا واستولى عليها غضبها؟ كيف لها أن تقول شيئا كهذا في حالتها هذه؟ هل يمكن أنّ هناك خطب ما في عقلها؟
ومضت هذه الأسئلة في عقل الخليفة والملاك ملاك بينما يراقبان أنمار. لقد فقدت هذه الفتاة عائلتها للتوّ وكانت تبدو كما لو أنّها سترمي بجسدها على إبلاس مهما حدث. لقد كانت لتوّها تبدو مجنونة تماما، فكيف لها أن تفكّر في شخص آخر؟ كيف لها أن تستطيع تذكّره حتّى؟
لم تطل تساؤلاتهما.
"والآن، ابتعدا عن طريقي. يجب أن أقتل ذلك الوغد اللعين مهما كلّفني الأمر."
لم تعد هذه الفتاة إلى رشدها قطّ. لا، بل لم تفقد رشدها منذ البداية حتّى تعود إليه. لقد كان غضبها هائلا، لكنّها كانت ما تزال قادرة على التفكير بشكل سليم، ومع ذلك، لم يسعها أن تظلّ واقفة هناك بينما قاتل عائلتها وأحبابها يوجد أمام عينيها.
ولكن...
(يا لها من نيّة قتل. ما مصدر هذه العزيمة؟ كيف لها أن تملك حضورا كهذا وهي مجرّد ساحرة؟ كيف لها أن تملك مثل هذه الإرادة بعمر كهذا؟ ما الذي فعله ذلك العنيد الوغد بالضبط حتّى ينمّي وحشا مثلها؟)
كانت أفكار الخليفة مشوّشة بسبب الجوّ المرعب الذي أحاط بالفتاة الصغيرة. كانت الملاك ملاك بنفس دهشة الخليفة.
ولكن ما لم يعلمه هذان الاثنان هو أنّ هذا الحضور المرعب الذي كان مصدره أنمار، وتلك الهالة الخانقة التي تبعثها، ونيّة قتلها التي تبدو كنيّة قتلٍ لشخص اختبر معارك وحروب لا تُحصى ضدّ مختلف المخلوقات–كلّ ذلك كان شيئا امتلكته أنمار من البداية، ولم تكسبه عن طريق التعلّم على يد أحدهم ولا من خلال مرورها بملاحم أسطوريّة.

لقد كانت هذه الهويّة الحقيقيّة التي اكتشفها باسل بعد عشر سنين من عيشه بجوارها، والتي كانت سببا آخر في ابتعاده عنها في تلك الفترة. لم يستطِع أن ينسى الابتسامة الشيطانيّة التي اعتلت محيّاها، محيّا **** صغيرة لطالما اعتقد أنّها نقيّة وبريئة كالملاك.
حملقت الملاك ملاك بعد ذلك إلى إبلاس الذي كان يقف بهدوء. لقد كانت تعلم أنّه كلما يكون لا يتحرّك، يكون يخطّط لشيء ما. وكان واضحا أنّه كان يخطّط لأخذ أنمار من قبضتهم.
تمتمت الملاك ملاك: "هذا يجعل الأمور أكثر صعوبة. اذهب، سأتكلّف بهذا الأمر."
عزمت الملاك ملاك على خطوتها القادمة وطلبت من الخليفة المغادرة بما أنّه حان الأوان للمغادرة.


نظرت بعد ذلك إلى أنمار ثمّ قالت: "سأحميك إلى آخر لحظة يمكنني البقاء فيها هنا... لا، سأبقى هنا حتّى يغادر ذلك اللعين، فلا تجعلي الأمور صعبة أكثر ممّا هي عليه."
فهم الخليفة كلامها كما فعلت أنمار. لقد كانت تعني أنّها ستلبّي طلب أنمار عندما قالت أنّها لن تغادر هذا المكان، ولكن لا يجب أن تحاول أنمار فعل شيء متهوّر كمحاولة قتال إبلاس.
أضافت الملاك ملاك: "هذا بالطبع إذا كنت حقّا تريدين انتظاره هنا، حيّة وليس جثّة هامدة."
لاحظت الملاك ملاك ارتفاع حاجب أنمار الذي استجاب لتحذيرها. لقد علمت الملاك ملاك بالفعل كيف تتعامل مع أنمار في حالتها هذه.
لقد كان غضبها شديدا لدرجة أنّها كانت تريد مقاتلة إبلاس بالرغم من أنّها كانت تعلم فارق القوّة بينهما، إلّا أنّها كانت ما تزال قادرة على التفكير في شخص آخر. لقد كان ذلك الشخص هو المفتاح للتعامل مع هذه الفتاة.
ومضت صورة باسل في عقل أنمار. لقد كانت تعلم. كانت تعلم أنّ كلّ ما حصل سيحطّم باسل تماما. كانت تعلم أنّه سيتطلّب وقتا طويلا حتّى تشفى الجراح التي سيتلقّاها. وكانت تعلم أنّه لا بدّ وأن تكون هناك بجانبه.
لقد كانت محطّمة أيضا، ولهذا علمت كيف سيشعر باسل.
"حظّا موفّقا!"
استدار الخليفة وركب تيّارا مائيّا امتدّ عبر الأفق كقوس قزح، فاندفع منزلقا على باطن قدميه وأمسك شينشي الذي كان مع مجموعة التنّين الصغير وجرّه معه.
"سآخذ هذا الفتى معي؛ لا أظنّ أنّ هناك مانع."
اختفى خليفة التيّار في الأفق بينما يحاول بعض الأشخاص ملاحقته.
ابتسم التنّين الصغير وقال: "ذلك الشقيّ الوسيم، دائما يصل متأخّرا لكنّه أوّل من يغادر."
نظر التنّين الصغير إلى صفاء والشابّ الذي كان يحرص على البقاء بجانبها كحارسها الشخصيّ وقال: "هل تودّان المغادرة معي؟ أظنّ أنّ موهبتكما يمكنها الازدهار لأقصى درجة لو رافقتماني."
التفت بعد ذلك إلى الأشخاص الذين ما يزالون يحيطون بمجموعته من كلّ جهة. هؤلاء لم يهتمّوا بالشخص الذي هرب مسبقا وركّزا على من بقي.
أكمل التنّين الصغير كلامه بينما ينظر إلى الأعداء: "أو يمكنكما أن ترفضا ويقبض أولئك عليكما فتعيشان فئران تجارب وعبيد حروب."
حدّقت صفاء إلى التنّين الصغير الذي كان يستغلّ هذا الوضع في صالحه، لكنّها لم تستطع إنكار كلامه. بالفعل يبدو من الأفضل الذهاب مع هذا العجوز القزم على أن يُقبض عليها وتعيش أسوء كوابيسها من جديد.
هل يجب عليها أن تكون فأرة تجارب أحدهم من جديد؟ هل عليها أن تمرّ بتلك الآلام الوخيمة مرّة أخرى؟ هل يجب عليها أن تترك الآخرين يلعبون بجسدها وروحها ليشبعوا فضولهم ويحقّقوا أهدافهم من جديد؟

لا، لن تتركهم يفعلون هذا بها مرّة أخرى. لن تمرّ بتلك الأيّام القاسيّة التي اختبرت كلّ أنواع الآلام الجسدية والروحيّة.
نعم، لقد أصبحت مختلفة الآن. لم تعد تلك الفتاة الصغيرة التي اعتادت أن تعتمد على أخويها الكبيرين. الآن عليها حماية نفسها بنفسها، ومعاقبة أيّ شخص تجرّأ على إضمار نيّة خبيثة تجاهها.

ستقتل أيّ أحد يفكّر في استغلالها.
نظرت بعد ذلك إلى الشابّ الذي من المفترض أنّه يراها مجرّد أداة وينوي استغلالها أيضا، لكن في نفس الوقت يحاول فعل كلّ ما بوسعه لحمايتها.
وجدته يبتسم بوجهه الذي كان يبدو بالغا بعدما تحوّل إلى هيئة الوايفرن. شعرت أنّه علم ما كانت تفكّر فيه.
التفت أوبنهايمر فرانكنشتاين بعد ذلك إلى التّنين الصغير ثمّ قال: "يا عجوز، سأقول هذا مرّة واحدة، لذا استمع جيّدا واحرص على تذكّر هذا دائما. سنذهب معك، ولكن إن حاولت استغلالنا بأيّ طريقة من الطرق، فاعلم أنّني سأحرص على جعل حياتك جحيما لا يطاق."
لقد كان أوبنهايمر فرانكنشتاين تعبا للغاية من كلّ من حاول استغلاله. لقد عاش حياة بائسة لم يتلقَّ فيها ذرّة حبّ من الوالد الذي كان من المفترض منه رعايته. بالأحرى، ذلك الوالد بنفسه كان مجنونا كفاية حتّى يجعل ابنه الخاصّ فأر تجارب.

لقد شاهد والده الغبيّ يحاول مرارا وتكرارا تعديل جسده حتّى اختفى شعوره بالألم. سمع والده الغبيّ يقول له في كلّ مرّة 'هذا من أجلك. هذا حتّى تصبح كيانا أسمى. ستكون تحفتي الفنّيّة!'.
لم يفعل شيئا في البدايّة لأنّه لم يهتمّ. لم يهتمّ بحياته من موته. لم يهتمّ بأيّ شيء لأنّه لم يحبّ شيئا ولم يثر فضوله شيء، لكنّ اهتمامه ازداد نحو التغيّرات التي طرأت على جسده مع مرور الوقت، فقرّر أن يُري والده الغبيّ كيف تتمّ الأمور.
صرف والده، الذي من المفترض أنّه 'عالم'، أكثر من سبع سنوات بدون الوصول إلى نتيجة، بينما احتاج هو فقط لثلاث سنين لفهم تلك الأبحاث التي قيل أنّها لشخصيّة أسطوريّة مصدرها هو قارّة الأصل والنهاية.
في تلك الأثناء، عندما وجد هدفا له أخيرا، قرّر أنّه لن يترك أيّ أحد آخر يحاول استغلاله. أصلا، كلّ شخص غيره غبيّ، فكيف له أن يترك مخلوقات دنيئة تتلاعب به؟
ابتسم التنّين الصغير وقال: "أعدك. بالأحرى، ستشكرني لاحقا."
التفت بعد ذلك إلى باقي مجموعته فوجد أن كلّ شخص كان يمسك بمن وضع عليه عينيه.
كان شبح أرض الموتى يمسك بـفانسي بينما كان أمير مملكة الصقيع يمسك برودي، وأخيرا كان القوّاس النجميّ يحمل تورتش والتاجر ناصر.
صرخ عندئذ التنّين الصغير: "لنلتقِ بعدما تتّصل العوالم من جديد لو كنتم على قيد الحياة."

استدار شبح أرض الموتى بينما ما يزال ممسكا بـفانسي، ثمّ صارت صورتهما شفافيّة حتّى اختفيا كأنّهما لم يكونا هناك، فتحرّكت مجموعة أخرى من الأعداء في الاتّجاه الذي افترضوا أنّ الشبح هرب ناحيّته.
أحاط الجليد بأمير مملكة الصقيع وبرودي كطبقة أخرى من الجلد، فانكسر الجليد بعد ذلك، لا، انكسر شكلهما وانتشرت قطعهما في الأنحاء قبل أن تتبخّر.
صرّت فويومي على أسنانها ثمّ أحاط بها وباقي إنس الجنّ الجليد كما حدث للأمير وبرودي واختفوا بنفس الطريقة أيضا.
بقي القوّاس النجميّ والتنّين الصغير، اللذيْن توهّج جسديهما برفقة الأشخاص الذين معهما. كان الوهج الذي يحيط القوّاس النجميّ وتورتش والتاجر ناصر خفيفا وبدا كطبقة من الضوء النجميّ، بينما كان الوهج الذي أحاط بالتنّين الصغير وصفاء والعالم المجنون نشطا، إذْ كان تيّارا برقيّا يدور حول أجسادهم بسرعة كبيرة.
"لا يبدو أنّه يمكننا تبادل بعض الضربات هذه المرّة يا عجوز. لنجعلها تحدث في المرّة القادمة."
ردّ التنّين الصغير على كلام القوّاس النجميّ الودود: "هذا يا هذا♪ لو كان نزالا ضدّ القوّاس النجميّ، فحتّى هذا العجوز سيبذل جهده. وداعا."
اختفى الاثنان ومن معهما بعد ذلك وكلّ ما بقي في مكانهما هو بقايا أضوائهما التي اختفى أحدها في شرخ فضائيّ بينما بلغ الثاني الأفق بالفعل.
وبالطبع، تبعهما أغلب من تبقّى، لكن هناك من قرّر الاستسلام عن الملاحقة والتركيز على أشخاص آخرين. نعم، مثل أولئك الخمسة الذين ظهروا في ساحة المعركة في مرحلة ما.
كان أولئك الخمسة هم 'كين نبيل و'كورو هيسي' و'كورو يامي' و'براون زونغ' و'يين يينغ'.
كان هؤلاء من أثار الآن انتباه من تبقّى هنا فتسابق إليهم كلّ من هبّ ودبّ.
وفي هذه الأثناء، بلغ فاصل حدوده في احتواء أولئك الشياطين وعاد إلى جانب سيّدته التي كان برفقة أنمار.
لقد حان وقت مغادرتهما أيضا، لكنّه لم يجرؤ على قول شيء بعدما لاحظ أنّ الملاك ملاك كانت عازمة على البقاء هنا حتّى تضمن سلامة أنمار.
انضم الشياطين الذين كانوا يقاتلون فاصل والملاك ملاك إلى جهة إبلاس، والذي كان هادئا. لقد بلغ الأمر ذروته، لكنّه لم يكون ينوي المغادرة بهذه البساطة.
لقد كان يعلم أنّ الملاك ملاك وفاصل سيقدرون على إبقاء أنمار تحت جناحهما حتّى اللحظة الأخيرة، لذا قرّر خطوته القادمة.
لقد انتهت عطلته وكان يجب عليه العودة حقّا من أجل استكمال عمله في المساعدة لفكّ الختمّ الذي وضعه ذلك اللعين وإعادة الاتّصال بين العوالم، لكنّه لم يرد أن يعود خاوي اليدين. لو ترك أنمار هنا فلن ينجح في جعل تلميذ حكيم ييأس تماما، ولكن إذا لم يستطِع أخذها معه، فما هناك إلّا خيار واحد-يجب أن تموت أنمار.

ظهرت أرض واسعة امتدّت كقارّة تحت السماء الشاسعة، لتختفي بعد ذلك بسرعة كبيرة وتتشكّل كسيف هلاليّ يتوهّج بضوء أزرق.
لم تمرّ لحظة على حدوث هذا، لا، بل في نفس الوقت الذي حدث فيه، امتدّت أرض واسعة أخرى كقارّة، وكانت الملاك ملاك في مركزها. لم تخسر أرضها ضدّ أرض إبلاس من حيث القوّة ونقاوة الطاقة الروحيّة، ولا من ناحيّة جلالها.
اختفت القارّة وتشكّلت كسيف طويل توهّج بضوء أزرق أيضا لوّحت به الملاك ملاك فـرفرف فستانها بالرياح الناتجة عن تلك الحركة.
بلع أحد الشياطين الذين كانوا يحاولون قتال الملاك ملاك سابقا ريقه وارتعشت أعين الباقين غير إبلاس. لقد كانت حقّا عضوة في الطاولة المستديرة.

لقد كانت روحانيّة مباركة مثلما كان إبلاس روحانيّا مباركا. بمعنى أدقّ، لقد كانت موهبتها لا تقلّ عن موهبته. بالأحرى، كان واضحا أنّها بلغت نطاق نهر العالم قبل أن يبلغه شيطان اليأس بمدّة طويلة.
ولكن تفاجأت الملاك ملاك عندما فكّ إبلاس قبضته حول رقبة الجنرال رعد وأمسكه بطاقته الروحيّة بدل ذلك، ومدّ كفّه فظهر عليه صحن فخّار.
اتّسعت عينا أنمار بشدّة؛ ذلك الصحن الفخّار، لقد رأته سابقا. كيف لها أن تنسى؟ لقد كان ذلك الصحن، أو بالأحرى ما بالصحن، هو ما تسبّب في جرح بليغ للغاية لمعلّمها، وكاد يقتل باسل.
أمال إبلاس الصحن الفخّار فسقطت قطرة من السائل الأحمر على سيفه الهلاليّ. توهّج الضوء الأزرق الذي يحيط بالسيف الهلاليّ بشكل كبير كالنار التي أضيف لها الزيت.
عبست الملاك ملاك بعدما استشعرت تلك الهالة المشؤومة التي انبعثت من السيف الهلاليّ الذي ظهر في وهجه الأزرق خطّا أحمرا بين الحين والآخر. بدا الخطّ الأحمر كشريان ينبض بالحياة.
قال إبلاس بصوت هادئ بعدما قبض الجنرال رعد من رقبته من جديد: "والآن، لنُنهِ هذا الأمر."
لم يسع الجنرال رعد سوى الارتجاف ولعن روحه وكره نفسه العاجزة. لم يستطِع أن يفعل شيئا بينما قاتلت الملاك ملاك وفاصل من أجل حماية أنمار، وانتظر هو نهاية الأمر فقط، حتّى يكون ذلك المرسول.
***
"آآآه!"
استفاق الجنرال رعد مرعوبا فجأة، كما لو أنّه رأى كابوسا، لكنّه كان يعلم، هو لم يرَ كابوسا خلال نومه، بل عاشه في يقظته.
لم يعلم الجنرال رعد كم مرّ من الوقت، لكنّه بمجرّد ما أن استيقظ حاول القيام بالمهمّة الموكّلة له. المهمّة التي أجبِر على إتمامها حتّى لو لم يرد ذلك. كان يجب عليه أن يبلغ ذلك الشخص بكل ما حدث، عليه أن يخبره بالحقيقة، وعليه أن يطلب منه شيئا.
ولكن... هل حقّا سيلبّي الفتى القرمزيّ طلبا لشخص مثله؟ ولو عنى هذا الطلب قتله. أو ربّما سيجد الفتى القرمزيّ الإبقاء على حياته المثيرة للشفقة أفضل كما فعل ذلك الشيطان حتّى يتعذّب لما بقي من عمره؟
ولكن كلّ هذا لم يهمّ الآن. حاليا، عليه إخباره بكلّ ما حدث.
نهض من مكانه واتّصل.
حاول الاتّصال مرارا وتكرارا، لكنّ الفتى القرمزيّ لم يجب. حاول بدون توقّف، وتعذّب في كلّ مرّة ظنّ أنّ الفتى القرمزيّ سيجيبه. كيف له أن يصارحه بتلك الحقيقة؟
ومع ذلك، يجب عليه أن يخبره بتلك الحقيقة.
(ماذا هناك أيّها الرجل الأشقر؟ هل هذا له علاقة بسبب عدم قدرتي على التواصل مع أنمار والبقيّة؟)
نجح الاتّصال!
كان ذلك الصوت كالصاعقة.
لم يقل الجنرال رعد شيئا إلّا بعد مرور قليل من الوقت، لكنّ كلامه لم يكن ردّا على سؤال باسل، بل مجرّد كلمات متفرّقة، ومتردّدة، ومذعورة: (أنـ-أنا آسف... لديّ خبر سيّئ... أرجوك أنصت بهدوء...)
تنفّس الجنرال رعد بصعوبة بينما يفكّر في الكيفيّة التي سيقول بها ما حصل. هل سيختلف شيء أصلا لو قالها بطريقة أو بأخرى؟ لا كلام يمكنه تغيير واقع ما حدث. لا شيء يمكنه التخفيف من قسوة تلك الحقيقة المطلقة.
(أيّ خبر سيّئ؟......................يتبع!!!!!!

(الجزء الثالث)

خبر سيّئ. ما الذي يمكن أن يحدث؟ العوالم مختومة ولا يمكن لأحد التنقّل إلى هنا من عالم آخر. هل يمكن أنّ خلافا ما حدث في أكاديميّة الاتّحاد؟ ألهذا السبب لا تجيب أنمار والآخرين؟ ولكن كيف لأحد من هذا العالم أن ينافسهم؟
(لقـ... لقـ-لقد قتلوا وسلبوا كلّ شيء.)
كلّ شيء.
ارتعش جسد باسل لمّا سمع هاتين الكلمتين. كلّ شيء. لم يقل باسل شيئا، لا، لم يقدر أن يقول شيئا وانتظر الخبر يأتي من الجنرال رعد الذي كانت أفكاره متبعثرة.
(لقد جاؤوا مرّة أخرى... و... لقد قتل ذلك الشيطان... ذلك الشيطان... قتلهم كلّهم. لقد قتل جلالة الإمبراطور...)
بووم
دقّ قلب باسل بقوة كبيرة كما لو أنّه سينفجر من مكانه. تسارعت بعد ذلك دقّات قلبه، وهذا بسبب أنّه علم أنّ جلالة الإمبراطور هو الكبير أكاغي من طريقة كلام الجنرال رعد. ومع ذلك، لم يقدر أن يقول شيئا، وهذا لأنّ ما سمعه تاليا جعل من جسده يهِن لدرجة لم يقدر فيها على تحريك شفتيه.
(وقتل الجنرال منصف.)
كان صوت الجنرال رعد في ذهن باسل واهنا للغاية، لكن ما كان يقوله كان ثقيلا بشكل لا يوصف. الكبير أكاغي والجنرال منصف. الشخصان اللذان عدّهما باسل كجدّ وعمّ. الشخصان اللذان حسباه جزءا من عائلتهم وعاملاه كواحد منهم.
ماتا؟ قُتِلا؟ ما الذي يتحدّث الجنرال رعد عنه الآن؟ ذلك الشيطان قتلهما؟ أيّ شيطان في هذا العالم المعزول؟
(لقد قتل أخويْ القطع.)
الشابّان اللذان اتّسخت أيديهما بسبب الأميرة شارلوت التي استعملت أختهما الصغيرة حتّى تتحكّم فيهما. الشابّان اللذان وثقا فيه وتبعاه. الشابّان اللذان جعلاه يتمنّى لو امتلك أخيْن أكبرين مثلهما.
اهتزّ جسد باسل بعنف شديد وارتعشت عيناه. تنفّس بسرعة كبيرة بينما يحاول استيعاب ما يقال له. ألم يكن من المفترض أن يخرج من هنا ويذهب إلى أكاديميّة الاتّحاد المباركة حتّى يلتقي بهؤلاء الأشخاص؟ ألم يكن يُفترض أن يبدأ في الاستعداد لتنميّة هذا العالم الروحيّ كفاية لمواجهة أخطار باقي العوالم الروحيّة؟
قال باسل بتردّد: (مـ-ما الذي...)
لم يكمل باسل كلامه. أضاف الجنرال رعد بعد ذلك ما كان يخشى باسل سماعه. لقد قُتل الكبير أكاغي والجنرال منصف وأخوي القطع. من قُتِل أيضا؟ تورتش والآخرين؟ عائلته؟
(عائلتك... هو... ذلك اللعين... شيطان اليأس، إبلاس.... لقد قـ-قتل عائلتك!)
"هااااااااا............؟؟؟؟؟؟؟؟؟"
لم يفهم باسل شيئا. لا، بل لم يرد أن يفهم أيّا من هذا. الكبير أكاغي، والجنرال منصف، وأخويْ القطع، وعائلته. ما الذي يسمعه؟ شيطان اليأس؟ إبلاس؟ هل يمكن أنّ الجنرال رعد قد حلم بكابوس وما يزال يعتقد أنّه يحلم؟

(ما الذي تقوله؟ هل تحلم؟ ها... أخبرني... يا أيّها الرجل الأشقر...)
صرخ باسل بينما ينقل كلامه للجنرال رعد: "أخبرني أنّك حملت كابوسا كهذا! اللعنة!"
ما سمعه باسل كان شهيق الجنرال رعد المملوء باليأس.
(أنا آسف... أنا آسف. أنا آسف... أنا... لم أقدر أن أحميهم. لم أستطع إنقاذهم. لم أستطع إنقاذ السيّدة لطيفة، وأمّ الفتاة الشقراء، وجدّتك. لم أستطع حماية أحد. آسف... آسف...)
نظر باسل إلى يديه اللتين كانتا ترتجفان. لقد كان جسده بالكامل على ذلك الحال. يجب أن يكون هذا مجرّد حلم. عليه أن يذهب إلى هناك للتأكّد من أنّ هذا حلم. عليه أن يقابل الجنرال رعد حتّى يجعله يقول أنّ كلّ ما قاله مجرّد حلم اعتقد أنّه حقيقة.
مدّ باسل يده بسرعة فسُحِب إليها الرمح الطاغيّة من بعيد بسرعة كبيرة.
صرخ الرمح: "مـ-ما الذي تفعله الآن يا لعين؟"
نظر إليه باسل شزرا، وقال شيئا واحدا: "اخرس!"
لو كان للرمح جسدا، لكان يبلع ريقه الآن. اختار السكوت بعدما لاحظ مزاج باسل السيّئ للغاية، وجدّيّة وضعه.
ظهرت المخطوطات الثلاث في يد باسل اليسرى، فجعلها تطفو أمامه وتحكّم فيها بطاقته الروحيّة. شكّلت المخطوطات الثلاث مثلّثا شعّت رؤوسه وامتدّ منها ضوء بنفسجيّ التقى في المركز لتتشكّل شعلة بنفسجيّة هنا.
قال باسل بدون النظر إلى الرمح: "ليس لديّ الطاقة الكافيّة لاستخدام قدراتك بشكل مريح، لذا سأستخدم هذه المخطوطات كوسيطة."
اهتزّ الرمح قليلا بشكل مطيع كما لو كان يومئ رأسه لو كان يملكه.
لقد كان يعلم ما كانت هذه المخطوطات، أو بالأحرى، لقد كانت هذه المخطوطات الثلاث مبنيّة بمساعدته. لقد كان هو المسؤول عن زرع فيها قدرة التلاعب بالفضاء. لم يتذكر هذا، لكنّه علم عنه لمّا شاهدها.
استعمل باسل هذه المخطوطات للتنقّل من أجل مساعدة الجنرال منصف والآخرين بالفعل، وكان يعلم أنّ عدد مرّات استخدامها محدود، لكنّه لم يهتمّ بهذا الآن. حاليا، عليه أن يسرع حتّى يسمع من الجنرال رعد يقول أنّ ما قاله سابقا كان مجرّد ما شاهده في كابوس الليلة الماضيّة.

امتدّت طاقة باسل الروحيّة نحو الرمح الذي اهتزّ بعد ذلك بشكل طفيف. لقد كان يشعر بهالة باسل والضغط القادم منها. فقط ما الذي كان يجري مع هذا اللعين؟ لماذا صار 'حضوره' قويّا هكذا؟ نعم، مثل تلك المرّة التي جعله فيها يرضخ. لا، بل أكثر من ذلك بكثير.
أحكم باسل القبض على الرمح واتّخذ وضعيّته مستعدّا لاختراق مركز المثلث. شحن الطاقة الروحيّة الكافيّة ثمّ طعن تجاه المركز مباشرة.

صرير
التقى الرمح بالشعلة البنفسجيّة، لا، اخترقه واختفى رأس الرمح داخل الشعلة البنفسجيّة. تموّجت الشعلة بعد ذلك وازداد حجمها فجأة حتّى غطّت مساحة المثلّث بالكامل. حدّق باسل إلى المثلّث البنفسجيّ وبدأ يستخدم الحكمة السياديّة بعدما تراجع للخلف قليلا.
ظهرت ثلاث كرات ضوئيّة فضيّة فوق رأسه فبدأ يستخدم الدرجات الثلاث التي يمكنه استخدامها من الحكمة السياديّة.
دارت الكرات الفضّيّة حول محاورها الخاصّة وحول مدارها المشترك الذي كان مركزه رأس باسل.
كان باسل ما يزال متّصلا بالجنرال رعد، لذا استخدم هذا الاتّصال من أجل ربط هذا المكان بمكان الجنرال رعد، واستخدم رؤيته الحكيمة السحيقة وتحليله الحكيم الشامل وتحكّمه الحكيم السليم من أجل النجاح في هذا. كان هذا ممكنا فقط لأشخاص يمكنه اتّباع مسار الموجات السحريّة والروحيّة وتحليلها والتحكّم فيها من أجل حساب الموقع المفترض الانتقال إليه.
كان يعلم أنّ مكان الأكاديميّة سيكون قدّ تغيّر على الأغلب، لذا بذل مجهودا كبيرا محاولا اتّباع مسار اتّصاله بالجنرال رعد. ولحسن الحظّ، لم يكن موقعها بعيدا للغاية. بل على العكس، يبدو أنّه صار أقرب إلى قارّة الأصل والنهاية ممّا كان عليه.
فهم باسل حالا أنّ القارّة العظيمة وقارّة الأصل والنهاية قد اقتربتا من بعضهما عمّا كانتا عليه. وبالطبع، فهم هذه الأشياء تلقائيّا، وليس لأنّه اتهمّ فيها حاليا. لم يكن لديه وقت ليفكّر بأشياء كهذه.
سحب الرمحَ ثمّ وضعه أمامه بشكل عموديّ، قبل أن ينطلق بعدما وجّه رأس الرمح تجاه الثلّث البنفسجيّ.
اخترق الرمح المثلّث البنفسجيّ، أو حاول ذلك، لكن ما حدث كان مختلفا. امتدّ المثلّث البنفسجيّ كالمطّاط بسبب اختراق الرمح له حتّى صار هناك مكانا كافيا لباسل داخل المثلّث.
كان هذا الرمح يتحكّم في الفضاء كمادّة ملموسة.
غلّف الضوء البنفسجيّ باسل وعادت المخطوطات إليه، فوجد نفسه ينتقل عبر مسار سلس عبر بعد آخر.
لم يمر وقت طويل قبل أن يلاحظ مثلّثا كالذي جاء منه. لقد كان هذا المثلّث أبيضا. كان ذلك يشير إلى الضوء القادم من الجانب الآخر.
***
توقّف الاتّصال بباسل فجأة، فاستعجب الجنرال رعد. لم يستطع أن يقول شيئا واحدا بدون أن يتلعثم. لم يقدر على تنفيذ مهمّته الوحيدة.
كان الجنرال رعد يائسا.
صرير
انشقّ الفضاء فجأة مرّة أخرى أمامه.
"ها..."
لهث الجنرال رعد وسقط على ركبتيه: "ماذا الآن؟ ما الذي يمكن أن يحدث مرّة أخرى؟ ألم تأخذوا منّا كلّ شيء بالفعل؟"

كان يعتقد الجنرال رعد أنّ نفس الشيء يحصل كما حدث عندما ظهروا أولئك الملاعين، لكنّه لاحظ أخيرا أنّ تخمينه كان خاطئا.
ظهر ذلك الفتى القرمزيّ من ذلك الشرخ الفضائيّ. لم تظهر تلك المخلوقات الفظيعة.
حدّق الجنرال رعد إلى باسل الذي كانت عيناه متّسعتين بشدّة. ليس لأنّه رأى دموع الجنرال رعد التي لم يمكن إيقافها، بل لأنّه رأى الأرض التي كان يقف عليها شبه مدمّرة.
لقد كانت هذه الأرض جانب البحيرة المباركة.
تلك البحيرة التي اعتادت أن تكون خلّابة وموقّرة حتّى اعتُقِد أنّها مباركة... لقد كانت مغطّاة بالوحل ومستنزفة من الطاقة السحريّة والروحيّة.
كانت التربة تحته ميّتة وصارت مجرّد غبار لا يحمل ذرّة من طاقة العالم.
كان بناء الأكاديميّة يبدو كقلعة مهجورة.
كان الناس المنتشرين في كلّ مكان يبدون كجثث هامدة، لا، بالفعل كانت هناك جامدة بينهم، إلّا أنّ الحيّ والميّت كانا سيّان.
"لم يكن حلما..."
كان هذا أوّل ما قاله باسل بعدما رأى الكارثة التي حلّت عند غيابه.
"الكبير أكاغي."
بدأ يردّد الأسماء التي سمع بخبر موتها.
"العمّ منصف."
تحرّك خطوة كلّما نادي اسما. تجاوز الجنرال رعد ومدّ يداه نحو الفراغ كما لو أنّه يحاول إمساك شيء.
"غايرو وكاي."
ولكن مهما أمِل، لم يكن هناك شيء ليمسكه. كان هناك فقط الخراب.
الخراب والعذاب.
"أمّي... أمّي... أين هي أمي؟"
ارتفع كلام باسل: "أين أمّي؟"
صرخ: "أخبروني أين هي أمّي؟!"
ولكن، لا أحد أجاب. لم يكن للجثث شيئا لتقوله.
"عائلتي... لقد تركتها هنا في رعايتكم. اللعنة! أين تخبّؤونهن؟"
التفت باسل بعد ذلك إلى الجنرال رعد، الشخص الوحيد الذي بدا ما يزال حيّا، وقال بعينين مضبّبتيْن: "صحيح... أنت... الرجل الأشقر. أنت واحد من قادة الأكاديميّة الثلاثة. أنت تعلم أين هن، أليس كذلك؟ هاها، بالتأكيد تعلم."

سارع باسل عائدا إلى الجنرال رعد ثمّ قال: "هيّا... أخبرني. أين خبّأتهن؟"
وضع باسل يديه على كتفيْ الجنرال رعد وهزّه بشكل عنيف بينما يكرّر نفس الكلام: "أخبرني، لقد خبّأتهن في مكان آمن، صحيح؟ كما هو متوقّع منك. كنت أعلم أنّ هذا حلم سيّئ."
بالرغم من أنّه كان يسأل عن مكانهنّ، إلّا أنّه ما زال يريد من هذا أن يكون حلما.
لقد أدرك أنّ الجنرال رعد لم يحلم عندما شاهد ما حصل هنا بعدما جاء.

"سأستفيق بعد قليل وأجد نفسي بالمنزل. نعم، سأرى عندئذ أمي، والعمّة سميرة، وجدّتي ليندا. هاها... سأراهنّ. نعم، لنستيقظ من هذا الكابوس."
لذا كان يعتقد أنّ هذا كابوسه الآن. لقد كان يأمل أنّ يكون مجرّد كابوس.
"آسف..."
حدّق الجنرال رعد إلى دموعه الخاصّة التي نزلت على الأرض بدون أن يكون قادرا على رفع رأسه. ظلّ هناك يردّد نفس الشيء كما لو أنّه فقد القدرة على قول شيء آخر.
"آسف... آسف... آسف... آسف."
"ها" لهث باسل لهثةً كالضحكة وقال: "ما الذي تقوله؟ إنّك مزعج حقّا حتّى في الأحلام. ما الذي تتأسّف بشأنه؟ انتظر، هذا مجرّد حلم. ما الذي أحاول مناقشته معك في حلم؟"
دوو
استغرب باسل لمّا وجد قبضة الجنرال رعد تبتعد عن وجهه بعد أن لمسته. هل حاول لكمه قبل قليل؟
لم يحاول، بل فعلا لكمه.
حدّق الجنرال رعد إلى باسل في المقابل ثمّ صرخ بينما تنهمر دموعه بلا توقّف: "إنه ليس حلما، اللعنة!"
"حسنا، حسنا، إنّه ليس حلما."
أكمل باسل ساخرا: "إذن لمَ لا أشعر بأيّ ألم بالرغم من أنّك بدوت كما لو أنّك لكمتني بكلّ قوّتك؟ ها؟ أليس من المفترض أن أشعر بالألم إن كان هذا واقعا؟"
لقد كان فقط اختلافا في المستويات. لقد كان باسل سيّدا روحيّا بالفعل، وليس أيّ سيّد روحيّ، بل شخص نجح في تحقيق ما لم يسبق لأحد النجاح فيه. لقد كان شخصا رائدا لمسار روحيّ فريد عبر العصور.
لكنّه لم يفكّر حتّى في هذا الأمر البسيط. لقد أراد من كلّ هذا أن يكون مجرّد حلم.
نظر الجنرال رعد إلى باسل الذي ما زال لا يريد تصديق ما قاله حتّى الآن. هذا ما كان يخشاه. لم يكن يريد تكرار قول تلك الحقيقة مرارا. مرّة واحدة كانت صعبة بالفعل، لكن كان عليه الآن أن 'يقنع' الفتى القرمزيّ بتصديق كل هذا.
"عندما انتهى تحوّل العالم الروحيّ، وفاضت طاقته الروحيّة، ظهرت شروخ فضائيّة. أولئك الملاعين بدؤوا يظهرون واحدا تلو الآخر."
بدأ الجنرال رعد يروي ما حدث. لقد كانت هذه هي المهمّة الموكّلة له. لقد كان هو المرسول. مرسول الشيطان.
نظر الجنرال رعد إلى باسل الذي كان يهزّ جسده باستمرار. كانت قبضتا باسل محكمتين بشدّة حتّى شعر الجنرال رعد أنّ كتفيه سيُكسران، لكن لم لكن ذلك ما آلمه حتّى عضّ شفتاه وغرس أظافره في كفّيْه؛ لقد كانت الكلمات التي يجب عليه أن يستخدمها حتّى يقنع الفتى القرمزيّ هي ما تجعله يتألّم. كان عليه تذكّر كلّ ما حدث بتفاصيله حتّى يخبر باسل... تذكّر تلك اللحظات...
كلّ كلمة جعلته يسترجع الأحداث التي عرف فيها حقّ المعرفة عن ضعفه وعدم نفعه.
ولكن لم يكن هو الشخص الوحيد الذي كان يعاني. لقد كان يعلم. هو شخص علم عن ضعفه بعدما 'حاول'. هو شخص 'يئِس' بعدما 'أمِل'. إذن ماذا عن الشخص الذي لم تُتَح له فرصة ليقاتل أو يحمي أحبّاءه؟ ماذا عن الشخص الذي فاته الأوان على التحلّي بالأمل حتّى؟

كان يعلم أنّ الفتى القرمزيّ أمامه يتعذّب بكلّ كلمة ينطقها، فكيف له أن يرضخ هو لآلامه ويلازم الصمت؟ ألم يشعر بالعار بشكل كافٍ؟
أليس عليه أن ينفّذ مهمّته الأخيرة بشكل جيّد على الأقلّ؟
وصل الجنرال إلى الجزء الأصعب: "لقد سحق رأس جلالته وحرص على أن تشاهد الفتاة الشقراء عينيه تخرجان من مكانهما."
كانت روحه تتآكل بينما يقول ذلك بالتفصيل. وفي الجهة الأخرى، كان باسل يتمتم بشكل غير مسموع، لكن علم الجنرال رعد عمّا كان يردّده باسل، 'هذا حلم. يجب أن يكون حلما.' ومع ذلك، قرّر الجنرال رعد المواصلة بدون نسيان شيء.
وصل إلى جزء مقتل الجنرال منصف، ورأى باسل يتلعثم في تمتمته.
ذكر مقتل أخويْ القطع فأكّد باسل لمرّة واحدة بصوت مرتفع على أنّ هذا حلم قبل أن يستأنف تمتمته، متشبّثا بكتفيْ الجنرال رعد.
وصل الجنرال رعد لأصعب جزء. الجزء الذي تيقّن فيه من ضعفه وعدم نفعه. الجزء الذي فقد فيه روحه وليس فقط كرامته.
"ذلك اللعين... ذلك الشيطان اللعين." بكى الجنرال رعد وقال: "لم يسمح لها بتوديع الفتاة الشقراء حتّى. لم يتركها تكمل كلماتها الأخيرة حتّى. هو لم يهتمّ لها أصلا. كان مهتمّا بالفتاة الشقراء فقط. قتلها بالرغم من أنّه لم يهتمّ بها. اللعنة! تبا...!"
كان هذا الجزء من رواية الجنرال رعد هو ما جعل تمتمة باسل تصبح صراخا: "اخرس! اخرس! اخرس! لماذا لا أستيقظ، لماذا؟! اللعنة!"

ضعفت يدا باسل وارتخت قبضتاه حول كتفيْ الجنرال رعد، فسقط على ركبتيه ويديه.
لو كان هذا حلما، فليوقظه أحد، لكن باسل بدأ يدرك أنّه ليس حلما.
لو كان هذا حلما، لكان قد استيقظ منه مسبقا.
أراده أن يكون حلما، لكنّه لم يكن حلما.
لقد كان يعلم. حتّى بدون الحكمة السياديّة، كان يعلم بكلّ حواسّه أنّ هذا واقع.
كانت الأرض التي يلمسها حقيقيّة ولو كانت تربتها ميّتة.
علم أنّ السماء التي رآها فوقه واقعيّة ولو كانت رؤيته ضبابيّة.
استطاع شمّ رائحة الدماء التي يكرهها كثيرا في الأرجاء.
تذوّق ملوحة دموعه التي بدأت تنهمر بالفعل من عينيه.
وسمع... سمع التفاصيل المؤلمة من فم الجنرال رعد ذي الصوت المهتزّ.
لم يكن هذا حلما وإنّما واقع. واقع لم يرده أن يحصل. واقع أمِل ألّا يحصل. واقع فعل كلّ ما بوسعه حتّى لا يحصل. واقع غيّر العالم من أجله حتّى لا يحصل.
لكن... حصل!
في النهاية حصل. حصل! لقد حدث حقّا! كلّ ما قاله الجنرال رعد واقع. إبلاس قتل الكبير أكاغي والجنرال منصف وأخويْ القطع. شيطان اليأس قتل أمّه والعمّة سميرة وجدّته.

وعندما أدرك... لا، عندما 'تقبّل' باسل الواقع، تذكّر شيئا.
أنمار.
أين هي؟
أين تورتش والآخرين؟
نظر إلى الجنرال رعد بعينين أكثر حمرة من عادتهما. كانت الشرايين فيهما تكاد تنفجر.
نهض باسل ثمّ وقف أمام الجنرال رعد وقال بصوت بارد، بارد كثيرا لدرجة شعر فيها الجنرال رعد بالقشعريرة بالرغم من أنّ الصوت كان خاليا من الحياة لقلّة ارتفاعه وحدّته.
"أكمل."
"حـ-حسنا."
لقد أراد أن يعلم. ما الذي حدث لها؟ هل فقدها أيضا؟ هل فقد كلّ شيء؟
حكى الجنرال رعد عمّا حصل مع تورتش والآخرين، حتّى وصل إلى الجزء الذي الأسوأ بين الأسوأ مرّة أخرى.
"لا أعلم ما مصير الفتاة الشقراء حاليا. بالرغم من أنّ تلك المرأة والرجل الذي كان معها دافعا ضدّ إبلاس والشياطين، بالرغم من أنّهما نجحا في ذلك حتّى آخر لحظة..."
نظر الجنرال رعد إلى باسل، إلى عينيه اللتين لم يعد يرى فيهما بياضا. كانتا حمراوين باحتقان الدم فيهما. بدتا كعينين لشخص يريد سفك الدماء حالا وأبدا، لكنّهما أيضا جعلتاه يرى انعكاس الآلام التي يشعر بها باسل حاليا.
بلع ريقه وأكمل: "عندما ظنّنا أنّه استسلم وقرّر الجميع المغادرة، استخدم قوّة غريبة كانت عبارة عن سائل أحمر في صحن فخّار. لم تستطع المرأة ولا الرجل ملاحظة أنّ السائل الأحمر كان مختلطا بدماء أعدائهما التي التصقت بهما."
كان السائل الأحمر بنفسه كالدماء، ولكن بما أنّ شخصا في مستوى الملاك ملاك لم يلاحظه، فلا بدّ أنّ ذلك السائل شيء خاصّ وفريد للغاية. وكيف لا؟ لقد كانت تلك قوّة سلطان أصليّ.
ومع ذلك، لم يستخدمه إبلاس هذه المرّة مباشرة كما فعل ضدّ إدريس الحكيم. هناك اختبار جدارة لأيّ شيء يخالف قواعد وقوانين هذا العالم. فإذا أراد شخص إخلال التوازن، عليه أن يكون مستعدّا لتجاوز اختبار العالم حتّى يكون جديرا بذلك.
واستخدام قوّة سلطان أصلي، كيان يعد في حد ذاته إخلالا بالتوازن الطبيعي، سينشّط اختبار الجدارة لا محالة.
في ذلك الوقت ضدّ إدريس الحكيم، قرّر إبلاس استخدام قوّة سلطان أصليّ، وكان مستعدّا لمواجهة اختبار العالم، لكنّه هذه المرّة لم يملك الوقت ولا الحاجة للقيام بذلك.
كلّ ما احتاج لفعله هو استخدام جزء بسيط للغاية. فقط قطرة صغيرة جدّا.
"يبدو أنّها تعرّضت للعنة ما بسبب شيطان اليأس، فاضطرّت تلك المرأة في النهاية اصطحابها معهما. كان وجه المرأة شاحبا عندما علمت عمّا أصاب الفتاة الشقراء، بينما كان وجه إبلاس مشرقا، كـ-كما لو أنّ كلّ شيء حدث كما أراد."
فقط جزء صغير من تلك القوّة الملعونة التي كانت تستمرّ في أكل روح إدريس الحكيم بالرغم من أنّ الهجوم كان قد انتهى. ذلك الجزء الضئيل كان كافيا ليضع إبلاس لعنة على أنمار بدون أن تستطيع الملاك ملاك وفاصل ملاحظة شيء في الوقت المناسب.
نظر الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ.
لقد كان يعلم الجنرال رعد معنى كلامه.
قد تكون أنمار ماتت أيضا.
حدّق الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ الذي ظلّت عيناه الحمراوان متّسعتين بشدّة كما لو أنّه يحاول استدراك الأمور.
بالفعل، كان عقل باسل مشغولا بشيء واحد. هل فقد حقّا كلّ شيء؟ من أجل ماذا فعل كلّ ما فعل حتّى الآن؟
ألن يرى ابتسامة أمّه؟ انس الابتسامة... حتّى لو بكت كلّ ليلة كعادتها، فقط أعدها له.
ألن يرى العمّة سميرة التي ربّتت على رأسه ودافعت عنه في كلّ مرّة أتى بها متّسخا ووبّخته أمّه.
ألن يرى جدّته التي تكلّمت عن عشيرة النار القرمزيّة بكلّ فخر وفرح؟
ألن يرى بعد الآن أنمار التي لاحقته في كلّ مكان وسخّرت نفسها له منذ نعومة أظافرهما؟

الكبير أكاغي، والجنرال منصف، وأخويْ القطع. كلّ هؤلاء الأشخاص الذين تقرّب منهم كثيرا.
تورتش والآخرين اختفوا كذلك.
كلّهم... فقدهم كلّهم.
تكلّم الجنرال رعد فجأة. لم يتوقّع باسل أنّ الجنرال ما زال يملك ما يقول.
لكن الجنرال رعد كان مرسولا، وأيّ مرسول يحمل رسالة.
لم يبلغ الجنرال رعد رسالته بعد.
تذكّر باسل أنّ الجنرال رعد قد قال شيئا عن إمساك إبلاس إيّاه. شعر أنّ ما سيقوله الجنرال رعد تاليا هو ما فعل إبلاس كلّ هذا من أجله.
"أخبَرَني أن أبلغك رسالة بعدما أخبرك بكلّ ما حدث بالتفصيل."
علم باسل عمّن كان يتكلّم الجنرال رعد بدون ذكر اسمه.
تعب الجنرال رعد من ترديد اسم ذلك اللعين.
"هذا ما قاله ذلك اللعين، 'البارحة قتلت معلّمك. اليوم أبدت عائلتك وأحبابك. فماذا، يا ترى، سآخذ منك غدا؟ متشوّق للقائنا القادم يا تلميذ حكيم، لا، يا باسل.' كان هذا آخر شيء أتذكّره قبل استيقاظي هنا."

***
احمرّت عينا باسل لدرجة كبيرة، حتّى اعتقد الجنرال رعد أنّ الدم سيسيل منهما.
اهتزّت الأرض حولهما بشدّة. علم الجنرال رعد أنّ هذا كان بسبب طاقة باسل الروحيّة. طاقة روحيّة شعر لسبب ما أنّها أثقل وأنقى من الطاقات الروحيّة التي بعثها بعض تلك الوحوش اللعينة.
صرخ باسل فجأة: [إبــــــــلااااااااااااااااااااااااااس!!!]
كان صراخه صاخبا للغاية حتّى بدون استخدام أيّ معزّز.
بلغ صوته كل الجثث الهامدة في جميع الأنحاء. تحرّكت بعض الجثث أخيرا بعدما عادت الحياة إليها.
كلّهم نظروا إلى الشابّ القرمزيّ الذي كان يتصرّف بشكل غريب للغاية.
بعدما صرخ باسل، هدأ فجأة، لكنّه صرخ بعد ذلك بشدّة: [لا أريد أن أهدأ، اللعنة!]
لم يفهم أحد ما الذي يقصده.
لكنّه هدأ من جديد. كان ذهنه يصير صافيا. كان عقله يصبح سليما.
ومع ذلك صرخ: [اللعنة! لقد قلت أنّني لن أهدأ! لا تجعليني أهدأ!]
تردّدت صرخاته في الأنحاء بدون توقّف. اعتقد الجنرال رعد والأشخاص الذين عاد إليهم بعضا من الرشد أنّ باسل فقد رشده.
لم يعلموا عمّا كان يحدث.
كيف لهم أن يعلموا عن شيء كالحكمة السياديّة؟
ذات حين، تخاصم باسل والعالم المجنون عندما كانا في أرخبيل البحر العميق، فحاول العالم المجنون التلاعب بمشاعر باسل، لكنّ باسل لم يفقد رشده. كان هناك سبب واحد–الحكمة السياديّة.
كلّما بلغت به الأمور لحد يفقد فيها رشده ومنطقه السليم، جعلته الحكمة السياديّة يهدأ ويترزّن كإجراء اضطراريّ. كان ذلك أثرا جانبيّا للدرجة الثالثة من الحكمة السياديّة، التحكّم الحكيم السليم.
كان يهدأ، لكنّ غضبه كان شديدا للغاية. حتّى لو جعلته الحكمة يهدأ، كان يتذكّر الأحداث التي حصلت في غيابه ويغضب بجنون من جديد.
كان يتذكّر أوجه أحبابه، ويتقبّل حقيقة موتهم. كان هذا يجعل روحه تضطرب بشدّة، لكنّ الحكمة السياديّة أتمّت دورها بشكل مثاليّ.
كان تلك حلقة لا نهائيّة. كان هذا معذّبا أكثر. لم يستطِع أن يغضب بشكل مناسب حتّى.
كانت هذه أوّل مرّة يكره فيها باسل الحصول على الحكمة السياديّة من معلّمه.
لم يكن هناك شيء بدون ثمن.
كان يشعر بحزن شديد، لكن لم يحقّ له أن يغضب بشكل مجنون. كيف له أن ينفّس عن غضبه؟ كيف له أن يكون هادئا؟
شعر أنّ الحكمة السياديّة لم تكن نعمة بل نقمة. لقد مات أعزّ الناس إلى قلبه لكنّه كان هادئا. أراد أن يُجنّ ويدمّر كلّ ما هو أمامه، لكن لم يستطع فعل شيء كهذا وعقله سليم.

كان يقترب في الأثناء بعض الأشخاص منه. كان من بينهم الإمبراطور هاكوتشو والإمبراطور غلاديوس، والأميرة كريمزون سكارليت وأمّها.
كانت عائلات الأباطرة معزولة في مكان ضيافة خاصّ، ولم يهتم لهم أحد. في الواقع، لم يهتم أحد لأيّ شخص طالما كان بدون فائدة. فقط إبلاس من اهتمّ بأشخاص كعائلة باسل بالرغم من أنّهم مجرّد أشخاص عاديين.
كانت أوجههم شاحبة، وخصوصا الإمبراطور هاكوتشو الذي فقد أخته، والأميرة سكارليت وأمّها اللتين فقدتا الكثير، تماما مثل باسل.
لقد مات الكبير أكاغي الذي كان أبا محبّا لسكارليت وزوجا مخلصا لزوجته. مات الجنرال منصف الذي كان أبا وقدوة لابنه كارماين، وزوجا أحبّته سكارليت من أعماق قلبها بعدما تزوّج بها وساعد في المحافظة على استقرار عائلتها. وأخيرا، اختفت أنمار التي فقدت عائلتها.
فقدت سكارليت اليوم أبا وزوجا وابنة أخٍ وثلاثة نساء عدّت إحداهن جدّة لها والأخريَيْن أختين لها.
كانت الأجواء كئيبة ومظلمة بالرغم من أنّ الشمس لم تغرب بعد وظهر أفق خياليّ بالنظر من فوق السحب على الأرض المباركة الطافية في السماء.
لم يتكلّم أحد بالرغم من أنّهم وصلوا إلى باسل. من يمكنه التكلّم معه وهو ما يزال يصرخ ويهدأ باستمرار؟ لقد كان يبدو كالمجنون تماما.
لقد كانت الكثير من الأسئلة تجوب خاطرهم. وأهمّها، أين كان باسل عندما حدث كلّ ذلك؟
لماذا لم يأتِ؟ لماذا لم يستطع أحد الاتّصال به؟
كان هناك بعض الأشخاص الذين شكّوا في غيابه في ذلك الوقت الحاسم. هل ربّما خاف ولم يأتِ؟ هل هرب بعدما علم أنّ أولئك الملاعين كانوا يخطفون الآخرين؟
ولكن... كلّ من فكّر بهذا كان لا يعرف باسل بشكل شخصيّ، وحتّى لو راودتهم مثل هذه الأفكار، كانوا يقمعونها مباشرة؛ فهناك من رأى كيف أنقذ باسل العالم من حلف ظلّ الشيطان، وهناك من رأى كيف حمى العالم من التحوّل الروحيّ بتلك الحواجز التي نشرها في أنحاء العالم، وهناك من شهد قدومه البطوليّ كي ينقذ الجنود في قارّة الأصل والنهاية، وهناك من رأى أنّ الأباطرة والقادة الكبار لم تراودهم هذه الأفكار حتّى وسلكوا نفس المنهج.
تحسّرت سكارليت وأمّها لوقت طويل قبل أن تقتربا من باسل، كلّ واحدة بأحد الجانبين. وضعتا أيديهما على كتفيه وتردّدتا قليلا بينما تحاولان عناقه.

لقد كان هذا الفتى، لا، هذا الشاب أكثر من مجرّد حليف ومنقذ للعائلة. لقد كان وريث عشيرة النار القرمزيّة التي كانت لها علاقة أخوّة بعائلة كريمزون. لقد كان الشخص الذي جعلهم يتّصلون بحفيدتهم التي أحبّته بشدّة. لقد كان ابنا وأخا لهم.
كانتا تفهمان شعوره بالضبط.
لم يستطع باسل النظر إلى المرأتين. لم يعلم كيف يفعل ذلك.

لقد كان الشخص الذي كان غائبا عندما مات الأشخاص الأعزاء على قلوبهم. لقد كان من المفترض أن يكون هنا في ذلك الوقت ويقدّم المساعدة. لقد كان عليه... كان عليه... كان عليه.. كان عليه...
لم يتوقّف باسل عن إلقاء اللوم على نفسه، وخصوصا بعدما اشمأزّ من حقيقة استمرار سلامة عقله حتّى الآن بالرغم من أنّه فقد ما اعتقد سابقا أنّه سيُجنّ لو فقده.
نظر باسل إلى سكارليت بعينيه 'الحمراوين' اللتين لم ترمشا منذ مدّة طويلة جدّا، ثمّ إلى أمّها بعد ذلك قبل أن ينظر إلى الأرض مرّة أخرى متحسّرا.
قال بصوت واهن: "لربّما كان معك حقّ يا أيّتها الجدّة ابتهال. لربّما استطاعت اللعنة التمكّن منّي. إنّني ملعون. أنا السبب في حدوث كلّ هذا."
رفعت الجدّة ابتهال رأسها ونظرت إلى باسل بعينيها المملوءتين بالدموع وشهقت. لقد كانت الشخص الأكثر خوفا من 'اللعنة' التي لاحقت عشيرة النار القرمزيّة. شعرت في هاته اللحظات أنّ باسل يلوم نفسه ووجوده بحدّ ذاته.
"لا!" تكلّمت بسرعة: "أنا كنت مرتعبة فقط. الحقيقة مختلفة تماما. لقد كانت العشيرة ظلّنا لسنين عديدة وحمتنا من كلّ شرّ. حتّى في حرب الانقلاب كنّا لنُباد تماما لولا تضحيّة العشيرة."
أكملت الجدّة ابتهال بسرعة قبل أن يقتنع باسل أنّه مصدر كلّ الشرور التي حدثت: "وحتّى في حرب الاسترداد، كانت العشيرة، كان أنت من استردّ حقّنا. لقد كنت الشخص الذي نمّى عالمنا بأكمله ولم تطالب بشيء في المقابل. أنت والعشيرة فعلتما هذا دائما. لقد ندمت كثيرا لأنّني اعتقدت لوهلة أنّ هناك لعنة ما بالعشيرة."
كانت اللعنة التي تتحدّث عنها الجدّة ابتهال هي موت أعضاء العشيرة ميتة شنيعة وخشت أن تقترب هذه اللعنة من أبنائها. كان هناك جانب آخر للعنة، وهو غدوّ الأب ضعيفا بشكل ملحوظ ما أن يكبر خلفاؤه كفاية.
بالفعل، كان أعضاء العشيرة يموتون صغارا، ولكن بالتفكير في ذلك بشكل منطقيّ، أليس من المفترض أن يكون من الطبيعي موت أشخاص يكرّسون حياتهم لحماية الآخرين؟
ومع ذلك، حتّى لو استطاعت الجدّة ابتهال فهم هذا الأمر، إلّا أنّه كان مختلفا نوعا ما عن اللعنة التي تكلّم عنها باسل.
أوّلا، كان يتكلّم عن كونه لعينا من الأربعة عشر مختار، وثانيا كان يقصد حالته الحاليّة التي لم يستطِع أن يراها إلّا كلعنة.
كانت لعنة السارق الخسّيس تقبع في أعماق روحه، فعلم أنّ مساره الروحيّ سيكون الأكثر دمويّة بين المسارات الروحيّة كلّها، لكنّه كان قد سبق وقرّر أن يحمل أيّ ثقل ويكمل مساره الروحيّ.
والآن، صار يرى شيئا ضحّى معلّمه بحياته من أجله كلعنة. تعذّب بمختلف الطرق. لم يستطِع أن يغضب بشكل جنونيّ بعدما فقد أشدّ أحبّائه، وبدأ يكره شيئا استلمه مع من معلّمه الذي عدّه والدا له.

ولكن بدون هاتين اللعنتين، كان يعلم أنّه هو بنفسه سبب مقتل كلّ أولئك الأشخاص. ما كان إبلاس ليفعل كلّ هذا لو لم يكن مهتمّا به. حتّى لو أتى إلى هنا، فما كانت النتيجة لتختلف.
ردّ باسل بعدما حدّق إلى الجدّة ابتهال ثم سكارليت: "لقد خذلتكما. خذلت الجميع."
كانت صور أمّه والآخرين تومض في عقله باستمرار، فكان يكاد يُجنّ لكنّه يعود لرشده في الآن ذاته. كان يتذكّر الأيّام التي كان فيها ضعيفا للغاية كصبيّ.
في ذلك الوقت، أقسم بالرغم من أنّه كان يملك جسدا ضعيفا مقارنة بباقي الأطفال على أن يغدو قويّا كفاية حتّى يحمي أمّه كما فعل أبوه قبل أن يموت.
ملأت تلك الذكريات عقله وشغلته واحدة تلو الأخرى.
(يا باسل، ليس عليك أن تكون قويّا. فقط عش حياتك كما تريد. لا تختبئ في الظلال طوال حياتك وتمتّع بالعالم.)
خرجت هذه الكلمات من فم لطيفة بينما يعلو وجهها تعبيرا يحنّ إلى الماضي.
نظر إليها باسل ذو الخمس سنوات وتذكّر الليلة الماضية التي بكت فيها أمّه بشدّة. لقد كانت تنصحه هكذا في كلّ صباح بكت خلال ليلته.
لم يعلم باسل معنى تلك الكلمات، لكنّه كان طفلا ذكيّا وورث كلّ ما تميّزت به عشيرة النار القرمزيّة، لذا فهم أنّ أمّه لم تكن تريد أن يحدث له ما يجعلها تبكي في العديد من الليالي.
ردّد باسل الصغير كلمات أمّه: (لا تختبئ في الظلال طوال حياتك وتمتع بالعالم.)
وقف بعدما كان يجلس مع والدته على سريره وقال بعدما رفع قبضته نحو الأعلى: (سيصير ابنك هذا أقوى ساحر في العالم ويحميك والعمّة سميرة وأنمار من كلّ شرّ.)

ابتسمت لطيفة وأجابت ابنها الذي كان يقول شيئا كهذا بالرغم من أنّ جسده كان ضعيفا جدّا بالنسبة لعمره. ما الذي يمكنه أنّ تقوله لفتى بالخامسة من عمره عندما يصرّح بشيء كهذا؟ بالطبع...
(نعم، ابني باسل سيصير أقوى ساحر في العالم، ولكن يا باسل، تذكر، لا تضلّ طريقك أبدا واجعل من حماية الأعزّاء على قلبك أقصى أولوياتك. احرص على سلامتهم حتّى لا تندم لاحقا، ولن ينفعك الندم بشيء غير تدمير ذاتك.)
حتّى لو أرادته أن يعيش حياة طبيعيّة بسلام، كيف لها أن تدمّر 'حلم' طفلها الصغير بكلماتها؟ لقد كانت كلمات الأمّ بالنسبة لطفل بهذا العمر حقيقة مطلقة. لم تكن لتسمح لنفسها بفعل شيء كهذا أبدا.
لقد كانت تعلم أنّ باسل يدرك وهانة جسده مقارنة بالأطفال في عمره، لذا لم تحاول أن تخبره أنّ هذا مستحيل.
كانت تعلم كم عمل ابنها على تحسين نفسه منذ أن لاحظ تلك الفروقات.
كان يساعد في الحقول ويمرّ على مكتبة القرية الصغيرة ويتدرّب على أساسيّات فنون القتال البسيطة ويعود متّسخا للمنزل، منهكا تماما.

كان يمرض في العديد من الأحيان، كلنّه استمرّ في إجهاد نفسه بدون توقّف. أراد أن يكون مثل أبيه الذي حمى عائلته. أراد أن يوقف دموع أمّه. أراد أن يصير قويّا ويستكشف العالم وخباياه ويتمتّع بها كما أخبرته أمّه.
كان يقترب منه في تلك الأثناء بعض الأطفال فقط ليسخروا منه. لم يستطع اللعب معهم لأنّه كان ضعيف الجسد، لكنّهم كانوا يأتون بين الحين والآخر ليجعلوا يومه أصعب.
عندما كان يحاول التدرّب بوضعية القرفصاء، كانوا يطرحونه أرضا بمباغتته من الخلف.
عندما يتمرّن تمارين الضغط، يجلسون على ظهره.
عندما يجري يعرقلون قدميه.
(هل تانك قدمان أم زعنفتان؟)
قالها الطفل عثمان الذي كان يكره باسل منذ صغرهما.
لماذا هذا التافه الضعيف يحصل على اهتمام ملاك القرية، أنمار، بينما هو أقوى الأطفال وأكثرهم وعودا يتلقّى الرفض منها حتّى عندما يريد مساعدتها؟
حتّى في هذه الأوقات، كانت تظهر أنمار وتحاول مساعدة باسل على النهوض، لكنّه كان يرفض ذلك ويقف على ساقيه اللتين كانتا تهتزّان وترتجفان حتّى تحملان وزنه الخفيف.
(لا أحتاج ليد المساعدة أثناء تدريبي يا أنمار. لن أصير أقوى ساحر بذلك المنوال. لن أستطيع حماية شيء لو تخاذلت في تدريباتي.)
حدّقت أنمار الصغيرة إلى الصبيّ القرمزيّ ووضعت قبضتها على صدرها وتمتمت بصوت غير مسموع: (من سيحميك إذن؟)
لم تستطع أن تتجاهل جهود هذا الفتى الواهن الذي كان يحمل نفسه بما لا طاقة لها به، فحسمت أمرها أن تحميه في المقابل.
لقد كانت تراقبه منذ الصغر، فعلمت عن مزاياه ومساوئه، وبالرغم من أنّه صغير، إلّا أنّه كان ذكيّا ويناقش أمين المكتبة في مواضيع معقّدة.
علمت عن ضعف جسده وقوّة إرادته، فتعجّبت مرارا من عزيمته التي تخطّت حدود المعقول.
مهما مرّ من الزمن، لم يتوقّف باسل عن التدرّب وقراءة الكتب في المكتبة. بالرغم من أنّه تدريباته لم تحسّن من قدراته الجسديّة إلّا أنّه استمرّ. بالرغم من أنّه قرأ كل الكتب المتاحة في مكتبة القرية الصغيرة إلّا أنّه أعاد قراءتها مرارا وتكرارا.
كان يعمر الثامنة إلّا أنّ جسده كان ما يزال واهنا، وحتّى والدته وسميرة تعجّبتا من هذا. لقد كان باسل وريثا لعشيرة النار القرمزيّة، فكيف له أن يملك جسدا ضعيفا مع العلم أنّ ***** العشيرة كان يُعرفون بأجساد بنفس قوّة الكبار.
(هل أنا السبب يا ترى؟)
لامت لطيفة نفسها. لقد عارضت العشيرة على زواجها، إلّا أنّ جاسر أصرّ على عقد القران معها. هل يمكن أنّ دمها البسيط الذي يجري في عروق باسل هو ما جعله على هذا الحال؟
ربّتت سميرة على ظهرها وقالت: (لا تكوني حمقاء. أنا متأكّدة أن تلك الحادثة لها علاقة ما.)
'تلك الحادثة.'
قبل ثمان سنين، ظهر رجل عجوز غامض وفعل شيئا لابنها. ترجّت ألّا يكون شيئا سيّئا قد حلّ بابنها. ماذا لو كانت لعنة ما؟
وبالطبع، إدريس الحكيم، الشخص المسؤول عن هذا كان يعلم تماما ما كان يحدث.
(الختم الذي منحني جلالته لا يوقف طاقة العالم من الولوج إلى جسد الفتى، ولكن يمتصّها بعدما تدخل إلى جسد الفتى قبل أن تؤثّر على روحه. ومع ذلك، هذا يؤثّر على جسد الفتى ويضع عبئا ثقيلا على كاهليه. إنّني متفاجئ أنّه قادر على التحرّك بشكل عادي فما بالك بالتدريبات التي يقوم بها.)
ابتسم إدريس الحكيم الذي كان يراقب باسل من حين إلى آخر: (هذا يشعرني بالحنين. لربّما تختلف موهبتينا في السحر كاختلاف الليل والنهار، لكن إرادته الحديديّة تذكّرني بعدم استسلامي للواقع المرّ الذي وجدت نفسي أعيشه. إنّه مثير للاهتمام.)
بلغ باسل العاشرة من عمره، فلاحظ بعض التغيّرات تطرأ على جسده بمرور الأيّام.

لم يعد يشعر بالوهن. لم يعد تؤلمه عظامه وعضلاته كلّما تحرّك. صار يتنفّس بشكل طبيعي حتّى لو تحرّك لمسافات بعيدة.
بدأت التدريبات تظهر مفعولها. صار جسده خفيفا بالرغم من ازدياد وزنه. لم يعد يملك الأطفال فرصة للتنمّر عليه.
عندما يريدون إسقاطه أرضا كان يقفز ويلتف على نفسه.
عندما يجلسون على ظهره كان يستمر في تمارين الضغط بسرعة كبيرة حتّى يجعلهم يسقطون.
عندما يحاولون عرقلة جريه يسلك طريقا أعوج وأكثر صعوبة بسهولة.
كلّ هذه التغيّرات حصلت على مدى شهور، لكن كلّ تغيّر بسيط كان له أثر كبير على جسده الواهن وحياته. شعر باسل بالحريّة أخيرا، فصار يعود بملابس أكثر اتّساخا عن ذي قبل ويضطر للإنصات لمحاضرة أمّه حتّى صارت لديه عادة في البقاء نقيّا قدر المستطاع وتطهير نفسه وملبسه عند تلوّثهما.
لم يهتم بما فعل الأطفال عندما كان ضعيفا، لذا لم يهتم حتّى عندما صار قويّا. تجاهلهم فقط واستمرّ في التدرّب كالمجنون.
ذات يوم، اقتربت منه تلك الفتاة. كانت فتاة لطيفة وظريفة بشعر أسود وسلس كشعر أمّه وبنفس العمر.
بالطبع كان باسل وسيما منذ صغره، إلّا أنّ اهتمام الفتيات به قلّ كثيرا بسبب ضعفه الشديد وخوفهنّ من عثمان الذي كان يترأّس مجمع الفتيان.
والآن، اقتربت منه هذه الفتاة، وليس أيّ فتاة، بل أخت عثمان بنفسه. هل هذه مزحة؟
بالطبع كان باسل فتىً بالخامسة من عمره، إلّا أنّه كان ذكيّا للغاية وفهم مباشرة الحبكة وراء هذا.
ابتسم فقط وصافح يد الفتاة الصغيرة التي ابتسمت بإشراق. لقد كانت شمسا في حياة هذا الطفل المظلمة. هذا ما اعتقدت الفتاة. هذا ما خطّطت له.

***
(يا أيّها الجدّ عليّ، إنّ الجزر الذي تزرعه وترعاه بيدك أفضل جزر في العالم. لقد كنت أحب الجزر منذ صغري، لكنّك جعلتني أدمن عليه. لقد صرت الآن عاجزا عن العيش بدون جرعتي اليوميّة من الجزر.)
اعتقد باسل أنّه لن يأتي يوم يكون فيه حيّا ولا يحاول تعاطي جرعته اليوميّة من الجزر. لم يستطع تخيّل قدوم يوم ينسى فيه جرعته اليوميّة.
ضحك الجدّ عليّ وردّ: (الفلاحة جيّدة يا أيّها الفتى باسل. أعلم أنّك قلت سابقا أنّك تريد أن تغدو ساحرا، لكن أليس من المثير للاهتمام محاولة زرع وتنميّة الجزر الذي تحبّه كثيرا بيديك الخاصّتين؟)
ابتسم باسل وردّ بعدما عضّ جزرة اقتناها من رزمة الخضر: (قد أفعل ذلك ذات يوم. لربّما عندما أحقّق أحلامي، سيكون من الجيّد العيش بسلام في مزرعة بجوار الأحباب.)
حدّق الجدّ عليّ لبعض من الوقت إلى باسل ثمّ تنهّد وقال: (فقط لا تنسَ ألّا تضحّي بذلك السلام في طريقك لتحقيق تلك الأحلام. ألا تظنّ أنّ كلّ شيء سيكون بلا معنى إذا فقدت ما أردته بسبب سعيك ورائه؟ في بعض الأحيان، يجب عليك أن تقنع بما هو لديك.)
(هاها...) ضحك باسل ذو العشر سنوات: (إنّك تتكلّم مثل أمي نوعا ما يا أيّها الجدّ عليّ. على أيّ حال، لن أقنع أبدا حتّى أتأكّد تماما أنّ أولئك من أحبّهم سيحيون ويموتون بشكل طبيعيّ وبهناء.)
حدّق الجدّ عليّ لوقت طويل إلى باسل ثمّ قال: (إنّك تقول كلاما صعبا بالرغم من أنّك ما زلت صبيّا صغيرا. ألا ترى أنّه يجب عليك الاستمتاع أكثر بما هو حولك؟)
قضم باسل الجزرة ثمّ بلع ما مضغه وردّ: (أنا أفعل ذلك بالفعل أيّها الجدّ عليّ. إنّما فقط الأمر هو، لا أرى أنّ ما حولي مجرّد قرية صغيرة. أنا أرى عالما مليئا بالأسرار والمفاجآت. الاستمتاع؟ بالطبع سأستمتع كثيرا، ولتحقيق هذا، يجب أن أسعى لتحقيق أحلامي. إذا صرت أقوى ساحر في العالم، يمكنني حماية من أريد، والاستمتاع بما أريد، والعيش بسلام كما أريد.)
بالفعل كانت كلماته طفوليّة بعض الشيء، لكنّ آفاقها كانت واسعة للغاية. لم يسع الجدّ عليّ سوى أن يتنهّد ويتمتم لنفسه: (لا مفرّ إن كان ذلك هو القدر.)
استغرب باسل من هذيان الجدّ عليّ وتناسى الأمر بعدما سمع العجوز يضيف بصوت مسموع: (عندما تريد زراعة الجزر، ابحث عنّي حتّى أعلّمك وصفتي السرّيّة. قد أكون مجرّد فلّاح بسيط، لكنّني واثق من مهارتي في زراعة أفضل جزر في العالم على الأقلّ.)
حكّ باسل مؤخّرة رأسه وأراد أن يقول شيئا، إلّا أنّه قوطِع. ظهرت تلك الفتاة ذات الشعر الأسود السلس خلفه وربّتت على كتفه مرّتين ثمّ أمالت رأسها، مبتسمةً: (علمت أنّك ستكون هنا. إنّك تحبّ الجزر كثيرا يا باسل قبل كلّ شيء.)
ابتسم باسل بإشراق: (هاهاها! إنّك حقّا تعرفينني جيّدا يا أدريان. كيف تعلمين دائما عن المكان الذي أكون فيه؟)

(بالطبع سأعلم عن مكان صديقي المفضّل. أخبرني، هل ستتمرّن اليوم أيضا؟)
نظر باسل إلى الفتاة التي تقرّبت منه بنجاح في الأسابيع الأخيرة. لقد كانت فتاة محبوبة حقّا على عكس أخيها المتنمّر والحقود. يبدو أنّها كانت "تراقب" ما كان يفعل أخوها لباسل طوال الفترة الماضيّة وأرادت أن تصادق باسل حتّى يتوقّف عثمان عن تفاهاته. قالت أنّه قد يتوقّف عن أفعاله القاسيّة لو علم أنّ أخته الصغيرة التي "يعزّها" تصادق ذلك الشخص.
لقد كانت أدريان **** عطوفة حقّا حتّى تفكّر في شخص وحدانيّ كباسل.
ردّ باسل على كلامها: (طبعا. سأذهب بجوار منطقة محظورة حتّى أعتاد على أخطار المناطق المحظورة. من يعلم، ربّما أجد ساحرا يعلّمني السحر أيضا.)
تفاجأت أدريان وبدت قلقة للغاية، لكن حتّى باسل لم يستطع ملاحظة التعبير الذي ظهر قبل تعبير القلق لوقت وجيز للغاية. لقد كانت تلك ابتسامة سوداويّة كابتسامة مفترس وجد الفرصة للانقضاض على فريسته.
اختبر باسل اليوم الأوّل بجانب منطقة القرد الأزرق الضخم المحظورة. لقد كان يوما شاقّا بالرغم من أنّ المكان كان خارج المنطقة المحظورة. كانت هناك حيوانات شرسة كانت في بعض الأحيان تدخل إلى المناطق المحظورة وتتعارك مع الوحوش غير السحريّة حتّى تحصل على الموارد الغذائيّة وتعلن المنطقة المحظورة كمنطقة خاصّة بها.
استمرّ الأمر على ذلك الحال. تحوّلت تمرينات باسل العاديّة إلى محاولات نجاة من الموت. لقد كان الأمر مرعبا وتضرّر جسده لكنّه كان يكتشف في كلّ مرّة حركات جديدة ليراوغ ويهاجم بها، لذا كان الأمر ممتعا أيضا. لقد كان يلاحظ أنّ ذلك الفتى الواهن اختفى وحلّ محلّه فتى نشيط وقويّ للغاية. كان باسل قد بدأ يلاحظ أنّ جسده قويّ مثل أجساد الكبار.
(لقد أثمرت تدريباتي الجهنّميّة أخيرا.)
ذلك ما اعتقد باسل، لكن السبب الرئيسيّ لم يكن التدريبات في الواقع. مهما تدرّب *** بالعاشرة من عمره، لم يكن ليملك جسدا بقوّة الكبار الأقوياء. لقد كان كلّ هذا بسبب اعتياد جسده على طاقة العالم أخيرا وتحسّن حاله. ولهذا ظهرت أخيرا ميزات وخواصّ عشيرة النار القرمزيّة التي كانت مقموعة.

كان إدريس الحكيم يراقب باسل طوال الوقت. لم يكن هناك ما يفعله أصلا غير التدرّب والتدبّر، لذا كان وقت فراغه يُصرف في مراقبة باسل. كان يجب عليه أن يكون حريصا على عيش الفتى الذي قال الملك الأصليّ أنّه مهمّ للحفاظ على توازن العوالم.
لم يعلم إدريس الحكيم ما قصده الملك الأصليّ، لكنّه علم أنّ الأمر له علاقة بقدرات الفتى المميّزة. لم يسبق لأحد أن أحبّته طاقة العالم بهذا الشكل. لم يحتج أن يحاول امتصاصها، فهي بنفسها تأتي إليه.
(الحفاظ على التوازن.)
قال إدريس الحكيم تلك الكلمات ونظر إلى الفتى القرمزيّ.

(لا أعلم عن أيّ توازن يتحدّث جلالته، لكنّه يجب أن يكون يعلم أنّني لن أجبر تلميذا لي على اتّباع طريق محدّد. لربّما لهذا السبب أخبرني أن أعلّمه وأرشده لا أن أحدّد مساره الروحيّ.)
كلّ ساحر روحيّ كان له مسار روحيّ خاصّ به، وتقرير المسار الروحيّ لشخص ما يجعل هذا الشخص غير مؤهّل ليكون ساحرا روحيّا حتّى.
في أحد الأيّام، كان باسل مرهقا بعدما تدرّب لمدّة طويلة، وحان الوقت ليذهب لأحد الآبار التي كان يزورها حتّى يغتسل ويزيل الأوساخ قبل أن يذهب للمنزل. كان ماء ذلك البئر منعشا للغاية. ما أن بلعه حتّى شعر بالحيويّة تتجدّد عبر عروقه.
ظهرت عندها أدريان كعادتها. لقد اعتاد باسل على طريقة ظهورها هذه. كانت دائما تظهر فجأة.
(هل أنهيت تدريبك اليوميّ؟)
أجاب باسل كلامها الهادئ والقلق: (نعم. كنت أنوي العودة إلى المنزل بعد الانتهاء هنا.)
خاب أمل أدريان وبدأت تلعب بأصابعها كما لو أنّها تريد قول شيء ما لكن لم تستطع. كانت تنظر من حين إلى آخر إلى السلّة التي كانت بجانب قدميها.
لاحظ باسل هذا فمدّ يده: (قولي ما تريدين قوله. ألسنا صديقين؟)
كانت ابتسامته البريئة جذّابة، فاحمرّ وجه أدريان. لم يعلم باسل إن كان احمرار وجهها ذاك تمثيلا أم لا، لكنّه لم يهتم بهذا حاليا. لقد كان يريد أن يعلم ما الذي ستريده أخت عثمان بعدما "تقرّبت" منه كفاية في هذه الأيّام الاخيرة.
ابتسمت أدريان بإشراق بعدما جمعت شتاتها وردّت: (أ-أنا... أريدك أن تذهب معي في نزهة.)
(نزهة؟)
تساءل باسل فأجابت أدريان بسرعة كبيرة: (نعم. نزهة. لطالما أردت أن أتنزّه مع صديق لي. لقد أعددت الشطائر أيضا. آه، وسلطة الجزر، وعصير الجزر أيضا.)
علم باسل أخيرا عن محتوى السلّة التي كانت بجانب قدميْ الفتاة الخجولة. لقد أتت مستعدّة حقّا. سيكون سيّئا رفض طلبها بعد كلّ ما فعلته. سيكون سيّئا إهدار سلطة وعصير الجزر.
(آه، لمَ لا؟ لنذهب إذن.)
ابتسمت أدريان بإشراق. لقد كانت فرحة للغاية. لم تكن تمثّل، بل كانت حقّا سعيدة لأنّ باسل قبل طلبها هذا.
كانت العديد من الأعين تراقبهما في هذه الأثناء.
قال أحد الأشخاص المختبئين في الظلال: (يبدو أنّ أدريان قد نجحت في إغرائه. يمكننا التخلّص منه أخيرا.)
ردّ شخص آخر بقلق: (ألا تظنّ أنّهم سيجدون جثّته فيما بعد؟ سنكون في خطر كبير لو علم شخص عن هذا.)
(لا تقلق.) أكمل الشخص الأوّل: (ألا تعلم ما هو وادي الظلام العميق؟ لا أحد يعود بعدما يسقط في ذلك الوادي.)

كان هذا الشخص هو عثمان. لقد كان بعمر الثانيّة عشر حاليا. كان لديه جسد ضخم مقارنة بباقي الفتيان بعمره.
تساءل أحد الأشخاص الذين كانوا معه: (أليس هذا مبالغ فيه قليلا؟)
(لا!) صاح عثمان ثمّ ردّ حاسما: (يجب على ذلك اللعين أن يختفي. بالتأكيد عليه أن يموت. لن تنظر الملاك أنمار إلى جهة أخرى طالما يظلّ حيّا.)
لقد كان عثمان هو زعيم الحرس الشخصيّ للملاك أنمار، وكان باسل على قمّة قائمتهم السوداء. ازداد كره عثمان لباسل أكثر بكثير عن السابق بعدما صار باسل قويّا حتّى لم يعودوا يستطيعون إعاقته حتّى. كانوا يعلمون أنّهم يحتاجون لإلهائه بطريقة ما وجعله عاجزا عن فعل شيء حتّى يتخلّصوا منه.
وهنا أتى دور أدريان.
تحرّكت أدريان بنشاط بينما تهمهم وترقص في طريقهما إلى موقع نزهتهما. لقد كانت فوق السحاب حقّا. بالطبع، لم يكن سبب فرحها هذا هو ذهابها في نزهة مع باسل، بل بالأحرى ما كان سينتج عن نجاحها في جعل باسل يذهب معها في هذه النزهة.
فكّرت أدريان: 'متشوّقة للوقت الذي يربّت فيه أخي عثمان على رأسي. لقد وعدني أنّه سيمضي وقتا أكثر معي إن نجحت في فعل هذا. يمكنني أخيرا أن أجعله يهتمّ بي لا بتلك الشقراء العاهرة.'
نظرت أدريان إلى باسل مبتسمة واستكملت تفكيرها: 'سأجعلها تفقد محبوبها أيضا، لذا سأضرب عصفورين بحجر واحد.'
كانت أدريان فتاة متعلّقة بأخيها الأكبر عثمان، لذا فعلت ما طلبه منها أن تفعل. لقد كان عليها أن تتقرّب من باسل وتجعله يثق فيها لدرجة يأكل من طبخها.
لقد كان هذا اللعين الصغير يأكل طعام عائلته فقط، لذا كان من الصعب تسميمه حتّى.

الآن، كلّ ما عليها فعله هو جعله يشرب عصير جزره المحبوب ليتسمّم ويفقد قواه كلّيّا، فيأتي عثمان ويكمل باقي العمل. عندها... عندها... سيمدحها عثمان كثيرا ويهتمّ بها أكثر.
وصلا أخيرا إلى موقع النزهة. كان في الغابة المجاورة للقرية. كان باسل معتادا على هذه الغابة، فاختارتها أدريان من أجله.
تحدّثا لوهلة ثمّ بدآ يأكلان الشطائر وسلطة الجزر أثناء ذلك، وعندما يجفّ حلقهما، يشربان من عصير الجزر.
بقيا على ذلك الحال لمدّة طويلة، فبدأت أدريان تتعرّق.
لمَ ما يزال واعيا؟ أليس من المفترض أن يفقد قواه بعد رشفتين أو ثلاث؟ لقد كان يجب أن يكون قد فقد وعيه منذ وقت طويل. لقد أخبرها أخوها عثمان أنّ هذا السمّ يفقد الشخص البالغ الوعي في غضون دقائق معدودة، لكنّ هذا الشقيّ اللعين كان يشارف على إنهاء كلّ طعامه وشرابه وما يزال بصحّة وعافيّة.
لقد كانت تخشى أنّها أخطأت في فعل شيء ما. لقد أرادت أن تكون ذات منفعة لأخيها الأكبر. لا يمكن أن تفشل هنا. يجب أن تنجح حتّى تحصل على مديح أخيها عثمان.
رفع باسل يده فجأة فاقشعرّ جسدها. هل يمكن أنّه أدرك شيئا؟ انتظر، ما الذي فعلته لتوّها أصلا؟ هل سمّمت شخصا؟
كانت أفكارها مشوّشة. لم تفكّر للحظة عندما طلب منها أخوها عثمان فعل هذا، لكنّ توتّرها الآن استحوذ عليها وبدأت تدرك خطورة ما تجرّأت على فعله.
وقفت بسرعة كبيرة وكادت تفتح شفتيها لتقول شيئا، لكنّ اليد التي رفعها باسل حتّى يمسك بها رأسه الذي كان يؤلمه توقّفت في الهواء فجأة ونزلت إلى الأسفل، فتبعها جسده كلّه.
فقد باسل الوعي.
فتحت أدريان عينيها على مصراعيهما وتنفّست بصعوبة لمدّة طويلة قبل أن تشعر بيد تربّت على كتفها. استدارت لتجد أخاها عثمان يقف مبتسما: (لقد أحسنت عملا يا أدريان. سأكافئك لاحقا.)
تنهّدت أدريان وتنفّست الصعداء أخيرا. سيكون كلّ شيء على ما يرام الآن بعدما ظهر أخوها الذي يُعتمد عليه.
لقد كانت تعلم أنّ عثمان والآخرين الذين كانوا معه كانوا يراقبونها وباسل طوال الوقت، لكنّها نسيت ذلك لوهلة بسبب توتّرها المفاجئ.
ما لم تكن تعلمه هو وجود عينين أخريين كانتا تراقبانهم كلّهم من مسافة بعيدة للغاية. كانت هاتان العينان زرقاوين وسطعتا بشدّة بينما يقترب حلول الظلام. لقد كانتا عينان لمفترس مستعدّ للانقضاض على فريسته.
انطلق المفترس بسرعة كبيرة متّجها نحو المكان الذي اتّجهت إليه مجموعة عثمان.

***
حمل اثنان من رفاق عثمان باسلَ من ذراعيه وجرّاه متّجهين نحو وادي الظلام العميق.
(هل حقّا من الآمن التوجّه نحو منطقة محظورة كتلك؟ ألن نقع في المتاعب؟)
لم يكن هذا الشخص هو الوحيد الذي كان خائفا، بل حتّى الشخصان اللذان كانا يحملان باسل كانا مرتعبين من الاقتراب من وادي الظلام العميق. وفي الواقع، كان عثمان خائفا أيضا لكنّه كان عازما على التخلّص من هذا الغرّ نهائيّا.
لقد كان ينوي أن يصير ساحرا في المستقبل ويصير زعيم قريتهم، فيتزوّج بعد ذلك بأنمار أجمل فتاة في القرية. كان ينوي أن يجعل القرية مدينة يصير هو نبيلها الحاكم. لا يجب أن يترك هذا اللعين حيّا. إن بقي باسل بالجوار، فسيكون شوكة في حلقه دائما. لن تنساه أنمار، وقد يقف في طريقه نحو زعامة القرية أيضا.
تكلّم عثمان عازما: (لا أهتمّ. المهمّ الآن هو التخلّص من هذا اللعين. لن نتراجع بعدما بلغنا هذه المرحلة. هل تعتقدون أنّه يمكننا التخلّي عن هذا بعد كلّ ما فعلناه؟)
كانت هذه أفضل فرصة. كان باسل فاقدا للوعي، وكان من المستحيل له أن يقاوم. وأصلا، كيف لهم أن يتراجعوا الآن؟ من يعلم ما الذي قد يفعله باسل في المقابل إذا حدث واستيقظ.
بالفعل كان السم الذي منحوه إيّاه كافيا لإفقاده الوعي، وقتله حتّى بعد مرور بضعة أيّام، لكن عثمان لم يكن يريد من هذا الشقيّ أن يحصل على فرصة يعي فيها بما حدث له ويحاول فعل شيء. وفوق كلّ ذلك، من يعلم إذا لم ينفع السمّ معه أصلا.
بعدما تجاوزوا الغابة وظهر الجرف أمامهم أخيرا، شعروا كلّهم بالقشعريرة. لقد كان وادي الظلام العميق منطقة محظورة، لكن المناطق المحيطة به كانت خاليّة من المخلوقات على عكس المناطق المحظورة الأخرى التي كانت تحيط بها حقول لحيوانات شرسة تنافس بعض الوحوش غير السحريّة.
كلّ هذا زاد من رعب الوادي. هدوء محيطه عنى فقط أنّه حتّى تلك الحيوانات الشرسّة تخشى الاقتراب منه.
تكلّم عثمان بهذه الأثناء: (والآن، أنتما،) أشار إلى اللذين كانا يحملان باسل ثمّ إلى الوادي: (اتّجها إلى هناك وارمياه. لا تقلقا، سنراقبكما من هنا حتّى نتأكّد أنّه لا أحد قادم ونحمي ظهريْكما.)
فتح الفتان أعينهما بشدّة وبدوَا مندهشين. ألم تكن هذه خطّة عثمان؟ ألم يكن الشخص الأكثر رغبة في التخلّص من باسل؟ لمَ عليهما أن يقوما بهذا العمل نيابة عنه؟ ألم يفعلا ما يكفي بالفعل؟
ومع ذلك، لم يتجرّآ على معارضته. لقد كان قائدا لهما وغرس فيهما سيطرته منذ الصغر. فعلا كلّ ما قال حتّى الآن، لذا فعلا ما قاله الآن أيضا.
تحرّكا تجاه الجرف الذي كانت أصوات الموت تصعد منه ولم يعلم الشخص ما إذا كانت الريّاح التي تتراقص في الوادي أو الزماجر التي تصدى بي الحين والآخر هي المسؤولة عن أصوات الموت تلك.

كانت أيدي الاثنين ترتجف، كما كانت سيقانهما ترتعدان، وبالكاد استطاعا جرّ باسل، لكنّهما توقّفا فجأة ولم يقدرا على التقدّم أكثر. شعرا أنّ باسل الذي كان يجرّانه صار أثقل عمّا كان عليه. هل ربّما هذا بسبب خوفهما؟
لا!
سرعان ما علما الإجابة. ما أن التفتا إلى الخلف ليريا ما السبب، وجدا عينيْ الفتى القرمزيّ تحدّق إليهما بشراسة كما لو كانتا عينيْن داميتين لوحش يعيش فقط ليفترس.
لقد كانت تانك عينان لشخص اختبر مواقف وضعته بين الحياة والموت مرارا وتكرارا.
أفلت الصبيّان ذراعيْ باسل فور ما رأيا العينين الحمراوين وشعرا بالقشعريرة تصعد مع جسديهما والخوف يتملّك قلبيهما.
أنّى لهما أنّ يصمدا أمام تينك العينين؟ بالفعل كانتا عينين لفتى بالعاشرة من عمره، لكن نيّة القتل التي انبعثت منهما كانت كافية لجعلهما يتراجعان عدّة خطوات للوراء.
تراجعا إلى جهة عثمان ونظرا إلى باسل. كان عثمان مندهشا للغاية. هل استيقظ بعدما تعاطى لذلك السمّ؟ كيف يمكن هذا؟ لقد كان سمّا يسقط الكبار غائبين عن الوعي لمدّة طويلة ويمكن أن يؤدّي بهم إلى الموت في الكثير من الحالات، فكيف له أن يستيقظ؟
نظر عثمان إلى أخته الصغيرة بعينين متسائلتين، فهزّت أدريان رأسها بسرعة وجمعت يديها عند صدرها وقالت بسرعة: (أ-أنا متأكّدة. لقد شرب حقّا ذلك السمّ.)
(إذن لماذا؟) صرخ عثمان: (لماذا يتحرّك الآن؟ اللعنة! كيف لك أن تتصرّف بشكل طبيعيّ أيّها الوحش الصغير.)
لم يدرك عثمان أنّه قد بدأ يرى باسل كوحش صغير بالفعل.
وقف باسل مستقيما ثمّ نظر إليهم وقال: (لم أهتمّ إطلاقا بما فعلتَ وحاشيتك لي طوال هاته السنوات. لطالما كنتم مجرّد صراصير في نظري، ولم أحمّل نفسي طاقة التخلّص منكم حتّى.)
حملق باسل إلى عثمان مباشرة: (اعتقدت أنّك تملك بعضا من الشرف على الأقلّ كزعيم الصراصير.)
تجعّدت جبهة عثمان أكثر واسودّ وجهه. لقد كان تصرّف باسل المتعالي هذا هو ما كان يكرهه أكثر من أيّ شيء. لقد كان هذا الوحش الصغير مغرورا هكذا دائما. حتّى عندما كان يزحف على الأرض كدودة قذرة كان يتجاهلهم ويعاملهم كالحشرات. لم عليه هو العثمان أن يُزدرى من طرف هذه الدودة؟

سمع عثمان باسلَ يكمل كلامه: (ظننت أنّه لو تماشيت مع تمثيليّة أختك الصغيرة، فقد ترتقي من منصبك كصرصور وتجرؤ على مواجهتي مباشرة مدّعيّا أنّني كنت أستغلّ أختك الصغيرة أو ما شابه. ومع ذلك، كنتُ مخطئا؛ الصرصور يبقى صرصورا مهما حدث. لم تجرؤ على تنفيذ الأعمال القذرة بيدك واعتمدت على أختك الصغيرة والقذارة المحيطة بك حتّى تحقّق هدفك.)

تماشى باسل مع هذه التمثيليّة فقط لأنّه كان فضوليّا بشأن ما كان عثمان يخطّط لفعله. كيف لشخص بحذاقته أن يُخدع بتمثيل **** بنفس عمره؟ كيف له ألّا يعلم عن نواياها الخفيّة التي كانت في الواقع جليّة؟
تحرّك باسل مقتربا منهم، فصرخ عثمان: (كيف يمكنك التحرّك؟ لقد شربتَ السمّ، فكيف لك أن تكون واعيا.)
رفع باسل حاجبه وردّ: (لم يكن عليك استخدام عصير الجزر.)
(ها؟) استغربت أدريان وقالت: (إنّ الجزر طعامك المفضّل. إنّه أفضل شيء لاستخدامه، لأنّك لن تشكّ في شيء.)
رفع باسل إصبعيْ يده اليمنى وقال: (اثنان لا يُبلعان لي مهما حدث، الجزر المرّ...) شدّ بعد ذلك إصبعه الوسطى وأشار بسبّابته إلى اتّجاه عثمان والآخرين وأكمل: (والحثالة مثلكم.)
شعر عثمان أنّ ظهره كان باردا.
لماذا يشعر هكذا في حضور هذا الفتى اللعين؟ هل هو خائف؟ هل يخشى غضب هذه الدودة القذرة حقّا؟ كيف له هو الذي تزعّم فتيان القرية وتسلّط على باسل كلّ هذه السنوات أن يخاف منه؟
لَكَمَ ركبتيه في نفس الوقت حتّى يوقف ارتجافهما وتغلّب بألمه على خوفه.
ضحك بتقطّع وقال: (وما الذي يجعلك تعتقد أنّه يمكنك التصرّف بهذا التعالي؟ ألا ترى أنّك لوحدك هنا؟ عددنا تسعة هنا. لم يكن بمقدورنا فعلها علانيّة، لكنّنا منفردين بك هنا. سنجعلك تعاني الأمريّن بما أنّك لم ترد الموت بهنـ...)
لم ينهِ عثمان كلامه حتّى كان باسل قد اختفى من مرأى عينيه. لقد كان ضخما مقارنة بباسل، فلم يلاحظ اللكمة التي كانت قادمة من الأسفل تجاه ذقنه.
باام
اهتزّ دماغ عثمان داخل جمجمته فشعر أنّ العالم يدور بشكل عشوائيّ ولم يعد يميّز بين الماضي والحاضر فما بالك بالاتّجاهات. جعلت تلك اللكمة أسنانه تتصدّع وانكسر أحدها جزئيّا.
سالت الدماء من فمه وأنفه بعدما سقط على الأرض. بالطبع كان هو بنفسه ما يزال يعتقد أنّه كان محلّقا. كان يشعر أنّه ما زال داخل الحلم الذي حلمه الليلة الماضيّة. ما كان مختلفا في هذا عن حلم الليلة الماضيّة هو أنّه كان الشخص الذي حلّق بعدما ضُرِب وليس باسل.
وقف باسل بين الثمانيّة الآخرين، في المكان الذي اعتاد عثمان أن يكون فيه، محاطا بأربعة من كلّ جانب، وقال: (لقد كنتم تنوون قتلي. لا أحد منكم سيغادر هذا المكان سليما. لن أرضى حتّى أحفر وأزرع الخوف في أدمغتكم الدنيئة.)
لم يكن باسل قد قتل شخصا في حياته حتّى الآن. لقد كان فتى بالعاشرة من عمره فقط لذا كان هذا طبيعيّا حتّى في هذا العالم الفوضويّ. وبالتالي، لم يفكّر في قتل هؤلاء الأطفال الجهّال لكنّه كان عازما على أخذ ثأره منهم وسحقهم تماما. أراد أن يجعلهم يتذكّرون هذه الحادثة لما تبقّوا من حياتهم ويتركونه وشأنه ويعيشون بعد ذلك كأناس أخيار.

أراد أن يريهم ما هو الشرّ حتّى يعلمون ماهيّة الخير.
ابتعد عنه الثمانيّة بشكل تلقائيّ. بالطبع، لم تكن أدريان محسوبة من التسعة الذين تكلّم عنهم عثمان فيما سبق. لقد كانت قد تراجعت بالفعل عندما لمّح عثمان لقتال باسل.
جمعت يديها عند صدرها بينما تحدّق إلى أخيها عثمان المستلقي على الأرض ثمّ إلى باسل مرارا. كان واضحا أنّها كانت تتساءل ما إذا كان ما حدث للتوّ حقيقة. ألم يكن أخوها زعيم القرية المستقبليّ؟ كيف له أن يُهزم هكذا وبهذه السرعة؟
لكن، وا حسرتاه! بالطبع راقبت أدريان باسل طوال الأسابيع الأخيرة، لكنّها لم يكن لها وسيلة لتعلم عمّا كان يفعله باسل بالقرب من المناطق المحظورة المجاورة للغابة التي كانت تروق له.
وقع نظرها على عثمان مرّة أخرى، فرأت أنّه يحاول النهوض بصعوبة بعدما استقرّت حالته قليلا. لم تقدر على الذهاب لمساعدته. لقد كانت تخشى أن يفعل باسل شيئا لها، وكانت تخشى أن تضرّ كبرياء أخيها الأكبر.
فتح عثمان عينيه الداميتين. هل حقّا يشعر بكلّ هذا الألم فقط من لكمة واحدة من *** أصغر منه بعامين؟ بالأحرى، لماذا يشعر بالألم في كلّ أنحاء جسده بالرغم من أنّها مجرّد لكمة على الذقن؟
استطاع بعد محاولات متعدّدة أن يلمح صورة باسل أخيرا. لقد كان باسل يحمل الطفلين اللذين كانا يحملانه إلى هنا من عنقيهما.
(سأدقّ رأسيكما جيّدا حتّى تتعلّما كيف تستخدمانهما المرّة القادمة عندما يطلب منكما شخص فعل أمر يعارضه حسُّكما السليم.)

طرق
طرق
طرق

طرق باسل رأسيْ الفتيَيْن ببعضهما لعدّة مرّات حتّى فقدا الوعي كلّيّا قبل أن يرميهما. كان جسداهما معطوبا في كلّ الأنحاء أيضا، حالهما حال من سبقهما.
التفت باسل إلى عثمان وقال: (كم قلتَ سابقا؟ تسعة؟ لا أرى سوى واحدا.)
لم يخرج باسل أدريان من الحساب على عكس عثمان. بالفعل كان هناك واحد متبقٍّ فقط.
لم تكن أدريان موجودة هنا بعد الآن. لقد شاهدت شيئا مروعا للغاية، ولم ترد أن تراقب أخاها يحدث له نفس الشيء. وأكثر من ذلك، لم ترد أن يحدث لها نفس الأمر. لقد كانت ملابسها مبلّلة بالفعل، لذا كفاها ذلك إهانة. لا يجب أن تصبح قبيحة بسبب ضرب باسل، وإلّا سيجب عليها أن تتحمّل كره أخيها لوجهها المشوّه في المستقبل.
بالطبع لاحظ باسل هروبها، لكنّه لم يهتم بهذا حاليا. لقد كان هدفه هو تلقين هؤلاء الصراصير درسا لا يُنسى، لذا كان واثقا أنّ تلك الشقيّة ستتعلّم الدرس بعد هذه الحادثة وتتصرّف بشكل جيّد. بالرغم من أنّه لم يهتم كيف يعيش هؤلاء في نهاية المطاف، إلّا أنّه لم يردهم أن يزعجوه أبدا في المستقبل.

وفوق كلّ ذلك، كان عثمان هو رأس الحربة، وما أن ينهي أمره فسينتهي كلّ شيء آخر.
وقف عثمان بعدما مسح الدم من زاوية فمه وبصق الدم الذي تجمّع بين أسنانه. هذه المرّة، كانت ركبتاه ترتجفان، لكنّه لم يستطِع إيقاف ذلك بإيلام نفسه. لقد كان متألّما بالفعل. لم يعلم ما إذا كان الخوف أو الألم هو سبب ارتجافه، أم كانا معا.
اقترب باسل ببطء بينما يقول: (هل شعرت بها؟ أأحسست بالصاعقة تصعد معك تطفئ دماغك تماما؟)
لم يفهم عثمان ما كان باسل يلمّح له.
أكمل باسل موضّحا: (لقد جعلتك عاجزا لوهلة ريثما أتخلّص من هؤلاء. لقد أردتك أن تكون الأخير، وذلك حتّى ترى ما كان مصير من سبقك، حتّى تعلم من كلامي الحالي أنّ مصيرك سيكون أسوء بكثير.)
كان هؤلاء ******* كمزحة لباسل الذي كان يمضي غالب أيّامه يقاتل الحيوانات الشرسة ويطارد الفرائس بدوره حتّى يؤمّن هديّة مناسبة كعشاء لعائلته.
كانت حواس وأفعال عثمان خاملتين كلّيّا مقارنة بخصومه المعتادين.
لم يستطع عثمان ملاحظة باسل يتحرّك وهو بكامل عافيته، فما بالك وهو ضعيف حاليا ولا يقدر على الرؤية بشكل طبيعيّ؟
*باام
بالطبع كان باسل يضربه من جانب، فيحاول عثمان الردّ، إلّا أنّه كان يتلقّى ضربة أخرى من جانب آخر. كانت لكمات عثمان تخطئ بينما كان باسل يستبدل لكماته بركلاته عندما يملّ.
وقف باسل أخيرا أمام عثمان الذي سقط على ركبتيه. كان عثمان خائر القوّة كلّيّا ولم يستطِع رفع رأسه الذي كان داميا تماما بعدما نزف الدم من فمه وأنفه وبقيّة أنحاء رأسه.
(فلتحرص على تذكّر ما حصل اليوم جيّدا يا صرصور.)
كان ذلك آخر شيء قاله باسل قبل أن ينزل بكعبه على رأس عثمان، والذي تجمّد في مكانه كما لو أنّ الروح خرجت من جسده قبل أن يميل جسده ببطء ويسقط عند قدميْ باسل.
تنهّد باسل بعد ذلك ومشط شعره للخلف ثمّ غادر المكان كما لو أنّ شيئا لم يكن. يمكنه أن يعيش بسلام أخيرا.
تمتم لنفسه بعدما تصاعدت معه القشعريرة فجأة: (أتمنى أن ينفع معهم طرق الرؤوس فقط.)
شعر بتلك القشعريرة عندما فكّر في عيشه بسلام منذ الآن فصاعدا. لقد كان هذا حدسه الذي غالبا ما أصاب. كان حدسه يخبره أنّهم لن يستسلموا لسبب ما.
تنهّد مرّة أخرى ثمّ غادر عائدا عكس الاتّجاه الذي أتوا منه إلى هنا بروية.
(هل كان عليها أن تختار عصير الجزر؟ لماذا لمْ تضع السمّ في الشطائر؟ إنّها تملك شخصيّة ملتويّة. عصير الجزر...)
تحسّر باسل على مضيعة عصير الجزر الذي "تظاهر" أنّه شربه، وأخرج جزرة من جيبه ثمّ قضمها.

(كما توقّعت، جزر الجدّ عليّ هو الأفضل في العالم.)
***
كانت أدريان متعرّقة كثيرا، لكن لم يكن ذلك السبب الأصليّ في تبلّل ثوبها. لم تهتمّ بالرائحة الكريهة التي تصاعدت معها طوال الوقت، وركّزت فقط على الهروب. لقد كانت تريد العودة إلى منزلها والاغتسال ثمّ النوم والاستيقاظ مرّة أخرى. أرادت أن تنسى كلّ شيء وتكمل حياتها كأنّ شيئا لم يكن.
(ألن يلاحقني؟)
كانت تنظر إلى الخلف بين الحين والآخر. كانت متأكّدة أنّ أخاها الذي "يُعتمد عليه" سيُهزم بسرعة، لذا كانت تخشى أنّ باسل سيسعى خلفها بعد ذلك.
مرّ بعض الوقت على ذلك الحال، وكادت تفقد عقلها من الخوف. لم تأخّر هكذا؟ لا يجب أن يتأخّر هكذا. هل... هل يمكن أنّه بطريقة ما انتصر أخوها على ذلك الوحش الصغير؟
توقّفت أدريان عن النظر إلى الأمام لوقت طويل وظلّت تنظر إلى الخلف بالرغم من أنّها كانت ما زال تتحرّك. كان تحركها إلى الأمام دليل على خوفها من باسل، ونظرها إلى الخلف دليل على أملها في فوز أخيها.

فجأة...
باام
تصدّع

سقطت أدريان على الأرض.
ما الذي حدث؟
كان هذا هو السؤال الوحيد الذي شغل بالها.
رأت ساقين بيضاوين لا يمكن أن تكونا ساقين لشخص يتدرّب ليل نهار مثل باسل. لقد كانتا ساقين راقيتين لشخص عاش محافظا ومعتنيا ببشرته. كانتا أيضا ساقين لشخص يقارب عمرها وليس ساقين لشخص بالغ.
رفعت أدريان رأسها فوجدت عندئذ "الحافز الحقيقيّ" الذي جعلها تفعل ما أخبرها أخوها أن تفعله.
كانت تلك العاهرة الشقراء أمامها.
بالطبع كانت أدريان ما تزال لا تعلم لمَ سقطت على الأرض.
سمعت حينها تلك الكلمات التي بدت كهمسات من الشيطان: (هل ظننتِ أنّه يمكنك المغادرة بهذه السهولة بعد ما تجرّأت على فعله؟)
فتحت أدريان فمها محاولة قول شيء، لكنّ أنمار قاطعتها: (لا تجرئي. ما فعلتِه لا يُغفر بهذه البساطة. لا تظنّي أنّه يمكنك أن تتجاوزي هذا الأمر بطلب السماح فقط. لقد تغاضى باسل عن أفعالك، لكنّني لست بتلك الرحمة. قد يكون باسل عديم الرحمة عندما يؤذي أحدهم عائلته، لكنّه يتساهل مع الآخرين عندما يتعلّق الأمر بإيذائه.)
بدأت أسنان أدريان ترتعد. لم يكن السبب الوحيد هو كلام أنمار. لقد أدركت أخيرا لمَ لا تستطيع التحرك. لقد كانت قدماها مكسورتين. ونفس نفس الوقت، رأت ما كانت أنمار تحمله في يديها خلف ظهرها. لقد كانت تلك مجرفة. علمت فورا أنّ تلك المجرفة كانت هي ما كسر قدميها حتّى صارت عاجزة عن التحرّك.
لقد كانت هناك أيضا بعض الدماء الطازجة على المجرفة والتي كان مصدرها الدماء التي كانت تنزف من قدميْ أدريان.
أكملت أنمار كلامها: (ولهذا، يجب على أحد آخر في محلّه أن يعتني به. إنّه يفعل كلّ شيء من أجل عائلته، لكنّه ينسى نفسه، لذا يجب على شخص آخر أن يحمي ظهره.)
أمالت أنمار رأسها ثمّ قالت: (أظنّ أنّه يمكنك القول أنّني أيضا عديمة الرحمة عندما يتعلّق الأمر بأذيّة أحدهم لعائلتي. ليس هناك فرق كبير بيني وباسل في الواقع، فكلانا يفعل ما بوسعه لحماية أحبابه.)
(لقد راقبته منذ نعومة أظافرنا يفعل كلّ ما بوسعه ليضمن سلامة أحبابه. لن أسمح لأحد أو أيّ شيء بالوقوف في مسعاه لتحقيق ذلك. سأدمّر أيّ شيء يحاول النيل منه.)
ابتسمت أنمار آنذاك برزانة كطفلة جيّدة. هل كانت ابتسامة أدريان الخفيّة فيما سبق سوداويّة؟
لو كانت تلك الابتسامة سوداويّة، فأدريان كانت متأكّدة؛ لقد كانت هذه ابتسامة شيطانيّة.
لم تستطِع الفتاة الصغيرة في تلك الأثناء أن ترى مخلوقا بشريّا أمامها. كلّ ما رأته كان شيئا يحمل شيئا ويحاول أن يفعل شيئا.
فزعت أدريان من ذلك "الشيء".

***
لم تكن أنمار تخدع أحدا. لطالما كانت لطيفة وحنونة حقّا. لم يكن ذلك تمثيلا قطّ. بالفعل تألّم قلبها عندما شاهدت الفراخ تسقط من الأعشاش، أو عندما تنمّر الأطفال على القطط والكللابب، أو عندما تعدّى الشبّان على العجائز.
لقد كانت تكره رؤية كلّ هذا، لكن لم تفعل شيئا بشأنه. لم يكن لها القوّة ولا الشجاعة للتدخّل. لماذا عليها أصلا التدخّل فيما لا يعنيها؟ هي لا تريد أن تجلب المتاعب لعائلتها الصغيرة.
تحمّلت آلام قلبها واستمرّت في عيش حياتها على ذلك الحال.
لكن...
لربّما بسبب تحمّلها وكبتها لتلك الرغبات التي كانت تنبع من قلبها... لربّما لأنّها أرادت مساعدة الضعفاء لكنّها اختارت ألّا تفعل... لربّما لذلك السبب، صارت أنمار تصير شخصا آخر تماما عندما تشاهد ما تريد حمايته يتعرّض للأذى.
كما لو أنّها امتلكت شخصيّتين مختلفتين، إلّا أنّ الشخصيّتين لم تتفرّقا وحافظتا على وعيهما في نفس الوقت.
تحمّلت أنمار مشاهدة باسل يتعذّب طوال الوقت، فأرادت مساعدته لكنّه لم يسمح لها لأنّه أراد أن يصير أقوى.
رأت الأطفال يتنمّرون عليه لكنّه لم يرد مساعدتها ولم تفكّر في فعل ذلك بما أنّه لم يحاول الانتقام، وفقط اقتصرت على مراقبته كعادتها بينما يحاول تحسين نفسه بلا ملل أو كلل، كلّ يوم، كلّ ليلة، سنة تلو الأخرى.
ومرّة أخرى، تكوّنت رغبة عميقة في قلبها. إن لم يكن سيسمح لها أن تحمل ذلك الثقل الذي يضعه على ظهره، فستحرص على حماية ظهره بكلّ ثمن. لن تسمح لأيّ شيء بالاقتراب من ذلك الظهر الذي عشقت رؤيته صامدا بالرغم من كلّ المصاعب التي تحاول كسره.
لو لم يستيقظ باسل قبل أن تأتي وتراه ينهي أمر أولئك الأطفال الملاعين، لكانت الشخص الذي شقّ رؤوس أولئك الأطفال بدون رحمة.
وبالطبع، عندما هربت أدريان، اعترضت أنمار طريقها. لقد عاقب باسل أولئك الأشقياء على أفعالهم، لكن هذه العاهرة الصغيرة التي حاولت قتل باسل يجب أن تُعاقب أيضا. لا يجب أن تسمح لها بالكون في هذا العالم حتّى تتأكّد تماما أنّ شيئا كهذا لن يحصل ثانيّةً. يجب أن تبيد كلّ ما يحاول كسر الظهر الذي تلاحقه.
رفعت أنمار المجرفة ثمّ نزلت بها على ذراع أدريان اليسرى.
*تصدّع
(غيااااه!!!) صرخت أدريان بجنون وتكوّرت على نفسها بينما تحضن ذراعها التي انحرفت في اتّجاه غريب.
كانت الدموع تسقط من عينيها الداميتين بغزارة وبلّلت نفسها مرّة أخرى.
ترجّت باستماتة: (آسفة، آسفة، آسفة، أرجوك سامحيني! لن أعيدها مرّة أخرى. أقسم لك أنّني سأختفي من حياتكما. لن أفعل هذا لأيّ أحد أبدا. لقد كنت مخطئة. أنا المخطئة! أرجوك، آسفة...)

صارت كلمات أدريان بعد ذلك كخزعبلات غير مفهومة من شدّة سرعتها في الكلام واختلاط أفكارها.
ومع ذلك، كان ذلك الشيء أمامها بدون أيّ ذرّة من الرحمة. كانت عينا ذلك الشيء فارغتين من الحياة، وبدا كما لو أنّه يحاول إزالة شيء من على الطريق حتّى يتسنّى له التقدّم بكلّ راحة.
لقد كانت ترى اليأس متجسّدا أمامها.
ذلك الشيء... لقد علمت ماهيّته أخيرا.
متى علمت عن ماهيّته؟
حدث ذلك عندما لاحظت تلك الابتسامة تظهر مرّة أخرى. جعلتها تلك الابتسامة تصحّح أفكارها. لم يكن الأمر أنّ هذا الشيء كان فارغا من الحياة، بل كان هذا الشيء حيويّا أكثر من أيّ وقت مضى. نعم، بدا كشيطان يطلق العنان لرغباته المكبوتة.
باام
تصدّع

كُسِرت الذراع الثانيّة.
لم يهمّ كم ترجّت أدريان. لقد كان ذلك الشيطان مستمتعا بما يفعله. كيف لها أن تقنع شيطانا بالعدول عن فعل شيء يمتّعه؟
ومع ذلك، كان الأمر مختلفا قليلا عمّا بدا عليه الأمر لأدريان. بالفعل ظهرت تلك الابتسامة الشيطانيّة على محيى أنمار، إلّا أنّ ذلك لم بسبب استمتاعها بالتعذيب بحدّ ذاته، وإنّما لأنّها كانت مرتاحة البال لأنّها ستتخلّص أخيرا من الخطر المحدّق بباسل. أخيرا يمكنها حمايته كما رغبت لوقت طويل.
صارت أنمار تبدو لأدريان كحاصد أرواح يلوّح بمنجل الموت الخاصّ به. كلّما لاحظت المجرفة ترتفع، علمت أنّ الألم سيهبط معها كالصاعقة.
ألا يمكن أن تموت فقط وتتخلّص من هذه الآلام؟
(اقتليني. فقط اقتليني، اللعنة! لمَ عليك فعل كلّ هذا؟ أنهي الأمر حالا!)
لم تعد أدريان تهتمّ بأيّ شيء آخر. هل كانت قلقة فيما سبق بشأن غدو وجهها قبيحا؟ لقد صار جسدها كلّه مليئا بالجروح الآن. هل عليها أن تعيش بقيّة حياتها هكذا؟ لا. ستفضّل الموت بكلّ تأكيد.
ردّت أنمار مباشرة هذه المرّة: (لمَ عليّ أن أستمع لطلبك؟ سأقتلك عندما أرى أن الوقت مناسب.)
كادت عينا أدريان تخرجان من مكانهما. حاولت إقامة جسدها قليلا باستخدام طاقة غضبها بينما تصرخ: (أيّتها العاهرة! لطالما علمت أنّك وحش في هيئة فتاة جميلة. كلّ تلك الطيبة... كلّ ذلك العطف والرأفة... لطالما زيّفت كلّ ذلك. إنّك مجرّد مسخ متنكّر كبشر! هل يعلم باسل عن هذ...)

باام
فلطحت المجرفة وجه أدريان التي سقطت أرضا مستلقيّة هناك كالجثّة.
قالت أنمار بصوت خالٍ من الحياة: (لا تجرئي على نطق اسمه بفمك الوسخ يا قذارة. لا أهتمّ كيف ترينني، ولا أهتمّ كيف يراني العالم. أنا فقط سأحمي ما هو غالٍ على قلبي في كلّ حال.)

(كيهي... كيهيهاهاهاها!)
بدأت أدريان تضحك كما لو أنّها جُنّت. لقد كان الضحك لوحده يجعل الألم يصعق جسدها، فما بالك بالتحرّك، إلّا الحماس جعلها قادرة على التغلّب على آلامها لوهلة.
لقد كانت متحمّسة لأنّها علمت أنّ باسل لا يعلم عن هيئة أنمار هذه. كانت فرحة لأنّها فكّرت في اليوم الذي يكتشف فيه باسل حقيقة أنمار.
اقتربت أنمار وتلك الابتسامة ما زلت على وجهها من أدريان.
(ما الذي يحدث هنا؟)
وكما لو أنّ أمنيتها الوحيدة التي ترجّت حدوثها ذات يوم تحقّقت بهذه السرعة، سمعت أدريان صوت باسل. ابتسمت بوجهها القبيح. لقد كانت هذه نفس الابتسامة التي أظهرتها في كلّ مرّة فرحت كثيرا، لكن هذه المرّة لم تكن تلك الابتسامة مشرقة لكن مظلمة.
لم تكن أدريان تتخيّل أنّها ستكون سعيدة لهذه الدرجة بظهور هذا الفتى اللعين الذي اعتقدت أنّه وحش صغير قبل قليل فقط وحاولت الهرب منه بكلّ جهدها.
(كيهيهاهاهاها! هاهاهاخوه!)
تقيّأت أديان الدماء بين ضحكاتها الهيستيريّة.
لقد رأت بصعوبة وجه باسل المصدوم. لم يكن حقّا يعلم شيئا عن ذلك المسخ المتنكّر في هيئة فتاة صغيرة.
حدّق باسل إلى هذا الوضع لوقت طويل. لقد رأى شيئا غير قابل للتصديق.
هل أنمار هي المسؤولة عن هذا؟ نعم، هي المسؤولة. لقد كانت تحمل المجرفة التي تغطّيها دماء الفتاة التي صارت كدمية مكسورة.
لكن كيف؟ لماذا؟ كيف يمكن أن يحدث هذا؟
أنمار... الفتاة اللطيفة، الحنونة. الفتاة التي لم تستطِع مشاهدة أبسط الاعتداءات... كيف لها أن تفعل شيئا كهذا؟ فقط ما الذي حصل لأنمار التي يعرفها؟
لماذا كانت تبتسم بذلك الشكل؟ لماذا كانت تبدو مستمتعة بتعذيب أدريان؟
هل كان كلّ ما عرفه عنها كذبا؟ هل كانت تمثّل طوال هذا الوقت؟ هل حقّا خدعته بتمثيلها كلّ هذه السنوات؟
لقد كان باسل مفتخرا بنفسه لأنّه رأى عبر تمثيل أدريان وخطّة عثمان بكل سهولة، لذا كان مصدوما تماما عندما رأى هذا الجانب من أنمار.
ومع ذلك، كان باسل ما يزال صبيّا حاذقا؛ لقد علم تماما ما وجب عليه فعله في هذه الأثناء.
أوّلا، عليه أن يمنع أنمار من قتل أدريان. شعر أنّه لو سمح لها بأن تقتلها، فشيء سيتغيّر بأنمار للأبد. أحسّ أنّه لن يستطيع رؤية أنمار التي عشقها طوال هاته السنوات مرّة أخرى.
لم يرد أن يخسر تلك الفتاة اللطيفة التي اهتمّت بعائلتها بطريقتها الخاصّة بقدر ما اهتمّ هو لعائلته. لقد كانت هي أفضل منه بكثير. لقد تحسّرت حتّى على مشاكل الآخرين على عكسه، ولو لم تتدخّل.

تجمّدت أنمار في مكانها لمّا شاهدت تعبير باسل. لم تهتمّ لآراء الآخرين، ولم تهتمّ كيف يراها العالم، لكنّها اهتمّت كثيرا لما يعتقده باسل بشأنها. لم ترد أن تخسره، لذا حاولت التكلّم، لكنّها قوطِعت.
(لا تقولي شيئا حاليا.)
كان باسل قد وصل إلى أدريان.
كانت أدريان متحمّسة لردّة فعل باسل، لذا ظنّت أنّه سيساعدها ويكره أنمار. على الأقلّ ستصيب أحد العصفورين اللذين أرادت إصابتهما سابقا، وذلك هو جعل أنمار تخسر باسل.
قرّب وجهه منها ثمّ قال بصوت هادئ وبارد: (اسمعيني جيّدا. لقد هاجمتك الذئاب برفقة أخيك والآخرين. لو أخبرت أيّ أحد عمّا حصل هنا اليوم، فسأحرص على جعلك تفضّلين الموت على الحياة.)
لقد كانت تانك نفس العينين اللتين رأتهما سابقا عندما حطّم هذا اللعين رؤوس أولئك الفتيان. علمت أنّه لم يكن يستهتر بكلامه هذا. سيطبّق ما قاله حقّا لو خالفت أقواله.
تذكّرت أدريان قول أنمار: 'قد يكون باسل عديم الرحمة عندما يؤذي أحدهم عائلته، لكنّه يتساهل مع الآخرين عندما يتعلّق الأمر بإيذائه.'
علمت أنّها إذا أخبرت القرية عمّا فعلته أنمار، فستضرّر أنمار، وهذا يدخل في مجال أذيّة عائلة باسل. لم ترد أن تختبر عدم رحمة هذا الفتى.
اللعنة! ما الذي كانت تنتظره من هذا الوحش الصغير على أيّ حال؟ لقد كان هذا اللعين هو الشخص الذي أحبّته تلك العاهرة. بالطبع سيكون مسخا مثلها.
أخرج باسل بعض الأعشاب وأوقف نزيف أدريان ثمّ تركها تستلقي هناك. سيجدها عثمان والآخرين عند عودتهم كما وجدهما هو هنا. لقد كانت هذه هي الطريق المعتادة التي يستخدمها الصيادين.
تحرّك وتجاوز أنمار، ولم يقل شيئا. أرادت أنمار أن تفسّر موقفها، لكنّها تذكّرت أنّ باسل أخبرها ألّا تقول شيئا. علمت انّه لم يرد التحدّث عن هذا هنا.
للأسف، لم يكن باسل ينوي التحدّث عن هذا إطلاقا، وليس هنا فقط.

منذ هذا اليوم، صار باسل يتجنّب أنمار كلّيّا.
وكما أخبره حدسه، لم يستسلم أولئك الأطفال عن محاولة إغاظته.
تنهّد وقال: (من كان يعلم أنّ طرق رؤوسهم كثيرا سيجعلهم ينسون ما حدث كلّيّا؟ لقد فشلت. كان يجب عليّ أن أطرق رؤوسهم بقّوة أقلّ.)
بالمناسبة، لطالما اعتقد باسل أنّ طرق الرؤوس يعالج الغباء، وأنّه الطريقة الفضلى للتخلّص من المزعجين.
مشط شعره إلى الخلف ثمّ أضاف: (على الأقل، تذكّرت أدريان ما قلتُه.)
بعد تلك الحادثة، اختفت أدريان من حياة أنمار وباسل تماما. كانت مجرّد شبح يعيش في قريتهما.

***
كان يحيط الإمبراطوران والجنرالات والعائلات الإمبراطوريّة يحيطون باسل حاليّا. حتّى كارماين ابن سكارليت كان هنا.
لقد كانوا كلّهم يرتدون الأبيض.
لقد كان الأبيض هو لون باسل المفضّل لارتداء الملابس، لكنّه كرهه كثيرا اليوم. لطالما ارتدى الأبيض كثيرا حتّى يلاحظ الأوساخ بسهولة ويظلّ نقيّا كما أردته أمّه أن يكون، لكنّه صار يرى هذا الأبيض كعلامة شؤم. سيذكّره هذا الأبيض بفقدان أمّه وعائلته والآخرين لما تبقّى من حياته.
كانت ذكريات الماضي ما تزال تجوب عقله. حدّق بعينين فارغتين من الحياة إلى القبور التي كانت المسكن الجديد لأجساد الأشخاص الذين كانوا أحياء قبل أيّام فقط. لقد بدا الأمر كـكذبة.
كانت عائلة باسل هي العالم بالنسبة له، فغيّر العالم بنفسه من أجل حمايتها، إلّا أنّه فقدها، فتحطّم عالمه كلّيّا.
كان هناك شخص واحد ما زال يترجّى باسل أن يكون حيّا بطريقة ما بالرغم من أنّ احتماليّة موته أكبر بكثير من عيشه. كان يأمل بكلّ ذرّة من كينونته أن تكون أنمار ما زالت حيّة. كان ذلك الأمل المضمحلّ هو ما يجعله متشبّثا بالحياة.
***
(...يبدو أنّني سأحتاج لأعلّمك كيف تعامل النساء أيضا بدءا من اليوم.)
أمسك باسل رأسه الذي طرقه معلّمه، ثمّ نظر إلى أنمار وهي تكتسب عطف معلّمه.
لقد كان في هذا الوقت يعتقد أنّها كانت تخدعه طوال الوقت، لذا لم يرد منها أن تخدع معلّمه أيضا.
ومع ذلك، استسلم عن ذلك بعدما قرّر إدريس الحكيم اتّخاذ أنمار تلميذة له.
جلس باسل ومعلّمه في أحد الأيّام، فسأل المعلّمُ مباشرة: (لماذا تتجنّب الصغيرة أنمار؟)
عبس باسل بعدما سمع ذلك السؤال وردّ بصوت مرتفع: (تلك... هي... لقد كانت تتصرّف بـ'طريقة' طوال الوقت، لكنّها كانت في الواقع شيئا آخر. لقد خدعتني طوال هذا الوقت.)
حدّق إدريس الحكيم إلى باسل لوقت طويل ثمّ سأل مرّة أخرى: (هل تخشاها؟)
شعر باسل أنّ معلّمه قد سأل وهو يعلم ما يجول في خاطره. لطالما ظنّ أنّ معلّمه له قدرة غريبة في الرؤية عبر الآخرين واكتشاف نواياهم بسهولة. لقد كان صبيّا حاذقا وكان واثقا في التحكّم في مشاعره وتعبيراته، لذا علم أنّه لم يكن سهل القراءة وإنّما معلّمه من كان خبيرا.
لم يحاول المراوغة في الإجابة. لقد كان باسل صريحا مع معلّمه كعادته: (لا أخشاها بحدّ ذاتها. أخشى أن أفقدها. أخشى أن أفقد أنمار التي لطالما عرفتها.)
ابتسم إدريس الحكيم بعدما سمع صراحة باسل وقال: (لا تقلق إذن. أنمار التي لطالما عرفتها، وأنمار التي اكتشفتها لاحقا... كلاهما أنمار. ما عليك سوى أن تتقبّل هذه الحقيقة.)

لم يقل باسل شيئا. لم يفهم ما قاله المعلّم في تلك الأثناء، لكنّه استوعب مع مرور الوقت أنّ أنمار لا تحاول إخفاء ذلك الجانب منها، وأنّ أنمار التي عشقها ما تزال موجودة. هي لم تختفِ بعدما ظهرت أنمار الأخرى.
أدرك هذا الشيء جيّدا عندما كانا في أحد الأيّام يتدرّبان في منطقة محظورة. كان إدريس الحكيم قد منحهما كعادته مهمّة إرضاخ منطقة محظورة.
التقى باسل وأنمار ببعض السحرة، فتعاونا معهم بناء على طلب السحرة. أراد السحرة أن يكتسبوا لقمة عيشهم، وأراد باسل وأنمار أن يتعرّفا على سحرة آخرين غير معلّمهم. أرادا أن يريا الفرق بينهما وباقي سحرة العالم.
كان هناك ساحر بالمستوى الرابع، وثلاثة سحرة بالمستوى الثالث وأربعة سحرة بالمستوى الثاني.
كان إدريس الحكيم يراقب ما يحدث، فلاحظ بعض الأشياء لكنّه لم يتدخّل. كلّ ما فعله هو التعليق: (سيكون هذا درسا جيّدا لهما. لنرَ كيف سيتعاملان مع هذا الموقف.)
تكلّم أحد السحرة بالمستوى الثالث: (إنّكما ماهران حقّا. لم أتوقّع أنّ هناك عبقريّيْن مثلكما في هذا العالم. من كان ليتوقّع أنّ فتى وفتاة في هذا السنّ الصغير سيكونان ساحرين بالمستوى الثاني.)
ضحك باسل وحكّ رأسه بخجل. لقد كانت هذه أوّل مرّة يلتقي فيها سحرة آخرين، لكنّه لم يرخِ دفاعه أيضا بسبب حماسه. لم يكن في المستوى الثاني، لا هو ولا أنمار. لقد زيّفا ذلك فقط حتّى يتسنّى لهما الاندماج مع السحرة بسهولة.

مرّ يوم فقط، فبلع السحرة أرياقهم من شدّة الحماس. لقد جمعوا العديد من أحجار الأصل. لقد أرضخوا منطقة محظورة كلّها. لم يتوقّعوا أن يحصدوا كلّ هذه الكنوز أيضا التي وجدوها في الكهوف. لقد كانت هناك أسلحة سحريّة بالمستوى الرابع حتّى؛ لا بدّ وأنّ بعض السحرة بالمستوى الرابع ماتوا هنا.
لو فكّروا بشكل منطقيّ، لعلموا أنّهم لم يكونوا ليهزموا منطقة محظورة أنهت أمر سحرة بالمستوى الرابع، لكنّ جشعهم تغلّب على منطقهم. كانوا ليلاحظوا أنّ باسل وأنمار كانا قويّين بشكل غير طبيعيّ.
لم يتغلّب جشعهم على منطقهم فحسب، بل جعلهم ينسون كرامتهم وإنسانيّتهم حتّى.
في تلك الليلة، أحاط السحرة أنمار وباسل من جميع الجهات. لقد أرادوا جميع الجوائز لأنفسهم ولم يريدوا اقتسامها مع هذين الطفلين.
كانت ردّة فعل باسل بسيطة: (حسنا. خذوا ما شئتم. نحن لا نتهمّ بأيّ شيء آخر. فقط لا ترونا أوجهكم مرة أخرى.)
وبالطبع، جشع السحرة فاق هذا بكثير: (من قال أنّنا نريد الحصيد فقط؟)
نظر هذا الشخص الذي كان ساحرا بالمستوى الرابع إلى جهة أنمار وقال: (لم يسبق لي أن رأيت فتاة بجمالها بالرغم من تجوالي كِلَا إمبراطوريّتيْ القارّة العظيمة. سنستمتع بها جيّدا قبل أن نبيعها كجاريّة لأحد النبلاء. أمّا أنت... للأسف لا أملك هواية اللعب مع الفتيان. أنت ستكون عبدا بكلفة عاليّة للغاية.)

كان هؤلاء السحرة في الواقع مرتزقة. لم يكن من السهل رؤية سحرة بالمستوى الرابع هنا وهناك بكل سهولة. لقد كانت هذه الفرقة جيّدة بالنسبة لمرتزقة في الواقع.
عبس باسل لكنّه كان محافظا على هدوئه حتّى في هذا الموقف. لطالما أخبره معلّمه أن يظلّ رزينا في كلّ المواقف. لطالما أخبره أنّ سلامة العقل تعني سلامة المسار الروحيّ.
لكن...
شخص آخر كان مختلفا.
ظهرت أنمار الأخرى التي رآها باسل في ذلك اليوم.
اندفعت بتهوّر تجاه الشخص سمعته يقول أنّه سيستعبد باسل.
هذه المرّة، لم تكن تحمل مجرفة، بل سيفا سحريّا، لا، بل سيفا أثريّا.
زباام
لم يملك ذلك الشخص بالمستوى الرابع الفرصة للدفاع عن نفسه حتّى وجد نفسه مقطوعا لنصفين من الخلف. لقد ظنّ أن السيف قادم من الأمام، لكنّ ذلك كان مجرّد وهم.
شاهد باسل هذا الأمر وبدأ يستوعب ما يحدث مع أنمار.
وبالطبع، لم يكن لديه وقت ليفكّر في هذا بروية. لقد لاحظ أنّ أولئك الملاعين ينقضون على أنمار، وكانت في خطر محدّق.
في الواقع، لم تكن في خطر على الإطلاق. حتّى لو كان قد بقي ثلاثة سحرة بالمستوى الثالث وأربع سحرة بالمستوى الثاني، كانت أنمار قادرة على الفرار من هجماتهم الموحّدة على الأقلّ.
لكن...
لم يفكّر باسل في هذا في هاته اللحظات. وفقط عندما قطع بسيفه لحم وعظم السحرة، أدرك لمَ تصرّفت أنمار بذلك الشكل بدون أن تشعر.
لطالما كانت أنمار تراقبه وتحمي ظهره، لكنّه حصر صورتها في ذهنه على أنّها مجرّد فتاة لطيفة لا غير. الآن فهم أنّ أنمار مثله. فهم أنّها ستفعل أيّ شيء من أجل حماية أحبابها، وأنّها ستتحوّل لشيطان عديم الرحمة من أجلهم.
هي لم تكن تمثّل أو تخدع الناس عندما تصرّفت بلطف وعطف. لقد كانت تلك أنمار، ولكن حتّى أنمار عديمة الرحمة كانت أنمار. الآن فهم باسل تماما ما قصده معلّمه. نعم، كلاهما أنمار.
لم يمر وقت طويل قبل أن يظهر إدريس الحكيم. أوّل ما قاله معلّمهما كان: (ما هو شعوركما؟)
علم الاثنان ما كان يقصده. لقد كان يتحدّث عن القتل. لقد كانت هذه أوّل مرّة يقتلان فيها بشرا.
أجاب باسل بشكل طبيعيّ: (لا شيء. لقد شعرت مثل ما أشعر به عند قطع الوحوش.)
ارتفع حاجب إدريس الحكيم وسأل: (لمَ ذلك؟)
حدّق باسل إلى عينيْ معلّمه وقال بصرامة: (لقد ميّزهم عقلي كوحوش من تلقاء نفسه ما أن حاولوا مهاجمة أنمار.)
نظرت أنمار إلى جهة باسل بوجنتين محمرّتين، فابتسم إدريس الحكيم عند ملاحظة هذا. لم يحتج أن يسمع إجابة أنمار بعدما رأى تعبيرها ذاك. لقد كانت فقط مرتاحة البال لأنّ باسل لم يصبه شيء، وسعيدة للغاية لأنّها سمعته يقول ما قاله عنها.
***
انتهت أخيرا الجنازة التي أقيمت في مدينة العصر الجديد، وبالضبط في بيت عائلة باسل المتواضع. كان باسل يجلس وحيدا على التلّ القريب من المدينة التي كانت تُرمّم من جديد. هذا التلّ الذي ارتاح فيه باسل بعد 'ولادته الجديدة' سابقا... صار هذا التلّ مقبرة.
حدّق إلى السماء التي ذكّرته بالعينين الزرقاوين اللتين عشق النظر إلى الحنان يتجسّد فيهما.
(اهتم بـ'أنمار' جيّدا؛ فالإنسان لا يعلم قيمة الشيء الحقيقيّة إلّا بعد فقدانه.)
تذكّر باسل كلام أمّه في هاته اللحظات التي شعر فيها أنّه وحيد في هذا العالم. لقد فعل ما بوسعه حقّا حتّى يقدّر ما يعزّه، لكن كما قالت أمّه، لا يعلم الشخص قيمة الشيء الحقيقيّة حتّى يفقده.

لقد كان يعلم أنّه سيفقد عقله بعد فقدان عائلته، لكنّ الحكمة السياديّة لم تسمح له بذلك.
ومع ذلك، كان عالمه محطّما تماما.
علم أنّ الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يجمع شتاته هو ذلك الأمل المضمحلّ.
تذكّر أيضا كيف ثابر الصناديد عبر العصور وتحلّوا بصبر شديد حتّى يمرّروا عصارة أملهم إليه.
تذكّر كيف اختبر الرمح الطاغيّة الوحدة القاسيّة لعصور أبديّة.
تذكّر أيضا كيف أخبره معلّمه أن يحرص على مرافقة أنمار بالمسار الروحيّ.
ولهذا قرّر...
عليه أن يبحث عنها.
-وعنه-
عليه أن يجدها.
-ويجده-
عليه أن يصلح عالمه المكسّر.
-ويكسر عالم إبلاس-
عليه أن يسويّ كلّ شيء.
ولفعل هذا، عليه أن يغادر العالم الواهن.

***
مغادرة العالم الواهن. لقد علم باسل عن صعوبة فعل شيء كهذا في هذه الأوقات. لقد كانت العوالم مختومة، ولولا التحوّل الروحيّ الذي جعل الختم غير ثابت مؤقّتا، لما استطاع أيّ شخص المجيء إلى هنا.
إذن، كيف له أن ينجح هو في فعل هذا؟ كيف له أن يفعل شيئا عجز حتّى الآن ملك الشياطين بأعوانه؟
بالفعل كان للرمح الطاغيّة قدرة التلاعب بالفضاء، لكنّ ذلك غير كافٍ، فباسل قد أخبر الرمح الطاغيّة عندما كانا في العالم الثانويّ أنّه حتّى قدرة الرمح غير كافيّة لأنّ الختم الذي وضعه "السابع" قويّ للغاية.
وقف باسل ثمّ استدار. كان أمامه الآن خمسة قبور. كان في هذه القبور أمّه والعمّة سميرة والجدّة ليندا وأخوا القطع.
لم يُدفن الكبير أكاغي والجنرال منصف هنا لأنّه وجب أن يُدفنوا في المقبرة الإمبراطوريّة بالعاصمة.
حدّق باسل إلى القبور التي كانت بسيطة. كلّ ما ميّزها كان وجودها لوحدها على هذا التلّ.
طال نظر باسل إلى القبور حتّى تغرغرت عيناه بالدموع التي انهمرت بسرعة كبيرة وبدون توقّف. قد تكون الحكمة السياديّة تتحكّم في منطقه وحسّه السليم، لكنّها لم تأخذ منه إنسانيّته. طالما لا يفوق الأمر "الحدود"، فآثار التحكم الحكيم السليم تبقى غير مفعّلة.
ومع ذلك، كان باسل يكاد يفقد نفسه في كلّ مرّة تساقطت دموعه التي لم يستطع التحكّم فيها بدون الحكمة السياديّة. كان يبكي لوقت طويل للغاية حتّى يبدأ يفقد حسّه السليم، فتجّف عيناه مباشرة بعدما تتدخّل الحكمة السياديّة. كل ما كان يبقى هو عيناه اللتان تكونان قد ازدادتا حمرة عن لونهما الطبيعيّ.
سقط على الأرض عندما جعلته الحكمة السياديّة يهدأ، ونظر إلى الأرض لوقت طويل للغاية.
"لماذا؟ لمَ يجب أن يحدث لي كلّ هذا؟ كلّ ما أردته هو أن تعيش عائلتي بسلام. لم أحاول تمديد طول عمرهم أو عارضت القوانين الطبيعيّة. ما الذي يجب عليّ فعله يا أنمار؟"
كان يكرّر كلامه هذا دائما وبدون توقّف. كانت تلك أسئلة بلا إجابة، لذا لم يتوقّف إلّا عندما أجابه الواقع القاسي مرارا بحقيقة ما حدث. عليه الآن أن يتعايش مع كلّ ما حدث. ليس هناك ما يمكن فعله. ما فات قد مات.
تحسّر هناك لوقت طويل جدّا حتّى أغربت الشمس. لم يشعر بمرور الوقت قطّ. أحسّ أن شعوره بالزمن صار منعدما. هل ربّما يعود السبب لكونه وحيد؟ كيف ذلك ولطالما فضّل الوحدة؟
عرف باسل المعنى الحقيقيّ للوحدة في هذه الأثناء. كان هناك مكان لم يستطع أن يملأه سوى أشخاص محدّ***. كانت هناك ثغرة في قلبه شعر أنّها ستبتلع روحه في أيّ لحظة لولا الحكمة السياديّة.
لم يمكن ملء هذه الثغرة أبدا، بل تغطيّتها فقط. علم باسل بدون إدراك أنّه عليه أن يجد ذلك الغطاء.

***
في أحد المنازل في العاصمة...
انحنى رأس باسل قليلا وقال: "آسف. تقع المسؤوليّة عليّ. كلّ ما يمكنني فعله لكنّ هو ضمان حياة آمنة لكنّ كما أرادوها لكم، ومحاولة استرجاعهم، هم الذين فقدتنهم."
كان باسل يتحدّث إلى ثلاث نساء. كانت هؤلاء النساء زوجات فانسي وشينشي وبرودي، قادة التشكيل الثلاثة.
كانت أوجه النساء الثلاث شاحبة. لقد كنّ على علم بما حلّ بالعالم، وبالأكاديميّة. علمن كيف خُطِف أزواجهنّ.
نظرن إلى باسل بأعين حزينة لكن عطوفة في نفس الوقت.
قالت زوجة فانسي: "إنّك أكثر شخص يتعذّب فينا هنا، فلا تعتذر من فضلك. نحن نعلم عنك وعن مجهوداتك. لطالما أخبرنا أزواجنا عن المسؤوليّة التي تتحمّلها بالرغم من سنّك الصغير."
أضافت زوجة شينشي: "انظر، لقد أتيت لتعتذر، لكنّك أتيت أيضا لتخبرنا أنّك ستفعل ما بوسعك لإرجاعهم لنا."
ابتسمت زوجة برودي بصعوبة. كان واضحا أنّها تجبر نفسها، لكن تلك الابتسامة كانت كافية لجعل قلب باسل يرتاح قليل: "لولا جهودك، لما اقتصر الأمر على ما حدث. كنّا لنشهد دمارا شاملا أسوء بكثير من الذي حدث قبل سبع عشرة سنة. لقد كنتَ وما زلت حامي هذا العالم. لا يهمّ ما يعتقده الآخرين، أنت بطل العالم الواهن. سأحرص على قول هذا طالما حييت."
كانت زوجة برودي تقصد الإشاعات التي كانت تدور في بعض الأماكن عن خوف بطل البحر القرمزيّ وعدم ظهوره بالرغم من موت عائلته وأتباعه.
لم يكن هناك مفرّ من انتشار إشاعات كهذه. لقد كان باسل أصلا مشهورا، وكان هناك الكثير من الأشخاص الذين لم يعجبهم الأمر، وخصوصا عندما يفكّرون في أنّ فتى صغير يمكنه أمرهم كما يبتغي. كان هناك أيضا من عارض منهجه، وهناك من حسده فقط. واحد من تلك الأسباب فقط كان كافيّا لنشر إشاعات عديدة عند ظهور فرصة كهذه.
حدّق باسل إلى الثلاث. بالفعل لم يهتمّ بما قاله الآخرين، لكن...
"لقد خذلتُ الجميع."
النتيجة كانت جليّة. كانت النتيجة هي الأكثر أهمّيّة. فماذا لو فعل هذا وذاك؟ كلّ ذلك يُعدّ بلا معنى إذا فشل في النهاية.

تدخّلت زوجة شينشي: "لم تخذل أحدا يا سيّدي. على العكس، نحن نعلم، أنّ عالمنا كان ليكون في حالة يُرثى لها بهذه الأثناء لولاك. لربّما تعتقد أنّك خذلت الجميع، لكنّك أنقذت المليارات من الأرواح في الواقع."
كانت الإمبراطوريّات الثلاث منقسمة لممالك عديدة فيما سبق، ولكن بعدما أصبحت الممالك ثلاث إمبراطوريّات وعمّ السلم نوعا ما لسنوات عديدة، ازداد التعداد السكانيّ للعالم الواهن كثيرا. كان هناك حاليا المليارات من الناس يعيشون بالعالم الواهن.

فكّر باسل فيما قالته زوجة شينشي. لم تكن مخطئة. بالفعل أنقذ باسل العالم الواهن إن نظر الشخص إلى الأمر نظرة أوسع، لكنّ عالم باسل كان أمّه وعائلته.
وجد باسل الأمر ساخرا عندما فكّر في الأمر بروية. عندما كان صغيرا، كان يرى العالم بشكل واسع للغاية ولم يرد أن يحصر نظره في قرية صغيرة، لكنّه الآن كان يفعل عكس ذلك تماما، لكنّه لم يعتقد أنّ ذلك خاطئ. لطالما وسّع آفاقه لأنّه أراد حماية عائلته. لقد كان كلّ شيء يتمحور حول عائلته منذ البداية.
ماذا عليه أن يفعل إذا بعدما فقد عائلته؟
مرّة أخرى، عليه أن يتعلّم كيف يتعايش مع هذا الأمر.
فهو لن يسمح لنفسه بالموت وهو يأمل أنّ أنمار ما تزال حيّة، ولن يفقد عقله لأنّ الحكمة السياديّة تجعل مساره الروحيّ سليما قدر المستطاع.
عليه أن يتقبّل ما حدث.
نظر باسل إلى النساء الثلاث ثمّ قال بعدما حسم أمره: "شكرا لكنّ. أعدكنّ، سأفعل ما بوسعي لأعيد أزواجكنّ إليكنّ."
فكّر باسل لوقت طويل في شيء آخر بينما ينظر إلى الأسفل.
ماذا لو تطلّب منه الأمر عقودا، أو ربّما حتّى قرونا قبل أن يجد أنمار والآخرين؟ كيف له أن يسمح لنفسه أن يجعل هؤلاء الثلاث ينتظرن كلّ تلك المدّة؟
رفع باسل رأسه ثمّ حاول قول شيء ما، لكنّ زوجة فانسي سبقته: "سننتظر مهما طال الأمر. لا يهمّ إن كان ذلك عقودا أو مدى حياتنا. سننتظر."
لم تعلم النساء ما كان باسل يفكّر فيه، لكن صادف الأمر أنّهنّ كنّ عازمات أيضا على الانتظار.
لم يستطع باسل أن يخبرهنّ أّلّا ينتظرن. لقد كان ذلك خيارهنّ، ولا يمكنه أن يأخذه منهنّ أو يجبرهنّ على فعل شيء آخر. لقد تمنّى فقط أن يعشن بسعادة.
أومأ باسل رأسه ثمّ استدار ليغادر. قال بعدما وضع يده على مقبض الباب: "شكرا لكنّ."
كانت الزوجات حانيات رؤوسهنّ خلف ظهر باسل ولم تقلن شيئا آخر. ومع ذلك، علم باسل أنّهنّ كنّ في الواقع يحاولن بكلّ جهدهنّ إخفاء وجوههنّ التي كادت تبلغ حدّها وتنفجر باكيّةً.
علم أنّهن فعلن هذا من أجله حتّى لا يشعر بالذنب أكثر، ولهذا شكرهنّ قبل أن يخرج.
كان عليه الآن أن يتوجّه للقصر حتّى يلتقي بالأميرة سكارليت التي كانت على وشك أن تصبح إمبراطورة إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة.
كان ما يزال هناك أشخاص ليتعذر إليهم. أراد أن يفعل هذا بشكل صائب، بينما كان يلوم نفسه على فعل الأشياء الأخرى بشكل خاطئ.
***
جلس باسل برفقة امرأتان وفتى صغير حول طاولة.
وقف الفتى الصغير أمام باسل. لقد كان هذا هو الفتى الذي جعل من نفسه منافسا لباسل في الحبّ. لقد كان لتوّه فتى صغيرا لا يعرف شيئا وتمنّى أن يكون زوجا لشخص علم لاحقا أنّه لا يمكنه الزواج به. الفتى الذي أحبّ أنمار كـ"أخت كبرى"، وكان ابنا للجنرال منصف، وحفيدا للكبير أكاغي.

اليوم، وقف هذا الفتى شاخصا أمام باسل قبل أن يتحدّث أيّ شخص آخر. حدّق لوقت طويل إلى باسل الذي بادله النظرات بصمت منتظرا لحظة زوال السكون.
تكلّم الفتى الصغير ذو السبع سنوات بصوت واضح: "متى ستذهب لتبحث عن أختي الكبرى أنمار؟"
لقد كانت أنمار ابنة خاله، لكنّه لطالما أحبّها وعاملها كأخت كبرى. علم أيضا أنّ أنمار كانت تنظر إلى باسل فقط.
نظر باسل بتعجّب إلى الفتى الذي ركله في لقائهما الأوّل فقط لأنّ أنمار قالت أنها ستتزوّجه هو وليس كارماين. لماذا يسأل فتى كهذا عن شيء كهذا؟ أليس من المفترض أن يكون حزينا للغاية ويبدأ في التساؤل عن مكان أبيه وجدّه؟ أليس من المفترض أن يكون يبكي بدون توقّف؟
حدّق باسل إلى عيني الفتى اللتين كانتا حمراوين. لقد كان واضحا أن الفتى كان يبكي بدون توقّف لأيّام. كيف له أن يقول شيئا كهذا الآن؟
حتّى لو كان فتى صغيرا، فلا بدّ وأنّه يعلم على الأقلّ عن غياب باسل. ألي من المفترض أن يكون الأطفال جهالا في هذه الظروف ويلومون شخصا كباسل في هذه الحالة؟
التفت باسل ثمّ نظر إلى سكارليت وابتهال، لكنّهما نظرتا إلى كارماين كما لو أنّهما تخبرانه أن يجيبه. لقد أتى إلى هنا عازما على الاعتذار بشكل رسميّ، لكنّه وجد نفسه في هذا الموقف.
نظر باسل إلى الثلاثة بتناوب. هل يمكن أنّهم يعلمون عمّا ينوي فعله؟ ألهذا سأل كارماين مثل ذلك السؤال؟

أحكم قبضتيه تحت الطاولة ثمّ نظر إلى كارماين وأجاب: "سأنهي بعض الأعمال هنا وأذهب لأبحث عنها."
"طبعا ستفعل. لو أخبرتني أنّك غير قادر أو أنّك لا تعتقد أنّها ما زالت حيّة أصلا، كنت عندئذ لأدقّ رأسك ليل نهار حتّى تستفيق من أحلامك."
ردّ كارماين بوجه حازم. يبدو أنّ هناك شخص آخر يعتقد أنّ دقّ الرؤوس يحلّ المشاكل.
تكلّمت سكارليت لأوّل مرّة: "نحن عائلة."
التفت باسل بسرعة بعدما تفوّهت بذلك، ثمّ حدّق إليها بينما تكمل كلامها: "أفراد العائلة يحزنون مع بعضهم بعضا عند فقدان القريب. لا يجب الاعتذار لأنّك كنت بعيدا وتبذل جهدك حتّى تصير أقوى من أجل هذا العالم، من أجل عائلتك. أتمنّى أن تكون فكرتي وصلت."
كان الجوّ المحيط بسكارليت مختلفا تماما عن الذي كانت تبعثه في العادة. لطالما كانت أميرة نشيطة وأمّا عطوفة وزوجة مخلصة، لكنّها اليوم كانت شيئا آخر. لقد كانت رزينة بعينين شاخصتين. اليوم، كانت إمبراطورة.
لاحظ باسل الفرق الذي تشكّله المسؤوليّة عندما توضع على كهل أحدهم. كان يمكن للشخص أن يتغيّر كلّيّا عندما يعلم أنّ هناك أرواح عديدة تحت رعايته. وبالطبع، كان يعرف ذلك حقّ المعرفة كشخص اختبر مسؤوليّة أكبر من تلك بكثير.

وقف باسل ثمّ انحنى قليلا وقال مغمض العينين: "شكرا لكم."
لقد كان يعلم عن الحزن والألم اللذين يشعرون به، فهو مثلهم، إلّا أنّهم قمعوا تلك المشاعر وتحمّلوا آلامهم حتّى يساندوه ويفتحوا أمامه الطريق الذي يريد أن يسلكه.
"حظّا موفّقا أيّتها الأميرة."
قال باسل ذلك ثمّ استدار محاولا المغادرة. لقد أتى إلى هنا من أجل وضع خاتمة، وليس للاحتفال بتتويج سكارليت.
حدّقت سكارليت إلى ظهر باسل ثمّ تذكّرت ذلك اليوم الذي التقته فيه.
***
(أنت لا تحتاجين لشكري أيتها الأميرة، كل ما فعلته كان من أجل نجاح خطتنا وصادف فقط أن كان الأمير الأول هو العقبة الأولى التي يجب علينا تجاوزها.)
(حتى ولو كان كذلك الأمر فهذا لا يغير حقيقة جلبك لشرفنا الذي سلب منا لمدة... لماذا ناديتني بالأميرة؟)
(ما الخطأ في مناداة أميرة بالأميرة، هل هذا غريب؟)
(لا، لكني لم أعد أميرة بعد الآن.)
(لكنّكِ سوف تعودين لكونك أميرة، لذا قررت مناداتك بذلك منذ الآن لأعتاد على الأمر، فالاسم الذي أنادي به أي شخص بالمرة الأولى غالبا ما سيكون هو ما أناديه به دائما.)
(فوفوفو، إنك حقا ممتع يا حليفنا.)
***
أومأت سكارليت رأسها بشكل خفيف للغاية وغير ملحوظ كما لو أنّها تخبر نفسها بأنّه فعلا ينادي الشخص بما يناديه لأوّل مرّة للأبد. حتّى في هذا اليوم الذي كانت مشرفة فيه على أن تغدو إمبراطورة، استمرّ باسل في مناداتها بالأميرة.
وقفت ثمّ انحنت أكثر ممّا فعل باسل سابقا وقالت بصوت واضح: "أثق أنّك ستجلب شرفنا من جديد كما سلف وفعلت."
لم يستدر باسل وأكمل طريقه فقط نحو خارج الغرفة. لقد كان عازما بالفعل. ومع ذلك، كان هناك مكان واحد فقط ما يزال عليه زيارته.
***
"سأغادر."
كانت تلك الكلمة الوحيدة التي قالها باسل لهذا الشخص أمامه.
حدّق الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ أمامه ثمّ نظر إلى الأسفل مرّة أخرى.
كانا يجلسان شبه متقابلين في القاعة الرئيسيّة للأكاديميّة. أخذ باسل أحد مقاعد القادة الثلاث وحدّق إلى الجنرال رعد الذي كان يائسا تماما.
قال الجنرال رعد بعد صمت طويل: "مـ-ما الذي تقصده؟ إلى أيـ-أين أنت ذاهب؟"
كان صوت الجنرال رعد مرتجفا. لقد كان على هذا الحال منذ ذلك اليوم المشؤوم.
لم يزح باسل نظره عن الجنرال رعد قطّ. ردّ بهدوء: "لا أعلم. أنا فقط سأبحث عن مخرج من هذا العالم."

فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما: "هل تقول أنّك ستغادر عالمنا؟!"
"أجل."
رفع الجنرال رعد صوته: "لـ-لكن كيف؟ ألم تقل أنّ العوالم مختومة؟ أليس لهذا السبب لم تتوقّع ظهور أولئـ..."
لم يكمل الجنرال رعد جملته حتّى. لم يرد أن يتذكّر ذلك اليوم.
"لا أعلم. أنا فقط سأغادر مهما كلّفني الأمر. سأجد طريقة ما."
لاحظ الجنرال رعد وجه باسل العازم. لقد كان حقّا ينوي مغادرة هذا العالم.
لم يعط باسل الجنرال رعد وقتا للتفكير: "ولهذا، يجب أن تجمع شتات نفسك قبل أن أغادر."
"ها؟" استغرب الجنرال رعد من كلام باسل. يجمع شتات نفسه؟ ما الفائدة من ذلك؟ إنّه مجرّد زينة موضوعة في هذه الأكاديميّة أصلا، وكان ينوي التنازل عن مقعده عندما تستقرّ الأمور قليلا.
تساءل الجنرال رعد: "لا أظنّ أنّ هناك فائدة ترجى من جمع شتاتي. لماذا عليك المغادرة أصلا؟"
حملق باسل إلى الجنرال رعد بحاجب مرفوع كما لو أنّه يزدريه: "هل صرت غبيّا أيضا؟"
وقف باسل ثمّ اتّجه إلى جانب الجنرال رعد ووضع يده على كتف الرجل الأشقر ثمّ قال: "إذا واتتك الفرصة لإنقاذ أمّي مرّة أخرى، فماذا ستفعل؟"

اهتزّ جسد الجنرال رعد لمّا سمع كلام باسل. هل علم باسل عن مشاعره تجاه لطيفة؟
ضغط باسل على كتف الجنرال رعد: "أجبني، ماذا كنت لتفعل؟"
أحكم الجنرال رعد قبضتيه بشدّة وصرّ على أسنانه. بدأت الذكريات تلتهم عقله، لكنّ كلّ ذلك اختفى فجأة لمّا شعر بالألم يتخلّل جسده بسبب يد باسل التي واصلت الضغط.
هدأ أخيرا ثمّ قال: "لو واتتني الفرصة، سأفعل أيّ شيء من أجل إنقاذها، حتّى لو كنت أعلم أنّني سأكون بلا فائدة وأفشل لا محالة."
ارتخت قبضة باسل وأزال يده عن كتف الجنرال رعد ثمّ قال: "إذن لا داعٍ أن أشرح لك أنّني سأقلب العوالم كلّها رأسا على عقب من أجل إيجادها."
كان الجنرال رعد يائسا لدرجة مهولة حتّى أنّه يئس من فكرة بقاء أنمار على قيد الحياة.
بلع ريقه ثمّ نظر إلى باسل وقال: "حتّى لو عنى هذا التخلّي عن هذا العالم؟"
كان ذلك سؤالا مفاجئا، حتّى لباسل.
لم يعلم باسل كيف فكّر الجنرال رعد بهاته الطريقة، لكنّه تنهّد ثمّ ردّ: "ولهذا أخبرك أن تجمع شتات نفسك."
سأل الجنرال رعد سؤالا مختلفا: "وهل جمعت أنت شتاتك؟"
نظر باسل إلى عيني الجنرال رعد وردّ: "ماذا تخالني أفعل حاليّا؟"
لقد كان كلاهما محطّما. كان باسل يحاول إصلاح عالمه المنكسر، لذا يجب على الجنرال رعد جمع شتات نفسه أيضا. عليهما أن يتخطّيا الأمر.
لم تنتهِ أسئلة الجنرال رعد عند ذلك السؤال: "كيف تفعلها؟"
استدار باسل ثمّ نظر إلى الطاولة الكبيرة التي تقع في مركز القاعة الرئيسيّة لأكاديميّة الاتّحاد المباركة.
كان هناك شعار كبير مرسوم عليها.
كان هذا الشعار عبارة عن دائرة سوداء بوسطها نقطة بيضاء، وأحيطَت بأربعة عشر دائرة زرقاء اللون يصل حجم كلّ واحدة منها إلى عُشر حجم الدائرة السوداء، وارتبطت كلّ دائرة صغيرة بشبيهتها وبالدائرة الكبرى عبر شريط له نفس الزرقة. فبدا الشعار كالزهرة في النهاية.
تذكّر باسل ما رمز له هذا الشعار.
"سيزهر الأمل في أعماق الظلام دوما ما دام هناك وحدة."
رفع الجنرال رعد رأسه ثمّ نظر إلى باسل. تأمّل فيما قاله للتوّ وحاول فهم كلامه.
عندما سأله، قال باسل أنّه يجمع شتات نفسه، وليس أنّه قد جمع شتاته بالفعل.
عندما سأله كيف يفعلها، ردّ باسل بشعار الأكاديميّة.
الأمل الذي ينتج عن الاتّحاد.
لقد كان باسل يحاول شفاء نفسه بالبحث عن شخص آخر.
ومع ذلك...
"أنا لا أملك شخصا كالذي تملكه يا أيّها الفتى القرمزيّ. لا أملك ذلك الأمل الذي يمكنه أن يخرجني من أعماق الظلمات."
حدّق باسل إلى الجنرال رعد ثمّ قال: "فلتعش في الظلمات إذن. اقطنها وصر حاكما لها. لا تدعها تلتهمك وهيمن عليها. فلتجعلها ملكك."
أكمل باسل كلامه بعد صمت وجيز: "للأسف، لم تسنح لي الفرصة للسقوط في الظلمات بهذا الشكل."
"هل تخبرني أن أتخلّى عن الضوء؟ هل تنصحني بالعيش في الظلام للأبد؟"
نظر باسل إلى عينيْ الجنرال رعد وقال: "ذلك صحيح. اختر أن تعيش بتلك الطريقة، ولربّما يمكنك يوما التحرّر بعدما تسيطر تماما على تلك الظلمات، أو يمكنك الانكماش على نفسك كما تفعل الآن والاستمرار في فعل هذا للأبد داخل الظلمات آملا إيجاد ضوء ما، ضوء لا يمكن لأحد آخر أن يمنحه لك سوى نفسك."
عش في الظلمات وهيمن عليها، وعندها لربّما تجد وسيلة للتحرّر منها وإيجاد الضوء.
أحكم الجنرال رعد قبضتيه.
لا يمكنه أن يسمح لنفسه بالموت لأنّه يشعر بالذب الشديد ويريد التكفير عن أخطائه.
لا يريد أن يعيش لأنّه يعتقد أنّه بلا فائدة في هذه الحياة.
ما عليه إذن إلّا أن يتقبّل حاله هذا بسرور، ولربّما يوما ما يجد إجابة تصفّي ذهنه وعالمه.

***
عاد باسل للمقعد الذي كان يجلس عليه ثمّ قال: "لنتكلّم عن كيفيّة مسير الأمور من الآن فصاعدا."
ارتخت قبضتا الجنرال رعد أخيرا واستمع لكلام باسل القادم. لقد أراد أن يكون ذا نفع، وأراد أن يعلم عمّا ينوي الفتى القرمزيّ فعله قبل مغادرة هذا العالم كما قال.
"أوّلا وقبل كلّ شيء، مسقط رأسي، مدينة العصر الجديد، وأكاديميّة الاتّحاد المباركة، ووكر الوحش النائم، وأخيرا، نهر ددمم التنّين الذي يقسم سلاسل الجبال الحلزونيّة... يجب أن تعلم عن العلاقة التي تجمع هذه الأماكن ببعضها."
"علاقة؟ هل هناك علاقة خاصّة بين هذه الأماكن؟"
كان الجنرال رعد مستغربا. لقد علم عن تميّز كلّ واحد من هذه الأماكن، لكنّه لم يسمع عن أيّ علاقة تجمع كلّ مكان بالآخر. لم يفكّر في هذا حتّى.
"هذا صحيح. العلاقة التي تجمع هذه الأماكن الثلاثة ستكون إحدى الركائز التي سيُبنى عليها عالمنا كعالم روحيّ ينافس العوالم الأخرى بجدارة."
زاد الجنرال رعد من تركيزه بعدما سمع تصريح باسل الكبير. لقد كان هذا شيئا يهمّ هذا العالم بأسره. ومع ذلك، صار تعبيره بليدا بعدما سمع سؤال باسل التالي.
"هل تؤمن بوجود التنانين؟"
"ها؟"
لم يعلم الجنرال رعد كيف يجيب عن هذا السؤال الغريب الذي كان بعيدا عن الموضوع الذي كان باسل سيتكلّم عنه.
"هل تتحدّث عن التنانين التي نسمع عنها في الأساطير؟"
أومأ باسل رأسه ثمّ أجاب سؤال الرجل الأشقر الحائر: "نعم، التنانين التي نسمع عنها في الأساطير. التنانين التي تُعدّ عرقا فريدا مثل عرق العنقاوات."
زاد استغراب الجنرال رعد. لم يتوقّع أنّه سيدخل في محادثة مع الفتى القرمزيّ تدور حول أساطير كهذه.
ومع ذلك، ردّ بوضوح: "بصراحة، أعدّها مجرّد أسطورة. ليس لأنّني لم أرَ تنيّنا من قبل، بل لأنّه لا يوجد سبب لأؤمن بوجودها. ما يزال هناك تفسير لوجودي ووجودك ووجود العالم حتّى بدون وجود التنانين."
أومأ باسل رأسه. لقد كانت هذه إجابة جيّدة. لقد كانت هذه هي إجابته أيضا قبل أن يولد من جديد، لكن بعدما ولِد من جديد في ذلك اليوم وتتبّع الوريد الذي كان ينبض في أعماق العالم الواهن ببطء شديد وبلغ منبع الوريد الذي كان في نهر ددمم التنّين، تغيّرت نظرته إلى الأمور تماما.
اعتقد في تلك الأثناء: قد تكون هناك تنانين بالفعل. أوَ ليس هناك وحش نائم بجواره له نفس مرتبة تلك التنانين؟
وبعد لقائه بالوحش النائم، صارت تلك الشكوك يقينا.
لا بدّ من وجود التنانين. لو كان هناك مخلوق مصدره الأساطير والخرافات مثل الوحش النائم، فليس هناك مانع من وجود التنانين أيضا. بالأحرى، كان هذا مجرّد تأكيد لما رآه باسل في نهر ددمم التنّين ذلك اليوم.

تذكّر باسل اليوم الذي جعله فيه معلّمه يُخضع سلاسل الجبال الحلزونيّة برفقة أنمار. تذكّر الوحش الذي كان في قمّة السلسلة الغذائيّة هنا، وتذكّر كيف علّق المعلّم على ميزات ذلك الوحش.
كان باسل متأكّدا؛ لقد كان معلّمه متشكّكا في وجود علاقة قريبة للتنانين بذلك الوحش، ولو التقى المعلّم بالوحش النائم أو علم على الأقلّ بوجوده كما فعل باسل، لصار المعلّم متيقّنا من وجود التنانين تماما، هذا إن لم يكن إدريس الحكيم قد اختبر مسبقا في حياته شيئا يجعله يؤمن بوجود التنانين.
"التنانين موجودة، أو يمكن 'على الأقلّ' أنّها كانت موجودة في وقت معيّن."
صرّح باسل بذلك وانتظر استجابة الرجل الأشقر.
حدّق الجنرال رعد إلى عيني باسل لقليل من الوقت قبل أن يقول: "ما الذي يجعلك تقول هذا؟"
بدأ تفسير باسل: "لديّ اعتقاد مبنيّ على حقائق ودلائل واقعيّة أنّ هناك بقايا من نوع ما لتنّين ما تقبع في أعماقٍ تحتَ أعماقِ نهر ددمم التنّين."
بلع الجنرال رعد ريقه بينما أكمل باسل كلامه: "الدليل الأوّل، تمساح الأعماق الفولاذيّ الذي يرقد في أعماق نهر ددمم التنّين... اكتسب ذلك الوحش خواصّا تنّينيّة كما هو معروف عنها في الأساطير بالرغم من أنّه كان مجرّد وحش سحريّ. لا يكتسب الوحش السحريّ أيّ خواصّ لسلالة ددمم عتيقة إلّا بعد التأصّل، وهذا لا يحدث إلّا عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة وبعد ذلك."
بلع الجنرال رعد ريقه مرّة أخرى. وحش سحريّ بمواصفات تنّينيّة؟
لقد سمع بالفعل عن الكثير من الوحوش التي أسنِد إليها لقب التنين مثل الحرباء التنّينيّة الناقصة التي كانت تقطن أرخبيل البحر العميق، لكنّها كانت "ناقصة" كما أوضح اسمها ودلّ على أنّها سُمِّيت بالتنّينيّة لتميّزها وقوّتها فقط، وليس لأنّها كانت تحمل خواصّ ومواصفات التنانين حقّا.
أضاف باسل: "الدليل الثاني، هناك وريد يجب أن يكون الآن صار وريدا روحيّا مندمجا بالكامل مع طاقة العالم الواهن الروحيّة، ومنبعه هو نهر ددمم التنّين وينشطر نحو ثلاث مواقع."

فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما. وقف بسرعة كبيرة بعدما وضع يديه على الطاولة: "انتظر! انتظر، انتظر... لا تقل لي... هل تلك المواقع الثلاث هي..."
أومأ باسل رأسه من جديد بهدوء وقال: "ذلك صحيح. مدينة العصر الجديد، وأكاديميّة الاتّحاد المباركة، ووكر الوحش النائم. هذه هي المواقع الثلاثة التي تنتهى فيها الأوردة الثلاثة التي تنبع من المصدر في الأعماق تحت نهر ددمم نهر التنّين."
وضع الجنرال رعد يده على جبهته التي تعرّقت بشدّة على حين غرّة. اقشعرّ جسده ثمّ فشل جسده وعاد لمكانه ليجلس.

فكّر في هذه المعلومات لوقت طويل، فطرأ في باله سؤال لم يتأخّر في طرحه: "انتظر، أليست الأكاديميّة تطفو حاليّا؟ لم يرَ أيّ أحد أيّ وريد طاقة سحريّة أو روحيّة حتّى الآن. هل يمكن أنّه فُصِل عن الأكاديميّة بعد التحوّل الروحيّ؟ انتظر... لن تشمل الأكاديميّة في حديثك لو حدث شيء كهذا... إذن..."
كان الجنرال رعد يتكلّم بسرعة. كان يقول كلّ ما كان يجول بخاطره؛ يسأل فيجيب في دورة لانهائيّة، حتّى تكلّم باسل ومنحه الإجابة.
"ذاك هو دليلي الثالث. بعدما تحوّل العالم الروحيّ، صارت الأرض المباركة وما يحيطها جزيرة عملاقة عائمة في السماء، ومع ذلك، ما زال الوريد التنّينيّ متّصلا بها."
"كيـ-"
لم يكمل الجنرال رعد سؤاله. لقد كان يعلم أنّ باسل سيجيب، إلّا أنّ محاولة سؤاله كانت مجرّد ردّة فعل طبيعيّة.
"كيف يبقى الوريد التنّينيّ متّصلا هو دليلي؛ الزمكان. إنّه يخترق الزمكان ويتّصل مباشرة ببحيرة الأرض المباركة."
"الزمكان؟!"
أراد الجنرال رعد أن يبلع ريقه بدون وعي منه، لكنّ حلقه كان ناشفا بالفعل. وريد روحيّ يمكنه اختراق الزمكان حتّى. هذا لوحده كافٍ لإثبات مدى عظمته وندرته. لقد كان هذا شيئا يجب على عالمهم معاملته بحرص شديد واستغلاله بكلّ إتقان.
فهم الجنرال رعد كلام باسل أخيرا عندما قال أنّه يجب منح الأولويّة لهاته المواقع عند حلول كارثة ما.
فكّر بعد ذلك لوقت وجيز فقط ليدرك أنّ أيّ كارثة يمكنها التأثير على الوريد التنّينيّ كانت كارثة يمكنها التأثير على العالم بأسره. فهم أنّ باسل كان يقصد أن تُمنح الأولويّة لهذه المواقع عند حلول كارثة يمكنها تدمير العالم بأسره.
لقد كان هذا الوريد التنّينيّ، لا، كانت هذه الأوردة التنّينيّة الثلاثة التي كان مصدرها نهر ددمم التنين إحدى الركائز التي يمكنها دعم العالم الواهن كما قال باسل. يمكن لأشياء أن تُهدم وتُبنى من جديد طالما يظلّ الأساس صامدا، ولكن لو تدمّر الأساس، فكلّ شيء آخر سينهار بسرعة وسهولة.
تذكّر الجنرال رعد أنّ باسل لم يقل أنّ هذا هو دليله الأخير، فانتظر الفتَى القرمزيَّ ليكمل كلامه.
كان باسل يفكّر في هذه الأثناء في الوحش النائم الذي لم يعلم حتّى الآن إذا ما كان أنثى أو ذكرا. لقد كان الوحش النائم هو دليل باسل الرابع والأخير والأكثر موثوقيّة.
لقد علم عن وجود الوحش النائم لمّا اختلس النظر على ذكريات السارق الخسّيس قسرا، لكن كلّ ما رآه في تلك الذكريات هو مخلوق فريد له جمال لا يضاهى وبضوء ساطع يتباهى يحلّق عبر السماوات هاربا من شيء ما باستماتة. علم لاحقا أنّ ذلك المخلوق السامي كان هاربا من السارق الخسّيس.

كانت الذكريات التي رآها باسل مجرّد شظايا بسيطة لأحداث مختلفة بأزمنة متنوّعة. فبعدما رأى هذا الحدث، شاهد الصناديد ينقضّون على السارق الخسيس بأمل خاب بعد مواجهة قوّة السارق الخسّيس المطلقة.
علم بعد ذلك عن خطة السارق الخسّيس التي نتج عنها اختياره للعالم الواهن بعدما علم أنّ الوحش النائم الذي هرب منه فيما سبق يقبع هناك.
علم باسل أيضا عمّا يحاول الوحش النائم فعله بسبب هذا، ولهذا علم أيضا عن سرّ قبائل الوحش النائم وأخبر لمياء به عندما ذهب إلى هناك بعدما وُلِد من جديد.
كانت تلك الرحلة إلى هناك هي دليل باسل الرابع والأخير، لكنّه لم يكن ليسمح لنفسه أبدا بقول أيّ شيء يتعلّق بالوحش النائم. لقد كان وجود الوحش النائم بحد ذاته مخفيّا ولا يجب أن يعلم عنه أحد.
لقد ائتمن الوحش النائم رماده على باسل، وجعله وريثه الشرعيّ بمنحه قدرات فريدة كان يعلم باسل أنّها قدرات لا يمكن للوحش النائم منحها سوى لشخص واحد فقط في كلّ الأزمان؛ لقد أقسم ألّا يفشي سرّ الوحش النائم أبدا، ولهذا، لم يخبر حتّى أنمار عن هذا.
قال باسل: "ودليلي الرابع والأخير هو..." حدّق إلى عينيْ الرجل الأشقر ثمّ قال بثقة: "دليلي الأخير هو أنا."
كان باسل يشير إلى نفسه بسبّابة يده اليمنى: "أنا من يقول هذا الكلام، وهذا خير دليل، أليس كذلك؟"
قبُح وجه الرجل الأشقر لمّا سمع هذا الكلام ثمّ تنهّد وهزّ رأسه. هذا الفتى القرمزيّ... إنّه يستمرّ في غروره هذا حتّى في هذه الأثناء. تنهّد فقط وتقبّل الأمر في نهاية المطاف.

أكمل باسل كلامه بعدما رأى استجابة الجنرال رعد المقتنعة: "كما تعلم، صارت القارّات أقرب إلى بعضها بكثير عمّا كانت عليه. الآن اقتربت القارّات وأرخبيل البحر العميق من بعضهم بعضا بكثير. ومع ذلك، كبر العالم بكثير عند التحوّل الروحيّ."
سأل باسل: "هل تعلم ماذا يمكن أن يعني هذا؟"
انتظر الجنرال رعد إجابة باسل فقط. لم يستطع أن يتخيّل ماذا يمكن أن يصير.
لم يتأخّر باسل في إجابة السؤال الذي طرحه بنفسه: "ظهرت وستظهر أراضٍ جديدة ولربّما قارّة أخرى حتّى. التحوّل الروحيّ لعالم سحريّ يؤثّر بالزمكان بحدّ ذاته فيجعل من العالم أضخم بشكل هائل عمّا كان عليه، لكن هذا لا يحدث بين ليلة وضحاها. ما زال العالم سيمرّ بعدّة مراحل تصاحبها كوارث طبيعيّة كنتيجة حتّى يبلغ ذروته."
أكمل باسل بدون توقفّ: "كلّ هذا يعني شيئا واحدا. ستظهر ممالك أخرى على مرّ الزمن، ولا يمكن لأيّ أحد أن يمنع هذا. ستكون هناك حروب عديدة من أجل امتلاك الأراضي الجديدة، لكن ستستقرّ الأمور بعدما تنبثق ممالك وإمبراطوريّات جديدة."

"ولهذا، يجب على أكاديميّة الاتّحاد المباركة أن تبقى محايدة تماما. لا أريد من الأكاديميّة أن تأخذ جانب الإمبراطوريّات الثلاث عند حصول هذا. لقد أنشِئت الأكاديميّة من أجل توحيد قوى العالم، لمواجهة أخطار العالم، وحماية العالم، وليس لسيادة العالم ولا لاستخدام قوّتها لمساعدة إحدى المنظّمات على حساب منظمّة أخرى."
أومأ الجنرال رعد رأسه وردّ: "أفهم وجهة نظرك. بمعنى آخر، يجب أن تبقى الأكاديميّة محايدة حتّى يتسنّى لها الحصول على المواهب التي ستنمو في الممالك والإمبراطوريّات الجديدة أيضا. هذا لن يحصل إلّا بعد مرور زمن طويل جدّا، لكنّه يبقى أفضل من اتّباع الجشع واحتكار الموارد الجديدة."
أومأ باسل رأسه: "نعم، أريد لعالمنا أن يكون عالما مليئا بالمنافسين. المنافسة بين القوى ستجعل من العالم ينمو بوتيرة أسرع بكثير، وأريد من الأكاديميّة أن تكون بمركز كلّ هذا. ستتسابق الممالك والإمبراطوريّات في المستقبل البعيد من أجل تدريس شبابها في الأكاديميّة، فتنتفع الأكاديميّة بسبب قوانينها التي تسمح لها باستغلال تلك المواهب في المواقف الحرجة. يمكن القول أنّه سيمكن للأكاديميّة إجبارهم على القتال بجانبها عند حلول كارثة في العالم. ستكون الأكاديميّة دوما المنظمّة التي ستجعل العالم يواجه الخطر بشكل موحّد."
أومأ الجنرال رعد رأسه مرار وتكرارا. لقد كان هذا الفتى القرمزيّ يفكّر لمستقبل بعيد جدّا. قد تمرّ عقود أو حتّى قرون قبل أن يحصل كلّ هذا.
لم يعلم أحد عن المدّة التي يمكن أن يصمدها الختم بين العوالم، لكنّ باسل قدّر أنّ الأمر سيستغرق أكثر من عقدين على الأقلّ للنجاح في كسر الختم.
"هذا بالنسبة للأكاديميّة، أمّا بالنسبة للمنطقة الثانية، مدينة العصر الجديد، فإنّي أنوي ترك التشكيل الذي درّبتُه هناك. لقد تكلّمت مع الأميرة في هذا الأمر مسبقا وليس هناك مانع."
لقد كانت مدينة العصر الجديد جزءا من إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، لذا لن يكون هناك مانع من وضع أقوى الجيوش هناك طالما تظل فرقة السنبلة الخضراء التي قادها الجنرال رعد ذات مرّة في العاصمة.
لم يسأل الجنرال رعد عن هويّة الأميرة لأنّه علم أنّ باسل يتحدّث عن الإمبراطور سكارليت كريمزون. ما جعله مستغربا كان شيئا آخر: "من سيقودهم؟"
فهم باسل تساؤله. لقد اختفى قادة التشكيل من هذا العالم، لذا يجب أن يُحدّد قادة آخرون.
ردّ باسل بسرعة: "لا تقلق، لقد قرّرت بالفعل. الحارس جون الذي يحرس مدينة العصر الجديد سيكون قائد القادة، أمّا القادة الأربع الآخرون فسيكونون 'صيّاد قطّاع الطرق كيكان'، و'ساحت الرؤوس كوبيكيري'، و'سولو الساحر الوحيد'، وأخيرا 'أبهم'."
وضع الجنرال رعد يده على ذقنه بينما يفكّر.
فسّر باسل له: "لقد أخذت الحارس جون تحت جناحي منذ وقت طويل للغاية، وقوّته وموهبته جيّدة حتّى لو كانت لا تصل لمرتبة تورتش والآخرين. لديه موهبة في القيادة لذا سيكون مناسبا للمنصب الذي سيُمنح له. كيكان وكوبيكيري وسولو نافسوا قادة التشكيل لوقت طويل وبالرغم من أنّهم لم يفوزوا ولو لمرّة واحدة، إلّا أنّهم كانوا يلاحقونهم باستمرار، وأقرّ كلّ واحد في التشكيل بجهودهم. رغب الكثيرون في أن يكون أولئك الثلاثة نوّاب القادة، إلّا أنّ هؤلاء الثلاثة رفضوا العرض."
"أمّا أبهم، فلا أظنّ أنّني أحتاج لتفسير الكثير عنه. إنّ موهبته جيّدة للغاية، حتّى أنّني قارنتها في أوّل مرّة بموهبتي وموهبة أنمار."
بالطبع كان باسل يقصد موهبته في السحر فقط.
"لقد عاش في وكر الوحش النائم لمدّة طويلة، ونمّى قدراته بشكل مهول. إنّك تعلم كيف هي قوّة القبائل، لذا يجب أن تعلم عن قوّة أبهم الذي صار يقارن بزعماء العشائر الرئيسيّة حاليّا."

فكّر الجنرال رعد في قوّة القبائل.
عندما مرّ العالم الواهن بالتحوّل الروحيّ، لم يتعرّض وكر الوحش النائم للكثير من الاضطرابات بسبب الكوارث الطبيعيّة، وحتّى عندما انتهى التحوّل الروحيّ، أحاطت منطقة القبائل حواجز روحيّة غريبة لها آثار الوهم والتلاعب بالعقل، فلم يستطع أحد الاقتراب من الوكر وقبائله قطّ عند حلول تلك الكارثة حول العالم بأكمله.
كان الأمر كما لو أنّ خّط الجون الذي خطّته القبائل ذات مرّة لتفصل بينها وبين بقيّة العالم صار حقيقيّا وعزل الوكر تماما.
كان باسل يعلم عن سبب هذا في الواقع. لقد كان السبب ببساطة هو 'حياة'.
لقد كان يعلم باسل عن عظمة هذه الشجرة التي غرسها الوحش النائم أملًا في أن تغدو شجرة عالم يوما ما.
وبعدما صار العالم الواهن عالما روحيّا، حمت 'حياة' منطقتها بهذه الطريقة، تماما كما تفعل شجرة العالم في الأساطير.
زاد هذا الخبر من احترام الكثيرين للقبائل، وأقرّوا بقوّة الوحوش النائمة.
قال باسل كما لو كان فخورا: "سيقوم هؤلاء الخمسة بعمل جيّد بعدما يُرشدون لمدّة من الوقت."
تساءل الجنرال رعد حول شيء ما فجأة: "بالمناسبة، ألن تمنح اسما للتشكيل؟ ألا ترى أنّه من الغريب مناداته بالتشكيل فقط؟ هناك من يلقّبه بتشكيل بطل البحر القرمزيّ، وهناك من يقول عنه تشكيل القائد الأعلى، أو تشكيل الطفل المعجزة وما إلى ذلك... لكنّك دوما تقول عنه 'التشكيل' فقط."
لوّح باسل بيده: "سأفكّر في ذلك لاحقا."
بالطبع فكّر باسل في هذا، لكنّه كان يؤجّل الأمر في كلّ مرّة.
أكمل باسل كلامه: "وأخيرا، المنطقة الثالثة، والتي هي الوكر الذي تحدثّنا عنه للتوّ. ليس هناك ما يقال عن الوكر لأنّني فعلت ما يجب فعله عندما ذهبت هناك آخر مرّة. كلّ ما يجب إضافته هو استقبال عدد كبير للغاية من الوحوش النائمة في الأكاديميّة."
أومأ الجنرال رعد رأسه وتابع كلامه مع باسل. لقد كان باسل يحاول تهيئة كلّ شيء قبل أن يغادر هذا العالم، وكان استغلال الأوردة التنّينيّة على رأس كلّ هذا.
وقف باسل عند البحيرة المباركة في تلك الليلة، ثمّ حدّق بعينيه الحكيمتين إلى أعماقها. استغرق وقتا طويلا في ذلك قبل أن يغطس فيها فجأة.
كان يبحث عن ذلك الوريد الذي شقّ طريقه عبر الزمكان.
وبعد أيّام قليلة، غادر باسل الأكاديميّة.

***
كان باسل قد أنهى في الأكاديميّة الاستعدادت اللازمة للوريد التنّينيّ الذي ينتهي عند البحيرة المباركة. كان قد فعل مثل هذا الأمر بالفعل في مدينة العصر الجديد قبل أن يغادرها، وكلّ ما تبقّى هو الوكر ونهر ددمم التنّين.
كان ينوي الذهاب إلى الوكر أوّلا بالرغم من أنّ نهر ددمم التنّين كان في طريقه حتّى يعمل على الوريد التنّينيّ الثالث قبل أن يعمل على مصدر كلّ الأوردة في أعماق النهر، وأيضا من أجل أن يفعل شيئا آخر في نفس الوقت بقمّة 'حياة' إذْ كانت مناسبة لذلك.
كان يجب عليه أن يفعل هذا الشيء الآخر قبل أن يذهب نهر ددمم التنّين ويواجه ذلك الوحش المرعب الذي سيكون اخترق إلى المستويات الروحيّة وتأصّل بشكل مرعب أكثر من الوايفرن بكثير.
كان الشيء الآخر الذي يجب عليه فعله هناك هو...
"يجب أن أنهي اختراقي للمستويات الروحيّة."
نعم، كان باسل حالة خاصّة وفريدة عبر الأزمان. بالرغم من أنّه صار ساحرا روحيّا إلّا أنّه ما زال لم ينهي بناء روحه، أو في حالته، روحه الثانيّة.
كان يجب على الساحر الاستحواذ على روح وحش سحريّ، لكنّ باسل جعل روح الوحش الروحيّ تعمل كواسطة بين روحيْه غير المستقرّتين.
كان يجب أيضا على الساحر الروحيّ أن يستخدم 'تقنيّة تكامل تأصليّ' حتّى يستحوذ على تماما على روح الوحش ويدمجها مع روحه.
لم يقم باسل بهذه الأمور بهذا الترتيب لسببين؛ السبب الأوّل كان هو ضيق الوقت الذي لم يسمح له بفعل كلّ شيء بروية. كان عليه أن يجعل روح الوحش -الذي اكتسب الحكمة للتلاعب بقوانين العالم- تجعل روحيْه مستقرّتين قبل أن تدمّرا بعضهما. والسبب الثاني كان عدم وجود تقنيّة تكامل تأصليّ مناسبة له إطلاقا في العوالم بأكملها.
"عليّ أوّلا أن أجعل من روحي الثانيّة روحا كاملة."
لقد كان كلّ ساحر روحيّ يملك روحا، لكن ماذا امتلكت هذه الروح؟ ماذا كانت مواصفاتها؟
أوّلا وقبل كلّ شيء، وحتّى عندما تكون الروح مجرّد بحر روحيّ، يملك كلُّ ساحر عنصرا سحريّا.
"ليس عليّ أن أمرّ بمراحل حالة 'الصفاء الذهنيّ والروحيّ' كما فعلت عندما أردت أصير ساحرا حتّى أتحصّل على العنصر السحري."
كان كلّ ساحر يملك عنصرين سحريّين بعد قسم مستويات الربط الثاني. إذن ماذا عن روح باسل الثانيّة التي كانت بلا أيّ عنصر حتّى الآن؟
اعتقد باسل في البداية أنّ تلك الروح الثانيّة ستكتسب نفس العناصر التي امتلكها في روحه الأولى، لكنّ الروحين كانتا مختلفتين تماما ولم يمكن أن تمتلكا نفس الخواصّ.
يمكن تشبيه الأمر بروحيْ ساحرين مختلفين. كانت الروح شيئا مميّزا للغاية، وكان من المستحيل أن تكون هناك روحان متطابقتان.

"يمكنني أن أكتسب عنصرين سحريّين مباشرة لأجعل روحي الثانيّة كاملة حقّا."
كان يمكنه أن يكتسب عنصرين آخرين!
"وهذه المرّة، على عكس أيّ ساحر عادي، يمكنني أن أقوم بعدّة تجارب على كلّ أنواع عناصر السحر في العالم الواهن، وأختار ذينك العنصرين بنفسي. هذا أمر يستحقّ التجربة، واحتماليّة نجاحه كبيرة عندما أضيف الحكمة السياديّة إلى المعادلة."
عنصران سحريّان باختياره!
تذكّر باسل الشابَّ ذا الوجه الطفوليّ عندما فكّر في القيام بالتجارب، ثمّ تمتم لنفسه: "لو كان ذلك العالم المجنون هنا لاستطعت التقدّم في هذا بشكل أسهل بكثير."
كان باسل محقّا أكثر مما اعتقد في الواقع. لم يعلم باسل عن هذا، لكنّ العالم المجنون كان يقوم بالعديد من التجارب المختلفة، وإحداها هو الكيفيّة التي يكتسب بها الساحر عنصره السحريّ، والأشياء التي تحدّد أيّ عنصر يكتسب.
حتّى بدون علم أيّ أحد، ظهر العالم المجنون بعد الحرب الشاملة وأخذ معه جثّة هدّام الضروس لدراستها من أجل إشباع فضوله. أراد أن يعلم لمَ اكتسب هدّام الضروس بالخصوص عنصر الدمار.
تنهّد باسل ثمّ قال: "آمل فقط أنّه يقوم بعمل جيّد في حماية صفاء."
لم يسع باسل سوى أن يتحسّر على حياة الفتاة البائسة. لقد تعذّبت في عمر صغير للغاية، وعندما قابلت عائلتها أخيرا، فقدتها بتلك الشناعة وتلك السرعة.
أحكم قبضتيه كلّما فكّر في ما كان على الأشخاص القريبين منه أن يعانوا منه في غيابه.
"لننهِ هذا الأمر أوّلا ونفكّر في طريقة للبحث عنهم بعد ذلك."
ساحر روحيّ بروحين وخمس عناصر سحريّة!
ببطء، ولكن بثبات، كان يولد وحش لا مثيل له عبر كلّ الأزمان.
***
انحنى خمسة أشخاص أمام باسل في غرفة مظلمة.
كان باسل حاليا في الغرفة السرّيّة التي يعقد فيها زعماء قبائل وكر الوحش النائم اجتماعاتهم التي تقرّر مستقبل القبائل.
هذه المرّة، كان هناك شخص آخر غير الزعماء في هذه الغرفة. كان هذا الشخص هو أبهم.
تكلّمت لمياء رأس القبائل كلّها: "تعازينا الخالصة لك يا سيّدي. أرجوك اعذر غيابنا عن الجنازة. يمكنك أن تعاقبنا إن ارتأيت أنّنا لا نستحقّ سماحك وعطفك."

تعرّقت أجبنة الخمسة بعد سماع كلام لمياء. لقد كانت طريقتها في خطاب باسل في قمّة الاحترام؛ كيف لا وهو الوريث الشرعيّ الذي اختاره أبوهم الروحيّ بنفسه؟ كيف لا وهو الشخص الأوّل الذي تسلّق شجرتهم التي يبجّلونها وكشف الغطاء عن اسمها الذي جعلها كاملة؟

لقد كان باسل يمثّل حاليا رغبة الوحش النائم، لذا صار يتلقّى معاملة أفضل بكثير من زعماء القبائل حتّى.
كان هذا هو السبب الوحيد الذي خوّل أبهم القدرة على أن يكون في مثل هذا المكان الخاصّ.
قبل أن يغادر باسل، جعل أبهم ممثّلا له في القبائل، فصار أبهم قادرا على حضور الاجتماعات التي تقام في هذه الغرفة السرّيّة.
نظر باسل إلى الخمسة ثمّ تنهّد. لمَ عليهم ان يعتذروا له بهذه الطريقة؟ هل يعتقدون أنّه نوع من الطغاة أو ما شابه؟ بالطبع كان يعلم أنّ الظروف لم تسمح بدخول أو خروج أيّ أحد من الوكر لبضعة أيّام بعد انتهاء التحوّل الروحيّ للعالم.
"ارفعوا رؤوسكم. إنّني أعلم عمّا فعلته 'حياة'. اعتذاركم وانتظار العقاب بهذه الطريقة يُعدّ إهانة لي. أنتم تقلّلون من شأني وإدراكي للأمور فقط."
اهتزّ جسد لمياء والآخرين لمّا سمعوا ما قاله. لقد أرادوا أن يكونوا أطفالا جيّ*** حتّى لا تُطرق رؤوسهم كالمرّة السابقة، لكنّهم زادوا الطين بلّة على ما يبدو.
"نحن آسفون. أرجوك سامحنا. نحن لم ننوِ فعل هذا."
انحنى الخمسة أكثر من ذلك أكثر حتّى شكّلوا زاوية قائمة.
"لقد أخبرتكم ان ترفعوا رؤوسكم،" عبس باسل فحكّ قبضته ونفخ عليها ثمّ قال: "لكن يبدو أنّكم متشوّقون كثيرا لدقّ الرؤوس حتّى أنّكم تقدّمونها لي على طبق من ذهب."
تصاعدت القشعريرة مع ظهور الخمسة حتّى استقامت تلك الظهور تماما. امتدّت أذرعهم أيضا نحو الأسفل ووقفوا هناك شاخصين.
أومأ باسل رأسه بعد ذلك ثمّ تجاوزهم ليجلس على الكرسيّ الذي كان يتفرّد على جهة من الطاولة بينما تقابله خمسة كراسي. لقد كان واضحا أنّهم وضعوا مكانة باسل في الاعتبار.
بالطبع كان باسل يقدّر هذه المكانة للغاية. لقد احترم باسل الوحش النائم بعدما علم عنه من ذكريات السارق الخسّيس، وزاد ذلك الاحترام بدرجات عديدة عندما رأى ذكريات الوحش النائم أثناء الحصول على تلك القدرات الفريدة منه، ولهذا اعتزّ بهذه المكانة وتصرّف بناء عليها.
أذن باسل للآخرين بالجلوس، ثمّ دخل في الموضوع مباشرة: "سوف أتسلّق إلى قمّة حياة."
تفاجأ الخمسة كثيرا. لقد كانوا يعلمون أنّ باسل قد فعل هذا الأمر بالفعل، لكنّ حدوثه مرّة أخرى ما زال أمرا مبهرا.
لا أحد غيره استطاع فعل مثل هذا الأمر حتّى الآن.
"لقد ارتأيتُ أنّه سيكون من الأفضل أن يلحقني أولئك الذي تظنّونهم سيدخلون إلى المستويات الروحيّة أوّلا. سأجعل من تسلّقي درسا لهم. لا يمكنني تعليمهم أيّ شيء بشكل مباشر، لأنّ تسلّق حياة ليس بشيء يُعلّم، لكن ربّما يمكنهم اكتساب فهم أعمق على الأقلّ."

تحمّس الزعماء، وحتّى أبهم الذي نسي أنّه ليس وحشا نائما في الواقع.
لقد وضع باسل ثلاثة شروط حتّى يكتسب أيّ عضو من القبائل الوصفة وطريقة التدريب والتقنيات الخفيّة من أجل إيقاظ وحشه النائم.
كانت تلك الشروط هي القيام بعهد ذهنيّ روحيّ ينصّ على عدم إفشاء هذه الأسرار أبدا لأيّ كان، وبلوغ المستويات الروحيّة، واجتياز اختبار 'حياة' الذي يختلف حسب الشخص بذاته.
تناسى الخمسة حماسهم بعدما لاحظوا أنّ باسل عبس فجأة بعدما قال ما قال. تكلّمت لمياء نيابة عن الآخرين. لقد كانوا كلّهم يريدون السؤال عن نفس الشيء: "هل هناك خطب ما بحياة؟"
لاحظ باسل أنّه استغرق في أفكاره، فلوّح بيده وردّ: "لم تكن 'حياة' من قبل أفضل حالا ممّا هي عليه الآن. لا تقلقوا، لقد كنت أفكّر في شيء آخر."
لقد كان باسل يفكّر تنقيّة التكامل التأصّليّ التي يجب عليه أن يخترعها. لقد كان يفكّر في الوقت الذي سيحتاجه قبل أن ينجح في ذلك.
لربّما كانت روحيْه مستقرّتين حاليا، لكنّ ذلك الاستقرار للأبد طالما تبقيان الروحان متفاوتين بذلك الشكل. كان يجب عليه أن يسرع قبل أن تسوء الأمور.
ظنّ في السابق أنّ روحيه ستسقرّان للأبد لأنّه ظنّ أنّ الروح الثانيّة ستكتسب خواصّ الروح الأولى.
كان يفكّر أيضا في العنصرين اللذين يجب عليه اختيارهما. لقد كان هذا هو الشيء الأهمّ حاليا بالنسبة له.
نظر باسل بعد ذلك إلى أبهم ثمّ قال: "على كلّ، سيغادر أبهم معي بعدما أنتهى من عملي هنا."
اهتزّ جسد لمياء قليلا بعد سماع كلام باسل. لقد كان واضحا أنّها تأثّرت بقراره هذا بالرغم من أنّها حاولت بكلّ جهدها إخفاء الأمر.
لقد أظهر أبهم حبّه لها منذ قدومه إلى هنا، لكنّها جهلت ذلك لمدّة طويلة، حتّى أنّها أخطأت في حقّه عندما أخبرها باسل عن سرّ القبائل وظنّت أنّ أبهم تجسّس عليهم بطريقة ما ونسيت أنّ ذلك كان غير ممكن أصلا.

اعتذرت لاحقا عمّا بدر منها، وصارت تثير الانتباه أكثر لأبهم حتّى تعلّقت به بعدما رأت جهوده المثيرة للإعجاب التي خوّلته أن يصير في رتبة الزعماء من حيث القوّة والمكانة في هذه الفترة الوجيزة. وفوق ذلك، كانت لمياء ضعيفة تجاه الحب الذي كان أبهم يعطيه لها كلّما وجد الفرصة.
راقب باسل أبهم لقليل من الوقت ثم صرّح: "يبدو أنّك بلغت درجة مقبولة في تدرّبك على التقنيّة السرّيّة التي منحتها لك."
وقف أبهم ثمّ انحنى قليلا.
عندما وُلِد باسل من جديد وأتى إلى الوكر، وجد أبهم قد صار ضخما ومفتول العضلات لدرجة كبيرة، حتّى أنّ طوله ازداد بكثير عمّا كان عليه، إلّا أنّه كان الآن بعضلات بحجم طبيعيّ وطول أقلّ بقليل عمّا كان عليه، كما لو أنّه انكمش أو صغُر.

"كلّ هذا بفضلك يا سيّدي."
لقد كان أبهم ممتنّا للغاية لباسل. كيف بلغ هذه المكانة التي هو فيها الآن؟ كيف صار قويّا لينافس الزعماء بهذه السرعة؟
لقد كان كلّ هذا بسبب التدريبات القاسيّة التي فرضها عليه باسل والتقنيّة السرّيّة التي منحها له. لقد كان أبهم أخا لـشي يو، ولطالما اهتمّ باسل بأتباعه وعائلاتهم.
كان باسل متردّدا في البداية، لكنّه لاحظ المجهود الذي كان أبهم يبذله كلّ يوم، حتّى صار جسده بذلك الشكل، فقرّر أن يمنحه شيئا استخدمه إدريس الحكيم بنفسه حتّى يقوّي جسده.
نعم، كانت هذه التنقيّة السرّيّة شيئا تدرّب عليه إدريس الحكيم جنبا إلى جنب مع تقنيّات أخرى من أجل أن يجعل جسده العادي قويّا كفاية ليكون حاوية ووعاء مناسبا وجديرا بثلاثة فنون قتاليّة في نفس الوقت.
حتّى إبلاس تساءل مرارا عن الكيفيّة التي استخدمها إدريس الحكيم في تقويّة جسده.
بالطبع كان باسل ينوي فعل نفس الشيء بعد ولادته الجديدة، إلّا أنّه اكتسب جسدا أفضل بكثير بعد لقائه بالوحش النائم، فلم يعد يحتاج لذلك، ولم يعد ممكنا له التدرب على تلك التقنيّات التي تعارض بنية جسده الجديدة. كان هذا سبب آخر في قراره بتمرير إحدى تلك التقنيّات السرّيّة لأبهم.
كان اسم تلك التقنيّة السرّيّة هو 'تأصيل الجسد الوحشيّ'.
وكما قيل، لقد كانت تقنيّة سرّيّة للغاية، لذا جعل باسل أبهم يقوم بعهد ذهنيّ روحيّ قبل أن يسلّمها له.
وكما دلّ اسمها، لقد كانت تقنيّة مبنيّة على المبدأ الذي تتقدّم به الوحوش في المستويات الروحيّة الثلاثة الأولى.
تأصيل الدم – تأصيل اللحم – تأصيل العظم.
بعدما لاحظ باسل أنّ أبهم قد بلغ درجة متقدّمة من مرحلة تأصيل الدم، قرّر شيئا آخر في هذه اللحظة: "سأمنحك تقنيّة أخرى قبل أن نتفارق."
اهتزّ جسد أبهم. لقد كانت تلك التقنيّة الأولى لوحدها مرعبة كفاية؛ جعلت جسده قويّا مثل أجساد زعماء الوحوش النائمة وهو ما زال في المرحلة الأولى فقط، فما بالك عندما يتقن التنقيّة تماما بجميع مراحلها؟
والآن، يقول باسل أنّه سيمنحه تقنيّة أخرى؟
كان الشوق والخوف يجعلان جسده يرتجف بالتفكير في المستقبل الذي ينتظره.
انحنى أبهم أكثر ثمّ قال: "شكرا لك كثيرا يا سيّدي. لن أنسى فضلك هذا ما حييت. أعدك أنّني لن أخيب ظنّك بي."
أومأ باسل رأسه، فجلس أبهم في مكانه.
التفت باسل إلى لمياء ثمّ قال: "آسف يا لمياء، لكنّ أبهم يجب أن يذهب إلى مدينة العصر الجديد. لحسن الحظّ، المسافة بين المكانين ليست بعيدة، لذا يمكنكما اللقاء متى شئتما."

احمرّ وجه لمياء الأسمر واهتزّت حدقتاها بينما تتململ في مكانها: "ما الذي تقوله يا سيّدي؟ نحن لسنا..."
التفت لمياء فوجدت أبهم ينظر إليها بعينين كعيني الجرو، فتوقّفت عن كلامها ونظرت إلى الأسفل فقط بعدما احمرّ وجهها أكثر.
تنهّد باسل بعد ملاحظة هذا الأمر وقال: "حسنا، ستتبعونني أنتم الزعماء، والذين تعتقدون أنّهم أفضل المواهب في القبائل. لا أريد إضاعة الوقت أكثر."
وقف باسل، فوقف الخمسة وانحنوا له قبل أن يبدأ باسل بالتحرّك نحو مخرج الغرفة المظلمة.
***
لقد كان في العالم الواهن، كأيّ عالم، أربعة عشر عنصر سحريّ رئيسيّ، وبضعة عناصر سحريّة أخرى تُعدّ عناصر ثانويّة أو فرعيّة للعناصر الأساسيّة.
التعزيز – النار- الماء (الجليد والثلج) – الريّاح – الأرض – السحاب – البرق – الضوء – الظلام – الوهم (العقل) – الاستدعاء – التحوّل – العلاج – الدمار.
كان عنصرا الجليد والثلج عنصرين ثانويّين لعنصر الماء، لكن مستقلّين، مثلما كان الحال مع عنصر العقل وعنصر الوهم.
كان كلّ عنصر مفيد بطريقته الخاصّة، وكما سلف وقال إدريس الحكيم، ليس هناك سحر ضعيف، بل هناك ساحر ضعيف.
كلّ العناصر السحريّة امتلكت إمكانيّات إلّا عنصر الدمار، لكنّ إدريس الحكيم كان يعتقد ببساطة أنّ عنصر الدمار قد بلغ ذروة إمكانيّاته من البداية، ولهذا لم يكن هناك مجال للنموّ أكثر.

كان يفكّر باسل حاليّا في كلّ عنصر على حدى حتّى يختار ما يناسبه أكثر.
لقد كان واثقا من الحصول على أيّ عنصر يبتغي، لذا وجب أن يفكّر مليّا في هذا. ما أن يطبع العنصران السحريّان في روحه، لن تكون هناك رجعة.
لم يحتج عنصر العلاج لأنّه كان يمتلك قدرات 'شفاء ذاتيّ' مبهرة للغاية. لم يحتج لعنصر التحوّل أيضا، فهو سيملك روحين، لذا سيكون لديه تحوّلان روحيّان وليس واحد فقط.
يمكن تعويض عناصر البرق والضوء وحتّى الظلام بعنصر النار من حيث طريقة وقوّة الدمار إن تجاهل الميزات الأخرى التي لم تغريه بشكل كافٍ.
كلّ ما تبقّى هو العناصر: الماء (الجليد والثلج) – الأرض – السحاب - الوهم (العقل) – الاستدعاء – الدمار.
إن كان سيختار من بين هاته العناصر، فعليه أن يختار ما يمكن أن يعزّز من قوّته ويكمّلها أيضا. لم يكن باسل يبحث عن مجرّد رفع للطاقة والقوّة التدميريّة بشكل بسيط، بل كان يبحث عمّا يمكن أن يجعل روحيْه متكاملتين تماما، حتّى من ناحيّة العناصر.
لذا أقصى العناصر: السحاب – الاستدعاء – الوهم.
لم تكن تلك العناصر تكميليّة للعناصر التي كان يملك.
بقي الآن الماء (الجليد والثلج) والأرض والدمار.
لم يقصِ باسل عنصر الدمار لأنّه كان عرضا مغريّا للغاية. حتّى لو كان يملك عنصر النار الذي كان يملك قوّة تدميريّة جيّدة كفايّة، كان عنصر الدمار عنصرا خاصّا للغاية. لم ينسَ للحظة اليوم الذي قاتل فيه هدّام الضروس وعانى الأمرّين بسبب هذا العنصر. لقد كان عليه في تلك الأثناء أن يتجنّب التواصل مع عنصر الدمار بشكل مباشر وإلّا تدمّر أيّ جزء يتلامس بدون حماية مع عنصر الدمار.
ومع ذلك، لو اختار عنصر الدمار، هل سيخلق هذا التوازنَ الذي يبحث عنه؟ هل ستكون قوّتان تدميريّتان في كلا الروحين مكمّلتين لبعضهما؟ أم سيتخلقان نوعا من عدم التكافؤ فتغطّي إحداهما الأخرى ويختلّ التوازن في النهاية؟
لقد كان هذا شيئا مهمّا للغاية ووجب على باسل أخذ كلّ الحيطة والحذر في اتّخاذ قراره. القرار الذي سيتّخذه اليوم سيؤثّر على مساره الروحيّ بشكل هائل.
الماء، والأرض، والدمار.
لو أزال عنصر الدمار، يبقى عنصر الماء والأرض، لكن هل هذا هو الخيار الأنسب؟
"انتظر...!"
صرخ باسل كالمجنون ثمّ توقّف في الطريق نحو 'حياة' بينما يتبعه الزعماء وبعض الوحوش النائمة.
اقترب منه أبهم ثمّ سأل قلقا: "ما هناك يا سيّدي؟ هل يمكن أنّك غيّرت رأيك؟"
تجاهل باسل كلام أبهم بدون وعي منه. لقد كان مستغرقا في تفكيره بما طرأ في باله للتوّ.
ردّد كلاما لم يفهمه أحد: "النار، الريّاح، الماء، الأرض."
نظر باسل إلى يديه كما لو أنّه يتخيّل شيئا فيهما وردّد مرّة أخرى: "نظريّة العناصر البدائيّة!"
"ها!"
أطلق باسل لهثة قويّة عندما فكّر في هذا الأمر. هل يمكن أنّه يستطيع أن يجرّب ما لم يستطِع أحد تجربته عبر الأزمان؟
لقد وجد نفسه يتّجه نحو مسار روحيّ كان موضوعا في النظريّات فقط ولم يستطع أحد تجربته.
صار باسل يعلم عن الكثير من الأشياء عبر الحكمة السياديّة التي نقل عبرها إدريس الحكيم معلومات لا تعدّ ولا تحصى، ومن بينها كانت هناك معلومات عن 'نظريّة العناصر البدائيّة' التي تحدّثت عن كيف كان هناك أربعة عناصر في الفوضى البدائيّة ونتج عنها في النهاية كلّ العناصر السحريّة الأخرى.
قيل أنّه لو تكاملت العناصر البدائيّة بطريقة ما، فيمكن أن ينتج عن ذلك أيّ شيء. قد يكون ذلك الشيء نظاما ثابتا، أو فوضى عارمة حتّى.
ما كان أكيدا هو أنّ تكامل العناصر البدائيّة كان شيئا قد درسه الحكماء عبر العصور، لكن لا أحد اكتسب القدرة على تحقيقه وتسخيره.
توهّجت عينا باسل لأوّل مرّة بعدما كانتا ميّتتين لمدّة طويلة.
قد يكون الوصف، 'وحش لا مثيل له عبر كلّ الأزمان'، قليلا في حقّ المخلوق المتعطّش للمعرفة والقوّة الذي كان يولد من دون علم أيّ أحد.

***
وصل باسل والآخرون بعد مدّة إلى الحاجز الذي كان يحيط بـ'حياة' والمنطقة المحيطة بها.
لقد كان هذا الحاجز بالذّات هو الحاجز الذي أحاط بمنطقة القبائل كلّها بعد تحوّل العالم الروحيّ، وتماما في حدود الوكر. لقد كان الأمر كما لو أنّ المسؤول عن هذا يعلم تماما منطقة الوحوش النائمة.
اقترب باسل من الحاجز ثمّ وضع يده عليه ورأسه وأغمض عينيه: "لقد أتيت مجدّدا يا حياة."
كانت هذه هي المرّة الثانيّة التي سيتسلّق فيها باسل حياة. لقد أحسّ بقرابة غريبة في آخر مرّة تسلّقها فيها، وحتّى أنّه يمكن القول –لحدّ ما- أنّه الشخص الذي سمّاها. لقد كان يشعر بالطمأنينة والسكينة كلّما تواصل مع حياة. لقد كانت اسما على مسمّى حقّا، إذْ جعلت متسلّقيها يُغمرون تماما ويختبرون المرّ والحلو، لكن تحضنهم أثناء فعلها لذلك.
توهّج الحاجز فقط ردّا على كلام باسل، فعبره والتفت إلى الآخرين: "كلّكم غير أبهم."
لم يكن أبهم وحشا نائما، ولم تكن له أيّ نوع من الرخصة مثل ما كان عند باسل الذي صار الوريث الشرعيّ للوحش النائم بشكل مباشر. لم تكن هناك أيّ وسيلة لأبهم كي يعبر هذا الحاجز.
نظرت لمياء بشكل آسف إلى جهة أبهم كما لو كانت تخبره ألّا يشغل باله بالتفكير في هذا.
ابتسم أبهم بعدما لاحظ نواياها وقال: "أنا بخير. لن أشعر أنّني متخلّف عنكم، فالسيّد باسل جعل ذلك مستحيلا أصلا."
نظر إليهما باسل وارتاح قلبه قليلا. لقد كان أبهم أخا لـشي يو، لكنّه فقدها الآن وكان عليه الاعتناء لوحده بعائلته العاديّة التي انتقلت للعيش في العاصمة من أجل حياة أفضل. سيكون من الجيّد أن يكون هناك شخص كـلمياء بجانبه.
لقد كانت لمياء أكبر من أبهم عمرا بحوالي العقد، إلّا أنّها كانت تبدو كفتاة صغيرة أمامه هو الذي لطالما تصرّف كالجبان حتّى لا يثير الانتباه له ويجلب المتاعب لأخته ووالديه.
أومأت لمياء رأسها ثمّ دخلت أوّلا قبل أن يتبعها زعماء القبائل الرئيسيّة ثمّ الآخرون.
نظر باسل إلى أبهم ثمّ قال: "يمكنك الانتظار هنا، لكنّني سأتأخّر قليلا لذا يمكنك المغادرة أيضا إذا أردت. سأجدك عندئذ بنفسي."
"سأنتظرك هنا يا سيّدي."
كيف له أن يجرؤ على ترك باسل يبحث عنه؟
أومأ باسل رأسه وقال: "قبل أن نبدأ التسلّق،" التفت إلى جهة لمياء وأكمل: "أريد منك يا لمياء أن تبقي متّصلة بالعالم الخارجيّ بعد انتهاء التسلّق والقدوم إلى هنا لإعلامي بأيّ شيء مهمّ. يمكنك فقط وضع يدك على الحاجز، أو على حياة مباشرة إن كان الأمر عاجلا، وسيكون بإمكاني التواصل معك."
لقد كانت قمّة حياة شبه منفصلة عن العالم الواهن، لذا كان باسل ينوي ترك صلة بينه وبين العالم الواهن في الوقت الذي يكون فيه منشغلا.

لا يمكن أن يسمح لنفسه بإعادة نفس الخطأ. أبدا!
لا يمكن القول أنّه أخطأ عندما ذهب إلى ذلك العالم الثانويّ لوحده. لم يمكن لأحد آخر الذهاب معه أصلا. لقد احتاج الشخص لمهارة عاليّة للغاية أو هبة كـالحكمة السياديّة حتّى يجد الطريق إلى ذلك العالم الثانويّ، لذا حتّى لو ترك أيّ أحد خارج مجال العالم الثانويّ ليسمع الأخبار، لن يستطيع ذلك الشخص الدخول إلى مجال العالم الثانويّ حتّى يبلغه بالرسالة.
ومع ذلك، كان باسل حريصا أكثر بعدما حصل ما حصل.
أجابت لمياء فورا: "حاضر يا سيّدي."
استدار باسل ثمّ تحرّك نحو حياة بدون أيّ كلام آخر.
التصق بـحياة ثمّ بدأ يتسلّقها، وبعدما ارتفع حوالي خمسة أمتار، لحقته لمياء والآخرون. لم ينطق بأيّ كلمة، ولم يتكلّموا هم أيضا. كان التسلّق هادئا للغاية.
حرصوا كلّهم على مراقبة باسل، وتبعوا كلّ حركة منه، ونسخوا حتّى تعبيراته، لكنّهم فقدوه فجأة.
استغربوا كلّهم عند حدوث هذا، لكنّهم تعجّبوا أكثر عندما وجدوا باسل أسفلهم بعدما كان فوقهم ببضعة أمتار.
استمرّ ارتباكهم أكثر وخصوصا بعدما صاروا متفرّقين تماما بالرغم من اعتقادهم أنّهم سلكوا نفس المسار. كان بعض الأشخاص يجدون باسل بجانبهم وبعض آخر كان يراه ينزل من الشجرة وليس يتسلّقها.
وفي نهاية المطاف، اختفى باسل تماما عن الأنظار ولم يره بعد ذلك أحد.
حاولوا بعد ذلك تسلّق حياة، لكنّهم كانوا يجدون أنفسهم في بعض الأحيان في نقطة البداية كما لو نُقِلوا إلى هناك، أو كانوا يجدون أنفسهم في مسار آخر.
ابتسمت لمياء وتمتمت: "لهذا قال أنّ تسلّق حياة ليس بشيء يُعلّم."
استمرّت في التحرّك بدون توقّف بينما تفكّر في الحلول. الطريقة التي تغيّرت بها أماكنهم واختفاء باسل المفاجئ. كلّ هذا عنى أنّ هناك مسارا واحدا فقط يجب على الشخص إيجاده.
كان هناك شيء يشغل بالها. هل كان تغيّر مكان باسل المفاجئ قصدا منه أمّ أنّه وجد نفسه في مكان آخر كما حدث لهم.

فكّرت في الأمر بعناية. لقد كان باسل هو الوريث الشرعيّ وقد سبق وتسلّق حياة إلى قمّتها من قبل بسلاسة، لذا لا بدّ وأنّه يعلم عن المسار تماما. لا يمكن أن يجد نفسه في مكان آخر بدون دراية منه، إذن لا بدّ وأنّه اتّخذ مسارا شاذا جعله ينزل مرّة أخرى. لقد كان الأمر كالمتاهة. متاهة مرسومة على الشجرة.
استمرّت في محاولاتها اليائسة لكنّها استسلمت في نهاية المطاف كما فعل الآخرون قبلها. لقد أطالت البقاء هناك أصلا. كلّ شخص استسلم منذ وقت طويل بالفعل.
ما كان غريبا في كلّ هذا، هو أنّهم عندما حاولوا النزول من الشجرة، لم يطرأ معهم أيّ شيء غريب. نزلوا بشكل طبيعيّ من حياة كما لو كانت شجرة عادية.

زادت دهشتهم عندما لاحظوا هذا الأمر وتحسّروا في نفس الوقت. كيف لهم أن يتسلّقوا حياة إن كان المسار الذي يؤدّي إلى القمّة شاذا لهذه الدرجة؟
لكن على الأقلّ...
'أظنّ أنّني فهمت قليلا ما يجب عليّ فعله. سأعزل نفسي لبعض من الوقت بعد الاختراق إلى المستويات الروحيّة وأشحذ حواسّي وأتواصل مع وحشي النائم.'
كانت لمياء هي الشخص الذي فكّر في هذا ولم تقله بصوت مرتفع. لقد كان هذا اختبارا فرديّا وشخصيّا لكلّ واحد منهم، لذا حتّى لو كانت قد توصّلت إلى استنتاج معقول، قد لا يكون ذلك هو الأمر بالنسبة لشخص آخر. كانت ما تزال تذكر كيف قال باسل أنّ اختبار حياة ليس بشيء يُعلّم.
هناك مسار واحد، لكن كيفيّة إيجاد كلّ شخص لذلك المسار تعتمد على الشخص بحد ذاته. قد تنجح طريقة ما مع أحدهم، ولكن لا تنفع مع أحد آخر.
لماذا؟ لأنّ حياة لن تسمح بذلك في اختبارها أبدا.
حسمت لمياء أمرها بدون علم أحد: 'عليّ أن أحسّن من قدراتي، وليس كساحرة، بل كـوحش نائم، حتّى أستطيع أن أربط روحي بـحياة، لأنّني أظنّ أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة لإيجاد المسار وتعلّم كيفيّة عبوره.'
قال أحد الوحوش النائمة بعدما لم يستطع التحمّل أكثر: "إنّه فريد للغاية."
نظر إليه الجميع، وفهموا تماما ما كان يعنيه. لقد كانوا كلّهم منبهرين من باسل.
لقد كان يقتصر الأمر على الوحوش النائمة والوريث الشرعيّ فقط عندما يتعلّق الأمر بالرخصة للاقتراب من حياة ومحاولة تسلّقها، ولكن كان الوريث الشرعيّ هو الوحيد فقط في هذا الوجود من كان قادرا على بلوغ قمّة حياة.
لقد كان السبب بسيطا؛ لقد كان الوكر الحقيقيّ للوحش النائم يقع في قمّة حياة، وهناك كانت تلك النخلة العتيقة.
تلك النخلة لوحدها كانت كنزا يمكنه إثارة المشاكل بين العوالم، لكنّ باسل كان قد أخذ من جانبها تمر الحياة الجديدة ومن قمّتها ذلك الصندوق الفخّار اللذين كانت قيمتهما أكثر بكثير من الشجرة بنفسها.
قال خليفة حاكم الجوّ بصوته الأخنّ الحادّ: "قد نكون محظوظين في الواقع لأنّه 'هو' وريثنا الشرعيّ."
ابتسم الجميع واتّفقوا مع كلامه. لقد كان باسل مميّزا فقط، لكن حتّى الوحوش النائمة ما زالت لم تعلم عن تميّز باسل الحقيقيّ.
لقد كان العالم الواهن منغلقا عن بقيّة العوالم حتّى قبل الختم، لذا لم تكن هناك أيّ طريقة لمقارنة مواهب العالم الواهن مع المواهب من العوالم الأخرى.
***
جلس باسل تحت النخلة في العالم الثانويّ الذي امتدّ برماله الصحراويّة في الآفاق. لقد كانت هذه النخلة هي الشيء الوحيد البارز هنا، كما لو أنّ هذا العالم بُنيَ من أجلها، مع العلم أنّها كانت هشّة وبدت كأنّها ستسقط في أيّ لحظة.

لقد كان باسل متدبّرا، محاولا إيجاد الحلّ الأمثل لحالته.
'الآن، بعدما توصّلت لفكرة نظريّة العناصر البدائيّة، لا يمكنني أن أضيع فرصة تجربتها أبدا. أريد أن أعلم ما الذي سيحصل عندما أنجح في تكامل العناصر البدائيّة. أريد أن أعلم كيف سيؤثّر ذلك على روحي وعلى رؤيتي للعالم. أيّ علوّ يمكنني بلوغه؟'
كان باسل متشوّقا للغاية ومتحمّسا كثيرا للوقت الذي يبلغ فيه مستويات روحيّة لم يسبق لأحد أن بلغها. أراد أن ينظر إلى العوالم من تلك القمّة حتّى يراها جيّدا. كلّما استطاع الارتفاع، زاد اتّساع المنطقة التي يمكنه رؤيتها.
'يمكنني اختيار عنصر الثلج أو عنصر الجليد بدل عنصر الماء، لكنّني سأختار عنصر الماء نظرا لكوني أملك عنصريْ النار والرياح اللذين يُعدّان عنصران رئيسيّان. يجب أن أختار عنصرين رئيسيّين فقط لأجعل من التوازن مثاليّا أكثر.'
"عنصر الريّاح سيدعم عنصر النار، كما سيدعم عنصر الماء عنصر الأرض. ستكون الروح الأولى مسؤولة عن إنتاج الدمار بينما تهتمّ الروح الثانيّة بزيادة الحيويّة."
لقد كانت هذه هي الفكرة الأولى التي توصّل إليها باسل. الدمار والحياة. متعارضان لكن ثابتان. طالما يكون حريصا للغاية، وينتبه كي لا يخطئ أبدا في حساباته وتدريباته وتدبّره، فيمكنه الحفاظ على مستوى من التوازن بين الروحين بشكل غير مسبوق.

يبقى عنصر التعزيز فقط.
لم يكن باسل قلقا للغاية بشان عنصر التعزيز. فالبرغم من أنّ هذا العنصر كان في الروح الأولى برفقة عنصريْ الريّاح والنار، إلّا أنّه لم يكن عنصرا يمكن أن يخلّ بالتوازن الذي سيتشكّل بعد اكتساب عنصريْ الماء والأرض في الروح الثانيّة.
لم يكن عنصر التعزيز متعلّقا بالطبيعة كما كانت العناصر الأربعة الأخرى. طالما تحافظ العناصر البدائيّة على التوازن بينها، فعنصر التعزيز لن يخلّ بذلك التوازن طالما لا يستخدمه باسل من أجل ذلك الغرض بالتحديد.
كان عليه الآن البدء في استشعار طاقة العالم مستخدما الحكمة السياديّة، ولكن قبل هذا...
تكلّم باسل: "أحتاج لمساعدتك يا حياة."
لم تمرّ ثانيّة واحدة حتّى رنّ طنين في عقل باسل. كان الطنين هادئا وليس مزعجا، وحمل آثارا مسكِّنة للروح. شعر باسل أنّه ينغمس في تدبّره أكثر فأكثر، كما لو كان يسقط ببطء وراحة في أعماق ليس لها نهاية.
لقد قال باسل فيما سبق أنّ الوحش النائم غرس حياة أملا في غدوّها ذات يوم 'شجرة عالم'.
لو أراد باسل استشعار طاقة العناصر السحريّة المتنوّعة بالعالم الواهن، فحياة كانت الوسيط الأفضل لفعل هذا.
لربّما لم تكن شجرة عالم بعد، لكنّها غُرِست من أجل أن تصبح شجرة عالم وقد عمّرت في العالم الواهن ألف ألفيّة وألف سنة، حتّى أنّها تغذّت على الوريد التنّينيّ طوال تلك السنوات، وهذا كان كافيا لباسل حتّى يبلغ مراده.

لم يمر وقت طويل حتّى وجد باسل نفسه في عالم مظلم، لكنّه لم يكن مظلما تماما، فبين الحين والآخر، ومضت بعض الأضواء في الأفق واختفت بسرعة كيراعات تنتهي حياتها.
علم باسل أنّ تلك اليراعات تمثّل طاقات العناصر السحريّة التي تتراقص هنا وهناك لتختفي بين طيّات طاقة العالم الهائلة.
كان عليه أن يجد أيّها هما عنصرا الماء والأرض، ويمتصّ قدرا كافيا منهما في روحه الثانيّة.
كان عليه أيضا أن يمتصّ العنصرين في وقت واحد وبنفس مقدار عنصريْ النار والريّاح حتّى يحافظ على التوازن، ويطبعهما تماما في روحه كما فعل عند اكتساب عنصر التعزيز وعنصر الريّاح.
تذكّر باسل معلّمه في هذه اللحظات. لولا الحكمة السياديّة، لما كان قادرا على فعل كلّ هذا. تذكّر اللحظات الأخيرة لمعلّمه، وكلماته الأخيرة التي تردّدت في أعماق روحه عندما كانت الحكمة السياديّة تُمرّر له.
(لــك كــلّ مــلــكــت يــومــا يــا ابــنــي!)
كان باسل سعيدا وحزينا في نفس الوقت.
لطالما احترم إدريس الحكيم، حتّى أنّه بدأ يعامله كـأب له، لكنّه لم يرد الإفصاح عن هذا الأمر علانيّة. كان ينوي إخفائه دائما. ومع ذلك، ناداه إدريس الحكيم بابنه.
لقد كان فخورا للغاية، وسعيدا جدّا.
لكن...
علم باسل أنّه ما أن يقبل الحكمة السياديّة، فسيكون عليه أن يقبل حقيقة موت معلّمه، لا، حقيقة موت أبيه الروحيّ.
لقد كان يائسا للغاية، وحزينا جدّا.
كلّ ما كان في وسعه الآن هو تحقيق أماني معلّمه، واتّباع مسار روحيّ يجعل معلّمه فخورا به.
بدأ باسل عمله فعليّا.
***
مرّت بضعة أيّام، وعادت الأمور لمجراها الطبيعيّ أكثر ممّا كانت عليه في العالم الواهن بعد الكارثة الأخيرة.
فقد الكثير من الناس أحبابهم، لكن لم يستطيعوا فعل شيء بشأن ذلك. ماذا هناك ليفعلوه عندما عانى أقوى شخص في هذا العالم مصيرا مثل مصيرهم أو أسوء؟
لم تفرّق تلك الكارثة بين أحد؛ فحتّى النبلاء في جميع أنحاء العالم فقدوا ورثتهم الذين كان لهم مستقبل زاهر وكان من المتوقّع أن يطوّروا من مستوى عائلاتهم.
فمثلا، عائلة كين التي كانت ثاني أقوى عائلة في إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة تلقّت ضربة قاسيّة عندما خُطِف وريثها 'كين نبيل'.
كان كين تشارلي متحسّرا على هذا بشدّة. كان قد فقد ابنه البكر في الحرب ضد القبائل قبل حوالي سبع وخمسين سنة، والآن فقد نبيل الذي كان واعدا. لقد كان في الواقع سيمرّر له الخلافة ما أنّ يبلغ المستوى الرابع عشر، لكنّه لم يعد موجودا.

كان تشارلي يجلس مع تلميذه مارون براون. واجه براون نفس المصير مثل معلّمه؛ فحتّى هو خُطِف ابنه زونغ.
كان الحال نفسه مع كورو هِيْ الذي رافقهم في هذه الجلسة هنا. لقد أخذوا منه أخته الصغرى 'يامي' وابنه 'هيسي'.
كان هؤلاء الثلاثة قريبين من بعضهم، لذا كان يجتمعون للتحدّث بين الحين والآخر، ولكن جلّ حديثهم هذه الأيّام كان عن حسرتهم وخسارتهم. لقد أرادوا أن يفعلوا شيئا، لكن مثلهم مثل أيّ شخص في هذا العالم، كانوا ينفّسون عن غضبهم لقليل من الوقت فقط بدون الوصول لحلّ.
مرّت أيّامهم على ذلك الحال، حتّى بدؤوا يتقبّلون الواقع القاسي.
لقد خسروا عائلتهم، دمهم ولحمهم، لكن ليس عليهم أن يخسروا أنفسهم أيضا.

قرّروا في هذا اليوم أن يعلنوا عن الورثة الجدد لخلافتهم.
لقد كانوا من عائلات كبيرة، وكان للورثة السابقين إخوة صغار، لذا عليهم الآن أن يصرفوا مجهودهم في تحسين هؤلاء الورثة الجدد.
وفي هذه الأثناء التي كانوا يحاولون مناقشة أعمال عائلاتهم، اتّصل أحدهم بالجنرال براون.
استأذن معلّمه وصديقه هِيْ ثمّ أجاب: (ماذا هناك يا رعد؟ ألم تقل أنّك مشغول ولن تكون متاحا في هذه الأيّام؟)
كان الجنرال براون قلقا منذ البداية. لقد علم أنّ شيئا طارئا قد حلّ بعدما اتّصل الجنرال رعد الذي كان من المفترض أن يكون منعزلا.
سرعان ما سمع الجنرال براون ردّا جعله يقف مستقيما بسرعة كبيرة، فاتحا عينيه على مصراعيهما.
"(ماذا؟!)"
أثار صراخه المفاجئ قلق هِيْ وتشارلي أيضا.
بلع الجنرال براون ريقه ثمّ أنهى الاتّصال بعدما سماع كلّ المعلومات من الجنرال رعد: (حسنا. سنرتّب كلّ شيء هنا تباعا للنظام.)
حدّق بعد ذلك إلى معلّمه وصديقه اللذين كانا ينتظرانه يتكلّم بفارغ الصبر. أيّ كارثة حلّت هذه المرّة؟
تكلّم بعدما أخذ رشفة من المشروب أمامه ليرطّب حلقه الذي جفّ بعد آخر ريق بلعه: "لقد بدأ الأمر. حشدٌ من الوحوش السحريّة متوجّه ناحيّة إمبراطوريّتنا من سلاسل الجبال الحلزونيّة، وبالطبع، وحش روحيّ مسؤول عن هذا."
لقد قال باسل ذات مرّة أنّ العالم الواهن سيتحوّل كلّه لمنطقة محظورة بعد التحوّل الروحيّ للعالم، لكن تُجُنِّبَت الكوارث التي كانت ستنتج عن هذا بعدما أمر باسل بالقضاء على الوحوش السحريّة بالمستوى الرابع عشر.
لقد كانت تحتاج الوحوش السحريّة لوقت أطول للانتعاش بعد القضاء عليها وجمع أحجار أصلها، ولهذا نعم العالم الواهن بالسلام حتّى الآن، لكن لم يُقضَ على جميع الوحوش بالمستوى الرابع عشر في العالم الواهن، لذا بدأ هذا الأمر الذي كان من المفترض أن يبدأ بوقت أبكر وبشكل أفظع بكثير.
فبدلا من حشود متعدّدة من الوحوش السحريّة تعيث فسادا في جميع أنحاء العالم، ظهر حتّى الآن هذا الحشد فقط.
لقد كانت النتائج أكثر من جيّدة.
وقف الجنرال تشارلي وداعب لحيته ثمّ كشّر عن أنيابه: "هذا جيّد للغاية. لقد كنت أتوق للتنفيس عن غضبي طيلة الأيّام الماضيّة."
تنهّد الجنرال هِيْ بعدما وقف بعده: "أوافقك الرأي تماما."
أحكم الجنرال براون قبضتيه ثمّ قال: "لنسحق تلك الوحوش اللعينة حتّى لا يبقى شيئا منها."
خرج الثلاثة من الغرفة التي كانت غرفة خاصّة بلقاءاتهم في قصر عائلة كين.
تكلّم الجنرال تشارلي: "لنستعدّ جيّدا لهذا أوّلا. ما زلت لا أريد الموت، فكما تعلم، لقد تأجّل تقاعدي."
نظر بعد ذلك إلى تلميذه وهِيْ ثمّ أضاف: "سأكون في الطليعة هذه المرّة."
ابتسم الاثنان. لقد فهما أنّ الجنرال تشارلي كان يخبرهما أن يرافقاه.
تكلّم الجنرال براون بعدما أومأ رأسه مثل الجنرال هِيْ: "بالطبع سنكون هناك أيضا، لكن كما قلتَ، لا يجب أن نموت الآن. ما زالت هناك أعمال كثيرة علينا الاعتناء بها. ولهذا، فلنتّصل بالجنرال الأعلى."
ابتسم الجنرال تشارلي وردّ: "وما الذي كنت تتوقّعه عندما قلت أنّه يجب علينا الاستعداد جيّدا أوّلا؟"
ضحك الجنرال هِيْ وردّ: "متّفق معك مرّة أخرى. أفضل استعداد لما هو قادم هو وجود الجنرال الأعلى هنا، أوّل ساحر روحيّ بعالمنا."
بدأت الحيويّة تعود لهؤلاء الثلاثة.
ومثلما كانوا محبطين وصاروا متحمّسين بهذا الشكل، كذلك كان الكثير من الأشخاص.
لقد أراد العديد التنفيس عن غضبهم الذي لم يعلموا أين أو كيف يوجّهونه.
لقد كانت هذه هي الفرصة المثاليّة.
ولكن...
على عكس هؤلاء الثلاثة الذين لم يشكّوا للحظة في باسل بعدما رأوا ما فعله منذ ظهوره في حياتهم، كان هناك العديد من الأشخاص الذي كانوا يشكّون في ظهوره، وخافوا من غيابه.
"لو كنت سأموت وأنا أنتظر معلّقا آمالي على شخص لن يظهر بسبب جبنه، فسأختار على الأقل الموت وأنا أقاتل حتّى آخر رمق منّي. لن أموت بينما أنتظر أحدهم كي ينقذني."
كان هناك العديد من الأشخاص الذين فكّروا بهذه الطريقة.
لم يستطع أحد لومهم، لكن أولئك الذين وثقوا في الجنرال الأعلى كانوا منتظرين، منتظرين ظهور باسل الذي سيغيّر نظرة ذلك النوع من الأشخاص إليه من جديد، ويثبت لهم أنّهم هم الذين وثقوا فيه كانوا على حقّ.
***
وضعت لمياء يدها على حياة ثمّ انتظرت بفارغ الصبر كلمة من باسل. لقد أخبرها أن تأتي وتفعل هذا إذا حدث شيء طارئ وسيتواصل معها.
لكن...
"لماذا لا يتواصل معي؟"
تعرّق جبين لمياء كثيرا بعدما مرّت بضعة دقائق منذ أن وقفت هناك ولم تشهد أيّ تغيّر يطرأ.

***
بعد مرور أيّام عديدة من المحاولات المتتاليّة، وصل باسل إلى نتيجة مرضيّة أخيرا. لقد كانت الحكمة السياديّة شيئا مذهلا للغاية، واستطاع أن يرى ويحلّل ويتحكّم في كلّ شيء بشكل حكيم.
كان باسل مجرّد سيّد روحيّ (نوعا ما)، لذا تمكّن من استغلال الدرجات الثلاث من الحكمة السياديّة بشكل أقلّ بكثير عمّا كان إدريس الحكيم يستطيع فعله بمستواه الروحيّ، لكن بالرغم من ذلك، كان ذلك كافيا له حتّى يجعل روحه الثانيّة كاملة.
بالطبع لم يكن كلّ هذا بلا ثمن فحتى الآن، ما زال جسده وروحيْه يعتادان على الحكمة السياديّة التي اكتسبها بشكل غير 'طبيعيّ'، ولهذا كان جسده يتمزّق وروحاه تُحرقان في كلّ مرّة يستخدمها فيها.
ومع ذلك، كان باسل صبورا طوال الوقت. نعم، طوال الوقت، فهو كان يستخدم الحكمة السياديّة باستمرار حتّى يقمع الشؤم الذي كان يقبع في روحه الثانيّة. كان عليه أن يحجز السارق الخسّيس بالحكمة السياديّة طوال الوقت حتّى يستطيع أن يشعر بالهناء.
والآن بعدما نجح باسل في اكتساب العنصرين اللذين أرادهما، كلّ ما تبقّى هو الاستحواذ على روح وحش روحيّ آخر، لكن يجب عليه بكلّ تأكيد أن 'يخترع' تقنيّة تكامل تأصليّ.
يجب عليه أن يضع في الاعتبار العناصر البدائيّة كلّها أثناء اختراعه للتقنيّة.
كانت تقنيّات التكامل التأصليّ هي ما يسمح للسحرة الروحيّين بتنميّة أنفسهم وبناء عوالمهم الخاصّة، وذلك بجعل الروح تتكامل تماما مع روح الوحش وتتأصّل.
كانت هذه التقنيّات تختلف من واحدة لأخرى. كان الاختلاف الأهمّ بينها هو المستوى الذي تقف عنده إمكانيّات تقنيّة التكامل التأصليّ.
فمثلا، تقنيّة التكامل التأصليّ التي تدرّب عليها إدريس الحكيم وإبلاس كانتا من التقنيّات التي تسمح للساحر ببلوغ مستوى سلطان أصليّ حتّى، لكن كانت هناك تقنيّات تكامل تأصليّ حدودها كان عند مستويات أقلّ من ذلك بكثير.
وبالطبع، كان باسل في حال أسوء من ذلك بكثير.
فالآن، كان عليه أن يخترع تنقيّة تكامل تأصليّ يمكنها على الأقلّ أن تجعله سيّدا روحيّا حقيقيّا قبل أن يفكّر في أيّ شيء آخر. لم يكن لديه الوقت ولا الإمكانيّات لاختراع تقنيّة تكامل تأصليّ تقع حدودها في مستوى أكبر من نطاق الأرض الواسعة.
كان يعلم بالفعل ما عليه أن يفعل على الأقلّ. لقد قرّر أن يجعل الروح الأولى تناشد الدمار، بينما تركّز الروح الثانيّة على الحياة، كـ'مفهوم'.
كان عليه أن يخترع تنقيّة تخوّله أن يكمّل روحه الأولى مع روح الوحش الأوّل، ويكمل روحه الثانيّة مع روح الوحش الثاني، وفي النهاية يكمل ما ينتج عنهما ببعض، أيّ يجعل الروح الأولى 'الكاملة المكتملة' تتكامل مع الروح الثانيّة 'الكاملة المكتملة'.

كان الأمر معقّدا بالتفكير فيه فقط، لكنّ درجة تعقيد النجاح فيه كانت لا تُصوّر.
كان باسل سيفعل شيئا شاذا في العوالم كلّها، ولهذا كان واثقا من شيء وخاشيا منه أيضا.
لو ظهر ساحر روحيّ، له روحين وخمس عناصر سحريّة، فكيف ستكون ردّة فعل العالم؟ فقط ما اختبار الجدارة الذي سيكون عليه اجتيازه عندئذ؟
وبعدما فكّر في هاته الأشياء، تذكّر ما كان يؤرّقه لأيّام عدّة. متى سيحصل اختبار الجدارة المعني بالحكمة السياديّة التي تلقّاها بطريقة غير طبيعيّة؟ إن لم تُختبر جدارته على شيء كهذا، فماذا هناك ليُختبَر عليه إذن؟
لقد كان باسل متأكّدا أنّ اختبار الجدارة قادم لا محالة. لربّما كان ما يزال ضعيفا الآن ولا يستخدم الحكمة السياديّة بشكل غير طبيعيّ جدّا لذا لم يثر الاختبار؟ أو ربّما هناك تفسير آخر منطقيّ أكثر؟
على أيّ حال، يجب عليه أن يكون في أهبة الاستعداد.
صرف وقته بعد ذلك في التلاعب بالعناصر البدائيّة حتّى يكتسب فهما أعمق بكثير من الذي كان لديه أصلا (الذي جاء عبر الحكمة السياديّة)، وقرّر في نهاية المطاف أن يعتمد في اختراعه للتقنيّة النهائيّة على تقنيّتيْ تكامل تأصّلي بجعلهما تقنيّة واحدة.
عنى هذا الأمر أنّه عليه حذف كلّ ما يمكن أن يتعارض بينهما، وتعزيز كلّ ما يمكن أن يجعل تكاملهما أقوى، وأن يعيد صياغتهما من جديد كتقنيّة واحدة، وذلك بتوحيد أسلوبهما ونمطهما وخواصّهما... إلخ.
لقد كانت لديه معرفة شاسعة عمّا بحث فيه الحكماء عبر العصور بسبب ما جاءه عبر الحكمة السياديّة، لكنّ معرفته هذه ازدادت موثوقيّة وفعّاليّة عندما طبّقها على أرض الواقع وليس فرضيّا كما اضطرّ الحكماء القدماء أن يفعلوا.
لقد كان شخصا يملك العناصر البدائيّة كلّها، لذا استغلّ كلّ تلك المعرفة الهائلة في اختراع ما يمكن أن يجعل العناصر البدائيّة تتكامل.
"النار، الريّاح، الماء، الأرض."
عبس باسل لأوّل وقال: "يمكنني أن أرى الآن العلاقة التي تجمع هاته الأشياء بالضبط."

"كما يمكن للنار أن تدمّر، يمكنها أن تمنح الدفء والضوء للحياة أيضا. وفي حالة الماء، فـبه توجد الحياة، وبعدمه تختفي. يمكن القول أنّ الماء له خواصّ الهدوء والسكون والبرودة التي يتّصف بها الموت بينما تتّصف النار بحرقة الحياة."
"توجد الرياح (أو الهواء) والأرض من أجل دعم النار والماء معا وترسيخ نظام هذا العالم الذي يجعل الحياة والموت شيئا طبيعيّا."
أكمل باسل تحدّثه مع نفسه وتتبّع نفس المبدأ الذي أسّسه في الأوّل.

***
"دورة الحياة والموت!"
صرّح باسل بهذا الاسم ثمّ أنهى لمساته الأخيرة على تقنيّة التكامل التأصليّ التي كان هدفها الأوّليّ هو تكامل العناصر البدائيّة.
لقد كانت العناصر البدائيّة ترمز في هذه التقنيّة التي اخترعها باسل إلى الدمار والحيويّة اللذين يتعارضان لكن يبقيان بعضهما متوازنين، مثلما يفعل النور والظلام، والأسود والأبيض، والشمس والقمر، والحياة والموت.
وبالتالي، كانت تقنيّة التكامل التأصليّ قد اكتملت وصارت 'دورة الحياة والموت'.
كانت هذه هي اللحظة التي اختُرِعت فيها تقنيّة جديدة في العوالم الروحيّ، تقنيّة لم يسبق لها مثيل، تقنيّة ستحيّر الحكماء والسلاطين لأجيال قادمة.
ولكن...
"كلّ ما يمكن لهذه التقنيّة فعله حاليّا هو أنّ تجعلني أكمل مستوى نطاق الأرض الواسعة."
كانت إمكانيّاتها محدودة، وكثيرا.
"عليّ أن أبحث عن موارد أخرى من أجل أن أزيد من إمكانيّتها. يبدو أنّه سيكون عليّ تطوير التقنيّة في كلّ مرّة من أجل الاختراق إلى المستوى التالي."
كانت هذه إحدى العقبات التي يجب على باسل تجاوزها. فعلى عكس التقنيّات الموجودة عبر التاريخ والتي بلغت أقصى إمكانيّاتها، كانت التقنيّة التي اخترعها باسل متأخّرة كثيرا.
وليس ذلك فقط...
"هذا بدون ذكر أنّه سيكون علي فعل ضعف كلّ ما يحتاجه أيّ ساحر روحيّ للنموّ."
كان عليه أن ينمّي روحين وليس واحدة فقط، وهذا عنى أنّه سيحتاج لضعف الموارد وربّما أكثر إن فكّر في أنّه عليه جعل الروحين متكاملتين.
لقد كان النموّ الروحيّ لوحده صعبا للغاية، ولهذا ليس هناك سوى عدد قليل للغاية من السحرة الروحيّين مقارنة بالسحرة، لكنّه الآن عليه أن يتجاوز ما هو أصعب من ذلك بمراحل عدّة.
بالطبع لم يُحبط باسل بسبب هذا.
"لكن في المقابل، سأنتفع من ضعف إمكانيّات أيّ ساحر روحيّ بنفس مستواي ولربّما أكثر حسب فعّاليّة 'دورة الحياة والموت'."
نهض باسل ثمّ مشط شعره للخلف وتطلّع إلى قمّة النخلة.
لقد أحبّ ذلك الطائر الخرافيّ النخل، لكن ليس أيّ نخل، بل نوع فريد من النخل كان يوجد في عالم خرافيّ. وبسبب حبّه لذلك النوع الفريد، صار يحبّ حتّى الأشجار التي تشبهه في هذه العوالم.
لقد كان يعلم باسل لماذا زرع الوحش النائم هذه النخلة هنا. فكما أراد الوحش النائم من 'حياة' أن تكون شجرة عالم ذات يوم، أراد من هذه النخلة أن تصير نخلة فريدة مثل التي كانت في العالم الخرافيّ.

ابتسم باسل وقال: "إنّه يحبّ الغرس على ما يبدو، أو ربّما يشعر بالحنين؟"
كان يمزح مع نفسه فقط.
لقد كان يعلم تماما عن المخطّط المستميت الذي وضعه الوحش النائم حتّى فكّر في غرس هاتين الشجرتين. كلّ هذا من أجل اليوم الموعود الذي يعود فيه إلى الوجود، ولربّما إلى العالم الخرافيّ.
التفت باسل بعدما أنهى غرضه هنا وحاول أن يودّع حياة، إلّا أنّه رأى شيئا لا يُصدّق.
لا، لم يكن شيئا، بل شخصا.
لقد كان باسل يعرف هذا الشخص تمام المعرفة.
هل كان يرى أوهاما؟ مستحيل! لقد استخدم رؤيته الحكيمة السحيقة، فعلم أنّ ذلك لم يكن وهما.
لكن لم يستطِع أن يرى أيّ شيء آخر غير صورة ذلك الشخص.
كان الأمر كما لو أنّ صورة ذلك الشخص كانت ها هناك، إلّا أنّه لم يكن موجودا هناك.
كان ذلك شعورا معقّدا للغاية.
بلع باسل ريقه ونطق اسم ذلك الشخص: "الجدّ عليّ؟!"
بالفعل، كان الشخص أمامه هو الجدّ عليّ، بائع ومزارع الجزر، الشخص الذي عامله باسل كجدّ له وتلقّى منه النصائح أحيانا، الجدّ الذي جعله يدمن الجزر واقترح عليه الزراعة.
عبس باسل وقال: "لم أفهم شيئا عندما تذكّرتك ولم يتذكّرك أيّ شخص آخر في هذا العالم، كما لو أنّك اندثرت من عقولهم، لا، كما لو لم تكن موجودا أصلا. فقط أين ذهبت؟ ما هويّتك؟"
كان الجدّ عليّ يقف هناك بدون أيّ حركة. لم يقل شيئا ولم يفعل شيئا.
كان باسل مستغربا كثيرا. هل يمكن أنّه بدأ يفقد عقله أخيرا بعدما استعمل الحكمة السياديّة كثيرا حتّى صارت لا تعمل لتحافظ على سلامة عقله كالعادة؟
لا، لقد استخدم الرؤية السحيقة الحكيمة قبل قليل.
كانت هناك الكثير من الأسئلة التي يودّ طرحها على الجدّ عليّ، لكنّه يرَ أيّ تصرّف يدلّ على أنّه من كان أمامه هو الجدّ عليّ أصلا.

لقد كانت تلك مجرّد صورة للجدّ عليّ. نعم، مجرّد صورة، وإلّا كيف يمكن تفسير وجود الجدّ عليّ بالرغم من أنّ باسل كان يشعر أنّ الشخص أمامه غير موجود.
زاد الأمر تعقيدا بالتفكير في هذا. ولهذا، توقّف باسل عن التفكير وسأل مرّة أخرى: "هل أنت الجدّ عليّ؟"
لم تتغيّر تعبيرات الجدّ عليّ. لم يتحرّك إنشا واحدا.
كلّ ما فعله الجدّ عليّ هو المراقبة. لقد كان يقف هناك ببساطة كما لو أنّه يحاول استنباط شيء ما، أو تقرير شيء ما.
صعدت القشعريرة مع جسد باسل فجأة.
أحسّ أنّ هناك شخصا ما، لا، بل شيئا ما يرى من خلاله من جميع الزوايا، هذا مع وضع الحكمة السياديّة في عين الاعتبار.

حتّى لو كان الساحر الروحيّ في مستويات السلطنة، فهناك أشياء لا يمكنه رؤيتها عبر غطاء الحكمة السياديّة، إلّا إذا امتلك هبةً ما تجعله مخوّلا لفعل ذلك.
ولكن...
كان الأمر مختلفا تماما مع الجدّ عليّ.
لقد شعر باسل أنّ هذا الشخص أمامه يراه كـكتاب مفتوح. أو للدقّة، شعر باسل أنّه كان 'الكتاب'، وكان ذلك الشخص أمامه 'مؤلّف' ذلك الكتاب.
فجأةً، التفت باسل مرارا إلى مختلف الجهات، وذلك حتّى يرى ما إذا كان هناك شخص يتربّص عليه. شعر أنّه مراقب من جميع الزوايا.
لقد كان ذلك مجرّد وسواس.
حكيم سياديّ تمكّن منه الوسواس.
سخر باسل من هذه الفكرة قبل أن يستقيم ويحدّق مرّة أخرى إلى ما أو من يفترض به أن يكون الجدّ عليّ.
غيّر باسل سؤاله مرّة أخرى: "ما هدفك؟"
لقد أراد أن يعلم ما كان هدف هذا الشخص أوّلا.
حليف أم عدوّ؟
لقد كانت هذه قمّة شجرة حياة التي لا يمكن لأحد دخولها سوى الوريث الشرعيّ والوحش النائم بنفسه، فكيف لهذا الشخص أن يدخل إلى هنا؟
يجب أن تكون أولى الأولويّات الآن هي ضمان سلامته وسلامة هذا العالم الثانويّ. عليه أن يعلم ما إذا كان القتال هو الخيار الأنسب أم الحديث.
ومع ذلك، صموت الجدّ عليّ حتّى بعد ذلك السؤال جعل من خيار الحديث غير مناسب بتاتا.
لم يعلم باسل ما كانت هوّيّة الجدّ عليّ حتّى يندثر من الوجود بتلك الطريقة، لكنّه لم يهتمّ بهذا الآن.
لقد قطع وعدا مع الوحش النائم، ويجب أن يوفي به.
لقد كان عليه أن يبقى حيّا من أجل إيجاد أنمار والآخرين.
لقد كان عليه أن ينتقم لعائلته والمقرّبين منه.
لقد كان عليه أن يحقّق أمانيه وأماني معلّمه.
لو كان ذلك اَلجدّ عليّ حقّا، فكان ليشارك باسل الحديث بكلّ شغف كما اعتاد أن يفعل دائما، لكنّه لم يفعل.
لقد سأله باسل مرارا لكنّه لم يجب، لذا كلّ ما تبقّى فعله هو حماية هذا المكان وحماية نفسه.
استعدّ باسل للقتال، وفقط عندما اتّخذ وضعيّته وكان مستعدّا للسماح لذلك الأبله بالظهور مجدّدا في هذا العالم، لاحظ شفتيْ الجدّ عليّ تتحرّكان.
[شاذ.]
لم يرمش باسل مرّة أخرى حتّى كان الجدّ عليّ قد اختفى من هناك تماما.
زرع الجدّ عليّ الرعب في باسل واختفى مرّة أخرى كأنّه لم يوجد في الوجود من قبل.
تسارعت ضربات قلب باسل كثيرا لمّا تذكّر ما قاله الجدّ عليّ بصوته الغريب الذي كان خاليا من أيّ ذرة من الخواصّ.
"'شاذ.' إنّه بكل تأكيد يشير إليّ. لا يمكنني التفكير في شيء آخر."
كان باسل هو الشذوذ بنفسه إن لم يكن شاذا.
"لكن... فقط من يكون بالضبط؟ اللعنة! هذا سيؤرقني لأيّام مرّة أخرى. لقد فكّرت فيه لمدّة طويلة بالفعل لكنّني لم أصل لأيّ نتيجة."
تذكّر باسل نصيحة معلّمه: (يا أيّها الفتى باسل، إنّك لست بواهم، فقط يبدو أنّ الشخص الذي تبحث عنه غير موجود. اسمعني ولا تسألني. لم يكن الشخص الذي تبحث عنه موجودا قطّ، لذا ليس من الغريب ألّا يتذكّره أحد. ستفهم ذات يوم.)
لم يفهم حتّى إدريس الحكيم من أو ما كان الجدّ عليّ في تلك الأثناء، لذا قال ما قال لـباسل. لقد كان يعلم أنّه سيحين وقت ما في المستقبل ويعلم باسل حقيقة ما جرى.
أحكم باسل قبضتيه بعدما تذكّر كلمات معلّمه العميقة، ونقشها مرّة أخرى في أعماق قلبه. لا يجب عليه أن يسأل الآن، لأنّه سيعلم عندما يحين الوقت المناسب لذلك. هذا ما أخبره به حدسه على الأقلّ.
وفقط عندما خلا عقله من هذه الأفكار وعاد لصفائه، لاحظ أنّ لمياء كانت تحاول الاتّصال به منذ وقت طويل.
يبدو أنّ باسل استغرق وقتا طويلا للغاية في التفكير بين كلّ سؤال وسؤال طرحه على الجدّ عليّ(؟) بالرغم من أنّه شعر بمرور الزمن بسرعة. زاد هذا الأمر من شعور باسل بالتنمّل فقط.
تنهّد مرّة أخرى واتّصل بلمياء: (ماذا هناك؟)
أحسّ في هذه الأثناء أنّ لمياء تنفّست الصعداء وعادت الروح لجسدها.
أضاف قبل أن تجيبه لمياء حتّى: "هل هو حشد من الوحوش؟"
كان حشد الوحوش السحرية يتجه الي الشعلة القرمزية، ولم يبدوا أنه سيتوقف الا بعدما يمسح البشر من علي وجه القارة
................يتبع!!!!!!
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

أعلى أسفل