• سجل عضوية لنشر مواضيع ومشاركات ومحادثة الأعضاء بدون إزعاج الإعلانات

مكتملة واقعية سلسلة عالم المعرفة * تغير العقل * كيف تتيح التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا * (1 مشاهد)

قيصر ميلفات

مغلق للتوبة
مستر ميلفاوي
كاتب ذهبي
عضو
ناشر قصص
ناشر صور
ميلفاوي متميز
ميلفاوي كوميدي
ميلفاوي شاعر
ناشر موسيقي
ميلفاوي سينماوي
ميلفاوي نشيط
ناشر قصص مصورة
ناشر محتوي
مترجم قصص
نجم ميلفات
ملك الصور
إنضم
30 مايو 2023
المشاركات
5,815
مستوى التفاعل
4,878
نقاط
1,380
النوع
ذكر
الميول
طبيعي
ظلت األحداث التي أدت إىل تأليف كتاب
رّ »تغي العقل« تتكشف عىل مدى السنوات
الخمس املاضية، وميكن القول فرتة أطول من
ذلك بكثري – رمبا من دون أن أدري منذ أن
رشعت أبحث يف العلوم العصبية، وبدأت أتفهم
نقاط القوة والضعف يف الدماغ البرشي. والواقع
أن تركيزي الرئيس عىل مدى عدة عقود قد
انصب عىل محاولة اكتشاف اآلليات العصبية
األساسية املسؤولة عن ا َ لخرف، الذي يعني
حرفيا فقدان العقل. ولكن حتى قبل أن أرتدي
املعطف األبيض ألول مرة، كان الذي ميتلك
جاذبية مطلقة بالنسبة ّ إيل هو السؤال األوسع
واأل ّعم حول ما عساه أن ّ يشكل األساس املادي
للعقل نفسه. ويف رحلتي غري التقليدية إىل
أبحاث الدماغ عن طريق الفلسفة الكالسيكية،
ُ كنت دامئا مهتمة باألسئلة الكبرية حول ما
إذا كنا منتلك بالفعل إرادة حرة، وكيف ميكن
للدماغ املادي توليد التجربة الشخصانية للوعي،
وما الذي يجعل كل إنسان فريدا من نوعه.

»يتمثل الهدف الرئيس من كتاب
»تغري العقل« يف استكشاف الطرق
املختلفة التي ميكن أن تؤثر بها
التقنيات الرقمية ليس فقط يف
أمناط التفكري واملهارات املعرفية
األخرى، ولكن أيضا يف منط الحياة،
والثقافة، والتطلعات الشخصية«
املقدمة

10
ّ تغير العقل
ومبجرد وصويل إىل املخترب، صار يف وسعي أن أترجم بعض جوانب هذه
القضايا املثرية إىل أسئلة محددة ميكن اختبارها تجريبيا. ووفقا لذلك، وعىل مر
السنني، أخذت أبحث يف تأثري البيئة املحفزة والتفاعلية ّ »املخصبة« يف العمليات
الدماغية، وكذلك يف إفراز وعمل الدوبامني، املرسال الكيميايئ الدؤوب املتعدد
الرباعات، والذي يرتبط بدوره بالتجارب الشخصانية للمكافأة، والرسور، واإلدمان.
وعىل مستوى تطبيقي أكرث، فقد بحثت يف كيفية عمل عقار الريتالني، الذي
يستخدم لعالج اضطراب نقص االنتباه وفرط الحركة )ADHD)، ويف الكيفية
التي ميكن بها للتبرصات املستمدة من العلوم العصبية أن تسهم يف تحسني
األداء يف الصف الدرايس. ومع ذلك فقد كان هناك دامئا موضوع أسايس مشرتك
بني جميع املجاالت البحثية املتنوعة هذه، مبا يف ذلك أبحاثنا حول االضطرابات
التنكسية العصبية: اآلليات الدماغية املستحدثة، وكيف ميكن تفعيلها عىل نحو
غري مالئم يف املرض، وبشكل أعم، كيف ّمتكن هذه العمليات العصبونية غري
املفهومة متاما حتى اآلن كل واحد منا من التكيف مع بيئتنا الفردية الخاصة – أي
أن نصبح أفرادا.
ساعدت هذه املرونة الرائعة للدماغ البرشي يف انتقال طبيعي سلس إىل التفكري
يف املستقبل، وكيف ميكن لألجيال املقبلة أن تتكيف مع املشهد التكنولوجي
الشديد االختالف الذي سيسود يف العقود اآلتية. وهكذا، ففي العام 2003
)٭(، الذي استكشفت فيه األنواع الجديدة املحتملة من

ّ ُفت كتاب »أناس الغد«
أل
البيئات وأمناط الحياة التي ستجلبها تكنولوجيا املعلومات والتكنولوجيا الحيوية،
وتكنولوجيا النانو مجتمعة. وبدوره قادين هذا العامل املحتمل والشديد االختالف
إىل مزيد من التأمل يف اآلثار املرتتبة عىل الهوية. ويف العام ،2007 عمل ُت عىل
صياغة هذه األفكار يف كتاب »الهوية: البحث عن املعنى يف القرن الحادي
)٭٭(، الذي عمل الحقا كمصدر إلهام لرواية حول املستقبل البائس
والعرشين«
)2121(. ويف كتاب »الهوية«، أرشت إىل أن ثالثة خيارات واسعة قد طرحت نفسها
تاريخيا للتعبري عن الذات. يعرض سيناريو »شخص ما« للتعبري عن الذات عرب
(٭ (Tomorrow’s People.
(٭٭ (ID: The Quest For Meaning In The 21st Century.

11
املقدمة
النزعة االستهالكية هوية فردية دون إشباع حقيقي، يف حني أدى السيناريو البديل
»أي شخص«، والخاص بالهوية الجامعية، إىل اإلشباع املعاكس الذي ُضِّمن يف
رسد ال شخيص أوسع نطاقا. وأخريا، كانت هناك احتاملية »ال أحد« التي تتحقق
تقليديا مع النبيذ والنساء والغناء، حيث يتم إنكار الشعور بالذات ملصلحة كون
املرء متلقيا سلبيا للحواس الواردة. وقد جادل ُت بأنك عند مرورك بوقت »حيس«،
فلن تعود واعيا »بالذات«.
ولكن هل ميكن أن تعمل تقنيات القرن الحادي والعرشين الرقمية الفائقة
الحس عىل إزاحة التوازن بعيدا عن حالة عرضية ومفتعلة )الرشب، والرياضات
الرسيعة الوترية، والرقص( ملصلحة جعل السيناريو »املجنون« يقرتب من كونه
الحالة املعرفية االفرتاضية؟ كانت هذه األفكار يف خلفية ذهني عندما أتيحت يل، يف
فرباير ،2009 الفرصة للتعبري عنها بشكل أكرث وضوحا.
كان هناك نقاش يف مجلس اللوردات يف اململكة املتحدة حول تنظيم مواقع
اإلنرتنت، خصوصا فيام يتعلق بعافية األطفال وسالمتهم. إذا تقدمت للحديث
يف مثل هذه الفعالية، فإن العرف هو أن تطرح حجة تستند إىل مجال الخربة
املحدد الخاص بك. وبالنظر إىل أنني مل أكن أعرف شيئا عىل اإلطالق عن الترشيعات
واملامرسات التنظيمية، فقد قررُت أن أطرح وجهة نظري من منظور العلوم العصبية.
كان القياس املنطقي الذي ُ استخدمته مبارشا متاما وليس أصيال بصفة خاصة. كان
بوسع أي باحث يف العلوم العصبية أن يقول اليشء نفسه: يتكيف الدماغ البرشي
مع البيئة، والبيئة تتغري بشكل غري مسبوق، وبالتايل فإن الدماغ قد يتغري بدوره
بشكل غري مسبوق.
كان رد فعل وسائل اإلعالم الدولية املطبوعة واملذاعة عىل هذه الحجة التي تبدو
بسيطة ومنطقية بعيدا كل البعد عن محتواها. وغني عن القول أنني اضطررت إىل
ّ تحمل تحريف الصحافة الذي ال مفر منه، والناجم عن تفضيل بيع مزيد من النسخ
عىل الحقيقة الفعلية: »البارونة تقول إن الحواسيب تسبب تعفن الدماغ« كان مجرد
مثال عىل عناوين الصحف األكرث إثارة. ويف الوقت نفسه، فقد أخربين الصحافيون
الذين أجروا مقابالت معي بغبطة الناس لسامع األخبار السيئة، كيف أنني كنت مثارا
للسباب يف بعض أوساط املدونات، قبل أن يسألوين عن شعوري حيال ذلك.

12
ّ تغير العقل
كان ردي، واليزال، هو أنني سعيدة ملناقشة األساس العلمي املستبطن ألفكاري
وأنني سأرفع الراية البيضاء إذا ُدحضت بحقائق ثابتة. هذا هو ما يفعله العلامء:
وهي الكيفية التي ننرش بها أبحاثنا الخاضعة ملراجعة األقران، وهي الطريقة
التي ميكننا بها وضع النظريات. يتقبل معظمنا االنتقادات املهنية باعتبارها نسيج
العملية البحثية. وعىل أي حال، فام كان مثريا لالهتامم حقا يف هذا السياق هو
ُ الرشاسة الواضحة للعداء الشخيص يف بعض الحاالت. لو كنت قلت إن األرض
مسطحة، أشك يف أن أحدا كان سيهتم. من الواضح أنني ملست عصبا شديد
الحساسية جعل بعض الناس يشعرون بالتهديد أو ضعف املكانة بطريقة ما.
وحتى ذلك الحني، مل أكن قد أدركت مدى أهمية هذه القضية بالنسبة إىل
مجتمعنا. ولذلك واصلت القراءة، والتفكري، والتحدث يف مجموعة واسعة من
املنتديات حول الدماغ املستقبيل - بل حول مستقبل الدماغ.
وبعد ذلك، ويف الخامس من ديسمرب ،2011 عرض مجلس اللوردات فرصة
أخرى ملزيد من املناقشة الرسمية املفتوحة. لقد سنحت يل الفرصة لطرح مناقشة
لـ »سؤال حكومة صاحبة الجاللة حول التقييم الذي أجرته بشأن تأثري التقنيات
الرقمية يف العقل«. وكام ميكنك أن تتخيل، فإن الحصول عىل زمن برملاين يف هذه
الغرفة الحمراء والذهبية التاريخية ليس باألمر السهل، وبالتايل فقد شعرُت بأنني
سأكون محظوظة جدا لو أتيحت يل الفرتة الزمنية القصرية املعروفة باسم »قضية
للنقاش الوجيز«. حرض هذه املناقشة لفيف من ممثيل مختلف القطاعات، والتي
ترتاوح من األعامل التجارية، وصوال إىل التعليم والطب.
ومن املثري لالهتامم أن معظم اللوردات النبالء بدوا حريصني عىل التأكيد عىل
فوائد التكنولوجيا، كام أن النربة العامة ألغلب املتحدثني أعطت انطباعا بأنه ليست
هناك حاجة إىل القلق الفوري. ويف ملخصه، اختتم وكيل الوزارة الربيطاين الربملاين
للمدارس حينئذ، اللورد هيل أوف أورفورد، بأنه »ليس عىل علم بوجود قاعدة أدلة
واسعة عىل اآلثار السلبية لالستخدام املعقول واملتسق للتكنولوجيا«، عىل رغم أنه،
»باملثل كام ميكن ألي ثورة تكنولوجية أن تؤدي إىل تقدم كبري، فهي تؤدي دامئا إىل
مشاكل غري متوقعة أيضا، والتي يجب أن نكون دامئا يف حالة تأهب لها يف الواقع«.
ومن بني املآخذ عىل صيغة أسئلة النقاش الوجيزة أنها - كام يوحي اسمها

13
املقدمة
- قصرية الوقت، كام أن الزميل الذي يطرح موضوعا معينا، كام فعلت يف هذه
ُ املناسبة، ال ميكنه الرد عىل األفكار التي بثت. وغني عن القول أنه إذا أتيحت يل
الفر ُ صة، لكنت ُ استجوبت الوزير حول أربع نقاط أساسية.
أوال، ال ُيفعل سوى أقل القليل حاليا من قبل الحكومة الربيطانية لتشجيع
البحث يف آثار ثقافة الشاشة عىل عقل الشباب، أو يف الواقع عىل العقل يف أي سن.
وإذا ُنِّفذت مثل هذه املبادرة، فسيكون من األهمية مبكان أن نتعرف عىل نوع
البحوث الجاري تنفيذه، ويف أي نوع من املجاالت، ومقدار التمويل الذي ُعمد إىل
توفريه، وطول الفرتة الزمنية التي يتوقعون تنفيذ هذه الدراسات خاللها.
ُ وتتمثل نقطتي الثانية يف أنه إذا كانت التكنولوجيا بالفعل ت َ ستخدم بصورة
»معقولة« )والتي متثل يف حد ذاتها حكام ذاتيا(، فإن مثل هذه املامرسات
»املعقولة« ال ميكن أن يكون لها تأثري سلبي كبري بحكم تعريفها. كانت النقطة
ُ الرئيسة التي حاولت إثباتها هي أن التكنولوجيا ال تستخدم بالرضورة باعتدال؛ فقد
أشارت بعض االستطالعات إىل أنها تستخدم ملا يصل إىل إحدى عرشة ساعة يف اليوم.
فهل يرقى هذا حقا العتباره »متناسبا«؟
أما نقطتي الثالثة فهي أننا عندما ننظر إىل جوانب مختلفة من ثقافة اإلنرتنت،
يكون هناك بالفعل سبب للقلق. ومع ذلك فقد كان هذا الخطاب الوزاري يعد
مثاال جيدا عىل إسرتاتيجية شعبية ليس فقط مع السياسيني وموظفي الخدمة
املدنية، ولكن أيضا مع أي شخص يريد حياة هادئة: املراوغة حتى يظهر مزيد
من األدلة، من دون أي إشارة إىل مقدار ونوع األدلة الذي سيكون ُمقنعا مبا يكفي
لبدء مناقشة واسعة تشمل صانعي السياسات، واآلباء، واملعلمني، ودافعي الرضائب
بشكل عام. وبالتايل فقد كانت نقطتي الرابعة واألخرية هي أن »املشاكل« التي مل
يحددها الوزير لن تكون »غري متوقعة« إال إذا مل نتوقعها أو نناقشها.
وعند تلك اللحظة بالذات، ويف إحدى املصادفات الخارقة التي قد تحدث أحيانا
يف الحياة، اتصلت يب دار »راندوم هاوس« لتكليفي بتأليف هذا الكتاب. ميكن
بالتايل اعتبار كتاب رّ »تغي العقل« كإجابة عىل الوزير من ناحية، لكن هدفه الرئيس
هو تلبية احتياجات مجتمع عليه اتخاذ بعض القرارات. ومن أجل القيام بذلك،
يجب أن تكون لدينا نظرة متوازنة وشاملة للبحث العلمي. وعىل رغم أن مثل هذه

14
ّ تغير العقل
النظرة العامة ال ميكن أبدا أن تكون شاملة، فال بد أن تتضمن أهم النتائج - وهذا
هو ما ستجدونه يف هذا الكتاب. وعىل أي حال، فمن الجدير بالذكر أن هناك إغفاال
متعمدا وحيدا، وهو مجال املواد اإلباحية املتوافرة عىل اإلنرتنت، حيث ال يوجد
بطبيعة الحال كثري من الجدل والنقاش حول ما إذا كانت تلك املواد »جيدة« أو
»سيئة«، أو حول كيفية تأثريها يف أنواع التفكري، لكنها تدور أكرث حول الترشيعات
واللوائح املتعلقة بها، وهي خارج نطاق هذا الكتاب.
يتمثل الهدف الرئيس من كتاب رّ »تغي العقل« يف استكشاف الطرق املختلفة
التي ميكن أن تؤثر بها التقنيات الرقمية ليس فقط يف أمناط التفكري واملهارات
املعرفية األخرى، ولكن أيضا يف منط الحياة، والثقافة، والتطلعات الشخصية. ووفقا
لذلك، فباإلضافة إىل تغطية املؤلفات العلمية الخاضعة ملراجعة األقران، ستجد
مناقشة ملختلف السلع والخدمات التي قد تكشف عن نوع جديد من طرق
التفكري، فضال عن التعليقات والتقارير املنشورة يف الصحافة الشعبية التي تعمل
كمرآة للمجتمع الذي نعيش فيه.
إن استكشاف وجمع مثل هذه الطائفة الواسعة من األنواع املختلفة من املواد
هو - يف الواقع - مهمة شاقة للغاية. وعىل أي حال، مرة أخرى كانت األقدار
يف صفي، ففي إحدى الحفالت التي أقيمت عىل الشاطئ يف ملبورن يف ديسمرب
،2012 كن ُت محظوظة مبا فيه الكفاية بأن ألتقي أوليفيا ميتكالف. كانت أوليفيا قد
حصلت من فورها عىل درجة الدكتوراه من الجامعة الوطنية األسرتالية يف كانبريا،
حيث كانت تدرس ألعاب الفيديو، ومل تكن بعد متأكدة من املسار املهني الذي
تود اتخاذه. ومن املثري للدهشة أنها كانت متاحة وراغبة يف املساعدة عىل ضامن
ُ احتواء املخطوطة، التي كانت وقتها يف مرحلة املَسَّودة األوىل، عىل مجموعة واسعة
من البحوث يف مجال التقنيات الرقمية. وخالل السنة التالية، كانت مساهمة
أوليفيا ال تقدر بثمن. أدى متحيصها ونقدها للعمل بالفعل إىل رفع املستوى الذي
ميكن أن يقدمه كتاب رّ »تغي العقل«: وجهة نظر متعمقة يف مجال بالغ التعقيد
ورسيع التطور.
قبل نحو خمس وثالثني سنة، يف حني كنت أعمل يف باريس، أراين زميل يل
الصفحة األوىل من صحيفة، والتي أظهرت رجال ذا لحية كثة ويرتدي سرتة غريبة

15
املقدمة
الذوق. »إنه من الحركة الخرضاء«، قال زمييل ساخرا، وهو يضحك عىل صاحب
الصورة باعتباره شخصا غريب األطوار. من املؤكد أن فكرة الحركة »الخرضاء«
بدت غريبة بالنسبة ّ إيل رّ ، وكذلك كانت عبارة »تغي املناخ«. أما اآلن فهذا املفهوم
ميس كثريا من السياسات العامة ويؤثر يف منط الحياة الفردية. لقد أطلقت اسم
رّ »تغي ُ العقل« عىل كتايب هذا ألنني أفرتض وجود أوجِه رّ شبه مامثلة لتغي املناخ،
وإن كانت متخلفة عنه ببضعة عقود: فكالهام عاملي، ومثري للجدل، وغري مسبوق،
ومتعدد األوجه. ويف حني أن تحديات التغري املناخي تتطلب مامرسات تتعلق
رّ بتقليل الرضر، من املمكن لتغي العقل أن يفتح أكرث االحتامالت إثارة ملجتمع القرن
الحادي والعرشين، واملتمثلة يف تحقيق اإلمكانات الكاملة لكل عقل برشي كام
مل يحدث من قبل، لو كان بوسعنا فقط أن نناقش ونخطط لنوع العامل الذي نود
العيش فيه، أو بشكل أكرث تحديدا، أي نوع من البرش نريد بالفعل أن نكون.

17
ّ تغير العقل: ظاهرة عاملية

دعونا ندلف إىل عامل مل يكن باإلمكان
ّ تصوره حتى قبل بضعة عقود، وهو عامل مل يكن
له مثيل يف تاريخ البرشية. إنه عامل ثنايئ األبعاد
مؤلف من البرص والصوت فقط، والذي يقدم
معلومات فورية، وهوية متصلة، ويتيح الفرصة
للخربات اآلنية واملبارشة التي تتسم بكونها
حيوية وفاتنة بحيث تتجاوز الواقع الكئيب
من حولنا. إنه عامل يعج بالكثري من الحقائق
واآلراء التي لن يكون هناك مطلقا ما يكفي
من الوقت لتقييم وفهم حتى أصغر جزء منها.
أما بالنسبة إىل عدد متزايد من قاطنيه، فقد
يبدو هذا العامل االفرتايض أكرث مبارشة وأهمية
من نظريه الثاليث األبعاد الذي يغذي حواس
الرائحة، واملذاق، واللمس: إنه مكان يصبح
مفعام بالقلق املزعج أو االبتهاج ّ املظفر خالل
اندفاعك يف دوامة الشبكات االجتامعية للوعي
الجامعي. إنه عامل مواز حيث ميكنك أن تكون
ّ تغير العقل: ظاهرة عاملية

»ال ميكن ألحد طرح حجة مقنعة
إلعادة الزمن إىل الوراء، إىل الوقت
الذي كان فيه تسليم الرسائل
الربيدية يستغرق أياما. ولكن
رمبا كانت هناك بعض املزايا
المتالك وقت للتأمل قبل الرد عىل
وجهات النظر أو املعلومات. ورمبا
توجد فوائد لتنظيم وترية يومك
وفقا الختيارك، وحسب رسعتك
الخاصة«

1

18
ّ تغير العقل
متحركا يف العامل الحقيقي، ومنجذبا يف الوقت نفسه دامئا إىل زمان ومكان بديلني.
ّميثل التحول الالحق للكيفية التي ميكننا أن نعيش بها جميعا يف القريب العاجل
موضوعا غاية يف األهمية، بل رمبا كان أهم قضية يف عرصنا الحايل(1). ملاذا؟ ألن
الوجود اليومي املتمركز حول الهاتف الذيك، واآليباد، والحاسوب املحمول، وأجهزة
اإلكس بوكس Xbox قد يغيرّ جذريا ليس مجرد أمناط حياتنا اليومية، بل أيضا
هوياتنا وحتى أفكارنا الداخلية بطرق مل يسبق لها مثيل(2). وكعاملة باألعصاب،
فإنني مفتونة باآلثار املحتملة للوجود اليومي املرتكز عىل الشاشات عىل الطريقة
التي نفكر ونشعر بها، وأريد استكشاف كيف يتفاعل هذا العضو القابل للتكيف
عىل نحو رائع، أي الدماغ، مع البيئة الجديدة، التي أطلق عليها أخريا اسم »حرائق

.
الغابات الرقمية« wildfire digital)3(
يف العامل املتقدم، هناك اآلن فرصة واحد إىل ثالثة ألن يعيش األطفال إىل عمر
املائة(4). بفضل التطورات التي تحققت يف مجال الطب البيولوجي، ميكننا توّقع
حياة أطول وأكرث صحة. وبفضل التكنولوجيا ميكننا أن نتوقع وجودا متحررا عىل نحو
متزايد من مشاكل الحياة املنزلية اليومية التي اتسمت بها حياة األجيال السابقة.
وعىل عكس معظم الجنس البرشي يف املايض، بل يف كثري من السيناريوهات املرعبة
الحالية يف جميع أنحاء العامل، نحن نأخذ حقنا يف أال نشعر بالجوع، أو الربد، أو األمل،
أو الخوف املستمر طوال حياتنا باعتباره من املسلامت. لذلك ليس من املستغرب
أن يوجد كثريون يف مجتمعنا ممن هم عىل اقتناع بأننا عىل ما يرام، وأن هذه
التقنيات الرقمية ليست أشبه بحرائق الغابات املستعرة، بل هي أقرب إىل أن تكون
مدفأة مرّحبة يف قلب أمناط حياتنا الحالية. ووفقا لذلك، هناك العديد من الحجج
املطمئنة الجاهزة ملواجهة التحفظات واملخاوف التي قد ُينظر إليها بخالف ذلك
باعتبارها مبالغا فيها، أو حتى هستريية.
مثة فرضية أولية هي أن الجميع لديهم بالتأكيد ما يكفي من الحس السليم
لضامن أال ندع الثقافة السربانية )ثقافة اإلنرتنت: cyberculture )الجديدة تخطف
الحياة اليومية بأرسها. من املؤكد أننا راشدون ومسؤولون مبا فيه الكفاية ليك نقوم
بالتنظيم الذايت ملقدار الوقت الذي نقضيه عىل اإلنرتنت والتأكد من أال يصبح
أطفالنا مهووسني متاما بالشاشة. غري أن حجة كوننا عقالنيني تلقائيا ال تصمد أمام

19
ّ تغير العقل: ظاهرة عاملية
اختبار التاريخ: متى انترص الحس السليم تلقائيا عىل االحتامالت السهلة واملربحة،
أو املمتعة؟ ما عليك سوى إلقاء نظرة عىل مئات املاليني من البرش يف جميع أنحاء
العامل الذين ما زالوا ينفقون املال عىل عادة تسببت يف مئات املاليني من الوفيات يف
القرن العرشين، والتي، إذا استمرت االتجاهات الحالية، ستؤدي إىل ما يصل إىل مليار
حالة وفاة يف القرن الحايل: التدخني(5). ليس هناك كثري من الحس السليم يف ذلك.
غري أن موثوقية الطبيعة البرشية قد تعمل ملصلحتنا مرة أخرى إذا كان بوسعنا
أن نفرتض أن بنيتنا الجينية الفطرية تدفع معظمنا إىل فعل اليشء الصحيح، بغض
النظر عن أي مؤثرات خارجية مفسدة. ومع ذلك، بحد ذاتها، تعمل هذه الفكرة
بتضاد مبارش مع التكيفية الفائقة للدماغ البرشي، التي تسمح لنا باحتالل عدد
من البيئات اإليكولوجية أكرب من أي من األنواع الحية األخرى عىل سطح هذا
الكوكب. أنشئت شبكة اإلنرتنت يف البداية كوسيلة لتواصل العلامء مع بعضهم
البعض، وأدى هذا االخرتاع إىل إفراز ظواهر مثل فورتشان chan،4 وهي مجموعة
من لوحات الرسائل التي ينرش عربها الناس الصور، والتعليقات النصية القصرية،
معظمها مجهول االسم ومن دون أي قيود(6). ميثل هذا الشكل من أشكال التعبري
عن الذات بيئة مالمئة جديدة ميكننا أن نتكيف معها، مع عواقب ال تقل تطرفا عن
الوسط نفسه. وإذا كانت السمة املميزة لجنسنا هي أن نزدهر أينام وجدنا أنفسنا،
ُ فإن التقنيات الرقمية قد تربز أسوأ ما يف الطبيعة البرشية بدال من أن ُتصبح بفضلها
عدمية الرضر.
مثة طريقة أخرى لنبذ املخاوف القائلة بأن اآلثار التي قد تجلبها التقنيات
الرقمية رضب من مواقف األنانة solipsistic التي يشري فيها عشاق الشاشة بفخر
إىل وجودهم املتوازن متاما، والتي تجمع بني متع ومزايا ثقافة اإلنرتنت والحياة
ضمن ثالثة أبعاد. ومع ذلك، فقد ظل علامء النفس يخربوننا طوال سنوات عديدة
بأن هذا االستبطان الشخصاين هو مقياس ال ميكن االعتامد عليه للحالة النفسية(7).
وعىل أي حال، يجب أن يكون واضحا مبا فيه الكفاية أنه ملجرد أن فردا واحدا
قد ميكنه تحقيق مزيج مثايل بني االفرتايض والحقيقي، فإن هذا ال يعني تلقائيا
أن اآلخرين قادرون عىل مامرسة قدر مامثل من ضبط النفس و ُ الحكم السليم.
وحتى أولئك األفراد الذين يعتقدون أنهم قد حصلوا عىل املزيج املناسب من كل

20
ّ تغير العقل
يشء كثريا ما يعرتفون يف لحظة من دون تحفظ بأنه »من السهل أن تضيع كثريا
من الوقت عىل موقع الفيسبوك«، أو بأنهم »مدمنون« عىل تصفح موقع تويرت،
أو أنهم، يجدون بالفعل صعوبة يف الرتكيز لفرتة طويلة مبا فيه الكفاية عىل قراءة
مقال كامل يف إحدى الصحف. ويف اململكة املتحدة، ميثل ظهور »I»، وهي نسخة
مخترصة من صحيفة اإلندبندنت الوطنية العالية الجودة، وطرح شبكة اإلذاعة
الربيطانية )BBC )تحديث األخبار الذي ال تتجاوز مدته 90 ثانية - ميثل شاهدا
عىل مطالب جمهور متزايد دوما من القراء واملشاهدين – واملؤلف ليس فقط من
جيل الشباب - الذين ميتلكون فرتة انتباه قصرية ويطالبون وسائل اإلعالم املطبوعة
واملذاعة مبجاراة ذلك.
مثة عزاء آخر هو االقتناع بأن الجيل املقبل سيكون عىل ما يرام، وذلك بفضل
اآلباء واألمهات الذين ميسكون بزمام األمور ويتدخلون عند الرضورة. ومع األسف،
أثبتت هذه الفكرة بالفعل فشلها. وألسباب سنقوم باستكشافها عام قريب، فكثريا
ما يشكو اآلباء من أنهم ال يستطيعون السيطرة عىل ما يفعله أبناؤهم عىل اإلنرتنت،
فيام يئس كثري منهم بالفعل من عدم قدرتهم عىل إبعادهم عن الشاشة وإعادتهم
إىل العامل ثاليث األبعاد.
صاغ مارك برينسيك Prensky، وهو خبري تقني أمرييك، مصطلح »املواطن
الرقمي« Native Digital لوصف الشخص الذي تتحدد هويته بفعل قدراته وما
هو متوقع منه، بناء عىل الرباعة واأللفة التلقائية يف التعامل مع التقنيات الرقمية(8).
وعىل النقيض من ذلك، فإن »املهاجرين الرقميني« Immigrants Digital هم
أولئك الذين، وفقا لربينسيك، »تبنوا العديد من جوانب التكنولوجيا، لكنهم متاما
مثل أولئك الذين يتعلمون لغة أخرى يف مرحلة متأخرة من الحياة، يحتفظون بلكنة
ألنهم مازالوا يحتفظون بإحدى قدميهم يف املايض«. ومن غري املرجح أال تكون لدى
أي شخص يقرأ هذه الكلامت وجهات نظر قوية بخصوص أي جانب من الفجوة
ينتمي إليه، وحول ما إذا كان هذا التمييز مدعاة لالحتفال الرصف أو القلق العميق.
وبصفة عامة، فذلك مرتبط بالعمر، عىل الرغم من أن برينسيك نفسه مل ّ يحدد خطا
معينا لرتسيم الحدود. وبالتايل فإن تاريخ ميالد املواطن الرقمي يبدو غري مؤكد:
فبوسعنا أن نبدأ عند ستينيات القرن العرشين، عندما دخل مصطلح »الحاسوب«

21
ّ تغير العقل: ظاهرة عاملية
إىل اللغة السائدة، أو يف وقت متأخر حتى العام ،1990 ألنه يف الوقت الذي بدأ فيه
مواطن رقمي صغري ولد يف تلك السنة يتعلم القراءة والكتابة صار الربيد اإللكرتوين
)الذي ظهر نحو العام 1993( جزءا ال غنى عنه من الحياة.
والفرق املهم هو أن املواطنني الرقميني ال يعرفون أي سبيل آخر للحياة غري ثقافة
اإلنرتنت، والحاسوب املحمول، والهاتف النقال، وبوسعهم أن يتحرروا من قيود
األعراف املحلية والسلطة الهرمية، وباعتبارهم مواطنني عامليني مستقلني، ميكنهم
تخصيص األنشطة والخدمات املرتكزة عىل الشاشة أثناء التعاون مع، واملساهمة يف
الشبكات االجتامعية ومصادر املعلومات العاملية.
لكن مثة صورة أكرث قتامة بكثري للمواطن الرقمي يرسمها منتقدون مثل الكاتب
األمرييك الربيطاين أندرو كني Keen:
تخلق مواقع مثل ماي سبيس MySpace وفيسبوك ثقافة شابة من
الرنجسية الرقمية؛ يف حني تقوم مواقع تبادل املعرفة املفتوحة املصدر مثل
ويكيبيديا Wikipedia بتقويض سلطة املعلمني يف الفصول الدراسية.
ويتسم جيل اليوتيوب YouTube بكونه أكرث اهتامما بالتعبري عن الذات
من ا ّ لتعرف عىل العامل؛ وتعمل األصوات النشاز الصادرة عن املدونات
blogs املجهولة املصدر واملحتوى املقدم من املستخدمني عىل ّصم آذان

.
)9(
شباب اليوم عن أصوات الخرباء املستنريين
غري أن املواطن الرقمي، مرة أخرى، قد ال يكون له وجود يف الواقع بعد كل
يشء. ويجادل نيل سلوين Selwyn، من معهد التعليم يف لندن، بأن الجيل الحايل ال
يختلف يف الواقع عن األجيال السابقة له: إن الشباب غري مربمجني المتالك أدمغة
مل يسبق لها مثيل(10). باألحرى يستخدم الكثري من الشباب التكنولوجيا بصورة أكرث
تشتتا، وسلبية، وانفرادية، وقبل كل يشء خالية من التميز الذي يوحي به ضجيج
عامل املدونات واألنصار املتحمسني لثقافة اإلنرتنت.

ّد نوعا جديدا من الكائنات

وبغض النظر عام إذا كان العرص الرقمي قد ول
الفائقة superbeing أو مجرد برش عاديني أكرث مالءمة لحياة الشاشة، يكفي أن
نقول بأنه يف الوقت الحايل من املرجح أن يكون الوالدون من املهاجرين الرقميني يف
حني أن أبناءهم من املواطنني الرقميني. اليزال الصنف األول يتعلم اإلمكانات الهائلة

22
ّ تغير العقل
لهذه التكنولوجيات وهم يف مرحلة الرشد، يف حني مل يعرف الصنف األخري أي حياة
أخرى. وكثريا ما يجعل هذا االنقسام الثقايف من الصعب عىل اآلباء واألمهات معرفة
أفضل السبل للتعامل مع املواقف التي يرون حدسيا أنها تنطوي عىل خطر ما، مثل
الوقت املفرط الذي ُينفق عىل األنشطة املعتمدة عىل الحاسوب؛ ويف الوقت نفسه
قد يشعر األطفال بأنه ُيساء فهمهم، وبالتايل تضيق صدورهم بوجهات النظر التي
يعتربونها غري مناسبة وقدمية بالنسبة إىل الحياة املعارصة.
وعىل الرغم من أن التقارير واالستطالعات قد ركزت يف معظمها عىل الجيل
املقبل، فإن املخاوف التي أود إبرازها ال تقترص عىل املواطنني الرقميني وحدهم بل
أبعد ما تكون عن ذلك. غري أن الفجوة بني األجيال قد نشأت من دون شك عن
الزيادة املذهلة يف وترية ظهور األجهزة والتطبيقات الرقمية املتزايدة الذكاء دوما.
ماذا ستكون اآلثار املرتتبة عىل كل جيل، وعىل العالقة بينهام؟
ِضمن تقرير ُنرش يف العام ،2011 بعنوان »الحيوات االفرتاضية«، قيم باحثون،
بتكليف من الهيئة الخريية الربيطانية لألطفال، كيدسكايب Kidscape، أنشطة
اإلنرتنت من قبل أكرث من ألف *** ترتاوح أعامرهم بني الحادية عرشة والثامنة
عرشة. ذكر ما يقل قليال عن نصف األطفال الذين سئلوا، أنهم يترصفون عىل
اإلنرتنت بشكل مختلف عام يفعلون يف حياتهم العادية، يف حني زعم كثريون أن
ذلك يجعلهم يشعرون بكونهم أكرث قوة وثقة. وكام قال أحدهم: »من السهل
أن تكون ما تود أن تكونه، ألنه ال يعرفك أحد، وإذا مل يعجبك املوقف فبوسعك
االنسحاب ببساطة، وسينتهي األمر عند هذا«. وردد آخر هذه املشاعر نفسها،
فقال: »ميكنك أن تقول أي يشء عرب اإلنرتنت. ميكنك التحدث إىل أشخاص ال تتحدث
إليهم عادة، كام ميكنك تحرير صورك حتى تبدو بشكل أفضل. يبدو األمر كأنك
شخص مختلف متاما. وذكر التقرير أن هذه النتائج تشري إىل أن األطفال يرون
الفضاء اإللكرتوين باعتباره قابال للفصل عن العامل الحقيقي، وينظرون إليه كمكان
ميكنهم فيه استكشاف أجزاء من سلوكياتهم وشخصياتهم قد ال يظهرونها يف الحياة
الحقيقية. وهم يبدون غري قادرين عىل إدراك أن األفعال التي تتم عرب اإلنرتنت قد
تكون لها تداعيات يف العامل الحقيقي«(11). إن فرصة الحصول بسهولة عىل هوية
بديلة، وفكرة أن األفعال ليست لها عواقب مل تظهر سابقا يف منو الطفل، كام أنها

23
ّ تغير العقل: ظاهرة عاملية
تطرح أسئلة مل يسبق لها مثيل عىل ما قد يكون هو األفضل. ويف حني أن الدماغ
غري مربمج بالفعل عىل التفاعل بشكل فعال مع تقنيات الشاشة، فقد ّ تطور بحيث
ميكنه االستجابة بحساسية رائعة للتأثريات الخارجية - أي للبيئة التي يقطنها. كام
أن البيئة الرقمية تزداد انتشارا يف سن متناقصة دوما. طرحت رشكة فيرش - برايس
أخريا مقعدا لتدريب األطفال عىل استخدام املرحاض، مزودا بحامل لآليباد(12)،
والذي يفرتض أنه ّ يكمل أسلوب حياة األطفال الذي يتسم بأن الكريس الذي قد

.
يقيض عليه الطفل ساعات طويلة مزود أيضا بشاشة(13)
ولهذا السبب فإن مسألة تأثري التقنيات الرقمية تتسم بأهمية بالغة. وكثريا
ما يقرتب مني رواد الصناعة املخرضمون أو رجال األعامل الناشئون خالل اسرتاحة
القهوة يف الفعاليات التي تنظمها الرشكات ويسمحون ألقنعتهم املهنية بأن تسقط
خالل حديثهم بقنوط عن الولع املفرط ألبنائهم املراهقني بالحاسوب. غري أن
هذه املخاوف التزال غري موّجهة وغري مركزة. أين ميكن لهؤالء اآلباء واألمهات
املهمومني تبادل الخربات مع غريهم عىل منصة أوسع، ومن ثم بلورتها بطريقة
رسمية ومقنعة؟ يف الوقت الراهن، ليس يف أي مكان. عىل الصفحات التالية، سرناجع
العديد من الدراسات التي أجريت حول األطفال قبل سن املراهقة preteens
وكذلك عىل املراهقني؛ ولسوء الحظ، هناك عدد أقل بكثري من الدراسات التي
أجريت عىل البالغني، رمبا ألنهم أقل متاسكا ومتييزا كمجموعة من الطالب املتطوعني
أو أحد الفصول ّ املقيدة. ولكن، عىل أي حال، من املهم النظر إىل البيانات ليس
كدليل للمساعدة الذاتية لتنشئة األطفال، بل بوصفها عامال محوريا يف الصورة األكرب
للمجتمع ككل.
مثة حجة أخرى تستخدم أحيانا لدحض أي مخاوف حول الثقافة الرقمية، وهي
فكرة أننا سنشق طريقنا ونتدبر أمرنا مادامت هناك تنظيامت مناسبة. وكثريا ما
نسمع أفكارا مامثلة من واضعي السياسات املهنية واملسؤولني الحكوميني: ليس
هناك دليل قاطع يدعو إىل القلق حتى اآلن. وعندما يوجد مثل هذا الدليل، َّ ستطبق
بطبيعة الحال جميع الضوابط واملوازين املناسبة عىل النحو الواجب. ويف هذه
األثناء، مادمنا عقالنيني ومتسقني، فبإمكاننا التمتع واالستفادة من جميع املزايا
التي توفرها حياة اإلنرتنت cyberlife. من الواضح أن التكنولوجيا تجلب لنا فرصا

24
ّ تغير العقل
ّ مل تكن متخيلة سابقا، وستتم بطبيعة الحال موازنة هذه التطورات بكوننا دامئا
(14). ومع ذلك، ففي حني قد يكون

يف حالة تأهب للتأثريات السلبية املحتملة
االعتدال هو املفتاح بالفعل، فإن التكنولوجيا ال ُتستخدم بالرضورة باعتدال. يقوم
الشبان يف الواليات املتحدة، يف املتوسط، باستخدام وسائل اإلعالم والرتفيه ألكرث
من ثالث وخمسني ساعة أسبوعيا(15). وعندما نأخذ بعني االعتبار ّ تعدد املهام عرب
تلك الوسائل، أو استخدام أكرث من أداة واحدة يف الوقت نفسه، يقيض الشبان يف
املتوسط ما يعادل إحدى عرشة ساعة تقريبا من استخدام وسائل اإلعالم والرتفيه
يوميا - وهو ما يصعب وصفه باملعتدل.
وتتمثل املشكلة األعمق يف النظر إىل التنظيم باعتباره »الحل« يف أنه تفاعيل
دامئا. ال ميكن لإلجراءات التنظيمية سوى أن تستجيب ومن ثم ترتاجع وراء حدث،
أو اكتشاف، أو ظاهرة جديدة، من أجل القضاء عىل رضر واضح، كام هي الحال
مع َس ْقط الطعام Food Junk، وتلوث الهواء، أو االستاملة الجنسية لألطفال أو
اطالعهم عىل العنف املفرط، إذا استخدمنا مثال اإلنرتنت. غري أن التنظيم يحتاج
دامئا إىل محاولة اللحاق بالركب: سيظل السياسيون وموظفو الخدمة املدنية دامئا
عىل حذر بشأن التوقعات ألنهم يدركون بحق أنهم ينفقون أموال دافعي الرضائب
أو املتربعني عىل ما ميكن اعتباره نوعا من املضاربة. ومهام كان قدر الحاجة إىل
مبادئ توجيهية وقوانني ملواجهة املخاطر الواضحة واآلنية لعامل اإلنرتنت، فهي غري
كافية ملهمة استرشاف املستقبل، أو ّ تخيل أفضل االستخدامات التي ميكن توجيه
التقنيات الجديدة إليها. ولهذا الغرض نحن يف حاجة إىل ّ تخيل طويل األجل وإىل
تفكري جريء، وهام صفتان ال ترتبطان بالرضورة يف الوقت الحارض باملوظفني
الحكوميني الذين يعانون نقص التمويل، أو بالسياسيني الناظرين إىل إعادة انتخابهم
الوشيكة والساعني إىل تحقيق انتصارات سهلة عىل املدى القصري. وبالتايل فإن األمر
مرتوك لبقيتنا. قد تكون التكنولوجيا ّ ممكنة وميكن أن تساعدنا يف صياغة حياة أكرث
إشباعا، لكن ذلك يحدث فقط إذا تحملنا املسؤولية وساعدنا يف تنفيذ املهمة.
تعمل التقنيات الرقمية عىل تحطيم القيود القدمية للمكان والزمان. سوف أتذكر
دامئا خطاب الرئيس األمرييك السابق بيل كلينتون، الذي حرضته يف آسنب، كولورادو
يف العام ،2004 حيث وصف كيف ميكن تقسيم تاريخ الحضارة إىل ثالث مراحل:

25
ّ تغير العقل: ظاهرة عاملية
العزلة، والتفاعل، والتكامل. ّميزت العزلة isolation الفصل بني اإلمرباطوريات
التاريخية النائية، التي كان الوصول إليها حتى القرن املايض متقطعا، ويستغرق وقتا
طويال، ويتسم بالخطورة. أما التفاعل interaction، كام أشار إليه كلينتون، فقد
ثبت الحقا كونه إيجابيا، يف صورة املقايضة، وتبادل األفكار... وهلم جرا، وسلبيا يف
الوقت نفسه، مع زيادة سهولة وحجم الحروب. غري أن هذا القرن رمبا ميثل منوذجا
للمرة األوىل التي يجري فيها تحقيق تكامل integration واسع النطاق.
ومع ذلك فهذه الفكرة، عىل األقل من حيث السيناريو االفرتايض، ليست ثورية.
منذ العام 1950 طور الفيلسوف الفرنيس والكاهن اليسوعي بيري تيار دي شاردان
Chardin de فكرة وجود فكر معومل، وهو سيناريو نهايئ أطلق عليه اسم »املحيط

.
)16(
الفكري« أو املجال نو Noosphere
وفقا لدي شاردان، فإن املحيط الفكري يظهر من خالل، ويتكون من، تفاعل
العقول البرشية. ومع ّ تطور البرشية إىل شبكات اجتامعية أكرث تعقيدا، فمن شأن
املحيط الفكري أن يتصاعد يف الوعي. نظر دي شاردان إىل التمجيد النهايئ للمحيط
الفكري باعتباره النقطة أوميغا، وهي أكرب قدر من الوعي الجامعي الذي ميكن أن
يتطور إليه الكون، مع كون األفراد ال يزالون ميثلون كيانات متميزة. وعىل الرغم
من أنه من املغري أن نظن أن العوملة ّ املحرضة رقميا يف املشاركة الفورية لألفكار
واالتصاالت العاملية ّ تحقق رؤيته، غري أننا ال نستطيع افرتاض تحقق هذه الفكرة التي
كانت افرتاضية اآلن. ماذا لو كانت إحدى النتائج اآلنية للتواصل العاملي والثقافة
املتجانسة بصورة مقابلة هي أن نبدأ جميعا يف االستجابة والترصف بأسلوب أكرث
تجانسا، وهو ما يطمس يف نهاية املطاف التنوع الثقايف والهوية؟ من الواضح أنه
يف حني توجد مزايا هائلة لفهم أمناط الحياة واملخططات التي كانت تبدو غريبة
سابقا، فهناك فرق كبري بني عامل ترثيه طرق املعيشة األخرى واملتناقضة وعامل آخر
يتشارك يف وجود واحد موحد مثل قطع الكعك املتامثلة. ويف حني أن التنوع يف
املجتمعات يجلب تبرصات رائعة إىل الحالة البرشية، فمن املؤكد أن مثل هذه
املقارنات ال ميكن أن تستند إال إىل هوية ومنط حياة يتسامن بالوضوح والثقة. وعىل
املدى الطويل مجرد التجانس العاملي يف طرق التفكري قد تكون له عواقب وخيمة
عىل الكيفية التي ننظر بها إىل أنفسنا وإىل املجتمعات التي نعيش فيها.

26
ّ تغير العقل
ويف حني أن الرسعة والكفاءة وكلية الوجود ال بد أن تكون أشياء جيدة بالتأكيد،
فمن املمكن أن تكون لهذه الحياة الجديدة من التكامل آثار أخرى أقل فائدة،
والتي نحتاج إىل التفكري بشأنها. يف األيام الخوايل كنا ننتظر وصول الربيد يف أوقات
محددة يوميا. وكانت املكاملات الهاتفية الدولية، بالنسبة إىل الجميع باستثناء
الشديدي الرثاء، عىل وجه العموم، خيارا ال ُيستخدم إال يف الظروف االستثنائية أو
الطارئة. لكننا اآلن ننظر إىل التوافر املستمر لالتصاالت الدولية باعتباره أمرا مفروغا
منه. نحن منيل إىل توّقع استجابات فورية، وبالتايل نفرتض أننا سرند عىل الفور،
وبالتايل نتأرجح دوما بني منطي اإلرسال واالستقبال.
يف حفل إفطار رسمي حرضته أخريا، حيث كان املتحدث الرئييس هو نائب
رئيس الوزراء الربيطاين نيك كليغ Clegg، جلست بجواري امرأة كانت مستغرقة يف
بث تغريدات عىل موقع تويرت تقول فيها إنها تحرض وجبة إفطار مع كليغ لدرجة
أنها مل تكن تستمع يف الواقع إىل ما كان يقوله. ذكر 24 يف املائة من مستخدمي
مواقع الشبكات االجتامعية املخصصة للبالغني يف الواليات املتحدة ظاهرة غريبة
يف العام ،2012 وهي أنهم غابوا عن فعالية رئيسية أو لحظة مهمة يف حياتهم
ألنهم كانوا مستغرقني متاما يف تحديث مواقعهم عىل الشبكات االجتامعية حول
هذه الفعالية أو اللحظة(17). وبدال من ذلك، ميكنك مراقبة فيضان الوعي بأمور
اآلخرين، الذي ُيعد تقريبا أسلوبا للحياة. عندما سألت زميلة يل عن عدد املرات
التي تستخدم فيها موقع تويرت، أرتني رسالة بالربيد اإللكرتوين من صديق لها، ومل
يكن مستغربا ما تصفه بقولها: »يظل حسايب عىل تويرت مفتوحا عىل حاسويب طوال
اليوم بحيث ميكنني النظر إليه بني املكاملات، أو عندما أكون يف انتظار أحد عىل
الهاتف، إلخ. وميكنني القول بأن معظم العاملني يف مكتبنا يفعلون اليشء نفسه«.
مل نعد يف حاجة إىل االنتظار أو االعرتاف مبرور الوقت بني السبب والنتيجة،
أو بني الفعل ورد الفعل. بالنسبة إىل معظم الناس الذين مل يكن بوسعهم التفكري
قبل عقود قليلة يف السفر إىل الخارج أو يف امتالك شبكة من األصدقاء من خارج
مجتمعهم املحيل الذي ولدوا فيه، هناك اآلن فرص مثرية ومستمرة الشتامل الكوكب
بأرسه. وهناك العديد من املزايا لهذا التواصل الذي يحدث من دون مجهود. ال
ميكن ألحد طرح حجة مقنعة إلعادة الزمن إىل الوراء، إىل الوقت الذي كان فيه

27
ّ تغير العقل: ظاهرة عاملية
تسليم الرسائل الربيدية يستغرق أياما. لكن رمبا كانت هناك بعض املزايا المتالك
وقت للتأمل قبل الرد عىل وجهات النظر أو املعلومات. ورمبا توجد فوائد لتنظيم
وترية يومك وفقا الختيارك، وحسب رسعتك الخاصة.
والقضية الحاسمة هنا هي: كيف ميكننا أن نستوعب داخليا ما يحدث حولنا أثناء
تنقلنا من يوم إىل آخر؟ ذات مرة طرح الطبيب النمساوي الذي ّطور العالج الحايل
لداء باركنسون يف ستينيات القرن العرشين، أوليه هورنيكيفيتش Hornykiewicz،
الرؤية التالية: »ما التفكري سوى حركة مقترصة عىل الدماغ«. تتسم الحركة بسلسلة
من اإلجراءات املرتبطة التي تحدث برتتيب معني. وأبسط مثال، أي امليش، هو
عبارة عن سلسلة من الخطوات التي يؤدي فيها وضع إحدى القدمني لألمام، إىل
جعل القدم األخرى تتجاوزها؛ وبالتايل تؤدي خطوة واحدة إىل أخرى يف سلسلة من
األسباب والنتائج، والتي هي ليست عشوائية بل تسلسل خطي ثابت. وهذه هي
الحال مع التفكري. إن كل فكرة، سواء كانت خياال أو ذكرى أو حجة منطقية أو
خطة عمل أو أمل أو حزن، تتشارك هذا السمة املشرتكة األساسية للتسلسل الثابت.
وباعتبار أنه من الواضح أن هناك بداية ومنتصف ونهاية محددة لهذا التسلسل،
فال بد أن يكون هناك إطار زمني. ومن وجهة نظري، فإن فكرة التسلسل هذه هي
الجوهر األسايس للفكر، وهي الخطوة العقلية الالزمة التي من شأنها أن ّمتيز خط
أو سلسلة األفكار عن العاطفة اللحظية املنفردة املأسورة يف صيحة من الضحك
أو الرصاخ. وعىل عكس الشعور الخام الذي يحدث كاستجابة لحظية، فإن عملية
التفكري تتجاوز الـ»هنا واآلن« وتربط املايض باملستقبل.
ليس البرش وحدهم هم من ميتلكون ذاكرة كافية للربط بني حدث سابق، أو مثة
سبب، وحدث الحق، أو مثة تأثري، وحتى ّ تصور نتيجة محتملة لذلك يف املستقبل. إن
الجرذ الذي يحصل عىل ّ كرية من الغذاء عن طريق الضغط عىل قضيب معدين ميكنه
ّم كيفية الضغط

ّ قريبا أن »يفكر« يف أفضل خطوة تالية ميكنه القيام بها، ومن ثم تعل
عىل القضيب مرة أخرى. وهنا تحدث صياغة الر ّ ابط بني املحفز واالستجابة. غري أننا
نحن البرش نتميز بقدرتنا عىل ربط أحداث وأشخاص وأشياء غري موجودة أمامنا
بالفعل بتيار من األفكار. نحن منتلك القدرة عىل رؤية يشء ما، مبا يف ذلك كلمة
مجردة، من منظور يشء آخر. وعىل خالف جميع الحيوانات األخرى، حتى الرضع من

28
ّ تغير العقل
بني البرش، لدينا لغة منطوقة ومكتوبة. نحن نتحرر من ضغوط اللحظة املحيطة بنا
ألننا نستطيع أن نتوجه إىل املايض ثم إىل املستقبل باستخدام الرموز والكلامت التي
ّ متثل أشياء ليست موجودة فعليا: ميكننا أن نتذكر وأن نخطط وأن ّ نتخيل. غري أن
األمر يتطلب بعض الوقت للقيام بذلك، وكلام كانت الفكرة أكرث تعقيدا ازداد الوقت
الذي نحتاج إليه التخاذ الخطوات الذهنية الالزمة.
لكننا إذا وضعنا دماغا برشيا، تتمثل مهمته التطورية يف التكيف مع بيئته، يف بيئة
ال يوجد فيها تسلسل خطي واضح، حيث ميكن الوصول إىل الحقائق بشكل عشوايئ،
وحيث كل يشء قابل للعكس، وحيث تبلغ الفجوة بني ّ املحفز واالستجابة حدها األدىن،
وقبل كل يشء حيث الوقت قصري، فمن املمكن تحويل قطار األفكار عن مساره.
ّ وعند إضافة املشتتات الحسية لكون ّحي ومريئ ومسموع وواسع الشمول، والذي
ّ يعزز مدى أقرص من االنتباه، فقد تصبح أنت نفسك حاسوبا، إذا صح التعبري: نظام
يستجيب بكفاءة ويعالج املعلومات بشكل جيد للغاية، لكنه يخلو من الفكر العميق.
قبل ثالثني سنة أو نحوها، كان مصطلح »تغيرّ املناخ« يعني القليل ملعظم الناس.
ُ أما اآلن فهو مدرك من قبل الجميع تقريبا باعتباره مفهوما شامال ينطوي عىل مجموعة
واسعة من املواضيع، مبا يف ذلك احتجاز الكربون ومصادر الطاقة البديلة، واستخدامات
املياه، إذا أردنا ذكر أمثلة قليلة. يشعر البعض بأننا محكوم علينا بالفناء، يف حني يرى
البعض اآلخر أن املشكالت املختلفة مبالغ فيها، ويرى البعض اآلخر أن العلم قد يفيد.
وبالتايل، فإن تغري املناخ ليس عامليا ومل يسبق له مثيل فحسب، لكنه أيضا متعدد
األوجه ومثري للجدل. وعندما ننتقل إىل مسألة الكيفية التي ستفكر وتشعر بها األجيال
املستقبلية، فإن »تغيرّ العقل« قد يكون مفهوما جامعا مفيدا باملثل.
تسري الحجة التي يستند إليها مفهوم تغيرّ ّ العقل كالتايل: يتكيف الدماغ البرشي
عىل أي بيئة يوضع فيها. يقدم عامل اإلنرتنت الذي مييز القرن الحادي والعرشين نوعا
جديدا من البيئة. لذلك، من املمكن أن يتغري الدماغ بصورة موازية لذلك، وبطرق
جديدة متوافقة معها. وإىل الحد الذي ميكننا معه أن نبدأ يف فهم وتوقع هذه
التغريات اإليجابية أو السلبية، ستزداد قدرتنا عىل التنقل عرب أرجاء هذا العامل الجديد.
ّ لذلك دعونا نتعمق يف التفكري حول كيف أن تغيرّ العقل، مثل تغيرّ املناخ متاما، ليس
عامليا فحسب كام رأينا لفورنا، لكنه أيضا غري مسبوق ومثري للجدل ومتعدد األوجه.

29
أزمنة غري مسبوقة

ّ ميتلك البرش القدرة عىل التكيف. ذلك
هو ما نقوم به بصورة أفضل من أي نوع من
أنواع األحياء األخرى. وفقا لذلك، كان أسالفنا
يضطرون دامئا إىل اعتامد عامل متغري أدت
فيه االخرتاعات والتقنيات الجديدة بدورها
إىل توجيه أمناط الحياة والتبرصات واألذواق
واألولويات. ملاذا إذن ينبغي أن يكون هذا
العرص الرقمي مختلفا؟
كانت للسيارات، عىل سبيل املثال، تأثريات
هائلة ومغيرّة للحياة. وباستخدام هذا النوع
من التشبيه ميكنك النظر إىل األجهزة الرقمية
عىل أنها مجرد أحدث حلقة يف سلسلة طويلة
من االبتكارات التي كانت مثرية ومزعجة
يف البداية، قبل أن تدخل يف نهاية املطاف
يف حياتنا باعتبارها املحرك املوّجه لبعض
التطورات الجديدة التي سيكون من الصعب
دامئا عىل بعض التقليديني قبولها. ولنأخذ مثاال
أزمنة غري مسبوقة

»منذ العام 1970 تقلص نصف
قطر دائرة نشاط الطفل، وهو
مقدار املساحة املحيطة باملنزل
التي يتجول فيها الطفل بحرية،
بدرجة مذهلة بلغت 95 يف املائة«
2

30
ّ تغير العقل
املطبعة، التي كان إدخالها إىل أوروبا عن طريق يوهان غوتنربغ Gutenberg نحو
العام 1439م معلام عمالقا ال ميكن إنكار دوره يف تقدم الحضارة، فقد عملت
عىل دمقرطة املعرفة، وبالتايل فإن القوى الرجعية املحبة للوضع الراهن مل تكن
ُلتعجب بها، وهو ما يوازي، كام قد تجادل، أولئك الذين يبدو أنهم هم اللوديون
)٭( التكنولوجيون يف الوقت الحارض. بدأت الكتب تنرش البصرية ألعداد
Luddites
أكرب من أي وقت مىض من األفراد، الذين ميكنهم بعد ذلك، كام فعلوا يف الواقع،
إثارة التغري االجتامعي، ما أدى إىل التقدم الشخيص وتعميم التعليم.
حتى الروايات األدبية أثارت دامئا قضايا حول الحالة البرشية، األمر الذي ّمكن
القارئ من أن يرى العامل عرب عيون اآلخرين الذين عاشوا يف عصور وأماكن أخرى،
ما ّحسن إدراك املرء وصياغة منظوره الشخيص وفهمه لذاته؛ كيف ميكن أن يكون
هناك يشء أكرث قدرة عىل التغيري من ذلك؟
وبعد ذلك جاءت الكهرباء. حتى نهاية القرن التاسع عرش كان الليل يجلب
معه ظالما ال ميكن السيطرة عليه؛ كان ضوء الشموع هو التعويض الوحيد املتاح
ألجدادنا لدرء املخاطر غري املعروفة أيا كان نوعها، سواء كانت حقيقية أو خارقة
للطبيعة، والتي قد تكون كامنة عىل مقربة متاما من ذلك التجمع الواهي من الضوء
املرتعش. ال بد أن خربة أجدادنا بالحياة اليومية كانت طوال فرتة طويلة من الوقت
مؤلفة من أشكال نصف متشكلة، ونصف ضوء، وعجز يائس عن السيطرة عىل
البيئة املحيطة بهم. تخيل الفرق الهائل الذي حدث عندما غمر الضوء الكهربايئ يف
نهاية املطاف هذا العامل املظلم والرشير. أي نوع من الفكر والتوّجه العقيل الجديد
ُنه ذلك، فمن الواضح أنه ّمثل مراجعة مثرية للواقع الذي

قد حدث؟ ومهام كان ك
ّ تكيف عليه نوعنا، والذي عمل بالتايل عىل تغيرينا.
دعونا ننتقل إىل ّ تطور أكرث حداثة: التلفاز. منذ وقت اخرتاعه نحو منتصف
القرن العرشين ّمتثل القلق يف أن التلفاز سيكون له تأثري سيئ عىل أدمغة األطفال،
وأنهم سيحصلون عىل »عيون مربعة« وسيتوقفون عن القراءة واللعب يف الهواء
)٭( هم جامعة من العامل هاجمت مصانع النسيج يف بريطانيا بني العامني 1811 و،1816 وحطمت اآلالت
الجديدة احتجاجا عىل ما مثلته من خطر عىل العاملة اليدوية. وقد يكون اسمهم نسبة إىل نيد لود Ludd Ned،
أحد املشاركني يف تلك الهجامت. ]املحررة[.

31
أزمنة غري مسبوقة
الطلق. وعىل أي حال، فباعتبار أن البث التلفازي كان يحدث خالل فرتات محدودة
من املساء فقط، وباعتبار أنه يف ذلك الوقت كانت هناك ثقافة سائدة ملامرسة
األلعاب يف الهواء الطلق، والقراءة، وتناول الوجبات العائلية الجامعية، فقد كان
التلفاز يف الواقع مكمال لنمط الحياة القائم وليس معطال له. ومن ناحية، فبدال
من أن يكون بشريا مبكرا للحاسوب املنزيل، كان التلفاز أشبه بالبيانو يف العرص
الفيكتوري من حيث كونه وسيلة للنشاط األرسي املتامسك وتفاعل أفرادها.
ليس هذا حنينا إىل األيام الذهبية الخوايل. كانت السنوات الوسطى من القرن
العرشين غري مريحة جسديا وقاسية، ومن ثم فإن إعادة الزمن إىل الوراء، حتى لو
كان ذلك ممكنا بصورة ما، ليست فرضية جذابة: من ذا الذي سيختار بكامل وعيه
أن تكون غرفة نومه باردة من دون تدفئة وذات طبقات ال ُتسمن وال تغني من
جوع من البطانيات الخشنة الرقيقة؟ تلك كانت أزمنة مختلفة. كان هناك جهاز
تلفاز واحد يف كل بيت، هذا إذا كنت محظوظا؛ ففي البداية، عادة ما كان هناك
منزل واحد فقط يف كل شارع ميكنه التباهي بامتالك هذه األعجوبة، ومن ثم
يجذب زوارا ال حرص لهم للمشاركة يف االنبهار. حتى يف ستينيات القرن العرشين

ّد شعورا بالحس الجامعي.

كانت مشاهدة التلفاز تول
مل يكن ليشء أن يكون أبعد عن سيناريو القرن الحادي والعرشين، حيث يهرع
أحد أعضاء األرسة عند عودته من العمل أو املدرسة إىل الجلوس ساعات طويلة يف
حبس انفرادي طوعي أمام الشاشة. من بني الفروق الكبرية بني التقنيات السابقة
ونظرياتها الرقمية الحالية، هناك فرق ّكمي، وهو مقدار الوقت الذي تحتكر فيه
الشاشة اهتاممنا النشط والحرصي بطريقة مل يسبق مطلقا أن فعلها الكتاب،
والسينام، والراديو، وحتى التلفاز. يعتقد عامل املستقبليات ريتشارد واطسون
Watson بصورة مؤكدة أن الدرجة التي تسيطر بها التقنيات الرقمية عىل حياتنا
هي التي تصنع الفرق الحاسم: »لقد ظللنا دامئا نخرتع أشياء جديدة. وكنا نقلق دامئا
بشأن األشياء الجديدة، كام ظللنا نشتيك دوما من األجيال األصغر سنا. من املؤكد أن
معظم ]ذلك[ ما هو إال تخمني معجون بخوف من التكنولوجيا يف منتصف العمر.
أعتقد أن الجواب عىل هذا يختلف قليال هذه املرة. يزداد انتشار ]الشاشات[ يف كل
.
)1(
مكان. وقد أصبحت باعثة عىل اإلدمان، كام أنها أصبحت مفروضة«

32
ّ تغير العقل
ّ ال يقترص األمر عىل الوجود املادي املطلق للشاشات الذي قد يفرق اآلن بني مظهر
املنزل العادي من املنازل السابقة، بل مثة خاصية غري مرئية مل يكن باإلمكان ّ تصورها
قبل عقد واحد من الزمن، حيث ميكن ألفراد العائلة أن يظلوا عىل اتصال مستمر
خارج إطار املنزل بصورة أكرث حميمية من تواصلهم مع أفراد األرسة املبارشين الذين
يعيشون عىل مقربة منهم. كل بالغ وطفل منفرد ميتلك اآلن أجهزة رقمية متعددة،

.
)2(
يستخدمها للرتفيه، والتواصل االجتامعي، والحصول عىل املعلومات
هناك شد وإرخاء، عىل الرتتيب، نحو الفضاء اإللكرتوين الذي توفره، عىل سبيل
املثال، عزلة الجهاز املحمول و/ أو غرفة النوم املتعددة الوظائف، وبعيدا عن
النقطة املركزية السابقة ألنشطة األرسة. يف املايض، كانت غرف النوم متثل أماكن
للعقوبة ُي َنفى فيها الطفل عقابا عىل السلوك السيئ - وهو أمر بعيد كل البعد عن
املالذات التي متثلها للعديد من الشباب اليوم. كان املطبخ الدافئ، أو غرفة املعيشة
حيث يجلس أفراد الوحدة العائلية معا، هو املنتدى الرئييس للتفاعل والحصول عىل
املعلومات، كام كان يوفر إطارا وجدوال زمنيا للوجود اليومي. أما اآلن، فعامل الشاشة
املوجودة يف غرفة النوم، أو يف أي مكان آخر، يطرح يف كثري من الحاالت سياقا
بديال لتحديد وترية النشاط، ووضع املعايري والقيم، وبدء املناقشات، وتوفري وسائل
الرتفيه، يف حني صار تناول الوحدة األرسية وجبة من الطعام معا أقل محورية يف
خضم االتجاهات املجتمعية األشد تعقيدا، مثل الطالق والزواج مرة أخرى، فضال

ّبا.
عن أمناط العمل األكرث تنوعا وتطل
وفيام وراء االنتشار الكيل للتقنيات الرقمية باملقارنة باالخرتاعات التي تعود إىل
العصور السابقة، مثة فرق آخر هو التحول من التكنولوجيا كوسيلة إىل كونها غاية
يف حد ذاتها. تنقلك السيارة من مكان إىل آخر؛ وتعمل الثالجة عىل حفظ الطعام
طازجا؛ كام ميكن لكتاب أن يساعدك عىل معرفة املزيد عن العامل الحقيقي والناس
الذين يعيشون فيه. غري أن التكنولوجيا الرقمية لديها القدرة عىل أن تصبح الغاية
بدال من الوسيلة، أي أن تتحول إىل أسلوب حياة يف حد ذاتها. وعىل الرغم من أن
ّم كجزء من
الكثريين سيستخدمون اإلنرتنت للقراءة، أو تشغيل املوسيقى، والتعل
حياتهم يف عامل ذي ثالثة أبعاد، فإن العامل الرقمي يوفر إمكانية، أو حتى إغراء،
ّم،
ألن يصبح عاملا قامئا بذاته. من التواصل االجتامعي إىل التسوق، والعمل، والتعل

33
أزمنة غري مسبوقة
واللهو، فإن كل ما نقوم به يف كل يوم ميكن اآلن أن يحدث بطريقة مختلفة جدا
يف مساحة موازية يتعذر تحديدها. للمرة األوىل عىل اإلطالق، تتفوق الحياة أمام

.
)3(
شاشة الحاسوب عىل الحياة الحقيقية
عندما تستيقظ، فإن أول يشء تقوم به هو فحص هاتفك الذيك )62 يف املائة منا(،
ويف جميع االحتامالت ستقوم بفحص هاتفك يف غضون الدقائق الخمس عرشة األوىل
)4(. ويف العام 2013 ذكر 25 يف املائة من مستخدمي

من االستيقاظ )79 يف املائة منا(
الهواتف الذكية يف الواليات املتحدة، الذين ترتاوح أعامرهم بني 18 و44 سنة أنهم ال
يتذكرون مرة واحدة مل تكن خاللها هواتفهم الذكية يف متناولهم أو يف الغرفة نفسها.
وبعد االستيقاظ تلتقط فنجانا من القهوة وكعكة دمناركية أثناء ّ تصفح رسائل الربيد
اإللكرتوين التي رمبا أتتك خالل الليل، وكذلك إرسال بعضها. لنفرتض أن وظيفتك
)5(؛
ّمتكنك من العمل من املنزل، كام يفعل نحو 20 يف املائة من املهنيني األمريكيني
ستقوم حينئذ باالنخراط يف العمل. ويف حني توجد أمامك املهام التي ينبغي عليك
تنفيذها، سيكون أمامك أيضا موقع تويرت مفتوحا ملتابعة أخبار املشاهري املفضلني
لديك، جنبا إىل جنب مع صفحتك عىل الفيسبوك للتأكد من أال تفوتك أي أخبار.
ستحتاج أيضا إىل متابعة ّ تفحص مواقع الشبكات االجتامعية لديك، مثل تحديثات
مواقع مثل إنستغرام Instagram أو سناب شات Snapchat، والتقاط صور رسيعة
ملا ستتناوله عىل الغداء )لقد طار الوقت(، وأن تكون يف الوقت نفسه عىل أهبة
االستعداد لتلقي تلك الرسائل النصية القدمية الجيدة. وبعد أن تستنفد طاقتك كل
هذه املهام املتعددة أثناء العمل، تسرتخي عن طريق مشاهدة فيديو عىل موقع
يوتيوب، والذي اجتذب عددا كبريا من املشاهدات، أو ميكنك تحميل أحدث حلقة
من أحد الربامج التلفزيونية. وبعد ذلك، ستجد أن الوقت قد حان لطلب منتجات
البقالة خاصتك والتشايف النفيس من خالل التسوق عرب اإلنرتنت. يف العام 2011
اشرتى 71 يف املائة من مستخدمي اإلنرتنت البالغني يف الواليات املتحدة السلع عرب
)6(، ويف السنة التالية تسوق عدد مقارب بلغ 87 يف املائة من البالغني يف
اإلنرتنت

.)7(
اململكة املتحدة بني سن الخامسة والعرشين والرابعة واألربعني عرب اإلنرتنت
وبحلول العام 2017 من املتوقع أن تشكل املبيعات عرب اإلنرتنت 10 يف املائة من
جميع مبيعات التجزئة يف الواليات املتحدة. ولكونك يف حاجة إىل التحفيز واإلثارة

34
ّ تغير العقل
والهروب من الواقع بعد أن تعرف كم املال الذي أنفقته، ستقوم حينئذ بغمر نفسك
.)8(
يف لعبة فيديو مثرية، مثلام يفعل بالتحديد نحو 58 يف املائة من جميع األمريكيني
غري أنك اآلن تشعر بأنك معزول قليال ويف حاجة إىل صحبة بعضهم، وبالتايل تقوم
ّ بتفحص مواقع الشبكات االجتامعية، غري أنك هذه املرة تبحث من كثب يف مواقع
املواعدة عرب اإلنرتنت. ينفق مستخدمو اإلنرتنت يف الواليات املتحدة 22.5 يف املائة من
.)9(
الوقت الذي يقضونه عىل اإلنرتنت عىل مواقع الشبكات االجتامعية أو املدونات
وقد أفاد أكرث من ثلث األزواج الذين تزوجوا بني عامي 2005 و2012 يف الواليات
املتحدة بأنهم التقوا رشيك حياتهم عرب اإلنرتنت، حيث حدث ما يقرب من نصف
هذه اللقاءات عرب مواقع املواعدة عىل اإلنرتنت والباقي عرب مواقع اإلنرتنت األخرى،
)10(. أما العامل املادي الحقيقي،

مثل مواقع الشبكات االجتامعية والعوامل االفرتاضية
وما نقوم به فيه، فقد تتضاءل أهميته أكرث فأكرث مع تاليش القيود التقليدية للزمان
واملكان. ومع تكيف كل واحد منا عىل ُبعد جديد مل يسبق له مثيل، فأي نوع من
األفراد قد يظهر يف نهاية املطاف؟
من املؤكد أنه سيكون شخصا أقل تناغام مع الهواء الطلق. منذ العام 1970
ّص نصف قطر دائرة نشاط الطفل، وهو مقدار املساحة املحيطة باملنزل التي
تقل

)11(. ُويعد هذا التقييد

يتجول فيها الطفل بحرية، بدرجة مذهلة بلغت 90 يف املائة
ّعب أمرا غري مسبوق.
لل
ّ يف كتابه املعنون »تاريخ لعب األطفال وبيئات اللعب«، تتبع الدكتور جو فروست
Frost تاريخ لعب األطفال منذ سجالته املبكرة يف اليونان القدمية وروما إىل الوقت
الحارض، وخلص إىل أن »األطفال يف أمريكا صاروا أقل نشاطا بصورة متزايدة، من
خالل التخيل عن اللعب التقليدي يف الهواء الطلق، والعمل واألنشطة البدنية األخرى
وا ّ لتحول إىل اللعب االفرتايض الذي يحدث من خالل الجلوس يف األماكن املغلقة،
أو اللعب بالتكنولوجيا أو ساحات اللعب عرب اإلنرتنت Cyberplaygrounds، إىل
)12(. إن عواقب الحرمان من اللعب والتخيل عن

جانب اتباع نظم غذائية غري صحية«
اللعب يف الهواء الطلق قد تصبح بالفعل قضايا أساسية يف رفاهية األطفال.
يتسم محتوى منط الحياة املرتكز عىل الشاشة بكونه غري مسبوق ليس فقط
من حيث كيفية صياغته لألفكار واملشاعر، بل بسبب اآلثار البديهية لعدم مامرسة

35
أزمنة غري مسبوقة
الرياضة أيضا وعدم اللعب والتعلم يف الهواء الطلق، يف حني أن عددا متزايدا
من املتابعني املتحمسني للتقنيات الرقمية قد يختارون يف نهاية املطاف استخدام
التقنيات عرب األجهزة النقالة بصورة حرصية، فاليزال يحدث يف الوقت الحارض إنفاق
قدر ال بأس به من الزمن يف الجلوس أمام شاشة الحاسوب. ويف أي حال إذا كنا
مشغولني بإرسال واستقبال الرسائل النصية أو التغريدات عرب هواتفنا النقالة، حتى
أثناء سرينا، فامزلنا أقل احتامال ملامرسة قدر أكرب من الرياضة البدنية الشاقة مام كنا
لنفعل خالف ذلك. مثة نتيجة واضحة للميل إىل الحياة الخاملة، أال وهي اكتساب
الوزن. تنبع السمنة من عوامل كثرية، مبا يف ذلك تناول النوع والكمية الخطأ من
الطعام، وكذلك انخفاض استهالك الطاقة. ومن الصعب وضع ترتيب معني لألحداث:
ما إذا كان الطفل الذي ال يحب الرياضة كثريا سيكون أكرث انجذابا إىل الشاشة أم
إن أسلوب حياة الشاشة لديه جاذبية تفوق تسلق األشجار، وهو سيناريو أشبه
ّه هنا. وبدال من ذلك، نحن يف حاجة إىل

بسيناريو الدجاجة والبيضة، ويستحيل حل
النظر إىل منط الحياة الرقمية ّ ككل، سواء من حيث زيادة الوقت الذي يجري إنفاقه
عىل الحياة يف ُبعدين وانخفاض الوقت الذي يجري إنفاقه عىل الحياة يف ثالثة أبعاد.
عىل سبيل املثال، وصلتني أخريا رسالة بالربيد اإللكرتوين من أب لطفلني يف

أسرتاليا، لخص فيها األمور بطريقة الفتة للنظر متاما:
ّ يف نهاية األسبوع املايض تعر ّ ضت للحظة منورة، حيث كان أطفايل

يتحركون بصورة متكاسلة يف جميع أنحاء املنزل، وهم يستخدمون وسائل
التكنولوجيا ويتشاجرون حولها. وعندما متكنت أخريا من إجبارهم عىل
الخروج لنزهة قصرية، أخذنا الدراجات وشاهدت بفرحة الضحك واملرح
اللذين عاشهام األطفال ملجرد صعود وهبوط منعطف منحدر بعينه عىل
هذا الطريق الريفي الهادئ. إن استمتاع األبناء وضحكاتهم وقهقهاتهم
متثل بالفعل موسيقى تطرب لها آذان الوالدين، لكنني ال أسمع هذه
الضحكات مطلقا عندما يستخدمون التكنولوجيا.
سلطت املعلمة السابقة، سو باملر Palmer، الضوء عىل هذا املوضوع يف العام
.2007 يتضمن كتابها املعنون »الطفولة السامة« قامئة باألنشطة البسيطة التي
يجب أن يكون الطفل قد مارسها قبل أن يصل إىل مرحلة املراهقة، مثل تسلق

36
ّ تغير العقل

)13(. من
شجرة، والتدحرج أسفل تلة كبرية حقا، وتخطي حجر، والركض تحت املطر
املحزن أن هذه األنشطة الطفولية، التي كانت ُتعد أمرا مفروغا منه قبل جيل أو
نحوه، ُترسد اآلن كأهداف محددة، والتي قد ال تتحقق بخالف ذلك. ويف الوقت
نفسه، ويف تقرير صدر أخريا عن مؤسسة الرتاث القومي Trust National، جرت
صياغة مصطلح »اضطراب نقص الطبيعة« disorder deficit nature ليس لوصف
حالة مرضية حقيقية، بل بوصفه تعبريا حيا عن منط متوطن من السلوك، الذي
أشار للمرة األوىل عىل اإلطالق إىل أننا رصنا منفصلني عن العامل الطبيعي مع كل
)14(. حتى املتعصب الرقمي األكرث تشددا ال

جامله وتعقيده ومفاجآته املتواصلة
ميكنه الهروب من حقيقة بسيطة، وهي أن كل ساعة ميضيها أمام الشاشة، مهام
كانت رائعة، أو حتى نافعة، هي ساعة تقىض من دون اإلمساك بيد شخص ما أو
استنشاق نسيم البحر. ورمبا يصبح االسرتخاء واالستمتاع، ويف صمت، سلعة نادرة
لدرجة أنه بدال من أن يكون جزءا طبيعيا من الذخرية البرشية، سيجد نفسه عىل
قامئة األمنيات املستقبلية الحزينة.
كانت الربوفيسورة تانيا بايرون Byron، وهي طبيبة نفسانية بريطانية اشتهرت من
خالل عملها كمعالجة لألطفال عىل شاشات التلفاز، مهتمة يف البداية عىل وجه التحديد
بتنظيم شبكة اإلنرتنت؛ غري أنه بعد عامني فقط أدركت أن املسألة ال تتعلق بكف
األذى فحسب، بل تتعلق بتحديد أفضل بيئة ممكنة فيام وراء خربات الشاشة. وقد
كتبت قائلة: »كلام تناقص وقت لعب األطفال يف الهواء الطلق، انخفض ما يتعلمونه
ملواجهة املخاطر والتحديات التي سيواجهونها كبالغني. ال يشء ميكنه أن يحل محل
ما يكتسبه األطفال من الحرية واستقاللية الفكر من خالل تجربة أشياء جديدة يف
)15(. يف املايض كان معظم اللعب يحدث عادة خارجا يف الحقول والغابات أو يف
العراء«
الشوارع الخلفية من املناطق الحرضية. ما عليك سوى إلقاء نظرة عىل الكتب العديدة
التي ألفتها كاتبة األطفال إنيد باليتون Blyton يف منتصف تسعينيات القرن العرشين،
حيث كان األبطال والبطالت الشبان منشغلني بالقبض عىل املهربني وغريهم من األرشار
املشبوهني لدرجة أنهم مل يكونوا يعودون إىل منازلهم إال لتناول الشاي والنوم.
يف ذلك الوقت، يف كل من الروايات والواقع، كانت البيئة التي ترعرعت فيها
توفر خلفية ودعائم، وليس رسدا فعليا. كانت القصة تأيت من داخل رأسك - كان

37
أزمنة غري مسبوقة
عليها أن تفعل ذلك - وتنشأ من التفاعل مع أصدقائك كأن تصبح راعي البقر أو
الهندي األحمر. كان األمر هو نفسه بداخل املنزل، حيث كانت توضع الخطط
وتظهر خطوط القصة من اللعب بالعرائس أو الجنود أو من لعبة وضع املالبس عىل
الدمى. كانت األشجار، ودفاتر الرسم، والدمى )عادة جنبا إىل جنب مع صناديق
الورق املقوى التي أتت الدمى فيها( مجرد أدوات وتلميحات للعبتك، أو قصتك، أو
السيناريو املوّجه من داخلك - وقبل كل يشء، لخيالك. ويف بعض األحيان قد تشعر
بامللل حتى بصورة منتظمة. لكن تلك كانت نفس حالة نقص التحفيز التي دفعتك
إىل رسم صورة، أو اخرتاع لعبة، أو الخروج للعب يف الهواء الطلق. إن النقطة التي
أود التأكيد عليها هي أنك كنت املوّجه، متحكام يف العامل الداخيل الخاص بك، أي
يف واقعك الخاص.
ّ غري أن الشاشة اآلن قد تكون هي املوجه. مام ال ميكن إنكاره أنك يجب أن تأخذ
زمام املبادرة يف تشغيل الجهاز والتنقل عرب خياراتك، لكن مبجرد أن تختار نشاطا
بعينه، ستبتلعك تجارب اإلنرتنت املذهلة املفتعلة من قبل شخص آخر. أنت اآلن
مجرد ٍ متلق سلبي، وعىل الرغم من أن ألعابا مثل لعبة Sims The، عىل سبيل املثال،
تسمح لك بتعديل العوامل وصنعها، فإن ذلك يحدث دامئا ضمن املعايري الثانوية
ّ لتفكري مصمم اللعبة. إنني ألتساءل عن مقدار الوقت الذي كان ُي َنفق يف السابق يف
السري بالهواء الطلق، أو العزف عىل البيانو، أو إجراء محادثة مبارشة، والذي صودر
اآلن ملصلحة نشاط يجري عرب اإلنرتنت cyberactivity، وهو نوع جديد متاما من
البيئات التي ال يحدث فيها تحفيز حاسة الذوق، والشم، واللمس، حيث ميكنك أن
تظل جالسا من دون حراك متاما فرتات طويلة من الزمن، وحيث تلغى فيها الخربات
الناجمة عنها الطرق التقليدية للحياة من أجل املرغوبية واإلثارة.
ّ سيكون من قبيل التبسيط املفرط أن نفكر يف منط الحياة الرقمية الجديدة
القوية والواسعة االنتشار باعتباره إما متجيدا للوجود اإلنساين أو ألشد الحضارات
ّسمية عىل اإلطالق. ُيعرض علينا مزيج غري مسبوق ومعقد من الفرص والتهديدات،
غري أنه ليس من املرجح أ َ ن يتفق الجميع عىل م ّ ن يشكل ماذا بالتحديد.

39
مسألة مثرية للجدل

ّـــق الصحايف األمريكـــي

ذات مــرة، عل
هـ. ل. مينكني Mencken ساخرا: »لكل
مشكلة معقدة هناك إجابة واضحة وبسيطة،
وخطأ«. الرصاع بشأن ما إذا كانت التكنولوجيا
الرقمية »جيدة« أم »سيئة« للعقل البرشي أمر
ال معنى له، بقدر املجادلة حول ما إذا كانت
السيارة »جيدة« أم »سيئة«. ومع ذلك، فإن
املناقشات حول القضية املعقدة رّ لتغي العقل
ُت ّ عد أمرا ال مفر منه، ألنها ستمحص الطريقة
التي نعيش بها حياتنا، وذلك النوع من البرش
الذي قد ينتهي بنا األمر إليه. وبدال من تبني
مواقف ساذجة ومستحصنة مثل »الجيد« أو
»السيئ«، أو »الصواب« أو »الخطأ«، نحتاج
أوال إىل أن نرى املواضع الحقيقية التي ُرسمت
فيها مختلف خطوط املعركة، وبعد ذلك النظر
إىل كيف ميكننا حل أي نزاع ناتج عنها بخصوص
الفهم والتوقع.
مسألة مثرية للجدل

»انقسمت مجموعة الخرباء الرقميني
بالتساوي تقريبا بشأن توقعاتهم
بالنسبة إىل املستقبل. ولكن رمبا كان
األمر األكرث إنباء هو أن كثريا ممن
انحازوا إىل جانب التنبؤ اإليجايب
أشاروا إىل أن ذلك ميثل أملهم أكرث
من أنه أفضل تخميناتهم«
3

40
ّ تغير العقل
ال مناص من أن يدور أكرب جدل بشأن السؤال األساس املتعلق باألدلة: ما
مدى قوتها وما الذي ُتثبته حقا. وقد اقرتح تقريران عىل وجه الخصوص، عكفا
عىل دراسة األدلة عىل مدى السنوات القليلة املاضية، وجود حالة من »نصف
الكوب اململوء«. كتبت أحد التقريرين أستاذة علم النفس تانيا بايرون يف العام
،2008 ويتناول املخاطر التي يواجهها األطفال من اإلنرتنت وألعاب الفيديو(1). وقد
خلص تقريرها إىل االستنتاج غري املفاجئ بأن »اإلنرتنت وألعاب الفيديو رائجة لدى
ّ األطفال والشباب، وتوفر مجموعة من الفرص للمتعة، والتعلم والتطور«. ومع ذلك،
كانت لدى بايرون مخاوف بشأن املواد املحتمل كونها غري الئقة، التي ترتاوح بني
املحتوى العنيف وبني سلوك األطفال يف العامل الرقمي. كام لفتت االنتباه إىل فكرة
أن تفكرينا ينبغي أال يقترص عىل *** يستخدم األجهزة الرقمية يف عزلة، ولكننا
يجب أن ندرك أن الصورة األوسع لنمط الحياة هي وثيقة الصلة للغاية، وليس أقلها
عالقة الطفل بوالديه.
إن الفجوة الرقمية بني األجيال تعني أن اآلباء ال يشعرون بالرضورة بقدرتهم
عىل مساعدة أبنائهم يف هذه املساحة غري املألوفة، وهو األمر الذي ميكن أن يؤدي
إىل الخوف والشعور بالعجز. ومن املمكن أن يتفاقم هذا الوضع املحزن بفعل ثقافة
أوسع تتسم بالنفور من املخاطر، والتي تتوجه عىل نحو متزايد إىل إبقاء األطفال
داخل املنازل عىل الرغم من احتياجاتهم النامئية لالختالط يف املجتمع و ّ تحمل
املخاطر. ويف حني أن الثقافة التي تنفر من املخاطر ال ميكنها بأي حال من األحوال
أن تنتج حرصيا عن الحياة يف مواجهة الشاشة، فمن الواضح أنها توفر حافزا جذابا
وبديال إلقناع الطفل بسهولة بعدم املغامرة يف الخارج. مثة نتيجة أخرى غري مثرية
ّ للجدل توصل إليها تقرير بايرون، وهي أنه يف حني أن األطفال يتعاملون بثقة مع
التكنولوجيا، فاليزالون يطورون مهارات التقييم النقدي ويحتاجون إىل مساعدة
الكبار عىل اتخاذ قرارات حكيمة. وفيام يتعلق باإلنرتنت، نحن يف حاجة إىل »ثقافة
مشرتكة من املسؤولية«.
وقد انصب تركيز بايرون الحقيقي عىل الحامية، لكن تقريرها تناول أيضا
القضية األوسع املتمثلة يف متكني األطفال: »سيكون األطفال أطفاال يدفعون الحدود
ويتحملون املخاطر. يف بركة السباحة العامة لدينا بوابات، ونضع الفتات، ونعينّ

41
مسألة مثرية للجدل
منقذين ونوفر نهايات ضحلة، ولكن علينا أيضا تعليم األطفال كيفية السباحة«. مع
ذلك، فإن أي شخص يقرأ تقرير بايرون يف الوقت الحايل سيشعر بأنه ليست هناك
حاجة ملحة إىل القيام بأي فعل ثوري، أو حتى مجرد اعرتايض.
حدثت قصة مشابهة بعد ذلك بقليل، وبالتحديد يف العام ،2011 عندما جرى
تكليف عامل األعصاب الدكتور بول هوارد-جونز Jones-Howard من جامعة
بريستول بإجراء مراجعة عن تأثري التقنيات الرقمية يف رفاهية البرش. وبناء عىل
ذلك، رشع هوارد-جونز يف مناقشة ما عمل مجال علم األعصاب عىل توطيده بشأن
آثار التقنيات التفاعلية يف السلوك والدماغ واملواقف، مع الرتكيز بشكل خاص عىل
األطفال واملراهقني. ويف نهاية املطاف، فإن »طليعة تقدمنا يف هذا العامل الجديد
هي أطفالنا، خصوصا مراهقينا. نحن نعلم أن الدماغ النامي يتسم بأنه أكرث مرونة،

.
كام يستجيب بصورة مطواعة أكرث للتجربة من دماغ البالغني«(2)
ومن الجدير بالثناء أن هوارد-جونز أبرز الحاجة إىل فهم استخدامات التقنيات
يف سياق محدد بدال من تصنيف تقنيات معينة، أو التكنولوجيا بشكل عام، ضمن
وصف عام باعتبارها »جيدة« أو »سيئة«. وكذلك فقد ألقى الضوء عىل النتائج
التي تشري إىل أن بعض التدريب املرتكز إىل التكنولوجيا ميكنه تحسني الذاكرة
العاملة أو توفري تحفيز ذهني يؤدي إىل إبطاء التدهور املعريف، يف حني ميكن لبعض
ّ أنواع األلعاب أن تحسن املعالجة البرصية ومهارات االستجابة الحركية. ومع ذلك،
فقد حددت هذه املراجعة أيضا ثالثة مخاطر محتملة يتعرض لها األطفال: ألعاب
الفيديو العنيفة، واستخدام األلعاب وغريها من التقنيات مبا يؤدي إىل مشكالت
يف النوم، وأن اإلفراط يف استخدام التكنولوجيا له تأثري جسدي أو عقيل سلبي أو
يتداخل يف الحياة اليومية. وتابع التقرير مشريا إىل أن أي تغريات يف عقلية األجيال
ُ املقبلة ستنذر، وهو أمر بالغ األهمية، بحدوث تغريات يف املجتمع ككل - وبالتايل
فإن هذه القضايا وثيقة الصلة بنا جميعا، أيا كان عمرنا.
ترسم هذه اللمحات الرسيعة لتقريري بايرون وهوارد-جونز صورة للمواطن
الرقمي التزال يف الوقت الحايل غري واضحة وغري مؤكدة، لكنها متفائلة عىل نحو
حذر. يرتك كال التقريرين، يف أحسن األحوال، شعورا عاما بالتفاؤل املتحفظ، ويف
أسوأ األحوال يدعنا مع االستنتاج املعتاد من النمط األكادميي، والذي مفاده أن

42
ّ تغير العقل
الحكم مل يصدر بعد بسبب »وجود حاجة إىل مزيد من األبحاث«. يرسم كل من
بايرون وهوارد-جونز صورة ملتبسة ولكنها إيجابية عموما عن عمل قيد التنفيذ،
طاملا ظللنا منتبهني باستمرار للمخاطر املوجودة يف كل مكان مثل ّ التنمر bullying،
واالستاملة الجنسية، واأللعاب العنيفة. وتتعلق أي مخاوف طرحها كال الباحثني
بصورة أكرب بالتنظيم. وعىل العموم، فقد كانت االستنتاجات يف كلتا الحالتني تهفو
ّم، واملخالطة االجتامعية، وتحسني

نحو الجانب املتوسط اإليجابية فيام يتعلق بالتعل
الوظائف العقلية. يظل الكوب نصف ممتلئ، مادام الجميع يترصفون بحكمة.
لكن مثل هذه التقييامت املطمئنة تبدو أقل عددا بكثري من األصوات الصادرة
عن مختلف املهنيني يف مختلف أنحاء العامل، والذين مل يكلفوا بتقديم ملحة رسيعة
ّ معممة عن اللحظة الراهنة، لكنهم يتعاملون بدال من ذلك مع ما يحدث عندما ال
يكون استخدام التقنيات الرقمية حكيام. ويف هذه الحالة، يبدو الكوب نصف فارغ.
أوال، هناك وجهة النظر التي ُطرحت يف كتب مثل »االضطراب اإللكرتوين« iDisorder
ملؤلفه الطبيب الري روزين (3)Rosen أو »وحدنا معا« من تأليف عاملة النفس يف معهد
ماساتشوستس للتكنولوجيا شريي تاركل(4)، والذي يشري إىل أنه كلام ازداد تواصل الناس
عرب اإلنرتنت، ازداد شعورهم بالعزلة. ويف كلتا الحالتني، ترتكز املخاوف عىل الوقت الذي
يصبح فيه استخدام اإلنرتنت رضبا من الهوس. ولعل من املدهش أن أساطني الصناعات
الرقمية أنفسهم يشعرون بدورهم بالقلق. احتل بيز ستون Stone، وهو أحد مؤسيس
موقع تويرت، عناوين األخبار عندما ّرصح يف أحد املؤمترات قائال: »إنني أحب هذا النوع
من املشاركة حيث ميكنك الذهاب إىل املوقع اإللكرتوين ومن ثم تغادره ألنك وجدت
ما كنت تبحث عنه أو أنك عرثت عىل يشء مثري لالهتامم للغاية، ومن ثم فقد تعلمت
شيئا«(5). والفكرة هي أن تستخدم تويرت لتحسني جودة حياتك الحقيقية. ولكن حتى
هو يعتقد أن استخدام تويرت ساعات يف كل مرة »يبدو غري صحي«، ولعل سبب ذلك هو
أن اخرتاعه قد صار منطا للحياة يف حد ذاته. ثم هناك إريك شميت Schmidt، الرئيس
التنفيذي سابقا ورئيس مجلس إدارة غوغل حاليا، والذي قال: »أشعر بالقلق من أن
مستوى املقاطعة، أي ذلك النوع من الرسعة الساحقة للمعلومات... يؤثر يف الواقع يف
اإلدراك. فهو يؤثر يف التفكري األعمق. ومازلت أعتقد أن الجلوس وقراءة كتاب هو أفضل
.
ّم يشء ما يف الواقع. وأخىش أننا يف سبيلنا إىل أن نفقد ذلك«(6)
وسيلة لتعل

43
مسألة مثرية للجدل
تتسم هذه املخاوف بأنها مستبرصة يف ضوء ما يعبرّ عنه كثري من علامء
األعصاب والخرباء الطبيني(7). وعىل سبيل املثال، فقد خلص عامل األعصاب مايكل
مريزينك Merzenich، وهو أحد الرواد يف إثبات قدرة الجهاز العصبي املذهلة عىل
ّ التكيف، باللغة املتحفظة تقليديا، والتي عادة ما تكون مطلوبة من تخصصه، إىل
أنه: »وبالتايل، يوجد فارق هائل وغري مسبوق يف الكيفية التي تشارك بها أدمغة
]املواطنني الرقميني[ بصورة مطواعة يف الحياة مقارنة بأدمغة األفراد العاديني الذين
ينتمون إىل األجيال السابقة، وليس هناك شك يف أن الخصائص التشغيلية للدماغ

.
املتوسط الحديث تختلف بصورة جوهرية«(8)
ُويعرب املعلمون عن القلق أيضا. يف تقرير صدر يف العام ،2012 والذي استطلع
آراء أربعامئة مدرس بريطاين، ذكر ثالثة أرباع املشاركني حدوث انخفاض كبري يف
سعة انتباه طالبهم الصغار(9). ويف العام نفسه، أظهر مسح شمل أكرث من ألفني من
معلمي املدارس الثانوية يف الواليات املتحدة أن 87 يف املائة من املعلمني يعتقدون
أن التقنيات الرقمية تخلق »جيال يتشتت انتباهه بسهولة مع سعات انتباه قصرية«.
ويف حني وافق 64 يف املائة عىل أن هذه التقنيات لديها تأثري أكرث تشتيتا لالنتباه
من كونه مفيدا للطالب من الناحية األكادميية(10). وقد ظهر تنوع املهن املختلفة
التي عبرّت عن عيوب األجهزة الرقمية بشكل جيد يف رسالة مفتوحة جرى توجيهها
يف سبتمرب من العام 2011 َّ إىل الصحيفة الربيطانية املحرتمة، الدييل تلغراف، ووقع
عليها مئتان من املعلمني واألطباء النفسيني، وعلامء األعصاب، وغريهم من الخرباء

.
الذين أعربوا عن مخاوفهم بشأن »تآكل الطفولة«(11)
وعىل أي حال، رمبا كان واحدا من أكرث استطالعات الرأي تعبريا ذلك الذي
استهدف الهواة املتحمسني للفضاء اإللكرتوين أنفسهم. عمد مركز بيو لألبحاث يف
الواليات املتحدة، جنبا إىل جنب مع جامعة إيلون، إىل سؤال أكرث من ألف من
خرباء التكنولوجيا عن الكيفية التي ستتغري بها أدمغة »جيل األلفية« )وهو مصطلح
كثريا ما ُيستخدم بالتبادل مع مصطلح »املواطنني الرقميني«( بحلول العام 2020
ّ نتيجة للتواصل املكثف مع التقنيات الرقمية عىل اإلنرتنت(12) ُ . وقد طلب من أولئك
املهنيني تحديد أي من نبوءتني اثنتني هي األقرب احتامال للحدوث يف املستقبل
القريب، كام ورد يف بيانني متناقضني. كان أحدهام إيجابيا للغاية:

44
ّ تغير العقل
لن يعاين جيل األلفية يف العام 2020 أوجه قصور معرفية بارزة خالل
مامرستهم مهام متعددة ودورانهم برسعة عرب املهام الشخصية واملتعلقة
بالعمل. وهم يتعلمون أمورا أكرث ويربعون يف إيجاد أجوبة عن األسئلة
العميقة، األمر الذي يرجع يف جزء منه إىل أنهم يستطيعون البحث بطريقة
فعالة والوصول إىل الذكاء الجمعي عرب اإلنرتنت. إن التغريات الحادثة يف
سلوك التعلم واإلدراك عادة ما تنتج نتائج إيجابية.
أما اآلخر فقد كان أكرث سلبية:
لن يتمكن جيل األلفية يف العام 2020 من االحتفاظ باملعلومات؛ فهم
يقضون معظم طاقتهم يف تبادل الرسائل االجتامعية القصرية، واالستمتاع
بالرتفيه، كام يتشتت انتباههم بعيدا عن االنخراط العميق مع الناس
واملعرفة. وهم يفتقرون إىل ملكات التفكري العميق؛ ويفتقرون إىل املهارات
االجتامعية املبارشة؛ ويعتمدون بطرق غري صحية عىل اإلنرتنت واألجهزة
النقالة من أجل أداء مهامهم.
وقد انقسمت مجموعة الخرباء الرقميني بالتساوي تقريبا بشأن توقعاتهم
بالنسبة إىل املستقبل. ولكن رمبا كان األمر األكرث إنباء هو أن كثريا ممن انحازوا إىل
جانب التنبؤ اإليجايب أشاروا إىل أن ذلك ميثل أملهم أكرث من أنه أفضل تخميناتهم.
وبالتايل فحتى الخمسون يف املائة أو نحوها من املهنيني الذين ينظرون إىل ثقافة
الشاشة يف ضوء إيجايب عموما، يقومون بذلك، يف كثري من الحاالت، من موقف
التمني وليس من منطلق اليقني أو امتالك حجة عقالنية.
كام أن األدلة اإلضافية التي تشري إىل حدوث يشء خطأ رمبا كانت يف نفس
درجة إقناع رأي الخرباء أو البحوث الوبائية والتجريبية: التطبيقات واملواقع ذاتها
التي تشري إىل اتجاهات واضحة يف أذواق وميول املجتمع الحايل. أحد التطبيقات،
والذي يطلق عليه للمفارقة اسم »الحرية« Freedom، مينع وصولك إىل اإلنرتنت
خالل فرتة من الوقت يحددها املستخدم يف كل ساعة، يف حني ميكنك تطبيق »ضبط
النفس« Control Self من منع نفسك من زيارة املواقع التي تشعر بأنك تتبعها
عل نحو خانع للغاية ولكنك عاجز عن املقاومة. وعىل سبيل املثال، فإن زيدي
سميث Smith، وهي مؤلفة الكتاب األكرث مبيعا »األسنان البيضاء«، قد استشهدت

45
مسألة مثرية للجدل
بهذين التطبيقني عىل اإلنرتنت يف قسم الشكر والتقدير يف أحدث مؤلفاتها(13). يبدو
أنها كانت تكافح من أجل الحفاظ عىل تركيزها يف أثناء تأليف كتابها الجديد بسبب
سبل تشتيت االنتباه املتاحة عىل ُبعد نقرة واحدة عىل شبكة اإلنرتنت. ولذلك فقد
كانت ممتنة لهذين التطبيقني من حيث »إتاحة الوقت« الذي ميكنها الكتابة فيه.
بيد أن زيدي سميث ليست وحدها يف هذا. من الواضح أن نجاح هذه
املؤسسات املزدهرة يطرح سؤاال هو: ملاذا ُتبيل بالء حسنا. ملاذا تحتاج أعداد
متزايدة من الناس إىل بعض الخدمات الخارجية ملنعهم من استخدام شبكة
اإلنرتنت، بدال من إغالقها بأنفسهم؟
وكام هي الحال مع الوجبات الرسيعة أو السجائر، فقد أصبحنا مدمنني عىل
اإللهاء الناجم عن املدخالت الخارجية التي تحدد و ّ تشكل أعاملنا، وخياراتنا،
وأفكارنا. بيد أن وجود هذه التطبيقات ال يعني يف حد ذاته أن هناك وباء لإلدمان
عىل الشاشات، لكنه يشري ضمنا إىل أن هناك ما يكفي من العمالء الذين يعانون
ّ هذه املشكالت لجعل هذه التطبيقات مرشوعات محققة للربح. ال ميكننا أن
نتجاهل أنه حتى املنصات واملستخدمني أنفسهم يعرتفون ضمنا بأن تقنيات الشاشة
قد تكون شيئا نستخدمه عىل نحو استحواذي.
مثة خاصية أخرى مل يسبق لها مثيل ملجتمعنا الحايل، وهي نرش املعلومات
برسعة الربق. إن فضاء املدونات املفرط الرتابط يصل إىل عدد أكرب من الناس برسعة
أكرب من محطات اإلذاعة والتلفزة العاملة باألقامر االصطناعية: فاملواطن الباكستاين
الذي نرش عن غري قصد عرب موقع تويرت تحديثات حية بشأن دهم منزل أسامة بن
الدن كان يف وسعه الوصول إىل جمهور واسع برسعة أكرب من أي شكل آخر من
وسائل اإلعالم. ومع ذلك، ولهذا السبب بالتحديد، ميثل عامل املدونات وسيلة مثالية
لنرش املعلومات الخطأ بشأن القضايا املعقدة، أو حتى مجرد اإلفراط يف تبسيطها.
هذا هو مصب اهتامم شبكة االستجابة للمخاطر التابعة للمنتدى االقتصادي
العاملي، والتي توفر للقادة من القطاعني الخاص والعام منصة مستقلة لتخطيط،
ومراقبة، وتخفيف املخاطر العاملية.
حلل التقرير السنوي للمخاطر العاملية للعام 2013 األثر املدرك واحتامل وقوع
خمسني من املخاطر العاملية السائدة عىل مدى أفق زمني ميتد عىل مدى عرش سنوات؛

46
ّ تغير العقل

.
ومن بني تلك املذكورة كانت »حرائق الغابات الرقمية يف عامل مفرط االتصال«(14)
شاركت ألول مرة يف النزاع الدائر بشأن تأثري التقنيات الرقمية يف فرباير 2009
مع خطايب إىل مجلس اللوردات )املوصوف يف مقدمة هذا الكتاب( عن اآلثار غري
املتوقعة املحتملة عىل العقل البرشي للشبكات االجتامعية(15). كل ما فعلته هو
إثبات حجة العلوم العصبية للدونة الدماغ، واملقبولة عىل نطاق واسع، ومن ثم
اإلشارة إىل أن األنواع الجديدة من تجربة الشاشة يرجح أن يكون لها نوع جديد
من التأثري يف العمليات العقلية. كان رد الفعل، يف جميع أنحاء العامل، غري متناسب
مع القياس املنطقي املبديئ الذي طرحته. ويف حني بدا أن البعض يتفقون معي،
اتخذ البعض اآلخر موقفا حاسام يتمثل يف اإلرصار عىل أنه »ليس هناك دليل«
عىل ما أقول.
ويف حني قد يظن املرء أن هذه القضية املتعلقة باألدلة هي مسألة سهلة الحل،
فاملشكلة مع الحجة السلبية البسيطة هي أنه حتى لو مل تكن هناك نتائج علمية
عىل اإلطالق تعضد هذا األمر، فإن عدم وجود أدلة ليس دليال عىل غيابها. ويف
العلم، ال ميكنك أن ُتثبت عىل نحو قاطع بالتجارب سوى أن نتيجة ما موجودة عىل
نحو إيجايب، وليس العكس مطلقا. وبعد كل يشء، قد يتمثل األمر ببساطة يف أن
االختبار الذي تستخدمه ليس هو األنسب، أو أن أدوات القياس ليست حساسة
مبا فيه الكفاية، أو أن اآلثار ستظهر بصورة متأخرة أو آنية لدرجة ال تناسب فرتة
املراقبة املحددة لديك. واملغزى هنا هو أنك ال تستطيع أن تكون متأكدا بصورة
قاطعة، وبالتايل يجب أن ترتك الباب مفتوحا أمام احتامل أن يكون هناك تأثري
بالفعل، وإن مل تكن قادرا عىل اكتشافه. وبالتايل فمن املستحيل أن تثبت بشكل
قاطع أن األنشطة املرتكزة عىل الشاشة ليس لها أي تأثري عىل اإلطالق يف الدماغ أو
السلوك، بأي قدر أكرث مام ميكنك أنت أو أي شخص آخر إثباته بشكل قاطع، وإذا
أردنا استخدام مثال قديم قدم الدهر، سنقول بأنه ليس هناك إبريق للشاي يدور
يف مدار حول املريخ.
يفرض هذا التقييد مشكلة لكال الجانبني، ألنه يستحيل أن ُتثبت بالقدر نفسه
من التأكيد أن األنشطة املرتكزة إىل الشاشة لها تأثري ال لبس فيه يف الدماغ والسلوك
التايل(16). لنفرتض أنه جرى اإلبالغ عن نتيجة لها تأثري واضح، سواء كان جيدا أم

47
مسألة مثرية للجدل
سيئا. حتى يف تلك الحالة، ففي معرض تقييم النتائج العلمية، فإن عددا قليال من
األوراق املنفردة الخاضعة ملراجعة األقران، وهي املعيار الذهبي للنزاهة املهنية،
ينظر إليه باإلجامع من قبل جميع العلامء باعتباره قاطعا. ومن املامرسات العادية
ُ لألبحاث أن تستمر، وأن ت َراجع التفسريات مع تراكم النتائج. ومن املحتم أن تكون
تفسري ّ ات األدلة شخصانية، مع قيام العلامء املختلفني بصب تركيزهم عىل جوانب
مختلفة أو عىل أولويات مختلفة ضمن الربوتوكول التجريبي. ويف أحوال نادرة
للغاية يكون هناك ّحد فاصل rubicon، والذي يعني مبجرد عبوره أن النتيجة
مقبولة عامليا باعتبارها »الحقيقة«. بيد أن الحقيقة يف العلم تكون مؤقتة دامئا، يف
انتظار أن يأيت االكتشاف التايل الذي ميكنه استبدال وجهة النظر الحالية )أو، كام
ّمة الحالية«(. عندما يرتاكم ما

سيطلق عليه يف ذلك الوقت باستخفاف، اسم »املسل

ّمة، عندما تكافح أمناط الفكر املقبولة لتفسري

يكفي من الشكوك لتحدي هذه املسل
عدد كبري للغاية من الحاالت الشاذة، فإن إعادة تقييم ما هو حقيقي يرقى إىل
اعتباره »نقلة نوعية« - وهو مفهوم طرحه ألول مرة توماس كون Kuhn يف العام
.
)٭((17)
1962 يف كتابه الذي صار كالسيكيا اآلن، »بنية الثورات العلمية«

ّامت بشكل صارم وإغالق

وهناك مثال رائع لكيفية ثبات العلامء عىل املسل
عقولهم مقابل األفكار الجديدة متاما، وهو الثورة التي ّ تحققت يف عالج القرح
ulcers، والتي جرى تطويرها يف تسعينيات القرن العرشين. وبطل القصة هنا
هو الطبيب األسرتايل باري مارشال Marshall. كجزء من تدريبه، عمل مارشال
يف أحد املختربات عىل دراسة البكترييا مع عامل آخر، هو روبن وارن Warren.
ّمة املقبولة، وجدا أن نوعا محددا من البكترييا، هو امللوية البوابية
وخالفا للمسل
pylori Helicobacter، ميكنه البقاء عىل قيد الحياة يف بيئة حمضية للغاية، مثل
املعدة. بدأ مارشال ووارن يتشككان يف جسم املعرفة املقبول عىل نطاق واسع،
والراسخ متاما، القائل بأن القرح تنتج عن وجود كمية مفرطة من الحمض، وبالتايل
تنتج عن اإلجهاد يف املقام األول. ماذا لو كانت القرح ناتجة عن عدوى بكتريية بدال
من ذلك؟ ماذا سيحدث لألدوية الرائجة حاليا يف السوق لعالج القرحة، والتي رمبا
)٭( العدد 168 من سلسلة »عامل املعرفة«. ترجمه إىل العربية شوقي جالل. ]املحررة[.

48
ّ تغير العقل
كانت مصممة للهدف البيولوجي الخطأ؟ كانت اآلثار املرتتبة عىل صناعة األدوية،
فضال عىل املؤسسة الطبية، هائلة. »كان الجميع ضدي«، كام يتذكر مارشال (18).
ّ عىل مدى سنوات عديدة، أدى التحيز غري العلمي القديم إىل تأ ّخر كبري يف القبول
النهايئ لنظرية مارشال ووارن. ولكونهام محرومني من التمويل عىل الرغم من
اقتناعهام بوجاهة نظريتهام، ّ تجرع مارشال بالفعل كوبا من وسط مختربي يحتوي
عىل البكترييا، وأحدث لنفسه قرحة حقيقية، وقد عولجت عن طريق املضادات
الحيوية. وبعد إثبات صحة نظريته يف نهاية املطاف، فاز هو ووارن بجائزة نوبل.
وحتى من دون الحاجة إىل انتظار نقلة نوعية مزلزلة، ميثل الخالف أمرا أساسيا
للعلم: فام يراه باحث ما عىل أنه اكتشاف مثري، قد ينظر إليه باحث آخر بوصفه
ظاهرة عارضة، يف حني أن باحثا ساخرا قد يعتربه أمرا غري ُ مثبت. ال يتعلق األمر بفعل
املالحظة التجريبية، ولكن بالتقييم الشخيص الالحق، حيث يوجد أكرب مجال للجدل
والشك. يف جميع فروع العلم، فإن التفسري الذي يصاغ يف أثناء تأمل العلامء أحدث
البيانات ال يكون قاطعا أبدا. إن أي عامل يعمد إىل كتابة قسم املناقشة إلكامل ورقة
بحثية مقدمة إىل مجلة ّ محكمة سيكون دامئا مبدئيا ومؤقتا، وسيتذكر دامئا أن الحقائق
والعوامل املحتملة البارزة ليست جميعها معروفة. يقطن العلامء عاملا مرتددا هو أبعد
ما يكون عن أن يكون مطلقا، حيث ُيعد الشك أمرا طبيعيا مثل التنفس. وبالتايل، ففي
حني أن االختالف يف العلم أمر طبيعي وال ميكن تجنبه )إن مل يكن مفهوما بالرضورة
منذ البداية(، فإن الرفض املطلق حتى للمناقشة والتفكري يف االحتامالت، كام ميكن
أن يحدث مع مسألة تقنيات الشاشة، ليس كذلك(19). يتمثل السبيل الواقعي الوحيد
للميض قدما يف البحث املتعمق يف أكرب عدد ممكن من األوراق البحثية املنفردة، والتي
تتناول كل منها مسألة معينة، والتي تشكل مجتمعة صورة كلية عامة.
ويف حالة التغريات التي أحدثتها اإلنرتنت عىل املدى الطويل يف الدماغ ويف
السلوك املرتتب عليه، نحن نواجه وضعا معقدا، وهو وضع غري خاضع الختبار ذي
نتيجة قاطعة أو لتجربة منفردة تعطي نتيجة غري ملتبسة. أي نوع من األدلة قد
يأمل املرء يف الحصول عليه، خالل فرتة معقولة من الزمن، والذي ميكنه أن يثبت
ُ بصورة تريض الجميع أن ثقافة الشاشة ُتحدث تحوالت طويلة املدى يف ظواهر
واسعة النطاق والتنوع مثل التعاطف، ونفاذ البصرية، والفهم، والهوية، واملخاطرة؟

49
مسألة مثرية للجدل
َ ما هي النتيجة املنفردة واملنفصلة التي تلزم إلقناع من يقاومون احتاملية أن يكون
هناك يشء خطأ يف نهاية املطاف، أو عىل األقل أننا نفقد بعض الفرص؟
إن مفاهيم مثل رّ تغي العقل هي، وفقا ملصطلحات كون، مناذج paradigms،
ّ وليست فرضيات منفردة ومحددة ميكن اختبارها تجريبيا يف ظل تجارب مقيدة
ومحددة للغاية. يعمل مفهوم شامل مثل رّ تغي العقل، كام سرنى الحقا، عىل تجميع
الخيوط من االتجاهات املجتمعية الظاهرة وآراء الخرباء املهنيني، فضال عن مجموعة
واسعة من النتائج العلمية املبارشة وغري املبارشة من مختلف التخصصات. خضعت
األغلبية العظمى من الدراسات العلمية التي سأتناولها يف الفصول املقبلة ملراجعة
األقران؛ فهذه العملية تضمن أنها أظهرت نتائج ذات »داللة إحصائية«، وهو ما
.
يعني أنها ليست أحكاما شخصانية، بل نتائج نظام موحد وراسخ لالختبار(20)
وبغض النظر عن األنواع املختلفة من األدلة التي تدعم ذلك، فمام ال شك فيه
أن مفهوم رّ تغي العقل باعتباره منوذجا جديدا قد أثار ادعاءات برتويج اإلشاعات
املقلقة وإحداث رضب من الهلع األخالقي. ولكن ضع يف اعتبارك أن ترويج
اإلشاعات املقلقة يعتمد عىل فكرة عدم وجود أي يشء مطلقا ميكن الخوف منه يف
املقام األول. هل نعلم يف الحقيقة أن هذه هي الحال؟ ومع ذلك، فإذا ومتى أثبتت
ّد. وبالتايل، ال بد

صحة الهلع مبا ال يقبل الجدل، فإن الخوف يتحول إىل خطر مؤك
اآلن أن التنبؤ األصيل رمبا كان يف الواقع شيئا مختلفا متاما، مثل مكاملة لإليقاظ.
وينبغي أن يكون الرفض عىل أساس التخويف، عىل كل حال، استنتاجا نهائيا وليس
مناورة افتتاحية.
أما بالنسبة إىل الهلع األخالقي، فمن املحتمل أن يجري تفسري أي انتقاد للعامل
الرقمي من قبل الهواة املتحمسني للفضاء اإللكرتوين عىل أنه اعتداء عىل الحياة
الشخصية، وبالتايل عليهم كأفراد يف نهاية املطاف. ولكن ليست هناك حاجة إىل
الهلع يف الوقت الراهن. والواقع أننا إذا أتحنا ألنفسنا الفرصة لتقييم أين نحن اآلن
وإىل أين نود التوّجه يف القرن الحادي والعرشين، ميكننا أن نستنبط ما يحتاج إىل
أن يبدو عليه أسلوب حياتنا ومجتمعنا من أجل الوصول بنا إىل هناك. لكننا من
أجل القيام بذلك نحتاج أوال إىل فك مختلف القضايا الشديدة التباين التي يشملها
رّ تغي العقل.

51
ظاهرة متعددة األوجه

إن تغري املناخ، وفقا للفريق الحكومي
الدويل املعني بتغري املناخ، »قد يكون ناتجا
عن عمليات طبيعية أو عوامل خارجية، أو
نتيجة للتغريات املستمرة بفعل البرش يف تكوين
)1(. ال
الغالف الجوي أو يف استخدام األرايض«
ميكن ألحد أن ّ يشكك يف وجود العديد من
القضايا املكتنفة هنا. وكذلك الحال مع تغيرّ
العقل، والذي أقرتح أنه متعدد األوجه نسبيا،
مام يطرح مجموعة من األسئلة املختلفة التي
تحتاج إىل استكشافها بشكل مستقل. وتندرج
هذه األسئلة املختلفة تحت ثالثة مجاالت
رئيسة، والتي تستحق مراجعتها بإيجاز هنا:
الشبكات االجتامعية وتأثرياتها يف الهوية
والعالقات؛ ومامرسة األلعاب وتأثرياتها املتعلقة
باالنتباه، واإلدمان، والعدوانية؛ ومحركات
البحث وتأثرياتها يف التعلم والذاكرة.
ظاهرة متعددة األوجه

»إذا رصت متعلقا بالحارض عىل
نحو متزايد، وبالتايل ِّ تكرس كل
وقتك ملتطلبات العامل الخارجي،
فقد يكون من الصعب الحفاظ
عىل شعور قوي بالهوية الداخلية«
4

52
ّ تغير العقل
ومن دون أي ترتيب معني لألولوية، دعونا نبدأ بالشبكات االجتامعية. يف برنامج
إذاعي جرى بثه أخريا عىل شبكة اإلذاعة الربيطانية BBC، ظهر كايالن Kaylan،
وهو رجل يبلغ من العمر مثانية عرش عاما قرر االستفادة من الفرصة التي أتاحها
الفيسبوك اعتبارا من سبتمرب 2011 إلزالة جميع إعدادات الخصوصية عىل صفحته
بحيث ميكن ألي عدد من األتباع ّ تتبع حياته اليومية املتوافرة يف املجال العام. وقد
تباهى بأن لديه نحو مائة ألف متابع يف وقت البث. كام اعرتف كايالن أيضا بأنه
مل يفعل شيئا عىل اإلطالق ليك يستحق تلك الشهرة. كانت مشاركاته يف كثري من
األحيان صورا عادية لنفسه طوال اليوم وهو يعيش »حياة مجنونة«.
إذن، ما اليشء الجذاب للغاية بالنسبة إىل متابعيه؟ حسنا، كانت هناك
مجموعة كاملة من األشخاص الذين يشبهونه، والذين ميكنهم االنخراط يف
مجادالت بعضهم مع بعض. وبعد ذلك، ميكن أن ينقسم املتابعون إىل أحد
الجانبني أو اآلخر. وكذلك فقد حصل كايالن عىل نصيبه العادل من »الكارهني«.
فبعد كل يشء، كام أضاف، »ال ميكنك أن تكون لطيفا عىل الفيسبوك«. ومن خالل
التلفظ بأمور كريهة مثل »اقتل نفسك«، فمن املمكن ألولئك الكارهني حصد
أقىص قدر من الثناء و»الشهرة« ألنفسهم. ويف حني أنه من الواضح كون كايالن
بعيدا كل البعد عن أن يكون مستخدما عاديا للفيسبوك، فإنه هو وأتباعه البالغ
عددهم مائة ألف يعدون مثاال عىل الجوانب املتطرفة غري املسبوقة التي ميكن
أخذ هذا الوسيط اإلعالمي إليها. إن أهميتك كام يكشفها نشاطك عىل الشبكات

.
)2(
ّ االجتامعية ميكن اآلن حتى قياسها كميا
بيد أن أغلبية مستخدمي الفيسبوك هم أقل دراماتيكية من ذلك بكثري.
ومع ذلك، ففي استطالع أجراه مركز بيو لألبحاث، عمدت األغلبية الساحقة من
مستخدمي الشبكة االجتامعية يف الواليات املتحدة ممن ترتاوح أعامرهم بني 12
و19 عاما إىل اختيار صفات سلبية بدال من تلك اإليجابية لوصف الكيفية التي
يترصف بها الناس عىل مواقع الشبكات االجتامعية، مبا يف ذلك ألفاظ مثل »وقح،
)3(. وعىل سبيل املثال، فقد علقت

ّ مزيف، فج، مفرط الدراماتيكية وغري محرتم«
إحدى طالبات املدارس املتوسطة قائلة: »أعتقد أن الناس يصبحون، عندما يدخلون
إىل الفيسبوك، متحجري الفؤاد، وأشياء من هذا القبيل.... إنهم يترصفون بطريقة

53
ظاهرة متعددة األوجه
مختلفة يف املدرسة وأشياء من هذا القبيل، ولكن عندما يدخلون إىل عامل اإلنرتنت
فسيبدون كأنهم أشخاص مختلفون متاما، إذ ميكنك هناك الحصول عىل كثري من
الثقة«. وقالت فتاة أخرى: »هذا ما يفعله كثري من الناس. إنهم لن يقولوا ذلك يف
وجهك، لكنهم سيكتبونه عىل اإلنرتنت«.
وأشار تحليل تلوي حديث لبيانات جرى جمعها عىل مدى ثالثني عاما من أربعة
عرش ألفا من طالب الجامعات األمريكية إىل أن املستويات اإلجاملية للتعاطف
رمبا تعرضت للرتاجع، مع انخفاض حاد عىل وجه الخصوص خالل السنوات العرش
األخرية - وهو إطار زمني يتوافق بشكل جيد مع ظهور الشبكات االجتامعية بني
)4(. وبطبيعة الحال، فإن االرتباط )correlation )ال ميثل عالقة

املواطنني الرقميني
سببية، لكن هذا ليس سوى نوع من التوافق الوثيق الذي ينبغي أن ميثل نقطة
انطالق لتحديد مدى احتامل وجود عالقة سببية مبارشة بني الزمن الذي ُيقىض
أمام الشاشة وانخفاض التعاطف. علينا أيضا أن نتساءل عن سبب كون من يعانون
بالفعل مشكالت يف التعاطف، مثل األفراد الذين يعانون اضطراب الطيف التوحدي،
يشعرون باالرتياح بصفة خاصة يف عامل الفضاء اإللكرتوين. وبصورة أكرث عمومية، هل
ميكن لهذا النوع الجميل واملحدود من التفاعل أن رّ يفس السهولة التي صار بها
ّ التنمر، الذي كان دامئا جزءا مظلام من الطبيعة البرشية، يجد اآلن سبال غري مقيدة
للتعبري عنه يف عامل الفضاء اإللكرتوين؟ وبعد كل يشء، إذا مل تكن قد تدربت عىل
املهارات األساسية للتواصل غري اللفظي مثل التواصل بالعينني، وتعديل نربة الصوت،
وإدراك لغة الجسد، واالتصال الجسدي، فلن تكون متمكنا منها عىل نحو خاص،
وبالتايل ستزداد صعوبة أن تتعاطف مع اآلخرين.
هناك أكرث من مليار شخص يف جميع أنحاء العامل يستخدمون الفيسبوك للبقاء
عىل اتصال مع األصدقاء ومشاركة الصور ومقاطع الفيديو، وإضافة تحديثات
)5(. هناك تقدير آخر هو 12 يف املائة من سكان

منتظمة عن تحركاتهم وأفكارهم
العامل بأكمله، حيث سجل يف املوقع 50 يف املائة من سكان أمريكا الشاملية و38
يف املائة من سكان الجزء املقابل لها من العامل )األسرتاليني(، و29 يف املائة من
)6(. )تستند هذه األرقام إىل

األوروبيني، و28 يف املائة من سكان أمريكا الالتينية
إجاميل عدد السكان؛ فإذا استثنينا األطفال حديثي الوالدة، والشديدي العجز،

54
ّ تغير العقل
وغريهم ممن ال ميتلكون الحواسيب، فإن عدد مستخدمي الفيسبوك كنسبة من
السكان الذين يستخدمون الحاسوب سيكون عىل األرجح أعىل من ذلك بكثري(.
ومثة مائتا مليون آخرون يستخدمون ٍ بنشاط موقع تويرت، وهي خدمة »املدونات
الصغرية« التي تسمح للمستخدمني بنرش الرسائل القصرية عن أنفسهم، ونرش

.
)7(
الصور، ومتابعة تيارات وعي اآلخرين أو روتينهم اليومي
ويف الوقت الحارض، يجري متثيل جميع األجيال عىل تلك املواقع، حيث ميكن
ملن تخطوا سن الثامنني أن يظلوا عىل اتصال مع أحفادهم الذين يعيشون بعيدا،
لكن املواطنني الرقميني هم أكرث املستخدمني نشاطا هناك. يف اململكة املتحدة،
نجد أن 64 يف املائة من مستخدمي اإلنرتنت البالغني سن السادسة عرشة فأكرث
من مستخدمي مواقع الشبكات االجتامعية، يف حني أن 92 يف املائة ممن ترتاوح
أعامرهم بني السادسة عرشة والرابعة والعرشين والذين يستخدمون اإلنرتنت قد
)8(. ويف الواليات

سجلوا ملحة عن أنفسهم عىل أحد مواقع التواصل االجتامعي
املتحدة، فإن 80 يف املائة من املراهقني الذين يستخدمون اإلنرتنت وترتاوح أعامرهم
بني 12 - 17 عاما يستخدمون مواقع الشبكات االجتامعية، غالبا الفيسبوك وماي
سبيس MySpace( 9). ميتلك املستخدمون يف الواليات املتحدة يف املتوسط 262
.
)11(
)10(، وهو رقم أعىل من املتوسط العاملي البالغ نحو 140 صديقا
صديقا
ويف املتوسط، يكون لدى مستخدمي الفيسبوك البالغني من العمر ما بني اثنتي
)12(. يكون ما
عرشة وأربع وعرشين سنة أكرث من خمسامئة من أصدقاء الفيسبوك
يقرب من 22 يف املائة منهم من املدرسة الثانوية، و12 يف املائة من أفراد األرسة
املبارشة، و10 يف املائة من زمالء العمل، و9 يف املائة من زمالء الكلية، يف حني أن 10
يف املائة من األصدقاء مل ِ يجر االلتقاء بهم شخصيا عىل اإلطالق أو جرى االجتامع

.
)13(
بهم ملرة واحدة فقط
ويف اليوم املتوسط، يقوم 26 يف املائة من مستخدمي الفيسبوك بـ»اإلعجاب«
بحالة )status )أحد األصدقاء، و22 يف املائة بالتعليق عىل حالة أحد األصدقاء، يف
)14(. وبالتايل فإن عددا

حني ال يعمل سوى 15 يف املائة عىل تحديث حالتهم الخاصة
أكرب من الناس يقضون وقتا يف التفاعل مع محتوى املستخدمني اآلخرين بدال من
نرش محتوى خاص بهم. ويشري كل ذلك إىل حقيقة واضحة متام الوضوح: لقد صارت

55
ظاهرة متعددة األوجه
الشبكات االجتامعية عامال أساسيا يف ثقافة الجميع، باستثناء املناطق األشد فقرا
واألكرث حرمانا يف العامل، أو أكرثها تعرضا للقمع الفكري. وبالتايل فإن السؤال الحاسم
هو، بكل بساطة، ما اليشء ّ املميز بشأن الشبكات االجتامعية؟ ما هي الحاجة
األساسية التي تلبيها هذه الثقافة الجديدة بطريقة تبدو كأن مل يسبق لها مثيل
ولكنها فعالة؟ إذا أردنا فهم وإدراك تغيرّ العقل الحادث يف منتصف القرن الحادي
والعرشين، ميثل هذا واحدا من أهم األسئلة التي ينبغي طرحها.
تبدو فوائد الشبكات االجتامعية غري قابلة للمناقشة: التسويق املبارش
للمستهلك، ومواقع املواعدة، وبناء الوظيفة، والتواصل مع األصدقاء القدامى. كثريا
ما يستشهد بأن تكون »متصال« بحامس يفرتض تلقائيا أن ذلك السيناريو مرغوب
فيه. لكن ما يقلقني هو ما إذا كان لهذا التواصل الذي ال ينقطع تقريبا عرب الشاشة
سلبيات أيضا. وكام هي الحال دامئا، هناك املسألة الرئيسة املتمثلة يف أن تكون
»متعقال«: ففي حني ميكن ملواقع الشبكات االجتامعية أن توفر متعة غري ضارة
و ّ تكمل الصداقات الحقيقية إذا جرى استخدامها باعتدال، فإذا جرى استخدامها
بشكل مفرط أو بصورة مستبعدة للعالقات الحقيقية، فرمبا تؤثر بطريقة أساسية
للغاية وغري متوقعة يف الطريقة التي تنظر بها إىل أصدقائك، وإىل الصداقة، ويف
نهاية املطاف إىل نفسك.
إذا رصت متعلقا بالحارض عىل نحو متزايد، وبالتايل ّ تكرس كل وقتك ملتطلبات
العامل الخارجي، فقد يكون من الصعب الحفاظ عىل شعور قوي بالهوية الداخلية.
ولعل الوصول املستمر إىل مواقع الشبكات االجتامعية سيعني عيش حياة سيؤدي
فيها التشويق املحض إىل نرش و ّ تلقي املعلومات إىل نسخ التجربة املستمرة نفسها
متاما - وهي حياة يؤدي فيها إثبات الوجود يف مطعم ما، أو نرش صور وجبة بعينها،
والتوق إىل »اإلعجاب« و»التعليقات« إىل توليد قدر من اإلثارة أكرب من مناسبة
تناول الطعام يف الخارج نفسها. إن االبتهاج اللحظي الذي تستشعره سيتحول من
كونه ناجام عن تجربة حياتية مبارشة إىل تلك التجربة غري املبارشة املتأخرة قليال،
واملتمثلة يف التفاعل املستمر وموافقة كل من عداك. إذا كنا يف طريقنا إىل العيش
يف عامل تقل فيه مامرسة التفاعل وجها لوجه ويكون بالتايل غري مريح، فإن »الدفع«
الذي يفرضه مثل هذا النفور إىل حياة واقعية مضطربة، وتواصل ثاليث األبعاد، جنبا

56
ّ تغير العقل
إىل جنب مع »الجذب« الذي تفرضه جاذبية امتالك هوية أكرث جامعية من التطمني
واملوافقة الخارجية، قد تعمل عىل تحويل طبيعة العالقات الشخصية. إن الرسعة
العالية الالزمة لالستجابة وتناقص الوقت املتاح للتأمل قد يعنيان أن تلك التفاعالت
والتقييامت نفسها ُتصبح سطحية عىل نحو متزايد: يستخدم الناس بالفعل عبارات
مثل »اقتل نفسك« و»كاره« عىل الفيسبوك ضمن سياق ينقل عمقا أقل بكثري من
الشعور الحقيقي وتاريخ الخلفية الفردية مام كانت تعنيه ضمنا هذه املصطلحات
يف السابق.
يبدو أن الخصوصية ُتصبح سلعة أقل قيمة: من بني الشبان األمريكيني الذين
ترتاوح أعامرهم بني 13 و17 سنة، قدم أكرث من النصف معلومات شخصية لشخص
)15(. ويف الوقت نفسه، ينرش

ال يعرفونه، مبا يف ذلك الصور واألوصاف الجسدية
املواطنون الرقميون املعلومات الشخصية عىل صفحاتهم عىل الفيسبوك، والتي
عادة ما تجري مشاركتها مع أكرث من خمسامئة »صديق« يف كل مرة، وهم يدركون
متاما أن كال من هؤالء األصدقاء ميكنه أن يقوم الحقا بنقل تلك املعلومات إىل مئات
آخرين ضمن شبكاتهم الخاصة.
لقد صار من األكرث أهمية أن تثري االنتباه، أي أن تكون »مشهورا«. بيد أن
مثن هذه الشهرة، كام كانت الحال دامئا، مثلام ّجسدته النجمة السينامئية التي
اشتهرت يف منتصف القرن العرشين، غريتا غاربو، عىل نحو مشهور يف مناشداتها
املتكررة »أود أن أكون مبفردي« هو فقدان الخصوصية. فام السبب، إذن، يف أن
ُ الخصوصية التي كنا نعتز بها سابقا ينظر إليها اآلن بتجاهل ال ٍ مبال بصورة متزايدة؟
حتى اآلن، ظلت الخصوصية ّمتثل الجانب اآلخر لعملة هويتنا. لقد كنا ننظر إىل
أنفسنا باعتبارنا كيانات فردية، تتواصل مع العامل الخارجي، ولكنها منفصلة عنه.
نحن نتفاعل مع هذا العامل الخارجي، ولكن فقط بتلك الطرق ويف األوقات التي
نختارها. لدينا أرسار، وذكريات، وآمال ال ميتلك أحد حق الوصول التلقايئ إليها.
وهذه الحياة الرسية هي هويتنا، املتميزة عن تلك املهنية واألكرث حميمية من
ّ الحياة الخاصة للصداقات الفردية التي نحدد فيها عىل نحو متباين نوع وكم ما
ُن ّرس به إىل اآلخرين. إنها نوع من الرسد الداخيل الذي ظل يزود كل فرد، حتى اآلن،
بطريقته الخاصة للربط بني املايض والحارض واملستقبل - مثة تعليق ذايت مستمر

57
ظاهرة متعددة األوجه
وداخيل ميزج بني ذكريات املايض وآمال املستقبل وبني األحداث العرضية التي تقع
يف كل يوم. أما اآلن، وللمرة األوىل، فيتم فتح هذا الخط القصيص الرسي عىل العامل
ٍ الخارجي، عىل جمهور خارجي قد يكون متقلبا عىل نحو ال مبال وذا ردود أفعال
مترسعة يف إصدار األحكام. وبالتايل فإن الهوية املعينة مل تعد نفس الخربة الداخلية
الذاتية التي كانت عليها، لكنها تتشكل من الخارج، وبالتايل صارت أقل قوة وأكرث
تقلبا بكثري، كام سبق أن أرشت إليه يف تقرير وّجهته أخريا إىل الحكومة الربيطانية

.
)16(
حول »الهويات املستقبلية«
ويتمثل حجر الزاوية الثاين لنمط الحياة الرقمية يف مامرسة األلعاب gaming.
يف منتصف مثانينيات القرن العرشين، كان األطفال يقضون نحو أربع ساعات
.)17(
أسبوعيا يف املتوسط يف مامرسة ألعاب الفيديو يف املنزل ويف ماكينات األلعاب
لكننا إذا انتقلنا برسعة إىل األمام ملدة عقد واحد من الزمان أو نحوه، فسنجد أن
.
)18(
ألعاب الفيديو قد صارت جزءا ال يتجزأ من مشهد الحياة يف املنزل وما وراءه
أفادت دراسة ُنرشت يف العام 2012 عن املراهقني يف الواليات املتحدة بأن
األوالد الذين ترتاوح أعامرهم بني العارشة والثالثة عرشة كانوا يلعبون يف املتوسط
فرتة مذهلة بلغت ثالثا وأربعني ساعة أسبوعيا )عىل الرغم من أن عدد املشاركني،
)19(. ولكن حتى التقديرات

باعرتاف الجميع، كان صغريا نسبيا، فقد بلغ 184(
املتحفظة )التي تعود إىل العام 2009( تشري إىل أن الطفل األمرييك العادي الذي
يرتاوح عمره بني الثامنة والثامنة عرشة يقيض ثالثا وسبعني دقيقة يوميا يف أنشطة
ترفيهية مرتكزة إىل شاشة واحدة، وهو ما ميثل زيادة عىل املدة البالغة ثالثا وعرشين
)20(. وهذا يعني قضاء ساعة يوميا عىل األقل من دون تفاعل

دقيقة يف العام 1999

ُجري عىل
مع العامل الحقيقي، وعىل وجه الخصوص من دون دراسة. ويف مسح أ
شبان أمريكيني ترتاوح أعامرهم بني العارشة والتاسعة عرشة، قىض الالعبون وقتا
أقل بنسبة 30 يف املائة يف القراءة ووقتا أقل بنسبة 34 يف املائة يف حل واجباتهم
)21(. من املؤكد أنه يصعب فصل الدجاج عن البيض: من املرجح أن يقيض
املنزلية
األطفال ذوو األداء السيئ يف املدرسة قدرا أكرب من الوقت يف مامرسة األلعاب، األمر
الذي قد مينحهم شعورا باإلتقان يفوتهم يف الفصول الدراسية. نحن يف حاجة إىل أن
نتجاوز االرتباط بسبب ما، ولكن ما ال ميكننا فعله هو تجاهل القضية متاما.

58
ّ تغير العقل
تفتح ألعاب الفيديو أرضية خصبة للجدل. فمن ناحية، هناك إيجابيات واضحة،
ّم
ّ وسنستكشفها بالتفصيل الحقا: مثل تحسن التنسيق الحيس - الحريك والتعل
اإلدرايك. ومن ناحية أخرى، ميكن استخدام قصص مختلفة وعديدة من جميع أنحاء
العامل لرسم صورة مروعة لنمط الحياة املعارصة املتمثل يف اإلفراط يف االستمتاع غري
املقيد ملامرسة ألعاب الفيديو. عىل سبيل املثال، ُعرث يف تايوان يف فرباير 2012 عىل
رجل يبلغ من العمر ثالثة وعرشين عاما ميتا يف مقهى لإلنرتنت بعد ثالث وعرشين
)22(. وقد تويف شاب آخر يف تايوان، يف سن الثامنة عرشة،

ساعة من اللعب املتواصل

)23(. كام صدر تقرير عن أبوين

يف يوليو 2012 بعد أربعني ساعة من اللعب املتواصل
أهمال طفلهام الحقيقي، الذي تويف يف وقت الحق، من أجل تربية *** افرتايض
)24(. ويف ديسمرب ،2010 ّ تلقى رجل يف شامل إنجلرتا حكام بالسجن
عرب اإلنرتنت
مدى الحياة بعد أن قتل طفال دارجا إثر خسارته مبارشة يف إحدى ألعاب الفيديو
)25(. وبعد ذلك، كانت هناك حالة العب طارد خصمه االفرتايض يف واقع
العنيفة

)26(. وهذا فضال عن قامئة املنتحرين

الحياة وطعنه انتقاما لتعرضه للطعن يف اللعبة
من الالعبني الرفيعي املستوى.
قد يتمثل الدفاع الفوري ملحبي األلعاب فيام ييل: )1( كل هذا هو محض
إشاعات مغرضة وليس من املرجح أن يكون صحيحا؛)2( من غري املرجح أن ميثل
ذلك القصة كلها، مع وجود عوامل أخرى أكرث أهمية بالفعل ميكن إلقاء اللوم
عليها أو استخدامها لتخفيف حدة الظروف؛ أو )3( هذه األمثلة، عىل الرغم من
أنها قد تكون رهيبة، هي حاالت معزولة تتسم يف الواقع بأنها نادرة للغاية. ليست
كل هذه االحتامالت متعارضة، وقد تكون كذلك بالفعل، لكن ينبغي أن متثل
استنتاجات نهائية، وليس فرضيات مبدئية. وعالوة عىل ذلك، حتى لو كانت مثل
هذه القصص مبالغا فيها وغري مألوفة، فقد تكون التزال لها أهمية كصور ساخرة
لبعض االتجاهات السائدة التي تنبثق حاليا عن املجتمع، وإن كان ذلك يف شكل
أخف بكثري: حالة من اإلدمان، والعدوان، واالندفاع، والتهور.
يدلف الالعبون املعارصون إىل عامل غني برصيا حيث ميكنهم انتحال شخصية
تختلف عنهم متاما أو، يف بعض األلعاب، يخلقون أي نوع يرغبون من الشخصيات
)األفاتار(. وهم يتنقلون عرب هذه الكائنات الخيالية من خالل مواقف تنطوي عىل

59
ظاهرة متعددة األوجه
اختيارات أخالقية، أو عىل عنف أو عدوان، ولعب األدوار، يف ظل وجود أنظمة
معقدة للمكافأة يف صلب األلعاب، والتي توفر حافزا لالستمرار يف العيش يف الخيال.
وقد ينغمس بعض األفراد لدرجة أنهم يفقدون الصلة بالعامل الحقيقي، وبالزمن؛
فقد أشاروا إىل أنهم يتحولون إىل األفاتارات الخاصة بهم عند قيامهم بتحميل
اللعبة. وبدال من ذلك، قد ّ يطور الالعبون ارتباطا عاطفيا بشخصياتهم. فكيف، إذن،
تؤثر فينا بالفعل هذه األلعاب الشديدة التحفيز، والعنيفة يف كثري من األحيان،
والتي متتلك خصائص إدمانية محتملة؟
من املمكن لتعزيز العدوان أن يكون واحدة من النتائج. تكشف الدراسات
التجريبية أن ألعاب الفيديو العنيفة تؤدي إىل زيادات يف السلوك العدواين والتفكري
)27(. يبدو أن العدوان الذي

العدواين املرتافق مع تدهور السلوك االجتامعي اإليجايب
ّ تحرضه ألعاب الفيديو ينتج مبارشة ليس فقط عن طريق االستفزاز املبارش، ولكن
أيضا عن االستعدادات البيولوجية والتأثريات البيئية األقل مبارشة، مع قيام الفرد
تدريجيا بتكوين رأي سائد أكرث عدائية. وعىل الرغم من عدم ثبوت كون األلعاب
العنيفة سببا مبارشا للسلوك العنيف جنائيا، فهناك أدلة قوية عىل أن مامرستها
قد تزيد ذلك النوع من العدائية املنخفضة الشدة التي تحدث يوميا يف املدارس
أو املكاتب.
قد يكون األمر أيضا أن ألعاب الفيديو تؤدي إىل التهور املفرط. ويف دراسة
أجريت أخريا باستخدام التصوير الدماغي، متثلت النتيجة الرئيسة يف ّ تضخم منطقة
معينة من الدماغ )النواة املتكئة accumbens nucleus)، والذي ُيرى عادة يف
)28(. واألكرث إثارة لالهتامم من ذلك كله هو أن هذه

أدمغة املقامرين القهريني
املنطقة بعينها من الدماغ ُتفرز الدوبامني dopamine، وهو مرسال كيميايئ
رئيس يزداد إفرازه بفعل جميع العقاقري اإلدمانية ذات التأثري العقيل. بيد أن هذه
التشابهات الكيميائية بني أدمغة الالعبني وأدمغة املقامرين ال تثبت أن مامرسة
األلعاب تسبب اإلدمان من الناحية التقنية، لكن كليهام قد يتشاركان بالفعل
خاصية أخرى: التهور. فبعد كل يشء، إنه لدرس خطري أن تعلم أن املوت ال يدوم
حتى سوى الجولة التالية - مام قد يشري إىل أن األفعال التي تقع يف العامل الحقيقي
ليست لها عواقب حقيقية.

60
ّ تغير العقل
ومرة أخرى، سيكون العامل الحاسم هو ما إذا كان الفرد سيظل، عىل حسب
تعبري الوزير يف مناقشتنا يف مجلس اللوردات يف العام ،2011 »حصيفا ومتناسبا«
بشأن مامرسة األلعاب. ُيشبه األمر قليال تناول الشوكوالته: فاملكافأة العرضية
ضمن نظام غذايئ متوازن تكون غري ضارة بل وممتعة نسبيا، يف حني أن نظاما
غذائيا من التناول اليومي املتواصل للشوكوالته حرصيا ستكون له عواقب وخيمة.
ليست املشكلة يف أولئك الذين قد ميارسون األلعاب يف بعض األحيان كهواية ضمن
مجموعة من االهتاممات واألنشطة األخرى التي تحصل يف العامل الحقيقي، بل يف
عدد الالعبني التكراريني الذين تنتهي بهم الحال، قياسا عىل مقدار الوقت الذي
يقضونه يف اللعب واستبعاد كل يشء آخر، إىل الوسوسة أو اإلدمان.
وأخريا، فباإلضافة إىل الشبكات االجتامعية واأللعاب، هناك جانب ثالث من تغيرّ
العقل: تصفح اإلنرتنت، خصوصا باستخدام محركات البحث. إذا كنت ال تستخدم
التقنيات الرقمية بشكل تفاعيل لالنخراط يف عالقة ما أو ملامرسة إحدى األلعاب،
ُ فالتزال الشاشة متتلك جاذبية مسكرة، وذلك ببساطة بسبب ما ميكنها أن ُتخربك به وأن
ّمك، كام قد يذهب البعض إىل حد القول به. إنه أمر ال يصدق

ُتريك إياه - بل وأن ُتعل
تقريبا أن هذا املرفق الرضوري قد ظهر قبل أقل من عرشين عاما، أي يف العام ،1994
ُ ِ نشئ ياهو Yahoo !من قبل طالبي جامعة ستانفورد جريي وانغ وديفيد فيلو
عندما أ
يف مقطورة يف الحرم الجامعي، والذي كان يف األصل عبارة عن ٍ قامئة مرجعية لإلنرتنت
ود ٍ ليل للمواقع املثرية لالهتامم. وبعد ذلك، يف العام ،1996 عمد سريجي برين والري
بيج، وهام طالبان يف جامعة ستانفورد، إىل اختبار باكرب Backrub، وهو محرك بحث
جديد يصنف املواقع وفقا ألهميتها ورواجها. كان مقدرا لباكرب أن يصبح غوغل
Google، الذي ميتلك حاليا نحو 80 يف املائة من حصة السوق العاملية يف البحث،
)29(. لقد أصبح اسم

يف حني تبلغ النسبة املئوية ألقرب منافسيه رقام من خانة واحدة
.
)٭(
العالمة التجارية فعال: فالجميع تقريبا »يستخدمون محرك البحث غوغل«
ويف بعض األحيان، ومن غري سبب واضح، فإن األنشطة التي تبدو من دون
مغزى، مثل تصنع وجه مضحك، أو ّ »التخشب« planking أو أداء رقصة قصرية،
(٭ (Everyone Googles.

61
ظاهرة متعددة األوجه
ّ مثل هارمل شيك، تجتذب حشودا من املشاهدين. ولدي تجربتي الخاصة املبارشة
بشأن مدى القوة التي قد تصل إليها هذه الظواهر الفائقة االنتشار. يف أبريل ،2010
أجرت معي أليس طومسون من »يو يك تاميز« مقابلة عن تأثري التكنولوجيا الرقمية
يف الكيفية التي نشعر ونفكر بها. وقد تدرجنا يف الحديث حتى وصلنا إىل مناقشة
كيف أن التكنولوجيا الرسيعة الوترية قد تفرض وجهات نظر وردود فعل رسيعة
عىل نحو متناسب. ويف محاولة لتزويدها مبلخص واف، طرحت احتامل اختزال
)٭(،
البرش إىل ردود فعل غريزية بسيطة، سلبية أو إيجابية، مثل »يك« أو »واو«
ملا يومض عىل الشاشة. وألنني أميل إىل الحديث برسعة، أخطأت أليس يف سامعي
وكتبت ما قلته عىل أنه »يكا - واو«. قد يكون هذا مسليا مبا يكفي يف حد ذاته، لكن
املغزى هو أنه بعد مرور أربع وعرشين ساعة فقط، كان بوسع املرء أن يجد خمسة
وسبعني ألف نتيجة للبحث عن هذا املصطلح عىل موقع غوغل. وعالوة عىل ذلك،
أقدم شخص ما عىل رشاء اسم املوقع، ورسعان ما أذهلتني رؤية أكواب وقمصان
عليها مصطلح »ياكا - واو«. وعىل أحد املواقع، كانت الكنيسة األوىل للياكا - واو
ترحب »بالشعب املرح يف عامل من دون عواقب«. انترش املصطلح كالنار يف الهشيم
ضمن إطار ز ّ مني مل يكن متخيال قبل عقد واحد فقط من الزمان أو نحوه.
إذن، ما إمكانيات التكنولوجيات الرقمية ملساعدة الجميع، يف أي عمر، عىل
معرفة األشياء، بأوسع معاين الكلمة؟ من املفرتض أنه عندما يتصفح الناس اإلنرتنت
فهم يغذون محرك البحث مبصطلحات أو أسامء محددة، إن مل يكن أسئلة رسمية،
ومن ثم تلقي املعلومات ذات الصلة ردا عىل ذلك. إنهم »يتعلمون«. ّ يعرف
ّم عىل أنه »فعل أو عملية اكتساب املعرفة أو املهارات«. قد تعزز
القاموس التعل
التكنولوجيا الرقمية الحالية هذه املواهب البرشية القدمية والفائقة، أو رمبا قد
تعرضها للخطر، لكننا يف حاجة إىل فك مختلف القضايا ذات الصلة. إن جاذبية
تجربة تصفح اإلنرتنت، واالختالفات بني السيليكون والورق، والقيمة التعليمية
للتقنيات الرقمية، وقبل كل يشء، الوصول إىل كمية شبه ال نهائية من املعلومات
تعمل جميعها كعوامل مختلفة وغري مسبوقة لصياغة عمليات التفكري لدينا.
)٭( »يك« yuck للتعبري عن االستياء أو االشمئزاز، و»واو« wow للتعبري عن اإلعجاب أو االنبهار. ]املحررة[.

62
ّ تغير العقل
ُتعد محركات البحث اآلن جزءا من حياتنا، وهي بالنسبة إىل الكثريين املحطة
األوىل الفورية والواضحة للتعرف عىل حقيقة ما أو ملعرفة مزيد حول موضوع
بعينه. وبالتايل فإن الشاشات ميكنها تشكيل مهاراتنا املعرفية بطريقة جديدة كليا.
من املؤكد أن واحدة من أهم القضايا التي ينبغي استكشافها هي ما إذا كان
أفراد الجيل املقبل قد يتعلمون بطريقة مختلفة متاما، باملقارنة مع أسالفهم الذين
استخدموا الكتب. إن الفرق األكرث وضوحا هنا هو فرق مليس tactile - فنحن
نتعامل مع الورقة بصورة تختلف كثريا عام نفعل مع الشاشات. وباعتبار أن األمر
كذلك، فكيف ميكن مللذات القراءة عىل الشاشة أن تجاري مثيالتها الخاصة بالورق؟
إن تقليب الصفحات ذهابا وإيابا، وإبراز جمل بعينها، والخربشة يف الهامش قد
تكون جميعها خصائص إيجابية تسهم يف استيعاب ما تقرأ، وبالتايل فإن إمكان
التفاعل الشخيص مع الكتاب الورقي قد تكون أكرب مام يحدث مع الشاشة.
عمدت آن مانغن Mangen من جامعة أوسلو إىل استكشاف أهمية ملس الورق
بالفعل من خالل مقارنة أداء قراء املطبوعات الورقية مقارنة بقراء الشاشات. وقد
أشار بحثها إىل أن القراءة عىل شاشة الحاسوب تتطلب إسرتاتيجيات مختلفة، والتي
تشمل كل يشء من التصفح إىل االكتشاف البسيط للكلامت، والتي تؤدي معا إىل فهم
)30(. وعالوة عىل

أسوأ ملا نقرأه، عىل النقيض من قراءة النصوص نفسها عىل الورق
ذلك، وبرصف النظر عن الخصائص املادية للصفحة املطبوعة مقارنة بتلك الرقمية،
ميكن للشاشة أن تحظى مبيزة إضافية ال ميكن للكتاب املطبوع امتالكها أبدا: النص
التشعبي hypertext. قبل كل يشء، فارتباط النص التشعبي ليس ارتباطا صنعته
بنفسك، كام أنه لن يحظى بالرضورة مبكان يف إطارك املفاهيمي الفريد. وبالتايل فلن
يساعدك بالرضورة عىل فهم واستيعاب ما تقرأ، بل إنه حتى قد يشتت انتباهك.
لكن املغزى الكامل للشاشات ليس مجرد أنها ميكن أن تعمل مبنزلة كتب بديلة.
مثة قضية أكرث عمقا، وهي كيف ميكن للحواسيب الشخصية، والحواسيب اللوحية،
وأجهزة القراءة اإللكرتونية أن توفر املعلومات بطريقة مختلفة متاما، وغري لفظية،
وبالتايل رمبا تغيرّ الطريقة التي نفكر بها بالفعل. إذا وصلت املدخالت إىل الدماغ
كصور ورسوم بدال من الكلامت، فهل يحتمل أن يؤدي ذلك، افرتاضيا، إىل تهيئة
املتلقي لرؤية األشياء بصورة أدبية أكرث وليس بطريقة مجردة؟

63
ظاهرة متعددة األوجه
هذه، إذن، هي التقنيات األكرث غزوا واألوسع انتشارا، والتي متتلك القدرة عىل
تغيري ليس فقط ما نفكر فيه، ولكن طريقة تفكرينا أيضا. ومع ذلك، ينطوي تغيرّ
العقل عىل أكرث من مجرد أدوات مبتكرة: وبدرجة األهمية نفسها نجد العقل
الذي يوشك عىل أن يتغري. إن النمو واالتصاالت بني خاليا الدماغ التي نولد بها
هي ما يحولنا إىل الكائنات الفريدة التي نحن عليها، مع أدمغة قادرة عىل التفكري
الفردي واألصيل. هناك العديد من املواهب التي نفتقر إليها كنوع: نحن ال نعدو
برسعة عالية عىل وجه الخصوص أو نرى بشكل جيد عىل نحو متميز، كام أننا لسنا
أقوياء بشكل خاص باملقارنة مع األعضاء اآلخرين يف اململكة الحيوانية. لكن أدمغتنا
متتلك املوهبة الفائقة للتكيف مع أي بيئة نوضع فيها، وهي عملية تعرف باسم
اللدونة plasticity. ونحن نشق طريقنا الشخيص والتمييزي عرب دروب الحياة،
نقوم بتطوير منظورنا الخاص كنتيجة لهذه االتصاالت الشخصية يف أدمغتنا. إن
هذا النمط الفريد من الرتابطية هو ما أود اإلشارة إىل أنه ما يرقى إىل أن يكون
عقال فرديا. وبالتايل، فمن أجل أن ندرك تأثري هذه التقنيات العاملية، التي مل يسبق
لها مثيل، واملثرية للجدل، واملتعددة األوجه، عىل العقل البرشي يف القرن الحادي
والعرشين، سنحتاج الحقا إىل النظر عرب منظور العلوم العصبية.

65
كيف يعمل الدماغ

كيف ميكن لتجربة ما، سواء كانت مرتكزة
عىل الشاشة أو غري ذلك، أن ترتك حرفيا بصامتها
عىل دماغ لدن؟ إذا أردنا، نحن علامء األعصاب،
أن نسهم بأي يشء مهم عىل اإلطالق يف تقدير
تأثريات منط الحياة الرقمية يف عملياتنا الذهنية،
فسيكون ذلك باإلشارة إىل اآلليات العصبية
املادية الفعلية قيد العمل: ينبغي أن نتمكن من
إثبات وجود عالقة سببية بني التعرض لبعض
البيئات والتجارب، ومن ثم لألفكار والسلوكيات
الناجمة عنها. ومن خالل فهم أكرب قدر ممكن
من املعلومات عن كيفية عمل الدماغ، سنتمكن
من الحصول عىل صورة أكرث دقة بكثري عن
كيف وإىل أي مدى ميكن لتقنيات الشاشة أن
تكو ِّ ن محولة transformational.
ّمتثل التحدي األكرب لعلم األعصاب دامئا
يف تحقيق قفزة فكرية بني ندفة من أنسجة
كيف يعمل الدماغ

»تسهم كل من بنى الدماغ يف
وظيفة نهائية صافية، ليس وفقا
لتسلسل هرمي، بل بطريقة أقرب
شبها بعزف اآلالت املوسيقية
املختلفة لسيمفونية يف األوركسرتا«
5

66
ّ تغير العقل
الدماغ والفكر والعاطفة - فحتى الحلم، يف كل من معنيي هذه الكلمة: الظاهرة
الحرفية لذلك العامل الداخيل الغريب الذي يتكشف أثناء النوم، فضال عن االستعارة
املستخدمة يف تخطيط نتائج رائعة لحياتنا. إنها رحلة سنحتاج إىل القيام بها يف ثالث
خطوات: أوال، التعرف عىل كيفية عمل الدماغ نفسه؛ ثانيا، اكتشاف الكيفية التي
يتغري بها طوال الحياة؛ وثالثا، النظر إىل الكيفية التي ميكن بها لهذه التغريات يف
الدماغ أن ترقى إىل »العقل«. ومع ذلك، فمن غري الواضح حتى من أين تبدأ.
»فكيف يعمل الدماغ إذن؟« هذا هو السؤال الذي طرحته بإلحاح الفتاة
الواقفة أمامي، التي رمبا كان عمرها نحو أحد عرش عاما. من املؤكد أنه ملجرد أن
الوقت قد نفد مني خالل حديثي الذي استمر ساعة واحدة إىل مجموعتها من
تالميذ املدارس، كنت قد أغفلت اإلجابة عن هذا السؤال النهايئ التافه. لقد نظرنا
إىل الدماغ من جميع الزوايا من خالل تفكيك منوذج من البالستيك. وقد أخربت
جمهوري من الصغار عن الوقت الذي كنت فيه طالبة بدوري وحملت دماغا برشيا
حقيقيا يف يدي، وألن أنسجة الدماغ ال تشبه مطلقا ذلك النموذج البالستييك الصلب
ذا اللون الوردي املرشق بل تتسم باللون األبيض القشدي، إضافة إىل كونها رخوة
وهشة، فقد فكرت فيام كان سيحدث لو علق بعض ذلك النسيج تحت ظفري.
هل ميكن تفكيك ذكرى أو عاطفة بعينها بواسطة أحد األظافر؟ هل ميكن لندفة
من أنسجة الدماغ التي تتعلق بطريقة أو بأخرى بعادة معينة، مثل عض األظافر،
أن ينتهي بها الحال بالفعل إىل أن تسري عىل غري هدى تحت ظفر ما؟ كيف ميكن
لتجربة أن تكون ذاتك، ورؤية العامل بطريقة ال ميكن ألحد آخر مشاركتها بشكل
ّد عن هذه الكتلة غري الجذابة وغري املتعاونة التي ميكنك اإلمساك
مبارش، أن تتول
بها بيد واحدة؟
ليس هناك منوذج للدماغ، وال حتى نظريه يف واقع الحياة، يزودنا بأي نقطة
انطالق واضحة. ليست هناك أجزاء متحركة واضحة، كام هي الحال بالنسبة إىل
القلب أو الرئتني، والتي تشري إىل ما يجري هناك. كل ما ميكنك القيام به من خالل
النظر إىل الدماغ هو إدراك الكيفية التي يعمل بها عىل املستوى الكيل. سرتى أن
ّفة حول الجزء العلوي من الحبل الشويك وهو يتضخم مشكال

هناك طبقات مغل

)1(. ومن هناك أضاف التطور مزيدا من الحجريات والبنى

الجزء األسايس من الدماغ

67
كيف يعمل الدماغ
التي يسهل متييزها - وهي مناطق الدماغ التي تتباين يف الحجم واألهمية وفقا
للنوع الحي. غري أن املوضوع الرئييس يظل هو نفسه بالنسبة إىل جميع الثدييات،
سواء كنت تنظر إىل دماغ جرذ أو دماغ إنسان. وعىل سبيل املثال، فسرتى دامئا منوا
صغريا يشبه القرنبيط، والذي ينتأ من الجزء الخلفي من الدماغ فوق الحبل الشويك
)2(. كام سرتى دامئا نصفي كرة املخ اللذين يقابل كالهام اآلخر مثل قبضتني
مبارشة
اثنتني، يف حني أن غطاءها الخارجي، القرشة cortex( من الالتينية مبعنى »اللحاء«(،
.
)3(
يلتف حولهام بالطريقة نفسها التي يلتف بها اللحاء حول الشجرة
وقد اتسعت مساحة سطح القرشة املخية لدى البرش لدرجة أن استيعاب هذه
الكميات الهائلة من الدماغ ضمن حدود الجمجمة سيكون مثل استيعاب صفحة
من الورق يف قبضة ضيقة: قد تضطر إىل تجعيد الورقة. مبعنى من املعاين، ومادمنا
ال نوسع نطاق املقارنة كثريا، فهذا هو ما فعله التطور: يتسم سطح الدماغ البرشي
بنفس تجعيد مثرة الجوز، يف حني تكون أدمغة الرئيسات األخرى أقل تجعيدا من
ذلك، وتقل درجة التجعيد يف أدمغة القطط والكالب، بينام ال تحتوي القرشة املخية
للقوارض عىل أي تجعيدات عىل اإلطالق. رمبا كانت هذه الطبقة الخارجية الرقيقة
هي الجزء األكرث روعة وغموضا من الدماغ. من حيث التطور نجد أنها األحدث،
ورمبا ليس من املستغرب أنها األكرث وضوحا يف البرش، وهم النوع الحي الذي ميتلك
أعظم القدرات الفكرية. وبالتايل، ستظهر القرشة أكرث من أي منطقة أخرى من
الدماغ ونحن نستكشف تأثري التقنيات الرقمية عىل التفكري.
وألخذ فكرة عن كيفية ترتيب أجزاء الدماغ معا، ّفكر يف مدينة مزدحمة مثل
مدينة نيويورك. إن مناطق الدماغ املتميزة ترشيحيا تقابل البلدات، التي توجد
ضمنها مناطق ثم أحياء - أما يف الدماغ، فهي تتعلق مبجموعات أصغر فأصغر
من الخاليا. بحلول الوقت الذي نصل فيه إىل املربع السكني، أو الشارع، أو صف
املنازل، سنكون قد وصلنا إىل الوحدة األساسية للتواصل العصبوين: الفجوة )املشبك
synapse )بني أي خلية دماغية وأخرى. ماذا عن البيت الواقع يف الشارع؟ سيتمثل
ذلك يف العصبون neuron نفسه، الذي ُتعرف الغرف املوجودة بداخله باسم
العضيات، وهي األجزاء الخلوية املتخصصة التي تحافظ عىل حياة خلية دماغية
واحدة، متاما مثل أي خلية عامة يف الجسم. يف حني أن هذا التشبيه قد يزودنا

68
ّ تغير العقل
بلمحة عن التسلسل الهرمي املتداخل لترشيح مناطق الدماغ، فال ميكن لالستقراء
أن يذهب إىل أبعد من هذا: إنه مجرد لقطة ثابتة لكيفية بناء الدماغ املادي.
يف حديثي إىل الطالب الصغار فككت أجزاء النموذج البالستييك، وأريتهم جميع
املناطق املختلفة التي ميكن متييزها بسهولة والواقعة يف عمق الدماغ، وكيف تتشابك
بعضها حول بعض، متاما كام رأيت ألول مرة يف دماغ حقيقي منذ فرتة طويلة يف
غرفة الترشيح بقسم الترشيح يف جامعة أكسفورد. لكن، هل كان هذا الجواب ُمرضيا
للطفلة الواقفة أمامي ذات العينني الشبيهتني بصحنني، والتي ال تقوى عىل الصرب حتى
أخربها يف جملة واحدة بكيفية عمل الدماغ؟ تكمن املشكلة يف كون خاليا الدماغ أقل
شبها بالهياكل الثابتة مثل الطوب واملنازل، والتي ال تفعل أي يشء يف الواقع، لكنها
أقرب شبها إىل البرش، وهم سكانها شديدو الحيوية. وبالتايل فإن ما نحتاج إليه حقا هو
صورة، أو نوع من السيناريو الذي يصف ليس فقط الكيفية التي يتألف الدماغ فيها
ترشيحيا من لبنات أساسية، وهي الخاليا الدماغية، ولكن أيضا كيفية عمله يف الواقع.
العصبونات هي الوحدات األساسية للدماغ، متاما كام أن الشخص هو الوحدة
األساسية ملنظمة أو مجتمع بعينه. ومثل الشخص، يتسم العصبون بعموميته لكنه
ميثل يف الوقت نفسه كيانا فرديا. يتغري الشخص تدريجيا مبرور الوقت، وكذلك
سيتكيف العصبون بدوره. يبني العصبون تدريجيا االتصاالت عرب فجوة صغرية
)املشبك( باستخدام وسيط، وهو **** كيميايئ )ناقل عصبي(؛ إن االتصال املادي
املبارش الفعيل بني خاليا الدماغ هو أمر ممكن، لكنه يظهر بصورة أقل. وباملثل، فإن
الشخص يبني العالقات تدريجيا مع اآلخرين من خالل التواصل غري املبارش عن
طريق اللغة؛ أما املالمسة فهي أكرث ندرة. ويف وجود كل من املراسيل الكيميائية
واللغات هناك تنوع هائل، لكن هناك أيضا التزاما باملبدأ العام نفسه: التواصل بني
كيانني مستقلني من دون أي اتصال مادي مبارش. يأيت كل من اللغات والناقالت
العصبية يف طائفة واسعة من األصناف، لكن ميكن تصنيفها إىل فصائل حسب
ّغة( أو الرتكيب الكيميايئ )للناقل العصبي(. يتشابه النمط

املصدر الجغرايف )لل
الفعيل لالتصال يف كلتا الحالتني من حيث إن كال من اللغات والناقالت العصبية
ميكنها استخدام طائفة من اإلشارات، من البسيطة إىل تلك املعقدة واملتطورة. ويف
السيناريو األسايس أكرث، ميكن ألحد العصبونات إرسال إشارة بسيطة عن طريق

69
كيف يعمل الدماغ
ناقله العصبي، والتي تتمثل يف »نعم« أو »ال«، وهو ما يرتجم إىل تثبيط أو إثارة
لحظية لنشاط الخلية الدماغية املستهدفة.
وعندما »تتحدث« خلية دماغية )أو عندما تكون »نشطة«، إذا أردنا استخدام
)4( صغرية تدوم جزءا من األلف من الثانية

تعبريا أكرث تقنية(، فهي تولد ومضة كهربية
)واحد مليل ثانية(، والتي تحط رسيعا حتى تصل إىل نهاية الخلية بحيث تتواصل مع
)5(. لكن هناك مشكلة عندما تصل الرسالة الكهربائية إىل املشبك، وال
العصبون التايل
ميكنها الذهاب إىل أبعد من ذلك. وعىل أي حال، فلم ُيفقد كل يشء بعد: يحرض وصول
الومضة طرف الخلية عىل إفراز رسولها الكيميايئ، الذي ميكنه التنقل عرب املشبك بنفس
سهولة انتقال الكلامت عرب الهواء. ومبجرد وصوله إىل وجهته، أي الخلية التالية، يدخل
)6(. يتسم هذا التشابك بكونه من

ّ الناقل العصبي يف مصافحة جزيئية مع هدفه املحدد
اإلحكام والتحديد بحيث إن املثال األقرب شبها به هو املفتاح والقفل. يؤدي التشابك
املعقد بني الناقل العصبي وهدفه املصنوع خصيصا إىل تحريض تغيرّ وجيز يف فولطية
الخلية املستهدفة، وهو ما يعني فعليا إعادة التحويل من إشارة كيميائية إىل إشارة
كهربية. تحدث حالة »نعم« يف االتصاالت العصبونية عندما تكون هناك زيادة لحظية
يف النشاط الكهربايئ )االستثارة(؛ أما حالة »ال« فتحدث عندما ُيقمع النشاط )التثبيط(.
ومثلام أن التواصل اللفظي يكون يف معظم الوقت أكرث من مجرد كلامت
بسيطة أحادية املقطع، حيث ُترتب املقاطع يف صورة كلامت، والكلامت يف صورة
جمل، والجمل عىل شكل بيان، فهذه هي الحال بالنسبة إىل الناقالت العصبية:
يعتمد التأثري النهايئ عىل تسلسل الناقالت العصبية املختلفة التي تتجمع خالل فرتة
معينة من الزمن عىل خلية بعينها. ويف كلتا الحالتني، سيعتمد تأثري كل كلمة أو
)7(. وبعد ذلك،

إشارة ناقل عصبي عىل السياق األوسع خالل الفرتة التي تحدث فيها
ومع تحول املليل ثانية إىل ثانية، ودقائق، وساعات، وإىل أيام يف نهاية املطاف، فإن
االتصاالت التي يجري تفعيلها خالل هذه العملية - أي االتصاالت بني األشخاص أو
بني العصبونات - تتغري.
من املثري لالهتامم متاما، و ّ املنور للبصرية يف الواقع، أن نستكشف أوجه التشابه
املختلفة بني العالقات الشخصية واملسارات التي تتبعها هذه اإلشارات عرب الدماغ
والعالقات الشخصية: كالهام يتعزز بفعل االستخدام املتكرر، لتصبح أقوى وأكرث

70
ّ تغير العقل
كثافة. وبالنسبة إىل بني البرش والعصبونات عىل حد سواء، تكون العالقات أكرث
مرونة يف سن الشباب. ومثلها يف ذلك مثل البرش، تصبح العصبونات عىل نحو متزايد
أكرث تخصصا و»تفردا« مع تنامي شبكة االتصاالت الخاصة بها. ومبرور الوقت، مثلام
يحدث عندما ينضج البرش ويكتسبون سامت شخصية معينة، تصبح العصبونات
أكرث مقاومة للتغيري يف وظيفتها العامة.
وبنفس الطريقة التي تذوي بها الصداقات إذا مل ُيحافظ عليها عىل نحو فعال،
فإن الوصالت العصبونية القليلة االستخدام تضمر.
ومع منو الفرد، فهو يبني عالقات معقدة أكرث فأكرث، بعضها وثيقة ومتكررة،
والبعض اآلخر أقل نشاطا وأكرث تباعدا؛ ترتابط مجموعات أكرب فأكرب يف نهاية املطاف،
ومن ثم ّ تشكل املجتمع األوسع نطاقا. وهذه هي الحال مع الدماغ، حيث يؤدي
التسلسل الهرمي املتداخل من الطبقات األشد تعقيدا من شبكات العصبونات يف
نهاية املطاف إىل ّ تشكل بنية كلية معينة للدماغ. ويف نهاية املطاف ترتابط جميع
مناطق الدماغ بعضها مع بعض، حتى عىل مبعدة مسافات طويلة ضمن الدماغ،
عرب السبل الليفية التي تعمل بطريقة تشبه خطوط الهاتف، بحيث ّمتكن من إجراء
حوارات متواصلة يف كل أنحاء الدماغ، وهي منظمة شمولية.
إن نهج »من أسفل إىل أعىل« لدراسة الدماغ يستكشف كيفية ّ تشكل هذه
املنظمة. إذا كنت عامل أعصاب متخصصا يف فهم الناقالت العصبية، واملستقبالت،
وكيف تعمل املشابك العصبية، فسيشبه األمر كونك خبريا يف التواصل بني األشخاص.
عىل سبيل املثال، يرتبط الناقل العصبي الدوبامني بالعديد من العمليات املختلفة
يف الدماغ، مبا يف ذلك االستثارة، واإلدمان، واملكافأة، واستهالل الحركة. لكن من أجل
الفهم من أسفل إىل أعىل لكيفية عمل مواد كيميائية مثل الدوبامني سنحتاج أيضا
إىل نهج من أعىل إىل أسفل، الذي يبدأ مبناطق الدماغ الكلية ويحاول رسم كيفية
)8(. ويف هذه
ُ عملها معا بحيث تفيض إىل سلوكيات متباينة وطرق مختلفة للتفكري
املرة قد يتمثل القياس التشبيهي املناسب يف علم االجتامع أو األنرثوبولوجيا، اللذين
يركزان عىل االتجاهات والنتائج الجمعية وليس عىل سلوك األفراد.
يستخدم العلامء حاليا طرق املسح الدماغي لتصوير النشاط الجامعي ملناطق
الدماغ املختلفة نتيجة ألنواع مختلفة من املدخالت والبيئات والسلوكيات. ويف مسح

71
كيف يعمل الدماغ
ُ الدماغ قد ترى نقطا مضيئة تربز مناطق معينة يف بحر من مادة الدماغ الرمادية، أو
رمبا صفائف متعددة األلوان ميثل األبيض فيها نقطة ساخنة، ويتجرد يف الظالل وصوال
إىل األصفر والربتقايل واألحمر، ثم إىل محيط منخفض النشاط ذي لون أرجواين. لكن
ضمن التامسك الغامض للدماغ، فإن كل الرثثرة املستمرة بني مناطق الدماغ املختلفة لن
تكون مرئية بالنسبة إليك يف الواقع. تكشف صور املسح الدماغي طبيعة الدماغ وهو
ْزا resolution ُيقاس

يعمل عىل مدى فرتة طويلة. عادة ما يكون لصور املسح هذه َمي
بالثواين )يف أحدث التطورات يبلغ بضع عرشات من أجزاء املليل ثانية(، لكن التوقيع
الكهربايئ الشامل لخاليا الدماغ وهي تعمل، أي ُجهد الفعل potential action، يزيد
يف رسعته عن ذلك مبائة ضعف أو نحو ذلك. ُتصبح صور مسح الدماغ شبيهة بالصور
الفوتوغرافية القدمية من العرص الفيكتوري، والتي تظهر مباين ثابتة لكنها تستبعد
أي أشخاص أو حيوانات، والذين ال بد أنهم كانوا يتحركون برسعة أكرب بكثري من زمن
التعرض. إن املباين حقيقية متاما، لكنها ال تشكل الصورة الكاملة.
ّ عند النظر يف صور املسح الدماغي من املغري أيضا أن نفكر يف أنه إذا أضاءت
منطقة معينة من الدماغ، فال بد أن تكون هذه مركزا ألي سلوك أو استجابة جار
دراستها. تتسم فكرة وجود »مراكز« يف الدماغ لهذا أو ذاك بجاذبيتها: وعالوة عىل ذلك
فإذا كانت صحيحة فسيكون فهم الدماغ أسهل بكثري. وإذا ُعدنا إىل أعتاب القرن التاسع
عرش فسنجد أن فرانز غال أدخل »علم« فراسة الدماغ phrenology( ويعني حرفيا
»دراسة العقل«(. وكان الهدف من الرؤوس الخزفية البيضاء التي تغطيها مستطيالت
تفصلها خطوط سوداء وتحمل أوصافا مثل »حب الوطن« أو »حب األطفال«، هو
توفري قالب ميكن يف ضوئه مقارنة نتوءات رأس الفرد التي تجري دراستها للتأكد من
قوة سمة شخصية بعينها. يف حني التزال هذه التامثيل النصفية رائجة لدى املصورين
كدعامة إلحياء لقطات لعلامء الدماغ والجديرة بالنرش يف سائل اإلعالم، فقد جرى
دحض املقاربة برمتها عندما صار الفحص املنهجي للدماغ يف حد ذاته أمرا ممكنا. لكن
آثار املنطق املجنون لعلم فراسة الدماغ، الذي ينطوي عىل وجود العديد من األدمغة
الصغرية بداخل رأسك، التزال تغذي تفسريات النتائج العلمية الحقيقية.
اكتسبت فكرة »وظيفة واحدة لكل منطقة بعينها من الدماغ« جاذبيتها عندما
ازدهر الطب وصار األطباء َمهرة عىل نحو متزايد يف إبقاء املرىض عىل قيد الحياة

72
ّ تغير العقل
عىل الرغم من التلف الدماغي الجسيم الناتج، عىل سبيل املثال، من رصاصة، أو
إصابة، أو سكتة دماغية. وهذا هو املوضع الذي ّمتكن من التسلل منه تفسري شبيه
بعلم فراسة الدماغ، عن طريق عزو »الوظيفة« املفقودة إىل املنطقة التالفة من
الدماغ. ومع ذلك، وكام الحظ أحد علامء النفس منذ أكرث من نصف قرن، فإذا
عمدت إىل إزالة صامم خوايئ tube vacuum من املذياع )نعم، يتسم القياس
القَدم( وبدأ الجهاز يف العواء، فال ميكنك أن تزعم أن وظيفة الصامم

التشبيهي بهذا ِ
كانت هي منع العواء. إذا تعطلت املنطقة الدماغية املعنية عن العمل، مثل الصامم
الخوايئ العتيق، فسيتعطل النظام الشمويل للدماغ، لكن مساهمة تلك املنطقة
الدماغية ال ميكن استقراؤها بأثر رجعي من النتيجة النهائية الصافية. وإذا أردنا
استخدام تشبيه آخر، إذا تعطلت شمعة اإلشعال plug spark، فلن تدور سيارتك،
لكنك ال تستطيع استنتاج كيفية عمل السيارة من خالل دراسة شمعة اإلشعال. نحن
نعلم اآلن أنه ليس هناك وظيفة واحدة تتحكم فيها أي منطقة منفردة من الدماغ.
فاإلبصار، عىل سبيل املثال، ينطوي عىل تقسيم جوانب مختلفة من رؤية الشكل
والحركة واللون بني ما ال يقل عن ثالثني منطقة دماغية مختلفة. وليست هناك أي
منطقة دماغية بعينها متتلك وظيفة واحدة فقط. وبدال من ذلك، تسهم كل من بنى
الدماغ يف وظيفة نهائية صافية، ليس وفقا لتسلسل هرمي، بل بطريقة أقرب شبها

.
)9(
بعزف اآلالت املوسيقية املختلفة لسيمفونية يف األوركسرتا
ومن شأن هذه املعالجة التي تحدث يف الدماغ تحديد الكيفية التي ترى بها
العامل، لكن مهام كانت املدخالت الخارجية التي ُيغذى بها دماغك يف أي وقت من
األوقات، فإن تجربة تلك اللحظة بالذات ستعمل يف الوقت نفسه عىل تغيري تنظيم
خاليا الدماغ، وبالتايل طريقة تفكريك. وكام يلخص األمر براين كولب Kolb، وهو
خبري رائد يف النامء الدماغي: إن »أي يشء يغري دماغك سيغيرّ ما ستصري إليه. ال ينتج
دماغك عن طريق جيناتك فحسب؛ بل يجري نحته بفعل عمر كامل من الخربات.
تعمل التجربة عىل تغيري نشاط الدماغ، وهو ما يعمل عىل تغيري التعبري الجيني.
إن أي تغريات سلوكية تراها تعكس تغريات يف الدماغ. والعكس صحيح أيضا: فمن
)10(. وهذا هو بالضبط ما سنستكشفه بعد قليل.

املمكن أن يغيرّ السلوك الدماغ«

73
كيف يتغري الدماغ

يشتهر سائقو سيارات األجرة يف لندن
يف جميع أنحاء العامل مبعرفتهم التفصيلية
بالشوارع، وتشكيالت حركة املرور، ونظم السري
يف اتجاه واحد يف تلك املدينة الكبرية. وبخالف
معظم نظرائهم يف جميع أنحاء العامل، يبدو
أنهم اكتسبوا طبيعة ثانية متكنهم من التنقل يف
شوارع العاصمة الربيطانية من دون اللجوء إىل
خريطة. يف املتوسط، يستغرق السائق الناشئ
سنتني الستيعاب املعلومات الالزمة ليك يتمكن
من القيام بذلك، ويجتاز يف نهاية املطاف
ذلك االمتحان الشفوي املشؤوم الذي ُيطلق
عليه بحق اسم »املعرفة«. لقد اختار أولئك
السائقون مهنة تضع عبئا كبريا عىل ذاكراتهم،
وتحديدا عىل ذاكراتهم العاملة، حيث يجب أن
تبقى القواعد والحقائق دامئا حارضة يف الذهن
خالل تحديد األفعال املستمرة.
كيف يتغري الدماغ

ّم مهمة جديدة يؤدي دورا
»إن تعل
محوريا يف تغيري بنية الدماغ، بدال
من التدريب املستمر عىل يشء
جرى تعلمه مسبقا«
6

74
ّ تغير العقل
يف العام ،2000 حيرّ إليانور ماغواير Maguire وزمالءها يف يونيفرسيتي كوليدج
ُ يف لندن سؤال ما إذا كان سائقو سيارات األجرة يف لندن يظهرون أي تغيرّات
فعلية يف أدمغتهم نتيجة لتلك التجربة اليومية غري املعتادة متاما، واملتمثلة يف
استخدام الذاكرة العاملة باستمرار. ومن املثري للدهشة أنهم رأوا يف صور املسح
الدماغي أن منطقة معينة من الدماغ، والتي تتعلق بالذاكرة العاملة )وهي ُ الحصني
hippocampus)، كانت يف الواقع أكرب يف سائقي سيارات األجرة مام كانت عليه يف

(1). كام مل تكن الحال أن امتالك حصني كبري يؤّهب

أقرانهم اآلخرين من العمر نفسه
هؤالء األفراد لقيادة سيارات األجرة، إذ إن االختالف يف حجم الحصني كان يزداد يف
الحجم مع طول املدة التي ميارس فيها املشاركون مهنتهم. استحوذت هذه الدراسة
عىل اهتامم وافتتان وسائل اإلعالم، وكذلك عىل اهتامم سائقي سيارات األجرة يف
لندن، بطبيعة الحال، والتزال حتى يومنا هذا واحدة من أفضل وأبسط األمثلة عىل
مبدأ »استخدم قدراتك وإال ستفقدها«. إن العصبونات، مثل عضالت الجسم، تزداد
يف القوة والحجم مع أي نشاط يجري ّ التدرب عليه. وعىل رغم أن هذا التكيف ال
(2) وحتى
تتشاركه الثدييات فقط، ولكن أيضا الكائنات األبسط كثريا مثل األخطبوط
(3) فقد ّمتكن البرش من استغالل هذه املوهبة

بزاقة البحر slug sea املتواضعة،
الفائقة بصورة تجاوزت أي نوع آخر من األحياء.
والواقع أن تغريات الدماغ الناتجة من الخربة قد وصفت ألول مرة منذ فرتة
طويلة، وبالتحديد يف العام ،1783 من قبل عامل الطبيعة السويرسي شارل بونيه
)٭( ميشيل فينتشنزو ماالكارين Malacarne: لقد

Bonnet وعامل الترشيح البيمونتي
اكتشفا أن تدريب الكالب والطيور يؤدي إىل زيادة يف عدد تالفيف جزء معني من
الدماغ )املخيخ cerebellum)، مقارنة بالكالب من الولدة نفسها أو الطيور من
(4). وعىل أي حال، فلم يفعل هذا االستنتاج سوى القليل من

حضنة البيض نفسها

ّمة السائدة يف ذلك الوقت، وهي أن الدماغ غري قابل للتغير،ّ

حيث اإلطاحة باملسل
إىل أن أعيد النظر يف هذه الفكرة يف العام 1872 من قبل الفيلسوف ألكسندر باين
Bain:« بالنسبة إىل كل من أفعال الذاكرة، وكل مامرسة للمهارة الجسدية، وكل
)٭(بييمونتي أو بيدمونت، هو أحد األقاليم اإليطالية املحاطة تقريبا بجبال األلب. ]املحررة[.

75
كيف يتغري الدماغ
ّ ّ ر، أو سلسلة من األفكار، هناك تجمع أو تنسيق معني لألحاسيس
عادة، أو تذك
والحركات، والناتج من حاالت محددة من النمو يف تقاطعات الخاليا«. بعد ما
يقرب من عرشين عاما، ويف العام ،1890 وخطرت عىل ذهن عامل النفس الرائد وليم
جيمس James ومضة من البصرية: »عندما تنشط عمليتان دماغيتان أساسيتان يف
الوقت نفسه أو واحدة بعد األخرى مبارشة، فإن واحدة منهام، عند التكرار، متيل
إىل نقل استثارتها إىل األخرى«. بيد أن املصطلح الفعيل لهذه العملية، أي اللدونة
plasticity، ُطرح للمرة األوىل بعد ذلك بسنوات قليلة، يف العام ،1894 من قبل عامل
الترشيح اإلسباين العظيم سانتياغو رامون إي كاخال Cajal، الذي استعار الكلمة
(5) قبل فرتة طويلة من ظهور تلك املادة

ّ من جذر إغريقي مبعنى »أن يتشكل«
االصطناعية املنترشة يف كل مكان ]البالستيك[.
»أعطني طفال حتى يبلغ السابعة، وسأعطيك الرجل«، هذا ما يضمنه الرهبان
اليسوعيون Jesuits. وكام أن ميشيل ماالكارين وشارل بونيه ّ تكهنا باللدونة قبل
وقت طويل من إنتاج علامء العرص الحديث مثل إليانور ماغواير بيانات تجريبية،
كذلك كان من املقبول عىل نطاق واسع أن الدماغ ّ الفتي والنامي يكون أشد تأثرا
وأكرث عرضة للخطر. وبطبيعة الحال فإن هذه الحساسية التي يتسم بها الدماغ
الشاب تجاه التأثريات الخارجية تسلط الضوء عىل أهمية تشكيل النوع املناسب
من البيئة املبكرة للجيل القادم. وكام أشارت إليه هيالري كلينتون Clinton يف
العام ،1997 فإن خربات األطفال ما بني الوالدة وعمر الثالثة »ميكنها تحديد ما إذا
كان األطفال سيكربون ليكونوا مواطنني سلميني أو عنفاء، وعامال ملتزمني أو غري

.
(6)
منضبطني، وآباء منتبهني أو منعزلني هم أنفسهم«
خالل السنوات األوىل من الحياة، ميتلك الدماغ فرصا سانحة، تتميز بنمو متدفق
يف االتصاالت بني العصبونات، وتسمح بإمكانيات مذهلة. وعىل سبيل املثال، ففي
الرضع يبدو أن األحياز البرصية والسمعية يف الطبقة الخارجية من الدماغ )القرشة(
تكون متبادلة وظيفيا، حيث يجري تحفيزها بالفاعلية نفسها من قبل أي من السمع
أو البرص. ونتيجة لذلك، فعندما يحدث فقدان للبرص يف مرحلة الطفولة املبكرة،
تنتهي الحال بأحد أشكال السمع بأن يصري أكرث حدة من خالل عملية تعرف باسم
إعادة رسم الخرائط القرشية remapping cortical(7). وألنه مل ُيستخدم القطاع

76
ّ تغير العقل
البرصي يف وظيفته العادية، فإنه يتكيف مع أي مدخالت متوافرة ويكتسب دورا
بديال، مام يساعد الدماغ عىل معالجة السمع بصورة أشد براعة.
بيد أن هذا التكيف امللزم من قبل الجهاز العصبي املركزي ال يقترص عىل
الحواس. ومن بني األمثلة عىل قوة الدماغ الشاب يف تعويض التلف، هناك حالة
لوك جونسون Johnson. احتل لوك عناوين الصحف الربيطانية يف العام 2001
عندما كان مجرد *** دارج. بعد فرتة وجيزة من والدته، بدت ذراعه اليمنى وساقه
اليمنى مرتهلتني وبال حراك. ّشخص األطباء إصابته بتلف شديد يف الدماغ بسبب
سكتة دماغية يف الجانب األيرس من دماغه، والتي حدثت خالل وجوده يف الرحم
أو بعد الوالدة بفرتة وجيزة. ولكن يف غضون بضع سنوات، استعاد لوك القدرة عىل
استخدام ساقيه وذراعيه بشكل كامل. وخالل العامني األولني من حياته، انشغل
دماغه يف إعادة تشكيل وصالته العصبية، وإعادة تنظيم املسارات العصبية ليك

.
تتجاوز األنسجة التالفة)8(
ولألسف فهذه الفرتات الحرجة ال تضمن دامئا تحقيق نتائج إيجابية. لنأخذ، عىل
سبيل املثال، حالة األطفال الذين يصابون بإعتام عدسة العني ّ )الساد cataracts )
يف واحدة من عيونهم أو كلتيهام. إن الحرمان البرصي الناتج من إعتام عدسة العني
أو أي اضطراب آخر ُيضعف البرص، والذي يحدث ما بني الوالدة وعمر الخامسة،
يؤدي إىل تلف دائم يف اإلبصار. أما بالنسبة إىل األطفال الذين يواجهون هذه
املشكلة عندما يكونون أكرب سنا، فإن اإلبصار يتعاىف عادة بعد العالج)9(. ومن املثري
لالهتامم أن األنواع املختلفة من اإلبصار لديها فرتات حرجة مختلفة، مام يعني أن
ّ الطفل الذي يصاب بالساد خالل إطار زمني بعينه قد يصاب ّ بتعطل يف اكتشاف
الحركة، عىل سبيل املثال، ومع ذلك ّ تتطور لديه حدة إبصار طبيعية. وكام هي
الحال مع لوك جونسون، فإن دماغ الطفل الصغري املصاب ّ بالساد سيعيد ترتيب
وصالته العصبية، ولكن هذه املرة مع عواقب مأساوية تتمثل يف أن املساحة التي
ُ تستخدم عادة من قبل العني الخاملة تغتصب ألغراض أخرى.
تتسم فكرة وجود فرتات حرجة لنمو الدماغ بسهولة فهمها، كام أن التغيرّات
التي تالحظ يف هذه املراحل الحرجة حتى يف النامء الطبيعي تكون واضحة يف
الواقع. ومع ذلك، فمن الواضح من التعايف امللحوظ الذي كثريا ما ُيشاهد يف مرىض

77
كيف يتغري الدماغ
السكتة الدماغية البالغني أنه وعىل رغم أن »****** األرايض« يف الدماغ قد يكون
أقل وضوحا يف املراحل الالحقة من الحياة، فإنه ال يوقف مع التقدم يف العمر. ويف
البالغني باملثل، ميكن لألجهزة الحسية املختلفة عبور الحدود الرسمية بني بعضها
البعض، كام تكون عليه الحال عندما يجري تفعيل القرشة البرصية للمكفوفني يف
أثناء القراءة بطريقة برايل. وعىل املنوال نفسه، فقد أظهرت عاملة األعصاب هيلني
نيفيل Neville كيف يؤدي ضعف السمع إىل تحفيز تعويض معني يتمثل يف ّ تحسن
اإلبصار، بينام عىل العكس من ذلك يعالج املكفوفون املحفزات السمعية الرسيعة

.
بصورة أفضل)10(
ّ وكذلك يجري تفعيل نفس آليات الدماغ األساسية املوجهة للدونة خالل عملية
ّم أجزاء الدماغ التالفة أو املريضة.

التعلم يف الدماغ السليم وغري الناضج خالل إعادة تعل
تنقسم استعادة الوظيفة بعد تلف الدماغ إىل ثالث مراحل: )1( االسرتداد:
restoration اسرتداد الوظيفة إىل املنطقة املتبقية بالدماغ. )2( االستقطاب:
recruitment توظيف مناطق دماغية جديدة للمساعدة يف أداء الوظيفة األصلية.
)3( إعادة التدريب: retraining تدريب تلك املناطق األخرى من الدماغ عىل
أداء الوظيفة الجديدة بكفاءة)11(. وفيام يتعلق باللغة، فإن نصف الكرة املخية
األمين، وهو ليس الجزء املهيمن عادة فيام يتعلق بالكالم، قد يتسلم زمام األمور من
الجزء األيرس التقليدي عندما يصاب األخري بالتلف)12(. ويف الوقت نفسه، يف حالة
وجود يد ال تعمل يف النسانيس، فإن مجرد ساعة واحدة يوميا من التدريب تكفي
للمحافظة عىل العصبونات التي متثلها يف الدماغ من الذبول إىل انعدام الجدوى.
وكذلك فقد جرى إثبات هذا التأثري يف البرش. فكثري من املرىض الذين لديهم يد
مختلة الوظيفة نتيجة لتلف يف الدماغ يفضلون استخدام نظريتها السليمة، لكن
مثل هذه اإلسرتاتيجية ّ تعطل استعادة الوظيفة. ولذلك فكثريا ما يوضع كم عىل
.
اليد السليمة لتشجيع استخدام اليد املترضرة، مام يجعلها تعمل بقدر اإلمكان)13(
ُ إن الدماغ ال يتحمل »املساحة الشاغرة« - وهي حالة ال تستدعى فيها
العصبونات للعمل. إن الفكرة القدمية التي جرى اإلفراط يف االستشهاد بها، والقائلة
بأننا نستخدم 10 يف املائة فقط من أدمغتنا هي خرافة كاملة، ومن السهل دحضها.
أوال، ليست هناك أي منطقة من الدماغ ميكن أن تتعرض للتلف من دون فقدان

78
ّ تغير العقل
قدرة من نوع ما، ولكن إذا كانت خرافة العرشة يف املائة صحيحة، فبوسعنا أن
نتحمل ّ تعرض 90 يف املائة من أدمغتنا للتلف. ثانيا، الدماغ هو أكرث أجهزة أجسامنا
جشعا يف حالة الراحة، حيث يلتهم ما يصل إىل 20 يف املائة من إمدادات الطاقة
لدينا عىل رغم أنه يشكل 2 يف املائة فقط من وزن الجسم. ملاذا نستخدم هذا
القدر من املوارد لتغذية 90 يف املائة من العصبونات التي ال تفعل أي يشء؟
ثالثا، أظهرت تقنيات التصوير الدماغي أنه باستثناء حاالت التلف الشديد )مثل
تلك التي تشاهد يف الحالة اإلنباتية state vegetative املستدمية(، ال يظهر أي
من مناطق الدماغ يف صور األشعة كنقاط خاملة متاما وصامتة. رابعا، يبدو أن
جميع مناطق الدماغ تسهم يف تأدية املهامت: ليست هناك بنية يف الدماغ من
دون وظيفة، عىل رغم أننا قد ال نفهم متاما كيف تتناغم املساهامت الواردة من
املناطق الدماغية املختلفة معا لتؤدي إىل سلوك نهايئ صاف. وأخريا، وكام رأينا،
فإن الدماغ يعمل وفقا ملبدأ ال لبس فيه، وهو »استخدم قدراتك وإال فستفقدها«،
عندما يتعلق األمر ببقاء العصبونات وارتباطيتها. وإذا ظل 90 يف املائة من الدماغ
غري مستخدم، ألظهر ترشيح الجثث ّ تنكسا واسع النطاق فيام يصل إىل 90 يف املائة:

.
)14(
لكن هذه ليست هي الحال
وكلام ازدادت صعوبة عمل عصبونات بعينها يف نشاط معني، ازدادت تلك املساحة
من الدماغ التي ستشغلها. يف إحدى التجارب، أظهر مايكل مريزينيك Merzenich أن
نسانيس البومة التي جرى تدريبها عىل تدوير قرص بإصبعني اثنتني فقط لديها مساحة
ّمسية )الحسية الجسدية somatosensory )املتعلقة بهاتني

موسعة من القرشة الل
)15(. ولهذه النتيجة مقابل مدهش يف البرش: فاملوسيقيون الذين يعزفون اآلالت
اإلصبعني
الوترية ّ يدربون أيديهم اليرسى أكرث من اليمنى، ونتيجة لذلك، ففي عازيف الوتريات،
يكون القسم الخاص باللمس من القرشة املخية أكرب بالنسبة إىل الجانب األيرس من
)16(. وهناك أمثلة أخرى كثرية عىل لدونة الجهاز الحيس يف البالغني، كام أن تأثري
األمين
التجارب املتكررة يف وظيفة الدماغ ميثل حجر األساس لتغيرّ العقل، وبالتايل فإن األمر
يستحق الحصول عىل فكرة عن املدى الواسع واملثري الذي ميكن أن تصل اللدونة إليه.
أوال، هناك دراسات تزودنا بلمحات خاطفة، مثل تلك التي تناولت سائقي
سيارات األجرة، حيث ُتظهر أدمغة مجموعة من األشخاص الذين يفعلون شيئا

79
كيف يتغري الدماغ
ُ غري عادي أو بصورة شديدة التواتر بصورة يومية، تظهر اختالفات مقارنة ببقيتنا.
وبصفة عامة متاما، عىل سبيل املثال، فإن البنى الدماغية تختلف بني املوسيقيني
وغري املوسيقيني. أظهرت صور الفحص الترشيحي للموسيقيني املحرتفني )عازيف لوحة
املفاتيح(، واملوسيقيني الهواة، وغري املوسيقيني اختالفات يف الحجم يف مجموعة
)17(. ومن الجدير

من البنى: مناطق الدماغ الحركية، والسمعية، واإلبصارية املكانية
بالذكر أن هناك عالقات قوية بني حالة املوسيقي وكثافة املامرسة، مام يشري إىل
أن االختالفات الترشيحية ترتبط بالتعلم وليس باالستعداد للموسيقى. ويف الوقت
نفسه، فإن قضاء وقت طويل يف حل مسائل الرياضيات ّ يحرض زيادة يف كثافة املادة
الرمادية يف مناطق محددة )الجدارية( من القرشة املخية، واملعروف أنها مكتنفة
يف املعالجة الحسابية أو الصور اإلبصارية املكانية / البناء العقيل / معالجة األجسام

.
)18(
الثالثية األبعاد
ثم هناك الرياضة. تتسم اللدونة املعتمدة عىل الخربة بإمكان اكتشافها يف
أدمغة العبي كرة السلة: عندما جرت مقارنة الالعبني مبجموعة شاهدة من األصحاء،
)19(. من املمكن أيضا مشاهدة

كان هناك تضخم يف »الطيار اآليل« للدماغ، أي املخيخ
تغيرّات مامثلة يف دماغ العب الغولف املاهر، وإن كان ذلك يف بنية دماغية مختلفة،
)20(. وعىل أي حال، فبالنظر إىل أنه ال

يف مقابل أولئك الذين ميتلكون مهارات أقل
توجد عالقة خطية أيضا بني مستوى إعاقة العب غولف والتغريات الترشيحية،
فمن املستحيل معرفة ما إذا كان العبو الغولف املهرة مهيأين predisposed
بالفعل لهذه املوهبة بعينها. هذا اللغز الشبيه بأحجية الدجاجة والبيضة هو واحد
من العيوب الكبرية، األكرث عمومية، لدراسات اللمحة الخاطفة التي ُتجرى عىل
مجموعات مختلفة من الناس.
مثة نوع بديل من التجارب، والذي ميكنه التفريق بني السبب والنتيجة، وهو
مراقبة التغريات التي تحدث يف الدماغ مبرور الوقت يف أثناء تدريب أشخاص طبيعيني
ال ميتلكون أي مهارة أو موهبة معينة من نقطة الصفر عىل بعض املهامت التجريبية
)21(. يف إحدى الحاالت، كانت املهارة هي قذف الكرات juggling. خضع
القياسية
املشاركون لتدريب يومي ملدة ثالثة أشهر لتعلم مهمة قذف ثالث كرات، حيث
ُجري املسح
لعب اإلدراك والرتقب دورا رئيسا يف تحديد الحركات القادمة بدقة. أ

80
ّ تغير العقل
الدماغي قبل التدريب، وبعد ثالثة أشهر من التدريب، ثم بعد ثالثة أشهر أخرى
مل ِ تجر خاللها محاولة أي قذف للكرات، ويف ذلك الوقت كان األداء قد تراجع إىل
خط األساس: استخدم مهاراتك وإال فستفقدها. ويف الوقت نفسه، أظهرت صور
املسح الدماغي خالل هذا الوقت حدوث تغريات بنيوية خالل سبعة أيام من بداية
التدريب، وكانت أرسع ما يكون خالل املراحل املبكرة، عندما كان مستوى األداء
ّم مهمة جديدة يؤدي دورا محوريا يف تغيري

منخفضا. وتشري هذه النتيجة إىل أن تعل
بنية الدماغ، بدال من التدريب املستمر عىل يشء جرى تعلمه مسبقا.
واألمر املريح يف ذلك كله هو مالحظة أن هذا التدريب اليزال بإمكانه إحداث
تغيرّات بنيوية يف الدماغ لدى كبار السن. يف مهمة لقذف الكرات مثل تلك التي
ناقشناها يف السطور السابقة، مل يكن أداء املسنني بنفس جودة املشاركني األصغر
.)22(
سنا، لكن تغيرّات املادة الرمادية حدثت بالفعل يف املناطق الدماغية نفسها متاما
وبصورة أكرث عمومية، ميكن لتدريب الذاكرة تحفيز منو القرشة املخية يف كبار السن.
عند تنفيذ برنامج تدريبي مكثف ملدة مثانية أسابيع، يتحسن أداء الذاكرة وتزداد
(23). وإذا
سامكة القرشة املخية يف املجموعة التجريبية التي تخضع لتدريب الذاكرة
أظهر املسنون تغريات يف الدماغ نتيجة لزيادة النشاط العقيل، فليس من قبيل
املفاجأة معرفة أن األشخاص األصغر سنا يفعلون ذلك أيضا.
إن االستعداد لالمتحان الطبي األساس يف أملانيا، واملعروف باسم Physikum،
)24(. يشمل االمتحان »اختبارات شفهية وتحريرية

قد يكون له تأثري واضح يف الدماغ
يف البيولوجيا، والكيمياء، والكيمياء الحيوية، والفيزياء، والعلوم االجتامعية،
وعلم النفس، وعلم الترشيح والفسيولوجيا البرشية، يتطلب مستوى مرتفعا من
ّم يف
)25(. حدثت تغريات بنيوية تتعلق بالتعل
ّر املحتوى«
الرتميز واالسرتجاع، وتذك
مجموعة متنوعة من مناطق الدماغ املتعلقة بالذاكرة: الحصني، املادة الرمادية
جنيب الحصينية parahippocampal، والقرشة الجدارية الخلفية. لكن العامل
األساس هنا ال يقترص عىل مجرد التجربة الحادة واملرهقة املتمثلة يف االستعداد
لالمتحانات. يؤدي تعلم لغة ثانية إىل زيادة كثافة املادة الرمادية، حيث تتوافق
ّم لغة ثانية،
)26(. أدت خمسة أشهر من تعل

التغيرّ َ ات املشاهدة مع مستوى املهارة
يف هذه الحالة مع طالب التبادل ممن لغتهم األم هي اإلنجليزية والذين يتعلمون

81
كيف يتغري الدماغ
األملانية يف سويرسا، إىل حدوث تغيرّات بنيوية مقابلة لزيادة الكفاءة يف اللغة
الثانية. ومرة أخرى، انعكس مقدار التعلم الفردي الذي تحقق عىل التغيرّات
الحادثة يف بنية الدماغ.
تكمن الحقيقة املثرية واملخيفة للحياة يف أنك ال تحتاج إىل املشاركة بنشاط يف
مهمة تدريبية محددة من أجل أن تغيرّ عقلك: سيحدث ذلك يف أي حال نتيجة
للتجارب التي متتلكها والبيئة التي توجد فيها. يف كتابها الكاشف والرائع »العقل
اللدن«، تكتب شارون بيغيل Begley عن أن »املشابك العصبية الجديدة، وهي
الوصالت التي تربط بني العصبون واآلخر، هي التعبري املادي عن الذكريات. وبهذا
املعنى، فإن الدماغ يخضع لتغيرّ مادي مستمر... يعيد الدماغ صنع نفسه طوال

.
)27(
الحياة، وذلك استجابة للمثريات الخارجية لبيئته ولتجاربه«
ّمتثل أول دليل عىل تأثري العامل الخارجي فيام سيطلق عليه يف النهاية اسم
البيئة ّ »املعززة« enriched ويعود إىل أربعينيات القرن العرشين، عندما قام
عامل النفس املستبرص دونالد هيب Hebb بفعل ما يستحيل فعله يف الوقت
)28(. ضاع السبب الحقيقي لهذه الخطة

الحارض: أخذ بعض فرئان املخترب إىل بيته
الغريبة يف غياهب الزمن. وعىل أي حال، فبعد بضعة أسابيع من بقائها يف
املنزل، اتضح أن هذه الفرئان »الطليقة« متتلك قدرات فائقة يف حل املشكالت،
مثل الركض يف املتاهات، مقارنة مع نظرياتها األقل حظا، والتي ظلت يف أقفاص
املخترب القياسية.
ومنذ ذلك الحني، أظهرت الدراسات األكرث رسمية مدى القوة التي ميكن
ّ أن يبلغها العامل البيئي، خصوصا عندما يكون محفزا وجديدا و ّ مشجعا
عىل االستكشاف. جاء أول ذكر ملصطلح »اإلثراء البيئي« environmental
enrichment يف مقالة علمية من تأليف مارك روزنزفايغ Rosenzweig وفريقه
يف جامعة كاليفورنيا يف العام ،1964 عندما أظهروا ألول مرة التغريات الجسدية يف
الدوائر العصبية بفعل الخربة. متكن العلامء بالفعل من تحديد اآلليات العصبية
الكامنة وراء الفروق الفردية يف السلوك وحل املشكالت يف سالالت مختلفة من
الجرذان، ولكنهم رسعان ما أدركوا التأثري الهائل لتلك التجربة يف األداء السلويك

.
)29(
النسبي لنظرياتها يف األقفاص

82
ّ تغير العقل
عىل مدى العقود التي تلت ذلك، تعلم علامء األعصاب أن وجود بيئة ثرية
يؤدي إىل مجموعة كاملة من التغريات الجسدية يف الدماغ، وجميعها إيجابية: زيادة
حجم أجسام العصبونات، وزيادة الوزن الكيل للدماغ، وزيادة سمك القرشة املخية،
وزيادة عدد األشواك التغصنية spines dendritic( وهي نتوءات عىل فروع الخاليا
تعمل عىل زيادة مساحة السطح(، وزيادة يف حجم الوصالت املشبكية، وبالتايل
حجم االتصاالت، وزيادة عدد الخاليا الدبقية cells glial( وهي خاليا التدبري املنزيل
يف الدماغ، والتي تضمن وجود بيئة مكروية حميدة للعصبونات(. تكون هذه
التأثريات أكرث وضوحا يف الحيوانات األصغر سنا، ولكن اليزال باإلمكان مالحظتها
يف الجرذان البالغة أو حتى ّ املسنة. وتحدث كذلك زيادة يف إنتاج خاليا دماغية
جديدة يف أجزاء الدماغ املرتبطة بالذاكرة والتعلم )الحصني، والتلفيف املسنن،
وخاليا بوركنجي يف املخيخ(، فضال عىل تزايد اإلمدادات الدموية وزيادة مقادير
عوامل النمو وتخليق الربوتينات.
من شأن هذا النوع من البيئة ّ املحفزة، حيث ال توجد مهامت محددة يتعني
تنفيذها ولكنها مع ذلك تولد أنواعا مختلفة من الخربات، أن يكون له تأثري مدهش
حتى عندما يبدو املصري بخالف ذلك ّ محددا برصامة من قبل الجينات. ويف تجربة
أجريت منذ خمسة عرش عاما، والتي أصبحت اآلن كالسيكية ُويستشهد بها كثريا،
جرت هندسة الفرئان وراثيا عن عمد بحيث تصاب مبرض هنتنغتون s’Huntington
disease ُ ، وهو اضطراب عصبي يتسم بحركات جامحة والإرادية تعرف باسم َّ الرَقص
)30(. عاشت الفرئان التي تركت يف

)chorea: من لفظة إغريقية مبعنى »الرقص«(
أقفاص املخترب النمطية مصريها الجيني أثناء تقدمها يف العمر، إذ كانت نتائجها
تزداد سوءا يوما بعد يوم يف مجموعة متنوعة من اختبارات الحركة، يف حني تعرضت
مجموعة من الفرئان املتطابقة معها وراثيا لبيئة ثرية، يف عامل يتكون من مساحة
أكرب الستكشافها وعدد أكرب من األشياء )العجالت، والسالمل وما إليها( التي ميكنها
أن تتفاعل معها. أثبتت الدراسة بشكل قاطع أن الفرئان التي تعيش يف هذه البيئة
ّ املحفزة أصيبت مبشكالت حركية بعد فرتة أطول بكثري وتعرضت لدرجة أقل بكثري
من العجز. وحتى يف هذه الحالة، يف وجود اضطراب مرتبط بجني واحد ويف أدمغة
الفرئان األقل تعقيدا، تتفاعل الطبيعة والتنشئة.

83
كيف يتغري الدماغ
ومنذ أوائل تسعينيات القرن العرشين، كشفت األبحاث التي أجريت عىل
الحيوانات التي تعيش يف بيئة ثرية وجود مجموعة واسعة من التغريات الجسدية يف
الدماغ عىل مستوى الشبكات العصبية الفردية، وكام أظهرت أن مدة تجربة التخصيب
متثل عامال مهام. وعىل سبيل املثال، ففي إحدى الدراسات مل يؤد أسبوع واحد من
اإلثراء البيئي إىل أي تأثري، وأدت أربعة أسابيع من اإلثراء إىل إحداث تأثريات سلوكية
استمرت ملدة شهرين، يف حني أدت مثانية أسابيع من اإلثراء إىل آثار سلوكية دامت ملدة
.
)31(
ستة أشهر
وبالنظر إىل كل هذه التغريات الفيزيائية يف بنية وكيمياء الدماغ، فلم يكن مفاجئا
أن تكون الحيوانات التي تعيش يف بيئات ثرية متفوقة يف اختبارات الذاكرة املكانية،
وأن ُتظهر زيادات عامة يف الوظائف اإلدراكية مثل القدرة عىل التعلم، واملهارات
املكانية وتلك املتعلقة بحل املشكالت، ورسعة معالجة املعلومات. كام انخفضت
مستويات القلق لديها. وباإلضافة إىل ذلك، فقد عمل اإلثراء عىل تخفيف اآلثار
املستدمية الناتجة من التجارب السلبية املاضية مثل ا َلكْرب قبل الوالدة أو انفصال
حديثي الوالدة عن األم. وتتضح اآلثار الوقائية لإلثراء بصفة خاصة يف الحيوانات التي
ُتظهر قلقا شديدا، أو عندما تكون املهمة صعبة للغاية بالنسبة إىل املشارك.
ّ ومن املمكن أن تكون البيئات املعززة مفيدة أيضا يف النامذج الحيوانية للتعايف
من إصابات الدماغ. وعىل سبيل املثال، فإن االنتقال إىل بيئة ثرية يحسن النتيجة بعد
ّ السكتة الدماغية املحرضة تجريبيا، فضال عىل ّ تحسن كبري يف األداء الحريك يف الجرذان
املصابة بارتفاع عفوي يف ضغط الدم، والتي كانت تعيش يف السابق يف أقفاص املخترب
)32(. وعالوة
القياسية، مقارنة بجرذان املجموعة الضابطة التي ظلت يف بيئة أقل تحفيزا
عىل ذلك، فإن البيئة الرثية تقلل من املوت الخلوي املربمج )االستامتة apoptosis )يف
حصني الجرذان بنسبة 45 يف املائة. وإذا مل يكن ذلك كافيا، فمن املمكن لهذه الظروف

.
البيئية أيضا الوقاية من االختالجات seizures ّ املحرضة تجريبيا )33(
وكذلك تستمر اآلثار املفيدة الواسعة النطاق لإلثراء البيئي يف الجرذان املسنة
وعرب مجموعة متنوعة من األنواع الحية: الفرئان، وحيوانات الجربوع، والسناجب،
والقطط، والنسانيس، والطيور، واألسامك، وحتى ذباب الفاكهة والعناكب - أي كل
(34). اليزال هناك بعض الجدل بشأن ما إذا كان

حيوان »من الذباب إىل الفالسفة«

84
ّ تغير العقل
اإلثراء ميثل يف الواقع تجربة فائقة الخصوصية أو أنه ال ميثل سوى تحسن نسبي
مقارنة باإليواء املختربي التقليدي للحيوانات. وعىل أي حال، فإن النقطة األساسية
هنا هي أن املهم هو الفرق بني نوعي الخربة، أي التحفيز األكرب نسبيا.
لرنجع اآلن إىل السؤال املطروح يف بداية الفصل السابق: كيف ميكن لتجربة
خارجية أن ترتك حرفيا عالمة داخلية عىل الدماغ؟ ومثلام تنمو العضالت مع
مامرسة التامرين الرياضية، كذلك فإن العصبونات تستجيب بدورها للتغريات
املادية، بإمناء مزيد من الفروع. عندما متتلك عددا أكرب من الفروع، ستزداد مساحة
سطح الخلية الدماغية، مام يجعلها هدفا سهال ويؤدي إىل احتامل حدوث مزيد
من االتصاالت مع الخاليا الدماغية األخرى. يف العام ،1949 أىت دونالد هيب باقرتاح
صاعق مفاده أن تحفيز السلسلة نفسها من العصبونات مرارا وتكرارا بحيث تصبح
نشطة يف الوقت نفسه سيجعلها أقوى وأكرث فعالية: وعىل حد تعبريه، »الخاليا التي
)35(. ولكن كيف يتم ذلك بالضبط؟ لننتقل برسعة

تطلق إشاراتها معا ترتبط معا«
إىل األمام بضعة عقود أخرى، إىل الوقت الذي توافرت فيه تقنيات متطورة ملراقبة
نشاط خاليا الدماغ املنفردة )والتي تتم عن طريق إدراج أقطاب كهربية مكروية
ِّده(. وباستخدام هذه التكنولوجيا، احتل عامل

بداخلها وتسجيل الجهد الذي تول
الفسيولوجيا السويدي تريي لومو Lomo وعامل األعصاب الربيطاين تيم بليس Bliss
مكانهام يف تاريخ أبحاث الدماغ الخاصة لوصفهام الفذ ّ املفصل للعملية الفعلية
لفكرة هيب. ميكن لعلامء األعصاب اآلن وصف الخطوات الفيزيائية - الكيميائية
الخاصة التي يصبح من خاللها إرسال اإلشارات بني خليتني دماغيتني أكرث فعالية

.
)36(
نتيجة للتكرار – أي الخربة
ّ ويف حني سيصعب فرض بيئة معز ّ زة موحدة عىل البرش، وأكرث صعوبة أن تربر
تكوين مجموعة »ضابطة« تجريبية من األشخاص املحرومني من التحفيز، فقد جرى
فحص تأثري األنواع املختلفة من البيئة يف البالغني املسنني األصحاء عن طريق دراسة
(37)، أي »الدرجة التي ميكن للدماغ

العالقة بني منط الحياة و»االحتياطي اإلدرايك«
عندها بناء واستخدام الشبكات أو النامذج املعرفية التي تتسم بكونها أكرث كفاءة أو
(38). تشري النتائج، وهو أمر ليس باملستغرب،

مرونة، وبالتايل أقل عرضة لالضطراب«
إىل أن املشاركة األكرب يف األنشطة الفكرية واالجتامعية ترتبط بتدهور معريف أقل.

85
كيف يتغري الدماغ
ويبدو أن منط الحياة النشطة عقليا قد يقي من التدهور املعريف عن طريق زيادة
كثافة املشابك العصبية )وبالتايل تحسني فعالية التواصل بني العصبونات السليمة(
)39(. ومرة أخرى، كام هي الحال يف

وكفاءة شبكات الدماغ الطبيعية والبديلة
الحيوانات، فإذا مل يجر الحفاظ عىل اإلثراء أو التحفيز، فقد يتدهور األداء بعد
إعادة التأهيل الناجح سابقا، مام يؤدي إىل تغريات سلبية. قد يحدث هذا نتيجة
.)40(
لالنسحاب من املواقف االجتامعية أو انخفاض مستويات النشاط و/ أو التواصل
وحتى عند أخذ كل من حاصل الذكاء )IQ)، والعمر، والصحة العامة بعني االعتبار،
فإن األفراد املسنني الذين يعيشون يف مجتمع ُيظهرون أداء أفضل يف االختبارات

.
)41(
اإلدراكية من نزالء املؤسسات العالجية وغريها
واألروع من ذلك كله هو أنه حتى امليش الرسيع قد يحفز إنتاج عصبونات
ّق النسيج العصبي neurogenesis )أوال، تزيد الرياضة من تدفق الدم
جديدة )تخل
إىل الدماغ، ومعه األكسجني البالغ األهمية الذي يحمله الدم. وبعد ذلك ّمتكن زيادة
األكسجني الخاليا الجذعية cells stem( وهي الخاليا السلفية الشاملة التي تستمد
منها الخاليا املختلفة( من ّ التحول إىل عصبونات بأقىص طاقتها، وكذلك تحفيز إطالق
املواد الكيميائية التي تساعد الخاليا عىل النمو. ولكن هذا ليس كل يشء: ففي حني
يزيد النشاط البدين من تصنيع الخاليا الجذعية العصبية، فإن التحفيز اإلضايف من
)42(. وعىل رغم أنه مل ُيصبح

ّ بيئة معززة يزيد من ترابطية واستقرار تلك االتصاالت

)43(، فمن املعتقد

ممكنا سوى يف اآلونة األخرية دراسة إنتاج الخاليا يف الدماغ البرشي
اآلن أن التغيرّات التي تحدث يف عمليات وبنية الدماغ كنتيجة لألنشطة االجتامعية،
ّ والعقلية، والجسدية املعززة تساعد يف درء التدهور املعريف الذي يحدث مع تقدمنا
)44(، وبالتايل منع الفقدان الكامن للخاليا الذي مييز دورة املوت يف مرض
يف العمر

.
)45(
Alzheimer’s disease ألزهامير
ومن املمكن أيضا أن يؤدي التفكري املحض إىل تغيري الدماغ ماديا، عىل رغم
أن هذا قد يبدو غريبا. أجري واحد من أكرث األمثلة استشهادا بشأن الكيفية
ّ التي ميكن بها للتفكري أن يوجه تغيرّا ماديا يف الدماغ من قبل ألفارو باسكوال-
ليوين Leone-Pascual وفريقه البحثي يف العام 1995 عىل ثالث مجموعات من
.)46(
متطوعني من البرش البالغني، مل يكن أي منهم يستطيع العزف عىل البيانو

86
ّ تغير العقل
عىل مدى خمسة أيام، جرى تعريض املجموعة الضابطة لبيئة تجريبية ولكن
ليس للعامل البالغ األهمية املتمثل يف تعلم التدريبات. مارست املجموعة الثانية
متارين البيانو بخمسة أصابع، وأظهرت عىل مدى األيام الخمسة تغيرّات مذهلة
ُ يف صور املسح الدماغي. لكن املجموعة الثالثة كانت أكرثها إثارة للدهشة. طلب
من املشاركني يف هذه املجموعة مجرد ّ تخيل أنهم يعزفون عىل البيانو، ومع ذلك
أظهرت صور املسح الدماغي تغيرّات مامثلة تقريبا لتلك التي ظهرت يف املجموعة
التي تقوم باملامرسة الفعلية!
وقد اتبعت العديد من األمثلة اإلضافية واملذهلة األثر امللموس للتفكري يف
الدماغ. أثبت فريد »راستي« غيج Gage، وهو أستاذ يف مخترب علم الوراثة مبعهد
ّد املامرسة إنتاج خاليا دماغية جديدة، يجب أن تكون

سولك، أنه من أجل أن تول
تلك املامرسة طوعية: يجب أن يقرر الحيوان الدخول إىل عجلة التمرين والركض
)47(. وباملثل يف البرش، يبدو أن اللدونة ال تحدث إال عندما تكون الحركات
بداخلها
إرادية و/ أو عندما ُيبدي املشارك انتباها واعيا. ولكن إذا كان تركيز االنتباه يف هذه
اللحظة الحرجة رضوريا إلجراء تغيرّ ّ ات تكيفية عىل الدماغ، فاألكرث أهمية هنا هي
الحالة الذهنية للفرد. ولعل املثال األكرث شهرة عىل رغم كونه يبدو غري محتمل هو
تأثري الدواء ُ الغفل effect placebo، حيث يتمثل االعتقاد البسيط يف أن مثة مادة
خاملة متتلك خصائص عالجية تكفي يف حد ذاتها لعالج مرض ما.
نحن نعلم أن هذا التأثري يعمل عن طريق مواد كيميائية شبيهة باملورفني، والتي
توجد بشكل طبيعي يف الدماغ، والتي تعرف باسم اإلنكيفالينات enkephalins،
كام أثبتت األبحاث أن عقار النالوكسون، والذي ّ يثبط عمل اإلنكيفالينات، يثبط
)48(. وتبني أيضا أن تلك اآلثار ال تحدث ملجرد وجود

ُ يف املقابل تأثري الدواء الغفل
جزيء من اإلنكيفالني؛ وبدال من ذلك، فمن الرضوري االعتقاد بأن الدواء ا ُلغفل
هو يف الواقع دواء فعال. ومرة أخرى، فاألمر البالغ األهمية هنا هو التفكري الواعي،
وليس فقط املشهد املناسب من أسفل إىل أعىل لخاليا الدماغ واملواد الكيميائية
العاملة فيه.
وميكن االطالع عىل مزيد من التوضيح للدور الرئيس الذي يؤديه التفكري الواعي
يف حاالت االكتئاب. لقد اتضح أن هناك فرقا كبريا لدى مرىض االكتئاب بني التدخل

87
كيف يتغري الدماغ
من أسفل إىل أعىل يف حاالتهم، باستخدام مضادات االكتئاب مثل بروزاك، والتدخل
بواسطة تقنيات الكالم املختلفة مثل العالج السلويك املعريف. يختلف العالج النفيس
عن األدوية املضادة لالكتئاب يف أن املعالج يستهدف معتقدات املريض، ّ ويشجع
املريض عىل رؤية العامل بطريقة جديدة وأكرث إيجابية. إن سبب االكتئاب - كفقدان
أحد األحباء، عىل سبيل املثال - ال يتضاءل، بل يوضع يف سياق ّميكن املريض من
اتخاذ منظور أكرث إيجابية. وبالتايل، فإن العالج السلويك املعريف لالكتئاب يعمل عىل
نحو مامثل للدواء ُ الغفل. ويف كلتا الحالني، فإن الدماغ يعمل من أعىل إىل أسفل:
إن املعتقد belief، الذي يحدث عىل املستوى الكيل للشبكات العصبية، والذي
يؤدي حينئذ إىل إحداث تغريات كيميائية يف الدماغ، عىل رغم فهم الكيفية املحددة
لحدوثه فاليزال لغزا محريا يف علم األعصاب.
ويف الوقت نفسه، فإن العالج باألدوية يعمل بشكل مختلف، عن طريق
التعديل من أسفل إىل أعىل مبارشة. فهو ّ يعدل بصورة مبارشة توافر الناقالت
العصبية، وتجاوز أي دوائر عصبونية شخصية. بيد أن هذه الدوائر الشخصية، التي
ميكننا مساواتها مع العقل الشخيص، قد تكون يف غاية األهمية. وهناك فرق كبري
بني العالج السلويك املعريف والتدخل الدوايئ املبارش، وهو أن احتامل االنتكاس يف
حاالت االكتئاب يكون أكرب يف العالج الدوايئ. من املفرتض يف التغيرّات املتعلقة
باللدونة يف الشبكات العصبونية الشخصية، التي تشكلت بفعل العالج السلويك
املعريف الروتيني، أن تكون أكرث دميومة وقوة من التغيرّ العام، لكنه عابر يف املقام
األول يف الصورة الكيميائية للدماغ، حيث تتالعب األدوية بصورة مبارشة مبشاعر
الفرد وحالته الواعية عىل مدى فرتة زمنية أقرص بكثري.
ومن املثري لالهتامم أنه يف األفراد املصابني باالكتئاب، نجد أن املنطقة الدماغية
التي يجري فيها إنشاء عصبونات جديدة من الخاليا الجذعية )التلفيف املسنن
)49(. إذا كانت هذه الخاليا الجديدة ّ تسهل يف العادة

تنكمش( dentate gyrus
تشكيل اتصاالت جديدة، كام أشارت إليه شارون بيغيل، فإن هذا التغيرّ الجسدي
يف الدماغ قد يفرس سبب كون مرىض االكتئاب ال يتقبلون األشياء الجديدة
بسهولة، وإرصارهم عىل رؤية العامل بطريقة ال تتغري، والتي تتسم بكونها مملة

.
)50(
وأحادية اللون

88
ّ تغير العقل
وباختصار، فإن أدمغة طائفة كاملة من الحيوانات تتسم بلدونتها املدهشة،
كام أن الدماغ البرشي ُيعد متفوقا يف ذلك بصورة استثنائية. فهو يتكيف ماديا
باستمرار مع األنواع املتكررة من السلوكيات، وذلك وفقا ملبدأ »استخدم قدراتك
وإال فستخرسها«. يتسم هذا التحديث العصبوين الذي ال نهاية له بأنه واضح بشكل
خاص خالل األطر الزمنية الحرجة خالل النامء، لكنه يستمر طوال الحياة وحتى سن
الشيخوخة. ومع ذلك فاللدونة ال تتوقف عند تكرار مهارات معينة. إن التجربة
املجردة للعيش والتفاعل يف بيئة معينة ترتك بصامتها عىل الدماغ، مام يؤدي بدوره
إىل دوائر دماغية شخصانية وفريدة من نوعها )الحالة الذهنية(، والتي ميكن أن
تؤدي يف النهاية إىل مزيد من التغريات املادية يف الدماغ والجسم. لكن هذا يدعنا
مع بعض األلغاز املضجرة. كيف ميكن لفكرة بسيطة أن ّ تعدل حالة مادية؟ وعىل
العكس من ذلك، كيف ميكن لدواء يؤثر يف املواد الكيميائية التي ّ تعدل الحاالت
املادية أن ّ يعدل األفكار البسيطة؟ باختصار، ما هي قصة علامء األعصاب حول
األساس الفيزيايئ املحتمل للعقل والوعي؟

89
كيف يصبح الدماغ عقال

عندما سألتني عن كيفية عمل الدماغ،
طرحت الفتاة التي كانت بني الحضور واحدا
من أصعب األسئلة عىل اإلطالق. حتى قبل أن
نبدأ يف فهم معنى ما ُتظهره لنا بالفعل جميع
التقنيات الجديدة والقوية يف علم األعصاب،
سنقع عىل الفور يف مشكلة مع السؤال نفسه.
فبعد كل يشء، ما الذي تعنيه يف الواقع عبارة
»كيف يعمل الدماغ؟«. ُتناط بالجهاز العصبي
املركزي كثري من الوظائف املختلفة، والتي تؤدى
عىل العديد من املستويات التشغيلية املختلفة،
إىل درجة أن جميع هذه السفسطة العصبونية
ال ميكن بالفعل إدراجها تحت كلمة منفردة
جامعة مثل »يعمل«. عىل سبيل املثال، عىل
أحد املستويات، يعرف الجميع كيف »يعمل«
عقار بروزاك: من بني األفعال الرئيسة للعقار،
نجد تعزيز توافر أحد املراسيل الكيميائية، وهو
كيف يصبح الدماغ عقال

»من منظور علم األعصاب، ميكن
النظر بأفضل صورة إىل الهوية
كنشاط وليست كحالة: فهي ليست
جسام صلبا أو ممتلكات مختزنة
داخل رأسك، بل هي نوع معني
من الحالة الدماغية الشخصانية،
أي شعور ميكن أن يتغري من لحظة
إىل التي تليها«

7

90
ّ تغير العقل
الناقل العصبي سريوتونني. لكن الكيفية التي »تعمل« بها زيادة توافر السريوتونني
عىل تخفيف البؤس الشخيص لدى مرىض االكتئاب التزال لغزا كامال.
فالسريوتونني هو، بعد كل يشء، مجرد جزيء؛ أي أنه ال يحتوي عىل سعادة
محتبسة بداخله. وبدال من ذلك، فإن املسألة البالغة األهمية هنا هي السياق، أي
دوائر الخاليا الدماغية التي يلعب بداخلها دورا مساندا - دورا قويا بالفعل، لكن
ذلك يحدث فقط عندما يعمل ضمن السيناريو املالئم. ومثل ممثلة تقرأ سطورا
متفرقة من الدور مبفردها يف غرفة خلع املالبس الفارغة، فإن الناقالت العصبية
وغريها من الجزيئات الفاعلة بيولوجيا واملكتنفة يف اإلشارات العصبية ال تحقق
شيئا من تلقاء نفسها. فهي تحتاج إىل غريها من املمثلني، وإىل املشهد املحيط، وإىل
تسلسل واضح لألحداث من أجل أن يكون ألدوارها أي تأثري أو أهمية. ويف حالة
السريوتونني واالكتئاب، نحن نعلم أن هناك فرتة تلكؤ متتد إىل عرشة أيام عىل األقل
بني بداية تناول الربوزاك وبداية الشعور باآلثار العالجية. فإذا كانت البهجة نتاجا
مبارشا لجزيء السريوتونني نفسه، فمن املؤكد أنك كنت ستشعر بتأثري العقار فور
تناوله. بيد أن الحاجة إىل االنتظار تعني أن تخفيف حدة االكتئاب ال يتعلق مبارشة
بالناقل العصبي نفسه، أو مبحيطه املكاين املبارش، أو حتى بفعله املبارش عىل الخاليا
املجاورة. وبدال من ذلك، هناك أمر أكرث تعقيدا بكثري يتم داخل الشبكة العصبية
األوسع، وعىل مدى زمني أطول.
لقد رأينا أن تشابك الناقل العصبي مع جزيئه املستهدف يشبه قليال فعل
املصافحة. اآلن تخيل تواصل هذه املصافحة، وأن شخصا ما يستمر يف الضغط
عىل يدك. يف نهاية املطاف، ستصبح يدك أقل حساسية، بل حتى تشعر بالخدر،
وستدعو الحاجة إىل مزيد من الضغط لتحقيق التأثري نفسه. وهذا هو الحال
مع األهداف الجزيئية. عندما يتناول شخص ما بروزاك، ستتعرض املستقبالت يف
دماغه للقصف بكميات كبرية بشكل غري عادي من السريوتونني الذي ُي َفرز بال
هوادة يوما بعد يوم. وببطء ستصبح املستقبالت أقل حساسية )املصطلح التقني
ُ هو يف الواقع »مزالة ا ّ لتحسس« desensitized). يشري هذا إىل أن إزالة ا ّ لتحسس
تؤدي دورا يف تخفيف حدة االكتئاب. لكن الكيفية التي ُترتجم بها يف الواقع
هذه اآللية، أو أي آلية فيزيائية - كيميائية أخرى يف الدماغ، إىل إحساس شخيص

91
كيف يصبح الدماغ عقال
بالسعادة أو الحزن التزال متثل واحدا من أكرب األلغاز يف علم األعصاب، إن مل يكن
أكربها عىل اإلطالق.
لنأخذ اآلن مثاال آخر، هرني مارش Marsh هو جراح أعصاب متميز يف لندن.
ُويجري العديد من عملياته واملريض مستيقظ، بحيث ميكن لهرني أن يرى اآلثار
الوظيفية الدقيقة لتحفيز الدماغ يف مواقع مخية مختلفة قبل أن يحدث أي تدخل
جراحي حقيقي. وعىل الرغم من أن هذا قد يبدو دمويا، فال توجد مستشعرات
لألمل يف الدماغ، لذلك فقد كان من املعتاد متاما منذ منتصف القرن العرشين إجراء
)1(. مع ذلك، ميتلك هرني اآلن دائرة

العمليات الجراحية عىل األدمغة الواعية متاما
تلفزيونية مغلقة يف غرفة العمليات، ويتيح للمريض الفرصة ملشاهدة العملية
بأكملها. فكر يف األمر هكذا: يشاهد الدماغ نفسه. ما الذي ميكنه أن يحدث يا ترى؟
إن ما يجري، سواء يف غرفة عمليات هرني أو لدى أي شخص يتناول الربوزاك،
هو متثيل لـ »املشكلة الصعبة«. وهذه العبارة، التي اشتهرت بفضل الفيلسوف
األسرتايل ديفيد تشاملرز Chalmers، تشري إىل حريتنا الحالية بشأن كيفية تحويل
)2(. ولكن من أجل فهم

املاء الذي متثله وظائف الدماغ إىل رشاب الخربة الشخصانية
كيفية قيام الدماغ بتوليد الوعي، نحن بحاجة إىل امتالك فكرة عىل األقل، مهام
ُ كانت افرتاضية، عن نوع اإلجابة التي ميكن أن تعمل كتفسري مر ٍض: هل سيكون
معادلة رياضية، أم صورة للدماغ، أم شيئا أكرث من ذلك يف عامل الخيال العلمي؟ ليس
هناك واحد من هذه االحتامالت يبدو قريبا من أن يكون كافيا أو مناسبا. ومع ذلك،
فحتى نعرف نوع اإلجابة التي نحتاج إليها لحل املشكلة الصعبة، فمن املؤكد أن
هناك احتامال ضئيال ألن نقوم بذلك.
عىل أي حال، فمن دون رادع، بحث البعض عن اإلجابة يف الذكاء االصطناعي
املرتكز عىل السيليكون. مع القوة املتنامية للمعالجة الحاسوبية، فإن القضية
هنا ال تتعلق بالجزء الخاص بالذكاء بقدر ما تتعلق بالجزء االصطناعي: كيف
ميكن تنظيم حاسوب باملقارنة مع الدماغ البيولوجي الحقيقي؟ اليزال كثريون
يجاهرون بأن الدماغ يعمل »مثل حاسوب«. من املمكن تطوير هذه الفرضية
األولية يف اتجاهني محتملني: إما أن نبدأ بالنظم البيولوجية ونتحرك نحو النظم
االصطناعية، وإما أن نبدأ بتلك االصطناعية ونتحرك نحو البيولوجية. إذا بدأنا

92
ّ تغير العقل
بظاهرة بيولوجية، سواء كانت التعلم، أو الذاكرة، أو حتى الوعي نفسه، فستتمثل
الفكرة املعتادة يف أنه ينبغي علينا أن نتمكن من منذجتها يف جهاز مرتكز عىل
السيليكون. لكن هناك مشكلة فورية هنا، نظرا إىل أن فكرة صنع منوذج تتطلب
أن نركز عىل السامت البارزة البالغة األهمية والتخيل عن تلك الدخيلة. إن منوذجا
للطريان، كام يتمثل يف طائرة، يتطلب التغلب عىل الجاذبية؛ أما ما ال نحتاجه فهو
ريش ومنقار. لذلك، فمن أجل منذجة الوعي، سيتعني علينا بالفعل أن نتعرف
عىل ماهية العمليات املادية البارزة للدماغ والجسم، وعىل األجزاء الدخيلة منها،
والتي ميكن بالتايل تجاهلها. ومع هذا، إذا عرفنا ذلك، فسنكون قد وصلنا إىل حل
املشكلة بالفعل؛ ولن تكون هناك حاجة إىل أن نكرتث لهذا النموذج.
ولكن السري يف االتجاه املعاكس - بحيث نبدأ من منظومة اصطناعية من أجل
توضيح بيولوجية العمليات املعرفية، مثل التعلم، والذاكرة، أو الوعي - ميكن أيضا
أن يكون غادرا. هناك تشكيلة مميزة ومتنوعة من العلامء مثل راي كورزويل
Kurzweil وجوليو تونوين Tononi وكريستوف كوخ Koch، والذين يعلقون أهمية
)3( - وهو ما يعني أن املهم يف نهاية األمر هو الحجم املحض

كربى عىل »التعقيد«
للشبكات العصبية )أو كام قال الفيلسوف جون سريل Searle ذات مرة ساخرا،
حتى يف حاسوب مصنوع من علب الجعة القدمية والذي يستمد طاقته من طواحني
الهواء( - عىل أي حال، فإن الفكرة هي أننا إذا بنينا آالت متزايدة التعقيد دوما،
فسيظهر الوعي كنتيجة عفوية وحتمية، وكذلك فإن أكرث شخصيات الخيال العلمي
ابتذاال، أي الروبوت الواعي، سيصبح حقيقة واقعة.
ُ لكن طريقة التفكري هذه تغفل علم األعصاب املستبطن الذي هو عادة قيد
العمل. ّفكر يف نقل تلك التشكيلة الهائلة من املركبات املتقلبة والدقيقة يف الجهاز
العصبي، والتي تعمل يف توليفات مختلفة، ويف أماكن مختلفة، وعرب نوافذ زمنية
مختلفة، والتي لها آثار متغرية وشديدة االعتامد عىل السياق. ُتظهر الكيمياء العصبية
املتنوعة للجهاز العصبي املركزي أن النوعية ال ميكن اختزالها إىل كمية، وأن الدينامية
املعقدة لتحوير املواد الكيميائية وأدمغتنا هي أكرث بكثري من مجرد عمليات حسابية.
وكام رأينا آنفا، فالعصبونات هي كيانات ديناميكية للغاية ومتتلك لدونة غري
عادية، وليست مجرد ّ مكون ثابت ميكن توصيله بالتيار وتشغيله بانتظام مستمر

93
كيف يصبح الدماغ عقال
وعنيد، بغض النظر عن البيئة املحيطة التي يقع ضمنها عىل املستويات الدقيقة
واملتوسطة والكربى يف نهاية املطاف. إن التفاعل الدينامييك املكثف واملتغري
باستمرار بني ائتالفات العصبونات ال يشبه يف أي يشء تلك الدوائر الصارمة لألجهزة
الحاسوبية. ال ميكن ألي تراكم منهجي بسيط من مكونات السيليكون أن يكون
له التأثري نفسه مطلقا، إال إذا كانت تلك الوحدة نسخة متطابقة من العصبون،
ومفعمة بكل املواد الكيميائية وديناميات الكيمياء الحيوية التي تسمح بلدونتها
)4(. عالوة عىل ذلك، هناك جسم كامل، فيام وراء

وحساسيتها املميزة التي ال تلني
الدماغ، والذي يتلقى ويرسل استجابات متواصلة. قبل فرتة، أشار عامل األعصاب
أنطونيو داماسيو Damasio إىل أهمية هذه اإلشارات الكيميائية التي تنتقل
ذهابا وإيابا بني الدماغ وبقية الجسم، وهي املواد الكيميائية التي أشار إليها باسم
»الواسامت الجسدية« markers somatic(5). ال ينبغي تجاهل التفاعل بني الجهاز
العصبي، وجهاز الغدد الصامء، والجهاز املناعي، وهي أجهزة التحكم الثالثة الرئيسة
يف الجسم. وبعد كل يشء، فإذا مل تكن هذه األجهزة متفاعلة فستكون لدينا فوىض
بيولوجية؛ وحتى لو مل يحدث ذلك، فسيكون من الصعب تفسري تأثري الدواء ُ الغفل،
حيث ميكن، كام رأينا، لفكرة )وهي نوع من األحداث العصبونية يف الدماغ( أن تؤثر
يف الصحة، وهو حدث يقع يف الجهاز املناعي.
لكن تخيل فقط أننا سنتمكن يف يوم ما من بناء نوع من األجهزة الصنعية،
والتي تتسم مبا يكفي من التعقيد ألن تكون مرشحا قويا المتالك الوعي. دعونا
نتصور حتى أنها اجتازت اختبار تورينغ test Turing، وهو اختبار نظري وضعه
)6(. يف هذا االختبار، لن

آالن تورينغ، الذي ميكن القول إنه والد تكنولوجيا املعلومات
يستطيع املراقب املحايد أن ّمييز بني استجابات اإلنسان واستجابات اآللة. سأواصل
سعيي املضني ألرى الكيفية التي ميكن بها ملثل هذا النظام االصطناعي، عىل رغم
أنه قد يكون إنجازا هندسيا فذا، أن يساعد يف حل املشكلة الصعبة. كيف ميكن أن
يساعد هذا الحاسوب الواعي البارع يف فهم كيف أن »الشعور« الشخصاين للوعي
يتولد يف الواقع ضمن نظام موضوعي objective ومادي؟ إن عجزنا عن تحديد ما
إذا كان من يجيب عن أسئلتنا هو حاسوب أم إنسان يخربنا بيشء ما عن الحالة
الداخلية املراوغة للوعي: ماهيته؟ وكيف يحدث؟ ويف أي من األحوال، فاليزال األمر

94
ّ تغير العقل
افرتاضيا برمته: فلم يتم بعد النجاح يف اختبار تورينغ )عىل الرغم من أنه، عىل
ما يبدو، هناك من رسب فيه من البرش يف مكان ما(. ومهام كانت األسباب التي
دفعتهم إىل تبني هذا النهج، فبالنسبة إىل من يركزون اهتاممهم عىل بناء رضب
من اآلالت الواعية، رمبا يتمثل الهدف األكرث إثارة يف تلبية معيار الراحل ستيوارت
ساذرالند Sutherland: إنه سيتقبل فكرة أن يكون الحاسوب واعيا عندما يهرب
مع زوجته.
عىل أي حال، فلم يؤّد املأزق املفاهيمي للغز تحويل املاء إىل رشاب إىل منع
علامء األعصاب، وأنا منهم، من محاولة تحقيق نوع من التقدم. مثة طريقة متعرجة
للتقدم، وهي التوقف مؤقتا عن التفكري يف املشكلة الصعبة، ومن ثم طرح سؤال
أبسط بدال من ذلك: هل ميكننا خفض أبصارنا وأن نكتفي بربط، أو مطابقة بعض
املشاعر الذاتية ببعض األحداث املادية يف الدماغ، مثل الربط بني مشاعر العافية
والزيادات الحادثة يف مستويات السريوتونني بفعل تناول عقار الربوزاك - بطريقة
تكشف عن وجود عالقة ثابتة بني األحداث املوضوعية والتجارب الشخصانية.
تتمثل خطة اللعب هذه يف البحث عام صار ُيعرف باسم »معامالت االرتباط
)7(. ومن املهم أن نالحظ هنا أنه ال ُتبذل أي محاولة إلثبات وجود

العصبية للوعي«
صلة سببية فيام يتعلق بالكيفية التي ميكن بها لحدث مادي أن يؤدي إىل حدث
ذهني، أو العكس. يتسم االرتباط املحض، أو مجرد مطابقة متواضعة، بكونه أكرث
جدوى ألنه يلتف حول اللغز املفاهيمي ملشكلة تحويل املاء إىل رشاب. ولكن من
أجل التوصل إىل ارتباط مقنع بالوعي، مازلنا بحاجة إىل وسيلة لوصف التجربة
الشخصانية، والتي تعمل كقامئة تسوق ملا سنطلب من الدماغ املادي تسليمه. ومع
ذلك، فالتزال هناك عقبة: إن علم األعصاب، مثل كل العلوم، يسعى بال هوادة إىل
أن يكون موضوعيا، وبالتايل يتسم كل ما نقوم به، مبا يف ذلك كل التجارب، بالحيادية
الصارمة يف إجراءاتها، واألهم من ذلك أنها كمية، فكل يشء يتعلق بالقياس.
وتكمن املشكلة يف أن حاالت الوعي تتسم يف جوهرها بكونها شخصانية وكيفية
qualitative، وبالتايل تشكل لعنة بالنسبة إىل العلامء التقليديني، الذين تدربوا
مثلنا عىل أن يكونوا موضوعيني بال تحيز. وبالتايل، من أجل التوصل إىل ارتباط ثابت
ومقنع بالوعي، نحتاج إىل وصف الحاالت الشخصانية بطريقة تسمح لنا باستخالص

95
كيف يصبح الدماغ عقال
ّ أوجه الشبه املبارشة مع العمليات الدماغية. وقد متثل اقرتاحي الشخيص يف القول
بأن الوعي ليس ظاهرة تعمل مببدأ »كل يشء أو ال يشء«، ولكنها يف الواقع كمية
quantitative. وبدال من أن يكون مثل املصباح الذي هو إما يف وضعية التشغيل أو
اإليقاف، فقد اقرتحت أن الوعي هو أشبه مبفتاح التعتيم dimmer: أي أن الوعي
ينمو مع منو األدمغة وتطورها، سواء مبصطلحات تطورية عرب األنواع الحيوانية أو
يف النامء البرشي الفردي من مرحلة الجنني فصاعدا. ويف مرحلة البلوغ، يستمر هذا
التباين، بحيث متر أوقات تكون فيها أكرث وعيا مام تكون عليه يف أوقات أخرى؛
ويف املصطلحات اليومية، نحن نتحدث عن »زيادة« وعينا أو »تعميقه«. من وجهة
نظري، فإن االتجاه الفعيل ال يهم حقا، لكننا يجب أن نتحدث بدال من ذلك عن
درجة الوعي، بحيث ميكننا أن نبحث يف الدماغ عن يشء مادي، عن عملية حقيقية،

.
)8(
والتي تتباين بدورها يف الدرجة من لحظة ما إىل التي تليها
وكام أرى األمر، فإن مرشحي البيولوجيا العصبية األقرب احتامال الكتناف الوعي
هي التجمعات العصبونية، وهي ائتالفات واسعة النطاق تضم عرشات املاليني من
الخاليا الدماغية التي ميكنها أن تعمل بصورة متزامنة، وأن تفك ارتباطها يف أقل من
ثانية. نحن نعلم أيضا أن هذه الظواهر العابرة للغاية، التي تحدث عىل النطاق
الكربوي scale-macro، ميكن أن ُتختزل بشكل كبري بواسطة العقاقري التي ترسق
الوعي، مثل أدوية التخدير. وبالتايل، فإن النظرية تقول إنه كلام زاد اتساع نطاق
التجمع يف أي لحظة بعينها، ازداد عمق الوعي. يف املقابل، فإن املدى الذي يبلغه
التجمع يف أي وقت من األوقات سيعتمد عىل مجموعة متنوعة من العوامل التي
تحدد مدى السهولة التي ميكن بها حشد االئتالف العابر للخاليا الدماغية. ومن بني
العوامل املهمة هو الشدة املحضة للتحفيز الوارد stimulation incoming، وهو
السبب يف أن يقوم املنبه بسحبك من فقدان الوعي إىل الضوء القايس لحالة اليقظة.
ولكن، ماذا عن الوضع الذي ال يرن فيه املنبه ومن ثم تستمر يف الحلم؟ لدينا
هنا حالة يكون فيها الوعي غريبا بصورة ما، عىل الرغم من أنك التزال فيها منيعا
ضد العامل الحيس الخارجي من حولك. لقد اقرتحت أن التجمعات العصبونية التي
تنتج األحالم تتسم بكونها هشة للغاية وغري متوسعة كثريا، ألنها موّجهة من قبل
مصادفات النشاط العصبوين الداخيل املستقل عن املساهمة القوية من قبل الحواس

96
ّ تغير العقل
والعامل الخارجي. وإذا كان التجمع الحادث يف األحالم صغريا، فإن الوعي املقابل ال
يكون شديد العمق، وبالتايل يغيب منطق السبب والنتيجة، ومن ثم الرسد املفكك
ّ وغري املعقول الذي يشكل و ّمييز حالة الحلم.
وإذا كان الوعي ينمو كام تنمو األدمغة، فبوسعنا أن نتوقع أيضا لصيغة
ّ التجمع الصغري هذه أن ّمتيز عقلية من التزال أدمغتهم يف طور النمو: األطفال
الصغار، الذين توّجه سلوكياتهم اللحظة العابرة والعواطف اآلنية وليس العواقب
التفصيلية والتخطيط. ومع ذلك، فهناك طرق ميكن بها حتى للدماغ البرشي
البالغ أن ينكص إىل هذا الوضع األكرث أساسة من التجمع الصغري، عىل الرغم من
كونه مستيقظا متاما. وهناك عوامل كثرية يف الدماغ ميكنها أن تسهم يف املحصلة
النهائية التي تنتج عن تجمع صغري، وليس مجرد االفتقار إىل وجود ّ محفز خارجي
)الحلم( أو عدم وجود اتصاالت دماغية كافية )األطفال الصغار(. ماذا لو كان
ّ هناك فائض من مادة كيميائية دماغية تحد من االنتشار الكامل ّ للتجمع، أو ما
إذا كان هناك عدد كبري للغاية من املدخالت الحسية التي تقصف الدماغ، والتي
ال ميتلك أيها الوق َت الالزم لتحريض التجمع للوصول إىل إمكاناته الكاملة قبل أن
يهزمه املدخل التايل؟
لقد اقرتحت يف وقت سابق أن هذين السيناريوهني قد يحدثان يف الفصام
والرياضات الرسيعة الوترية، عىل الرتتيب، وأن التجمع »الصغري« الناتج، والذي
يحدث نتيجة لعوامل مختلفة، ميكنه مع ذلك امتالك حالة صافية مشرتكة تتسم
.)9(
مبحتوى من العواطف الجياشة وبوعي لحظي ال عالقة له باملايض أو املستقبل
وإذا كان األمر كذلك، وإذا كان الدماغ البرشي قادرا بالفعل عىل امتالك أمناط
مختلفة تتميز بحاالت دماغية مختلفة ترتبط باألنواع املختلفة من الوعي، فستكون
هناك تضمينات مهمة بالنسبة إىل هذا النوع من الوعي الذي قد ينجم عن
التجارب املستمرة عىل اإلنرتنت. وبالتايل، ما نحتاج إىل أن نفعله اآلن هو استكشاف
ما يحدث عادة يف الدماغ البرشي خالل انتقال الفرد من مرحلة الرضاع إىل مرحلة
الطفولة ثم نضجه إىل إنسان كامل مل يسبق له مثيل، له ماض ومستقبل.
وكام وصفه عامل النفس العظيم وليام جيمس عىل نحو رائع يف بدايات القرن
)10(. ِّ ستقيم العامل

العرشين، فأنت تولد يف خضم من »اإلزهار، واألزيز، واالرتباك«

97
كيف يصبح الدماغ عقال
من حولك بطريق حسية بحتة، ألن كل ما لديك هو حواسك التي تقصف عقلك:
كم هذا حلو، كم هذا لطيف، كم هذا مرشق، كم هذا صاخب. إن اليشء الرائع
بخصوص أن تولد إنسانا وليس سمكة ذهبية، عىل سبيل املثال، هو أنه عىل رغم
أننا نولد مبجموعة كاملة إىل حد كبري من العصبونات، فإن النمو واالتصاالت بني
الخاليا الدماغية هو ما يفرس النمو املذهل للدماغ يف مرحلة الرضاع والطفولة
املبكرة. لقد رأينا كيف أن الدماغ البرشي العام ميتلك لدونة حساسة للغاية من
شأنها تخصيصه إىل كيان فريد من نوعه، وكيف ميكن لخلية دماغية تحفزها البيئة
أن تنتج مزيدا من الفروع، والتي تزيد بدورها من مساحة سطحها، وبالتايل تجعل
من األسهل عليها تشكيل االتصاالت. لذلك، ال ينبغي لنا أن نفاجأ كثريا بأن جميع
هذه االتصاالت املتاحة ميكنها أن تزودنا بقدرة عىل التكيف لها تضمينات مهمة
بالنسبة إىل كل فرد. إذا كانت لديك خربات فردية، فستصبح متفردا عندما تبدأ
تجاربك الخاصة يف إعادة ترتيب وتنظيم املشابك العصبية يف دماغك.
عىل سبيل املثال، مبرور األسابيع، ستنمو االتصاالت بني الخاليا الدماغية يف
الرضيع ببطء الستيعاب األمناط البرصية املستمرة من األلوان واألشكال، والتي رمبا
كان كل منها مصحوبا باستمرار بصوت، وملمس، ورائحة معينة. ومع ّ تشكل هذه
االتصاالت، ينتقل الرضيع تدريجيا من منظور حيس متاما للعامل إىل منظور معريف
أكرث. ستتحول اآلن تلك األمناط واألصوات البرصية التي كانت مجردة سابقا إىل أم
الرضيع. وإذا ظهرت األم مرة أخرى ومرة أخرى يف حياة الطفل، بعد ذلك، كام هو
الحال مع أمثلة اللدونة التي ناقشناها يف وقت سابق، فإن الدماغ سيتكيف بالتايل
عىل بنية فريدة لالتصاالت بني الخاليا الدماغية وستعني األم بالنسبة إىل الطفل
شيئا ال تعنيه ألي شخص آخر. ستتقدم العالقة بني دماغ الطفل والعامل الخارجي
ببطء من شارع باتجاه واحد إىل حوار ذي اتجاهني. وبدال من أن يكون دامئا يف
خضم من االرتباك الهادر، يدرك الطفل املحفزات الواردة )شخص، أو كائن، أو
حدث( باعتبار أنها تحمل معنى محددا كليا لهذا الطفل بشكل خاص. يقيم دماغ
الطفل هذه املحفزات من حيث ترابطيتها العصبونية القامئة، ويف الوقت نفسه فإن
التجربة املحددة املتمثلة يف هذه العملية ُتجري مزيدا من التحديثات عىل حالة
تلك الوصالت العصبية.

98
ّ تغير العقل
يف البرش، ابتداء من عمر السادسة تقريبا، تبدأ االتصاالت الزائدة - تلك التي
نادرا ما تستخدم - يف التقلص بشكل انتقايئ. ليس هذا قصورا، بل تطوير أمناط
معينة من االستجابات واملهارات التي ّمتكن الطفل من استكشاف بيئته الخاصة
واالزدهار فيها. ومن حيث كان الطفل يقف سابقا عىل مفرتق طرق، مع كل
االحتامالت مفتوحة وغري محققة، سيبدأ اآلن يف أن يسلك اتجاها واضحا، وسيصبح
مختلفا بصورة متزايدة عن كل من سواه، مع استمرار الدماغ يف التكيف مع كل
تجربة جديدة.
فلنأخذ خاتم الزواج كمثال. رمبا أنه قد يثري اهتامم *** صغري يف البداية
ملجرد خصائصه الحسية الواضحة: بريق الذهب، والثقب املركزي، والسطح
األملس املستدير املتدحرج. ولكن مع ترّسخ االتصاالت املرتبطة بالخاتم،
سيكتسب هذا اليشء ببطء معنى بوصفه نوعا معينا من األشياء التي تلبسها
يف إصبعك، والذي ّ يعرف أيضا يف نهاية املطاف عىل أنه يشء تلبسه يف إصبع
واحد معني فقط، ويف ظروف معينة فقط، ثم يحدث مزيد من التنقيح، مع
تزايد عدد الوصالت العصبونية، إىل معنى واسع متعدد الجوانب يتعلق بالحب
وحفالت الزفاف واالرتباط وما إليها، وهو ما ال متتلكه الخواتم العادية األخرى.
ويف نهاية املطاف، فإذا حصلت عىل خاتم الزواج الخاص بك، فإن ذلك اليشء
املعني سيمتلك معنى محددا، وأهمية ال تحظى بها جميع الخواتم األخرى التي
تشبهه كثريا. ستكون التجارب الواسعة والشخصية للغاية، ومن ثم الوصالت
العصبونية الفريدة لدماغك، قد منحت هذا اليشء أهمية عميقة وخاصة، أو
»قيمة عاطفية«، عىل رغم أنه باملعنى الحيس البحت غري استثنايئ. إن الفرق بني
خاتم الزواج العادي وما قد ميثل اليشء األكرث أهمية يف حياتك يكمن بأكمله يف
رأسك. وبهذه الطريقة، فإن الشارع ذا االتجاه الواحد سابقا ينطوي اآلن عىل
حركة مرور تسري يف كال االتجاهني.
ُ إن كل ما يجربه الطفل من لحظة إىل أخرى يقرأ يف ضوء االرتباطات املوجودة
مسبقا، ولكن يف الوقت نفسه فإن التجربة الجارية الحالية ستعمل عىل تحديث
االرتباطية بحيث تغريها إىل األبد. ومع منو الطفل، سيتميز تطور عقله بهذا الحوار

.
)11(
املتزايد القوة واملتبادل بني الدماغ والعامل الخارجي

99
كيف يصبح الدماغ عقال
وبالتايل مع نضج الطفل، فإن اإلحساس الخام بالعامل الخارجي يفسح املجال أمام
مدخول معريف تكون فيه لألشياء، واألشخاص، واألحداث ٍ معان شخصية. لكن هذا
ليس كل يشء. إن قدرة الشخص عىل رؤية ما يتجاوز )بصورة شبه حرفية( القيمة
الظاهرية متكنه من إجراء تحليل وتقييم أكرث دقة لكل ما يحدث له. لنأخذ الحالة
البسيطة لشخص يأيت إىل غرفة يف يوم »عيد الهلع« )الهالوين( وهو متنكر كشبح. يف
حني سيتمكن البالغون من االحتكام إىل خرباتهم ومعرفتهم املسبقة لتفسري الوضع
باعتباره حميدا، فقد يشعر الطفل الصغري بالرعب حقا. يفتقر األطفال الصغار إىل
الضوابط والتوازنات التي يوفرها وجود إطار مفاهيمي قوي، واملستندة إىل الخربة
السابقة، التي متكنهم من تفسري األحداث الجديدة عىل نحو مالئم. عىل أي حال،
فمن دون أي إطار مرجعي، قد يكون هذا الظهور الغريب مهددا للحياة.
إنني أقرتح أنه كلام ازدادت قدرتنا عىل ربط ظاهرة، أو فعل، أو واقع، بغريها
من الظواهر، أو الحقائق، أو األفعال، ازداد عمق التفاهم. وإليكم مثاال عىل ذلك.
عندما بلغ أخي غراهام ثالث سنوات فقط من عمره، وكنت أنا يف السادسة عرشة،
كنت أجد متعة كبرية يف مضايقته، كام تفعل األخوات املراهقات األكرب سنا. من بني
الطرق التي استخدمتها، كان إجباره عىل أن يحفظ عن ظهر قلب مقاطع كبرية من
مؤلفات شكسبري، وعىل وجه الخصوص مناجاة ماكبث الشهرية، »غدا وغدا وغدا
...« والتي حفظها غراهام بلطف كببغاء صغري، ورسعان ما كان يقوم عىل وجه
الرسعة بقراءة األبيات الشهرية عند الطلب، األمر الذي ّمثل تسلية كبرية لزمالء
دراستي الضاحكني. فإذا سألته عام يعنيه يف الواقع البيت القائل »اخرجي اخرجي
أيتها الشمعة بأمري. إن الحياة كامليش بالظالم« ، فإن أفضل ما ميكن أن يرد به ّ عيل
كان شيئا عن إطفاء الشموع عىل كعكة عيد ميالده. ما مل يكن بوسعه مطلقا أن
يستوعبه يف هذه السن، يف ظل ارتباطيته العصبونية الهزيلة نسبيا، هو أن انطفاء
الشمعة يتعلق يف الواقع بيشء آخر متاما. مل يكن بوسعه وضع هذه العبارة يف سياق
أوسع، ومن ثم يدرك أن بيت الشعر مل يكن يتعلق كثريا بانطفاء اللهب بقدر تعلقه
بانتهاء الحياة - أي أنه كان كناية عن املوت.
إن الفهم، إذن، يعني يف األساس أن ترى شيئا من منظور يشء آخر. من املؤكد
أن هذا هو ما يعنيه الذكاء intelligence بالفعل، ومن ثم العودة إىل أصله الالتيني

100
ّ تغير العقل
الحريف، أي »الفهم«. وهو ميثل نوعا شديد االختالف من القدرة، من التقدم الرسيع
نحو غاية محددة تتطلبها اختبارات حاصل الذكاء، عىل سبيل املثال، والتي هي أكرث
)12(. أشار عامل الرياضيات روجر

قابلية بكثري ألن ترتجم إىل أنظمة من السيليكون
برنوز Penrose منذ فرتة طويلة إىل أنه سيكون من املستحيل وضع خوارزمية
للقدرات البرشية الرئيسة مثل الحدس أو الحس السليم. وإذا عدنا بالزمن إىل الوراء
إىل أبعد من ذلك، فسنجد أن الفيزيايئ العظيم نيلز بور Bohr وّبخ زميال مستخدما
تعليقا مهينا هو »أنت ال تفكر، فأنت منطقي فقط«.
إن هذا التفريق بني املعالجة الفعالة ملدخول ما بحيث يجري التوصل إىل
املخرجات الصحيحة )حفظ مرسحية ماكبث عن ظهر قلب، عىل سبيل املثال(
والفهم الحقيقي يتوافق جيدا مع التمييز الذي اعترُِترُف به منذ فرتة، واملتعلق
بالذكاء »السائل« مقابل ذلك »املتبلور«. ّفكر عامل النفس رميوند كاتل Cattell
يف هذين املفهومني املتميزين ألول مرة يف العام .1963 ّعرف كاتل الذكاء السائل
بأنه »القدرة عىل إدراك العالقات بصورة مستقلة عن املامرسة املحددة السابقة
)13(. وتعترب هذه املهارة مستقلة عن

أو عن التعليامت املتعلقة بتلك العالقات«
التعلم، والخربة، والتعليم. ويف الوقت نفسه، فإن الذكاء املتبلور ينطوي عىل املعرفة
املكتسبة من التعلم املسبق والخربات السابقة. يبلغ الذكاء السائل أقصاه يف سنوات
املراهقة ثم ينخفض، ولكن مع تقدمنا يف العمر وتراكم املعارف واملفاهيم الجديدة،
يصبح الذكاء املتبلور أقوى.
ومن املمكن لهذا التمييز املوّطد يف علم النفس أن يتوافق مبارشة مع استخدام
أو عدم استخدام االرتباطية العصبونية الواسعة النطاق. ويف حالة املعالجة السائلة،
تكون املعالجة الفعالة للمدخالت واملخرجات خالية من السياق، كام كان الحال
بالنسبة إىل أخي؛ فليست هناك حاجة الرتباطية عصبونية شخصية من أجل توفري
إطار مرجعي. لكن العملية املتبلورة التي تعتمد عىل املعلومات السابقة متثل
استعارة ممتازة لبناء الشبكات العصبونية واسعة النطاق. وميكننا حتى أن نفكر
يف بنية الشبكة العصبونية بصورة حرفية أكرث، بحيث تشبه قليال بنية بلورية، مع
ترابط شديد بني الخاليا. وبالتايل فإن تعريف العلوم العصبية للعقل سيتمثل يف
شخصنة الدماغ البرشي من خالل ارتباطيته العصبونية الدينامية، املدفوعة بدورها

101
كيف يصبح الدماغ عقال

من قبل خربات الفرد الفريدة من نوعها.
دعونا اآلن نتقدم خطوة إىل األمام. كثريا ما تساءلت عن الكيفية التي ميكن
بها توليد الحالة الشخصانية الفريدة ألن تكون أنت نفسك عىل مستوى الدماغ
)14(. من منظور علم األعصاب، ميكن النظر بأفضل صورة إىل الهوية كنشاط
املادي
وليس كحالة: فهي ليست جسام صلبا أو ممتلكات مختزنة بداخل رأسك، بل هي
نوع معني من الحالة الدماغية الشخصانية، أي شعور ميكن أن يتغري من لحظة إىل
التي تليها. ومن وجهة نظري، هناك خمسة معايري أساسية يتعني عىل الدماغ املادي
تلبيتها حتى تتمكن من أن »تشعر« بأ ّ نك كيان متميز.
أوال، عليك أن تكون واعيا متاما، أي لست نامئا أو ّ مخدرا. وكام رأينا، ففي حني
أن علامء األعصاب اليزالون يفتقرون إىل أي وسيلة موضوعية لتفسري شخصانية
الخربات املبارشة بالعامل، والفريدة من نوعها لكل فرد، علينا أال نسمح لهذا املأزق
املفاهيمي بأن مينعنا من امليض قدما لتوفري مزيد من املتطلبات. وعىل سبيل املثال،
ميكن لجرذ أن يكون واعيا لكنه ال ميتلك شعورا واعيا بذاته بالهوية. وبالتايل فالتزال
هناك حاجة إىل مزيد.
ثانيا، يجب أن يكون عقلك قادرا عىل العمل بكامل طاقته. يف الوضع االفرتايض
لدماغ اإلنسان البالغ العادي، رأينا اآلن أن العقل ّ سيمكن الفرد من االستجابة
بطريقة معينة لألشياء واألشخاص واألحداث وفقا للضوابط والتوازنات التي تفرضها
املعتقدات والخربات السابقة. وهذا العقل الفريد من نوعه، كام ينعكس عىل
ارتباطيتك العصبونية الفريدة من نوعها، ّميكنك ليس فقط من فهم ما يحدث
حولك يف أي لحظة بعينها، بل إتاحة البند الثالث عىل الئحة التسوق.
املعيار الثالث هو أنك تتفاعل بطريقة معينة تتحدد ليس فقط من خالل
تجاربك السابقة والسياق السائد، كام يف املعيار الثاين، ولكن أيضا من خالل الكيفية
التي صاغت بها تلك التجارب السابقة يف وقت الحق معتقداتك األوسع. يتمثل
الفرق الرئييس بني الذكريات واملعتقدات يف أنه ميكن استحضار األوىل بشكل
مستقل - تكتسب الذاكرة وصوال إىل وعيك من دون مزيد من التربير- يف حني
أنه ال ميكن إدراك املعتقدات إال من حيث مدى انفتاحها أو مقاومتها للتحقق من
صحتها validation وفقا لألدلة اإلضافية املحتملة )كنت قد اقرتحت يف وقت سابق

102
ّ تغير العقل
أنه ميكن وصف املعتقدات بطول طيف ما، والذي يرتاوح بني العقالين والالعقالين،
وذلك بصورة متناسبة مع هذه املصادقة النهائية املستقلة، أو مقاومة دليل يثبت

.
)15(
صحة العكس(
وبالتايل، فإن اعتقادا غري منطقي )مثل القول إن جميع الرجال أفضل من
النساء( وصوال إىل اعتقاد أكرث عقالنية )سوف ترشق الشمس غدا( ميكن تحديده
وفقا ملوقعه املحتمل بطول نطاق واحد حاسم يتعلق مبقدار مقاومته و/أو اعتامده
عىل األدلة اإلضافية. يف الدماغ، ميكن أن يتحقق هذا الرتتيب من خالل مدى
extent الوصالت العصبونية، وبالقدر نفسه من األهمية، بقدرتها عىل االستمرار يف
ظل وجود مدخالت متناقضة )مثل الرباعة الواضحة لدى النساء( التي من شأنها،
أو ميكنها، أو ينبغي إما فرضها وإما إلغاؤها، كام يف حالة املعتقدات املتحيزة ضد
املرأة. ومن املمكن أيضا أن يتحقق هذا التحقق املحتمل من الصحة، أو التفنيد،
من منظور علم األعصاب، يف صورة ارتباطات أو ارتباطية متتلك القدرة عىل تعويض
أو إلغاء االرتباط األصيل )االعتقاد(، لكنها ال تفعل ذلك يف الواقع إما ألن االتصال
األصيل قوي للغاية وإما ألن التحقق من الصحة اليزال ضعيفا للغاية. بدورها،
ستقوم هذه االستجابات الحقيقية أو االفرتاضية، أي معتقداتك، بتعديل ذكرياتك،
والكيفية التي سرتد بها بشكل مختلف يف املرة املقبلة يف أي موقف تقذف بك فيه
أمواج الحياة.
لكن اليزال هناك ما يتعلق بالهوية أكرث من مجرد امتالك عقل، وذكريات،
وحتى مجموعة من املعتقدات. تخيل أن تكون وحيدا عىل جزيرة صحراوية. ماذا
سيحدث لهويتك؟ عىل جزيرة صحراوية، من ستكون يف الواقع؟ أقرتح أن املسألة
هنا تتمثل يف أن تجد نفسك فجأة من دون أي سياق ميكنك من خالله التعبري عن
نفسك. إن الفرق بني العقل والهوية هو أن العقل سلبي وال يعتمد عىل التفاعل
مع اآلخرين، يف حني أن الهوية نشطة وتعتمد عىل نوع ما من السياق املجتمعي.
يتمثل العقل يف الكيفية التي ترى بها العامل، يف حني أن الهوية هي كيف يراك
العامل. ومن أجل تحقيق هذه األخرية ستحتاج إىل مجتمع، أي مثة سياق يدرك فيه
اآلخرون ما تفعله ويستجيبون له. وبالتايل فإن الرشط الرابع هو فعل - رد فعل
معتمد عىل السياق.

103
كيف يصبح الدماغ عقال
إن الهوية يف األرسة، عىل سبيل املثال، ستعتمد حتام عىل وجود صالت قوية منذ
مرحلة الرضاع، يف البداية مع األلوان، واألصوات، والروائح، والنمط البرصي الذي يتحول
تدريجيا من خليط من الحواس الخام، و املجردة، إىل التصور املعريف لوالدتك، عىل سبيل
املثال. وبالتايل، فخالل تلك السنوات األوىل، سيتم ربط الهوية بقوة بالوعي اللحظي،
ولن يكون هناك خطر كبري ألن تزاح بفعل أي منافسة، أو أي أدوار بديلة. لكن مع منو
الطفل، تبدأ العالقات والسياقات األخرى املستقلة عن العائلة يف ا ّ لتشكل، وبالتايل فإن
الهوية داخل األرسة تنحرس لتصبح واحدا فقط من بني العديد من الخيارات، وبالتايل
ال توجد يف وعيك باستمرار. ولكن عندما ُت َّحفز تلك الهوية األرسية - مثلام يحدث يف
سياق األعياد، أو يف حفل زفاف، أو جنازة - ستظهر عىل السطح مرة أخرى بوصفها
هوية مهيمنة بقوة. وعىل النقيض من ذلك، فالهويات التي تتطور يف وقت الحق يجري
إرساؤها عىل مدى فرتة زمنية أقرص بكثري، وبصورة أكرث تقطعا بكثري، ورمبا أيضا بعيدا
عن الفرتات الحرجة ّ للتطور. وعىل عكس الحال بالنسبة إىل الهوية األرسية، فإن سياق
اللحظة سيمثل عامال أكرث بروزا بكثري يف تلك الهويات الالحقة.
خامسا، سيتم اآلن دمج هذه الحالة املعينة من الفعل ورد الفعل التي تحدث
يف لحظة معينة ضمن سياق معني مفعم بالقيم والذكريات ضمن إطار أوسع بكثري:
كرواية ملاضيك، وحارضك، ومستقبلك املتامسك. وهكذا فإن إدراكك الشخصاين
لكامل قصة حياتك الفريدة من نوعها، والذي تلتقطه يف أي لحظة بعينها ولكنه
يعتمد عىل املناطق الخلفية لالرتباطية العصبونية الشديدة االتساع والتعقيد،
ميكنه أن ّ يشكل الشعور اللحظي بهويتك. إن السيناريو املتمثل يف عمر كامل من
الذكريات واملعتقدات التي يجري ضخها يف لحظة واحدة من الوعي، يذكرنا بأبيات
وليام بليك Blake الشهرية من قصيدة »تنبؤات الرباءة«:
لرتى عاملا يف ذرة رمل
وفردوسا يف زهرة برية
أمسك الرسمدية يف راحة كفك
)16(
واألبدية يف ساعة
لكل ما يحدث لحظته الزمنية الخاصة، ولكن ميكن اآلن ربطه بجميع األحداث
األخرى بحكم كونه سابقا أو الحقا لها. وبالتايل فإن هويتك هي ظاهرة مكانية

104
ّ تغير العقل
وزمانية تجمع بني شبكة العصبونات الراسخة، والطويلة األمد، واملعممة الخاصة
بالعقل وبني الوعي اللحظي، أي التوليد العابر الئتالفات كربوية النطاق من
العصبونات )التجمعات( يف أقل من ثانية. إن الشبكة املعممة الطويلة املدى من
االرتباطية هي عقلك، والتي ميكنها اآلن بدورها أن تلعب دورها يف أي لحظة
بعينها من الزمن. إذا كان الوعي مرتبطا بالفعل بالتوليد العابر الئتالفات كربوية
النطاق من العصبونات يف أقل من ثانية، وإذا كان بوسع الشبكات الدامئة من
الوصالت العصبونية )العقل( حشد ائتالف ّ )تجمع( أوسع، فإن الوعي »األعمق«
الناتج سريتبط بصورة مبارشة بتحقيق فهم أعمق لألحداث، واألشخاص، واألشياء
عندما تواجهها.
ويتمثل الدرس املستفاد الحاسم من هذه املحاولة املتعلقة بالعلوم العصبية
لتفكيك الهوية يف الدور الحيوي للسياق الذي يعمل فيه العقل من لحظة واعية
بعينها إىل األخرى. ماذا يحدث، إذن، يف الحاالت التــي يتعرض فيهــا هذا العقــل
لـ »النسف« أو »الفقدان«؟

105
أن تفقد عقلك

ّ تخيل دماغا فرديا ناضجا مصنوعا بعناية،
والذي يتضمن اتصاالت تستجيب لـ، ويجري
تفعيلها بواسطة، وتعزيزها بفعل، وتتشكل عن
طريق متواليات من الخربات املحددة مل ميتلكها
أي شخص آخر يف أي وقت مىض، ولن ميتلكها
أحد مرة أخرى. هذا هو األساس املادي للعقل
الفردي. ولكن تخيل اآلن أن تلك االتصاالت
العالية ّ التفرد يجري تفكيكها ببطء مع ذبول
فروع الخاليا الدماغية. سينكص الشخص إىل
حالة أشبه بالطفولة، ألنه مل يعد ميتلك اإلطار
الرضوري الخاص بالعقل البالغ، والذي ميكن
عىل أساسه أن ِّ يقيم التجارب الجارية. لن يعود
الناس واألشياء يحظون باألهمية الشخصانية
متاما، والتي تراكمت بعناية طوال العمر. وسرنى
األعراض املحزنة واملأساوية ملرض ألزهامير،
حيث يتعرض املريض يف الواقع لـ»فقدان«
أن تفقد عقلك

»من املمكن أن تفقد عقلك، أو أن
تكون بعيدا عنه، وأن تظل واعيا يف
الوقت نفسه، ومن هنا تأيت أهمية
التمييز بني العقل والوعي«
8

106
ّ تغير العقل
عقله، وهو ما يعرف حرفيا باسم الخرف dementia. ومع ذلك، فمن املمكن أيضا
أن »نفقد« عقولنا - أو باألحرى نسمح لها بالرحيل - بصورة مؤقتة، وإيجابية، وأكرث
تواترا يف املواقف التي يؤدي فيها إغراء إحساس »هنا واآلن« لتحويلنا إىل متلقني
سلبيني بدال من أن نكون مفكرين استباقيني.
أوال، عىل أي حال، ال بد من كلمة تحذير. نحتاج إىل توخي جانب الحذر لئال
نخلط بني »نسف« أو »فقدان« العقل، كام سنتحدث عنه هنا، مع ما يسمى
بالسلوك الجامهريي »الطائش«، مثلام شوهد يف مسريات النازيني يف نورمربغ يف
القرن العرشين، حيث ُ استمدت الهوية الغوغائية الجامعية من أيديولوجيات
)1(، ومثلام ُتستمد الهوية الجامعية من األصولية الدينية يف القرن

سياسية وعرقية

)2(. ويف جميع الحاالت، فإن الغوغاء املحمومة والعنيفة غالبا

الحادي والعرشين
ليست مجرد عمياء عاطفيا، كام هي الحال يف الغضب الناجم عن ازدحام الطرق
أو الجرائم العاطفية الفرنسية )حيث »تتلون رؤيتك باألحمر« وال تكون مسؤوال
عن أفعالك(. بعيدا عن كونهم »بعيدين عن عقولهم«، ميتلك الغوغاء رسدا محددا
للغاية، وإن كان بغيضا متاما: إنهم يعرفون من يستهدفونه من أجل تفعيل حبكة
ّقصتهم املبجلة. فهم ليسوا أغبياء عىل اإلطالق.
إذا كان العقل هو إضفاء طابع شخيص عىل الدماغ عن طريق اتصالية عصبوناته
الفردية، موّجهة بالتجربة الشخصية، فمن املؤكد أن فقدان عقلك سيحدث عندما
ال ميكن الوصول بالكامل إىل تلك االتصاالت الشديدة التخصيص. وعىل سبيل املثال،
تعمل املخدرات والكحول عىل إضعاف التواصل الكيميايئ بني الوصالت العصبونية،
يف حني أن البيئات الرتفيهية املمتلئة باملوسيقى املسببة للهذيان music rave أو
املنبهات الرسيعة االنطالق يف الرياضات الرسيعة الوترية ال تحتاج إىل بنية معرفية
معقدة، ألنها ّ »حسية« يف املقام األول. ويف كثري من األحيان، كلام زادت هيمنة
الحواس الخام، ستزداد املتعة، عىل ما يبدو. إن كلمة »النشوة« ecstasy ذاتها
تعني يف اللغة اليونانية »أن تقف خارج« نفسك. وكثريا ما أرست اهتاممي فكرة
أننا نسعى إىل هذه الحالة العاطفية الطائشة عن طريق سبل متنوعة يوجد بينها
يشء واحد مشرتك: غياب الوعي الذايت، أو نكران الشعور بالذات من أجل أن يصبح
املرء متلقيا سلبيا للحواس الواردة، أو أن يصبح »مهجورا« يف الواقع. وبالتايل، فمن

107
أن تفقد عقلك
املمكن أن تفقد عقلك، أو أن تكون بعيدا عنه، وأن تظل واعيا يف الوقت نفسه -
ومن هنا تأيت أهمية التمييز بني »العقل« و»الوعي«.
ماذا عساه أن يحدث يف الدماغ عندما يظل الشخص واعيا ويف الوقت نفسه
»يفقد« عقله؟ تتمثل األدوات األكرث وضوحا يف التخلص من الدماغ هنا يف املراسيل
الكيميائية، أي الناقالت العصبية واملواد الكيميائية املعدلة األخرى التي يجري
إفرازها عندما تكون العصبونات نشطة. مثة مادة طبيعية بعينها متثل مرشحا
محتمال للمساعدة يف تواسط تجربة موّجهة باألحاسيس: وهي الناقل العصبي
الدوبامني dopamine. والدوبامني هو القناة املشرتكة النهائية لجميع العقاقري
اإلدمانية النفسية التأثري، بغض النظر عن موقعها األسايس وطريقة عملها. وكذلك
فقد جرى ربط منظومة الدوبامني بالعمليات الدماغية املتعلقة مبشاعر الرسور.
وطوال أكرث من نصف قرن، افتنت علامء الدماغ بظاهرة التحفيز الذايت. كشفت
التجارب الكالسيكية لعامل النفس جيمس أولدز Olds أنه إذا جرى زرع أقطاب
كهربائية يف أجزاء معينة من الدماغ من دون غريها، فستضغط الجرذان عىل قضيب
معدين لتحفيز هذه املناطق الرئيسة يف الدماغ متجاهلة كل يشء، حتى تناول
)3(. كانت املناطق الدماغية التي، عندما يجري تحفيزها، يفرتض أنها متنح
الطعام
الجرذان شعورا جيدا هي تلك التي ُتفرز الدوبامني. وبالتايل، فبطريقة مخترصة
ولكنها غري دقيقة إىل حد ما، فقد أشري يف بعض األحيان إىل الدوبامني يف الصحافة
الشعبية باسم »جزيء املتعة«.
عندما تكون مشاعرك جياشة للغاية، أو مستثارا، أو تشعر باملكافأة - أو إذا
كنت تتعاطى العقاقري النفسية التأثري، يف الواقع - فإن هذا الناقل العصبي بالتحديد
سيؤدي دورا رئيسا يف شعورك بكل هذه الخربات الذاتية املختلفة. يف جميع هذه
الحاالت، يؤدي الدوبامني دورا محوريا من خالل إفرازه كنافورة من منطقة بدائية
يف الجزء العلوي من العمود الفقري )جذع الدماغ( إىل الخارج وإىل األعىل يف جميع
أنحاء الدماغ، حيث يغري حينئذ قابلية العصبونات لالستجابة يف العديد من املناطق
املختلفة. لكن هناك منطقة بعينها يستهدفها الدوبامني عىل وجه الخصوص، وهي
ذات أهمية خاصة بالنسبة إلينا هنا، باعتبارها رضورية لإلدراك البرشي: القرشة
أمام الجبهية cortex prefrontal.

108
ّ تغير العقل
تقبع القرشة أمام الجبهية، كام يوحي اسمها، يف الجزء األمامي من الدماغ وراء
الجبهة. ويف حني ال توجد منطقة واحدة مخصصة يف الدماغ هي املسؤولة حرصا
عن جعلنا برشا، ُتظهر القرشة أمام الجبهية اختالفات كمية هائلة بني جنسنا البرشي
والحيوانات األخرى. فهي متثل 33 يف املائة من الدماغ البرشي البالغ، لكنها متثل 17
يف املائة فقط يف دماغ الشمبانزي، وهو أقرب أقربائنا. متتلك القرشة أمام الجبهية
عددا من االتصاالت بجميع املناطق القرشية األخرى أكرث من أي جزء آخر من
القرشة املخية، وبالتايل فهي تؤدي دورا رئيسا يف التامسك التشغييل للدماغ. حتى
يف حالة تلف هذه املنطقة الحيوية أو تدهور وظائفها، فمن املمكن أن يكون هناك
تأثري عميق يف العمليات الشاملة للدماغ البرشي.
واملثال الكالسييك عىل ذلك هو حالة شخص يدعى فينس غيج Gage، الذي
عاش يف منتصف القرن التاسع عرش، وكان يعمل مرشفا عىل مجموعة من عامل
)4(. كانت وظيفته هي إزالة أي عوائق تعرتض

السكك الحديد يف والية فريمونت
رشيط السكة الحديد الذي كان يجري تركيبه يف جميع أنحاء أمريكا يف ذلك الوقت.
ويف أحد األيام، كان الرجل يكبس مادة متفجرة بقضيب معدين كبري يشار إليه
باسم املدك الحديد، وقع حادث خطري حجز للسيد غيج مكانه يف التاريخ الطبي.
انفجرت املادة املتفجرة قبل األوان، ما أدى إىل اخرتاق قضيب معدين هائل لدماغه،
وبالتحديد عرب القرشة مقدم الجبهية يف دماغه.
بعد هذا الحدث الرهيب والذي كان السبب يف القصة التي صارت اآلن أشهر من نار
عىل علم، مل تكن هناك، وهو أمر مثري للدهشة، مؤرشات واضحة أو فورية لوجود مشاكل
يف أي من حواس فينس أو يف حركته. ولكن بعد أن ّ تحولت األسابيع إىل أشهر، اتضح أن
لديه مشاكل إدراكية محيرّة، مثل انتهاج سلوكيات متهورة عىل نحو مفرط - وهي ليست
سمة جيدة يف شخص يعمل مع املتفجرات. وعىل أي حال، وكام يبدو اآلن مستغربا، فلم
ُ يبد فينس معاقا مبا يكفي ملنعه من العودة إىل العمل، لكنه أصبح ال يطاق كعضو يف
الفريق. وقد اتضح أنه مل يكن متهورا فحسب، بل كان أيضا، عىل حد قول طبيبه الدكتور
هارلو Harlow،« غريب األطوار وصبيانيا للغاية... ]و[ عنيدا بصفة خاصة؛ فلم يكن
)5(. كان الحادث الذي انتاب غيج

يخضع لضبط النفس عندما يتعارض األمر مع رغباته«
منوذجا حيا لالرتباط املتوازي بني انخفاض نشاط القرشة أمام الجبهية وبني الطفولة.

109
أن تفقد عقلك
يف البيولوجيا، هناك مقولة معروفة مفادها أن »تنشؤ الفرد« ontogeny
يعكس »تاريخ تطور الساللة« phylogeny – أي أن مناء الدماغ الفردي يعكس
التطور - وبالتايل فإن القرشة أمام الجبهية البرشية ال تصبح ناضجة متاما وعاملة إال
)6(. أما السنوات السابقة

يف سنوات املراهقة املتأخرة وأوائل العرشينيات من العمر
مبارشة لهذا النضج فهي ما نعرفه باسم املراهقة، التي تتمثل يف تكثيف السلوك
االجتامعي، والرغبة يف التجديد، والسعي إىل الحصول عىل االهتامم، فضال عىل
امليول نحو املخاطرة وعدم االستقرار العاطفي، واالندفاع. تكتسب العالقات أهمية
أكرب، ويصبح البحث عن تجارب ممتعة ومثرية أولوية كربى. وهناك أيضا احتامل
حدوث حاالت مزاجية سلبية سائدة والشعور بامللل، والتي قد تدفع املراهق إىل
البحث عن املحفزات التي متنحه مزيدا من اإلثارة. وتشري األبحاث إىل أن املراهقني
يظهرون حساسية أكرب للخصائص ّ املعززة للمحفزات املمتعة. قد يكون ذلك متعلقا
.)7(
بحقيقة أن إنتاج الدوبامني يصل إىل أقىص مداه طوال الحياة خالل فرتة املراهقة
وباإلضافة إىل ذلك، تشهد سنوات املراهقة زيادة يف إنتاج هرمون قوي آخر، هو
األوكسيتوسني oxytocin، الذي يعزز مشاعر الرفاه والسعادة؛ وهو ما قد يكون

.
)8(
ّ عامال آخر يوجه السلوك النمطي للمراهقني
عادة ما تكشف دراسات التصوير الدماغي التي ُتجرى عىل املراهقني نشاطا
)9(. ويتناقص هذا النشاط ّ املعمم مع

واسع النطاق ال عالقة له بأي مهمة محددة
الوصول إىل سن البلوغ، ما يعني أن القرشة أمام الجبهية الناضجة تصبح أكرث قدرة
عىل تنسيق النشاط والتواصل بني أجزاء الدماغ، مام ينتج عنه تجميع أكرث تنظيام
للشبكات، ما يؤدي إىل معالجة أكرث كفاءة. ومع نضج دماغ املراهق متحوال إىل
دماغ بالغ، يحدث تحول إىل منط أكرث تكامال لنشاط الشبكات، والذي يعمل عىل
ربط مناطق الدماغ األبعد؛ وتتمثل النتيجة يف وجود نشاط متزامن بعيد املدى يف
جميع أجزاء الدماغ، يسمح بتحسني التواصل بني جميع املناطق الدماغية املختلفة،
حيث تكون القرشة أمام الجبهية فاعلة بالكامل، وبالتايل قادرة عىل تنسيق النشاط
يف مناطق الدماغ املختلفة.
ّ أما البداية الالحقة للسلوك البالغ األكرث تحفظا، واملثبط، فمن املمكن أن ُتعزى
إىل حقيقة أن املناطق الدماغية األكرث بدائية من الناحية التطورية )وخصوصا

110
ّ تغير العقل
املخطط البطني striatum ventral ُ ، الذي يفرز الدوبامني( تكون جاهزة للعمل
بشكل كامل يف وقت سابق بكثري من املناطق األحدث تطوريا منها، مثل القرشة
مقدم الجبهية املتطورة. وبالتايل، يكون املراهقون أكرث ميال نحو املخاطرة والسعي
إىل املكافأة ألن القرشة أمام الجبهية ال ميكنها حتى اآلن تثبيط املناطق األكرث بدائية

.
)10(
ٍ من الدماغ عىل نحو كاف
ليس املراهقون هم الفئة الوحيدة التي تتميز بقرشة أمام جبهية منخفضة
النشاط، تتوافق مع صورة »العيش من أجل اللحظة« هذه. وعىل سبيل املثال، فإن
الفصام Schizophrenia يحدث نتيجة الضطراب كيميايئ، وعىل وجه الخصوص
بسبب وجود مستوى غري متناسب وظيفيا من الدوبامني. ونتيجة لذلك، يتحول
عامل الفرد الفصامي من املشاعر املعرفية نحو تلك األحاسيس الخام املوّجهة من
)11(. ومثل األطفال، فإن مرىض الفصام يشعرون بسهولة باالرتباك عند سامع
الخارج

ِ الناس بالحجارة«. يأخذ كل من

أمثال من قبيل »من كان بيته من زجاج فال يرم
األطفال ومرىض الفصام العامل مبعناه الحريف، وبالتايل فقد يحاول كل منهم تفسري
املثل بأن يقول: »إذا كنت تعيش يف بيت من زجاج، وقام شخص ما بقذفه بحجر،
فسيتحطم بيتك«. وبالنسبة إليهم، فإن العامل الخارجي هو مكان نابض بالحياة
ميكن بسهولة أن ينفجر داخليا وأن يسحق جدار الحامية الهش للعامل الداخيل

الرسيع التأثر.
وهناك مجموعة أخرى مختلفة متاما ممن ميتلكون قرشة أمام جبهية منخفضة

النشاط بشكل غري عادي، وهم من يكون مؤرش كتلة الجسم )BMI )لديهم
)12( أي الذين تكون أوزانهم ثقيلة بالنسبة إىل طولهم. ومن املثري لالهتامم
مرتفعا
أننا نعلم اآلن، من دراسة حديثة تنطوي عىل مهمة للقامر، أن األشخاص البدناء قد

.
)13(
ينزعون إىل تعريض أنفسهم ملزيد من املخاطر
ماذا عساه أن يكون القاسم املشرتك بني هذه الحاالت الخارجية الشديدة
االختالف، أي القامر، واألكل، والفصام، وكذلك مرحلة الطفولة التي تشرتك معها يف
انخفاض نشاط القرشة املخية أمام الجبهية؟
إن أي شخص يأكل يعرف عواقب اإلفراط يف تناول الطعام، وكذلك فإن
من يقامر يكون واعيا عىل الدوام بالنتائج املحتملة. لكن لذة اللحظة، سواء

111
أن تفقد عقلك
كان ذلك هو اإلحساس بطعم الطعام أو اإلثارة التي ميثلها دوران الرند، ينسخ
عواقب أفعال املرء يف تلك اللحظة. وهذا يعني أن الدماغ يعمل يف وضع التجميع
الصغري، وهو ما يشبه إىل حد كبري الطريقة التي يعمل بها وهو يحلم. إن ضغط
الحواس، أي بيئة »هنا واآلن«، متثل أمرا بالغ األهمية عىل نحو غري عادي، كام
هي الحال بالنسبة إىل الفصامي والطفل. وبالتايل، لدينا هنا ثالث حاالت أو
أنشطة شديدة االختالف، هي اإلفراط يف تناول الطعام، والقامر، والفصام، والتي
تتميز جميعها بالرتكيز عىل التحفيز الخارجي وانخفاض نشاط القرشة املخية
أمام الجبهية: ميكن وصف وضع التجميع الصغري للوعي، الذي رأيناه من فورنا،
بأنه حالة من »هنا واآلن« التي توجهها الحواس، ووجود مستويات عالية من
الدوبامني، من بني أمور أخرى.
وإذا كان األمر كذلك، فإن مثاال آخر عىل هذه الحالة الدماغية ميكن أن يشمل
أيضا الحلم، الذي لوحظ بالفعل كمثال عىل الوعي الضحل والطفويل الذي ّمييز
وضع التجميع الصغري. ويف الواقع أن مراجعة دراسات التصوير الشعاعي التي
أجراها ثني ثانه دانغ - فو Vu - Dang وزمالؤه يف لييج، بلجيكا، تربز الكيفية
)14(. وعندما تتسم هذه

التي يؤدي بها الحلم إىل تثبيط القرشة املخية أمام الجبهية
املنطقة الرئيسة بضعف األداء، يحدث انخفاض مامثل يف عمليات الدماغ ّ املنسقة
الشمولية. فال يشء »يعني« أي يشء، إذ إنه ما هو عليه فحسب، وضع التجميع
الصغري للوعي، حيث ما تراه هو ما تحصل عليه، وستحصل عليه عىل الفور.
عادة، عندما تكون مستيقظا متاما ولديك وصول إىل وصالتك العصبونية
الشخصية - أي عندما تستخدم عقلك - فأنت تفهم العامل بطريقتك الخاصة. وعىل
سبيل املثال، فقد يكون للعلم األمرييك بنجومه وأرشطته معنى عميق بالنسبة إىل
قدامى املحاربني يف الجيش األمرييك، الذين يحملون شبكة شخصية للغاية وواسعة
من االرتباطات التي تنطوي عىل عدد ال يحىص من األحداث والتجارب وتدمج بعض
القيم املجردة. لكن بالنسبة إىل *** صغري نشأ يف بابوا غينيا الجديدة، قد ميثل
مجرد قطعة ذات منط غريب من القامش امللون. ولذلك فإن اتصالية عصبوناتك
متنحك القدرة عىل تقدير الرمزية symbolism، أي النظر إىل يشء ما عىل أنه يعني
شيئا آخر ال ميكن أبدا تخمينه من الخصائص الحسية لليشء وحده.

112
ّ تغير العقل
ُ نحن نقوم أحيانا بصنع ارتباطات غري الئقة أو مفرطة، والتي تفرط يف تفسري
تجربة أو يشء ما، والتي تبينّ معنى خفيا قد ال يبدو بالنسبة إىل معظم اآلخرين
واقعيا وال دقيقا، أو حتى يبدو مجنونا قليال. إن رؤية وجوه يف تشكيالت السحب أو
عزو الحظ إىل يشء ما قد متثل أمثلة يومية عىل هذه االرتباطات الغريبة. وباملثل،
فإن املزاوجة بني حدثني ال عالقة لهام بخالف ذلك قد يبدو بالنسبة إىل البعض
خرافات سخيفة، لكنه قد يكون لآلخرين عالمة بالغة العمق أو نذيرا. إن وصالتك
العصبونية ال تسمح لك بصبغ األشياء واألحداث واألشخاص وأفعالهم بـ»املعنى«
الشخيص الخاص بك فحسب، لكنها متكنك أيضا من فهم العامل كام تعيش فيه.
إن الفعل ذاته املتمثل يف إنشاء هذه االرتباطات، وإدراك معنى أبعد من القيمة
الظاهرية، ميكن اعتباره نوعا من الفهم. يف جميع الحاالت، تجري قراءة الشخص،
أو الوجوه، أو الحدث مقابل ارتباطاتك العصبونية املعينة، وهو إطار مفاهيمي
ّ يتطور باستمرار ويتوسع مع تطورك. وكلام زاد توّسع االرتباطات، زاد حجم اإلطار
املفاهيمي الذي ميكنك أن تضمن فيه وصوال جديدا للحظة، وازداد العمق الذي
ميكن به أن يقال إنك تفهمه.
ميكن متييز هذا العقل عن الوعي، كام يتضح يف مرىض َ الخَرف. وباإلضافة إىل
ذلك، فإن مختلف الحاالت املتنوعة التي ميكنك من خاللها »إطالق العنان لنفسك«
ميكنها توفري أدلة عىل ما ميكن أن يحدث يف الدماغ عندما ال يعمل العقل بكامل
طاقته، بل يكون مجرد ٍ متلق سلبي للحواس. لقد رأينا أن مختلف الحاالت املتطرفة
من اإلفراط يف تناول الطعام، والقامر، والفصام تصب تركيزها عىل تحفيز مامثل
ملا يحدث يف مرحلة الطفولة، وأنه حيثام انخفضت وظيفة القرشة املخية أمام
الجبهية، ترتبط معظم املساعي الرتفيهية أيضا بالناقل العصبي الدوبامني الذي
يتواسط مشاعر الرسور. من املمكن أن تتميز هذه التجارب الحسية حرفيا بتالزم
التجميع الصغري للوعي، وهو معامل تالزم ّمييز الحيوانات غري البرشية والدماغ
البالغ يف حالة الحلم، حيث يلعب الفكر دورا أصغر. لكن كيف ميكن للفكر أن
يختلف عن شعور خام؟
ّر من الفصل األول التعليق القائل بأن »الحركة هي تفكري مقترص عىل
تذك
الدماغ«. لقد رأينا أن أي فكرة، سواء كانت أمال، أو ذكرى، أو حجة منطقية، أو خطة

113
أن تفقد عقلك
عمل، أو شكوى، تنطوي عىل تسلسل محدد لسبب ونتيجة: أي بداية، ومنتصف،
ونهاية. وستصل يف نهاية املطاف إىل مكان مختلف عن حيث بدأت. وبالتايل
فمن حيث الدماغ املادي، لعل أساس األفكار هو االرتباطات بني العصبونات ذات
الصلة أو تجمعات العصبونات. إن التفكري، تلك املوهبة الفائقة للدماغ البرشي
البالغ، يتطلب ما يكفي من الدوائر العصبونية لتنفيذ سلسلة من الخطوات وبناء
االتصاالت، جنبا إىل جنب مع إطار زمني أطول بصورة متوافقة. ويف الوقت نفسه،
ميكن متييز املشاعر برتكيزها عىل استشعار يشء ما، اآلن واآلن فقط. ميتد التفكري
الواعي إىل أبعد من فورية اللحظة، كام ال ميكن التغلب عليه بسهولة من قبل أي
تحفيز جديد من قبيل »هنا واآلن«.
يف حني أن معالجة املعلومات هي ما وصفناه من فورنا، فإن الرد املناسب
عىل أي حافز وارد، مثل الفهم، يف املقابل، يتطلب أن يكون الحافز مشموال يف
إطار مفاهيمي. لقد رأينا أن اإلطار املفاهيمي من النوع املطلوب للفهم ميكن
تفسريه، مبصطلحات الدماغ، باعتباره تنامي االتصاالت بني الخاليا الدماغية التي
ّ تتشكل بعد الوالدة، والتي توجه، وتتشكل، و ّ تتعزز الحقا بالتجربة الفردية. وبالتايل
فسيمتلك كل إنسان منفرد دماغا شخصيا عىل نحو فريد، فضال عن عقل ِّ يقيم
باستمرار العامل الحايل من حيث االرتباطات القامئة ويف الوقت نفسه يجري تحديثه
)15(. متثل »املعرفة« اشتامل حقيقة أو فعل ضمن إطار مفاهيمي بحيث
بواسطته
تكون منطقية، مبعنى أ ُن تفهم. أما »الحكمة« فتتطلب اتصالية أوسع نطاقا، حيث
ُتستمد االرتباطات املتشكلة من مجموعة متوسعة دوما من الخربة و/ أو الذكريات
الفر ّ دية التي متكن من تحديد القيم األكرث عمومية.
ّ ويف أثناء استكشافنا للكيفية التي توجه بها تقنيات القرن الحادي والعرشين
تغيرّ العقل، سنواجه عددا من املوضوعات املتكررة، مبا يف ذلك الرسد، وهو
قصة الحياة الشخصية، والعقل بوصفه كيانا ماديا حقيقيا )أي تلك البنية
الفريدة من االتصاالت العصبونية يف كل دماغ منفرد(. يلخص الجدول )8 – 1(،
بطريقة مبسطة للغاية، كيف ميكننا أن نفكر يف هذا العقل فيام يتعلق بالحالة
الواعية الشخصانية، فضال عىل الخصائص املختلفة يف الدماغ املادي التي ميكننا
استخدامها كإطار مرجعي عندما نأيت ّ لتدبر الكيفية التي ميكن بها للتقنيات

114
ّ تغير العقل
الرقمية أن تؤثر ليس فقط يف الدماغ البرشي العام بل يف العقول، واملعتقدات،
وحاالت الوعي الفردية. لقد قطعنا شوطا طويال منذ النموذج البالستييك الوردي،
لكن الرحلة اآلن قد بدأت من فورها.

الجدول )8 – 1:) منوذجان أساسيان للدماغ البرشي؟
غري عاقل عاقل
اإلحساس اإلدراك املعريف
تسود املشاعر القوية يسود التفكري
هنا واآلن املايض، والحارض، واملستقبل
موّجه بالبيئة الخارجية موّجه باملدركات الداخلية
معنى ضئيل معنى شخيص
ال يوجد وعي ذايت شعور قوي بالذات
ال يوجد إطار مرجعي زمني أو مكاين حلقات واضحة ترتبط بصورة متسلسلة
األطفال، الفصاميون، املقامرون، معاقرو املخدرات،
من لديهم مؤرش مرتفع لكتلة الجسم، مامرسو
الرياضات الرسيعة والجنس، والرقص، أو األحالم.

حياة بالغة عادية

مستوى عال من الدوبامني كمية أقل من الدوبامني
نقص وظيفة القرشة أمام الجبهية وظيفة عادية للقرشة أمام الجبهية
عامل بال مغزى عامل ذو مغزى
يرتبط الوعي بالتجمع الصغري يرتبط الوعي بتجمع أكرب

115
الشيء املتعلق بالشبكات االجتماعية

ّ إن نسيان الناس لوجودي هو ما يؤثر يف
حقا. إذا ذهبت إىل حفلة أو كنت يف عطلة ومل
أوثقها يف حسايب عىل الفيسبوك، فهل حدث
ذلك حقا؟ هل ّميزق هذا وجودي بوصفي
إنسانا ويجربين عىل ارتداء عباءة اإلخفاء؟ ...
لدي ما يقرب من 800 صديق عىل الفيسبوك،
ولكني ال أخرج إال مع عدد ضئيل من الناس يف
واقع الحياة. أليس هذا عجيبا؟ من هم أصدقايئ
السبعامئة والتسعون هؤالء؟ متى كانت آخر
مرة خرجنا فيها معا بالفعل؟ هل أعرفهم حتى؟
إذا كنت ال أعرفهم، فلامذا أريدهم أن يعرفوين؟
كل هذا الخطاب يجعلني أريد حذف حسايب
عىل الفيسبوك، ويف الوقت نفسه أتحقق مام
إذا كانت لدي أي رسائل جديدة. وبغض النظر
عن قراري، أعتقد أننا قد نتفق جميعا عىل
أن الفيسبوك قد عبث بحياة جييل بطريقة
الشيء املتعلق بالشبكات
االجتماعية

»أثبت العلامء يف جامعة هارفارد
بالفعل أن مشاركة املرء للمعلومات
الشخصية عن نفسه، كام يحدث
عىل مواقع الشبكات االجتامعية،
ينشط أنظمة املكافأة يف الدماغ
بالطريقة نفسها التي يفعلها الغذاء
والجنس«

9

116
ّ تغير العقل
حقيقية للغاية. لقد سيطر عىل حياتنا اليومية من خالل فرض قواعد اجتامعية
جديدة وآداب يجب علينا االلتزام بها. لقد قام يف األساس بتحويلنا إىل كتل عبثية
عصابية مصابة بجنون العظمة، تخاف من التواصل البرشي الحقيقي. مارك، ملاذا

.
)1(
تحمل لنا كل هذا االزدراء؟
كانت هذه مقتطفات مام كتبه ريان أوكونيل Connell’O يف موقع Thought
Catalog يف مايو .2011 وعىل رغم أنه قال كلامته هذه مازحا، رمبا كان تفكريه
يعكس بوضوح التأثري الهائل ملواقع الشبكات االجتامعية يف طريقة حياتنا الحالية.
وإذا كان األمر كذلك، فهل هي عالمة مشؤومة عىل املجتمع املختل املقبل، أم أن
املخالطة االجتامعية عرب اإلنرتنت ال متثل سوى نسخة أكرث تواترا وسهولة مام كنا
نفعله دامئا؟ يف كلتا الحالني، ستكون هناك انعكاسات مهمة عىل حياتنا وثقافتنا يف
املستقبل. مل يحدث من قبل أن أتيحت لكل هذا العدد من البرش الفرصة لتبادل
املوسيقى، والصور، والفيديو، واآلراء التي ينرشونها عرب املدونات بكل سهولة، غالبا
مع استجابات شبه فورية.
يف حني أن الشبكات االجتامعية كانت موجودة منذ العام ،1997 فإن مواقع
مثل ماي سبيس، وبيبو، وإنستاغرام، ومتبلر، وفيسبوك، وتويرت، ولينكد إن - التزال
األكرث استخداما يف جميع أنحاء العامل، مع سيطرة الفيسبوك عىل سوق الشبكات
االجتامعية يف العامل الغريب. ومقارنة بغريه من الشبكات االجتامعية، فإن مستخدمي
الفيسبوك هم األكرث تفاعال: 52 يف املائة يزورون موقع الفيسبوك يوميا، يف حني تقل
النسبة كثريا يف املواقع الرائجة األخرى، مثل تويرت )33 يف املائة(، ماي سبيس )7 يف
)2(. يزور املستخدم املتوسط للفيسبوك عىل الهواتف

املائة( ولينكد إن )6 يف املائة(

)3(. وبالتايل، يف حني يوجد

الذكية صفحته عىل املوقع بواقع أربع عرشة مرة يف اليوم
العديد من مواقع الشبكات االجتامعية، فإن معظم النقاش هنا سيرتكز عىل الفيسبوك
تحديدا، نظرا إىل الشعبية التي يحظى بها يف جميع أنحاء العامل، ومن ثم ّكم البحوث
الالحقة عىل استخدام الفيسبوك. أما »مارك« الذي تحداه ريان خطابيا فهو، بطبيعة
الحال، مارك زوكربريغ Zuckerberg، مؤسس الفيسبوك، والذي اختارته مجلة »تايم«
شخصية العام .2010 وبالتايل، ليس من املستغرب أنه بقدر ما يعنيه األمر، تبقى اآلفاق
واضحة ومرشقة بطريقة ال لبس فيها:

117
الشيء املتعلق بالشبكات االجتماعية
ّ هناك حاجة كبرية وفرصة هائلة لضم الجميع يف عامل مرتابط، ومنح
الجميع فرصة للتعبري عن أصواتهم، واملساعدة يف تحويل املجتمع استعدادا
للمستقبل. إن مشاركة الناس لقدر أكرب من املعلومات، حتى لو كان ذلك
يحدث مع أصدقائهم املقربني أو أرسهم فقط، يخلق ثقافة أكرث انفتاحا
ويؤدي إىل فهم أفضل لحياة وآلراء اآلخرين. ومع زيادة ا ّ لكم الذي يتشاركه
الناس، تزداد فرصة اطالعهم عىل مزيد من اآلراء من األشخاص الذين
يثقون بهم حول املنتجات والخدمات التي يستهلكونها. ويزيد هذا من
.
)4(
سهولة اكتشافهم ألفضل املنتجات وتحسني جودة وفاعلية حياتهم
ّ إنني أشك يف أن السبب الرئيس لتوجه معظم الناس إىل الفيسبوك، وبخاصة
املراهقني، هو، كام أشار إليه زوكربريغ، الهدف الجاد لتحسني فاعلية وجودهم. لقد
اشرتك يف املوقع أكرث من مليار شخص يف العامل، ومن بني هؤالء يزور املوقع يوميا
أكرث من النصف. 5 من أجل أن تكون الشبكات االجتامعية رائجة كام هي الحال مع
األفراد الذين ينتمون إىل مجموعة واسعة التنوع من الثقافات والخلفيات، فال بد
أنها تلبي حاجة إنسانية أساسية عىل درجة كبرية، وأنها تفعل ذلك بشكل جيد حقا.
ُ إن السبب األكرث شيوعا الذي طرح لتفسري الشعبية الطاغية للمواقع مثل
الفيسبوك هو أنها تساعدنا عىل التواصل عرب اإلنرتنت مع أصدقائنا غري املتصلني
.)6(
)أي يف العامل الحقيقي( مع تسهيل االحتفاظ بالصداقات عرب املسافات البعيدة
وعىل أي حال، تتسم األمناط البديلة من التواصل عرب الحواسيب والتي التزال
رائجة، مثل رسائل الربيد اإللكرتوين أو الرتاسل عرب برنامج سكايب Skype، بكونها
فعالة وسهلة للتواصل عرب املسافات الطويلة. وبالتايل فإن التواصل مع األصدقاء
ال ميكن، من تلقاء نفسه، أن يفرس جاذبية املخالطة االجتامعية عرب الفضاء
اإللكرتوين. وباإلضافة إىل ذلك، فقد وجدت البحوث التي أجريت أخريا أن من
يستخدمون الفيسبوك لجمع شبكة كبرية من األصدقاء االفرتاضيني يبلغون عن
شعورهم بقدر أكرب من الرضا عن الحياة، مقارنة مبن يستخدمونه للحفاظ عىل
)7(. ومن املثري للقلق أن هذه الدراسة وجدت أن

صداقات حقيقية وثيقة ودامئة
مستخدمي الفيسبوك هم أكرث رضا عن حياتهم عندما يعتربون أن أصدقاءهم
عىل الفيسبوك هم جمهورهم الشخيص الذين يبثون إليهم من طرف واحد، وليس

118
ّ تغير العقل
ُ عندما ينخرطون يف حوارات متبادلة أو عدد أكرب من العالقات التي ت َبنى خارج
اإلنرتنت ضمن شبكاتهم عىل اإلنرتنت.
ّ رمبا كان كل ذلك يتلخص يف أبسط محفز عىل اإلطالق: الرغبة يف الشعور
بالرضا. يف أحد االستطالعات، أشارت النتائج إىل أن فرصة بناء والحفاظ عىل الرتابط
االجتامعي يف بيئة اإلنرتنت ترتبط بقدر أقل من االكتئاب والقلق وكذلك برضا أكرث
)8(. من املفرتض أن يوافق زوكربريغ عىل ذلك:
عن الحياة
العالقات الشخصية هي الوحدة األساسية ملجتمعنا. تتمثل العالقات يف
الكيفية التي ميكننا بها اكتشاف أفكار جديدة، وفهم عاملنا، ويف نهاية املطاف
استخالص السعادة عىل املدى الطويل... لقد ساعدنا بالفعل أكرث من 800
مليون شخص عىل تخطيط أكرث من 100 مليار ارتباط حتى اآلن، ويتمثل
.
)9(
هدفنا يف املساعدة عىل ترسيع وترية إعادة التوصيل rewiring هذه
ويف الواقع أن زوكربريغ يشري هنا إىل نوع جديد من الوجود، والذي مل تعد
فيه هويتك بالقدر نفسه من االنطواء الداخيل، إذ صارت تتشكل خارجيا بالتنسيق
الوثيق مع اآلخرين. إن استخدامه لكلمة »إعادة التوصيل« يعني أننا نعمل معا
كعقد nodes ضمن آلة معقدة، كنا بالفعل متصلني بها جميعا من قبل )»مو ّصلون«
بطريقة مختلفة(، وأن تغيري األسالك الكهربائية الجديد هذا هو األفضل. ليس هناك
افرتاض واحد صحيح من بني هذه االفرتاضات الثالثة. أوال، عىل رغم أن مفهوم
وجود شبكة عاملية للفكر )املحيط الفكري noosphere)، كام رأينا يف وقت سابق،
قد وضع من قبل الراهب اليسوعي بيري تيالر دي شاردان قبل قرن من الزمان
تقريبا، فلم ُينظر إليه من قبل أي شخص آخر مطلقا كتأليه apotheosis محتمل
)10(. ثانيا، نحن مل نكن يف الواقع »مو ّصلني« معا باستمرار، وهذا هو سبب
لإلنسانية
كون هذه الحالة الجديدة من الرتابط رائجة للغاية. وثالثا، ملاذا ينبغي علينا أن
نفرتض تلقائيا أن كل ما يقدمه الفيسبوك يتفوق عىل جميع األمناط السابقة من
التواصل؟ نحن يف حاجة إىل إلقاء نظرة أدق عىل ما يجري.
إن الحالة املتناقضة ألن تكون متصال بصورة ما بشخص آخر تعني أنك لست
متصال عىل اإلطالق، أي أن تكون وحيدا. ومبصطلحات تطورية، ستكون هناك قيمة
للبقاء، وبالتايل متعة شخصانية أساسية يف أي سلوك يحارب العزلة. وقد اتضح أن

119
الشيء املتعلق بالشبكات االجتماعية
الوحدة ضارة حقا بصحتك. عىل سبيل املثال، تتعرض النساء الاليت ميتلكن عددا أقل
من تجارب العالقات االجتامعية للسكتات الدماغية مبعدل يصل إىل ضعفي معدل
.)11(
من ميتلكن عددا أكرب من العالقات، بعد تسوية جميع العوامل املمكنة األخرى
وعالوة عىل ذلك، حدد تحليل »الدنا« DNA وجود 209 جينات متعلقة بوظيفة
الجهاز املناعي ملكافحة املرض، والتي يجري تعبريها بشكل مختلف يف األشخاص
)12(. يبدو أن خاليا

الذين يبلغون عن مستويات مرتفعة من العزلة االجتامعية
دفاع الجهاز املناعي القدمية تطوريا قد اكتسبت حساسية للظروف االجتامعية -
البيئية التي قد تسمح لها بتغيري املالمح القاعدية للتعبري الجيني من أجل مواجهة
التهديدات املتغرية للعدوى املرتبطة بالظروف االجتامعية املعادية. وعالوة عىل
ذلك، فإن التغريات الحادثة يف تعبري الجينات القابلة للتحريض تتعلق بقوة أكرب
بالتجربة الشخصانية للشعور بالوحدة منها بالحجم املوضوعي للشبكة االجتامعية.
وكأن ذلك مل يكن كافيا، فمن املمكن للشعور بالوحدة أن يزيد من معدل وقوع
أمراض القلب واألوعية الدموية عن طريق تقليل مستويات األوكسيتوسني، وهو
الهرمون الطبيعي الذي ذكرناه يف موضع سابق، الذي يقلل معدل رضبات القلب
)13(. وألن مستويات األوكسيتوسني ترتفع بشدة

ويجعله مستقرا بشكل طبيعي
خالل التالمس الجسدي الوثيق وترتافق مع العافية، فمن الواضح أن العزلة ّ تثبط
هذه اآللية الدفاعية الطبيعية.
خالل السنوات العرشين املاضية، تضاعف عدد األشخاص الذين يعيشون
مبفردهم يف اململكة املتحدة، وهي نسبة مل يسبق لها مثيل، حيث يعيش ثلث
)14(. ويرتكز هذا االتجاه بصفة خاصة

جميع البالغني يف أرس مؤلفة من عضو واحد
يف الفئة العمرية ما بني الخامسة والعرشين والرابعة واألربعني. ترتافق زيادة
عدد األشخاص الذين يعيشون مبفردهم مع احتامل أكرب للشعور بالوحدة،
وبالتايل فإن الوصول الالحق ملواقع الشبكات االجتامعية سيلبي طلبا واضحا بني
مجموعة متزايدة من العمالء املتقبلني لذلك عىل الفور. أدى التحول يف الكيفية
التي يتواصل بها البالغون اجتامعيا إىل تغيرّ التفاعل االجتامعي بصورة جذرية
عىل مدى عقدين من الزمن. يف العام ،1987 وفقا ألحد التقديرات، كنا نقيض يف
املتوسط ست ساعات يوميا من التفاعل االجتامعي وجها لوجه، وأربع ساعات يف

120
ّ تغير العقل

)15(. ويف العام 2007 انقلبت تلك النسبة،

التواصل عرب وسائل اإلعالم اإللكرتونية
حيث كنا نقيض ما يقرب من مثاين ساعات يوميا يف التواصل االجتامعي عرب وسائل
اإلعالم اإللكرتونية، وساعتني ونصف الساعة فقط يف التفاعل االجتامعي وجها
لوجه. مل يؤد ظهور وسائل اإلعالم االجتامعية إىل تلبية حاجة قامئة فقط، لكنه
فعل ذلك عىل نحو أكرث فعالية من التواصل العادي بني األشخاص. وقد اقرتح
عامل االقتصاديات العصبية بول زاك Zak أن الشبكات االجتامعية ذاتها تزيد من
.)16(
ُ مستويات األوكسيتوسني، وهو هرمون يفرز عادة نتيجة للتقارب الجسدي
ولعل املحاكاة السيربانية ُ للقرب الجسدي متاثل اليشء نفسه الحقيقي بقدر ما
يتعلق األمر بالجسم. ما الخطأ يف ذلك إذن؟ إذا كنا ّ نعزز مستويات األوكسيتوسني
ُ يف أجسامنا، ونشعر بالقرب من اآلخرين، ونصد اآلثار ّ املهددة للصحة التي يسببها
الشعور بالوحدة، فام الذي نكرهه يف ذلك؟
تتسم البيانات املتوافرة بشأن العالقة بني الشعور بالوحدة والشبكات
)17(. ُتظهر األبحاث أن األشخاص

االجتامعية بكونها معقدة عىل نحو مذهل
الذين ينخرطون يف نشاط يف الفيسبوك عن طريق مراسلة األصدقاء والنرش عىل
صفحات األصدقاء يذكرون مستويات أدىن من الشعور بالوحدة من أولئك الذين
.)18(
يشاركون يف املقام األول عن طريق املتابعة السلبية لصفحات األصدقاء
وكذلك فإن األشخاص الذين يبلغون عن الشعور بالوحدة يكونون عىل ما يبدو
مرتبطني عاطفيا بقوة أكرب بالفيسبوك، مام يشري إىل أن األكرث شعورا بالعزلة
هم من يستخدمون هذا املوقع للتعويض عن عدم وجود عالقات خارج إطار
اإلنرتنت: ويف الوقت نفسه، من ميتلكون شبكات صحية من العالقات الواقعية
الراسخة بالفعل يلجأون إىل الفيسبوك ببساطة كيشء إضايف من اللطيف
)19(. ومن املثري لالهتامم أن الطالب الذين لديهم مستويات أعىل من
امتالكه
الشعور بالوحدة يبلغون أيضا عن وجود عدد أكرب من أصدقاء الفيسبوك ممن
)20(. وبالتايل، ففي حني ميكن

لديهم عالقات اجتامعية أوسع يف واقع الحياة
استخدام الشبكات االجتامعية ملعالجة مشاعر الوحدة، فقد ال ُتحدث األثر
املطلوب يف نهاية املطاف. وعىل سبيل املثال، فإن عامل املستقبليات ريتشارد
واتسون Watson لديه تحفظات جدية عن األمر:

121
الشيء املتعلق بالشبكات االجتماعية
أعتقد أن أحد األسباب الرئيسة للرواج الكبري ملوقعي الفيسبوك وتويرت
هو أننا نشعر بالوحدة ... تعني االرتباطية العاملية أننا ننزع إىل أن نكون
مبفردنا حتى عندما نكون معا. ميكنك أن ترى هذا عندما يخرج األزواج معا
لتناول العشاء يف الخارج، ويقيض كل منهام معظم وقته يف إرسال الرسائل
النصية، أو عندما يجتمع األطفال معا من أجل اللعب وينتهي بهم املطاف
إىل الجلوس بعضهم إىل جانب بعض وكل منهم عاكف عىل لوحات املفاتيح

.
)21(
املنفصلة أللعابهم ساعات طويلة
ويرى بعض الباحثني أن الهروب إىل اإلنرتنت لتجنب مشكالت العامل الحقيقي
)22(. عمدت إحدى الدراسات إىل فحص استخدام الفيسبوك من

قد تفاقم بالفعل

ّق يف البالغني، والتي تؤكد دور مزّود الرعاية الرئيس يف مرحلة

منظور نظرية التعل

ّق الطبيب النفيس جون بولبي Bowlby يف منتصف

)23(. وضع نظرية التعل
الطفولة
القرن العرشين، عندما كان يعالج األطفال املصابني باضطرابات عاطفية. اقرتح
بولبي أنه ميكن تعريف االرتباط عىل أنه »اتصال نفيس مستديم بني البرش«، كام
أظهر أن األطفال الرّضع يكونون إما »آمنني«، وإما »قلقني«، وإما »انطوائيني« من
)24(. قد يبيك الطفل اآلمن عندما تغادر والدته

ّ ُ ق التي يظهرونها

حيث أمناط التعل
الغرفة، لكنه سيبدأ اللعب مرة أخرى مبجرد أن تعود. وعىل أي حال، ففي حالة
األطفال القلقني، عندما تعود األم، سيقوم الطفل بدفعها بعيدا ومن ثم االنفجار
يف البكاء. ويف املقابل، فإن الطفل االنطوايئ يترصف كأن شيئا مل يحدث، عىل رغم
حدوث زيادة يف معدل رضبات القلب ومستويات هرمون التوتر، الكورتيزول.
يترصف البالغون بدورهم مثل األطفال متاما. ففي حني يشعر األشخاص
اآلمنون بالراحة للحميمية، يكافح األفراد االنطوائيون من أجل إقامة االرتباطات
العاطفية. يكون األفراد االنطوائيون أكرث عرضة لالنعزال اجتامعيا وألن يحاولوا إغالق
احتياجاتهم العاطفية فيام يتعلق باآلخرين. ويف املقابل، فإن األفراد القلقني ينزعجون
من البقاء مبفردهم؛ وهم يخشون الرفض وينخرطون يف سلوكيات يعتقدون أنها
ّ تعزز عالقاتهم. وجد الباحثون أن األفراد الذين ُيظهرون مستويات عالية من االرتباط
القلق يستخدمون الفيسبوك بصورة أكرث تواترا، ويكونون أقرب احتامال الستخدامه
عندما يعرتيهم شعور سلبي، ويكونون أكرث اهتامما بشأن الكيفية التي يراهم بها

122
ّ تغير العقل

)25(. يبدو أن الفيسبوك يسد حاجة لدى من تعرضوا لتجارب

اآلخرون عىل الفيسبوك
سيئة التأقلم يف وقت مبكر. وعىل أي حال، فاليزال من غري الواضح ما إذا كان
استخدام الفيسبوك قد يساعد األشخاص الذين ُيظهرون مستويات مرتفعة من
ارتباطات القلق عن طريق مكافحة مشاعر الوحدة وتعزيز عالقاتهم. ولكن ليس من
يشعرون بالوحدة والقلق هم وحدهم من ينجذبون إىل الشبكات االجتامعية. لقد
أظهرت األبحاث أيضا أن األفراد الذين ُيظهرون مستويات أعىل من االنفتاح يقضون

.)26(
وقتا أطول عىل الفيسبوك ولديهم عدد أكرب من األصدقاء هناك
يعني االنفتاح خياال نشطا، ورغبة يف تجربة خربات جديدة، واهتامما باملشاعر
الداخلية، وتفضيال للتنوع، وامتالك عقل محب لالطالع. وبالتايل، فإن وجود عدد
كبري من أصدقاء الفيسبوك يرتبط، للمفارقة، مع كل من مستويات مرتفعة من
االنفتاح وكذلك مع الشعور مبزيد من الوحدة.
وعىل رغم أن ذلك قد يبدو معاكسا للتوقعات البديهية، فإن االنفتاح والشعور
بالوحدة ليسا متناقضني: فاالنفتاح هو سمة شخصية، يف حني أن الوحدة هي حالة.
إن مزيجا من »السحب« الذي متثله الرغبة يف االنفتاح و»الدفع« الذي يفرضه
الشعور بالوحدة ميثل عامال قويا يف تحديد مقدار ما تكشفه عن نفسك. وهذا
اإلفصاح الذايت هو أمر حاسم لفهم الجاذبية الحقيقية ملواقع الشبكات االجتامعية.
كنوع حي، يبدو أننا منتلك توقا شديدا للكشف عن مكنون ذواتنا، إىل درجة
أنه ميكن اعتبار جزء أسايس بشكل بالغ من النفس البرشية. وقد أثبت العلامء
يف جامعة هارفارد بالفعل أن مشاركة املرء للمعلومات الشخصية عن نفسه، كام
يحدث عىل مواقع الشبكات االجتامعية، ينشط أنظمة املكافأة يف الدماغ بالطريقة
)27(. ومن املثري للدهشة أن املشاركني يف هذه

نفسها التي يفعلها الغذاء والجنس
التجربة بعينها كانوا حتى عىل استعداد للتخيل عن املكافآت املالية مقابل الحصول
عىل فرصة للحديث عن أنفسهم. وتشري النتائج أيضا إىل أن وجود ردود فعل دورية
متبادلة لإلفصاح الذايت يكافئ ويديم مشاركة املعلومات الشخصية عىل مستوى
الكيمياء الحيوية األساسية. ونتيجة لذلك، فإن جاذبية الشبكات االجتامعية متأصلة
يف ّ محفز بيولوجي نجهله إىل حد كبري، والذي نجد أنه من الصعب السيطرة عليه
بصورة طوعية.

123
الشيء املتعلق بالشبكات االجتماعية
وعىل رغم أننا قد ال نكون عىل علم بكونه حاجة بيولوجية أساسية، ميكن
للحنني الواعي للتعبري عن النفس واإلفصاح الذايت أن ميثل املفتاح ملا يجده كثريون
قاهرا بشأن الفيسبوك وغريه من أنواع التواصل االجتامعي عرب اإلنرتنت. وعىل رغم
أن مواقع الشبكات االجتامعية، بطبيعة الحال، تجعل هذا التواصل أسهل وأيرس،
فإن املخالطة االجتامعية نفسها قد ال تكون هي القضية الرئيسة. وبدال من ذلك،
فقد يكون عامل الجذب الحقيقي هو تجربة نقل املعلومات الشخصية عىل نطاق
مل يسبق له مثيل، ألن الفيسبوك وغريه من املواقع املشابهة تشجعك عىل أن تكشف
لآلخرين عن معلومات حول نفسك بطريقة رمبا مل تفعلها من قبل. عندما ّ يحدث
شخص حالته بأمر شخيص، فهو يشاركه مع مئات من أصدقائه عىل الفيسبوك. ما
عليك سوى التفكري يف األمر. نحن نقوم بطبيعة الحال بتبادل املعلومات الشخصية
بعضنا مع بعض منذ فجر التاريخ، لكننا اآلن نفعل ذلك مع 262 شخصا )متوسط
عدد أصدقاء الفيسبوك عرب جميع األعامر والبيانات الدميوغرافية( بدال من مجرد
)28(. والنقطة املهمة هنا هي أنك، عند مشاركة

عدد قليل من األصدقاء املقربني
معلوماتك الشخصية عىل الفيسبوك، سواء من خالل ملفك الشخيص أو حالتك،
فأنت تتشاركها مع جمهور مبارش هو األكرب عىل اإلطالق يف تاريخ البرشية.
وإذا كان األمر كذلك، فإن السؤال التايل هو: ملاذا نحن عىل استعداد إلفشاء
الكثري من املعلومات الشخصية عىل هذا النطاق الذي مل يسبق له مثيل؟ رمبا كانت
مكافآت املشاركة يف مواقع الشبكات االجتامعية والترصف النفيس تجاه اإلفصاح
الذايت يعزز بعضها بعضا. ومن بني أكرث النتائج اتساقا للبحوث املتعلقة بالحواسيب،
نجد واحدة تشري إىل أن غياب التواصل وجها لوجه يؤدي إىل ارتفاع مامثل يف اإلفصاح
الذايت، ألننا ال منتلك تلميحات برصية أو لغة الجسد املناسبة لثنينا عن اإلفصاح الذايت
)29(. عندما نلتقي شخصا ما بشحمه ولحمه، ونصافح

أو التساؤل عام نكشف عنه
يده، وننظر إىل عينيه، ونلتقط التلميحات من خالل لغة الجسد، فنحن نبني الثقة
واأللفة معه تدريجيا؛ نحن نشعر بأننا نعرف الشخص اآلخر قبل أن نتخىل عن
حذرنا معه. وحتى يحدث ذلك، فإن لغة الجسد الدفاعية، و ّ تجنب التقاء العيون،
واملسافة املادية، ونربة الصوت قد تعمل جميعها مبنزلة تحذيرات بعدم إعطاء أكرث
من الالزم يف مرحلة مبكرة من العالقة. متثل لغة الجسد آلية تطورية قدمية تومئ

124
ّ تغير العقل
لنا مبتى ينبغي علينا أن نتخىل عن دفاعاتنا ومتى يجب أن نحتفظ بها. وإذا مل
تكن هناك عالمات تحذيرية مثل هذه، فال يشء مينعنا من التحدث أو الكتابة مرارا
وتكرارا، وحينئذ يكون اإلفصاح أسهل بكثري. وبالتايل فإن األشخاص الذين يرغبون
يف الكشف عن مزيد سيستخدمون مواقع الشبكات االجتامعية بصورة أكرث تواترا،
والذي يؤدي بدوره إىل تشجيعهم عىل اإلفصاح عن املزيد.

ُجري استطالع عىل 488 من مستخدمي مواقع الشبكات

وعىل سبيل املثال، أ

)30(. أظهر األفراد ذوو التوجه األقوى

االجتامعية يف أملانيا مرتني خالل فرتة ستة أشهر
لإلفصاح الذايت ميال أكرب إىل املشاركة يف مثل هذه املواقع. ويف الوقت نفسه، فقد
زاد االستخدام املتواتر للشبكات االجتامعية من الرغبة يف اإلفصاح الذايت عىل
اإلنرتنت، ألن سلوكيات اإلفصاح الذايت ّ تتعزز من خالل مراكمة رأس املال االجتامعي
ضمن الفيسبوك والبيئات املامثلة. وبالتايل، فإن السؤال الذي تبلغ قيمته 64 ألف
دوالر هو: ملاذا؟ إذا كان الشعور بالوحدة هو املحرك الرئيس الستخدام الشبكات
االجتامعية، فهناك سبل أكرث فاعلية بكثري، والتي تتسم بكونها تبادلية وشخصية،
للتواصل مع األفراد من تحديث الحالة الواسع االنتشار عرب اإلنرتنت. ومع ذلك فمن
يشعرون بالوحدة هم األكرث انجذابا إىل الشاشة. ملاذا يكون من املمتع إىل هذا الحد
)31( أن تكشف عن مشاعرك وأفكارك الخاصة

)كام أثبتته دراسة هارفارد بوضوح(
ليس إىل شخص واحد تثق به يف بعض األحيان، ولكن لجمهور مؤلف من املئات أو
اآلالف بصفة يومية أو حتى كل ساعة؟
ميكن القول إنه من خالل الوقت واملسافة التي تقضيها يف االختباء وراء الشاشة،
ميكنك تصوير نفسك كشخص مختلف متاما وأكرث إثارة لالهتامم. إن الفرصة لتجنب
الحرج املتمثل يف الرتدد والتلعثم يف اختيار كلامتك تبدو رائعة، خاصة أنه لن تكون
هناك فرصة ألن تقول أي يشء ال تعنيه أو قد تندم عىل قوله. أنت تشعر باألمان
وبعدم ّ التعدي وأنت تستخلص املتعة اللمسية من خالل النقر عىل لوحة املفاتيح،
وترى كتابتك عىل الشاشة ترتاقص وفقا لنموذجك الخاص يف السيطرة والتحكم. يأيت
جزء آخر من اإلثارة التي ميثلها البقاء عىل اإلنرتنت من أن تكون متصال باستمرار.
هناك شخص ما، يف مكان ما، متاح دامئا للتفاعل معك اآلن؛ فبعد كل يشء، أنت
متصل بالعامل بأرسه. ولكن يف الوقت نفسه، ميكنك أن تقول أي يشء تريده من دون

125
الشيء املتعلق بالشبكات االجتماعية
الحرج أو االنزعاج الذي ميثله التفاعل وجها لوجه. ال عجب يف أن هذه التجربة
متنحك شعورا جيدا.
يف العام ،2011 هدفت دراسة إيطالية - أمريكية مشرتكة إىل ترشيح نوع
)32(. هل هي يف املقام األول

التجربة التي يعايشها الناس يف أثناء استخدام الفيسبوك
تجربة تبعث عىل االسرتخاء أم خربة مرهقة؟ شارك ثالثون طالبا ترتاوح أعامرهم
بني التاسعة عرشة والخامسة والعرشين يف مترينات قصرية نظر خاللها الطالب أوال
إىل مناظر طبيعية بانورامية )تجربة االسرتخاء(، ثم أمىض ثالث دقائق يف ّ تصفح
حسابه الخاص عىل الفيسبوك، ثم قىض يف النهاية أربع دقائق يف إمتام مهمة مرهقة،
مثل حل مسألة رياضية. خالل هذه االختبارات، جرى تسجيل مستويات اإلجهاد
الفيسيولوجي لديهم لقياس مدى شعور املشاركني باإلجهاد أو االسرتخاء خالل كل
تجربة. خالل التجربة املرهقة، جرى تفعيل نظام املحاربة أو الفرار، ما أدى إىل زيادة
معدالت التنفس، والتعرق، واتساع حدقة العني، يف حني أدت تجربة االسرتخاء إىل
تنشيط الجهاز العصبي جار الودي )السمبتاوي(، مام أدى إىل استجابات معاكسة.
كان األمر األكرث إثارة لالهتامم هو أن التنقل عرب صفحة املرء الخاصة عىل الفيسبوك
يبدو أنه يوفر تجربة مل تكن تبعث عىل االسرتخاء وليست مرهقة، بل حالة إيجابية
أكرث نشاطا. أظهر املشاركون خليطا من االستجابات الفيسيولوجية التي ُتشاهد
أيضا يف ظل ظروف االسرتخاء واإلجهاد. وقد خلص الباحثون إىل أن نجاح مواقع
التواصل االجتامعي »قد يرتافق مع تجربة املستخدمني لحالة وجدانية إيجابية
بعينها«. باختصار، يتسم التوجه إىل الفيسبوك بكونه مثريا من الناحية الجسدية و/
أو الفيسيولوجية. ولكن ما العملية البيولوجية التي ّ تحفز بالفعل هذه التجربة من
الشعور الجيد، أو التمتع بالفيسبوك أكرث مام تفعل عندما تشاهد لوحة أو تتنزه
سريا عىل األقدام، عىل سبيل املثال؟
رأينا سابقا كيف افتنت علامء الدماغ منذ فرتة طويلة بظاهرة »التحفيز الذايت«،
حيث تقيض الجرذان كل وقتها يف الضغط عىل قضيب معدين لتحفيز مناطق رئيسة
يف الدماغ، مع استبعاد كل يشء آخر مبا يف ذلك تناول الطعام. كانت املناطق
التي ُيفرتض، عند تحفيزها، أن تجعل الجرذان »تشعر بأنها يف حالة جيدة« هي
تلك التي ُتفرز الناقل العصبي دوبامني. وباإلضافة إىل املساهمة يف مشاعر الرسور،

126
ّ تغير العقل
يؤدي الدوبامني دورا آخر يف اإليقاعات اليومية للنوم واليقظة، حيث يرتبط بيقظة
متزايدة. ّفكر فقط يف فرط النشاط الناتج من مخدر »الرسعة« speed( األمفيتامني(،
الذي ُيطلق مستويات مرتفعة عىل نحو غري طبيعي من الدوبامني يف الدماغ. ليس
من الصعب أن نرى تداخال بني الشعور باالستثارة والشعور بالسعادة. تتسم العديد

من األنشطة يف الحياة بكونها مثرية، مثل األلعاب الرياضية الرسيعة الوترية، كام أنها
مجزية أيضا. ويكفي القول إنه إذا جرى ربط مختلف حاالت الدماغ املتعلقة باإلثارة

واملكافأة بارتفاع مستويات الدوبامني باستمرار، وإذا كانت الشبكات االجتامعية
مجزية ومثرية، فمن املحتمل للغاية أن تعمل الشبكات االجتامعية مبنزلة ّ محفز
آخر إلفراز الدوبامني يف الدماغ.
عددت الدكتورة سوزان وينشينك Weinschenk، وهي عاملة نفسية سلوكية
نرشت لها خمسة كتب حول تجربة املستخدم يف األنظمة الحاسوبية، السامت
املحددة للفيسبوك وغريه من مواقع الشبكات االجتامعية التي ميكن أن تجعل منها
)33(. أوال، ألنها توفر إشباعا فوريا: ميكنك اآلن التواصل مع

محفزات إلفراز الدوبامني
شخص ما عىل الفور، ومن املرجح أن تحصل عىل رد يف غضون بضع ثوان. ثانيا، أنها
توفر إثارة استباقية. ُتظهر دراسات التصوير العصبي مستويات أعىل من التحفيز
والنشاط عندما يتوقع الناس مكافأة، مقارنة مبا يحدث عندما يحصلون عىل مكافأة
)34(. وباملثل، فإن ترّقب أي تغريدة، أو تحديثات، أو تعليقات جديدة عىل
بالفعل
ملف التعريف الخاص بك قد ّ يحفز افتتانك مبواقع الشبكات االجتامعية أكرث مام
تفعل املعلومات الفعلية التي تتلقاها. ثالثا، تقدم هذه املواقع قطعا صغرية من
املعلومات. يجري تحفيز منظومة الدوبامني بقوة أكرب عندما تكون املعلومات
الواردة متواضعة مبا يكفي لئال تكون ُمرضية متاما. وبالتايل فإن الحجم املحدود
للتغريدة أو لزر »اإلعجاب« يكون مثاليا لتفعيل منظومة الدوبامني. وأخريا، هناك
عدم القدرة عىل التنبؤ. متثل هذه آلية املكافأة / العقاب التي خضعت لدراسات
كثرية، واملكتنفة يف جداول مواعيد متقطعة أو متغرية للتعزيز. عند فحص بريدك
اإللكرتوين أو رسائلك النصية، أو عندما تستخدم تويرت أو الفيسبوك، فأنت ال تعرف
بالضبط من يتصل بك أو ما الرسائل التي ستتلقاها. تتسم هذه اآللية االرتجاعية
بأنه ال ميكن التنبؤ بها إىل حد كبري، وهو بالضبط ما يحفز إفراز الدوبامني يف

127
الشيء املتعلق بالشبكات االجتماعية
ّ الدماغ. من املمكن أن يؤدي نرش وتلقي املدخالت عىل الفيسبوك أو تويرت إىل
إفراز كميات ضئيلة من الدوبامني، األمر الذي يحتمل أن ّ يشجع هذا النشاط عىل

.
)35(
أن يصبح قهريا
هذه االستجابات شبه الفورية من اآلخرين، التي تتناقض مع أي تفاعالت تتم
يف العامل الحقيقي، هي أوسع انتشارا بكثري عندما يكون هناك عدد أكرب بكثري من
األشخاص املوجودين يف الفضاء اإللكرتوين، والذين ميكن إلزامهم. إن رؤية االسم
وهو يومض ميثل ّهبة صغرية من اإلثارة، أي ومضة صغرية من الدوبامني من شأنها
أن تضمن الرتقب للجرعة التالية؛ ال ميكنك االكتفاء من ذلك مطلقا يف الواقع. ولكن،
ملاذا تؤدي مجرد رؤية رد عىل موقعك الخاص، بغض النظر عام يقوله، إىل أن ّ تحفز
تلك الومضة من الدوبامني يف املقام األول؟
إن الحصول عىل االهتامم والقبول من قبل البالغني من بني أقوى املكافآت التي
نستشعرها ونحن نكرب. يحتاج األطفال إىل عالقة ذات مغزى مع بالغني معتنني
ومشاركني من أجل البقاء عىل قيد الحياة، والنمو، واالزدهار. ومن املثري للدهشة
أنه من املعتقد أن هرمون النمو البرشي ُيفرز بصورة متناسبة مع مقدار الرعاية
)36(. عندما يبيك األطفال الرضع إلعالن جوعهم أو

املعتنية التي يتلقاها الطفل
انزعاجات أخرى، إمنا هم يعتمدون عىل العامل، وخصوصا البالغني املوجودين عىل
مقربة منهم، لتصحيح هذه املشكلة. تتسم هذه املطالب بكونها رضورية للبقاء
عىل قيد الحياة، وعند تلبيتها يجري االعرتاف بوجود الطفل. إن الرضيع الجائع
الذي يرصخ حتى يأيت شخص ما باملصدر املالئم للغذاء يعلم أن له تأثريا يف العامل.
يعرتف العامل بأنه موجود. لهذا اإلنسان الصغري أهمية بالفعل. أما الرضيع الذي
يجري تجاهل احتياجاته فيستسلم يف نهاية املطاف و»يزول من الوجود«. ويف
حاالت اإلهامل املتطرفة - التي هي لحسن الحظ نادرة للغاية - يتوقف هؤالء
الرضع عن البكاء عندما يشعرون بالجوع ومن ثم يجوعون حرفيا حتى املوت.
تبدأ العافية العاطفية للطفل باالهتامم باحتياجاته املادية األساسية. ومع ذلك فإن
الحاجة تذهب إىل أبعد من ذلك؛ يجب أن يوافق مقدم الرعاية وأن ُيظهر موافقته.
وحاملا متت تلبية االحتياجات املادية، فإن هذا الحافز إىل مزيد من التدقيق هو
واحد من أقوى القوى الدافعة يف طبيعتنا. عندما ال تصادفنا ردود فعل إيجابية،

128
ّ تغير العقل
سنتوقف عن الشعور باألمان واالطمئنان. ومبرور الوقت، سنعتاد التوق إىل القبول
ليس فقط من والدينا ولكن من اآلخرين كذلك.
وال تتضاءل أهمية هذا االعرتاف والتقدير مع التقدم يف العمر. وعىل عكس
العامل الحقيقي، ميكن االعتامد دامئا عىل تويرت وفيسبوك يف توفري استجابة شبه
فورية حتى ملطالبات البالغني بالحصول عىل االهتامم. قد يعمل فيسبوك بسهولة
)37(. وهذا بدوره

عىل ملء الفجوة التي ال يسدها األهل واألصدقاء بصورة شاملة
قد يفرس ملاذا يعتمد املفرطون يف استخدام الشبكات االجتامعية عىل وهم العالقة
االفرتاضية الحميمة، عىل رغم مثنها الحتمي املتمثل يف فقدان الخصوصية. كثري منا
يعتربون الخصوصية أمرا مفروغا منه حتى نشعر بتعرضنا للغزو، سواء عن طريق
سؤال شخيص متطفل أو السيناريو املتطرف القرتاب حوامة تابعة لخرائط غوغل
من نافذة غرفة النوم. وكام قال النجم السيناميئ جورج كلوين Clooney ساخــــرا:
)38(. وحتى
»أنا ال أحب مشاركة حيايت الشخصية ... فلن تكون شخصية إذا شاركتها«
اآلن، فقد شعر معظمنا أغلب الوقت بالسيطرة عىل حياتنا الخاصة - عىل القدر
ُ الذي ن ّرس به، وملن، ومتى. لكن هذه االفرتاضات مل تعد قامئة اآلن.
من املستحيل وضع تعريف عميل للخصوصية، لكن معظمنا، حتى اآلن، لديه
شعور غريزي قوي بذلك. يف أول كتاب غري قصيص له، »العمالق األعمى«، يجري
الروايئ نيك هاركاواي Harkaway موازنة بني منافع وتهديدات اإلنرتنت:
ّمتثل الخصوصية حامية من االستخدام غري املعقول لسلطة الدولة
والرشكات. لكن هذا يعد، بصورة ما، أمرا ثانويا. أوال، ّمتثل الخصوصية
تعبريا باستخدام الكلامت عن فهم بسيط ينتمي إىل العامل الغريزي وليس
لذلك الرسمي، ألن بعض األمور تقع يف مجال من يعايشونها وليست
مفتوحة بشكل طبيعي لتدقيق اآلخرين: كالتوّدد والحب، مع تعريهام
.
)39(
العاطفي؛ واللحظات البسيطة للحياة األرسية؛ والقساوة املروعة للحزن
ويف املقابل، ففي أحد مؤمترات التكنولوجيا يف العام ،2010 دافع مارك زوكربريغ
عن قراره املثري للجدل، الذي اتخذه يف العام السابق بشأن تغيري إعدادات الخصوصية
التي دفعت املستخدمني للكشف عن مزيد من املعلومات الشخصية، قائال: »قررنا
أن تكون هذه هي املعايري االجتامعية اآلن ومل نقم إال بتفعيل ذلك«. ذكر زوكربريغ

129
الشيء املتعلق بالشبكات االجتماعية
لجمهوره أن مستخدمي اإلنرتنت مل يعودوا يهتمون بالخصوصية كثريا، وقال: »صار
الناس يشعرون باالرتياح فعال ليس فقط ملشاركة مزيد من املعلومات بأنواعها
املختلفة، بل ألن يفعلوا ذلك بشكل أكرث رصاحة ومع عدد أكرب من الناس، وأن

.
)40(
املعايري االجتامعية هي مجرد يشء يتطور مبرور الزمن«
تبدو الخصوصية بالفعل سلعة متدنية القيمة بني جيل الشباب من املواطنني
الرقميني: أعطى ما يقرب من نصف املراهقني معلومات شخصية لشخص ال يعرفونه،
)41(. ويف الوقت نفسه، أرسل أكرث من نصف

مبا يف ذلك الصور واألوصاف الجسدية
الشبان رسائل جامعية إىل أكرث من 510 »أصدقاء« يف كل مرة )وهو عدد أصدقاء
)42(، وهم مدركون متاما أن كل هؤالء ميكنهم

الفيسبوك الذين ميتلكهم شاب عادي(
بعد ذلك نقل هذه املعلومات إىل شبكاتهم الشخصية املؤلفة من مئات آخرين. إن
مقابل الحصول عىل مزيد من االهتامم وإمكانية الشهرة، هو فقدان الخصوصية، كام
كان األمر دامئا. وقد كان تحقيق التوازن املناسب دامئا مطلبا عسري املنال. فكيف،
إذن، كنا ّ نثمن الخصوصية عاليا يف السابق، يف حني أننا ننظر إليها اآلن بتجاهل
عفوي يتزايد يوما بعد يوم؟ حتى اآلن، كانت الخصوصية ترتبط ارتباطا وثيقا بشعور
ّد داخليا بالهوية؛ كان أحدهام ينطوي دامئا عىل اآلخر. ولكن إذا كانت الهوية
متول
يجري اآلن تشييدها من الخارج، ومتثل منتجا أكرث هشاشة بكثري للتفاعل املستمر مع
ُصل بينها وبني املفهوم التقليدي للخصوصية، بل والحاجة إليها.

»األصدقاء«، فقد ف
وبطبيعة الحال، وبالنسبة إىل كثريين، فإن التواصل عرب الشبكات االجتامعية
ميثل عامال مساعدا ممتعا للحياة العادية، يعزز التواصل مع األصدقاء الذين جرى
اكتسابهم يف العامل الحقيقي. لكن سبب رواج هذه املواقع يرجع إىل أكرث مام توحي
به أناقتها وقدرتها عىل جعل الحياة أسهل. ميكن اعتبار مواقع الشبكات االجتامعية
نوعا من َس ْقط الطعام food junk بالنسبة إىل الدماغ: فهي غري ضارة مبا فيه
الكفاية عند استخدامها باعتدال، لكنها ضارة عندما ُتفرط يف استخدامها. يبدو أن
ّ اليشء املتعلق بالشبكات االجتامعية يسخر ويعزز حلقة بيوكيميائية يرّجح أن
تكون مفرغة، حيث تضمن القوى البيولوجية التطورية أن يشعر البرش بالرضا عندما
يكافحون الشعور بالوحدة عن طريق تبادل املعلومات الشخصية مع اآلخرين،
ويحدث ذلك بوساطة إفراز الدوبامني يف الدماغ. ونتيجة لذلك، يخلق اإلفصاح

130
ّ تغير العقل
الذايت رضبا من املتعة الخالصة التي تتسم بكونها مبارشة مثل تلك املستمدة من
الطعام، أو الجنس، أو الرقص، أو الرياضة. وحتى اآلن، فإن هذه الرغبة الطبيعية
للسامح باإلفصاح عن كل يشء قد تقابلها الرصامة والقيود املفروضة عىل لغة
الجسد يف االتصال املبارش وجها لوجه، مام يجعلك واعيا متاما بذاتك الخاصة. من
املمكن لهذا الوعي بكونك شخصا عاديا أن يؤدي دورا قيام للغاية يف ضامن أال
يجري التالعب بنا أو االستيالء علينا من الخارج. وبالتايل، من خالل كبح الرغبة
الطبيعية يف الكشف عن املعلومات حول أنفسنا لكل شخص وأي شخص، فإن
الرغبة املعاكسة يف الخصوصية تضمن أن األفراد املوثوق بهم هم وحدهم الذين
ميكن لهم الوصول إىل ذاتك »الحقيقية« الرسيعة التأثر.
لكن التواصل عرب الشبكات االجتامعية يزيل هذه القيود، مام يسمح لألفراد
بالكشف عن معلومات أكرث من أي وقت مىض من خالل هذه الوسيلة. والتنازل
الناتج من ذلك الحق املكتسب القديم يف الخصوصية قد يعني أن اآلخرين سوف
يفكرون أقل يف ذاتك »الحقيقية« التي جرى كشفها اآلن. ولكن تخيل لو أصبح هذا
النمط من اإلفصاح الذايت والتغذية الراجعة املستمرة هو القاعدة. قد يصبح من
الصعب عىل نحو متزايد حامية »الذات الحقيقية«، مع كل ما تحتويه من نقاط
الضعف والفشل، من أن ُيعاد تشكيلها واستبدالها بذات مثالية بصورة مبالغ فيها،
كتلك املعروضة لجمهور مؤلف من مئات من »األصدقاء« و»املتابعني«. ما الذي
ميكنه، إذن، أن يحدث إذا ما بدأت هذه الشخصية التي جرى تلميعها افرتاضيا يف
استخراج ذاتك الحقيقية؟

131
الشبكات االجتماعية والهوية

ّ »عىل مدى السنوات العرش املقبلة، من املرجح
أن تتأثر هويات الناس بشكل كبري بفعل العديد
من ّ محفزات التغيري املهمة، ال سيام رسعة وترية
)1(. هذا
التطورات الحادثة يف مجال التكنولوجيا«
ما نصت عليه افتتاحية »الهويات املستقبلية«،
وهو تقرير جرى إعداده بتكليف من السري جون
بدينغتون Beddington، الذي كان يشغل حينئذ
منصب كبري املستشارين العلميني للحكومة
الربيطانية. كانت نقطة انطالقه هي أن »ظهور
االرتباطية الفائقة )حيث ميكن للناس اآلن أن
يكونوا متصلني باستمرار عرب اإلنرتنت(، وانتشار
وسائل اإلعالم االجتامعية، وزيادة املعلومات
الشخصية عرب اإلنرتنت هي من العوامل الرئيسة
التي ستتفاعل بحيث تؤثر يف الهويات«. هل ميثل
هذا مجرد إثارة للذعر من قبل شخصية رفيعة
املستوى، أم أنها مكاملة إيقاظ جادة وعاجلة؟
الشبكات االجتماعية والهوية

»لقد اتسم البرش دامئا بالغرور،
واألنانية، والقابلية للتفاخر، لكن
الشبكات االجتامعية توفر اآلن
الفرصة لالنغامس يف هذا السلوك
من دون انقطاع وعىل مدار الساعة«
10

132
ّ تغير العقل
لقد تطورت مواقع الشبكات االجتامعية من نسخة اإلنرتنت التي ظهرت يف
تسعينيات القرن العرشين، والتي كانت تقدم بالفعل كثريا من الطرق الجديدة
لالتصال والتواصل االجتامعي. يف ذلك الوقت، كانت االتصاالت الحاسوبية تسودها
املنتديات، واأللعاب املبكرة عرب اإلنرتنت، وغرف الدردشة، ولوحات اإلعالنات،
وهلم جرا، والتي كانت تضم جميعها إعدادا افرتاضيا يقيض بعدم الكشف عن
)2(. ميكن لألفراد الذين

الهوية؛ كان أمر التعريف الشخيص مرتوكا للمستخدم
سجلوا الدخول اختيار أي اسم يرغبون يف استخدامه كاسم مستعار، عىل سبيل
ُجريت عىل هذا النمط املبكر

املثال 9000Smith_John. أشارت البحوث التي أ
من التفاعل االجتامعي املتواسط بالحواسيب إىل أن إمكانية عدم الكشف عن
الهوية هذه كانت يف غاية األهمية: فهي تسمح لألفراد باكتشاف هوياتهم املكبوتة

.
)3(
ُ ومبعرفة مزيد عن أنفسهم، بطريقة يفرتض أنها آمنة إىل حد ما

ّز معظم الدراسات األولية حول العرض الذايت عىل اإلنرتنت عىل
وهكذا، فلم ترك
الهوية بقدر تركيزها عىل غيابها يف بيئات اإلنرتنت املجهولة الهوية أو التي ُيولج
إليها باسم مستعار. وجدت هذه الدراسات أن األفراد كانوا مييلون إىل االنخراط
يف لعب األدوار وانتهاج سلوكيات غري معتادة يف بيئة ميكن القول إنها صحية أكرث
)4(. ويف املقابل، ففي الوقت الحارض مل يعد إخفاء الهويــــة

من العامل الحقيقي
جــــزءا ال يتجزأ من التفاعل االجتامعي عرب اإلنرتنت. والسؤال املثري، إذن، هو ما
)5(، تكون
يحدث عندما تكون nonymous( أي غري مجهول الهوية( يف بيئة اإلنرتنت
الهويات الناتجة مختلفة للغاية.
َّعرفت باحثتا التكنولوجيا نيكول أليسون Ellison ودانا م. بويد boyd( التي
تفضل كتابة اسمها بأحرف صغرية( مواقع الشبكات االجتامعية السائدة اليوم بأنها
املواقع التي تتيح للمستخدم: )1( »إنشاء ملف عام أو شبه عام يف إطار نظام محدود«.
)2( »صياغة الئحة باملستخدمني اآلخرين الذين يشرتكون معهم يف االتصال«.
)3( »مشاهدة واملرور عىل قامئتهم الخاصة وتلك الخاصة بغريهم من املوجودين
)6(. ميثل الكشف عن املعلومات الشخصية اآلن جزءا من إعداد

ضمن النظام«

.)7(
امللف الشخيص للتواصل االجتامعي: يتطلب الفيسبوك اسام حقيقيا للمستخدم
ويف حني توجد دامئا وسائل للتغلب عىل هذا، يتمثل املغزى يف أن مواقع التواصل

133
الشبكات االجتماعية والهوية
ّ االجتامعي حولت التواصل عرب الحواسيب عن طريق ربطه بهويتك يف العامل
الحقيقي. وباإلضافة إىل ذلك، فإن نسبة كبرية من »أصدقاء« املستخدم هم أناس
يعرفهم أو التقى بهم يف الحياة الحقيقية. ميثل هذا تحوال هائال ومهام: قد أصبح
التفاعل االجتامعي عرب اإلنرتنت شخصيا عىل نحو محموم. وبالتايل فإن الهوية
هي القضية املركزية، وكذلك املفاهيم املتبدلة حول الهوية بالنسبة إىل مواقع
الشبكات االجتامعية.
لكنه ليس من الرضوري مشاركة الكيفية التي ترى بها نفسك مع اآلخرين.
إن ذاتك عىل اإلنرتنت، و»ذاتك الحقيقية« ليستا بالرضورة متامثلتني. ُطرحت
فكرة »الذات الحقيقية« ألول مرة منذ فرتة طويلة، وبالتحديد يف العام ،1951 من
قبل عامل النفس األمرييك املؤثر كارل روجرز Rogers، واملعروف عىل نطاق واسع
)8(. تستند نظريته عن الذات الحقيقية إىل

بأنه أحد اآلباء املؤسسني للعالج النفيس
ُ الخصائص املوجودة التي ال تحتاج بالرضورة إىل أن يعبرَّ عنها بشكل كامل يف الحياة
االجتامعية العادية، رمبا ألنه ال توجد بالرضورة مناسبات تكون فيها واضحة؛ وبدال
من ذلك، ُت َّصور عىل أنها ردود أفعال معينة يف حاالت افرتاضية. وبعد خمسني سنة،
شهد العرص الرقمي قيام جون بارغ Bargh وفريقه بوضع مفهوم »الذات الحقيقية
عىل اإلنرتنت« لإلشارة إىل ميل الفرد إىل التعبري عن جوانب الذات »الحقيقية« من
.)9(
خالل االتصال املجهول الهوية باإلنرتنت بدال من االتصاالت املبارشة وجها لوجه
تتمثل الفكرة هنا يف أن شبكة اإلنرتنت توفر لألفراد فرصة فريدة للتعبري عن الذات،
والتي تشجع الناس عىل الكشف عن ذواتهم الحقيقية، مبا يف ذلك الجوانب التي ال
ُيعبرَّ عنها بشكل مريح وجها لوجه. وبسبب هذا التأثري، ميكن النظر إىل التواصل عرب
ّ اإلنرتنت عىل أنه أكرث حميمية وشخصية من االتصال وجها لوجه. إن من يكونون
صداقات بهذه الطريقة من خالل مواقع الشبكات االجتامعية يكونون أقرب احتامال
لخلع أهمية عىل اإلفصاح الذايت، عىل أمل التعبري عن ذواتهم الحقيقية.
ووفقا لكاتلني ماكينا McKenna من جامعة نيويورك، فإن األشخاص الذين
يعتقدون أنهم أكرث قدرة عىل التعبري عن ذواتهم الحقيقية عىل اإلنرتنت هم
)10(. عالوة عىل

أقرب احتامال لتكوين عالقات وثيقة ظاهريا يف الفضاء اإللكرتوين
ذلك، يكون األشخاص الذين لديهم ميل قوي إىل التعبري عن ذواتهم الحقيقية

134
ّ تغير العقل
بهذه الطريقة يف عامل اإلنرتنت أقرب احتامال من غريهم الستخدام اإلنرتنت كبديل
)11(. ينطوي استخدام اإلنرتنت كبديل اجتامعي عىل إقامة عالقات جديدة
اجتامعي
مع الغرباء، وامتالك أصدقاء عرب اإلنرتنت فقط. وهؤالء األشخاص هم أقرب احتامال
الكتساب شغف وسوايس باألنشطة التي يقومون بها عىل اإلنرتنت.

ُجري عىل طالب الجامعات الستكشاف دوافعهم إىل استخدام
ويف مسح أ
الفيسبوك، كانت هناك نتيجة مثرية لالهتامم عىل وجه الخصوص، وهي أن األفراد
الذين ميتلكون نزعة قوية للكشف عن ذواتهم الحقيقية عىل اإلنرتنت ذكروا أنهم
يستخدمون الفيسبوك إلنشاء صداقات جديدة ولبدء أو إنهاء العالقات العاطفية
)12(. وبالتايل
بشكل أكرث من األفراد الذين هم أقل قلقا بشأن التعبري عن هويتهم
يبدو أن بعض، وإن مل يكن كل، استخدامات الفيسبوك كوسيلة للتعبري عن الذات
يسري جنبا إىل جنب مع كونه قناتهم الرئيسة للصداقة. وكذلك ترتبط الرغبة يف
)13(. ومرة
التعبري عن ذات املرء الحقيقية من خالل الفيسبوك باالستخدام املفرط له
أخرى، مثة مفارقة هنا: أن أشد الناس رغبة يف التعبري عن هويتهم »الحقيقية« هم
بالتحديد أولئك الذين يعتمدون بشدة أكرب عىل العالقات يف الفضاء اإللكرتوين.
وبالتايل فال يتعلق األمر بكون الفيسبوك جيدا أو سيئا بطبيعته، وإمنا بكيفية
استخدامه، وبالدور واألهمية التي يؤديها يف حياة املرء.
وخالفا ملا يحدث يف العامل الحقيقي، تكون هوية الفيسبوك ضمنية أكرث من
كونها رصيحة: ُيظهر املستخدمون مشاعرهم بدال من أن يقولوها، من خالل تأكيد ما
يحبونه وما يكرهونه بدال من التوّسع يف رسد سرية حياتهم، وإسرتاتيجياتهم والسبل
التي يستخدمونها للتعامل مع املشكالت وخيبات األمل، وجميع األمتعة األخرى للحياة
)14(. إن الشخص الذي ينرش صورة لكعكة الشوكوالتة من دون أي تفسري مرافق
الطبيعية
ذي مغزى يرتك األمر لجمهوره من »األصدقاء« الستنتاج ما يشاءون. يف عالقة واقعية،
قد متثل الكعكة ارتباطا ماديا بقصة أعمق وأكرث شخصية من ذلك بكثري: فقد ُتعيد إىل
األذهان ذكريات جميلة لرحلة مشرتكة أو الشعور باالنتصار الذي يأيت مع إتقان وصفة
جديدة. ولكن من دون ارتباطات مشرتكة - مثل التجارب أو املصالح الخاصة املشرتكة
- فسوف ال »تعني« الكعكة أي يشء. من املمكن أن ينطبق اليشء نفسه عىل الناس.
وباعتبارها واحدة من مستخدمي الفيسبوك، فقد وصفته طالبة تحدثت معها كالتايل:

135
الشبكات االجتماعية والهوية
عندما تتعرف يف الفيسبوك عىل أشخاص بالكاد التقيتهم، قد تعتقد
ألول وهلة أنك تعرفهم؛ ولكن يتضح أنك ال تعرف يف الحقيقة سوى األشياء
املصطنعة، كالفرق املوسيقية واألفالم التي يحبونها - فلن تعرف ردود
أفعالهم تجاه املواقف واألزمات بطريقة تكشف عن هويتهم »الحقيقية«
لآلخرين، وحتى ألنفسهم.
والسؤال األكرث إثارة لالهتامم، عىل أي حال، هو: هل ميكن لهذه الطريقة الجديدة
واملختلفة للتعبري عن ذاتك أن تعني يف الواقع أن ترى نفسك بشكل مختلف؟
وسواء كان امللف الشخيص للتواصل االجتامعي يعرب أو ال يعرب عن ذات »حقيقية«
مشوهة، أو يعرض شيئا أكرث قابلية للمقارنة بالذات الحقيقية، فليس هناك شك يف
أنه أيا ما كانت الهوية التي يرتاح الشخص أكرث للرتويج لها، فمن املرجح أن تكون
هي أفضل صيغة ممكنة. إن إزالة الوسم Untagging عن الصور غري الجذابة وحذف
املشاركات املؤسفة هام مجرد مثالني عىل ا ّ لتحكم املفصل يف أنواع املعلومات التي
ميكن رؤيتها من قبل الزمالء وأفراد العائلة واألصدقاء. ومام ال يثري الدهشة أن الظهور
بصورة جيدة يف الصور هو أهم عامل ُذكر من قبل املراهقني عند النظر يف أي صورة
)15(. وصف عامل االجتامع

تعريفية الختيار استخدامها عىل موقع التواصل االجتامعي
الكندي إرفنغ غوفامن Goffman كيف يكون البرش، بصفة عامة، دامئا يف حالة
تأهب لكيفية رد فعل اآلخرين تجاههم، مكيفني سلوكنا الخارجي باستمرار لضامن
)16(. تويف غوفامن يف العام ،1982 وبالتايل مل يعش

االحتفاظ بأفضل صورة ممكنة
ليك يرى ظهور الفيسبوك وتويرت. ومع ذلك فقد فهم كيف نتوق للرتويج لذواتنا يف
»املشهد األمامي«، يف حني أن الذات الحقيقية »وراء الكواليس« تنأى بنفسها بعيدا
برشاسة لضامن األداء األكرث إثارة لإلعجاب. وهذه هي الرغبات التي تلبيها اآلن مواقع
مثل الفيسبوك وتويرت بطريقة رائعة من خالل توفري أوسع جمهور عىل اإلطالق.
ومن خالل التكيف مع هذا االنقسام بني املشهد األمامي وما وراء الكواليس
لثقافة الفيسبوك، ميكننا التفكري يف »الهوية الشبكية« identity networked، وهو
مصطلح ابتدعته ألول مرة دانا بويد، والتي وصفته عىل النحو التايل:
عىل موقع ماي سبيس MySpace عىل سبيل املثال، عليك أن تكتب
ليك ُتظهر ذاتك إىل حيز الوجود: وبعبارة أخرى، عليك صياغة انطباع لذاتك

136
ّ تغير العقل
ُ يستطيع البقاء مبفرده. هل ميثل هذا أن تنهي كل يشء وأن تكون كل يشء
يف سبيل بناء شعورك بالذات؟ بالطبع ال. لكن سبل التعبري عىل اإلنرتنت

.
)17(
متثل ناتجا ثانويا ذا مغزى لتشكيل الهوية
ُت ُ ظهر األبحاث أن الهوية التي ت َّصور عىل الفيسبوك ليست هي الذات الحقيقية
غري املأهولة التي كانت ُتعرض سابقا يف البيئات الحاسوبية املجهولة الهوية وال
)18(. وبدال من ذلك،

التفاعالت الثالثية األبعاد املعروضة ذاتيا والتي تتم وجها لوجه
فهي ذات مشيدة عن عمد ومرغوبة اجتامعيا، يطمح إليها األفراد لكنهم مل يتمكنوا
)19(. ومام يثري الدهشة أن التواصل عرب الشبكات االجتامعية

حتى اآلن من تحقيقها
قد أدى اآلن إىل ثالث ذوات محتملة: الذات الحقيقية self true ُ ، التي يعبرَّ عنها يف
البيئات املجهولة الهوية من دون القيود التي تفرضها الضغوط االجتامعية؛ والذات
الفعلية self real، أي الفرد املتوافق املقيد باألعراف االجتامعية للتفاعالت التي تتم
وجها لوجه؛ والذات املحتملة self possible، التي تظهر ألول مرة، واملأمولة، التي

.
)20(
ُتعرض عىل مواقع الشبكات االجتامعية
ُ ولكن رمبا كان هذا يشبه تقسيم الشعرة. لقد اتضح أن هناك فارقا د بني الكيفية
التي يصنف بها أحد املراقبني شخصية صاحب صفحة عىل الفيسبوك استنادا إىل
)21(. وعىل الرغم من ذلك،

املواد املعروضة والسامت الفعلية ملالك صفحة الفيسبوك
فإن إمكانية إدارة الهوية عىل اإلنرتنت تسمح بالتشويه. ويتفق الباحثون عىل أنه
مثل املرآة ّ املشوهة، فمن املرجح أن متثل الذات عرب اإلنرتنت إصدارا مبالغا فيه من
الذات الفعلية. وهذه مبالغة ميكن أن تخرج عن نطاق السيطرة. ليس األمر أن مواقع
الشبكات االجتامعية زّودتنا بالفرصة األوىل من نوعها لتشويه هويتنا، وبالتايل عالقاتنا،
لكنها تزودنا اآلن بفرصة غري مسبوقة للقيام بذلك. إن إنشاء، وإدارة، والتفاعل من
خالل ملف عىل اإلنرتنت ميثل فرصة لإلعالن عن نفسك من دون ٍّ تحد من قيود الواقع،
بحيث تصبح نسخة مثالية منقحة من ذاتك »الفعلية«. وعىل الرغم من أن هذه الذات
املتوافرة عىل اإلنرتنت هي »اخرتاع ميثل، بالنسبة إىل معظم الناس، تقريبا مستمرا
)22(، يخىش اختصايص علم النفس الرسيري الري روزين

لعرض إحساسنا بالذات للعامل«
Rosen أن مثة فجوة خطرية قد تنمو بني هذا »املشهد األمامي« املثايل لذاتك وذاتك
الفعلية »وراء الكواليس«، مام يؤدي إىل شعور باالنفصال والعزلة.

137
الشبكات االجتماعية والهوية
ّق كثري
قد تتمثل إحدى النتائج املبارشة يف وسوسة مبالغ فيها بالذات، إذ عل
من الباحثني عىل الكيفية التي توفر بها مواقع الشبكات االجتامعية منصة مثالية
)23(. وبالنظر إىل مدى تحكم املرء فيام يعرض عنه عىل اإلنرتنت وعىل
للرنجسيني
نطاق الجمهور الذي ميكن الوصول إليه، فليس من املفاجئ أن تنشأ عالقة ثنائية
االتجاه. ميكن أن تزيد الشبكات االجتامعية بشكل واضح من مستويات الرنجسية.
ويف التحليل التلوي الذي ذكرناه يف وقت سابق، درست جان توينغ Twenge
وزمالؤها أكرث من أربعة عرش ألف طالب جامعي، من الذكور واإلناث، فوجدوا
أن الطالب يف القرن الحادي والعرشين سجلوا معدالت أعىل بكثري يف استبيانات
.)24(
عن الرنجسية باملقارنة مع من خضعوا لالستبيانات نفسها قبل عرشين عاما
عىل أي حال، فلم يصبح استخدام الفيسبوك واسع النطاق حتى بعد العام ،2006
ما يعني يف هذه الدراسة أن أي آثار مرتكزة إىل الشاشة عىل االنغامس يف األنا
يجب أن ُتنسب إىل األمناط السابقة من مواقع الشبكات االجتامعية. هذا صحيح،
لكن الفيسبوك ميكنه اآلن االستفادة من هذا امليل الحايل )والذي هو سبب آخر

.
)25(
لشعبيته(، وبالتايل تغذية اتجاه الهوس بالذات يف دورة مستدمية
إن هذه العالقة بني تصاعد الرنجسية والشبكات االجتامعية، عىل الرغم من
)26(، تبدو مرتبكة بفعل عدد من العوامل املختلفة، مثل عدد

كونها موثقة جيدا
األصدقاء، وتحديثات الحالة والصور، وأنواع التفاعالت مع املستخدمني اآلخرين.
تحتاج تلك الصلة إىل مزيد من التفكيك، إذ إنه من املمكن تفكيك الرنجسية نفسها.
لقد اتضح أن الرنجسية هي ظاهرة معقدة، والتي ميكن تقسيمها إىل مجموعة من
الخصائص: االفتضاحية exhibitionism ُ( التفاخر(، واالستحقاق )االعتقاد بأن املرء
يستحق األفضل(، واالستغاللية exploitativeness( استغالل اآلخرين(، والتفوق
)الشعور بكون املرء أفضل من غريه( والسلطة )الشعور بالزعامة(، واالكتفاء الذايت

.
)27(
)تثمني االستقاللية(، والغرور )تركيز املرء عىل مظهره(
ُتظهر البحوث أن البالغني الذين يسجلون معدالت أعىل من حيث التفوق
ميتلكون تفضيال للنرش عىل الفيسبوك. وبالنسبة إىل الجيل األصغر سنا من
الطالب، فإن النرش عىل موقع تويرت هو ما يقرتن بالتفوق، يف حني يرتبط النشاط
)28(. يف املقابل، وبالنسبة إىل البالغني، يستخدم

عىل الفيسبوك باالفتضاحية

138
ّ تغير العقل
الفيسبوك وتويرت كالهام أكرث من قبل من يركزون عىل مظهرهم الخاص، ولكن
ليس كوسيلة للتفاخر، كام هي الحال مع طالب الجامعات. تتسم هذه النتائج
املعقدة باألهمية، ألنها تكشف العدد الكبري من العوامل املكتنفة يف األنواع
املختلفة من التواصل عرب الشبكات االجتامعية ويف املجموعات الشديدة التباين
من األشخاص الذين هم جميعا مستخدمون. واألمر األكرث إثارة لالهتامم عىل
اإلطالق فيام يتعلق بتغيرّ العقل هو الفرق يف األجيال بني الطالب والبالغني، مام
يوحي بأن عمرا من التعرض املبكر لتأثريات الفيسبوك وتويرت ينتج عقلية ثقافية
تختلف عن تلك التي لدى األجيال السابقة.
لكن األمر الذي يبقى صحيحا عرب مختلف الفئات العمرية، وبغض النظر
عن الخصائص املعينة السائدة يف املجموعة، هو أن استخدام املتحمسني ملواقع
الشبكات االجتامعية مرتبط بقوة الرنجسية. وبطبيعة الحال، فقد اتسم البرش دامئا
بالغرور، واألنانية، والقابلية للتفاخر، لكن الشبكات االجتامعية توفر اآلن الفرصة
لالنغامس يف هذا السلوك من دون انقطاع وعىل مدار الساعة. ومن املثري لالهتامم

.
)29(
أنه ميكن أيضا ربط مثل هذا السلوك بتدين احرتام الذات
بالنسبة إىل األشخاص من أي عمر، والذين ميتلكون شبكة حالية من
الصداقات املبنية يف العامل الثاليث األبعاد، ميكن ملواقع الشبكات االجتامعية أن
متثل امتدادا سعيدا للتواصل، جنبا إىل جنب مع الربيد اإللكرتوين، أو سكايب،
أو املكاملات الهاتفية، عندما يتعذر اللقاء وجها لوجه. ويأيت الخطر عندما تكون
الهوية الزائفة مغرية وممكنة عىل حد سواء من خالل العالقات التي ال تستند إىل
تفاعل حقيقي، ثاليث األبعاد، و/أو عندما تكون أهم األشياء يف حياتك هي الحياة
الثانوية لآلخرين وليس التجارب الشخصية. قد يوحي العيش يف سياق الشاشة
مبعايري كاذبة حول أمناط الحياة املرغوبة، واملفعمة باألصدقاء والحفالت. ومع
متابعة البرش العاديني ألنشطة هؤالء األفراد الذهبيني، فسينخفض احرتام الذات
حتام؛ ومع ذلك فسيسود الهاجس الرنجيس املستمر بالذات وبأوجه القصور.
ميكننا أن نتصور دائرة مفرغة كلام زاد فيها تشويه هويتك نتيجة للتواصل عرب
الشبكات االجتامعية ازداد شعورك بالنقص، وتزايدت جاذبية وسط ال تحتاج فيه
إىل التواصل مع الناس وجها لوجه.

139
الشبكات االجتماعية والهوية
ينظر األفراد ذوو احرتام الذات املتدين إىل الفيسبوك باعتباره مكانا آمنا وجذابا
لإلفصاح الذايت، إذ إنهم ينفقون يف استخدام الفيسبوك كثريا من الوقت أو وقتا أطول
)30(. إن عاملا من

مام يقضيه األشخاص الذين ميتلكون مستويات أعىل من احرتام الذات
الصور املعدلة عىل اإلنرتنت قد يبدو كبيئة منخفضة املخاطر مثالية إلثراء العالقات
من خالل مشاركة أمور قد يستشعرون الحرج يف تبادلها بخالف ذلك. عىل أي حال،
مييل األفراد ذوو احرتام الذات املتدين إىل نرش التحديثات التي تربز خصائصهم السلبية
عىل حساب تلك اإليجابية، مقارنة بأولئك الذين يتمتعون باحرتام مرتفع للذات.
ونتيجة لذلك، يتم »اإلعجاب« بهم مبعدالت أقل من األشخاص الذين ميتلكون منظورا
)31(. عند سؤالهم عن أسباب إلغاء الناس صداقة unfriended

أعىل عن أنفسهم

)32(. ومن
اآلخرين عىل الفيسبوك، رشح 41 يف املائة تحديثات الحالة املزعجة كأسباب
املفارقات، إذن، أن االقتناع بأنه من اآلمن مبا فيه الكفاية ألن يكشفوا عن مشاعرهم
عىل الفيسبوك قد يشجع األشخاص ذوي احرتام الذات املتدين عىل الكشف عن األشياء
التي تؤدي إىل الرفض الذي يخشونه بالتحديد.
وعالوة عىل ذلك، فبالنظر إىل أن أغلبية »أصدقاء« مستخدم الفيسبوك ال يقضون
وقتا يف التفاعالت التي تجري وجها لوجه، فمن املرجح أن يكون االنطباع الذي يتولد لدى
كثري من »أصدقاء« الشخص الذي يشعر باحرتام ٍ متدن للذات سلبيا، مام يؤدي إىل مزيد
)33(. يف املقابل، فإن التعبري عن عدم األمان يف التفاعالت التي تجري وجها لوجه
من الرفض
يحدث عادة مع صديق مقرب وبطريقة تنطوي عىل الثقة والحميمية. ويف املقابل، ميكن
للمنصة الفريدة ملواقع الشبكات االجتامعية أن تدفع املستخدمني اآلخرين إىل إدراك
سلبية الغريب الذي يحمل احرتاما متدنيا للذات عىل أنها أمر بغيض. يخلق هذا وضعا
يصبح فيه االتصال عرب الفيسبوك هو السبيل الوحيد لتواصل العديد من »األصدقاء«، لكن
األشخاص ذوي احرتام الذات املتدين، والذين »يفرطون يف مشاركة األخبار« overshare
عىل الفيسبوك يسببون، ويا للسخرية، ردع اآلخرين عن التقرب منهم.

ويف حني ينظر كثريون إىل الفيسبوك كأداة غري مؤذية للحفاظ عىل الصداقات
القامئة، وجدت دراسة حديثة أن املستخدمني املتحمسني يعلقون كثريا من األهمية

عىل نوع ومقدار االهتامم الذي يتلقونه عىل صفحة الفيسبوك الخاصة بهم، وبالتايل

)34( ويتسم االستنتاج هنا بأنه محبط:

يشعرون بخيبة األمل

140
ّ تغير العقل
يبدو الفيسبوك أداة لتحويل كل من املعارف املقربني واآلخرين غري
املعروفني إىل جمهور للعروض الذاتية التي تتسم بالفردانية... قد ميثل
العرض الذايت الجامهريي عىل مواقع الشبكات االجتامعية واحدة من
الطرق التي يقوم بها الشبان اليوم بتفعيل القيم املتزايدة للحصول عىل
الشهرة واالهتامم... تؤدي تقنيات االتصال الجديدة إىل زيادة الرتكيز

.
)35(
الفردي عىل الذات
ُتظهر البيانات املستمدة من التقرير الذايت وتصنيف املراقبني أن األفراد أقرب
احتامال للتعبري عن املشاعر األكرث إيجابية، وألن يظهروا عافية عاطفية أفضل عىل
)36(. وعالوة عىل ذلك، فمن املمكن أن

الفيسبوك مام هم عليه يف الحياة الواقعية
يفتح الفيسبوك عاملا بديال يستطيع الفرد فيه الهروب من الواقع وأن يكون الشخص
الذي يود أن يكونه. وكذلك فنحن نتعرض للحياة »املثالية« ونحن نقرأ عن الناس
الذي يبدو أنهم ميتلكون كل يشء والذين يبتسمون دامئا. تزيد هذه الحياة، التي
تبدو رائعة، من الضغط الواقع علينا ليك نصبح مثاليني، ومثريين لإلعجاب، وناجحني:
وهو هدف يؤول مصريه حتام إىل الفشل. رمبا كان األمر أكرث من مجرد مصادفة
غريبة أن عدد األشخاص الذين يقولون إنه ليس هناك من ميكنهم مناقشة أمورهم
املهمة معهم عىل مدى السنوات العرشين املاضية، قد تضاعف مبعدل ثالث مرات
)37(. وباختصار، فإن ثقافة التواصل االجتامعي قد تؤهل املستخدمني المتالك
تقريبا
عقلية نرجسية، وهذا بدوره يفرض تدين احرتام الذات. ومن خالل االعتامد عىل
الفيسبوك لتلبية هذه الحاجة إىل االستحسان، فإن نظرة املستخدمني إىل أنفسـهم
ال تتضاءل بصورة مطردة فقط، لكنهم يتوقون أيضا باستامتة إىل أن يالحظ اآلخرون
وجودهم ويتفاعلوا معهم. وهذا بدوره يشجع عىل اكتساب هوية مبالغ فيها أو
مختلفة متاما: أي الذات املأمولة واملحتملة.
وعىل الرغم من أن هذا السيناريو قد يبدو بعيد املنال، فهذا هو بالضبط ما
قد يكون جاريا اآلن. أجرت كيدسكيب Kidscape، وهي مؤسسة خريية بريطانية
تساعد عىل منع ّ التنمر وتحمي األطفال، مسحا لتقييم حياة الشباب عىل اإلنرتنت
)38(. ومن بني ألفني وثالمثائة أو نحو ذلك

ُجري عرب اإلنرتنت

من خالل استبيان أ
من املشاركني الذين ترتاوح أعامرهم بني الحادية عرشة والثامنة عرشة، والذين

141
الشبكات االجتماعية والهوية
يعيشون يف إنجلرتا، وأسكتلندا، وويلز، قال واحد من كل اثنني إنه يكذب بشأن
بياناته الشخصية عىل اإلنرتنت. ومن بني هؤالء، فإن الواحد من بني مثانية شبان
يتحدثون مع الغرباء عىل اإلنرتنت هو األقرب احتامال لعدم قول الحقيقة، حيث
يكذب 60 يف املائة بشأن أعامرهم و40 يف املائة بشأن عالقاتهم الشخصية. ويشري
هذا إىل أن كثريا من الشباب يعتمدون هوية مختلفة عىل اإلنرتنت. وعىل الرغم من
ّط كذلك
أن هذا املسح بالذات كان معنيا بسالمة األطفال عىل اإلنرتنت، فقد سل
الضوء عىل حقيقة أن األطفال غالبا ما يخرتعون شخصية مختلفة عند تفاعلهم مع
اآلخرين، وخصوصا الغرباء، بطريقة لن يفعلوها أو ال ميكنهم تحقيقها يف العامل
الحقيقي. ووجدت الدراسة أن الشبان يبدأون يف تغيري هوياتهم والترصف بشكل
مختلف عىل اإلنرتنت عندما يبلغون من العمر أحد عرش عاما فقط؛ يبنون هويات
تسمح لهم بأن يكونوا أكرث وقاحة، وأكرث إثارة، وأكرث ميال إىل املغامرة؛ وينغمسون
عموما يف سلوكيات غري الئقة. وعىل أي حال، فإن العلم بأن الناس قد يشاهدون
مدخالتك ويحكمون عليك وفقا لها قد ّ يشجع الشباب عىل تعديل موادهم وأن
يكونوا واعني بالذات عىل نحو مفرط. قد يكون هذا االتجاه الجديد مجرد متعة
غري ضارة، لكنه قد ُينذر أيضا بظهور مجتمع تقوم فيه العالقات عىل صالت رسيعة
الزوال بني هويات وهمية.
يبدو أن مواقع الشبكات االجتامعية توّفر، وللمرة األوىل، نوعا من الذات
املثالية وغري الواقعية - عىل حد تعبري فتاة يف الحادية والعرشين من عمرها، أي مثة
شخصية بديلة ego alter - ويف الواقع، يتحدث الناس أحيانا عن شخصية منفصمة،
وهي الذات التي تظهر عرب اإلنرتنت يف مقابل الذات غري املتصلة باإلنرتنت، كام
لو كان الدكتور جيكل وهو يتحول من وقت إىل آخر إىل السيد هايد االفرتايض.
وبالنسبة إىل السيد هايد، ال توجد قيود عىل السلوك، وبالتايل تنفتح إمكانات
جديدة تتجاوز حدود »املتعة« التي ميكن للدكتور جيكل أن يحصل عليها ملجرد
أن يكون هو نفسه.
وبقدر ما يتعلق األمر بالدماغ، فمن املستحيل أن نفصل الهوية عن البيئة
والسياق، كام رأينا. ولذلك فمن املحتم أن تتشكل هوية الجيل القادم يف سياق
ثقافة افرتاضية متغلغلة ومتغرية باستمرار. إن البنية الحقيقية لحياتنا تعني أن

142
ّ تغير العقل
الصداقات يف العامل الحقيقي تواجه منافسة من تلك التي نبنيها عندما نتحول
إىل وسائل اإلعالم االجتامعي املريحة واملوجودة باستمرار. وبالنسبة إىل أولئك
الذين ليست لديهم عالقات ثابتة ومستقرة، فقد يكون لالنغامس املفرط يف
الصداقات االفرتاضية تأثري سلبي يف الهوية. واألمر األشد إثارة للقلق هنا هو
هيمنة عقلية »املشهد األمامي« للعيش يف املقام األول من أجل الحصول عىل
املوافقة واالستحسان يف عيون اآلخرين، حيث يجري تقييم كل ما قد تفعله من
حيث كونه جديرا بأن يظهر عىل الفيسبوك أو ال. هناك خطر يف أن ذوي العقول
الرسيعة التأثر والخربة القليلة نسبيا يف العامل الحقيقي قد يهتمون عىل نحو
مفرط بحياتهم االجتامعية ومن ثم يعرفون النجاح أو اإلنجاز من حيث عدد
أصدقائهم عىل الفيسبوك أو متابعيهم عىل تويرت.
حتى إن هناك اقرتاحا بأن التواصل عرب الشبكات االجتامعية يرسم خرائط
مبارشة عىل الدماغ املادي: ّ ادعى الربوفسور ريوتا كاناي Kanai من يونيفرسيتي
كوليدج يف لندن أن حجم الشبكة االجتامعية عىل اإلنرتنت للفرد يرتبط ارتباطا وثيقا
.)39(
بجوانب معينة من البنى الدماغية املادية املكتنفة يف االستعراف االجتامعي
وعىل وجه التحديد، وجد الفريق أن التباين يف عدد األصدقاء عىل الفيسبوك يتنبأ
بقوة وبشكل ملحوظ بحجم بنى معينة يف الدماغ. ووجد الباحثون أيضا أن كثافة
املادة الرمادية يف منطقة دماغية بعينها، هي اللوزة amygdala، ترتبط بحجم
الشبكة االجتامعية يف العامل الحقيقي، كام ترتبط أيضا بحجم الشبكة االجتامعية
للشخص املعني عىل اإلنرتنت.
َ ولكن بم ُ تخربنا يف الحقيقة هذه النتيجة التي تبدو علمية؟ هل ميكن أن
تكون الحال فعال أن التواصل عرب الشبكات االجتامعية ميكنه تغيري بنية الدماغ،
أو أن من ميتلكون بالفعل بنية دماغية معينة سيمتلكون شبكة اجتامعية أكرب
عىل اإلنرتنت؟ ال تكمن الصعوبة فيام تظهره الصور الشعاعية ذاتها، بل يف خطر
اإلفراط يف تأويلها. ومهام كان سحر هذه الدراسة، فإن صورة دماغية بسيطة ال
ُتخربنا مبا إذا كانت املنطقة النشطة تأثريا، أو أثرا جانبيا، أو حتى سببا للسلوك
املالَحظ. يتسم التصوير الشعاعي ملناطق الدماغ املختلفة بأنه ممتاز لوصف
العالقة بني الدماغ والسلوك، لكن هذا ال يعني أن تلك املنطقة هي مركز ذلك

143
الشبكات االجتماعية والهوية
السلوك. إن الضوء عىل مكواتك الكهربية ال يعني أنه مركز وظيفة املكواة؛ بل هو
مجرد الزمة، أو أثر ثانوي لعمل املكواة الكهربية.
ّر أن مناطق الدماغ ليست لها وظائف منفردة تنعكس يف صورة سلوكيات
تذك
محددة يف العامل الخارجي. وبغض النظر عن مناطق الدماغ األكرث بدائية، مثل
الخاليا املتخصصة التي تتحكم يف التنفس، تشارك املناطق األكرث تطورا من الدماغ
يف عديد من الوظائف املختلفة. ليس هناك مسؤول كبري أو تسلسل هرمي للقيادة.
فامذا يعني يف الواقع أن تظهر منطقة بعينها يف الدماغ أكرب نسبيا أو أكرث كثافة
يف الصورة الشعاعية؟ سوف يعتمد التفسري، وصحة هذا التفسري، إىل حد كبري عىل
مدى دقة النشاط الذي يجري الربط بينه وبني الصورة الشعاعية.
ّفكر مرة أخرى يف سائقي سيارات األجرة يف لندن وهم ميارسون ذاكرتهم
العاملة يف شوارع لندن، وكيف يتوافق ذلك مع التغريات الحادثة يف حجم مناطق
الدماغ املختلفة، كام ُتظهره الصورة الشعاعية. تتسم املهارات املكتنفة يف معرفة
أفضل الطرق للتجول عرب طرقات املدينة بأنها أكرث تحديدا وقابلية للتعريف بكثري،
وأقل غموضا، من تلك املكتنفة يف بناء الصداقات. ومرة أخرى، فإن عازيف البيانو
الصاعدين الذين يتخيلون أنهم يعزفون عىل البيانو كانوا اليزالون عىل الرغم من
ذلك يؤدون يف أذهانهم مجموعة محددة من الحركات، سواء حدث تقلص فعيل
للعضالت بعد ذلك بالفعل أو مل يحدث. تتسم شبكة الصداقة بأنها مفهوم أكرث
تجريدا بكثري، وبالتايل يصعب تحديدها عمليا.
عىل أي حال، ينبغي لنا أال نخلط صالح العلوم العصبية بطالح التفسريات
املفرطة التبسيط. وبدال من ذلك، دعونا نفكر يف الطرق املعقدة التي يستجيب
بها الدماغ املرهف واملرن للتواصل عرب الشبكات االجتامعية، من لحظة تفعيل
نبضة من الدوبامني بفعل استجابة ألحدث تغريدة وحتى التشكيل الطويل األجل
الرتباطية الخاليا الدماغية، األمر الذي سيؤدي يف نهاية املطاف إىل إعادة ترتيب
تستمر طوال الحياة للمشابك العصبية يف أدمغة أولئك الذين قد يعتربون يف نهاية
املطاف نرجسيني أو قلييل الثقة بالنفس.
ويف كتابها املعنون »مبفردنا معا« Together Alone، طرحت شريي توركل
Turkle حجة مقنعة للمناقشة التي تبدو متناقضة، والقائلة إنك كلام ازددت

144
ّ تغير العقل

)40(. فإذا كنت متصال باستمرار، فأنت نوع من السلع

اتصاال، ازداد شعورك بالعزلة
التي متكن مقارنتها باآلخرين وتوجد ناقصة. وقد وصف هذا السيناريو يف كتاب
أوليفر جيمس James املعنون Affluenza فيام يتعلق بالسلع املادية ومنط الحياة
املختل يف املجتمع الرأساميل: إذا كنت تعتقد أن عليك أن تكون أكرث جامال وأكرث ثراء
من الشخص الذي يليك من أجل أن تكون لك الحظوة، وإذا نظرت إىل األشخاص
اآلخرين كسلع لتعزيز أهميتك املتصورة أكرث فأكرث، فلن تتمكن من امتالك نوع
)41(. ُيختزل كل شخص إىل سلسلة من

العالقة اإلنسانية الرضوري للشعور بالعافية
عالمات االختيار يف مربعات، مع عدم وجود قيمة مستقلة عىل الرغم من كونه يف
حالة مستمرة من املقارنة. إن هاتني الخاصيتني املتعلقتني باالرتباطية واملقارنة هام
ّ بالتحديد ما يعرف جوهر التواصل عرب الشبكات االجتامعية.
توفر مواقع التواصل االجتامعي منصة غري مسبوقة للمقارنة االجتامعية
ُجريت يف العام 2013 بشأن العالقة بني الحسد والرضا عن

)42(. وجدت دراسة أ
والحسد
الحياة، واستخدام الفيسبوك أن الفيسبوك قد سبب أكرث من 20 يف املائة من جميع
الحوادث املبلغ عنها للحسد أو الغرية. وألنه ناتج يف املقام األول من مقارنة الذات
بالحياة االجتامعية لآلخرين أو اإلجازات التي يقضونها، فقد أدى هذا الحسد بالتايل
إىل تقليل معدالت الرضا عن الحياة. وعىل أي حال، فباعتبار أن األبحاث السابقة قد
أشارت إىل أن معظم األفراد ميثلون حالة مبالغا فيها أو مزورة من الرضا، فقد تكون
النتيجة هي حلقة مفرغة من متثيل سعادة مبالغ فيها، والشعور بالغرية من سعادة
اآلخرين، والشعور الالحق بالحاجة إىل زيادة املستويات املصورة لعافية املرء نفسه.
إن سباق التسلح الدوري هذا، واملدفوع باآلليات الدماغية األساسية لإلدمان
واملكافأة، هو أبعد ما يكون عن الهوية ورسد قصة الحياة التي منحتنا حتى اآلن
هدفنا، والتي تفرض سياقا معرفيا تفصيليا يتطور خالل جميع مراحل الحياة. لكن
ذلك ال يعني أن الحسد والتعاسة، وهام جزءان من بنيتنا املعرفية، ال يتفاعالن مع
اإلدمان البيولوجي لدورة الدوبامني. فهام مجربان عىل ذلك. وإذا كان األمر كذلك،
وعىل الرغم من أن ذلك قد يبدو مفارقة، فهل أصبحنا مدمنني عىل نحو غريب عىل
إجراء مقارنات مستمرة مع اآلخرين، حتى لو كانت تلك تجعلنا تعساء يف نهاية
املطاف؟ رمبا أن التعاسة، وهي ذلك الشعور املسطح واملتخاذل بخيبة األمل، تحدث

145
الشبكات االجتماعية والهوية
ببساطة ألنك مل تفز هذه املرة، وبالتايل عليك أن تحاول مرة أخرى؛ أدر العجلة أو
ّ لف الرند مرة أخرى فقد يحالفك الحظ يف املرة القادمة وُتبهر الجميع. وإذا كان
بوسعك فعل ذلك، فسيعني هذا أنك »عرصي« Cool.
ّ ما الذي يعرف، إذن، »العرصنة« عىل مواقع الشبكات االجتامعية؟ يف املايض،
كانت مكانتك تتضح من ساعتك، وسيارتك، وإنجازاتك. أما اآلن، فال تقاس مكانة
املواطن الرقمي مبمتلكاته أو وظيفته املرموقة، ولكن باملدى الذي ميكن أن
تصل إليه »شهرته« )مهام كان تعريفها فضفاضا(. ومن املثري لالهتامم أنه قد
جرت اآلن دقرطة »العرصنة«. مل تعد الرثوة، ونوع الجنس، والسن وثيقة الصلة.
ومل تعد هناك حاجة إىل تحقيق اإلنجازات. فاملهم هو التواصل البسيط عرب
الشبكات. إن من يقررون االحتفاظ بأصدقائهم املقربني فقط عىل صفحتهم
عىل الفيسبوك قد يخرسون بطريقة أخرى، حيث ُينظر إىل عدد أصدقاء املرء
)43(، )يف حال
عىل الفيسبوك باعتباره مرتبطا بجاذبية املرء الجسدية واالجتامعية
كنت بحاجة إىل التطمني، فقد وجد أن العدد األمثل من األصدقاء فيام يتعلق

.
)44(
بالجاذبية االجتامعية هو 302(
وبالنسبة إىل من يسعون إىل وسيلة رسيعة وغري مؤملة ملكافحة تدين احرتام الذات
وتعزيز الشعور بالذات، قد يكمن الحل يف رشكة يقع مقرها يف سان فرانسيسكو،
واسمها كالوت Klout؛ وهي توفر تحليالت لوسائل التواصل االجتامعي لقياس تأثري
مستخدم بعينه عرب شبكته االجتامعية الخاصة. ويأخذ التحليل البيانات املستمدة
من مواقع مثل تويرت وفيسبوك لقياس حجم شبكة هذا الشخص، واملحتويات التي
أنشأها، وكيفية تفاعل األشخاص اآلخرين مع هذا املحتوى. والنتيجة هي محصلة

.
)45(
كالوت score Klout التي تعكس تأثريك عىل اإلنرتنت
ويف حال فكرت يف أن محصلة كالوت ستكون غري معتد بها عندما يتعلق
األمر بالعامل الحقيقي السائد، تأمل التعليق املزعج التايل، واملستقى من مقال
نرش أخريا: »بالطريقة نفسها التي تستخدم بها عالمات اختبار الكفاءة الدراسية
SAT يف الحكم عىل الطالب، وتستخدم درجة االئتامن للحكم عىل الوضع املايل،
يأمل جو فرنانديز Fernandez[ مؤسس كالوت[ يف أن تصبح محصلة كالوت
)46(. ومبا أنه مؤسس الرشكة،

أحد »املكونات« املستخدمة يف مقابالت العمل«

146
ّ تغير العقل
فقد تكون توقعاته متحيزة قليال ومتحمسة أكرث من الالزم. وعىل أي حال، فإن
كالوت تجعلني أشعر باالضطراب. أوال، ووفقا لرشكة كالوت، يستند التأثري كليا
إىل األنشطة ّ املنفذة عىل مواقع الشبكات االجتامعية؛ ثانيا، إن كم وليس نوعية
رسائلك هو ما يجري تقييمه؛ ثالثا، تزودك االستجابات التي تولدها بفرصة
الستخدام »تأثريك« يف جذب االنتباه إىل العالمات التجارية املختلفة. قد يحصل
األشخاص عىل »جوائز كالوت« - يف صورة منتجات مجانية أو خصومات - بناء
عىل تأثريهم يف اإلنرتنت. وعىل الرغم من أن كالوت تنفي أنه سيفرض عليك
أي التزام للحديث عن املنتج، فإن إمكان الحصول عىل جوائز مثل الحواسيب
املحمولة وتذاكر الطريان املجانية حتى لو مل تكن لديك محصلة كالوت مرتفعة
تعني أن صداقاتك صارت مساحات إعالنية. كام أن حقيقة أن األهمية تقاس
عرب الشبكات االجتامعية، وأنها تتوقف عىل مدى االهتامم الذي تجذبه، وأن
هذا االهتامم ميكن مكافأته، من غري املرجح أن تربز أفضل ما يف أي شخص. أي
نوع من الدروس تتعلمه عن العالقات؟ وعن كيف ترى نفسك بالفعل؟
بالنسبة إىل بعض من ميتلكون خربة قوية يف العالقات الحقيقية يف واقع
الحياة، فإن قضاء الوقت يف تحديث مواقع الشبكات االجتامعية والتواصل
مع األصدقاء قد ّ يحسن الشعور بالعافية، متاما كام قد تفعل الرثثرة الجيدة
عرب الهاتف، لكن هناك خطرا من أنه ميكن اآلن تحقيق »العافية« مبجرد
أن تكون »مشهورا« بني مستخدمي فيسبوك اآلخرين أو عن طريق امتالك
محصلة كالوت عالية. ويف حني أنه من الواضح أن الشعور بالعافية عىل املدى
القصري هو أمر جيد، فإذا بدأت يف التشكك عىل املدى الطويل يف هذا السبب
السطحي للشعور بالسعادة باعتباره محصلة كالوت عالية، فقد تبدأ يف الشعور
بأن هناك شيئا مازال مفقودا من حياتك، مثل الشعور بالرضا الذي ُيكتسب
عادة من العمل الشاق، أو من ٍ تحد يتم يف واقع الحياة، أو إنجاز ريايض، أو
امتالك مهارات إبداعية. عىل أي حال، إذا أردت أخذ األمور إىل أقىص حدودها،
ّ تدبر السؤال التايل: كيف سيشعر أي منا إذا عاش يف مجتمع مستقبيل تتمثل
غايته النهائية يف تحقيق شعور بالرضا بفعل العدد املحض من األشخاص الذين
يالحظون وجودك يف الفضاء اإللكرتوين؟

147
الشبكات االجتماعية والهوية
اعرتفت يل صديقة من العامل الحقيقي قائلة: »لقد حذفت الفيسبوك، ألنه
أعاد ّ إيل شعور املدرسة الثانوية نفسه مرة أخرى، حيث كل فتاة هي أكرث شعبية
وجامال منك«. يف حني قد يكون بعض األفراد عىل استعداد لكرس هذه الحلقة من
السعادة الكاذبة متاما، فهم يظلون ميثلون األقلية الساحقة. ويف العام ،2011 حذف
.)47(
100 ألف من مستخدمي الفيسبوك يف اململكة املتحدة ملفاتهم الشخصية
ُجريت عىل من أقلعوا عن استخدام الفيسبوك، كان السبب الرئيس
ويف دراسة أ
الذي ذكروه هو املخاوف املتعلقة بالخصوصية. كان األفراد ذوو املعدالت املرتفعة
الستخدام اإلنرتنت أقرب احتامال إللغاء حساباتهم عىل الفيسبوك، مام يشري إىل
)48(. إن الحقيقة

أنهم قد يشعرون بالقلق إزاء التواصل عرب الشبكات االجتامعية
ذاتها املتمثلة يف تسمية هذا اإلقالع بـ »انتحار الهوية االفرتاضية« من قبل باحثي
الشبكات االجتامعية تشري إىل األهمية التي يخلعها البعض اليوم عىل ملفهم
الشخيص عىل الفيسبوك.
عندما كنا ندرس علم أعصاب الهوية، اقرتحت أنه ينطوي عىل تفاعل العقل
املرّتب بعناية والفريد من نوعه مع عدد كبري من السياقات الخارجية اللحظية عىل
مر الزمن. وتكتسب هذه السياقات وهذا التفاعل أهمية بالغة يف تحديد من أنت
وكيف ترى نفسك. وحتى اآلن، كان العقل البالغ نتاجا لحوار بني البيئة والذات،
ويسمح هذا الحوار بالتوقف، والتأمل الذايت، والتطور البطيء ولكن املؤكد لرسد
داخيل قوي. يف املقابل، فإن البيئة املستمرة التي يتحقق العيش فيها عىل مواقع
التواصل االجتامعي تقدم النقيض متاما: وهو السيناريو الذي يزيح الشعور الداخيل
القوي بالهوية ملصلحة شعور موّجه يتشكل من الخارج. وألن هذه الهوية ستكون
معتمدة بشدة عىل استجابات اآلخرين، فمن شأنها أن توجز انعدام األمن وهشاشة
إحساس الطفل بالذات، والذي يتسم بأنه غري متوازن واليزال ناشئا.
وحتى اآلن، فقد ُرِّجحت كفة الحوار املستمر بني الفرد والبيئة ملصلحة قصة
الحياة الداخلية والشخصية والتعليق الداخيل الذي، كام اقرتحت، يرقى إىل ما نطلق
عليه اسم الهوية. وكام رأينا من فورنا، فإن املحرك األسايس ملشاركة هذا الرسد
مع أشخاص آخرين ّ تعوضه القيود البيولوجية للتفاعل وجها لوجه، حيث تتشكل
الصداقات تدريجيا وبطريقة انتقائية للغاية. عىل أي حال، فإن وسائل التواصل

148
ّ تغير العقل
ّ االجتامعي تزيل هذه االحتياطات التطورية وتضغط عىل معج ّ ل اإلفصاح غري املقيد
عن الذات يف سياق تغيب فيه املكابح املعتادة التي تفرضها ردود الفعل العادية
للتعامل بني األشخاص. وبالتايل، فبدال من دائرة صغرية من األصدقاء، يجري اآلن
اإلعالن عن الذات لجمهور مؤلف من املئات، ومثل كل الفعاليات العامة، فذلك
يخضع لتمحيص وتعليقات ال نهاية لها. كيف سيكون أداء هذه الهوية املرتكزة إىل
الذات بصورة مفرطة، والهشة يف الوقت نفسه، يف التواصل والعالقات بني األشخاص؟

149
التواصل عرب الشبكات االجتماعية والعالقات

حتى يف اليونان القدمية، جرى االعرتاف
بتفوق أهمية التفاعل وجها لوجه عىل مجرد
كلامت مسطورة عىل صفحة. وقد حذر سقراط
قائال: »كل كلمة، مبجرد كتابتها، ستنترش يف
األنحاء، بني أولئك الذين يفهمونها وأولئك
)1(. ويف
الذين ال يهتمون بها عىل حد سواء«
الوقت الحارض، توّفر الشاشة فرصة للتخيل عن
التفاعل بني األشخاص عىل نطاق غري مسبوق،
ومع ذلك التخيل يأيت اختزال شامل لخطر
اإلحراج ومشاعر االنزعاج التي ينطوي عليها
التفاعل االجتامعي. ال ميكن ألحد أن يراك أحمر
الخدين، وسامع صوتك وهو يحتد، أو يشعر
بكفيك الرطبتني. ولكن من ناحية أخرى، لن
ميكنك التقاط تلك التلميحات البالغة األهمية
للتعرف عىل رد الفعل املحتمل للشخص اآلخر.
التواص��ل ع�بر الش��بكات
االجتماعية والعالقات

»إن غياب الفرصة عىل اإلنرتنت
للتدريب عىل املهارات االجتامعية
قد ينبئ كذلك بحدوث انخفاض
يف العالقات العميقة وذات املغزى«
11

150
ّ تغير العقل
يف العام ،2012 نرشت الوكالة الربيطانية للرقابة عىل االتصاالت، أوفكوم
Ofcom، تقريرها السنوي التاسع حول سوق االتصاالت. كان مدير البحوث يف
أوفكوم، جيمس ثيكيت Thickett، يدرك متام اإلدراك أهمية الرتاجع الذي وجده
تقرير ذلك العام يف عدد مكاملات الهواتف املحمولة، الذي انخفض بنسبة 1 يف
املائة، ويف عدد مكاملات الهواتف الثابتة، التي انخفضت بنسبة 10 يف املائة. وعلق
عىل األمر بقوله:
يف غضون سنوات قليلة، قد تؤدي التقنيات الحديثة إىل إحداث
تغري جذري يف الطريقة التي نتواصل بها. إن التحدث وجها لوجه أو عرب
الهواتف مل يعد الطريقة األكرث شيوعا لتفاعلنا بعضنا مع بعض. وبدال
من ذلك، تظهر أشكال أحدث من االتصاالت، والتي ال تتطلب منا أن
يتحدث بعضنا إىل بعض، وخاصة بني الفئات العمرية األصغر سنا. ومن
املقرر أن يستمر هذا االتجاه مع تقدم التكنولوجيا، ونحن منيض قدما

.
)2(
إىل العرص الرقمي

.)3(
ذكرت أوفكوم أن الشخص العادي يرسل اآلن خمسني رسالة نصية أسبوعيا
كانت نسبة مذهلة بلغت 96 يف املائة من الشبان الذين ترتاوح أعامرهم بني
السادسة عرشة والرابعة والعرشين تستخدم وسائل االتصاالت عرب الرسائل الفورية
)غري الشفهية( - الربيد اإللكرتوين، أو رسالة نصية، أو شبكات التواصل االجتامعي-
بصورة يومية للتواصل مع األهل واألصدقاء. ويف الوقت نفسه، فقد صار التواصل
اللفظي عرب الهاتف أو شخصيا أقل رواجا يف املقابل، حيث صار 63 يف املائة فقط

.
)4(
يتحدثون وجها لوجه مع األصدقاء أو العائلة يوميا
وعىل رغم أن املواطنني الرقميني قد يفضلون التواصل غري الشفهي من خالل
الرسائل النصية أو اإلنرتنت، فقد اتضح أن نوع الدعم العاطفي الذي ميكن أن تقدمه
هذه األشكال من االتصاالت ٍ متدن للغاية. طرح باحثون يف جامعة ويسكونسن-
ماديسون السؤال التايل: هل ميكن للمحتوى وحده يف محادثة داعمة عاطفيا بني
أحد الوالدين وابنه املراهق أن ينقل الطأمنينة، أم هل ميكن لنربة الصوت أو الوجود
)5(. ويف تلك التجربة، نفذ املراهقون

الفعيل للوالد أو كليهام أن يؤديا دورا أيضا؟
مهمة مرهقة، وجرى تطمينهم الحقا من قبل والديهم عرب الهاتف، أو شخصيا،

151
التواصل عرب الشبكات االجتماعية والعالقات
ِ أو عرب الرسائل الفورية، أو مل يجر االتصال بهم من قبل الوالدين عىل اإلطالق.
وبعد ذلك، قيست املستويات اللعابية من الكورتيزول cortisol( وهو مؤرش عىل
التوتر واإلجهاد( واألوكسيتوسني oxytocin( وهو مؤرش عىل األلفة والعافية(. أفرز
املراهقون الذين تحدثوا مع والديهم عرب الهاتف أو شخصيا كميات مامثلة من
األوكسيتوسني وأظهروا مستويات منخفضة عىل نحو مامثل من الكورتيزول، مام
يدل عىل حدوث انخفاض يف التوتر. ويف املقابل، يف حالة املراهقني الذي تلقوا
رسالة فورية، مل ُيفرز األوكسيتوسني عىل اإلطالق، وكانت املستويات اللعابية
للكورتيزول مرتفعة بالقدر نفسه الذي كانت عليه لدى َمن مل يتفاعلوا مع والديهم
عىل اإلطالق. وهكذا، يف حني قد يفضل الجيل األصغر سنا استخدام الوسائل غري
الشفوية للتواصل، عندما يتعلق األمر بتوفري الدعم العاطفي، تبدو الرسائل مامثلة
لعدم التحدث إىل أي شخص عىل اإلطالق.
مل يحدث تجريبيا حتى اآلن إثبات مدى كون هذه الزيادة يف التواصل عرب
اإلنرتنت ليست مجرد َعَرض، بل سبب يؤثر يف قدرة الشباب عىل التواصل االجتامعي
والتعاطف يف املحادثات التي تحدث وجها لوجه. قد يكون هذا الرتدد يف إجراء
التواصل البرشي مع شخص ما، وبخاصة الغرباء، ناتجا من الخوف من، أو ببساطة
عدم وجود خربة يف، هذا النوع األسايس بشكل بالغ من املواهب البرشية. وعىل أي
حال، فليس من بني هذين البديلني ما يبرش بالخري بالنسبة إىل املجتمع. ّ تخيل أنك
مل تحصل عىل كثري من التدريب عىل التواصل وجها لوجه، ألنك رشعت منذ سن
مبكرة يف التفاعل مع اآلخرين من خالل الشاشة يف معظم األحيان. وبدال من لغة
الجسد ونربة الصوت، والتواصل املادي، فإن الوسيلة السائدة للتعبري هي الكلامت.
وليس من املستغرب أن يشكو كثري من الناس من أنهم قد أيسء تفسريهم عندما
يتحدثون عرب وسائل التواصل االجتامعي. مهام كان قدر مناقشتك لعواطفك، فإن
الترصيحات ال ميكنها أن ترقى إىل تعبريات الوجه الحقيقية مطلقا.
واألمر األكرث إخافة هنا هو فكرة أنه ميكن تدمري التواصل الحقيقي غري اللفظي
بفعل الكون السيرباين املوازي الذي مل يتم فيه التدريب مبا فيه الكفاية عىل مهارات
التفاعل بني األشخاص. وإذا مل يتم ّ التمرن عليها، فمن غري املحتمل أن تنطوي عىل
أي خري. ولذلك رمبا كان كثري من األشخاص األصغر سنا، الذين ترعرعوا يف ظل

152
ّ تغير العقل
الخيار األكرث أمانا للتواصل عرب اإلنرتنت، يفضلون عدم املجازفة بنظر أحد يف أعينهم
مبارشة، أو معانقتهم، أو التعرض الحتامل أن يثري صوتهم صدى ما. ويف املقابل، فقد
يعني هذا أن العالقات عرب اإلنرتنت هي يف الواقع مختلفة متاما عن تلك الحقيقية.
وقد وجدت الخاطبة املهنية أليسون غرين أنها تواجه مشكالت فريدة من نوعها
عند التعامل مع املواطنني الرقميني: يبدو أنهم يجدون صعوبة كبرية يف التواصل
وجها لوجه، وحولوا تطوير عالقات عاطفية بحيث تتم عرب اإلنرتنت، مع تفضيل
األزواج لتعرف بعضهم عىل بعض ألول مرة من خالل املسافة والسالمة التي توفرها

.
)6(
لهم هواتفهم الذكية
والسؤال املهم هنا هو ما إذا كان هذا االتجاه موضع ترحيب أم ال. أشارت شريي
)7(. ولكن
تاركل إىل أن الفيسبوك مينح »وهم الرفقة من دون متطلبات الصداقة«
يف مراجعة حديثة نسبيا، خلص بول هوارد-جونز Jones-Howard إىل أن شبكة
)8(. ومن
اإلنرتنت، يف مطلق األمر، »ميكنها أن تفيد احرتام الذات والرتابط االجتامعي«
خالل التوصل إىل استنتاج مامثل، أجرت مويرا بورك Burke من جامعة كارنيغي
ميلون استطالعا شمل أكرث من ألف من مستخدمي الفيسبوك البالغني الناطقني
باإلنجليزية ملدة شهرين يف جميع أنحاء العامل، والذين جرى إرشاكهم من خالل أحد
)9(. أظهرت النتائج أن الفيسبوك يزيد من الرتابط ويقلل الشعور بالوحدة
اإلعالنات
من خالل التواصل املبارش. ولكن، بشكل الفت للنظر، فباعتبار أن املستخدمني

يستهلكون األخبار بشكل سلبي فقد شعروا بأنهم أقل قدرة عىل الوصول إىل
ّدها اآلخرون. واألهم من ذلك كله، فقد كان الشعور


األفكار الجديدة التي يول
بالوحدة متناسبا مع كمية املحتوى الذي استهلكوه. تسلط هذه النتائج الضوء عىل
الفرق الجوهري املحتمل بني الدعم النشط للصداقات القامئة واالستهالك السلبي
لألخبار االجتامعية لآلخرين. يبدو أن النتائج اإليجابية للعالقات التي تحدث عرب
مواقع التواصل االجتامعي ال تنطبق إال عىل من يتواصلون مع األصدقاء الحاليني.
وقد اتضح أن استخدام شبكة اإلنرتنت إلنشاء صداقات جديدة له نتيجة شديدة
االختالف يف الواقع. كشفت دراسة طويلة األجل عن العالقة بني استخدام املراهقني
واملراهقات للحاسوب وبني أصدقائهم ونوعية الصداقة عن أن استخدام اإلنرتنت

.
)10(
إلنشاء صداقات جديدة يرتبط اآلن مبستويات أدىن من العافية

153
التواصل عرب الشبكات االجتماعية والعالقات
وعىل املنوال نفسه، فمن خالل البيانات املستمدة من عينة من األطفال يف
مقتبل املراهقة preadolescents واملراهقني، وجد الباحثون أن التواصل عرب
)11(. مل تكن هناك مفاجآت

اإلنرتنت يرتبط بشكل إيجايب مبدى حميمية الصداقات
يف ذلك. وعىل أي حال، فلم ينطبق هذا التأثري سوى عىل املستجيبني الذين
يتواصلون عرب اإلنرتنت يف املقام األول مع أصدقائهم املوجودين بالفعل، وليس
عىل أولئك الذين يتواصلون غالبا مع الغرباء. كان املستجيبون الذين يشعرون
بالقلق االجتامعي هم من ينظرون إىل اإلنرتنت عىل أنه أكرث قيمة يف اإلفصاح
الذايت الحميم، كام أدى هذا التصور بدوره إىل مزيد من التواصل عرب اإلنرتنت.
ولذلك يبدو أن العالقة االجتامعية الحميمة يف العامل الحقيقي والعالقة الحميمة
.
)12(
عرب الفيسبوك هام مختلفتان متاما - فهناك فرق أثبته استبيان حديث
وهذا الفصل الحاسم بني عدد األصدقاء االفرتاضيني وعدد األصدقاء الوجدانيني
من واقع الحياة ينطبق كذلك عىل األجيال األكرب سنا. ويف هذه املرة، فحصت
دراسة العالقات بني استخدام وسائل التواصل االجتامعي )الرسائل الفورية ومواقع
الشبكات االجتامعية(، وحجم الشبكة، والتقارب العاطفي لدى مجموعة من
)13(. رمبا مل يكن من

األفراد الذين ترتاوح أعامرهم بني الثامنة عرشة والثالثة والستني
املستغرب أن الوقت الذي ُيقىض يف استخدام وسائل التواصل االجتامعي وجد أنه
يرتبط بامتالك عدد أكرب من »أصدقاء« الشبكات االجتامعية عىل اإلنرتنت، لكن
ُمل يرَبط بينه وبني الشبكات األكرب خارج نطاق اإلنرتنت أو مع الشعور بالقرب
العاطفي ألعضاء الشبكة الحقيقية خارج اإلنرتنت. وبالتايل، وبصورة عامة، كيف
ميكن أن يختلف التواصل االجتامعي عرب اإلنرتنت بصورة جوهرية عن ذلك الذي
يحدث يف العامل الحقيقي؟ قد يكمن أحد الفروق يف اكتساب مهارات التواصل مع
اآلخرين، وبالتايل يف التعاطف.
إن القدرة عىل االهتامم باآلخرين وتبادل تجاربهم العاطفية هي ما مييز البرش
)14(. وقد وجدت

بشكل واضح عن معظم ما دونهم من أفراد اململكة الحيوانية
الدراسات أنه حتى الرضع والدارجون toddlers يظهرون سلوكا تعاطفيا. وأظهرت
إحدى الدراسات التي أجريت عىل الرضع البالغني من العمر أربعا وثالثني ساعة أنه
حتى األطفال الحديثو الوالدة يبكون عند سامع صوت رصاخ وليد آخر، وأن البكاء

154
ّ تغير العقل
ميثل استجابة للخصائص الصوتية لرصخة اآلخر. وقد بىك الرضع الذين تعرضوا لبكاء
غريهم من األطفال حديثي الوالدة بوترية أكرب من أولئك الذين تعرضوا للصمت،
.
)15(
أو من أولئك الذين تعرضوا لرصخة وليد اصطناعية بالحدة نفسها
وعىل أي حال، فالتعاطف الكامل االزدهار ليس مضمونا بالرضورة كجزء من
حقوقنا املكتسبة بالوالدة. سيكون من الصعب أن نتخيل أن تكون سمة معقدة مثل
التعاطف ناتجة بالكامل من بنيتنا الجينية. وعىل سبيل املثال، عىل رغم أن أبحاث
آرييل نافو Knafo وفريقه يف الجامعة العربية يف القدس أشارت إىل وجود مساهمة
وراثية كبرية - ففي الواقع وجود مجموعة من الجينات سيكون رضوريا حتام
لتحقيق الصفات املعرفية املتنوعة للدماغ البرشي الصحي- فإن القدرة الفعلية عىل
)16(. وبالتايل
التعاطف مع اآلخرين تظل تتطور حتى نبلغ العرشينيات من أعامرنا
فهناك متسع من الوقت ألن تؤدي البيئة وتجربة العالقات دورا مهام يف تحديد
قدرتنا عىل التعاطف.
لقد تسلل مصطلح »الذكاء العاطفي« intelligence emotional بشكل متزايد
إىل اللغة اليومية لتعريف »القدرة، والقابلية، واملهارة، أو القدرة املتصورة ذاتيا
.)17(
لتحديد، وتقييم، وإدارة العواطف الخاصة بالذات، وباآلخرين، والجامعات«
ميثل كون الذكاء العاطفي جزءا من الذكاء األكرث عمومية أو مختلفا عنه مسألة
مثرية لالهتامم- لكنها ليست أولويتنا هنا. يكفي أن نقول إنه إذا كان يشء، مثل
الذكاء نفسه، يختلف من شخص إىل آخر، فإن الذكاء العاطفي ال ميكن أن يكون
خاصية تتحدد مالمحها عند الوالدة. وكام ذكرنا يف الفصل الرابع، فقد أشار مسح
ُجري عىل أربعة عرش ألف طالب وطالبة يدرسون يف الجامعات األمريكية إىل أن
أ

)18(. يف حني أن هذا املسح، مثل جميع

مستويات التعاطف رمبا كانت يف تراجع
املسوح، ال ميكنه أن يوفر عالقة سببية بني زيادة شعبية مواقع التواصل عرب
الشبكات االجتامعية وتراجع التعاطف، فإن هذا االرتباط الغريب بعض اليشء هو
من دون شك يستحق أن يؤخذ بعني االعتبار.
متثلت مقاربة مثرية لالهتامم بشكل خاص من ميللر ماكفرسون McPherson
يف مقارنة األفكار املتعلقة بالصداقة يف العام 1985 مع تلك السائدة يف العام
.2004 اكتشف فريق ماكفرسون أن املشاركني يف العام 2004 كان لديهم عدد أقل

155
التواصل عرب الشبكات االجتماعية والعالقات
من األشخاص الذين ميكنهم التحدث إليهم بالفعل، مع انخفاض عدد األصدقاء
املقربني املتوافرين بنحو الثلث. واألمر األشد إثارة للقلق هنا هو أن نسبة من ليس
لديهم أحد عىل اإلطالق ميكنهم أن يناقشوا معه املوضوعات املهمة قد تضاعفت
)19(. ويف حني كانت هناك خسائر من داخل األرسة أو ضمن

ثالث مرات تقريبا
مجموعات األصدقاء، فقد حدث أكرب انخفاض يف األصدقاء املقربني يف املجتمع
والحي. طرح ماكفرسون وزمالؤه إمكانية أن املستجيبني رمبا رّفسوا السؤال عىل
أنه يتعلق باملناقشة التي تتم حرصيا وجها لوجه، وإذا كان األمر كذلك، فإن
التحول من التواصل الشفهي إىل التواصل عرب اإلنرتنت قد يكون مسؤوال عن هذا
الرتاجع الواضح.
من السهل أن نرى صلة بني هذين االتجاهني- تناقص التعاطف وزيادة العالقات
عرب اإلنرتنت. وكام أشار إليه العامل النفيس الري روزين، فإذا آذيت مشاعر شخص
آخر لكنك ال تستطيع رؤية رد فعله، فستفتقر إىل التلميحات الكافية لفهم ما اقرتفته
)20(. قد تكون

ومن ثم االعتذار إليه أو القيام ببعض اإلجراءات التعويضية األخرى
الزيادة يف مشاعر العزلة مرتبطة بالسهولة والرسعة التي ميكن بها نرش املعلومات
الشخصية، مام قد يشجع الناس عىل القيام من دون تفكري بنرش معلومات قد تكون
ضارة. وإذا كان التعاطف ينشأ عن التجربة الشخصية املبارشة وجها لوجه، لكننا ال
نتقن سوى ما تدربنا عليه، فإن انخفاض التواصل وجها لوجه من شأنه أن يقلل من
قدرتنا عىل التعاطف. من املمكن أن ّمتثل االتصاالت املتعاطفة يف العامل الحقيقي
قياسا جيدا لالتصاالت التي تتم يف الدماغ عرب الشبكات بني العصبونات املنفردة
)تذكر كلامت هيب الشهرية حول العصبونات: »الخاليا التي تطلق إشاراتها معا
ترتبط معا«(. وعىل أي حال، فإذا مل يكن لديك أي شخص تشعر بأنه يهتم ألمرك،
فقد تسول لك نفسك أن تكون غري مكرتث لآلخرين أو أن تكون أقل اهتامما بأن
تكون كذلك. وما التأثري املحتمل لهذه الالمباالة يف منظورنا ملا هو مهم ومناسب
ألن نتشارك فيه؟
وفيام وراء التعاطف، ميكن أن يؤدي االستخدام املفرط لإلنرتنت عموما
إىل انخفاض القدرة عىل التواصل بشكل فعال، إذ ُربط بينه وبني انعدام الذكاء
)21(. وبالتايل فرمبا

العاطفي، مبا يف ذلك األداء الضعيف يف تفسري التعبريات الوجهية

156
ّ تغير العقل
ُ ليس من غري املستغرب أن يظهر األشخاص الذين يقضون فرتات زمنية مفرطة
عىل اإلنرتنت قصورا يف معالجة التعبريات الوجهية. استخدمت إحدى الدراسات
نظاما لالكتشاف البرصي ملقارنة املراحل املبكرة من معالجة املعلومات املتعلقة
بالوجوه لدى الشبان املفرطي االستخدام لإلنرتنت عن طريق تحليل مخططات
(22). ومن خالل عرض صور لوجوه وأشياء عىل املشاركني،

كهربية أدمغتهم EEGs
اكتشف الباحثون أن املوجات الدماغية التي تحفزها مشاهدة الوجوه كانت أكرب
حجام بشكل عام، وبلغت ذروتها يف وقت أقرب مام فعلت االستجابات املامثلة
التي سببتها األجسام. ويعني هذا أن الوجوه كانت أكرث أهمية للمراقب املتوسط
من األجسام. وعىل أي حال، فقد أظهر مستخدمو اإلنرتنت املفرطون عموما
استجابة ملوجات الدماغ أصغر من األشخاص العاديني، سواء أكانوا ينظرون إىل
وجوه أم إىل مناضد. وتشري هذه النتيجة إىل أن الوجوه بالنسبة إىل مستخدمي
اإلنرتنت املفرطني مل تكن أكرث أهمية من الجامدات اليومية. وعىل رغم أنه اليزال
غري معروف ما إذا كانت هذه االعتالالت ستمتد إىل العمليات األعمق إلدراك
الوجوه، مثل ذاكرة الوجوه والتعرف عىل الوجوه، فتشري هذه املشاهدات إىل
أن مستخدمي اإلنرتنت املفرطني لديهم عجز يف مرحلة مبكرة من معالجة إدراك
الوجوه، وهو اعتالل يرتبط بدوره مبجموعة من االضطرابات التي تشمل االعتالل
النفيس psychopathy والتوحد.
ويف اململكة املتحدة وحدها، ُيظهر أكرث من نصف مليون شخص- أي نحو 1
يف املائة من عموم السكان- شكال من أشكال التوحد autism. تتميز اضطرابات
طيف التوحد بثالوث من االعتالالت: )1( صعوبة يف التواصل االجتامعي، سواء
اللفظي وغري اللفظي، بحيث كثريا ما يجد املرىض صعوبة يف »قراءة« اآلخرين.
)2( صعوبة يف التعرف عىل أو فهم مشاعر اآلخرين وأحاسيسهم، وكذلك التعبري
عن مشاعر وأحاسيس املرء. )3( صعوبة يف ا ّ لتخيل االجتامعي، أي فهم والتنبؤ
بسلوك اآلخرين، وإدراك األفكار املجردة، وتخيل املواقف التي تحدث خارج روتني
الحياة اليومية املبارشة. تقليديا، ُي َّشخص اضطراب طيف التوحد خالل العامني
األولني من الحياة. وبالتايل يدعي بعض املتخصصني أنه يستحيل ربط التوحد
بالتواصل عرب الشبكات االجتامعية، حيث إن األطفال الصغار للغاية ال يدخلون إىل

157
التواصل عرب الشبكات االجتماعية والعالقات
هذه املواقع. ومع ذلك فقد أشار الدكتور ماكسون ماكدويل McDowell، وهو
محلل نفيس، إىل أن األفراد الذين يستخدمون شبكات التواصل االجتامعي بصورة
هاجسية اليزال بإمكانهم اكتساب خصائص شبيهة بالتوحد، مثل تجنب التواصل
بالعينني. ويف األطفال الرضع، يستهل التواصل املبكر بالعينني القدرة عىل التواصل
مع التجارب الذاتية لآلخرين، وهو أمر يف غاية األهمية بالنسبة إىل التواصل
)23(. ويف الواقع أن عدم قدرة

االجتامعي والتفاعل، وهي مقدرة معطلة يف التوحد
ُ الرضيع عىل تعقب وجه أمه كثريا ما يرَبط بينه وبني التشخيص املستقبيل للتوحد.
ويف الوقت نفسه، استكشف ثالثة أكادمييني يف جامعة كورنيل، هم مايكل
والدمان Waldman، وشون نيكلسون Nicholson، ونودير أديلوف Adilov،
االرتباطات املحتملة بني استخدام التكنولوجيا واإلصابة الالحقة بالتوحد. شمل
بحثهم مجموعة متنوعة من األنشطة التي ّ تنفذ عىل الشاشة، مبا يف ذلك مشاهدة
التلفاز، ومشاهدة أرشطة الفيديو وأقراص الفيديو الرقمية، ومشاهدة األفالم
يف السينام، واستخدام الحاسوب. وقد ظهر ارتباط بني املشاهدة املبكرة للتلفاز
والتوحد. وإذا كان التلفاز قد يكون عامال، فلن يكون من املستغرب إذا ُ اكتشف أن

.
)24(
عامل الشاشة الخاص باإلنرتنت له تأثري أيضا
وحتى لو قبلنا بتوسيع مصطلح »السمة الشبيهة بالتوحد« trait like-autistic،
فقد تشري نتائج باحثي جامعة كورنيل إىل أنه ال ينبغي علينا استبعاد العوامل البيئية
يف بعض الحاالت. تزايدت معدالت تشخيص التوحد برسعة خالل العقدين املاضيني،
ُ وال ميكن أن تعزى تلك الزيادة إىل األسباب الوراثية وحدها. ويف دراسة أجرتها إرفا
هريتز- بيكيوتو Picciotto-Hertz ولورا ديلويش Delwiche من جامعة كاليفورنيا
يف ديفيز، أظهرت النتائج أنه حتى بعد أخذ التغريات يف معايري التشخيص يف االعتبار
وتوسيع طيف التوحد، كانت نسبة كبرية من الزيادة يف حاالت التوحد التزال غري
)25(. يجب أال نستبعد احتامل وجود محفزات يف البيئة، مثل التعرض املبكر
واضحة
لعامل الشاشة ولفرتات طويلة، حيث ال ينظر أحد إىل عينيك. ُتناط بالبرش مهمة
تطورية للتكيف مع بيئتهم، وعندما ال توفر لهم هذه البيئة فرصا للتدرب عىل
املهارات األساسية للتعاطف، فقد تتمثل إحدى النتائج يف ظهور صعوبات شبيهة مبا
يحدث يف حاالت التوحد.

158
ّ تغير العقل
ومن املثري لالهتامم أن ديفيد أموديو Amodio من جامعة نيويورك وكريس
فريث Frith من جامعة لندن أظهرا أن واحدا من أعراض التوحد هو انخفاض
ّر من الفصل الثامن مدى أهمية هذه
)26(. تذك
نشاط القرشة املخية أمام الجبهية
املنطقة الدماغية يف ضامن عمل الدماغ بشكل متناسق. فإذا انخفضت معدالت
نشاط هذه املنطقة الحيوية، فقد يكون هناك تأثري عميق يف عمليات الدماغ
الكلية، مام ُينتج العقلية التي وصفناها سابقا، والتي تنسخ فيها العوامل الحسية
تلك املعرفية وال »يعني« أي يشء شيئا: فهي ما هي عليه ال أكرث. إن ضحكة، أو
عبوسا، أو الشعور بالخجل، أو االبتسامة قد »تعني« أقل بكثري: فام تراه ظاهريا
هو ما تحصل عليه.
وسواء أكانت تقنيات الشاشة ستتمكن يف يوم ما من زيادة احتامل ظهور
سلوكيات شبيهة بالتوحد أم ال، فمن املقبول متاما أن العكس صحيح، فعادة ما
يشعر املصابون بالتوحد براحة أكرب يف الفضاء اإللكرتوين. بحثت كاترين فنكيناور
Finkenauer وفريقها يف جامعة أمسرتدام يف الصلة بني السامت التوحدية
واستخدام اإلنرتنت يف دراسة طويلة وأظهروا أن األشخاص الذين لديهم ميل نحو
.)27(
إظهار سامت التوحد، وال سيام النساء، كانوا أكرث عرضة لإلدمان عىل اإلنرتنت
ويشري الدليل إىل وجود نوع من االرتباط بني االنجذاب إىل اإلنرتنت واعتالل
التعاطف، كام أظهرت الدراسة أيضا أن مستخدمي اإلنرتنت املفرطني يعانون نقصا
يف التمييز بني الوجوه واألجسام.
وعىل الجانب اإليجايب، فقد جرى بالفعل استغالل ألفة األفراد املصابني
بالتوحد للشاشة ألغراض عالجية. ومن بني األمثلة البارزة عىل ذلك مرشوع
»أصداء« Project ECHOES الذي يتخذ من اململكة املتحدة مقرا له، والذي
يساعد التالميذ التوحديني عىل تجريب السيناريوهات االجتامعية الصعبة. إن
مرشوع أصداء هو:
بيئة تعليمية معززة تكنولوجيا حيث ميكن لألطفال البالغني من
العمر 5 إىل 7 سنوات املصابني بطيف التوحد وأقرانهم ذوي النمو
الطبيعي استكشاف وتحسني مهاراتهم االجتامعية والتواصلية من
خالل التفاعل والتعاون مع الشخصيات )العوامل( االفرتاضية واألجسام

159
التواصل عرب الشبكات االجتماعية والعالقات
الرقمية. يوفر برنامج أصداء أهدافا وطرق تدخل مناسبة تنمويا، والتي
هي ذات مغزى للطفل املنفرد، وتعطي األولوية للمهارات التواصلية

.
)28(
كاالنتباه املشرتك
ما سبب الجاذبية التي تحملها الشاشة لشخص يعاين مشكالت يف التعاطف؟
يتمثل الجواب األكرث وضوحا يف أنه يف هذا العامل، ليست هناك حاجة إىل فهم ما
ميكن أن يحدث بداخل عقول اآلخرين - فام تراه هو ما تحصل عليه. ونظرا إىل
غياب جميع التلميحات غري اللفظية القيمة التي ناقشناها عىل اإلنرتنت، فرمبا كنا
جميعا نصاب مبا يشبه التوحد عندما نوجد عىل اإلنرتنت.
وخالصة القول أن هناك صلة بني استجابات املوجات الدماغية الشاذة يف
التعرف اإلشكايل عىل الوجوه، وهو أحد مالمح التوحد، وبني مستخدمي اإلنرتنت
املفرطني؛ وهو ارتباط بني اضطرابات طيف التوحد وتدهور وظيفة القرشة املخية
أمام الجبهية، والذي يدل عىل منظور أكرث واقعية للعامل؛ أو صلة بني تجارب
الشاشة املبكرة واإلصابة الحقا بالتوحد؛ وصلة بني الحاالت التوحدية وجاذبية
تقنيات الشاشة. ويف حني يستحيل إثبات السبب والنتيجة بني هذه الروابط
املختلفة، بل واستخالص أي استنتاجات قاطعة، يبدو أن هناك بعض أوجه الشبه
بني االستخدام املفرط لإلنرتنت والسلوكيات الشبيهة بالتوحد، والتي تستحق
مزيدا من االستكشاف. ويؤدي بنا هذا الخط من التفكري حتام إىل أن نتساءل
عام نعنيه يف أي حالة نتحدث فيها عن هذه العالقة. من املؤكد أنك من أجل أن
تكون صديقا حقيقيا، فستحتاج إىل التوصل إىل فهم حقيقي لشخص ما، وللكيفية
التي سيتفاعل بها يف طائفة من السياقات املختلفة. يتمثل الفرق الكبري بني
العالقات عرب اإلنرتنت وخارجه يف أنك يف األوىل ُتظهر ما تود إظهاره فقط، وهو
ما ال يعدو يف كثري من األحيان كونه مجرد فهرسة ملا تحب وتكره. ال أحد يرى
كيف تتعامل يف الواقع مع املشكالت أو كيف تعاين يف املواقف العصيبة التي لها
عواقب حقيقية ودامئة. عىل النقيض من ذلــك، ال ميكنك أن تخفي مبثل هذا
النجاح عن صديق حقيقي يف موقف واقعي وجها لوجه ما قد تشعر به حقا، ال
سيام إذا كان صديقك بارعا يف استخدام جميع التلميحات ثالثية األبعاد وتلك
الحسية الالزمة للتعاطف الحقيقي.

160
ّ تغير العقل
إن غياب الفرصة عىل اإلنرتنت للتدريب عىل املهارات االجتامعية قد ينبئ
كذلك بحدوث انخفاض يف العالقات العميقة وذات املغزى. وهناك اعتبار مهم هو
أن تفضيل التواصل عرب اإلنرتنت وليس وجها لوجه قد يؤدي إىل مزيد من عدم
الثقة بالناس. فبعد كل يشء، تنبع الثقة من التعاطف، والذي ينشأ بدوره بأفضل
صورة من خالل التواصل وجها لوجه ولغة الجسد.
من املؤكد أنه عندما يحل الوقت الذي نقضيه يف العالقات عرب اإلنرتنت محل
الوقت الذي نقضيه يف التفاعل البرشي الحقيقي، تكون إمكانية تفويت العالقة
الحميمة العميقة مع اآلخرين أقرب احتامال. ولذلك نحتاج إىل التفكري يف أثر
العالقات من النوع الذي يحدث عىل الفيسبوك يف منط الحياة بشكل عام. ميكن
للتواصل املفرط عرب الشبكات االجتامعية أن يتجاوز كل الحدود وصوال إىل اختالل
العالقات الشخصية، واإلرضار باملهن والزواج وحتى هدمها. ومن املمكن أن يستبدل
الوقت الذي نقضيه يف املحافظة عىل العالقات، كام يؤدي إىل زيادة فرص التواصل
مع الرشكاء السابقني أو الرشكاء املستقبليني املحتملني، وكالهام يؤدي إىل اإلغواء أو
إىل الغرية يف العالقات الحالية. ووجدت دراسة أجريت يف العام 2013 أن املستويات
املرتفعة من استخدام الفيسبوك ترتبط بنتائج سلبية يف العالقات، مام يؤدي إىل
مزيد من الخيانة، واالنفصال، والطالق. وقد تأثرت هذه النتيجة مبقدار الرصاع الذي

.
)29(
عايشه الزوجان فيام يتعلق بالفيسبوك
ويف الوقت الحايل، تعرض مواقع التواصل االجتامعي للمستخدمني معلومات
مل يكن بوسعهم الوصول إليها بخالف ذلك، مثل صور الرشيك السابق مع رشيك
جديد. وبالتايل ميكن للفيسبوك أن يغذي الجانب غري اآلمن والغيور من الطبيعة
)30(. أخربتني صديقة يل بأنها تركت الفيسبوك ألنه بدأ يجعلها تشعر
البرشية
بالجنون، عىل رغم أنها مل تكن من النوع الغيور بطبيعتها: »لكن فجأة ظهرت
أمامي هذه املعلومات التي أمكنني معرفتها عن رشييك، والتي مل أكن أريد أن
أعرفها، لكني مل أستطع منع نفيس من البحث عنها«. هناك دراسات رسمية لتقييم
ومالحظة رد الفعل هذا فقط. وقد استندت إحدى الدراسات إىل نتيجة سابقة
مفادها أن استمرار التواصل خارج اإلنرتنت مع رشيك رومانيس سابق قد يعطل
)31(. وكشفت النتائج املستقاة من 464 مشاركا أن

التعايف العاطفي من االنفصال

161
التواصل عرب الشبكات االجتماعية والعالقات
أولئك الذين ظلوا أصدقاء عىل الفيسبوك مع رشيك سابق، مقارنة بأولئك الذين مل
يفعلوا ذلك، ذكروا شعورهم برغبة جنسية واشتياق إىل الرشيك السابق، جنبا إىل
جنب مع مزيج سام من انخفاض وترية النمو الشخيص. وخلص الباحثون إىل ما ييل:
»بصفة عامة، تشري هذه النتائج إىل أن التعرض للرشيك السابق من خالل الفيسبوك

.
)32(
قد يعيق عملية التعايف وامليض قدما من عالقة سابقة«
وبطبيعة الحال، فهذا األمر ينطبق عىل واقع الحياة كذلك؛ فمن الصعب أن
تنىس الناس إذا كنت التزال تراهم بشكل روتيني. لكن الفيسبوك يجعل هذه
املواظبة غري الصحية أسهل بكثري وأكرث صعوبة يف مقاومتها. تاريخيا، كان يجري
تشذيب عالقاتنا بصفة دورية، عىل سبيل املثال، من خالل نهاية عالقة حميمة، أو
التشاجر مع صديق، أو تغيري الوظائف أو املدارس، أو محل اإلقامة، أو مجرد فقدان
التواصل مع شخص ما. أما اآلن، وبفضل الفيسبوك، فيمكننا بسهولة أكرب بكثري أن
ننقل إىل حارضنا كل هذا الثقل العاطفي الذي ينتمي إىل املايض.
وباإلضافة إىل ذلك، فقد أدت سهولة الحصول عىل املعلومات الشخصية
لآلخرين إىل ثقافة صار فيها التطفل عىل األفراد ليس مسموحا به فقط، بل
متوقعا. يعرف هذا يف اللغة العامية للفيسبوك باسم »املطاردة« stalking، لكن
َ باحثي مواقع التواصل االجتامعي خَّففوا املصطلح إىل »الرت ّصد االجتامعي« Social
Surveillance. وبغض النظر عن دالالت األلفاظ، فإن القدرة عىل التطفل بحرية
وبطريقة مجهولة عىل حياة اآلخرين هي مسألة خطرية. ما عليك إال إلقاء نظرة
إىل شعبية املجالت املتخصصة يف نرش اإلشاعات عن املشاهري ليك تدرك أن البرش
فضوليون بطبيعتهم. لكن هذا االتجاه ميكن اآلن تضخيمه من خالل التواصل
عرب الشبكات االجتامعية، حيث يكون الرتصد الشخيص مامرسة شائعة إىل حد
ما: أفاد 70 يف املائة من طالب الجامعات، )يحدث هذا السلوك بغض النظر عن
)33(، باستخدام الفيسبوك للتجسس عىل رشيكهم الرومانيس، مع إبالغ 14
الجنس(

)34(. ويف الواقع إن زيادة

يف املائة عن أنهم يفعلون ذلك بواقع مرتني يوميا عىل األقل
مستوى استخدام الفيسبوك يتنبأ بالغرية املرتبطة مبوقع التواصل االجتامعي. ويرى
الباحثون أن هذا التأثري قد يكون نتيجة لحلقة من التغذية املرتدة: من املمكن
أن ّ يعرض استخدام الفيسبوك الناس ملعلومات مبهمة عن رشكائهم، والتي قد ال

162
ّ تغير العقل
ّ ميكنهم الوصول إليها بخالف ذلك، وهذه املعلومات تحرض الغرية ومن ثم تدفع

.
)35(
إىل مزيد من استخدام الفيسبوك
زعمت إحدى رشكات املحاماة املتخصصة يف الطالق أن ما يقرب من واحدة
)36(. ويزداد استخدام رسائل

ُ من كل خمس عرائض يعالجونها ذكر فيها الفيسبوك
الربيد اإللكرتوين والرسائل الغرامية املوجودة عىل صفحات الفيسبوك كدليل عىل
السلوك غري العقالين. وفقا لرشكة الخدمات القانونية الربيطانية الطالق أون الين
Online-Divorce، كان الفيسبوك مكتنفا يف 33 يف املائة من حاالت انهيار الزواج
ّق عىل األمر مارك

يف العام ،2011 ارتفاعا من 13 يف املائة يف العام .2009 وقد عل
كينان Keenan، املدير التنفيذي للرشكة، فقال:
لقد سمعت من موظفي رشكتي أن كثريا من الناس يقولون إنهم
اكتشفوا عىل الفيسبوك أمورا عن رشكائهم فقررت أن أرى مدى شيوعها.
لقد اندهشت بالفعل عندما وجدت أن 20 يف املائة من جميع العرائض
تحتوي عىل إشارات مرجعية إىل الفيسبوك. يبدو أن السبب األكرث
شيوعا هو إجراء الناس لدردشات جنسية غري الئقة مع أشخاص مل يكن

.
)37(
من املفرتض أن يفعلوا ذلك معهم
ُ إن الوقت الذي يقىض يف استخدام التكنولوجيا هو وقت نقضيه بعيدا عن العامل
الحقيقي، وعن األشخاص الحقيقيني. ومن خالل رؤية اآلخرين أو سامع صوتهم،
ميكننا أن نحاول أن نفهم كيف يشعرون. وكذلك فإن قضاء كثري من الوقت يف العامل
الثنايئ األبعاد للشبكات االجتامعية ميكنه، كام رأينا سابقا، أن يؤثر يف قدرة الشبان
عىل التعاطف مع اآلخرين، وبناء عالقات ذات مغزى، وبالتايل الحصول عىل أفضل
النتائج من عالقاتهم.

ِن هامرسيل
ويف مناظرة أجريت يف لندن يف فرباير ،2012 واجهت ب
Hammersley، رئيس تحرير مجلة »وايرد« Wired. كان العنوان هو »الفيسبوك
ليس صديقك«. سيكون من الظلم نِلب، الذي ليس له رأي يف هذه الصفحات، أن
نحاول تلخيص كامل تبادل وجهات النظر. وعىل أي حال، فإن السبب يف طرحي لهذا
ِن بأن الفيسبوك كان يف الواقع صديقك ألنه

املوقف هنا هو أنه يف موجزنا، اعرتف ب
كان »ممتعا فقط«، ومن الواضح أنه ال بديل عن الصداقات الحقيقية. ويف خضم

163
التواصل عرب الشبكات االجتماعية والعالقات
هذه اللحظة االنفعالية، بدأت ردا مطوال، لكنني متنيت الحقا لو كنت اعرتفت بأن
ِن مل يثبت سوى وجهة نظري. ميكن ملواقع التواصل االجتامعي أن توفر الكثري من
ب
املرح، الذي يتسم بالقدر نفسه من التفاهة والسوء الذي ميثله َس ْقط الطعام. وعىل
أي حال، فإن ما قد يبدو غري قابل للجدل هو أن لهذه املواقع تأثريا كبريا يف التواصل
بني األشخاص، وبالتايل العالقات. وإذا كان األمر كذلك، إذن، فكام هو الحال مع
َس ْقط الطعام، ستكون هناك حتام تداعيات أوسع عىل املجتمع ككل.

165
التواصل عرب الشبكات االجتماعية واجملتمع

رّ إن بيت القصيد من مصطلح »تغي العقل«
- عىل عكس املصطلح املحتمل الذي يبدو
شبيها بكتابات الخيال العلمي » رّ تغي العقول«،
عىل سبيل املثال - هو أنه يتناول العديد من
جوانب الكيفية التي ميكننا بها كأفراد أن ّ نفكر،
ونشعر، ونتفاعل بعضنا مع البعض كلام ازداد
طول عيشنا يف هذه البيئة الرقمية التي مل
يسبق لها مثيل. من أجل االطالع عىل الصورة
األكرب، فمن املهم أن ّ نفكر ليس فقط يف العلوم
العصبية التي ترتكز عليها هذه التحوالت، ولكن
أيضا يف علم النفس والعلوم االجتامعية، وحتى
الفلسفة الكامنة وراءها. واعتبارا من القرن
السابع عرش فصاعدا، رّوج كبار املفكرين مثل
توماس هوبز Hobbes، وجون لوك Locke،
وجان جاك روسو Rousseau لفكرة العقد
االجتامعي، التي ترى أن األفراد قد تراضوا، إما
التواص��ل ع�بر الش��بكات
االجتماعية واجملتمع

»كام أن التنمر يف وجود عصابة
يسمح بتخفيف املسؤولية عن فعل
ما، فإن التنمر عرب اإلنرتنت يحدث
يف كثري من األحيان ضمن حشد
افرتايض. وتوفر اإلنرتنت للغوغاء
فرصة عدم الكشف عن الهوية، ومن
ثم الفرصة للترصف بطريقة مخزية
أكرث مام قد يفعل املرء عند التعامل
شخصيا«

12

166
ّ تغير العقل
رصاحة أو ضمنا، عىل التنازل عن بعض حرياتهم أو حقوقهم الفردية من أجل
حاميتهم وعافيتهم الشخصية القصوى. ولذلك دعونا ننظر اآلن يف تأثري مواقع
شبكات التواصل االجتامعي يف القيم األخالقية املقبولة يف مجتمع ما.
كانت ميغان ماير Meier فتاة تبلغ من العمر ثالثة عرش عاما، وتعيش يف والية
ميزوري عندما بدأت، يف العام ،2006 تتواصل عرب اإلنرتنت مع صبي يدعى جوش
إيفانز Evans)1(. يف البداية، بدا جوش لطيفا، ولكنه بعد ذلك أصبح منتقدا ومهينا
عىل نحو متزايد؛ فأخرب ميغان بأنها شخص من السوء بحيث ينبغي عليها أن تقتل
نفسها. ويف الواقع أن »جوش« هذا مل يكن سوى والدة صديق ميغان السابق. تدل
هذه القصة ليس فقط عىل مدى سهولة تبني شخصية مختلفة متاما ولكنها، وهو
األمر األكرث أهمية بكثري، توضح كذلك اآلثار التي ميكن أ ّ ن يسببها مثل هذا التنمر:
لقد فعلت ميغان كام قيل لها وشنقت نفسها. ومن املثري للقلق أن هذا النوع من
القصص املأساوية قد صار شائعا عىل نحو متزايد.
إن عرضة املراهقني لألشكال ّ املصححة sanitized، عىل الرغم من كونها أقل
ثراء وأقل تعددية يف األبعاد، من التواصل، وميلهم املرتبط بالعمر نحو املخاطر،
وتوافر التواصل عرب شبكات التواصل االجتامعي عىل مدار الساعة، واللقطة غري
املحررة وغري الواقعية التي تعرضها مواقع التواصل االجتامعي الحالية عام ميكن
أن يخطط له الجميع متثل جميعها عوامل قد يثبت كونها مزيجا مسكرا لبعض
األفراد، الذين ميكنهم بعد ذلك الترصف بطرق مختلة تؤثر يف املجتمع ككل يف نهاية
ُجري يف الواليات املتحدة، وكندا،

املطاف. ويف العام ،2012 أظهر استطالع للرأي أ
واململكة املتحدة، وأسرتاليا زيادة صارخة يف عدد حاالت االنتحار الناتجة عن ّ التنمر
عرب اإلنرتنت bullying - cyber، حيث وقع 56 يف املائة من الحاالت خالل السنوات
.
)2(
السبع السابقة و44 يف املائة من الحاالت خالل الخمسة عرش شهرا السابقة
يحدث ّ التنمر عرب اإلنرتنت عندما يستخدم شخص ما شبكة اإلنرتنت، أو هاتفه
املحمول، أو أي جهاز آخر للتهديد أو للتحرش، أو املضايقة، أو إلحراج شخص
آخر. وقد أشارت دراسات مختلفة إىل أن 20 إىل 40 يف املائة من الشبان كانوا
)3(. ويف استطالع أجري يف العام 2011 عىل املراهقني يف

ضحايا ّ للتنمر عرب اإلنرتنت
الواليات املتحدة، ذكر 33 يف املائة من الفتيات الاليت ترتاوح أعامرهن بني الثانية

167
التواصل عرب الشبكات االجتماعية واجملتمع
عرشة والثالثة عرشة، والاليت يستخدمن مواقع التواصل االجتامعي، أن تفاعالت
األقران عىل مواقع التواصل االجتامعي هي »قاسية يف معظمها«، كام ذكر اليشء
)4(. يف كثري
نفسه 20 يف املائة من الفتيات الاليت تراوحت أعامرهن بني 14 و17 عاما
من األحيان، يقوم هؤالء املتنمرون بإنشاء موقع عىل شبكة اإلنرتنت أو تشكيل
مجموعة عىل الفيسبوك ويشجعون اآلخرين عىل االنضامم إليهم واإلدالء بتعليقات
عن شخص آخر. ولكن ليس من العدل إلقاء اللوم عىل اإلنرتنت يف هذا. لقد ألقى
ّ التنمر بظالله القامتة منذ فرتة طويلة عىل ساحات اللعب وأماكن العمل، ويبدو أنه
متأصل بعمق يف نفوسنا.
»رمبا تنطوي الطبيعة البرشية ذاتها عىل إلحاق املعاناة بأي يشء ميكنه ّ تحمل
املعاناة، سواء بسبب الخنوع األصيل، أو الالمباالة، أو العجز املحض«. جاء هذا
التلميح من أونوريه دي بلزاك Balzac يف روايته الصادرة يف العام 1835 بعنوان
)5(. وقد جرت حتى املخاطرة بالقول بأن ّ التنمر له قيمة تطورية

»األب غوريو«
كعامل يبعث عىل االستقرار يف الرصاعات التحويلية للحصول عىل مكانة هرمية يف
)6(. ولكن يف حني ظل ّ املتنمرون ميثلون عيبا يف املجتمع منذ أن

مستعمرات الرئيسات
عرض فالشامن Flashman، عىل سبيل املثال، أشياءه بتفاخر يف رواية »أيام دراسة
توم براون«، فقد رّ تغيت الوسيلة املتاحة أمامهم للتعبري عن ميولهم الخبيثة. وألن
التواصل عرب اإلنرتنت وشبكات التواصل االجتامعي قد أزال معظم القيود املفروضة
عىل املساءلة، فمن املحتمل أن هذه التكنولوجيا قد تؤدي إىل سلوكيات ومواقف
مل تكن ممكنة يف السابق.
يجادل البعض بأن آثار الثقافة الرقمية ّ للتنمر عرب اإلنرتنت ليست مدعاة
للقلق، ألن الوسط نفسه غري ذي صلة. وعىل سبيل املثال، فإن دان أولويوس
Olweus، الذي يدير برنامج منع ا ّ لتنمر يف جامعة كليمسون، وجد يف عينة كبرية
من صغار املراهقني أن هناك درجة عالية من التداخل بني أولئك الذين يتنمرون
بالطرق التقليدية وأولئك الذين ينخرطون يف ا ّ لتنمر عرب اإلنرتنت. وعىل أي حال،
كان 12 يف املائة من الضحايا أو املتنمرين الجدد يف عينة من الواليات املتحدة
ميارسون ا ّ لتنمر عرب اإلنرتنت فقط، بحيث مل يكونوا ضحايا أو متنمرين بالطريقة
التقليدية. يقول أولويوس إن هذا ميثل »نسبة ضئيلة للغاية«، ويذهب إىل القول إن

168
ّ تغير العقل
هذه النتائج تشري إىل أن وسائل اإلعالم اإللكرتونية الجديدة قد أفرزت
بالفعل عددا قليال من الضحايا واملتنمرين »الجدد«. إن التعرض ّ للتنمر عرب
اإلنرتنت أو مامرسته عىل الطالب اآلخرين يبدو إىل حد كبري أنه ميثل جزءا
من منط عام ّ للتنمر، حيث استخدام وسائل اإلعالم اإللكرتونية هو مجرد
واحد فقط من األمناط املمكنة، باإلضافة إىل كونه منطا منخفض االنتشار
.
)7(
للغاية
وعىل أي حال، فإن نسبة 12 يف املائة من صغار املراهقني الذين انخرطوا
يف ا ّ لتنمر أو كانوا ضحاياه متثل بالكاد »نسبة ضئيلة للغاية«. وعالوة عىل ذلك،
ينبغي علينا أال نكتفي بالسؤال عام إذا كان اإلنرتنت يشجع هذا السلوك ولكن
أيضا، وهو األهم من ذلك، عام إذا كان ا ّ لتنمر عرب اإلنرتنت ميكن أن يؤثر يف
الضحية عىل نحو أكرث خطورة من ا ّ لتنمر التقليدي. ويف نهاية املطاف، فإن
حجم الجمهور الذي ميكن أن يتعرض ّ للتنمر هو اآلن أكرب بكثري مام كانت عليه
الحال مع ا ّ لتنمر التقليدي، حيث ميكن أن توجد األدلة عليه بصفة مستمرة عىل
اإلنرتنت. وجدت دراسة حديثة أن كال من ّ املتنمرين عرب اإلنرتنت وضحاياهم
كانوا أقرب احتامال بكثري الستبطان internalize املشاكل، كام يتضح من
األعراض االكتئابية والسلوك االنتحاري، باملقارنة مع املنخرطني يف ا ّ لتنمر
التقليدي. ولذلك فمن املمكن أن يؤثر الوسط يف كل من الضحية و ّ املتنمر

.
)8(
بصورة أكرث خطورة بكثري
جادل بعض الخرباء بأن اإلنرتنت يخلق عاملا فريدا من نوعه يضيف قدرا
)9(. تصف عملية االنفصال األخالقي

إضافيا من »االنفصال« عن األفعال الالأخالقية
كيف يتمكن الفرد من إلغاء الضوابط األخالقية الداخلية التي تحول دون قيامه
)10(. قد يكون هذا االنفصال رشطا أساسيا ّ للتنمر عرب اإلنرتنت: تغيب
بذلك السلوك
التلميحات البرصية مثل استغاثة الضحية، يف حني أن املسافة التي يخلقها وجود
الشاشة تثبط أي مشاعر بالذنب والعار. وعالوة عىل ذلك، ألن الشباب يربطون
بني استخدام التكنولوجيا وبني األلعاب التي متارس عرب اإلنرتنت، والدردشة مع
األصدقاء، وتبادل الصور، فغالبا ما يكون ّ التنمر عرب اإلنرتنت مرتبطا بشكل وثيق
)11(. تتوافق هذه النتيجة مع البحوث التي تبني

مع وسيلة أخرى من وسائل الرتفيه

169
التواصل عرب الشبكات االجتماعية واجملتمع
أن ّ املتنمرين عرب اإلنرتنت يشعرون بقدر أقل من الندم، والذي قد يكون راجعا
جزئيا إىل عدم وجود اتصال مبارش بني ّ املتنمر والضحية. مل تجد الباحثتان سونيا
بريين Perren وإيفلني غوتزفيلر - هيلفينفينغر Helfenfinger - Gutzwiller
)12(. وهذا
من جامعة زيوريخ أي عالقة بني االنفصال األخالقي و ّ التنمر عرب اإلنرتنت
يعني أن الشاشة قد تجرد الضحايا من إنسانيتهم لدرجة أن ّ املتنمرين ال يحتاجون
حتى إىل قمع أي قيم أخالقية، وبالتايل فإنهم ال يحتاجون إىل االنفصال أوال من أجل
إيذاء اآلخرين عرب اإلنرتنت.
كام أن تشتيت املسؤولية والتخفيف منها ميثالن موّجهني آخرين لسلوك ّ التنمر
)13(. وكام أن ّ التنمر يف وجود عصابة يسمح بتخفيف املسؤولية عن
عرب اإلنرتنت
فعل ما، فإن ّ التنمر عرب اإلنرتنت يحدث يف كثري من األحيان ضمن حشد افرتايض.
توفر اإلنرتنت للغوغاء فرصة عدم الكشف عن الهوية، ومن ثم الفرصة للترصف
بطريقة مخزية أكرث مام قد يفعل املرء عند التعامل شخصيا. ذكر الدكتور غراهام
بارنفيلد Barnfield، وهو باحث يف وسائل اإلعالم ومحارض يف جامعة إيست لندن،
يف الربنامج التلفازي الربيطاين »الليلة مع تريفور ماكدونالد« أن »الصفع السعيد«
- وهو ما يحدث عندما يقوم ّ املتنمرون بتصوير مقاطع ّ للتنمر عىل هواتفهم
وتحميلها عىل شبكة اإلنرتنت - ميكن أن ينظر إليه من قبل »الصافعني slappers »
كطريق مخترصة »للشهرة والسمعة السيئة«. يعد هذا مثاال عىل نوع جديد متاما
من العقلية التي مل تكن ممكنة إال عن طريق اإلنرتنت.
هناك ظاهرة أخرى، والتي يبدو أنها، مثل ّ التنمر، تربز أسوأ ما يف الطبيعة
البرشية، والتي - مثل الصفع - ال ميكنها أن تحدث بالفعل إال عىل شبكة اإلنرتنت.
يشيع التصيد يف غرف الدردشة، وتحديثات تويرت، واملدونات. يصف مفهوم
»التصيد« trolling عموما الشخص الذي يتبنى موقفا هجوميا أو مثريا للجدل
)14(. ميكن ملستخدمي اإلنرتنت

من أجل إزعاج اآلخرين أو إثارة ردود فعل عاطفية
الناضجني واملحنكني أخذ تعليقات املتصيدين بالقدر املالئم من الشك، ال سيام إذا
كانت التعليقات ذكية أكرث من كونها رشيرة، لكن املستخدمني األشد حساسية أو
الضحايا من الشبان الرسيعي التأثر قد يشعرون باإلهانة أو بتقويض احرتامهم
للذات ولثقتهم بأنفسهم.

170
ّ تغير العقل
وبطبيعة الحال، فقد يكون األمر هو أن نوعا مزعجا بعينه من األشخاص
يستمتع بطبيعته بإهانة اآلخرين بأي مثن، ورمبا وجد يف اإلنرتنت مجرد منفذ آخر.
لكن من الصعب أن نتصور كيف ميكن للمتصيدين أن يعربوا بصدق عن أنفسهم
وجها لوجه مع ضحاياهم يف العامل الحقيقي. وعىل سبيل املثال، يف واحدة من
الحاالت املؤسفة، اتصل متصيدو اإلنرتنت بأم ثكىل، وتظاهروا بأن ابنتها الصغرية
)15(. وعىل الرغم من أن هذا املثال قد يكون متطرفا،

امليتة تتصل بها من الجحيم
فإنه يوضح كيف أدت بيئة ذات وصول عاملي واسع النطاق، والتي تتسم بتضاؤل
املسؤولية، وإخفاء الهوية، جنبا إىل جنب مع غياب تجربة العالقات الشخصية، إىل
دفع التصيد إىل آفاق جديدة، أو بشكل أكرث دقة إىل مستويات أدىن.
كتب جون نيوتن Newton، وهو ناظر مدرسة يف ديفون، عن مخاوفه يف
صحيفة بريطانية وطنية، وهي الدييل تلغراف، مشريا إىل أن مواقع التواصل
االجتامعي تشكل تهديدا خطريا ألنها تطمس الخطوط الفاصلة بني الرثثرة وبني
)16(. حذر نيوتن من أن مواقع

الحقيقة قبل أن يتعلم التالميذ إدراك الفرق بينهام
التواصل االجتامعي هي »سالح أقوى بكثري مام ندرك يف أيدي أطفالنا«. وهو
يتساءل حول الفيسبوك عىل وجه الخصوص قائال:

ّد حسن النية وتجمع شمل

هل هو خلية اجتامعية ذات مغزى تول
األصدقاء القدامى، أم جنة للرثثرة تغزو العامل بالغمز واللمز، وأنصاف
الحقائق واإلهانات؟ إذا نرشوا باستخفاف التعليقات عىل اإلنرتنت، فإن
الشباب بصفة خاصة قد ال يدركون العواقب التي ال رجعة فيها لذلك
عىل سمعة شخص ما... وال يفهمون بالرضورة ما ميثل القيل والقال،
وال يقدرون الرنة العدائية لكلمة جارحة؛ فالرأي غري املكتمل هو كل
ما يهم.
إن هذه الصورة ملجتمع أكرث خبثا وأقل أخالقا، والذي توجهه مواقع التواصل
االجتامعي، قد ال تنطبق عىل جميع املجتمعات بسبب االختالفات يف الطريقة التي
تستخدم بها الثقافات مثل هذه املواقع. قارنت دراسة استخدام مواقع شبكات
التواصل االجتامعي يف ثقافة شمولية collectivistic، وهي الصني، ويف ثقافة
)17(. جرى إرشاك أكرث من

تعتمد الفردية individualistic، وهي الواليات املتحدة

171
التواصل عرب الشبكات االجتماعية واجملتمع
أربعامئة طالب جامعي من إحدى الجامعات الجنوبية الغربية يف الصني، وعدد
مامثل من إحدى جامعات الغرب األوسط يف الواليات املتحدة. مأل املشاركون
استبيانا حول استخدامهم ملواقع شبكات التواصل االجتامعي، مبا يف ذلك الوقت
الذي يقضونه عليها، وأهميتها بالنسبة إليهم، ودوافعهم الستخدامها. كانت هناك
اختالفات ثقافية واضحة. كان املستخدمون األمريكيون يقضون وقتا أطول عىل
مواقع شبكات التواصل االجتامعي، التي كانت أكرث أهمية بالنسبة إليهم، وكام كان
لديهم عدد أكرب من األصدقاء االفرتاضيني من نظرائهم الصينيني. تشري هذه النتائج
إىل أنه يف الثقافات الشمولية، فإن أهمية العائلة واألصدقاء قد تكون مسؤولة
جزئيا عن الروابط األضعف بني املستخدمني الصينيني وشبكات التواصل االجتامعي.
ويف املقابل، فإن الثقافات الفردية رمبا كانت تقدم دعام أقل للصداقات الوثيقة
والدامئة، مام يؤدي إىل زيادة استخدام الفيسبوك واملواقع الشبيهة به. وبالنظر إىل
األدلة املتوافرة حتى اآلن عىل أن شبكات التواصل االجتامعي تعزز الرتكيز الفردي،
فمن غري املستغرب بالتأكيد أن العامل الغريب يبدو أنه يستخدم شبكات التواصل
االجتامعي بطرق ال نظري لها يف الثقافات الرشقية.
وعىل الرغم من تراكم األدلة عىل الجانب املظلم من شبكات التواصل
)18(، فإن قدرتها عىل نرش املعلومات برسعة فائقة يف البلدان التي ميكن
االجتامعي
فيها قمع املعلومات أو التحكم فيها متثل أداة بالغة األهمية. لقد أدى استخدام
.)19(
الفيسبوك وتويرت بني النشطاء دورا رئيسا يف ثورات الربيع العريب للعام 2011
وعالوة عىل ذلك، فقد متثل شبكات التواصل االجتامعي وسيلة فعالة لزيادة الوعي
العاملي بني املستخدمني - عىل سبيل املثال، لتشجيع الشبان يف الواليات املتحدة
عىل التصويت ونرش الوعي باملحن اإلنسانية. وبالتايل، ميكن جمع مبالغ كبرية
من املال - كام حدث بالفعل - من خالل متويل الحشود funding crowd، وهو
جهد جامعي من قبل األفراد الذين يتواصلون عرب الشبكة ويجمعون أموالهم عرب
اإلنرتنت لتعزيز الجهود التي بدأها آخرون لدعم طائفة واسعة من األنشطة، من
اإلغاثة يف حاالت الكوارث إىل الرشكات الناشئة.
ما تأثري هذه »الفاعلية الشبكية« clicktivism؟ عىل سبيل املثال، هل أدى
اإلعجاب بالفيديو »كوين 2012« 2012 Kony أو مشاركته إىل إيقاف قيام مجرم

172
ّ تغير العقل
الحرب جوزيف كوين بتغيري أحد املستخدمني لألفضل؟ كان معدل مشاركة األفراد
يف فاعلية »تغطية الليلة« Night the Cover التي اقرتحها كوين 2012 أقل بكثري
مام كان متوقعا، بالنظر إىل الشعبية الساحقة للفيديو. مثة قضية معلقة بخصوص
الفاعلية الشبكية، وهي كيفية ترجمة ما يوجد عىل الشاشة إىل أفعال يف العامل
)20(. ميكن ملواقع التواصل االجتامعي أن تزودنا بقدر كبري من املعلومات عن
الحقيقي
قضايا العامل، ومن ثم تتطلب الفاعلية الشبكية جهدا طفيفا أو منعدما، ويف الوقت
نفسه متنح املستخدمني شعورا جيدا. وقد أطلق آخرون هذا النوع من االهتامم
السلبي والسهل اسم »فاعلية الرتاخي« slacktivism. ويف الواقع أنه، بالنظر إىل
األبحاث التي ناقشناها والتي تبني أن الشاشة ميكنها تعقيم التواصل بني األفراد
وتجريد األفراد من إنسانيتهم، فإن النظر إىل األزمات اإلنسانية عرب أحد مواقع
ُ التواصل االجتامعي قد يحدث تأثريا أقل مام سيحدث لو تعرض املستخدم للموقف
نفسه خارج نطاق اإلنرتنت. وكذلك ميكن للفاعلية الشبكية أن تقلل الحافز إلحداث
تأثري موثوق عىل القضايا اإلنسانية، ألن املستخدم يشعر بأن اإلعجاب بقضية ما
ومشاركتها كان كافيا.
استنادا إىل مقابالت أجريت مع عدد من املراهقني والشبان، استكشفت إحدى
الدراسات مدى اشتامل نهج الشباب يف الحياة عىل اإلنرتنت عىل اعتبارات معنوية
)21(. أظهرت البيانات أن التفكري الفردي كان هو الرتكيز األسايس عند اتخاذ
أو أخالقية
القرارات عىل اإلنرتنت؛ أما التفكري املرتكز عىل املجتمع فكان أقلها انتشارا. وعالوة
عىل ذلك، فقد كان يف وسع األغلبية الساحقة من املشاركني يف هذه الدراسة تحديد
حالة واحدة عىل األقل قللوا فيها من أهمية العنارص املعنوية لألنشطة التي تتم
عرب اإلنرتنت، مام يشري إىل أن األفراد لديهم »قدر أكرب من التسامح تجاه السلوكيات
غري األخالقية عىل اإلنرتنت«. رمبا كنا نتعرض بالفعل لخطر نسيان أبيات جون دون
Donne الشهرية:
إن موت أي إنسان يهد من كياين،
ألنني جزء متشابك من الجنس البرشي،
ومن ثم ال ترسل أحدا لتسأ ُ ل عمن تقرع له األجراس؛

.
)22(
فهي تقرع لك أنت

173
التواصل عرب الشبكات االجتماعية واجملتمع
إن الفيسبوك، وتويرت، واملواقع املشابهة لهام تقدم وعدا بأن تكون عىل الدوام
متصال، ومرغوبا، ومثريا لإلعجاب، وحتى محبوبا. لقد جلبت تلك املواقع إىل
مجتمعنا تفسريات للهوية والعالقات تتحدى القيم واألخالق الحالية، وذلك بطريقة
ّ مل تكن متخيلة حتى قبل عقد واحد من الزمان.

175
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو

ال غاية من وراء املتعة. ولكن من املؤكد
أن الرتكيز كليا عىل أي متعة يف الوقت الحارض
واملستقبل القريب وعىل املدى البعيد هو
الغاية يف حد ذاتها. لكن يبدو األمر أكرب من
ذلك، حيث ّ تقدر املجتمعات البرشية أهمية
البهجة واملرح منذ فجر التاريخ؛ ويكرث ذلك يف
الفعاليات املؤطرة ثقافيا مثل الحفالت واألعياد
وما بها من نبيذ، ونساء، وغناء، وما شابه ذلك
من األمور األكرث حداثة من جنس، ومخدرات،
وموسيقى الروك آند رول التي تحررنا لنحيا
هذه اللحظات، وتحفز حواسنا الخام تحفيزا
مبارشا، وال ترتك أي وقت لألفكار املجردة
واالستبطان الواعي للذات. وميكن لجميع أنواع
املتع هذه أن تكون لها قيمة تطورية بالغة
األهمية. إن من شأن التمتع بانغامس الحواس
يف هذه اللحظات أن يعزز املشاركة يف املتع
الش��يء املتعل��ق بألع��اب
الفيديو

»عىل عكس األلعاب التقليدية التي
مُتارس يف العامل الحقيقي، فإن ألعاب
الفيديو توفر هروبا كليا من ذلك
العامل املضجر والجامد إىل عامل ليس
فقط أكرث إثارة و ّ حسية، بل حيث
توجد نتائج محددة وقابلة للتنبؤ
عىل نحو مطمنئ، والتي ميكن لالعب
املشاركة فيها باعتباره ذاتا أفضل«
13

176
ّ تغير العقل
املادية والبهجة الناتجة من التكاثر والتغذية اللذين ال غنى عنهام من أجل البقاء.
ال يلزم أن تتوقف عند هذا الحد، حيث ترتجم مواهب التمرن عىل بطاقات
الورق أو لعب التمثيليات التحزيرية يف ليلة شتاء ممطرة إىل براعة يف تفسري لغة
الجسد، والتواصل بالعينني وبشكل عام يف تعلم التجاوب مع عمليات التفكري
والعواطف، وكذلك يف اكتساب املهارات املعرفية املهمة مثل االستدالل والذاكرة. إن
اللعب بالدمى ينبئ بالقدرة عىل االعتناء باألطفال، يف حني أن مامرسة جميع أنواع
الرياضات تعمل عىل تعزيز العمل الجامعي والصحة البدنية واملهارات التنافسية
التي كانت لتضمن البقاء لألصلح يف السافانا البدائية. أما ألعاب الفيديو فيمكنها،
ّ وألول مرة، فصل املتعة املستمدة من أي متطلبات قيمة للبقاء متكنت من تلبيتها
األلعاب التقليدية. وبدال من اعتبار تجربة مامرسة األلعاب استجابة القرن الحادي
والعرشين لالحتياجات القدمية، ميكنها أن متّثل غاية يف حد ذاتها، وليس وسيلة
لالزدهار عىل أرض الواقع.
وقد ساعد ظهور الهواتف الذكية يف تحويل تلك التجربة بشكل أكرب: ميارس
)1(، ويبدو أن هذا

36 يف املائة من الالعبني األمريكيني ألعابهم عرب هواتفهم الذكية
التوجه سيزداد يف املستقبل، حيث أصبحت الهواتف تلبي املتطلبات املختلفة لكل
شخص عىل نحو متزايد. ومن شأن تلك التطورات التقنية الهائلة أن تجعل ألعاب
الفيديو أكرث ثراء وتجعل منها تجارب أكرث تنوعا، كام أسهمت يف زيادة شعبية تلك
األلعاب. ومن املثري لالهتامم - وخالفا للتوجهات السابقة - أن األلعاب تكتسب
برسعة شعبية هائلة لدى األجيال األكرب سنا. ّ يقدر متوسط عمر الالعب حاليا
.)2(
بنحو ثالثني عاما، ووفق التقديرات، فإن 45 يف املائة من الالعبني هم من النساء
ومع ذلك، فإن ألعاب الفيديو توفر ما يروق لألفراد من جميع األعامر، والخلفيات
ُُطر، وهو أمر نادر الحدوث عىل أرض الواقع ويف األلعاب التقليدية.
واأل
نيكول الزارو هي مؤسسة ورئيسة رشكة Design XEO،« الرشكة صاحبة الخربة
األعرق عامليا يف مجال استشارات التصميم«، وباحثة بارزة يف مجال »العواطف ومتعة
األلعاب«. ولكونها خبرية يف مجال االنفعاالت وألعاب الفيديو، فقد حددت الزارو
أربعة أنواع مختلفة من التسلية عن طريق ألعاب الفيديو، توفر األلعاب األكرث مبيعا
منها ثالثة أنواع عىل األقل. التسلية الشاقة التي متنحك التحدي املمزوج بوعد الوصول

177
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو
لإلجادة يف النهاية، والتسلية السلسة التي تضفي بهجة مطلقة نابعة من تجربة اللعبة
يف حد ذاتها. والتسلية الجادة التي تبعث الحياة يف املهام اململة. يف حني أن التسلية
)3(. نادرا ما متنح الحياة

الجامعية هي النتيجة الحتمية لقضاء الوقت مع أصدقائك
الواقعية نوعا أو اثنني من تلك الفرص يف وقت واحد، وبالتأكيد ليس حينام نطلبها، أما
ألعاب الفيديو فهي مصممة بدقة شديدة لتلبية هذا الغرض بالتحديد.
لكن ال تتساوى جميع األلعاب، فهي قد تتفاوت ليس فقط من حيث منصة
اللعب )مثل ألعاب الحاسوب، واأللعاب ذات وحدات التحكم، وألعاب الهواتف
النقالة( ولكن أيضا ىف طريقة اللعب )مثل اللعب الفردي، واللعب الجامعي،
واللعب غري املتصل باإلنرتنت واملتصل به(. وتظل ألعاب القنص هي األكرث شهرة
بينها، سواء املتصلة أو غري املتصلة باإلنرتنت. وُتعد النسخة األخرية من سلسلة Call
Duty of أو »نداء الواجب« واحدا من أكرث األسامء املتهافت عليها، حيث بيع منها
)4(. ويف حني
أكرث من سبعة وعرشين مليون نسخة خالل الستة أشهر األوىل إلطالقها
تتباين محفزات اللعب وفقا لنوع الجنس والعمر، والصفات الشخصية، والحالة
املزاجية لالعب، فإن عددا قليال من العنارص املشرتكة يف جاذبية ألعاب الفيديو
يحتل مرتبة عالية عىل الدوام باعتبارها عوامل مساهمة. كثريا ما يستشهد الالعبون
بالفرص املتاحة »لإلنجاز«، أو »الهروب«، أو »التواصل االجتامعي« كأسباب لدخول

.
)5(
هذه العوامل غري الواقعية
توجد ألعاب الفيديو منذ أكرث من نصف قرن، لكنها يف العقدين املاضيني
فقط أصبحت تجارب وخربات تشاركية ال نهاية لها عرب اإلنرتنت، مع آالف من
الالعبني اآلخرين املتفاعلني يف الوقت نفسه. ونظرا إىل أنه يطلق عليها ألعاب
تقمص األدوار املتعددة الالعبني بشكل واسع عرب اإلنرتنت MMORPGs، فهي
ّز عىل مدى تقدم الشخصية التي يتحكم فيها الالعب، وهي شخصية متجسدة
ترك
)أفاتار(، يف عامل خيايل. وعىل عكس األلعاب النمطية التي ُتطلق فيها النار عىل أول
شخص تقابله، يتحكم مامرسو األلعاب MMORPGs بشكل كامل يف املواصفات
الفيزيائية لألفاتار، وكذلك يف تطوره وسامته. ُويَتعرف عىل مدى تقدم األفاتار
من خالل املعارك، واالنفجارات، واقتناء األدوات، وتطوير املهارات، والتواصل
االجتامعي ورسد الروايات. ويعد عامل األلعاب MMORPGs الذي تنترش فيه

178
ّ تغير العقل
هذه الحركات أكرب يف نطاقه من عوامل األلعاب التي ُتطلق فيها النار عىل أول
شخص تقابله، مع أعداد كبرية من الالعبني القادرين عىل التفاعل معا يف العامل
االفرتايض نفسه. وباإلضافة إىل ذلك، تتسم هذه اللعبة العاملية بكونها متواصلة،
من حيث إن العامل يستمر يف التوغل يف عامل اإلنرتنت املتواصل التحديث والتطور،
سواء قام الالعب بتسجيل دخوله أو ال. وعىل العكس من ذلك، تنطوي ألعاب
القنص بتقمص شخصية بطل اللعبة عىل سيناريوهات »لحظية« بشكل بحت،
ففي هذه األلعاب تجري األحداث عىل مدار فرتة اللعبة فقط وميكن بدؤها من
جديد من النقطة نفسها لعدد النهايئ من املرات.
ُيعد هذا فارقا مهام. فعند مراجعة االكتشافات الحالية حول مامرسة األلعاب،
ُ َص الكاتبان داريا كوس Kuss ومارك غريفيث Griffiths إىل أنه، نظرا إىل
خل
االحتامالت الالمحدودة للعوامل الجديدة من األلعاب MMORPGs، وطبيعتها
االجتامعية، واحتامل أن ينشأ ارتباط بني الالعب وشخصيته املستعارة، تعد األلعاب
)6(. حاول صديقي، الذي

MMORPGs من أكرث ألعاب الفيديو التي تلقى رواجا
لديه ابن متعلق بشدة بألعاب الفيديو دون غريها، والذي بإمكانه مالحظة جاذبية
مامرسة هذه األلعاب والضعف تجاهها، أن يرشح يل األمر قائال: »لقد ُص ّممت هذه
األلعاب خصيصا لجذب الالعب إىل عاملها، فكلام نجحت يف تخطي أحد املستويات
فإنك ُتكافأ باالنتقال إىل املستوى الذي يليه، فهي ال تتوقف من تلقاء نفسها مطلقا،
وإن أخذت اسرتاحة فإنك إما ستتعرض ملعاناة يف مامرسة اللعبة الحقا وإما ستشعر
بالوحشة الفتقادك اإلثارة واملتعة التي متنحك إياها مامرسة اللعبة«.
ويزيد من التشويق هذا التعلق الشخيص واستثامر مشاعرك يف شخصية
بديلة عنك متارس األلعاب. وُت َّصمم التجارب إلضفاء إثارة ومغزى كوسيلة للتالعب
بالسلوك. استطاع جون هوبسون Hopson، بصفته مصمم املوقع Gamasutra،
وهو موقع إلكرتوين تأسس يف العام 1997 ويركز عىل جميع جوانب تطوير ألعاب
الفيديو، أن يحلل تلك الجاذبية يف ضوء النظرية السلوكية املثبتة، حيث ُيستخدم
اإلرشاط conditioning لتعليم البرش والحيوانات عىل حد سواء معلومات
وسلوكيات جديدة. فعىل سبيل املثال، ميكن التحكم يف الجرذان من خالل مكافأتها
بكرات الطعام، أو معاقبتها بتعريضها للصدمات نتيجة لسلوك بسيط كالضغط عىل

179
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو
قضيب معدين. ويصف هوبسون كيف ميكن الضغط عىل الالعب، مثل الجرذ، من
أجل االستمرار يف اللعب عند الحصول عىل املكافأة تحت ظروف معينة. ويف ظل
ظروف معينة، ال تكتفي الجرذان بتجنب األمور املزعجة فقط، ولكن أيضا يساورها
الشك يف عدم معرفة موعد املكافأة؛ فهي ال تعرف إال أنها ستحصل عىل مكافأة يف
)7(. وبالنسبة إىل الالعبني من البرش، قد تكون هناك مكافأة بعد إنهاء
نهاية املطاف
عدد من اإلجراءات )الجدول الثابت املعدل(، أو بعد عدد محدد من اإلجراءات
مع تغري العدد يف كل مرة بدال من ذلك )الجدول املتغري املعدل(. وبالتايل هناك
ما هو معروف بالجداول املتسلسلة، التي تنطوي عىل مراحل متعددة للوصول
إىل الهدف، حيث يحتاج الالعب إىل االستجابة رسيعا. ولذلك تعترب األلعاب وسيلة
ممتازة للتأثري يف املعالجة الدماغية عند مستوى أ ٍ سايس إىل حد بعيد.
ويف العام ،2002 أجرى عامل االجتامع نيك يي Yee بحثا مهام عىل ما يقرب
.)8(
من أربعة آالف العب يك يتسنى له اكتساب نظرة ثاقبة بشأن سلوكيات اللعب
وقد توصل يي إىل أن أكرث من نصف الالعبني اعرتفوا بأنهم ميارسون األلعاب
MMORPGs بشكل مستمر ملدة 10 ساعات أو أكرث يف الجلسة الواحدة، وذكر 15
يف املائة منهم أنهم يشعرون بالقلق، أو العصبية، أو الغضب حينام ال يستطيعون
اللعب. وأقر ما يقرب من 30 يف املائة من الالعبني بأنهم يستمرون يف اللعب حتى
عندما ينتابهم الشعور باإلحباط أو القلق، أو حينام ميلون اللعب وال يشعرون
باالستمتاع به، يف حني ّيدعي 18 يف املائة منهم أن األلعاب سببت لهم مشكالت
أكادميية، أو صحية، أو مالية، أو مشكالت يف العالقات.
العديد منا لديه مزيد من القصص التي يرويها. فقد أخربين أحد اآلباء قائال:
عىل رغم أن ابني قد أضاع سنة جامعية يف مامرسة لعبة ورلد أوف
وركرافت Warcraft of World، فإنني أرى أن تجاوزه لهذا األمر وكونه
يحظى اآلن بحياة مهنية ناجحة )اللهم ال حسد!( ال يعني أنه قد عويف
من إدمان األلعاب اإللكرتونية؛ فهو يف رأيي مل يتعاف منها وأشك يف أنه
قد يتعاىف منها يف يوم ما.
لقد كان هذا األب، وهو صديق شخيص يل، عىل وشك البكاء حينام أخربين
ألول مرة عن محنة ابنه، ولبضعة أشهر، كان هذا املوضوع هو محور حديثنا كلام

180
ّ تغير العقل
رأيته. كان يشعر بالذنب وقلة الحيلة هو ووالدة الفتى، ويتساءالن: متى وكيف
حدث هذا؟
ْ قد يصاحب أي سلوك ينتهجه الفرد رضب من رضوب اإلدمان. وبعبارة أخرى،
قد يقرتن أي سلوك بشعور قهري يدفع الفرد إىل مامرسة فعل معينّ مرارا وتكرارا إىل
أن ينتج من ذلك الفعل أثر سلبي خطري يأخذ طابع االستدامة ويرض بصحة الفرد
البدنية، أو العقلية، أو مبصالحه االجتامعية، أو املالية، أو جميع ما سبق يف و ٍ قت
ُدرجت حالة »اضطراب استخدام

واحد. ومن هذا املنطلق، يجدر بالذكر أنه قد أ
اإلنرتنت« يف الطبعة الخامسة من الدليل التشخييص واإلحصايئ لالضطرابات العقلية
5 - DSM، ويف القسم الثالث تحديدا، وذلك اعتبارا من شهر مايو ،2013 كحالة
مرضية »يوىص بإجراء مزيد من الدراسات عليها«. لقد أ ّدت هذه الخطوة إىل تأجيل
ٍ االعرتاف بهذا االضطراب وإدراجه بشكل نهايئ إىل أن ُيَّت ّ فق عىل املعايري املوحدة
)9( ِ . ولكن، وعىل مدار أكرث من عقد من

ّ املطلوبة للتوصل إىل تشخيص نفيس مؤكد
الزمان، أظهرت دراسات عديدة أدلة تشري إىل أنه ميكن اعتبار اإلفراط يف استعامل
)10(، كذلك الحال بالنسبة إىل اإلفراط
َرضية
َ
اإلنرتنت إدمانا سلوكيا شبيها باملقامرة امل
يف استعامل العنارص املرتبطة باإلنرتنت، مثل األلعاب. ويتعني علينا هنا أن ننتبه إىل
نقطة مهمة، وهي عدم ارتباط جميع األنشطة التي مُتارس عىل اإلنرتنت مبامرسة

.
)11(
األلعاب، والعكس صحيح
ولكن مرة أخرى، نجد أن مامرسة األلعاب عىل اإلنرتنت هي أكرث النقاط املعنية
بالدراسة من جانب الباحثني عندما يعكفون عىل تقصيّ جوانب محددة لها عالقة
ّ باإلفراط يف استعامل اإلنرتنت. وعىل الرغم من تعدد الطرق التي قد نسلكها لوضع
ّ تصور محدد عن اإلفراط يف مامرسة األلعاب وقياس هذا السلوك، فإن هناك َعَرضني
يتسق ظهورهام مع ذلك السلوك، وهام: حدوث مشكالت خطرية نتيجة لإلفراط يف
مامرسة األلعاب، والعجز عن التحكم يف معدل مامرسة األلعاب. إن بعض األعراض
املميزة إلدمان ألعاب الفيديو تتضمن الكذب بشأن الوقت الذى ُي ىَقض ىف اللعب،
والشعور الشديد بالسعادة أو بالذنب مع قضاء مزيد ومزيد من الوقت للحصول
عىل القدر نفسه من االستمتاع، إىل جانب االبتعاد عن األصدقاء، أو األرسة أو رشيك
ّب املزاج، والقلق أو الشعور بعدم

الحياة، والتعرض ملشاعر الغضب، والحزن، وتقل

181
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو
االرتياح عند عدم اللعب، باإلضافة إىل إنفاق مبالغ مالية معتربة عىل خدمات
اإلنرتنت وتحديث الحاسوب أو أنظمة اللعب واستحواذ اللعب عىل التفكري حتى

.
)12(
عند عمل أشياء أخرى
يقول البعض إن تلك التجارب املرتكزة عىل الشاشة هي مجرد وسيلة للوصول
)13(. ومبعنى آخر، فإن املقامر الذي يقود سيارته كل يوم

إىل إدمان نشاط معني
للوصول إىل الكازينو ليس مدمنا القيادة بل مدمن لعب القامر، وباملثل فإن الشخص
الذي يستخدم اإلنرتنت للعب القامر هو مدمن لعب القامر وليس اإلنرتنت. لكن،
بينام للعب القامر عرب اإلنرتنت بديل ىف العامل الواقعي، فإن ألعاب الفيديو، كام
هو واضح من اسمها، ليس لها بديل. فهي، عىل عكس ألعاب القامر، ُتعد ظاهرة
مرتبطة بالتكنولوجيا الرقمية. وبالتايل فإن أي سلوك شاذ مرتبط بألعاب الفيديو
ال ميكن انتزاعه بعيدا عن الشاشة والتجربة الفريدة التي متنحها. وعىل رغم أن
استخدام اإلنرتنت ميكن أن يتعدى مامرسة األلعاب، فإننا نحتاج إىل أن نتذكر أن
إدمان ألعاب الفيديو سيبقى إدمانا ملامرسة ألعاب الفيديو وليس أي يشء آخر.
تتباين اإلحصائيات املتعلقة بإدمان استخدام اإلنرتنت كثريا يف ُمختلف الثقافات،
)14(. لكن اإلحصائيات

َوتعتمد عىل شكل التقييم ُ املّتبع يف تقدير هذه اإلحصائيات
تظهر أن عدد ُمدمني ألعاب الفيديو يبدو متامثال عىل وجه الخصوص. وباالستعانة
َ مبثال مستمد من إحصائيات الواليات املتحدة، وَج ِ د دوغالس جنتايل أن نسبة
8 يف املائة من مامريس ألعاب الفيديو الذين ترتاوح أعامرهم بني 8 و18 سنة
ُ ِجرَي أخريا تقديرا لعددهم

)15(، فيام ُي َ ظهر مسح آخر أ

ُي َّصنفون باعتبارهم مدمنني

)16(. ليس ذلك فقط، بل ُتشري التقديرات األولية إىل

بنسبة من 2 إىل 12 يف املائة
وجود نسبة تقل عن 10 يف املائة مشرتكة عرب القارات املختلفة: ويف دراسة طولية
ُ ِجرَيت عىل طالب املراحل االبتدائية والثانوية بسنغافورة، مبا

استمرت لعامني وأ
يف ذلك ما ُيقارب 3 ّ آالف *** يف الصف الثالث، اتضح أن نسبة انتشار ُ»مامرسة
األلعاب بشكل َمَرضيِ« كانت مشابهة لنسبة انتشارها يف الدول األخرى، وهي 9 يف
)17(. ولكن بعيدا عن األسئلة القياسية، والخلط مع أنشطة اإلنرتنت األخرى،
املائة
واإلحصائيات، والجاذبية اإلضافية التي يتمتع بها التفاعل عرب اإلنرتنت، فهل مُيكننا
الجزم بأن مامرسة ألعاب الفيديو هي نوع من اإلدمان؟

182
ّ تغير العقل
َيَرى أفيف واينشتاين Weinstein َ الذي يعمل يف مركز هَد َ اسا الطبي ُ بالقدس
أن الرغبة يف مامرسة األلعاب عرب اإلنرتنت والرغبة يف إدمان املخدرات تشرتكان
)18(، كام يزُعم واينشتاين أن ُ املراهقني قد

يف الطبيعة العصبية البيولوجية نفسها
َ يقضون وقتا أطول يف مامرسة األلعاب، وي ِسبق ُ تفكري َ هم يف هذه األلعاب تفكريهم
يف أمورهم املهمة األخرى، وأنهم مُي َ ارسون هذه األلعاب بهدف الهَرب من مشكالتهم
العاطفية، ويواجهون صعوبة يف العمل األكادميي واالنخراط يف املجتمع، فضال عن
ُ ِرسهم. إن األفراد املنتمني إىل هذا النمط

أنهم ُيخفون مامرستهم لهذه األلعاب عن أ
ّ السلويك، الذين يتعرضون لتهيج ال يطاق عندما يتوقفون عن اللعب، ُيظهرون
العالمات ّ املميزة النمطية لالستحواذ obsession، وحتى اإلدمان. ولكن هل ميكن
أن تكون القواسم السلوكية املشرتكة لإلدمان التقليدي ومامرسة األلعاب املكثفة
مرتبطة بالحالة الدماغية نفسها؟
يف دراسة معينة للتصوير الدماغي، أظهر املشاركون األصحاء يف املجموعة
الضابطة انخفاضا يف عدد األهداف الجزيئية )املستقبالت( الخاصة بالناقل العصبي
»الدوبامني« يف منطقة رئيسة من الدماغ ّ )املخطط البطني( بعد مامرسة لعبة
حاسوبية تنطوي عىل قيادة دراجة نارية. ويف تناقض صارخ، فلم ُيظهر املتعاطون
املزمنون السابقون لعقار النشوة Ecstasy أي تغيري يف حالة مستقبالتهم بعد
)19(. أما بالنسبة إىل غري املدمنني الذين خربوا التشويق املتمثل يف

مامرسة هذه اللعبة
مامرسة اللعبة، فقد كانت هناك زيادة يف إفراز الدوبامني، أدت إىل »إزالة تحسيس«
مستقبالتهم )تذكر مثال املصافحة يف الفصل السابع، وكيف ُتصاب اليد بالخدر
عند الضغط عليها بقوة شديدة أو لفرتة طويلة للغاية(. لكن أدمغة املدمنني عىل
عقار النشوة تحيك قصة مختلفة. ففي هذه الحالة، أدى التعاطي املزمن للعقار إىل
تعويد الدماغ عىل كميات هائلة من الدوبامني. وبالتايل فلم ُتضف ألعاب الفيديو
أي إثارة ألنها تعمل من خالل اآللية املشرتكة نفسها. ويبدو أنه بقدر ما كان الدماغ
معنيا، فإن تعاطي عقار النشوة ومامرسة األلعاب كانا تجربتني متشابهتني.
ومن الطرق األخرى التي توضح أن مامرسة األلعاب تؤدي إىل إفراز مستويات
عالية من الدوبامني يف الدماغ، نجد النظر إىل التغريات الحادثة يف الحجم الفعيل
للدماغ. هل تتذكر كيف كان ُ الحصني أكرب حجام عند سائقي السيارات األجرة يف

183
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو
لندن بسبب اعتامدهم الدائم عىل ذاكرتهم العاملة أثناء القيادة؟ يبدو أن املبدأ
نفسه يرسي عىل الالعبني وأنظمة الدوبامني لديهم. ففي صغار الالعبني، ُيظهر
)20( يف املكان الذي ُيفرز فيه

ّ تصوير الدماغ كرب مساحة الدماغ )املخطط البطني(

)21(. ومن املثري لالهتامم وجود سمة مشابهة يف أدمغة

الناقل العصبي، الدوبامني

)22(. ولذا يبدو أننا سواء كنا

املقامرين املرضيني، الذين يعانون إدمانا سلوكيا آخر
نتحدث عن إدمان املخدرات أو القامر أو مامرسة األلعاب، فإن هذه الحاالت
الثالث ترتبط بزيادة إفراز الدوبامني يف املخطط البطني. والسؤال التايل هو: هل
األشخاص الذين يعانون كرب املخطط البطني لديهم ميول نحو مامرسة األلعاب أم
أن اإلفراط يف مامرسة األلعاب قد ترك بصمته يف الدماغ؟ يثري هذا معضلة اللغز
التقليدي بشأن الدجاجة والبيضة، والذي يؤدي يف العموم إىل تعقيد أبحاث الدماغ:
هل يسبب وجود سمة شاذة يف الدماغ حدوث سلوك شاذ أم أن السلوك الشاذ
يؤدي إىل تغري يف الدماغ، وذلك بفضل لدونته؟
دعونا نبدأ بالدجاجة: أي أن مامرسة األلعاب، كام هي الحال مع جميع تجارب
الحياة، ترتك بصامتها عىل الدماغ الرسيع التأثر واللدن. تشري أبحاث فريق سيمون
كوهن Kühn يف جامعة غنت يف بلجيكا إىل أن هذه هي الحال. أظهر الباحثون
أن مامرسة األلعاب قد تكون مرتبطة بزيادة حجم املخطط البطني، مام يعكس
)23(. وبعبارة أخرى،

اللدونة العصبية التكيفية من خالل اإلفراز املستديم للدوبامني
فكلام زاد الوقت الذي ُيقىض يف اللعب، زاد وضوح تضخم املخطط البطني. وهذا
يشري إىل أن السابق قد سبب حدوث األخري.
نأيت اآلن إىل البيضة: أي فكرة أن مثة حالة دماغية موجودة مسبقا قد تؤهب
األفراد للمامرسة القهرية لأللعاب. وجد كريك إريكسون Erickson من جامعة
إلينوي عالقة بني حجم منطقة رئيسة يف الدماغ، وهي ّ املخطط الظهري dorsal
)24(. وقد
striatum، والنجاح الالحق للتدريب عىل مامرسة إحدى ألعاب الفيديو
وصف إريكسون أيضا وجود صلة، لوحظت بدورها بالتصوير الشعاعي، بني تفعيل
ّط
املخطط قبل التدريب واالكتساب الالحق للمهارات خالل مامرسة األلعاب. تسل
هذه النتائج الضوء عىل أهمية هذا املخطط باعتباره مصدرا غنيا للدوبامني، وكيف
أن هذا قد يكون متسقا مع فكرة أن بعض األدمغة تكون أكرث عرضة لالستجابة

184
ّ تغير العقل
ّ إلغراء األلعاب. إن األفراد الذين يتصادف أن يكون املخطط لديهم أكرب حجام قد
يخربون مامرسة األلعاب باعتبارها ُمجزية أكرث يف املقام األول. وميكن لهذه البنية
العصبية، يف املقابل، أن تسهل اكتساب املهارات وتؤدي إىل الحصول عىل قدر أكرب
من املكافآت من اللعب.
وبالتايل، فمن الذي جاء أوال، الدجاجة أم البيضة؟ هل أدت تجربة قوية
ومستدامة إىل تشكيل الدماغ، أم أن نوعا معينا من الدماغ كان مياال بالفعل إىل
االستجابة بسهولة لتلك التجربة؟ مثة تلميح مهم هنا إىل اإلجابة الصحيحة، وهو
البنية الترشيحية للمخطط نفسه. ميكن تقسيم هذه البنية إىل قسمني، وهام املنطقة
العلوية )الظهرية( والسفلية )البطنية(. وقد اتضح أن تلك األخرية ُتفرز قدرا أكرب
)25(. ولذلك فقد ال يكون من املستغرب أن ترتبط املنطقتان

من الدوبامني من األوىل
بأنواع مختلفة من الوظائف: ينسق ّ املخطط الظهري املهامت الحسية لتحقيق هدف
ما، يف حني أن الدوبامني الذي يفرزه الجزء البطني يعزز أثر املكافأة الفعلية التي
)26(. وبالتايل فمن بني الطرق املحتملة لحل مشكلة الدجاجة والبيضة، ميكننا
تستتبعه
القول إن الدماغ امليال إىل التنسيق الحيس الحريك الفعال، مع مخطط ظهري نشط،
سيكون مياال إىل مامرسة األلعاب، يف حني أن األلعاب نفسها هي ما يغري طريقة
استجابة املخطط البطني للمكافأة. ومع ذلك فنادرا ما تكون العلوم العصبية بهذا
القدر املبسط من التحديد املسبق، ومن املؤكد أن البحوث الجارية يف هذا املجال
التزال يف مراحلها األوىل.
وعىل أي حال، فإن سيناريو الدجاجة، والذي يؤثر فيه الهوس باأللعاب بصورة
مبارشة يف الحاالت الدماغية، ال يتعارض بالرضورة مع سيناريو البيضة، والذي يقول
بوجود نوع من الدماغ لديه استعداد خاص. وتتمثل القضية األكرث أهمية هنا
يف مساهمة الدوبامني. أثبت علامء األعصاب يف مستشفى هامر سميث يف لندن
.)27(
أن مامرسة ألعاب الفيديو تؤدي بصورة مبارشة إىل إفراز هذا الناقل العصبي
وعىل أي حال، فمثلام يستحيل إثبات وجود عالقة سببية بني األفعال البيوكيميائية
املعروفة لعقار الربوزاك يف تعزيز توافر السريوتونني وتخفيف حدة االكتئاب، عىل
سبيل املثال، فإن ترجمة اإلفراز املالَحظ مبوضوعية للدوبامني يف الدماغ إىل التأثريات
الذاتية للشعور بالسعادة الغامرة هو أمر يصعب تصوره متاما.

185
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو
ال يوجد يشء سحري محتجز بداخل جزيء الدوبامني. وبدال من ذلك، فإن
املوقع ّ املحدد يف الدماغ، جنبا إىل جنب مع السياق البيئي الذي يعمل فيه، هو
الذي يحدد األثر الصايف النهايئ. ويكفي أن نقول إن زيادة مستويات الدوبامني
ترتبط باستمرار مبختلف الحاالت الدماغية املتعلقة باالستثارة، واملكافأة، واإلدمان.
وعالوة عىل ذلك، فإن فكرة أن سيناريو الدجاجة والبيضة ليستا متعارضتني ولكنهام
قد تعزز كلتاهام األخرى يف الواقع ستكون مثاال رائعا عىل كيفية عمل الدماغ
والبيئة ضمن حوار مكثف ومتواصل يف االتجاهني.
فلامذا يصبح بعض األشخاص دون غريهم مدمنني عىل ألعاب الفيديو؟ إن
قدرة الفرد عىل الشعور باإلثارة قد تؤدي دورا حاسام هنا. وباعتبار أن الدوبامني
يرتبط باالستثارة العالية، كام ُيالحظ عند تعاطي عقار األمفيتامني )الذي يؤدي إىل
إفراز الدوبامني يف الدماغ(، تبدو هذه الفكرة منطقية متاما. وجدت دراسة أمناطا
مختلفة من االستثارة يف األنواع املختلفة من الالعبني. أظهر من يلعبون لفرتات
مطولة ألعاب الفيديو التي ُيطلق فيها النار عىل أول شخص تراه مستويات أعىل
بكثري من االستثارة خالل مامرسة اللعبة، والتي انخفضت عىل الفور بعد مامرسة
)28(. وعىل النقيض من ذلك، فقد ظل الالعبون الذين مل يلعبوا بشكل مفرط
اللعبة
»يف حالة عالية« حتى بعد أن انتهت مامرسة اللعبة. أظهر املامرسون املفرطون
لأللعاب MMORPGs انخفاضات كبرية يف االستثارة الفسيولوجية، والتي ارتفعت
مرة أخرى بعد مامرسة اللعبة مبارشة. ويف الوقت نفسه، فقط أظهر املامرسون
املعتدلون لأللعاب MMORPGs زيادة طبيعية يف االستثارة خالل مامرسة اللعبة،
والتي وصلت بعد ذلك إىل مستوى مستقر بعد انتهاء اللعب.
تتسم هذه االختالفات يف مستوى االستثارة لدى الالعبني من مختلف األنواع
بكونها مامثلة لتلك املذكورة يف األدبيات العلمية حول املقامرة املرضية. هناك
مدمنون مندفعون باحثون عن اإلثارة، الذين يتناولون املواد املنبهة أو ينخرطون يف
سلوكيات عالية املخاطر؛ وعىل النقيض من ذلك، هناك الهروبيون escapists، وهم
املدمنون املكتئبون يف كثري من األحيان، الذين ال يسعون إىل االستثارة العالية.
وبالتايل، فبالنسبة إىل النوع الثاين من الالعبني، وهو النوع الذي يتعرض
ملستويات منخفضة من االستثارة، فإن الوقت الذي يقضيه يف مامرسة األلعاب

186
ّ تغير العقل
MMORPGs والطبيعة الخرقاء للنشاط قد تكون لهام آثار طويلة األجل يف
الحالة العقلية. وبطبيعة الحال، فسينطبق تعقيد الدجاجة والبيضة مرة أخرى:
فهذه االضطرابات يف تنظيم االستثارة قد تكون إما سببا إلدمان مامرسة األلعاب
وإما نتيجة له. ومع ذلك، فإن اكتشاف أن النشاط يؤثر فسيولوجيا يف الالعبني
املفرطني بصورة مختلفة عن الالعبني املعتدلني ميثل اعتبارا مهام يجب أخذه
بعني االعتبار.
ولكن يف نهاية املطاف، ما الذي يحدد يف النهاية مستوى الفرد من االستثارة، وما
إذا كان سيصبح مدمنا عىل نوع أو آخر من ألعاب الفيديو؟ من املستحيل اإلجابة
عن هذا السؤال، وكذلك يستحيل معرفة سبب استعداد بعض األفراد دون غريهم
ألن يكونوا خجولني أو مرحني. قد تكون هناك بعض النزعات غري مبارشة متاما،
والتي تتحدد وراثيا. وعىل سبيل املثال، فقد ُذكر وجود حساسية محتملة موروثة
ّ لإلدمان عىل ألعاب الفيديو يف الدراسات التي أجريت عىل الجينات املرمزة لنوع
)29(. وقد يؤثر هذا بدوره يف تأثريات الدوبامني الذي

فرعي من مستقبالت الدوبامني

ّر أنه من
ُيفرز يف الدماغ، ولكن حتى هنا يستحيل إثبات وجود عالقة سببية. تذك
غري املحتمل متاما أن يوجد جني واحد فقط ألي سمة معرفية معقدة.
من املستحيل استخالص تسلسل سبب ونتيجة األحداث خالل تفاعل الدماغ
مع البيئة، وبالتايل فمن الصعب التنبؤ بأي قدر من الدقة مبا إن كان شخص ما
سيصبح مدمنا عىل ألعاب الفيديو. من املحتمل أن تكون هناك آثار تراكمية ناجمة
عن عوامل الخطر مثل: تدنيّ الوضع االجتامعي واالقتصادي، واالكتئاب الوالدي،
وإجرام الوالدين، والعنف املنزيل، وتعاطي الوالدين للكحول واملخدرات، والتي
ميكن معاوضتها بدرجة تزيد أو تقل بالعوامل الوقائية. ولكن يف حالة صديقي الذي
ينتمي إىل الطبقة املتوسطة وابنه الذي تلقى تعليام باهظ التكلفة، فال ينطبق عليها
أي من عوامل الخطر تلك.
تتمثل وجهة النظر األكرث قبوال يف أن ما يجري يف أدمغة املدمنني عىل ألعاب
الفيديو ال يختلف نوعيا بل يختلف من الناحية ّ الكمية عام يحدث يف أدمغة
من هم أقل هوسا بتلك األلعاب. وإال ملاذا ستكون ألعاب الفيديو مجزية، بحكم
التعريف، لكل شخص منفرد ميارسها؟ يبدو أن مامرسة األلعاب ميكنها تحريض

187
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو
إفراز ما يكفي من الدوبامني للحفاظ عىل شعور جيد لدى املستخدم، ولكن ليس
مبا يكفي إلزالة تحسس املستخدم متاما لتأثريها. لكن إغراء األلعاب ال يعمل عىل
املستوى البيوكيميايئ التلقايئ للدوبامني يف الدماغ فقط، بل أيضا عىل املستوى
املعريف املتعلق بالعالقات االجتامعية. ال بد أن الدافع الذي ال ُيقاوم للعب القامر
ينطوي ليس فقط عىل الحيل الداخلية للدماغ ولكن أيضا عىل تفاعل الدماغ يف
عالقة مستمرة ذات اتجاهني مع الشاشة. تتسم الطبيعة ذاتها لبيئة الشاشة هذه
بأهميتها البالغة الستمرار الفرد يف اللعب. تتميز األلعاب بصخبها واحتوائها عىل
مشاهد غنية برصيا، متاما مثل فيلم يعتمد عىل الحركة واإلثارة. ولكن ذلك باإلضافة
إىل كونها غامرة، إذ إنها ال تقدم مجرد تحفيز حيس قوي فقط، بل »تدفق«، أو قدرة
الالعب عىل نسيان نفسه يف عامل اللعبة واالنهامك فيها متاما.
»إن مامرسة اللعبة ]Warcraft of World ]تجعلني أشعر بأنني رباين... فلدي
سيطرة مطلقة، وميكنني أن أفعل ما أريد مع عدد قليل من التداعيات الحقيقية.
أما العامل الحقيقي فيجعلني أشعر بالعجز... حاسوب معطل، أو *** يبيك بحرقة،
أو بطارية هاتف نقال متوت فجأة - تلك العقبات الصغرية يف الحياة اليومية تشعرين
)30(. هذا ما قاله أستاذ اللغة اإلنجليزية ريان فان

بأين منزوع القوة عىل نحو عميق«
كليف Cleave Van، وهو يتذكر الوقت الذي كان ميارس فيه ألعاب الفيديو لنحو
ستني ساعة أسبوعيا. الحظ أن ريان مل يذكر حتى أنه »استمتع« بذلك وأن عقليته
تدل عىل يشء أعمق من ذلك بكثري. كانت لعبة Warcraft of World، بالنسبة
إليه، ملجأ من العامل الحقيقي الذي كان يشعر فيه بعدم كفايته.
أما أوليفيا ميتكالف Metcalf من الجامعة الوطنية األسرتالية، التي درست
سيكولوجية اإلفراط يف مامرسة األلعاب، فتحدد العالمة الفارقة بأن الجاذبية قد ال
تكون نتيجة إيجابية أللعاب الفيديو ذاتها، بل إن األلعاب توفر فرصة للهروب من
الحياة الواقعية التي تفتقر إىل أي غرض أو اتجاه:
رمبا كانت ألعاب الفيديو متثل أكرث من مجرد متعة للهروب من
الواقع؛ فهي متنح الشباب املحبطني الفرصة لتلبية تلك االحتياجات
الجوهرية لوجودهم كبرش: الكفاءة، والهدف، والنجاح، واإلنجاز، وهلم
جرا. تشري األبحاث يف الواقع إىل أن هذه متثل بعضا من الدوافع ملامرسة

188
ّ تغير العقل
ألعاب الفيديو: الفرصة ألن تكون متميزا يف حني أنك غالبا شخص عادي

.
)31(
يف الحياة الواقعية
ورمبا أن التحدي »اإلنساين« املتمثل يف التفاعل مع الالعبني اآلخرين الذين
يربزون يف الفضاء اإللكرتوين يخلق إلزاما compulsion أكرب بالنسبة إىل كثري من
الالعبني. وعىل هذا النحو، فإن ألعاب الفيديو التي متارس عىل اإلنرتنت لديها
مُ احتامالت إدمانية أعىل من األلعاب التي تارس بعيدا عن اإلنرتنت. وعىل وجه
التحديد، من املعتقد أن األلعاب MMORPGs متتلك عددا من الخصائص الفريدة
التي توفر لها احتامالت إدمانية أعىل من األنواع األخرى. أجرى الدكتور دانيال
كينغ King، الذي يعمل باحثا يف كلية علم النفس بجامعة أدياليد، مراجعة شاملة
ُجريت يف جميع أنحاء العامل عن السلوك »املريض« أو الضار ملامرسة
للبحوث التي أ
ّ ألعاب الفيديو، ووجد أن التفاعل االجتامعي يؤدي دورا مهام يف تطور املامرسة
املفرطة لأللعاب. إن األلعاب التي تتم مع الصور املجسدة )األفاتار(، والتي ميكن
لالعبني فيها التحكم يف تلك الشخصيات وتقمصها، ترتبط باحتاملية إدمانية أعىل.
وتفرس هذه الصفات سبب كون املامرسة املفرطة لأللعاب أكرث شيوعا يف األلعاب
MMORPGs. وجد كينغ أيضا أن الالعبني املفرطني ّ يقيمون اإلنجازات املكتسبة
من خالل مامرسة األلعاب، كام اقرتح أن هيكلية املكافأة املتضمنة يف اللعبة تؤثر

.
)32(
ّ يف تطور املامرسة املفرطة لأللعاب
ويف حني متتلك األلعاب MMORPGs أنظمة معقدة للمكافأة متضمنة يف
صلب األلعاب، مع محاولة الالعبني باستمرار للوصول إىل املستوى التايل، يبدو أن
التفاعل االجتامعي مع الالعبني اآلخرين هو مسبب اإلدمان اإلضايف الحقيقي. ورمبا
تكمن الجاذبية يف أن الالعب اآلن ال ميارس اللعبة فقط، لكنه ّميثل حياة مثالية
تتسم بكونها مثرية وآمنة يف الوقت نفسه، سواء جسديا أو عقليا. إن العامل الحقيقي
فوضوي وغامض: فاألشخاص الحقيقيون ليسوا خريين متاما أو أرشارا مطلقا، فلديهم
دامئا أفكار داخلية أو أرسار، ولألفعال دامئا عواقب، مهام كانت غري مبارشة، مع
تداعيات طويلة األجل يتعذر عكسها. وعالوة عىل ذلك، فإن ردود الفعل التي تتم
يف العامل الحقيقي، وخصوصا ردود الفعل اإليجابية عىل إنجازاتك، يصعب الحصول
عليها. أما بالنسبة إىل أهداف الحياة، فهي بالنسبة إىل معظمنا أبعد ما تكون عن

189
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو
الوضوح، كام أنها عادة أكرث تعقيدا ورشطية من أن ُت َّحدد عىل نحو قاطع. وفقا
ّ لنيكول الزارو )ومن الواضح أنها تفضل القوائم ذات األربعة بنود(، فإن ألعاب
الفيديو تزيل الكثري مام هو صعب وُمربك حول الحياة الواقعية، حيث إن األلعاب:
ّق العواقب. )3( ّ تضخم ردود الفعل. )4( تضع أهدافا

)1( ّ تبسط العامل. )2( تعل
)33(. وميكن إضافة هذا املخزون إىل اليشء الحاسم املتعلق بألعاب الفيديو،
واضحة
الذي يجعلها مثل هروب قرسي من إبهام وتعقيد العامل الحقيقي.
وبصورة أكرث عمومية، ففي بعض األحيان ال يكون العامل الحقيقي أفضل مكان
للوجود فيه. ويف بعض الحاالت، ميكن لأللعاب أن توفر إجراءات روتينية لتهدئة
األشخاص غري القادرين عىل التعامل مع حالة عدم اليقني املحموم للحياة خارج
الشاشة. وعىل عكس األلعاب التقليدية التي مُتارس يف العامل الحقيقي، فإن ألعاب
الفيديو توفر هروبا كليا من ذلك العامل املضجر والجامد إىل عامل ليس فقط أكرث إثارة
و ّ حسية )أي يناشد الحواس(، بل حيث توجد نتائج محددة وقابلة للتنبؤ عىل نحو

مطمنئ، والتي ميكن لالعب املشاركة فيها باعتباره ذاتا أفضل. وتبني البحوث أنه عندما
يكون الناس غري سعداء يف حياتهم أو غري راضني عنها، فهم يصنعون صورا مجسدة

)34(. أما الشخص السعيد فيصنع األفاتار مثل نفسه

)أفاتار( مختلفة متاما عن أنفسهم
متاما. إن االستمتاع باللعبة يرتبط عكسيا بالتشابه بني الشخص وصورته املجسدة
)األفاتار(، أي أن األفراد الذين يشعرون بعدم الرضا، والذين يصنعون صورا مجسدة
شديدة االختالف عن أنفسهم، ينتهي بهم املطاف إىل االستمتاع أكرث بعامل األلعاب.
وهم يقومون حرفيا باستكشاف هوية جديدة ألنفسهم يف عامل األلعاب هذا، واختيار
صورة مجسدة أفضل وأرسع، وأكرث لياقة، وأقوى، وأنحف، وأطول، وأجمل، أو أكرث
ذكاء مام هم عليه، أو رمبا مام ميكنهم الوصول إليه عىل وجه اإلطالق. رمبا كانت
هذه هي النقطة الرئيسة إلمكان أن تكون ألعاب الفيديو مبثل هذا الخبث. بالنسبة
إىل معظم الناس، التزال تلك األلعاب متثل شكال من أشكال الرتفيه، لكنها تفتح
عاملا جديدا بالكامل حيث كل يشء هو أفضل من الحياة الحقيقية، وهو أمر يتمتع
بجاذبية خاصة للفئات الرسيعة التأثر نفسيا. وهي الفئة التي رمبا تشملنا جميعا.
شاهدنا يف وقت سابق أن الهوية ال تتعلق فقط بوجود عقل ناضج، والذي
ميكنك من فهم العامل، لكنها تنطوي أيضا عىل الخطوة الحاسمة التالية: رد

190
ّ تغير العقل
الفعل الذي ُستظهره، نتيجة لكيفية تفاعلك مع العامل، يف سياق محدد ويف
وقت بعينه. وعىل أي حال، ففي األلعاب، وبدال من عائلتك، فإن فريق كرة
القدم الذي تشجعه، أو الجوقة التي تنتمي إليها، أو زمالءك، أو السياق اللحظي
البالغ األهمية الذي يرتاكم عرب سلسلة السبب والنتيجة لقصة حياة فريدة من
نوعها، ستكون اآلن أكرث توحيدا. يصبح الالعبون معتمدين عاطفيا عىل نحو
مفرط عىل صورهم املجسدة. ومتعلقني بتلك الصورة املجسدة وبفرقهم، كام
ميكن للشخص يف العامل الحقيقي أن يرتبط بعالقاته التي تتم يف عامله الواقعي.
ويف هذه الحاالت، يتحول السياق اللحظي عىل اإلنرتنت إىل عامل اصطناعي.
وماذا لو كان معظم أحداث قصة حياتك ليس قصة عىل اإلطالق، وليس سلسلة
من األحداث، ولكنه، كام هي الحال يف األلعاب التي ُتطلق فيها النار عىل أول
شخص تصادفه، مجرد مجموعة مجزأة من الخربات املنفصلة التي ليست لها
عواقب يف العامل الحقيقي؟ يف كلتا الحالني، قد تبدأ يف الشعور بالتشكك حيال
من تكون يف الواقع.
ومن املمكن أن يتفاقم انعدام األمن هذا بفعل شعور مسترت بأن ما تقوم به
يفتقر إىل أي معنى أو مغزى حقيقي. إن املعنى، كام أرشت إليه بالفعل، ميكن
تفسريه من خالل منظور علم األعصاب باعتباره يتعلق بصنع االتصاالت، أو رؤية
يشء ما من منظور يشء آخر. ومن املمكن أن ينطبق هذا أيضا عىل االتصاالت
السببية مبرور الوقت. متتلك هذه االرتباطية، كام رأينا، شبيها مقابال يف الدماغ
املادي يف أثناء صياغة الوصالت العصبونية وتعزيزها من خالل اللدونة الرائعة
للدماغ البرشي. وبالتايل، فمثلام أن خاتم الزواج، وهو جسم بسيط مصنوع من
الذهب، ميكنه اكتساب معنى أو أهمية معقدة بفضل االرتباطات التي ُتبنى
حوله، فمن املمكن إضفاء أهمية عىل العالقة بني السبب والنتيجة.
إذا تسلقت شجرة ثم سقطت وانكرست ساقك، وهي إصابة تستغرق وقتا
طويال للشفاء، فإن الحلقة الكاملة ستكون ذات مغزى، ألسباب ليس أقلها أنها
غري مرتجعة. وبطبيعة الحال، فقد تصبح ساقك سليمة متاما مرة أخرى، لكن
حدث الكرس يف حد ذاته ال ميكن محوه؛ فله عواقب مستدمية ستغيرّ إىل األبد،
بطريقة أو بأخرى، من نظرتك تجاه تسلق األشجار. وعىل النقيض من ذلك،

191
الشيء املتعلق بألعاب الفيديو
فإذا أسقطت عىل األرض قصاصة صغرية من الورق ثم التقطتها مرة أخرى عىل
الفور، رمبا كان هذا هو أقرب ما ميكنك الحصول عليه من حيث إعادة الزمن إىل
الوراء يف العامل الحقيقي. وقد يكون ذلك أيضا شيئا تفعله وليس له أي مغزى
عىل اإلطالق.
وبالتايل فمن املمكن للمعنى أن يتعلق بصورة مبارشة بالعواقب التي
تتكشف مبرور الزمن. ولكن إذا مل تكن لأللعاب، وفقا لالزارو، أي عواقب، فمن
املمكن النظر إليها باعتبارها وسيلة ال معنى لها لتمضية الوقت. وإذا كان هناك
من سيقيض كل وقت فراغه مشاركا يف نشاط ال معنى له، فقد يعرض ذلك
للخطر عىل املدى الطويل أي أهمية يوليها يف نهاية املطاف، ليس فقط لهذا
النشاط، لكن األهم من ذلك، لنفسه. ومع ذلك فبالنــــسبة إىل الالعب الـــذي
ال تزعجه مثل هذه املخاوف الوجودية املحتملة عىل املدى الطويل، هناك فرصة
للتبسيط والتحسني الفوري للبيئة املبارشة ولكيفية شعوره بداخلها. إن اليشء
املتعلق بألعاب الفيديو هو أنها تخلق عاملا تشعر فيه بأنك عىل ما يرام، ليس
فقط ألنك تقيض وقتا ممتعا ولكن أيضا ألنك تغلق الباب يف وجه تلك األنواع
من التجارب التي تجعلك عادة تشعر بالحزن، أو القلق، أو انعدام القيمة.
إنك تدلف إىل عامل ّ مصمم لتلبية احتياجاتك النفسية الخاصة؛ وبالتايل ستكون
لذلك طائفة واسعة ومعقدة من اآلثار عىل الطريقة التي تفكر وتشعر بها عىل
املدى الطويل. إن »ما نعرفه«، كام تخلص إليه دافني بافاليري Bavalier، وهي
خبرية يف هذا املجال يف جامعة روشسرت، »هو أننا، يف مجال التكنولوجيا، منتلك
مجموعة من األدوات التي لديها القدرة عىل إحداث تعديل جذري يف السلوك
)35(. إن املطلوب، من وجهة

البرشي«، والذي يتم حتام عن طريق تعديل الدماغ
نظرها، هو وسيلة للتأكد من كون التكنولوجيا ّ مصممة خصيصا لتحقيق النتائج
املرجوة. لكن هذا كالم قوله أيرس من تنفيذه.
لقد رأيناه هنا أن ألعاب الفيديو ميكنها أن تؤثر يف العمليات العقلية
بطائفة معقدة ومتنوعة من الطرق. هناك مجموعة من األسئلة املختلفة التي
يتعني تفكيكها بشكل منفصل. عىل سبيل املثال، إذا ُحرصت مخططات املكافأة
التي تنطوي عليها األلعاب ضمن تكرار رسيع من التحفيز واالستجابة، فامذا

192
ّ تغير العقل
عساه أن يكون تأثري مامرسة األلعاب لفرتات مطولة يف االنتباه؟ وعالوة عىل
ذلك، فبالنظر إىل أن األلعاب العنيفة متثل 50 يف املائة أو أكرث من إجاميل
مبيعات ألعاب الفيديو، فهل ستؤدي مامرسة هذه األلعاب إىل زيادة الترصفات
)36(. وأخريا، فإذا مل يكن هناك، كام رأينا، أي معنى

العدوانية يف العامل الحقيقي؟
دائم يف عامل األلعاب املبني عىل الهروب من الواقع؛ ألن األفعال ليست لها
عواقب دامئة، فهل سيؤدي ذلك إىل جعل الناس أكرث تهورا بصورة عامة يف
الحياة الحقيقية؟ دعونا نستكشف كال من هذه القضايا، واحدة تلو األخرى.

193
ألعاب الفيديو واالنتباه

»أصوات الصمت هي ذكريات قامتة اآلن،
مثل الغموض، والخصوصية، وااللتفات إىل
يشء واحد أو شخص واحد يف لحظة بعينها«،
كام كتبت الصحافية مورين داود Dowd يف
عمودها يف صحيفة نيويورك تاميز وهي تنظر
)1(. رمبا علينا أال نفاجأ

بأىس إىل حقبة أخرى
كثريا من أننا إذا انتهينا يف الوقت الحارض إىل
أن ننشغل ساعات يف أنشطة مُتطرنا باملحفزات
الرسيعة الوترية، فإن دماغنا البرشي املرن
بشكل رائع سيتكيف بسالسة مع تلك البيئة،
وهي بيئة ال تتطلب انتباها متواصال. وكلام
زاد تدفق التحفيز، تناقص مدى االنتباه
الذي ميكن تخصيصه لكل من املدخالت.
وبالتايل هل ميكن أللعاب الفيديو، بالنظر إىل
مضمونها الرسيع الوترية واملفعم بالحيوية، أن
تؤثر يف االنتباه بطريقة غري مسبوقة وفريدة
ألعاب الفيديو واالنتباه

»عند استخدامها لعالج املرىض
الذين يعانون طائفة واسعة من
اضطرابات الدماغ، ميكن أللعاب
الفيديو، عىل ما يبدو، أن تقدم
تجربة مفيدة وممتعة حقا«
14

194
ّ تغير العقل
من نوعها مقارنة بجميع سبل التشتيت املعتادة التي تتسم بكونها أشد فتورا،
واملستمدة من واقع الحياة؟
قبل أن نفكر حتى يف اإلجابة عن هذا السؤال، نحن بحاجة إىل فهم الشكوى
الشائعة واملفهومة بأن شبكة اإلنرتنت بشكل عام، واأللعاب عىل وجه الخصوص،
مسؤولة عن طائفة من املشكالت التي ميكن أيضا تعميمها عىل نحو مربر
باعتبارها راجعة إىل الطبيعة البرشية، أو إىل العامل املعارص ككل، أو عىل األقل
إىل أي تكنولوجيا مرتكزة إىل الشاشة، مثل التلفاز القديم. ميتلك هؤالء املنتقدون
وجهة نظر مقبولة. عىل سبيل املثال، ففي مستشفى سياتل لألطفال، فحص دميرتي
كريستاكيس Christakis أكرث من ألف *** يف السنة األوىل من العمر وعددا
ُحصت يعانون

)2(. ووجد أن 10 يف املائة من عينة األطفال التي ف

مامثال يف سن الثالثة
مشكالت يف االنتباه عند بلوغهم سن السابعة، والتي ُربطت بعدد ساعات مشاهدة
التلفاز يوميا عندما كانت أعامرهم ترتاوح بني سنة واحدة وثالث سنوات. وبالتايل
ففي حني أنه من الواضح أن تناقص مدى االنتباه ليس شيئا جيدا، فإن مامرسة
األلعاب ال ميكن أن يكون لها أي تأثري إضايف باملقارنة مع غريها من التجارب القدمية

.
)3(
املرتكزة إىل الشاشة... أم أنه ميكنها ذلك؟
وقد أجرى إدوارد سوينغ Swing وفريقه يف جامعة والية أيوا أول دراسة
طويلة األجل عىل اآلثار املحددة الستخدام ألعاب الفيديو من قبل ***** املدارس
)4(. اشتمل املرشوع عىل 1323 طفال ترتاوح أعامرهم بني 6 و12 عاما،
االبتدائية
والذين سجلوا - جنبا إىل جنب مع والديهم - تعرضهم للتلفاز وألعاب الفيديو عند
أربع نقاط عىل مدى 13 شهرا. قاس املعلمون مشكالت االنتباه عن طريق اإلبالغ
عن الصعوبات التي واجهها املشاركون يف االحتفاظ برتكيزهم عىل املهمة وعىل
انتباههم، وما إذا كان الطفل ّ يعطل عمل األطفال اآلخرين يف كثري من األحيان. وقد
تبني أن من يقضون أكرث من ساعتني يوميا عىل الشاشة )التلفاز وألعاب الفيديو
مجتمعة( كانوا أكرث عرضة لتجاوز املعيار يف إظهار مشكالت االنتباه. عىل أي حال،
فقد كشفت النتائج أيضا عن أن مامرسة األلعاب ترتبط بصفة خاصة بوجود خطر
أكرب لإلصابة مبشكالت االنتباه، وهو أمر كان يف الواقع مؤرشا أقوى من مشاهدة
التلفاز. وحتى بعد احتساب تأثري التعرض للتلفاز، فضال عىل أي مشكالت سابقة

195
ألعاب الفيديو واالنتباه
يف االنتباه قد تكون لدى الطفل بالفعل، فإن مقدار الوقت الذي يقضيه كل ***
يف مامرسة ألعاب الفيديو قد تنبأ بدقة بالزيادات الحادثة يف مشكالت االنتباه بعد
)5(. ولذلك يبدو أن مامرسة األلعاب متتلك تأثريا ضارا محددا.

سنة واحدة فقط
استقصت البحوث الالحقة مبزيد من التفصيل العالقات بني مامرسة األلعاب
ومشكالت االنتباه وخلصت إىل استنتاجات مامثلة. ويف جامعة والية أيوا، تابع
دوغالس جنتايل Gentile وفريقه عينة مؤلفة من أكرث من ثالثة آالف ***
)6(. أظهر األطفال الذين يقضون وقتا أطول يف

ومراهق عىل مدى ثالث سنوات
مامرسة األلعاب عددا أكرب من مشكالت االنتباه، حتى عندما كانت مشكالت
االنتباه السابقة، والجنس، والسن، والعرق، والوضع االجتامعي واالقتصادي محكومة
إحصائيا. ومن املثري لالهتامم أن األطفال الذين كانوا أكرث اندفاعا أو لديهم عدد
أكرب من مشكالت االنتباه قضوا الحقا مزيدا من الوقت يف مامرسة ألعاب الفيديو،
مام يدل عىل التأثري الثنايئ االتجاه املحتمل ملامرسة األلعاب يف مشكالت االنتباه:
فأ ّ حدهام يعزز اآلخر، والعكس صحيح.
توفر هذه االستقصاءات أقوى دليل حتى اآلن عىل أن العالقة بني مامرسة ألعاب
الفيديو ومشكالت االنتباه ليست تصادفية بل سببية، ولهذه العالقة املحتملة آثار
محتملة مثرية لالهتامم فيام بتعلق بتغيرّ العقل. وهي ُتظهر بوضوح كيف ينخرط
الدماغ والبيئة يف مثل هذا الحوار املستمر أحدهام مع اآلخر إىل درجة أنه يف كثري
من األحيان يصعب استخالص الدجاج من البيض، كام رأينا بالفعل. إن الشخص
املندفع الذي يتشتت انتباهه بسهولة قد يجد يف ألعاب الفيديو الوسيلة املثالية
للتعبري عن نزعاته، يف حني أن اعتياد قضاء الوقت يف عامل يفرض ردود فعل رسيعة
واستجابات فورية يضمن أن يتكيف الدماغ مع تلك البيئة الرسيعة الوترية.
إن ألعاب الفيديو الحديثة، بغناها البرصي وبرسعة وتريتها، يرجح أن تفرض
ضغوطا برصية - مكانية spatial-visuo ومعرفية كبرية عىل الالعب، وترتك هذه
املتطلبات بدورها بصامتها عرب لدونة دماغه ومن ثم عىل سلوك الفرد الحقا -
ولكن ليس بالرضورة مع وجود نتائج سلبية. وتبني البحوث أن الالعبني يصبحون
مشغلني ممتازين للطائرات من دون طيار pilots drone، بل حتى يتفوقون عىل
)7(. وبالروح نفسها درس العلامء يف كلية

الطيارين الحقيقيني يف مهامت معينة

196
ّ تغير العقل
ديوك الطبية مدى نجاح الالعبني املهرة يف أن يصبحوا يف نهاية املطاف مشغلني
ذوي كفاءة عالية للطيارات من دون طيار، مقارنة مع زمالئهم من الطالب الذين مل
)8(. طلب غريغ أبلباوم Appelbaum، وهو أستاذ مساعد

ميارسوا األلعاب التفاعلية
يف الطب النفيس، من املشاركني تنفيذ مهمة تتعلق بالذاكرة البرصية ملعرفة مدى
ّرهم للمعلومات التي رأوها من فورهم للمرة األوىل. تفوق الالعبون
فعالية تذك
ذوو الخربة عىل نظرائهم الصاعدين، مام يثبت أنه ميكنهم االستجابة للمؤثرات
البرصية برسعة أكرب من نظرائهم بكثري. ويحيلنا هذا إىل املهارات املطلوبة يف
ألعاب التصويب عىل أول شخص يظهر أمامك، حيث يحتاج الالعبون إىل تقرير
ما ينبغي »نسفه« يف كل ثانية. »ينظر الالعبون إىل العامل بشكل مختلف. وهم
قادرون عىل استخالص مزيد من املعلومات من املشهد البرصي«، كام خلص إليه
أبلباوم. »وهم يحتاجون إىل قدر أقل من املعلومات للوصول إىل استنتاج احتاميل،

.
)9(
كام أنهم يفعلون ذلك بشكل أرسع«
وقد اقرتح بعض الباحثني أن دوافع مامرسة األلعاب هي ما ميكنها يف الواقع
أن تصنع الفرق بني الالعبني وغري الالعبني، وليس املهارات البرصية - املكانية
)10(. ّفكر يف األمر: يقيض عشاق مامرسة األلعاب وقت فراغهم يف استخدام
املتفوقة
الحواسيب من أجل االستمتاع واملنافسة التي توفرها مهام اللعبة، يف حني كان من
ُرشكوا يف دراسات مختلفة مل يكن لديهم تفضيل لهذه

الواضح أن غري الالعبني الذين أ
األنشطة إذا كانت هناك خيارات أخرى متاحة. وبالتايل، فرمبا كان األمر ببساطة
أن الالعبني ميتلكون عقلية معينة تدفعهم إىل أن يكونوا أكرث تنافسية، ولالستمتاع
باملهامت التي ّ تنفذ عىل الحاسوب، أو ألن يكونوا أكرث تحفيزا لألداء بشكل جيد يف
السيناريوهات التي تؤدي إىل تحسينات برصية - مكانية.
مثة طائفة كاملة من العمليات والوظائف مختلفة، مثل الرؤية والتحكم الحريك،
)11(. ومقارنة بغري الالعبني، فإن

والتي يبدو أنها تتعزز باملامرسة املنتظمة لأللعاب
مامريس األلعاب التفاعلية املتمرسني ميتلكون قدرة أفضل بشكل واضح عىل
التنسيق بني اليد والعني، وكذلك مهارات برصية - حركية أفضل، مثل املقاومة
لتشتيت االنتباه، والحساسية للمعلومات املتوافرة يف مجال الرؤية املحيطية،
والقدرة عىل ّعد األشياء التي تعرض لفرتة وجيزة. ومع تطور أنظمة بالي ستيشن

197
ألعاب الفيديو واالنتباه
موف Move PlayStation، وكينيكت Kinect، ووي Wii، ميكن أللعاب الفيديو
أيضا طرح ادعاءات مقنعة بخصوص اكتساب املهارات الحركية من خالل تشجيع
حركة كامل الجسم.
أجريت واحدة من الدراسات الرئيسة التي تبني اآلثار املفيدة ملامرسة األلعاب
منذ فرتة طويلة، وبالتحديد يف العام ،2003 عندما درست شون غرين Green
ودافني بافاليري Bavelier من جامعة روشسرت تأثري مامرسة ألعاب الفيديو
ّم ميكنه تحسني األداء

التفاعلية يف الرؤية. اهتمت الباحثتان مبا إن كان التعل

َّز عليها يف أثناء التدريب. وقد أكدت

يف مهامت مختلفة غري تلك التي كان ُيرك
التجارب األولية حدوث التحسينات املتوقعة: يف جوانب مختلفة من االنتباه
البرصي )القدرة عىل الرتكيز عىل جزء واحد من املجال البرصي(، ّ تفوق املامرسون
املخرضمون أللعاب الفيديو عىل الناشئني. عىل أي حال، فاألكرث أهمية هو أنه يف
تجربة نهائية أظهر غري الالعبني الذين جرى تدريبهم الحقا عىل مامرسة ألعاب
الفيديو التفاعلية تحسنا ملحوظا ُترجم إىل مهارات تجاوزت املهمة التي جرى
التدريب عليها. وخلصت غرين وبافاليري إىل أنه: و»لذلك، فعىل الرغم من أن
مامرسة ألعاب الفيديو قد تبدو أمرا يتطلب القليل من االنتباه، فبوسعها إحداث

.
)12(
تغيري جذري يف املعالجة البرصية االنتباهية«
ويف وقت الحق، أكدت دراسات متعددة أن مامرسة بعض ألعاب الفيديو
متنح الالعب طائفة واسعة من املزايا املتنوعة، مبا يف ذلك ّ تحسن الرؤية املنخفضة
)13(. إن حقيقة أن عددا من

املستوى، واالنتباه البرصي، ورسعة املعالجة، وغريها
الدراسات املحكومة وفق األصول قد أثبتت مرارا وتكرارا وجود عالقة سببية بني
مامرسة ألعاب الفيديو وتعزيز هذه القدرات يثبت أن ألعاب الفيديو، وليس أي
ملكات خارقة لدى الالعبني أنفسهم، هي ما يسبب هذا التحسن. وكذلك فال تؤدي
تجربة ألعاب الفيديو سوى إىل أفضلية فورية يف املهامت الحالية. مثة فائدة حقيقية
ملامرسة تلك األلعاب، والتي يبدو أنها القدرة األكرث إثارة لإلعجاب لتحسني كيفية
ّم الالعبني مهامت جديدة كليا. ولهذه املواهب املكتشفة حديثا تطبيقات الحقة
تعل
يف العامل الحقيقي. وهي تشمل، عىل سبيل املثال، القدرة الفائقة عىل رؤية التفاصيل
الصغرية، ورسعة معالجة املعلومات املعروضة برسعة، وزيادة سعة الذاكرة القصرية

198
ّ تغير العقل
املدى، وزيادة القدرة عىل معالجة أشياء متعددة يف الوقت نفسه، والتبديل املرن
بني املهامت - وجميعها مهارات مفيدة يف طائفة متنوعة من الوظائف التي تتطلب
الدقة. لقد اتضح أن جراحي املناظري الذين اعتادوا مامرسة ألعاب الفيديو يتفوقون
.
)14(
عىل أقرانهم من الجراحني غري الالعبني من حيث رسعة التنفيذ واملوثوقية
إن الوقت املستغرق يف ألعاب الفيديو ليس مجرد بروفة بسيطة ملهارة محددة
ولكنه، عىل نحو الفت للنظر، ميكن تعميمه عىل حاالت أخرى، وعىل طائفة واسعة
من املهارات والسلوكيات غري املتوقعة. فليس من املستغرب، إذن، أن تعلن رشكة
نينتندو Nintendo عن »أكادميية الدماغ الكبرية« Academy Brain Big باعتبارها
لعبة ّ »تدرب عقلك بواسطة حمولة مقرر درايس من األنشطة املثرية للعقل ضمن
)15(. وعالوة
ّ خمس فئات هي: التفكري، والحفظ، والتحليل، والحساب، والتعرف«
عىل ذلك، فمن بني الوعود أنها، مقارنة مع أساليب التدريب التقليدية، لعبة ميكن
أن تكون جذابة ومسلية.
كام أن دماغ املواطن الرقمي العادي والصحي ليس وحده هو ما يبدو أنه يزدهر.
هناك أدلة مقنعة عىل أن مامرسة األلعاب قد تكون لها آثار عالجية مفيدة يف طائفة
واسعة من االعتالالت، مبا يف ذلك عكس التدهور املعريف لدى كبار السن. ويف إحدى
الدراسات، َدَّرب الباحثون املسنني عىل مامرسة إحدى ألعاب الفيديو ملدة إجاملية
)16(. وقيموا املشاركني باستخدام مجموعة من املهام املعرفية، مبا يف

بلغت 23.5 ساعة
ذلك اختبارات التحكم التنفيذي واملهارات البرصية - املكانية، وذلك قبل، ويف أثناء،
وبعد التدريب عىل مامرسة لعبة الفيديو. ّ تحسن املشاركون بشكل ملحوظ ضمن
اللعبة، لكن األهم من ذلك هو أنهم أظهروا أيضا تحسنا واضحا يف وظائف التحكم
التنفيذي، مثل تبديل املهامت، والذاكرة العاملة، والذاكرة البرصية القصرية األجل،
والتعليل املنطقي. وعىل وجه التحديد، فقد متكن املشاركون الذين تدربوا عىل
مامرسة لعبة الفيديو من التبديل بني املهامت بجهد أو تكلفة أقل عىل انتباههم من
ّر يف املهامت املتعلقة

ّ املجموعة الشاهدة، وأظهروا تحسنات قصرية األجل حول التذك
بالوظائف التنفيذية التي جرى اختبارهم فيها قبل وبعد فرتة التدريب.
وعند استخدامها لعالج املرىض الذين يعانون طائفة واسعة من اضطرابات
الدماغ، ميكن أللعاب الفيديو، عىل ما يبدو، أن تقدم تجربة مفيدة وممتعة

199
ألعاب الفيديو واالنتباه
حقا. وعىل سبيل املثال، فقد كانت فعالة يف تقليل األعراض الضاللية يف مرىض
)17(. ويف دراسة رائدة أجريت عىل املراهقني الذين

الفصام بعد مثانية أسابيع فقط
يعانون اضطرابات طيف التوحد، حدثت تغريات واضحة يف الصور الدماغية
كاستجابة للكلامت العاطفية واالنفعاالت خالل فرتة مامرسة لعبة ّ معززة للسلوك
)18(. وعند إعادة تأهيل ضحايا حوادث

االجتامعي، والتي استغرقت ستة أسابيع
السيارات الذين يعانون اضطراب ا َلكْرب التايل للصدمة PTSD، أدت تجربة
الواقع االفرتايض لقيادة أو ركوب سيارة يف لعبة حاسوبية إىل تحسني األعراض
)19(. وميكن أللعاب الفيديو التي تلبي احتياجات نفسية محددة

وتعجيل التعايف
يف اضطرابات معينة أن توفر خيارات عالجية تكميلية فعالة، مثل استخدامها
)20(. ويف الوقت نفسه،

يف الذين يعانون مشكالت تتعلق بالتحكم يف االنفعاالت
يستخدم علامء األعصاب مامرسة ألعاب هاتف األيفون الرائجة مثل فاكهة النينجا
)حيث ميكنك ببساطة أن تقسم مثرة الفاكهة إىل نصفني باستخدام إصبعك( يف

.
)21(
إعادة تأهيل ضحايا السكتة الدماغية
ومن املحتمل أيضا أن تكون ملامرسة ألعاب الفيديو آثار إيجابية يف الجوانب
األكرث تجريدا للوظائف الدماغية، مثل النمو االجتامعي والعافية النفسية. وعىل
سبيل املثال، فقد ارتبطت مامرسة ألعاب الفيديو جنبا إىل جنب مع اآلباء واألمهات
مع انخفاض مستويات العدوانية وزيادة مستويات السلوك االجتامعي اإليجايب،
)22(. ولكن البحث نفسه وجد أن طول الوقت الذي

وإن كان ذلك يف الفتيات فقط
ُيقىض يف مامرسة األلعاب، بشكل عام، كان مرتبطا بزيادة العدوانية وانخفاض
السلوكيات االجتامعية اإليجابية. ولذلك فإن التأثري املفيد هنا قد يكون متعلقا
أكرث بالنشاط املشرتك مع اآلباء منه باللعبة الفعلية التي مُتارس عىل الشاشة. وحتى
ّ الصور النمطية املتعلقة بنوع الجنس قد تؤدي دورا. يخمن املؤلفون أنه بسبب
كون األوالد ميارسون ألعاب الفيديو أكرث من البنات، فإن الوقت الذي يقضيه األوالد
يف مامرسة تلك األلعاب مبفردهم قد يقلل من اآلثار املفيدة للوقت الذي يقضونه
يف اللعب مع آبائهم وأمهاتهم. وباإلضافة إىل ذلك، فقد أشاروا إىل أن األوالد يقومون
عادة مبامرسة ألعاب الفيديو غري املناسبة ألعامرهم أكرث مام تفعل الفتيات، وهو ما
ميكنه أيضا موازنة فوائد مامرسة األلعاب مع اآلباء واألمهات.

200
ّ تغير العقل
وكام رأينا بالفعل يف حالة شبكات التواصل االجتامعي، فقد متثل عوامل ألعاب
)23(. تبينّ البحوث

الفيديو مجاال ميكن لالعبني فيه استكشاف هوياتهم بحرية
أن االستفادة من القدرات القيادية يف األلعاب MMORPGs ميكن أن متتد إىل
)24(. ورمبا كان بوسع هذه األلعاب أن تساعد يف

القدرات الكامنة يف أماكن العمل
تطوير تقنيات جديدة للتدريب املؤسيس؛ ثم مرة أخرى، فقد ال يزيد األمر عىل
أن الالعب الذي ميتلك القدرة عىل امتالك زمام القيادة يف إحدى ألعاب الفيديو
ينتهي كزعيم يف العامل الحقيقي، يف حني يظل الخارسون يف العامل الحقيقي
خارسين يف اللعب كذلك. واليزال من املختلف عليه ما إذا كانت ألعاب الفيديو
تعمل كدرس مفيد للحياة الحقيقية أم هروبا منها. وبالفعل، فقد ُتظهر األلعاب
لالعب أنه يصعب اتخاذ الخيارات يف بعض األحيان، كام هي الحال عندما يحاول
الالعبون تحقيق هدف ما، حيث ينبغي عليهم موازنة اآلثار، والفوائد، وقوة
مهاراتهم الفردية يف أثناء اتخاذهم القرار بشأن ما إذا كانوا سيواجون املشكلة أم
ّمهم ذلك عىل

سيتجنبونها. ومن ناحية أخرى، فإن الخربة يف العامل الحقيقي ستعل
أي حال. وبعد كل يشء، فإذا مل يكن هناك أي فرق بني الحياة الحقيقية ومامرسة
األلعاب، فام الذي ميكنه أن ميثل مغزى اللعبة يف املقام األول؟ ولكن إذا كان
هناك فرق، فهل ستكون تجربة مامرسة األلعاب مفيدة بهذا القدر يف الواقع من
حيث تطبيقاتها عىل واقع الحياة؟
ميكن النظر إىل األغلبية الساحقة من مهامت الحياة الواقعية باعتبارها مملة
باملقارنة مع األلعاب ذات التصميم الجيد، واملحفزة للغاية، كام قد تكون لهذا
االختالف عواقب سلبية خطرية. وأشارت أكريا بييل Bailey ومجموعتها البحثية
يف جامعة والية أيوا بحذر إىل أنه يف حني قد يكون أللعاب الفيديو بعض اآلثار
التعليمية والعالجية اإليجابية، فقد أشارت بياناتهم عموما إىل أن »املستويات
العالية من الخربة يف مامرسة ألعاب الفيديو قد ترتافق مع انخفاض يف عمليات
الفعالية التي تدعم السيطرة املعرفية االستباقية، والتي تسمح للمرء بالحفاظ عىل
معالجة املعلومات املوجهة لألهداف ضمن السياقات التي ال تجذب اهتامم املرء
)25(. أو لو أردنا صياغة األمر عىل نحو أبسط، فقد تكون مامرسة

يف الحالة الطبيعية«
األلعاب سيئة بالنسبة إىل االنتباه املتواصل.

201
ألعاب الفيديو واالنتباه
ويف حني أظهرت األبحاث املستفيضة كيف ميكن ملامرسة األلعاب التفاعلية أن
ّ تحسن الرتكيز عىل الشاشة، فهذا املكسب قد يأيت بتكلفة. تكافئ ألعاب الفيديو
الالعبني عىل تعديل سلوكهم برسعة عند مواجهة الرصاعات، وهذه امليزة املحددة
ملامرسة األلعاب التفاعلية قد تكون لها آثار متباينة يف السيطرة االستباقية والتفاعلية.
ّفكر يف السيطرة التفاعلية كنوع من االستجابة يف الوقت املناسب متاما ملحفز
ال يستخدم سوى عند الحاجة، يف حني تجري السيطرة االستباقية باستمرار وبصورة
ّز انتباهه
مرتقبة للمحفزات املستقبلية، مام يشري إىل قدرة الفرد عىل اختيار يرك
)26(. ويف حني يكون الالعبون املفرطون )الذين يلعبون أكرث من

عليه وما يتجاهله
أربعني ساعة أسبوعيا( متمرسني بشكل جيد يف االستجابة الفورية للمحفزات التي
ُتعرض فجأة )السيطرة التفاعلية(، فإن قدرتهم عىل الحفاظ عىل االنتباه االستباقي
ّ طوال مهمة بأكملها هو أقل إثارة لإلعجاب. قد تدرب ألعاب الفيديو الفرد عىل
االستجابة الرسيعة للمؤثرات التي تعرض فجأة، لكنها قد ال توفر أي ميزة بخصوص

.
)27(
القدرة عىل الحفاظ عىل الرتكيز يف أثناء املهامت العادية اململة
ويف املقابل، تشري أبحاث أخرى منشورة أخريا إىل أن الالعبني املواظبني قد
يكونون أشد إرصارا من الالعبني غري املواظبني من حيث صعوبة حل األلغاز املعقدة
)28(. يقيض مامرسو ألعاب الفيديو املواظبون

التي تنطوي عىل الجناس واألحجيات
قدرا أطول من الوقت عىل املشكالت غري املحلولة باملقارنة مع من ميارسون ألعاب
الفيديو بصفة غري منتظمة. وقد أخذت هذه النتائج عىل أنها ُتثبت أن استخدام
ألعاب الفيديو قد يؤدي إىل مزيد من املثابرة عرب مجموعة متنوعة من املهامت.
غري أنه، مرة أخرى، قد يكون األمر هو أن هناك سامت شخصية مختلفة مسؤولة
عن ذلك الفرق الحاسم ضمن بروتوكول تجريبي. قد يكون الالعبون املنتظمون أكرث
تنافسية من غري الالعبني، وبالتايل فإن مهمة التقييم املختربي التي تقيس مهارة
من أي نوع ستقوم تلقائيا بتحفيز الالعب املفرط ألن يرغب يف الفوز. وعالوة عىل
ذلك، فقد نظر الالعبون يف هذه الدراسة إىل اللغز باعتباره لعبة يف حد ذاته، وليس
مهمة مملة. ولذلك فإن السؤال اليزال مفتوحا بشأن ما إذا كان الالعبون املواظبون
ميتلكون القدرة عىل توجيه مزيد من االنتباه بشكل عام، بغض النظر عن املهمة
التي يقومون بتنفيذها.

202
ّ تغير العقل
كيف ميكننا التوفيق بني االستنتاجات املتضاربة حول ما إذا كانت مامرسة
األلعاب ّ تحسن االنتباه أم تضعفه؟ قد يكمن الجواب يف نوع االنتباه املطلوب من
أجل النجاح يف األلعاب التفاعلية . هناك عدد من التصنيفات التي تحاول وصف
ّز، الذي يعرف بأنه القدرة

منظومة االنتباه البرشية. إن االنتباه االنتقايئ أو املرك
عىل الرتكيز عىل مجموعة معينة من املحفزات، هو نوع من االنتباه الذي عادة
ما تحركه دوافع داخلية. أما االنتباه املتواصل، وعىل النقيض من ذلك، فهو القدرة
عىل الحفاظ عىل اليقظة فرتات أطول من الوقت، والذي كثريا ما تدعو إليه الحاجة
خالل تنفيذ نشاط ممل. ويف حني أن ألعاب الفيديو قد ّ تدرب عىل، وبالتايل تكون
مفيدة، لنوع االنتباه املطلوب ملعالجة املحفزات االنتقائية، فمن املمكن أيضا أن
تنخفص املحافظة عىل االنتباه فرتات طويلة يف غياب التحفيز الرسيع الوترية من
لحظة إىل أخرى. ولذلك فقد يعاين الالعبون مشكلة ليس مع االنتباه االنتقايئ بل
مع االنتباه املستمر.
من بني األسئلة املثرية لالهتامم حول اعتالالت االنتباه تلك، نجد الصلة املحتملة
(29). بالنسبة
بينها وبني انتشار اضطراب نقص االنتباه مع فرط النشاط ADHD
إىل البعض، فإن فكرة أن اضطرابات االنتباه قد ترتبط مبامرسة األلعاب هي مجرد
تكهنات. ويف مراجعة قامت بتقييم تأثري التقنيات الرقمية يف العافية البرشية، خلص
بول هوارد - جونز إىل القول بأننا »ال نعرف ما إذا كان استخدام التكنولوجيا الرقمية
من قبل األطفال الصغار ميثل عامال سببيا يف اإلصابة باضطراب نقص االنتباه مع

.
)30(
فرط النشاط«
ويف وقت الحق، قامت أليسون باركس Parkes وفريقها يف جامعة غالسكو
باستطالع أكرث من أحد عرش ألف ***، وذكروا أن ألعاب الفيديو مل يكن لها
)31(. قد يبدو حجم

تأثري يف منوهم النفيس واالجتامعي، مبا يف ذلك مشكالت االنتباه
املجموعة التي خضعت للدراسة هنا مثريا لإلعجاب، وبالتايل تكون النتائج قاطعة
عىل نحو مطمنئ. لكن هناك بعض السلبيات الخطرية يف املنهجية األساسية. أوال،
قام الباحثون بدراسة ***** ترتاوح أعامرهم بني الخامسة والسابعة، يف حني ركزت
جميع األدبيات البحثية األخرى تقريبا عىل األطفال األكرب سنا، الذين لديهم فرصة
أكرب ملامرسة ألعاب تفاعلية ّ محفزة، أو عنيفة، أو متهورة ال تتوافر عادة لصغار

203
ألعاب الفيديو واالنتباه
السن. ثانيا، جرى تقييم األعراض املحتملة لالضطراب ADHD حرصيا بواسطة
تقرير شخيص من قبل الوالدين، وبالتايل هو أبعد ما يكون عن أن يكون غري
ّ متحيز )وبالتايل كان حجم العينة كبريا عىل غري العادة، حيث كان جمع البيانات
سهال نسبيا(؛ يف املقابل، استخدمت الدراسات األخرى أدوات تقييم أكرث شموال
وموضوعية، والتي يستغرق تطبيقها وقتا طويال. ثالثا، مل يقم مرشوع غالسكو سوى
بقياس استخدام ألعاب الفيديو خالل أيام األسبوع، وقد مُتارس ألعاب الفيديو
ساعات أطول بكثري خالل عطلة نهاية األسبوع، وبالتايل فإن الدراسة ال تقدم صورة
كاملة بشأن االستخدام الكيل أللعاب الفيديو.
عموما، فقبل أن ميكننا التأكد من وجود عالقة بني مشكالت االنتباه ومامرسة
األلعاب، ال بد من تفكيك العديد من القضايا األخرى. وقد بحث عدد من الدراسات
.(32)
يف العالقة بني استخدام اإلنرتنت املفرط عموما وبني أعراض االضطراب ADHD
غري أن التحذير املهم هنا هو أن مامرسة األلعاب واالستخدام املفرط لإلنرتنت
هام نشاطان منفصالن: قد يكون أحدهام متعلقا باالضطراب ADHD، يف حني
قد ال يكون اآلخر كذلك. وهناك عامل آخر يزيد من التعقيد، وهو أن أنواعا
معينة من مامرسة األلعاب قد يكون لها تأثريات مختلفة يف االضطراب ADHD.
ترتبط األلعاب MMORPGs بالفعل مبستويات أقل من االندفاعية ومن أعراض
االضطراب ADHD، لكنها ترتبط يف املقابل مبستويات أعىل من القلق واالنسحاب
)33(. عالوة عىل ذلك، فإن العالقة بني االضطراب ADHD ومامرسة
االجتامعي
األلعاب قد تتوقف عىل التواتر الفعيل للعب، والتي مل ُتؤخذ بالرضورة بعني
االعتبار. باإلضافة إىل ذلك، فمن املمكن أن ُتعزى أي عالقة بني االستخدام املفرط
لإلنرتنت واالضطراب ADHD إىل حالة إدمانية وليس إىل النشاط ذاته. عىل أي
حال، بالنظر إىل أن كثريا من مستخدمي اإلنرتنت املفرطني ميارسون األلعاب، فهناك
حاجة إىل استكشاف العالقة بني االستخدام املفرط لإلنرتنت واالضطراب ADHD.
ّر أنه ال يوجد

وعند أخذ جميع االعتبارات املذكورة أعاله بعني االعتبار، مع تذك
»سبب« واحد لالضطراب ADHD، فالتزال هناك أدلة مقنعة عىل أن املامرسة
املفرطة لأللعاب ميكن أن ترتافق يف الواقع مع اضطرابات االنتباه. يف العام ،2006
قام جي هيون ها Ha وزمالؤه بدراسة أعداد كبرية من األطفال يف كوريا عىل

204
ّ تغير العقل
مرحلتني. متثلت املرحلة األوىل يف فحص جميع املشاركني لإلصابة باضطراب إدمان
اإلنرتنت، وبعد ذلك، فمن بني الذين أظهروا نتائج إيجابية، أجري اختيار عشوايئ
ملجموعة صغرية ليك تخضع لتقييم نفيس شامل. وبشكل الفت للنظر، كان األطفال
املدمنون عىل اإلنرتنت يستخدمون شبكة اإلنرتنت يف املقام األول ملامرسة األلعاب
عرب اإلنرتنت. تأهل أكرث من نصف هؤالء الشبان )الذين تراوحت أعامرهم بني 9
(34). وبعد ذلك بعام، ذكر مسح للمراضة

و13 سنة( لتشخيص االضطراب ADHD
املرتافقة لألمراض النفسية عىل أكرث من ألفني من طالب املدارس الثانوية التايوانيني،
الذين تراوحت أعامرهم بني 15 و23 سنة، أن 18 يف املائة من الطالب ُصنفوا
باعتبارهم مدمنني عىل اإلنرتنت، وأن إدمان اإلنرتنت يرتبط بقوة بأعراض االضطراب
(35).وباإلضافة إىل اكتشاف أن تقييد تعرض األطفال للتلفاز وألعاب الفيديو
ADHD
يقلل من احتامل حدوث مشكالت االنتباه يف الصف، وجدت دراسة أجراها فيليب
تشان Chan وتريي رابينوفيتش Rabinowitz يف مستشفى رود آيالند أنه إذا مارس
املراهقون ألعاب الفيديو أكرث من ساعة واحدة يوميا، فإنهم ُيظهرون مزيدا من
)36(. عىل أي حال، فقد أبرز

خصائص االضطراب ADHD، مبا يف ذلك نقص االنتباه
املؤلفون مشكلة الدجاجة والبيضة التي صارت مألوفة اآلن: »من غري الواضح ما
إذا كانت مامرسة ألعاب الفيديو أكرث من ساعة واحدة تؤدي إىل زيادة يف أعراض
االضطراب ADHD، أو ما إذا كان املراهقون الذين ُيظهرون أعراض االضطراب

.
)37(
ADHD يقضون وقتا أطول يف مامرسة ألعاب الفيديو«
ويف حني توجد عالقة وثيقة بني مستوى أعراض االضطراب ADHD وشدة
إدمان اإلنرتنت لدى األطفال، يبدو أيضا أن وجود االضطراب ADHD يف األطفال
ُجريت عىل
قد يتنبأ باحتامل اإلصابة الحقا بإدمان ألعاب الفيديو. ويف دراسة أ
شبان مع ومن دون االضطراب ADHD، والذين ترتاوح أعامرهم بني 6 و16 عاما،
)38(. غري أن
مل تكن هناك اختالفات يف وترية أو مدة مامرسة األلعاب بني املجموعتني
مجموعة االضطراب ADHD أظهرت معدالت أعىل بكثري لإلصابة بإدمان ألعاب
الفيديو، مام يشري إىل أن األطفال املصابني باالضطراب ADHD قد ُيظهرون عند
مامرسة األلعاب نشاطا أكرث حدة من األطفال غري املصابني باالضطراب ADHD،
وبالتايل قد يكونون معرضني عىل وجه الخصوص لإلدمان عىل ألعاب الفيديو.

205
ألعاب الفيديو واالنتباه
وإذا كان استخدام اإلنرتنت واملامرسة االستحواذية لأللعاب يؤثران أحدهام يف
اآلخر، فقد ال يكون ذلك ألن أحدهام يسبب اآلخر، بل ألن كليهام يظهر أعراض
الحالة الدماغية الشائعة نفسها: فهام وجهان لعملة عقلية واحدة. مثة تلميح عىل
املاهية املحتملة لتلك الحالة الدماغية، والذي يأيت من النظر بدقة أكرث إىل األدوية
املستخدمة لعالج االضطراب ADHD.
إن امليثيل فينيدات، الذي رمبا اشتهر بواسطة أحد أسامئه التجارية، أي الريتالني
Ritalin، هو دواء منبه يوصف عىل نطاق واسع لعالج اضطرابات االنتباه. يف اململكة
املتحدة، ارتفع عدد وصفات امليثيل فينيدات من 158 ألفا يف العام 1999 إىل 661463
ّق بينيديتو فيتيلو Vitiello من املعهد

)39(. ويف الواليات املتحدة، وث

يف العام 2010
الوطني للصحة العقلية وصفات املنبهات ما بني العامني 1996 و،2008 فوجد أن عدد
الوصفات الطبية لألطفال الذين تقل أعامرهم عن تسعة عرش عاما قد ازداد بشكل
)40(. كان معظم الوصفات

ملحوظ خالل تلك الفرتة التي امتدت زهاء اثني عرش عاما
الطبية من نصيب األطفال الذين ترتاوح أعامرهم بني ستة إىل اثني عرش عاما، لكن
املراهقني الذين ترتاوح أعامرهم بني ثالثة عرش إىل مثانية عرش عاما شهدوا أكرب زيادة
يف الوصفات الطبية. وقد وجد اتجاه مامثل يف أسرتاليا، حيث تزايد استخدام العقاقري
املنبهة لعالج االضطراب ADHD يف األطفال بشكل كبري، مع زيادة وصفات الريتالني
.
)41(
أو األدوية املشابهة له بنسبة 300 يف املائة بني العامني 2002 و2009
وبطبيعة الحال، فقد يتضح أن هذه الزيادات الهائلة يف الوصفات الطبية عرب
ثالث قارات مختلفة غري ذات صلة مبعدالت الزيادة يف االضطراب ADHD نفسه
ولكنها تتعلق أكرث باالتجاه الرسيري الحايل إىل تطبيب medicalize سلوك بعينه و/
)42(. عىل أي حال، فإن االرتباط الحايل بني

أو رغبة أكرب يف وصف الدواء لتلك الحالة
أدوية االضطراب ADHD وفرتات االنتباه القصرية عىل نحو شاذ تجلب إىل الساحة
صديقنا القديم، الدوبامني، إذ إن امليثيل فينيدات يؤدي إىل زيادة هذا املرسال
الكيميايئ يف الدماغ. مثة لغز مستمر بالنسبة إىل علامء األعصاب، وهو سبب فاعلية
هذا الدواء يف عالج قرص مدى االنتباه.
عندما ميارس الدوبامني فعله يف الدماغ، ستصبح أشد اهتياجا، وأكرث استثارة. ميكن
تفسري املفارقة الظاهرية الستخدام دواء منبه مثل الريتالني يف املكافحة الفعالة لفرط

206
ّ تغير العقل
االستثارة من حيث قدرته عىل إزالة تحسيس األهداف الكيميائية املعتادة للدوبامني.
وكام ناقشنا من قبل، فإن التفاعل بني هذه األهداف الكيميائية )املستقبالت(
مع الناقل العصبي الخاص بها يف الدماغ يشبه مصافحة جزيئية. ولكن إذا كانت
املصافحة ثابتة وقوية، فستصاب اليد )املستقبالت( بالخدر، وتصبح أقل حساسية
)مزالة التحسيس(. والنتيجة هي أن يصبح الدوبامني يف الدماغ أقل فعالية، وبالتايل
تكون أقل نشاطا. يف الفرد غري املصاب باالضطراب ADHD، ميكن لهذا الدواء أن
يطيل مدى االنتباه، والذي ميكن النظر إليه عىل أنه »تعزيز إدرايك« مرغوب فيه.
إن املودافينيل Modafinil، وهو مركب جديد لتعزيز اليقظة، ميتلك شاكلة
دوائية مامثلة للمنبهات التقليدية مثل امليثيل فينيدات. كان عامل النفس تريفور
روبنز Robbins وفريقه يف جامعة كامربيدج مهتمني بتقييم ما إذا كان املودافينيل
)43(. تلقى
ّ ميكنه توفري إمكانات مامثلة كمحسن معريف يف األشخاص الطبيعيني متاما
ستون شابا من املتطوعني األصحاء جرعة واحدة بالفم إما من دواء ُغفل )وهي مادة
خاملة ظنوا أن لها آثارا مفيدة( وإما من املودافينيل قبل أداء مجموعة متنوعة
من املهامت املصممة الختبار الذاكرة واالنتباه. أدى املودافينيل وحده إىل ّ تحسن
كبري يف األداء يف مختلف التجارب املعرفية، مبا يف ذلك ذاكرة التعرف عىل األمناط
البرصية، والتخطيط املكاين، وزمن رد الفعل. وقال املشاركون أيضا إنهم شعروا
بأنهم أكرث يقظة، وانتباها، وحيوية عند تناول هذا الدواء. ويبدو أن هناك تأثريا
آخر وهو الحد من االندفاعية. ولذلك فمن املمكن أن تزودنا أدوية مثل املودافينيل
بنظرة ثاقبة بشأن العالقة بني االضطراب ADHD واملامرسة املفرطة لأللعاب؟
يف العام ،2009 أجرى األستاذ املشارك يف الطب النفيس دوغ هيون هان
وفريقه يف جامعة والية يوتا دراسة مستقبلية التوجه عىل عدد كبري من املراهقني،
كانت األغلبية العظمى منهم من الذكور. كان لدى جميع املشاركني تاريخ لإلصابة
باالضطراب ADHD، وكذلك سجالت موثقة من االستخدام املفرط أللعاب الفيديو.
متثلت الفكرة يف دراسة ما إذا كان كل من مامرسة ألعاب الفيديو وامليثيل فينيدات
تزيد من معدالت إفراز الدوبامني بطريقة قد ّمتكن املراهقني من الرتكيز بشكل
أفضل. قام هان بإعطاء كونسريتا XL( وهو عقار يشبه الريتالني( ومتابعة أداء
املشاركني بعد مثانية أسابيع. حدث انخفاض يف درجات إدمان اإلنرتنت والزمن

207
ألعاب الفيديو واالنتباه
الكيل الستخدام اإلنرتنت، مام يشري إىل أن امليثيل فينيدات ميكنه تقليل هذا السلوك
القهري يف املشاركني الذين ترتافق لديهم اإلصابة باالضطراب ADHD مع املامرسة
املفرطة لأللعاب. وعىل الرغم من أن املؤلفني مل يوضحوا نسبة مامرسة األلعاب
من النشاط عىل اإلنرتنت، فقد توصلوا إىل استنتاج مذهل مفاده أنه إذا كان
االضطراب ADHD ومامرسة األلعاب هام يف الواقع وجهان لعملة واحدة، وهي
الحالة الدماغية نفسها، فإن »مامرسة ألعاب الفيديو عىل اإلنرتنت قد متثل وسيلة

.
(44)
للتطبيب الذايت يف األطفال املصابني باالضطراب« ADHD
وإذا كانت ألعاب الفيديو نوعا من التطبيب الذايت للمصابني باالضطراب
ADHD، فإن القاسم املشرتك األكرث وضوحا هو فرط إفراز الدوبامني يف الدماغ،

واملتعلق بدوره باإلدمان، واملكافأة، واالستثارة. وقد اقرتح بول هوارد - جونز من
جامعة بريستول أنه ميكن تسخري هذه العملية من خالل السامح لألطفال مبامرسة

ألعاب الفيديو؛ وبالتايل سيصبحون أكرث استثارة وسيتحسنون معرفيا يف الصف
)45(. ولذلك فقد يثبت، يف ظل الظروف املناسبة، أن ألعاب الفيديو متثل أداة
الدرايس
قيمة للمعلمني. ومع ذلك ففي حني أن كميات الدوبامني الذايت التي ُتفرز بصورة
طبيعية يف الدماغ نتيجة ملامرسة األلعاب قد ال تؤدي إىل املستوى نفسه من إزالة
تحسس املستقبالت الذي ميكن أن يحدث مع الجرعات املعتادة من املودافينيل أو
الريتالني، فهل نريد حقا للطالب أن يكونوا يف حالة دامئة من االستثارة املفرطة؟ من
املؤكد أن األمر لن يختلف كثريا عن إعطائهم جرعات منخفضة من األمفيتامينات.
والنتيجة اآلنية هنا أنه يبدو أن هناك صلة واضحة بني مامرسة األلعاب واالنتباه
عموما. وعىل الرغم من أنه ميكن تحسني االنتباه البرصي االنتقايئ للرتكيز عىل جسم
يتحرك عىل الشاشة أو أفاتار عىل املدى القصري من خالل مامرسة األلعاب، فمن
املمكن أن يتم ذلك عىل حساب النوع املستدام والبالغ األهمية من االنتباه الطويل
املدى، وهو نوع االنتباه الالزم للتفكري ولفهم يشء ما بصورة متعمقة. عالوة عىل
ذلك، فإن اآلثار املرتتبة عىل وجود الدوبامني كالعب مركزي يف دماغ الالعبني قد
تزودنا بتبرصات مفيدة حقا لفهم جاذبية هذا النشاط، مقارنة مع واقع الحياة.
ولكن هل ميكن لعقلية تستخدم يف تجربة مكافآت موثوقة، إن مل تكن سهلة، أن
تكون أيضا عقلية متيل إىل العدوان والتهور؟

209
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور

يبدو مام ال يصدق أن لعبة الفيديو
األمنوذجية بونغ Pong قد ظهرت للمرة
األوىل يف العام .1975 لكن استوجب االنتظار
حتى تسعينيات ال�ق�رن العرشين حتى
أدخلت ألعاب مثل التنني املزدوج ومورتال
ْز
كومبات أفعاال أكرث عنفا يف اللعب. كان َمي
resolution الصور يف هذه األلعاب املبكرة
يقاس بعدد املضلعات polygons يف الثانية
الواحدة، وميكن أن يكون مؤرشا جيدا عىل
الرسعة التي تطورت بها هذه التكنولوجيا.
ْز الطراز األول من

وعىل سبيل املثال، كان َمي
بالي ستيشن PlayStation 3500 مضلع يف
الثانية، ولكن بحلول العام ،2001 بلغت جودة
الرسومات يف طراز إكس بوكس Xbox األصيل
125 مليون مضلع يف الثانية الواحدة. أما اآلن
ْز رسوم األلعاب اإللكرتونية الحالية
فيبلغ َمي
ألعاب الفيديو
والعدوان والتهور

»اليزال الباحثون يناقشون احتامل
وجود صلة بني العدوان واأللعاب
حتى بعد خمسة وعرشين عاما
من األبحاث، ألن مصطلحات مثل
»العدوان«، و»السلوك العدواين«،
و»الغضب«، و»العداء«، وحتى
»اإلدراك العدواين« غري ّ محددة
بشكل واضح يف كثري من األحيان،
ُوتقاس بشكل عشوايئ، كام ُتستخدم
بالتبادل«

15

210
ّ تغير العقل
حدودا مذهلة تتجاوز املليار مضلع يف الثانية الواحدة! نتيجة لذلك، أصبح تصوير
الشاشة للعنف يف ألعاب الفيديو أكرث تفصيال وحيوية. يتعرض الالعبون اآلن إىل
طرق متعددة للقتل، ويشهدون املوت يف الفضاء اإللكرتوين بصورة أكرث تواترا
وبطريقة أوضح بكثري من أي وقت مىض.
إن مسألة العواقب السيئة املحتملة أللعاب الفيديو التصويرية تعيدنا إىل
املناقشة املألوفة اآلن بشأن أن األنشطة املرتكزة عىل اإلنرتنت عموما، واأللعاب
عىل وجه الخصوص، جار تجريحها عىل نحو غري متناسب، يف حني أن التقنيات
القدمية، مثل التلفاز، كانت دامئا ضارة بالقدر نفسه. ليس األمر كذلك. استكشفت
هانييك بوملان Polman وفريقها يف جامعة أوتريخت الفرق بني مامرسة إحدى
ألعاب الفيديو والتجربة األقرب شبها بالتلفاز، واملتمثلة يف املشاهدة السلبية
)1(. بعد التعرض أللعاب الفيديو، حصل الطالب عىل

أللعاب الفيديو العنيفة
دورتني من اللعب الحر، وبعد ذلك أكملوا استبيانا عن السلوك العدواين. مل
توصف األفعال بأنها عدوانية إال إذا كانت النية ُتعترب عدائية. وجد الفريق
الهولندي أن املامرسة النشطة للعبة فيديو عنيفة أدت، خصوصا بالنسبة إىل
الفتيان، إىل قدر أكرب من العدوان من مجرد املشاهدة السلبية للعبة الفيديو
العنيفة نفسها. إن الفرق الحاسم بني املشاهدة السلبية للعنف يف وسائل اإلعالم
ولعب لعبة فيديو عنيفة، كام هو واضح متاما، هو التفاعلية.
يف كثري من األلعاب، ميثل الالعب »جزءا ال يتجزأ« من اللعبة ويستخدم
وحدة تحكم يدوية تعمل عىل تعزيز التجربة وبالتايل ميكنها أن تزيد من حدة
املشاعر العدوانية. ولكن بعد ذلك مرة أخرى، ال ميكن أن تؤثر ألعاب الفيديو
العنيفة يف السلوك يف العامل الحقيقي إال إذا أنهى الالعب اللبس بني االثنني. إذا
كان الشخص ال ميارس سوى لعبة سوبر ماريو بروس، فهل يعنينا أنه سيؤمن
بقذائف السالحف التي ميكنها أن ترصع الناس والريش الذي يجعلك تطري؟
متثل هذه مجادلة عبثية. أوال، ال أحد ّيدعي أن ألعاب الفيديو العنيفة هي
املؤثر الوحيد والحرصي يف أفعال أي فرد. ال يوجد البرش يف خواء. حتى أكرث
الالعبني حامسا يعيش حياة ما خارج وحدات املفاتيح الخاصة به: فهم يذهبون
إىل املدرسة، ويتعلمون من آبائهم وأقرانهم. ثانيا، متثل مقارنة العنف َ املشاهد

211
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور
ّ يف الرسوم املتحركة، والعنف التصويري الفائق الواقعية توسعا يف التفسري. يكون
الناس أقل عرضة للتأثر بلعبة خالية متاما من الواقع مثل سوبر ماريو بروس
مقابل واحدة تحايك الواقع، مثل لعبة الفيديو املعروفة باسم Theft Grand
V Auto: تستغل ألعاب الفيديو تلك املخططات العقلية التي ترّسخت لدينا
بالفعل حول العدوان والعنف يف العامل الحقيقي. إن قذائف السالحف، والريش،
والقدرة عىل الطريان ال متتلك هذه املكانة الراسخة يف عقولنا، يف حني ميتلكها
الغرباء املعتدون املحتملون، وشعورنا الالحق بالعداء وعدم الثقة تجاههم.
وباإلضافة إىل ذلك، فقد ّشكك الباحثون الذين درسوا هذا املوضوع يف املستوى
الحقيقي من العنف املتضمن يف األلعاب الشبيهة بالرسوم املتحركة واملوّجهة إىل
)2(. وقد ركزت أغلبية الدراسات عىل العنف بني

األطفال، مثل سوبر ماريو بروس
الشخصيات البرشية التي تحارب بعضها يف سياق من الرسوم الشديدة الواقعية،
حيث تتميز األلعاب الحديثة بأفعال تتسم بالوضوح الشديد وبالبشاعة، مثل
قطع الرأس - ومن النقاط البالغة األهمية هنا أن هذا النوع من العنف الواقعي
يبدو أنه يؤثر يف مستويات العدوان الالحق.
اختربت إييل كونني Konijn وفريقها يف جامعة أمسرتدام الفرضية القائلة بأن
ألعاب الفيديو العنيفة يرّجح بصفة خاصة أن تزيد العدوان عند الالعبني الذين
ُلفت مجموعة كبرية من املراهقني بشكل
)3(. ك
يتقمصون شخصيات هذه األلعاب
عشوايئ ملامرسة لعبة فيديو ذات عنف واقعي، أو لعبة فيديو خيالية، أو لعبة
فيديو غري عنيفة. وبعد ذلك، ُطلب منهم التنافس مع رشيك غري حقيقي يف مهمة
تعتمد عىل زمن رد الفعل، والتي ميكن فيها للفائز نسف الخارس بضجيج ٍعال
من خالل سامعات الرأس، والذي يعمل مقياسا للعدوان. وِقيل للمشاركني، خطأ،
أن مستويات الضوضاء العالية ميكن أن تسبب تلفا مستدميا يف السمع. وكام
هو متوقع، فقد اتضح أن أشد املشاركني عدوانية هم أولئك الذين مارسوا لعبة
عنيفة ومتنوا لو أنهم كانوا مثل إحدى شخصياتها. استخدم املشاركون مستويات
الضوضاء التي ظنوا أنها صاخبة مبا يكفي ألن تسبب تلفا مستدميا يف السمع لدى
رشكائهم يف اللعب، عىل الرغم من أن رشكاءهم مل يستفزوهم. وتشري النتائج إىل
أن تقمص شخصيات ألعاب الفيديو العنيفة يجعل الالعبني أكرث عدوانية بصورة

212
ّ تغير العقل
استباقية، حتى بعد ضبط التعرض املعتاد أللعاب الفيديو، وعدوانية السامت
الشخصية، والسعي وراء األحاسيس. كان الالعبون أقرب احتامال بصفة خاصة
ّ لتقمص الشخصيات العنيفة يف األلعاب الواقعية واأللعاب التي يشعرون فيها
باالنغامس. ولذلك يبدو أن الفتيان مل يكونوا يتمرنون فحسب عىل االستجابات
العنيفة النمطية، لكنهم يكتسبون عقلية أكرث عدائية بشكل عام.
ولكن، هناك من اليزالون يتساءلون عام إذا كانت ألعاب الفيديو قد تؤدي
يف الواقع إىل العنف يف أي وقت. وهم يجادلون بأن تجربة األلعاب ال ميكن أن
تكون ضارة يف الواقع ألن البرش ميتلكون قدرة كامنة عىل التفريق بني الصواب
والخطأ. غري أننا رأينا مرارا وتكرارا عىل هذه الصفحات كيف ّ نتشكل بفعل
تجاربنا الفردية وكيف أن الدماغ البرشي يتكيف دامئا مع بيئته. فإذا كانت تلك
البيئة التي تستمر لعدة ساعات يوميا مفعمة بالحروب بني املجرات، أو تعج
باألبطال الخارقني الذين ميتلكون قوى سحرية، فقد ُتغذي تلك الخياالت عىل
نحو متزايد فهم الدماغ للواقع، ويف نهاية املطاف لكل من الخري والرش. وهذه ما
تبدو أنها الحال يف الواقع.
تشري األدلة الحديثة إىل أنه عىل الرغم من إدراك الالعب أن عامل اللعبة
ليس حقيقيا، فاليزال ُيظهر استجابات إنسانية حقيقية ألحداث اللعبة. صمم
أندرو ويفر Weaver ونييك لويس Lewis من جامعة إنديانا مرشوعا الكتشاف
كيفية اتخاذ الالعبني للخيارات األخالقية يف ألعاب الفيديو، واستكشاف آثار
)4(. مأل خمسة وسبعون

هذه الخيارات عىل االستجابات العاطفية يف أثناء اللعب
مشاركا »استبيان األسس األخالقية« ثم مارسوا أول شوط كامل من لعبة الفيديو
التفاعلية 3 Fallout. توصل معظم الالعبني إىل قرارات أخالقية وترصفوا تجاه
شخصيات اللعبة من غري الالعبني الذين واجهوهم كأنهم سيفعلون يف التعامالت
الشخصية الفعلية. شعر الالعبون بالذنب عندما شاركوا يف عمل الأخالقي تجاه
شخصية )غري برشية( يف لعبة الفيديو، ولكن هذا الشعور بالذنب، وبشكل
مؤثر، مل يؤثر يف مستوى استمتاعهم بها. ومن الغريب بالتأكيد أن يشعر الناس
بالذنب تجاه شخصية يعرفون أنها ليست برشية وغري موجودة يف الواقع.
عالوة عىل ذلك، حتى لو كانت القرارات »أخالقية« للوقت الحايل، فإن التمتع

213
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور
جنبا إىل جنب مع الشعور باللوم يوحي بأنه، يف حني أن الشعور بالذنب قد
يدل بالفعل عىل وجود مستوى معني من التعاطف، يف نهاية املطاف اليزال
هناك انفصال مثري لالهتامم بني فهم معاناة شخص ما واالهتامم بشأنها مبا فيه
الكفاية لتعديل أفعالك.
ومع ذلك، من املمكن استخدام الحجة نفسها بخصوص الكتب، كام قد يقول
البعض. ميكننا أن نشعر بارتباط عاطفي تجاه تلك الشخصيات، بل نتعاطف
معها، لكن هذا ال يقلل بأي حال من األحوال من استمتاعنا بالرواية نفسها.
فكيف تختلف ألعاب الفيديو عن ذلك؟ حسنا، فيام وراء فرصة الهروب من
الواقع يف كلتا الحالتني، قد يكون االستمتاع بالكتب راجعا إىل بصرية يكتسبها
القارئ من معايشة حياة اآلخرين يف أزمنة وأماكن مختلفة، ما مينحه الفرصة
ّ لتعديل وجهات نظره، ورمبا تعمل كمحفز للحصول عىل أفكار جديدة. مل ُي َّدَع
بذلك مطلقا يف حالة ألعاب الفيديو، حيث يأيت معظم االستمتاع، كام رأينا سابقا،
من إفراز الدوبامني يف تجربة تفاعلية مبارشة ورسيعة الوترية، والتي ال تحدث
عند قراءة كتاب. واألكرث أهمية هنا هو أنه مهام كانت الرواية ّ مشوقة ومثرية، فال
ميكن ألحد دمجها يف العامل الحقيقي من حوله، كام قد يكون ممكنا مع ألعاب
الفيديو. فمن خالل شخصيتك املتجسدة )أفاتار(، ميكنك أن تعيش حياة أخرى.
وعىل الرغم من معرفتهم أن هذا العامل خيايل، يبدو أن الالعبني يدمجون الخيال

.
)5(
مع الواقع يف ألعاب الفيديو العنيفة
ومن جانبه، فإن كريغ أندرسون Anderson، وهو أستاذ ورئيس قسم علم
النفس يف جامعة والية أيوا وأحد كبار الباحثني يف مجال العنف املتضمن يف
ألعاب الفيديو، يشعر بالقلق من أنه يف حني أن األلعاب العنيفة ال تسبب سلوكا
عنيفا متطرفا يرقى إىل املستوى الجنايئ، فإنها ّ تعزز العدوان املنخفض املستوى.
وهو مقتنع بأنه هو وغريه من الباحثني يف هذا املجال
ميتلكون اآلن صورة واضحة عن الكيفية التي يزيد بها العنف يف
وسائل اإلعالم من العدوان يف السياقات القصرية والطويلة األجل. فبعد
التعرض مبارشة للعنف يف وسائل اإلعالم، تحدث زيادة يف امليل تجاه
السلوكيات العدوانية بسبب عدة عوامل: 1 - زيادة األفكار العدوانية،

214
ّ تغير العقل
ُ والتي تزيد بدورها من احتامل أن يفرس أي استفزاز خفيف أو مبهم
بطريقة عدائية. 2 – زيادة املشاعر العدوانية. 3 - زيادة االستثارة العامة
)معدل رضبات القلب، عىل سبيل املثال(، مام ينزع إىل زيادة امليل
السلويك السائد. 4 - يحدث يف بعض األحيان تقليد مبارش للسلوكيات

.
)6(
َ العدوانية املشاهدة أخريا
يرى أندرسون أن االرتباط بني العدوان واأللعاب هو ارتباط غري مبارش وعام.
ويف الواقع أنه من املعقول متاما أن امليول الالواعية تجاه العنف قد تتحول
إىل رصاعات واعية بوضوح عن طريق مامرسة األلعاب، وأنها قد تصبح تلقائية
من خالل التكرار، وهو الوضع االفرتايض. إن اإلعادة، والتكرار، هام األمر البالغ
األهمية هنا، إذ ينغمس الالعب يف رواية خيالية تمُثل مرارا وتكرارا. ومقارنة
مبجرد مشاهدة مشهد عنيف، فأنت يف سياق مامرسة لعبة فعلية متتلك شخصية
ُتكافأ أفعالها العدوانية من قبل اللعبة، مام يؤدي إىل تدفق الدوبامني يف دماغك؛
وبالتايل تصبح عقليتك العدوانية هي القاعدة. من املمكن للفرد الذي يندمج يف
األلعاب العنيفة أن يفقد الوعي الذايت والبصرية ألن امليل إىل الترصف العدواين
يصري عادة قوية.
لقد رأينا بالفعل كيف ذكر عامل النفس املتبصر،ّ دونالد هب Hebb، منذ أكرث
من سبعة عقود أن العصبونات التي »تطلق إشاراتها معا ترتبط معا«. ويف اآلونة
األخرية، ردد الباحث يف ألعاب الفيديو دوغالس جنتايل هذا املوضوع، مشريا إىل
أن »كل ما منارسه بشكل متكرر يؤثر يف الدماغ، فإذا مارسنا طرقا عدوانية يف
)7(. ومن املمكن

التفكري، والشعور واالستجابة، فسوف نتحسن يف تلك املجاالت«
للمحتوى العنيف يف ألعاب الحاسوب أن يزيل ّ تحسس الالعبني تجاه السلوك
العنيف تجاه اآلخرين، األمر الذي يعود جزئيا إىل انخفاض عتبة االستجابة
لالستفزاز وتضاؤل التعاطف مع اآلخرين. وعىل سبيل املثال، إذا اصطدم بك
شخص ما يف املمر، فقد تبالغ يف رد فعلك العدايئ »مع من تعتقد أنك تتزاحم!«.
ويف دراسة حديثة، أظهر يوسف حسن وفريقه يف جامعة بيري منديس
فرانس أن األلعاب العنيفة تزيد بالفعل من توقعات بأن اآلخر سيترصف بعدائية
أو بعدوان، ورمبا كان ذلك ناتجا عن الخربة املتكررة يف اللعبة بالشخصيات

215
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور
)8(. مارس طالب الجامعة الفرنسية إما لعبة عنيفة وإما لعبة غري عنيفة
املعادية
ملدة عرشين دقيقة فقط. وبعد ذلك، كان عليهم قراءة حبكة قصة غامضة
مفعمة بالرصاعات الشخصية املحتملة، وذكروا ما ظنوا أن الشخصيات الرئيسة
ستفعله، أو تفكر فيه، أو تشعر به مع توايل أحداث القصة. وقد جرى قياس
العدوان باستخدام لعبة حاسوبية تنافسية ميكن للفائز فيها عىل ما يبدو أن
ينسف الخارس ّ بضجة عالية من خالل سامعات الرأس. وأظهرت النتائج أن العبي
ألعاب الفيديو العنيفة توقعوا استجابات أكرث عدوانية من الشخصيات الرئيسة
الواردة يف القصة. وعالوة عىل ذلك، فقد اختاروا أصواتا ذات ضوضاء أعىل وأطول
مدة بكثري ملنافسيهم يف اللعبة. وكام كان متوقعا، فقد زادت ألعاب الفيديو
العنيفة من تحيز التوّقع العدايئ، والذي زاد بدوره من العدوان الفعيل. ماذا
ستكون اآلثار الطويلة املدى لهذا الوضع؟
مثة اقرتاح يقول إنه قد تكون هناك بعض اإليجابيات بالفعل. وعىل سبيل
.)9(
املثال، ميكن أن توفر ألعاب الفيديو العنيفة مخرجا آمنا للعدوان واإلحباط
ومن هذا املنطلق، فإن البحوث التي تقودها حاليا شرييل أولسون Olson
وفريقها يف مركز مستشفى ماساتشوستس العام للصحة العقلية ووسائل اإلعالم
تشري إىل أن األلعاب العنيفة تساعد الطالب عىل التغلب عىل التوتر والعدوان.
يبدو أن أكرث من 45 يف املائة من الفتيان و29 يف املائة من الفتيات يستخدمون
)10(. لكن هناك

ألعابا عنيفة مثل IV Auto Theft Grand كصامم أمان لغضبهم

ّدة داخليا شبيهة

القليل من األدلة عىل أن العنف ميثل حتمية بيولوجية مول
بالجوع أو النوم - أي ّ محفز يرتاكم يف الجسم، مهام كانت النتيجة، كحاجة فطرية
تجب تلبيتها إن عاجال أو آجال. وعالوة عىل ذلك، فليس الغضب كالعدوان، عىل
الرغم من أن األول قد يؤدي يف بعض األحيان إىل األخري. ومهام يكن، فقد يكون
األمر هو أن هناك طرقا أكرث فاعلية ملساعدة الشخص عىل التعامل مع الغضب
من توفري فرصة للعنف، مهام كان صوريا.
»إن الدليل« الوحيد عىل أن األلعاب العنيفة قد تكون لها آثار إيجابية، وفقا
ألولسون والعديد من املتابعني املتحمسني لأللعاب، هو عىل ما يبدو أن معدل
جرائم العنف قد تراجع يف الوقت نفسه الذي زادت فيه شعبية ألعاب الفيديو

216
ّ تغير العقل
ّ العنيفة. لكن انخفاض معدالت الجرمية يرجح أن يكون ناتجا عن مجموعة
متنوعة من العوامل االجتامعية واالقتصادية املعقدة. واألهم من ذلك أن أحدا مل
يتمكن مطلقا يف الواقع من إثبات وجود صلة مبارشة بني ألعاب الفيديو العنيفة
واالنخفاض يف معدالت جرائم العنف الفعلية، أو حتى أشار إىل العكس، أي أن
هذه األلعاب تدفع الالعبني مبارشة إىل الخروج من حالة الهياج.
وعىل أي حال، فإن التغيرّ نحو نزعة أكرث عدوانية نتيجة أللعاب الفيديو ال
يبدو أنه ظاهرة عاملية محددة عرب مختلف الثقافات. وقد أظهرت دراسة طولية
ُجريت أخريا، والتي ّصممت الستكشاف اآلثار الطويلة األجل لأللعاب العنيفة
أ
عىل طريقة تفكري الشبان األمريكيني واليابانيني يف سن املدرسة، أنه خالل فرتة
قصرية ال تزيد عىل ثالثة أشهر، أدى التعرض املكثف أللعاب الفيديو العنيفة
كل شخص ما أو الدخول يف معارك

إىل زيادة العدوان الجسدي، مثل لَ ْكم أو َرْ
)11(. وقد أظهر عدد من الدراسات املامثلة األخرى التي أجريت أخريا يف
فعلية

)13( آثارا مامثلة.
)12( وفنلندا
أملانيا
وعىل الرغم من أن الدراسة املنهجية أللعاب الفيديو متثل مجاال جديدا نسبيا،
يبدو أن هناك أدلة قوية عىل وجود صلة بني مامرسة ألعاب الفيديو وبني امتالك
عقلية عدوانية. وقد اعتمد التحليل التلوي األكرث شموال حتى اآلن عىل 136 ورقة
بحثية ترسد تفاصيل 381 اختبارا مستقال حول االرتباط، والتي أجريت عىل ما
مجموعه 130296 من املشاركني البحثيني، فوجد أن مامرسة األلعاب العنيفة
تؤدي إىل زيادات كبرية يف إزالة التحسس، واالستثارة الفسيولوجية، واإلدراك
.
)14(
العدواين، والسلوك العدواين، يف حني انخفض السلوك االجتامعي اإليجايب
وكام هي الحال بالنسبة إىل األدبيات العلمية التي تخضع ملراجعة األقران، فقد
ّ تعرض هذا التقرير لالنتقاد عىل الفور بسبب وجود عدد من العيوب املنهجية،
السيام التحيز يف اختيار الدراسات املدرجة، وكذلك الحجم الضئيل املزعوم لحجم
)15(. ّمتكن املؤلفون األصليون، وهم براد بوشامن Bushman وزمالؤه، من
العينة

.)16(
دحض هذا االتهام وأنكروا وجود أي دليل عىل التحيز يف اختيارهم للبيانات
وردوا أيضا بأن اآلثار املالحظة، بعيدا عن كونها ضئيلة الحجم، كانت أكرب من
العديد من اآلثار التي تعترب كبرية مبا فيه الكفاية لتربير اتخاذ فعل ما يف املجاالت

217
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور
الطبية. وبالتايل فإن الحجة الرئيسة ضد اآلثار الضارة املحتملة لأللعاب العنيفة
قد ُ اختزلت إىل واحدة متعلقة بالتفاصيل )اآلثار الواقعية لتلك اآلثار، وحجمها،
.
)17(
ومنهجية تقييمها(، ولكن ليس مبا إذا كان أيها موجودا يف املقام األول
وباستثناء السلوك العدواين تجاه اآلخرين، فمن الواضح أن ألعاب الفيديو
العنيفة ليس لها تأثري واضح يف الدماغ والجسم. ربطت األبحاث بني ألعاب
الفيديو العنيفة وحدوث تغريات يف منظومة »القتال أو الهرب«، والتي تطورت
لتحضري الجسم للعمل عن طريق ضخ الدم يف جميع أنحاء الجسم برسعة أكرب،
وتعطيل عملية الهضم مؤقتا، وتربيد الجلد بواسطة العرق، وهلم جرا. يبدو أن
الالعبني ميكنهم االعتياد عىل هذا االندفاع الكظري rush adrenal، بحيث إن

.
)18(
ّ عيش تجربة عنيفة واقعية ال يحفز استجابة قوية
أثبت نيكوالس كارناغي Carnagey، وهو طبيب نفساين يف جامعة والية أيوا،
أن التعرض املوجز أللعاب الفيديو العنيفة يؤثر يف تفعيل ذلك الجزء من الجهاز
)19(. مارس املشاركون لعبة

العصبي الذي عادة ما يزيد من رضبات قلبك تلقائيا
فيديو عنيفة أو غري عنيفة ملدة عرشين دقيقة، وشاهدوا بعد مامرسة اللعبة
عىل الفور مقطع فيديو مدته عرش دقائق من العنف يف العامل الحقيقي الفعيل
)وليس كام ّ تصوره هوليوود( - مثل مشاجرة وقعت يف سجن ما، والتي تعرض
فيها أحد السجناء للطعن مرارا وتكرارا – يف أثناء قياس معدل رضبات القلب
ومواصلة conductance الجلد. أظهر من مارسوا لعبة الفيديو العنيفة تغريا
أقل يف معدل رضبات القلب، مع تعرق أقل يف راحتي اليدين يف أثناء مشاهدة
الفيديو، مقارنة مبن مارسوا لعبة الفيديو غري العنيفة. أدت لعبة الفيديو العنيفة
إىل جعل املشاركني أقل تأثرا وانزعاجا بفعل العدوان يف العامل الحقيقي.
من املمكن أن تكون عواقب إزالة التحسيس الفسيولوجية هذه بالغة
األهمية: عندما ُيزال تحسيس األفراد بفعل ألعاب الفيديو العنيفة، سيكونون
)20(. ويف دراسة بعينها أجراها براد بوشامن

أقل عرضة ملساعدة ضحايا العنف
وكريغ أندرسون يف جامعة والية أيوا، مارس املشاركون واحدة من ألعاب الفيديو
قبل ترتيب مشاجرة وهمية خارج املخترب قرب نهاية الدراسة. مقارنة باملشاركني
الذين مارسوا لعبة الفيديو غري العنيفة، كان املشاركون الذين مارسوا لعبة

218
ّ تغير العقل
الفيديو العنيفة أقل عرضة لإلبالغ عن سامع املشاجرة، كام حكموا عىل الحدث
بأنه أقل خطورة، وكانوا أبطأ يف االستجابة عندما قدموا بالفعل يد املساعدة.
رمبا ليس من املستغرب أن تكون ملامرسة ألعاب الفيديو العنيفة آثار مقابلة
ُ ميكن مالحظتها يف الدماغ نفسه. يظهر النشاط الدماغي ّ املسجل يف أثناء اللعب
وجود ارتباطات عصبونية مؤكدة مع سلوك الحياة الحقيقية. سجل الباحثون
النشاط الدماغي لالعبني ّ املحنكني، الذين يلعبون يف املتوسط أربع عرشة
ساعة يف األسبوع، يف أثناء مامرستهم للعبة تطلق فيها النار عىل أول شخص
)21(. تسببت مشاهدة املقاطع العنيفة يف إحداث تغيرّ نشاط مناطق معينة
تراه
من أدمغتهم، وبالتحديد يف منطقة بعينها، وهي ]التلفيف[ الحزامي املنقاري
األمامي. تنشط هذه املنطقة بشكل طبيعي خالل الكشف عن وجود تناقضات يف
املعلومات الواردة، كام هي الحال يف اختبار سرتوب test Stroop، عندما يكون
وقت االستجابة أبطأ ألن اسم اللون )األزرق، عىل سبيل املثال( قد ُطِبع بلون ال
يرمز إليه هذا االسم، مثل األحمر. وكذلك فقد ُربطت مامرسة األلعاب بتعطيل
اللوزة amygdala، وهي منطقة يف الدماغ ترتبط عادة بالذاكرة املشحونة
عاطفيا، بحيث يؤدي انخفاض النشاط يف هذه املنطقة إىل كبت الخوف وخمود
عام يف العاطفة. وبالتايل كانت أدمغة الالعبني أقل حساسية وأقل استجابة من
الناحية العاطفية لألفعال املتناقضة، مثل العنف املفاجئ. ومن املهم أن نالحظ
أن منط التفعيل يعكس تسلسل التفاعل بني دماغ وبيئة الفرد وليس فقط مجرد
تسجيل ما يجري هناك.
ويف تجربة ثانية للتصوير الشعاعي، مارس العبون عاديون لعبة تطلق فيها
النار عىل أول شخص تصادفه وُحللت أفعالهم يف اللعبة والصور الدماغية املقابلة
)22(. أظهرت النتائج أن املناطق الدماغية التي ترتبط بالعاطفة والتعاطف
لها
)القرشة الحزامية واللوزة، مرة أخرى( كانت أقل نشاطا خالل مامرسة األلعاب
العنيفة. يقرتح املؤلفون أن هذه املناطق ال بد أن ُتثبط خالل مامرسة األلعاب
العنيفة، كام هي الحال يف واقع الحياة، من أجل الترصف بعنف من دون تردد.
فعلت املناطق املرتبطة بالعدوان واإلدراك، بصورة مشابهة

وعالوة عىل ذلك، فقد ُ
للتفعيل الذي يحدث يف أثناء العنف يف واقع الحياة.

219
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور
هل يعني هذا أن الدماغ ال ميكنه معرفة الفرق بني فعل العنف االفرتايض وفعل
العنف يف العامل الحقيقي؟ يشبه هذا أن تسأل عام إذا كان األفراد )الذين، بعد كل
يشء، هم نواتج أدمغتهم( ميكنهم التعرف عىل هذا الفرق؟ لقد رأينا بالفعل أن
الالعبني ميكنهم الخلط بني الواقع والعامل االفرتايض. وإذا كان العكس هو الصحيح،
أي إذا كان هناك نوع من اختبار الواقع العصبوين، فمن الصعب أن نرى موقع
وكيفية عمله يف الدماغ املادي باعتباره آلية قادرة عىل منح موضوعية مستقلة لكل
العمليات الدماغية األخرى. فإذا كان العقل، كام أرشت إليه، هو تجسيد للدماغ من
خالل ارتباطات عصبونية شخصية، فسيمتلك كل واحد منا، عىل كل حال، منظورا
فريدا من نوعه وشديد االختالف عن الواقع الخارجي. سيكون من املجازفة أن
نفرتض أن الدماغ البرشي يعرف دامئا الفرق بني الخيال والواقع. وقد ذهب عامل
األعصاب رودولفو ليناس Llinás من مركز جامعة نيويورك الطبي إىل حد القول
ُ بأن وعينا االفرتايض يولد داخليا، وال ُيعدل بالزيادة أو النقصان إال بفعل مدخول
)23(. ويف الوقت نفسه، فإن الفكرة املتطرفة القائلة بأن

متقطع من واقع خارجي
الواقع بأرسه هو كائنات وهمية وخارجية ال توجد إال عندما ُت َدرك تعود إىل قرون
منذ أن طرحها الفيلسوف جورج بريكيل Berkeley. ليس هذا هو املكان املناسب
ملناقشة طبيعة الواقع املادي، ولكن يكفينا القول بأنه ال يوجد ّ محول تلقايئ يف
الدماغ الكتشافه، وال الفرتاض أنه مفهوم بسيط يف املقام األول، والذي ميكن تفريقه
بسهولة عن الخيال، والذي ميكننا اعتباره أمرا مفروغا منه، ناهيك عن تحديده.
وعىل الرغم من أننا قد ركزنا هنا عىل مامريس األلعاب املفرطني، الذين قد
يكونون استحواذيني إن مل يكونوا مدمنني بالفعل، فإن الصورة البازغة ُتظهر وجود
عالقة واضحة بني مامرسة األلعاب العنيفة وزيادة األفكار، واملشاعر، والسلوكيات
العدوانية. ولكن ماذا يعني هذا يف الواقع بالنسبة إىل الحياة خارج الشاشة؟ نحن
نعلم من العديد من الدراسات املختربية ذات التصميم الجيد أن مامرسة ألعاب
الفيديو العنيفة قد تجعلنا نستجيب بقوة أكرب. لكن مدى طول هذه اآلثار، وما
إذا كانت ترتجم حتام إىل مواقف يف العامل الحقيقي اليزال غري واضح.
لقد بدأ استكشافنا أللعاب الفيديو بفكرة مفادها أننا، يف أثناء مامرسة
األلعاب، نكرر العديد من املهارات املفيدة للبقاء عىل قيد الحياة يف العامل

220
ّ تغير العقل
الحقيقي. اليزال الباحثون يناقشون احتامل وجود صلة بني العدوان واأللعاب
حتى بعد خمسة وعرشين عاما من األبحاث، ألن مصطلحات مثل »العدوان«،
و»السلوك العدواين«، و»الغضب«، و»ا ِلعداء«، وحتى »اإلدراك العدواين« غري
ّ محد ُ دة بشكل واضح يف كثري من األحيان، وتقاس بشكل عشوايئ، كام ُتستخدم
بالتبادل. ولكن قبل كل يشء، نحن بحاجة إىل التمييز بني »الغضب«، و»العدوان«،
و»العنف«. ال يوجد أي دليل عىل أن ألعاب الفيديو تؤدي مبارشة إىل العنف
ذي املستوى الجنايئ، لكن مجموعة كبرية من البيانات تشري بقوة إىل أنها ّ تحرض
عىل اتخاذ نزعة عدوانية يف الحياة اليومية. وهذا أمر مقلق، خصوصا يف ضوء
اإلحصاءات األخرية التي تشري إىل أن ألعاب الفيديو العنيفة تشكل ما يقرب من
)24(. وعالوة عىل ذلك، ففي وقت كتابة

60 يف املائة من مبيعات ألعاب الفيديو
هذا التقرير، كانت ألعاب الفيديو الخمس األكرث شعبية )Auto Theft Grand
و ،Assassin’s Creed IV: Black Flagو ،Batman: Arkham Originsو ،V
4 Battlefield ,Ghosts :Duty of Call )كلها عنيفة للغاية يف محتواها.
وكام رأينا عرب صفحات هذا الكتاب، فقد فرض ا ّ لتطور عىل البرش أن يتكيفوا
ّم األطفال أفضل من خالل مراقبة سلوك ما ثم تجربته

مع البيئة. وقد تعل
بأنفسهم. وتؤثر عواقب هذه الغزوات التجريبية عىل ما إن كانوا سيكررون
السلوك املعني أم لن يفعلوه مرة أخرى. متتلك جميع وسائل اإلعالم العنيفة،
بغض النظر عن نوعها، القدرة عىل تعليم سلوكيات عنيفة محددة، وكذلك عىل
تلوين الظروف عندما تبدو هذه السلوكيات مناسبة ومفيدة. وبهذه الطريقة،
ّم السيناريوهات السلوكية العنيفة وتخزينها يف الذاكرة. توفر ألعاب
يجري تعل

ّم العنف ألنها تضع الالعبني يف دور املعتدي،

الفيديو بيئة مثالية يجري فيها تعل
وغالبا ما يكافأون عىل السلوكيات العنيفة الناجحة. تسمح األلعاب لالعبني بتكرار
الرسد بأكمله، من االستفزاز إىل اختيار الرد بعنف إىل حل النزاع. ُيحفز الالعبون
عىل إعادة متثيل هذه السيناريوهات مرارا ولفرتات طويلة من الزمن من أجل
ّ تحسني نتائجهم والتقدم إىل مستويات أعىل. ومن ّ املحتم أن يزيد هذا التكرار
من فعاليتهم ومن احتاملية تكرار مثل هذا السلوك. وبالتايل، ُستعتمد السلوكيات
العدوانية. إن التحول املحتمل إىل منط وتوجه سلويك أكرث عدوانية مبرور الوقت

221
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور
ميكنه أن يؤثر يف املجتمع ويف ما يتوقعه بعضنا من بعض، ورمبا تقليل توقعاتنا
بالحصول عىل االحرتام والتسامح وزيادة عدم ثقتنا يف اآلخرين وحاجتنا املدركة
إىل الحفاظ عىل الذات.
إن أي زيادة يف العداء تعني انخفاضا يف ضبط النفس السوي وزيادة التهور
من دون النظر إىل العواقب. إذا ُطلب من أحد علامء األعصاب أن يقول شيئا
عن اإلفراط يف خوض املجازفات، فسيقول إن ذلك قد يبدأ باإلشارة إىل املتالزمات
العصبية التي يتميز فيها خلل وظائف الدماغ بتعريض النفس لعدد كبري من املخاطر
ّر الفصل الثامن وحالة فينيس غيج، الذي كان متقلبا للغاية، وصبيانيا، ونافد
- تذك

ّر أيضا أن هذا ميثل منطا سلوكيا ُيشاهد يف جمهرات سكانية

الصرب عند تقييده. تذك
أخرى، مثل البدناء، واملقامرين، والفصاميني، واألطفال بطبيعة الحال. تتسم هذه
املجموعات بتباينها الشديد، ولكنها جميعا تشرتك يف تفضيل »هنا واآلن«، والذي
ّ يتجاوز تدبر العواقب الطويلة املدى. يعلم أي شخص ُيفرط يف تناول الطعام ماذا
سيحدث، لكن بالنسبة إىل من ميتلكون مؤرشا مرتفعا لكتلة الجسم )الوزن بالنسبة
إىل الطول( فإن لذة ّ تذوق الطعام تتجاوز عواقب اإلفراط يف تكديس السعرات
الحرارية. وباملثل، فقد أظهرت األبحاث أن األشخاص البدناء هم أكرث تهورا يف
مهامت املقامرة، بل متكن مقارنتهم باملقامرين االستحواذيني الذين يتجاوز لديهم
التشويق الذي ميثله اجتياز حصان السباق آلخر عالمة، أو ّلفة الرند، العواقب التي
)25(. ومع ذلك، ماذا عن مرىض الفصام الذين قد

قد تصل إىل فقدانهم كل أموالهم
ال يعانون السمنة املفرطة وال هم من املقامرين االستحواذيني؟
إن دراسة الفصام بالتفصيل تقع خارج نطاق مناقشتنا الحالية، لكن الخاصية
الرئيسة التي أود اإلشارة إليها هنا هي أن مرىض الفصام يركزون بشدة عىل العامل
الحيس الخارجي، الذي كثريا ما يظنون أنه سينهار داخلهم. فهم يعتقدون أن
الغرباء يستطيعون رؤية وسامع أفكارهم، باعتبار أنه ال يوجد جدار للحامية بني
أدمغتهم، أو باألحرى عقولهم، وبني فيضانات التحفيز الحيس التي تقرتب منهم.
لقد رأينا أن العامل الحيس، خالل منائنا وتطورنا، يرتاجع أمام عامل معريف أكرث، حيث
تهيمن عىل تفسرياتنا للعامل االرتباطات الشخصية، أو املغزى. ويف الفصام، يكون
هذا التحول أقل وضوحا بكثري، إذ تظل الحواس مهيمنة عىل نحو مفرط، وبالتايل

222
ّ تغير العقل
ميكن تشتيت انتباه املصابني بالفصام بسهولة أكرب بفعل املحفزات الجديدة،
)26(. وكذلك يجد الفصاميون صعوبة يف فهم

كام يكون مدى انتباههم أقرص
األمثال والتفكري املجازي، كام رأينا سابقا يف التفسري الحريف الرصف ملقولة »إن
من يعيشون يف بيوت من زجاج يجب أال يقذفوا الناس بالحجارة«، باعتباره يدل
عىل أنك »إذا كنت تعيش يف بيت من زجاج وألقيت عليه حجرا، فسوف يتحطم
منزلك«. يجد مرىض الفصام صعوبة يف فهم يشء ما من حيث عالقته بيشء
آخر، ألن القدرة عىل تكوين هذه االرتباطات ترتكز عادة إىل وجود ارتباطية
وظيفية قوية بني شبكات العصبونات، وهي ارتباطية تنمو وتصري شخصية يف

.
)27(
جميع مراحل الحياة
هناك مجموعة أخرى من الناس الذين يرون العامل حرفيا، وينظرون إليه
بقيمته االسمية الحسية، وهم األطفال. إن الفتاة الصغرية أو الصبي الذي ُيؤمر
بعدم البكاء عىل اللنب املسكوب قد ينظر حوله مستغربا من عدم وجود كوب
مقلوب. ميكن مقارنة األطفال الصغار بالبالغني املصابني بالفصام يف أن لديهم مدى
انتباه قصريا، وميكن تشتيت انتباههم بسهولة أكرب، واألمر املهم أنهم أكرث تهورا
أيضا. وكذلك يكون نشاط القرشة املخية أمام الجبهية لديهم منخفضا، إذ إنها ال
.
)28(
تنضج بالكامل إال يف سنوات املراهقة املتأخرة أو حتى يف أوائل العرشينيات
وكام رأينا سابقا، فإن القاسم املشرتك املستبطن لكل من السمنة، والفصام،
وطيش القامر والطفولة هو كيف ينسخ الحارض الحيس العواقب الطويلة املدى:
فإلحاح بيئة »هنا واآلن« يكون بالغ األهمية عىل نحو غري عادي. يبدو أن
هذا الكبت للاميض واملستقبل ملصلحة اللحظة الراهنة ال بد أن يكون متعلقا
بانخفاض نشاط القرشة املخية أمام الجبهية. فهل يعني هذا أنه عىل الرغم من
كل التحذيرات الصحية يف الفصول السابقة ضد النظر إىل مناطق محددة يف
الدماغ كعقول مستقلة مصغرة، فإن القرشة املخية أمام الجبهية متثل يف الواقع
نوعا من املقر الرئيس لإلدراك ولألفكار السامية التي تتجاوز اللحظة الراهنة؟
مطلقا. بعيدا عن كونها رضبا من الدماغ ّ املصغر الفائق ذي الحكم الذايت، فإن
القرشة املخية أمام الجبهية توّجه عددا أكرب من املدخالت إىل جميع املناطق
القرشية األخرى مقارنة بأي منطقة أخرى من القرشة املخية، وبالتايل فهي تؤدي

223
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور
دورا رئيسا يف التامسك التشغييل للدماغ. ولذلك فإذا انخفضت معدالت نشاط
هذه املنطقة املحورية ألي سبب من األسباب، فقد يكون لذلك تأثري عميق يف
عمليات الدماغ الشاملة، والتي عادة ما تكون فعالة يف الوصول إىل الذكريات
والتخطيط للمستقبل. ومن بني اآلثار املثرية لالهتامم لتلف القرشة املخية أمام
الجبهية، نجد »فقدان الذاكرة املصدرية«، حيث تظل الذاكرة سليمة، لكنها تصبح
)29(. ال يرتبط املريض

أكرث عمومية كام تنفصل عن أي سياق محدد أو حلقة بعينها
بالرسد املستمر ألحداث معينة، لكنه ينغمس أكرث يف حارض ضبايب مبهم املعامل.
وعندما يصل الدوبامني إىل القرشة املخية أمام الجبهية، فهو ّ يثبط نشاط
)30(، وبالتايل ُيعيد بطريقة ما تلك الحالة غري الناضجة لدماغ

العصبونات هناك
الطفل، أو باألحرى تلك املميزة للمقامر املتهور، أو الفصامي ّ املشتت االنتباه، أو
من يفرط يف تناول الطعام. وباملثل كام يكون األطفال عاطفيني للغاية ورسيعي
االنفعال، يكون البالغون يف هذه الحالة أيضا أكرث تفاعال لألحاسيس بدال من
الترصف عىل نحو استباقي هادئ. ال عجب يف أن هذا املرسال الكيميايئ الذي
ُ كثريا ما يستشهد به يزيد االستثارة، وكثريا ما ُتربط االستثارة باملتعة سواء كان
ذلك يف الرياضات املتطرفة، أو املخدرات، أو الجنس، أو موسيقى الروك آند
رول. إنها حالة دماغية تسيطر عليها تلك اللحظة الحسية املضاعفة للمتلقي
السلبي. ولذلك، فعندما »تفقد عقلك«، فأنت توقف مؤقتا الوصول إىل الوصالت
العصبونية الشخصية التي تطورت عىل مدى فرتة حياة الفرد، والتي ّمتيز تفردك
االستباقي الخاص. أما اآلن، ويف الوقت الراهن عىل األقل، فال يتحقق الوصول إىل
تلك االتصاالت بشكل كامل، وذلك بفضل العقاقري النفسية التأثري، أو ألن البيئة
تضم محتوى معرفيا قليال، ألنه ُتحفز الحواس برسعة وبقوة، كام يحدث يف سياق
مامرسة الرياضة أو الجنس أو نوبات الهذيان.
كيف ميكن تطبيق هذا السيناريو عىل ألعاب الفيديو؟ إن الشخصية التي
أطلقت عليها النار من فورك يف إحدى ألعاب الفيديو ميكن إعادتها إىل الحياة
بسهولة يف املرة القادمة. لعل الفرق األكرب بني ألعاب الفيديو والحياة الحقيقية
هي أنه يف األلعاب ال تكون لألفعال عواقب يتعذر عكسها. ميكنك ّ تحمل أن تكون
متهورا بطريقة تكون لها نتائج وخيمة يف العامل ثاليث األبعاد. إن الطبيعة الخالية

224
ّ تغير العقل
من النتائج، والتي تتسم بها مامرسة األلعاب، هي جزء أساس من روحها )تذكر أن
واحدا من املعايري الرضورية التي وضعتها نيكول الزارو Lazzaro للعبة ناجحة
)31(. واعتامدا عىل اللعبة، ُ فستكافأ يف بعض األحيان عىل

هو »تعليق العواقب«(
الترصف بتهور يف أثناء اللعب. ال يسهل هذا العامل املوازي التهور فقط، ولكن
اعتامدا عىل اللعبة، فهو يكافئ عليه أحيانا. وهذا النوع من انعدام املسؤولية
املرتكز عىل اإلنرتنت قد تكون له آثار خطرية يف العامل الحقيقي. بعد مامرسة إحدى
ألعاب الفيديو التي متثل فيها القيادة املتهورة - َصدم السيارات األخرى، والقيادة
عىل الرصيف، والقيادة برسعة عالية - جزءا من اللعبة، فمن املرجح أن يترصف
)32(. وجدت دراسة

الالعبون بتهور وأن يتخذوا العديد من املخاطر يف حالة القيادة
طولية أن مامرسة ألعاب الفيديو العنيفة التي تشجع اتخاذ املخاطر، مبا يف ذلك
لعبة قيادة السيارات Auto Theft Grand، كانت مرتبطة بالتقارير الذاتية للقيادة
.)33(
الخطرة، حتى بعد ضبط املتغريات األخرى التي تؤثر يف هذا النوع من السلوك
وعىل وجه التحديد، فقد ارتبطت مامرسة األلعاب بحوادث املركبات، واإليقاف من
قبل الرشطة، وعادات القيادة غري اآلمنة، مبا يف ذلك الرسعة، واتباع السيارات من
الخلف مبارشة، واالستعداد للقيادة تحت تأثري الكحول.
ومع ألعاب الفيديو الحديثة، فمن املمكن ملجرد تجربة التهور يف حد ذاتها
أن تكون ممتعة. لقد رأينا بالفعل أن األلعاب كثريا ما تقدم تجربة مثرية رسيعة
)34(. يشتهر
الوترية، والتي تقرتن بإفراز مستويات مرتفعة من الدوبامني يف الدماغ
الدوبامني بتثبيطه للقرشة املخية أمام الجبهية؛ وبالتايل فهل ُتظهر أدمغة الالعبني
نشاطا أقل يف هذه املنطقة الحيوية من الدماغ؟ ربط العديد من الدراسات
بالفعل بني املامرسة املفرطة لأللعاب وانخفاض نشاط القرشة املخية أمام
)35(. ووجد تقرير صدر أخريا يف الصني تشوهات هيكلية يف القرشة املخية
الجبهية
أمام الجبهية يف أدمغة مدمني اإلنرتنت )وكام رأينا يف الفصل الرابع عرش، فإن
أغلبية الدراسات التي تناولت إدمان اإلنرتنت تتضمن أفرادا يتمثل السلوك
اإلدماين الرئيس لديهم يف مامرسة األلعاب(، مام يوحي بأن إدمان اإلنرتنت قد
)36(. تضمنت الدراسة مسح أدمغة املراهقني

يؤدي إىل تغيريات بنيوية يف الدماغ
الذين ميارسون ألعاب الفيديو عىل اإلنرتنت مبتوسط عرش ساعات يوميا ملدة

225
ألعاب الفيديو والعدوان والتهور
تقارب ثالث سنوات، ومقارنة النتائج بصور أدمغة املشاركني املشابهني الذين
ميارسون ألعاب الفيديو بوترية أقل. يف الالعبني املفرطني، أظهرت عمليات املسح
شذوذات يف املادة البيضاء يف الدماغ، وهي األلياف التي تربط مناطق الدماغ
.
)37(
املكتنفة يف املعالجة العاطفية، واالنتباه، وصنع القرار، والسيطرة اإلدراكية
وقد لوحظت تشوهات مجهرية مامثلة يف أدمغة املدمنني عىل مواد مثل
الكحول والكوكايني. وباإلضافة إىل انخفاض تفعيل القرشة املخية أمام الجبهية،
أظهرت األبحاث التي أجريت أخريا عىل مدمني ألعاب الفيديو حدوث انخفاض
)38(. ويشري
كبري يف نشاط املناطق الدماغية املتعلقة بالعمليات البرصية والسمعية
الباحثون إىل أن اإلفراط يف مامرسة األلعاب قد ُيضعف استجابة املناطق البرصية
والسمعية يف الدماغ. رمبا كان األمر أن اإلفراط يف مامرسة األلعاب ضمن عامل ّ محفز
برصيا وسمعيا يقلل من استجابتنا للعامل الحقيقي املضجر نسبيا ألن أدمغتنا قد
ُعيد ضبطها عىل عامل ألعاب الفيديو الذي يبدو اآلن أنه القاعدة ال االستثناء.
أ
ّ تفكر يف الدورة املحتملة التالية من األحداث، والتي تنطوي عىل شخص ميارس
ألعاب الفيديو التفاعلية. إن معايشة تجربة الشاشة التفاعلية الرسيعة الوترية،
والحية، لهي تجربة مثرية، وبالتايل تنطوي عىل إفراز الدوبامني. ّ يثبط الدوبامني
القرشة املخية أمام الجبهية، وبالتايل يضع الدماغ يف عقلية يتجاوز فيها سيناريو
»هنا واآلن« ّ تدبر العواقب املستقبلية، ما يجعل األحاسيس الرسيعة الوترية
التي توفرها الشاشة أكرث جاذبية باملقارنة مع العامل الحقيقي الذي يتسم بالبطء
ّعب، ُيفرز املزيد من الدوبامني، مام يزيل تحسس

والرتابة. ومع مواصلة الالعب لل
مستقبالته. ويف هذه الحالة، تكون هناك حاجة إىل مزيد من الدوبامني إلحداث
املستوى نفسه من اإلثارة الذي ُ استشعر يف البداية، وبالتايل يتواصل السلوك الذي
أدى إىل زيادة الدوبامني بصورة تزيد أو تقل. ويف نحو 10 يف املائة من األفراد،
تكون هذه الدورة متطرفة مبا يكفي العتبارها سلوكا إدمانيا أو استحواذيا.
رمبا نعيش اآلن يف عرص غري مسبوق، يقوم فيه عدد متزايد من الناس
ّم، عقلية افرتاضية جديدة للتعامل مع العامل: والتي تتسم

بالتدريب عىل، وتعل
بالعدوان املنخفض الدرجة، وقرص مدى االنتباه، وهاجس متهور بـ »هنا واآلن«.
ولكن عىل الرغم من أن املامرسة املفرطة لأللعاب قد تزيد كثريا من مستويات

226
ّ تغير العقل
اإلثارة ومشاعر املكافأة، فهي تفعل ذلك ضمن السياق املعريف للعبة اإلنرتنت.
ومن املحتمل أن يتحول هذا السياق التصوري إىل الرسد الجديد الذي، يف الحاالت
القصوى، يحل محل حبكة القصة األقل بساطة، واألقل نجاحا، واألقل إمتاعا،

والتي متثل الحياة الحقيقية لالعب.
شكل )15 – 1( : دورة مستمرة من التحفيز، واالستثارة، واملكافأة يف اإلدمان،

والتي ميكنها تفسري قرسية مامرسة األلعاب. تتسم االستجابات النمطية يف مامرسة
األلعاب بأنها رسيعة ومثرية، ومن ثم تؤدي إىل مستوى أعىل من االستثارة وإفراز
الدوبامني. يكمن الدوبامني أيضا وراء تجارب املكافأة واإلدمان، وبالتايل يستمر
السلوك، ومع ذلك ُيفرز مزيد من الدوبامني. ومن شأن هذا الدوبامني املفرط أن
ّ يثبط القرشة املخية أمام الجبهية، مام يؤدي إىل الرتكيز عىل »هنا واآلن« وتجاهل
النتائج املستقبلية. إن مامرسة األلعاب تلبي بصورة جيدة جدا الدافع إىل مزيد
من التجربة الحسية املتمثلة يف »هنا واآلن«، وبالتايل تتواصل الدورة.

1 ّ - التحفيز املكثف للشاشة:
2 - استثارة عالية، مستويات عالية استجابة رسيعة
9 - جاذبية أكرب لبيئة الشاشة؟ من إفراز الدوبامني
8 - املوّجه: الشعور فوق املعرفة
7 - أفعال من دون عواقب
السمنة، مقامر 6 - عقلية الطفولة، الفصام،

5 - يسبب الدوبامني تثبيط وظيفة
القرشة املخية أمام الجبهية
3 - سلوك إدماين ساع للمكافأة
4 - إفراز الدوبامني

أهي دورة متواصلة؟

227
ّ الشيء املتعلق بتصفح اإلنرتنت

رّ »أردت شيئا يعب عن املتعة التي أستشعرها
عند استخدام اإلنرتنت، وكذلك الرتكيز عىل
املهارات، ونعم، عىل قدرة االحتامل الالزمة
الستخدامها بشكل جيد. كنت أيضا بحاجة إىل
يشء يستثري اإلحساس بالعشوائية والفوىض،
والخطر أيضا. كنت أريد شيئا سميك الرائحة،
)1(. كتبت هذه الذكريات

شبيها بالشبكة، بحريا«
أمينة املكتبة جان بويل، التي ّتدعي أنها أول من
استخدم مصطلح »ركوب األمواج« )surfing: أو
التصفح( يف العام ،1992 أثناء قيامها بـ »صياغة
استعارة« لعنوان أحد املقاالت. غري أن العديد
يجدون صعوبة يف تصديق هذا الرسد لألحداث.
من املرجح أكرث أن املصطلح ّ تطور من تقليب
القنوات التلفازية، كتعليق مثري للسخرية بشأن
مدى عبثية، وأمان، وخمول نقر أزرار جهاز
التحكم يف التلفاز من ُبعد، باملقارنة بالركوب
الشيء املتعلق
ّ بتصفح اإلنرتنت

»تعرض شبكة اإلنرتنت تيارا النهائيا
من الحقائق، غري أن األسئلة
العميقة واملثرية لالهتامم التزال أقل
وضوحا«

16

228
ّ تغير العقل
الفعيل لألمواج الحقيقية. وبدال من ذلك، فرمبا كان تقليب القنوات التلفازية
وتصفح اإلنرتنت يشبهان ركوب األمواج الفعيل من حيث إن أيا من املتصفحني
اإللكرتونيني ال ميتلك كثريا من االهتامم عىل اإلطالق مبا يجري يف املستويات األعمق،
غري أنه يتمتع مبجرد اجتياز الرحلة، مهام كان املكان الذي ستأخذهم إليه. عموما،
فإن لفظة »ركوب األمواج« ذاتها تستحرض اإلثارة، والصحة، والشباب، والرسعة التي
تشعر بها وأنت تتنقل من دون جهد عرب املواقع، ومقاطع األفالم، والحقائق، إنها
نشاط مقترص عىل ثقافة اإلنرتنت.
إنها املرة األوىل عىل اإلطالق التي متتلك فيها كتلة هائلة من البرشية وصوال
سهال إىل كمية ال محدودة عىل نحو فعال من املعلومات عرب محركات البحث
واملواقع اإللكرتونية: ميكننا أن نشاهد الفناء الخلفي ألي منزل بالعامل عرب موقع
مثل غوغل إيرث وإذا لزم األمر الحصول عىل تحديثات فورية عن األحداث العاملية
يف أثناء وقوعها. إن املفاهيم التقليدية للمكان والزمان مل تعد لها األهمية نفسها،
ومل تعد تفرض القيود نفسها عىل حياتنا، يف حني أن معظم الحكومات التي تحاول
مراقبة وسائل اإلعالم يف بلدها مل تعد متتلك سيطرة كاملة عىل ما ميكن ملواطنيها
الوصول إليه. ثم هناك الجانب املظلم لركوب األمواج: الفرص األقل إمتاعا بكثري،
عىل سبيل املثال، ملعرفة كيفية صنع عبوة ناسفة، وتحديد أنجع وسيلة لالنتحار، أو،
وهو أمر ال يصدق، العثور عىل أفضل طريقة لطهو اللحم البرشي. بوسع أي شخص
يعيش يف أي مكان أن يصل إىل مثل هذه املواقع.
هذا االقتناء املجاين، والعارض، والرسيع للمعلومات ينطبق حتى عىل التعليم
الرسمي، حيث تتوافر الدروس واملحارضات من جميع أنحاء العامل. ومنذ العام
2001 أتاح معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عىل سبيل املثال، األغلبية العظمى
من مقرراته الدراسية بشكل علني عىل اإلنرتنت، يف حني رفعت أكادميية خان أخريا
2700 محارضة مصغرة microtutorials عالية الجودة عىل شبكة اإلنرتنت .www
org.khanacademy، كام أن ألعاب الحاسوب التي طورها ماركوس دو سوتوي
Sautoy، وهو عامل الرياضيات يف جامعة أكسفورد، ّمتكن األطفال من التعامل مع
.
)2(
املشاكل املعقدة التي كان الناس يظنون يف السابق أنها بعيدة متاما عن مداركهم
بيد أن ركوب األمواج قد ينطوي عىل أكرث بكثري من التعلم الرسمي. »من

229
ّ الشيء املتعلق بتصفح اإلنرتنت
)3(. هكذا ّ ادعى الصحايف

دون غوغل وويكيبيديا فإنني غبي، وليس مجرد جاهل«
والباحث الزائر يف جامعة هارفارد، جون بوهانون Bohannon، الذي استطرد
متحدثا عن »تأثري غوغل«، وهي الظاهرة التي يصبح فيها اإلنرتنت بنكا شخصيا
للذاكرة، وبالتايل يحل محل الجهود الجامعية ألعضاء األرسة بوصفها املصدر الرئيس
ّر. وقد متادى بوهانون إىل حد القول إن الكثريين قد »جعلوا من اإلنرتنت
للتذك
أزواجهم وزوجاتهم«، وهو قلب حي للعبارة التي تصف كيف أن بعض الناس
يعتقدون أن غوغل سوف يتمم عمليات الذاكرة يف أدمغتهم بالطريقة التي رمبا كان
يفعلها رشيك الحياة يف املايض. هل بوهانون مجرد شخص غريب األطوار يتحدث
مببالغة مفرطة، أم إنه يشري بالفعل إىل اتجاه متنام؟
استندت مخاوف بوهانون بشأن تأثري غوغل إىل نتائج التجارب التي أجرتها
بيتيس سبارو Sparrow ومعاونوها، دانيال ويغرن Wegner من جامعة هارفارد
وجيني ليو Liu من جامعة ويسكونسن. كانت النتائج التي توصلوا إليها، والتي
توضح هذه الظاهرة وتأثريها يف األداء اإلدرايك، قد احتلت عناوين الصحف يف العام
.)4(
2012 بعد نرش ورقتهم البحثية يف مجلة ساينس Science ذات التأثري الكبري
ُطلب من املشاركني يف الدراسة قراءة عبارات بسيطة مثل »عني النعامة أكرب من
ّرهم لتلك
دماغها«. وبعد ذلك جرى اختبار مجموعة من املشاركني من حيث تذك
ُ العبارات عندما ظنوا أنها حفظت )أي إن تلك البيانات ستكون يف متناولهم الحقا،
كام هي الحال بالنسبة إىل اإلنرتنت(، يف حني جرى اختبار املجموعة األخرى عندما
ظن أفرادها أن البيانات قد ُمحيت. رمبا ليس من املستغرب أنهم وجدوا أن املشاركني
مل يستوعبوا الحقائق عىل ما يرام عندما ظنوا أن املعلومات ستكون سهلة التناول
الحقا، فكان أداؤهم أسوأ يف اختبار الذاكرة من املجموعة التي ظنت أن املعلومات مل
تعد متوافرة، وبالتايل اضطروا إىل االعتامد عىل مواردهم املخية الخاصة منذ البداية.
قبل أن نذهب إىل أبعد من ذلك ونتحدث عن تأثري غوغل يف الذاكرة، نحن
)5(. تنطوي الذاكرة

بحاجة إىل فهم األنواع املختلفة من الذاكرة التي قد تتأثر أو ال
غري التقريرية )أو الذاكرة الضمنية أو اإلجرائية؛ تستخدم هذه املصطلحات
ّرة التي متكنك من ركوب دراجة أو

للتبادل( عىل مجموعة من املهارات املتذك

ّر باالعتامد عىل غوغل الستجالب

ّم السباحة؛ ال يتأثر هذا النوع من التذك
تعل

230
ّ تغير العقل
الحقائق. يعرف النوع اآلخر من الذاكرة باسم الذاكرة التقريرية أو الرصيحة، حيث
ّر النشط إما عرضية أو داللية. الذكريات العرضية لها إحداثيات

تكون عملية التذك
زمكانية محددة، وبالتايل ميكن ربطها بالعديد من األحداث والوقائع األخرى التي
تتسم بكونها شخصية لكل حدث فردي مختلف. لذلك، عىل سبيل املثال، فعىل
الرغم من أن هجامت الحادي عرش من سبتمرب عىل مركز التجارة العاملي يف
نيويورك قد وقعت يف وقت ومكان معينني، فإن الذاكرة الفعلية بشأنها ستكون
مختلفة متاما بالنسبة إىل كل واحد منا، وهذا يتوقف عىل الظروف الخاصة بنا
والتاريخ الشخيص لكل منا، وكذلك عىل اإلطار السياقي الفردي الذي انطمرت فيه.
يف املقابل، تناولت تجارب سبارو يف معظمها الذاكرة الداللية: الحقائق املوضوعية
القامئة بذاتها، من النوع الذي سيجادل الكثريون بأنه مل تعد هناك حاجة إليه ألن
يسد مشابكنا العصبية، حيث ميكن الوصول إليها من الخارج. وعىل الرغم من أنك
الوحيد الذي يستطيع الوصول إىل ذكرياتك الشخصية، فالفكرة هي أن غوغل، أو
أي محرك بحث آخر، سيمكنه يف نهاية املطاف أن يعمل كمصدر خارجي لهذا
ّر الحقائق املوضوعية.
النوع من تذك
ابتكر سبارو الحقا اختبارا الستكشاف ما إذا كان هناك اختالف بني الذاكرة
املخصصة للمعلومات نفسها والذاكرة املتعلقة باملكان الذي توجد فيه هذه
ّر أسامء املجلدات، قام املشاركون بذلك مبعدالت

ُ املعلومات. عندما طلب منهم تذك

ّر املحتوى الواقعي عديم األهمية

نجاح أعىل مام فعلوا عندما طلب منهم تذك
نفسه. كشف التحليل أن الناس ال يتذكرون بالرضورة مكان وجود معلومات معينة
ّر ماهيتها؛ وعىل العكس من ذلك، فهم مييلون إىل تذكر مكان

عندما ميكنهم تذك

ّر املعلومات نفسها. لخص سبارو وزمالؤه

وجود املعلومات عندما ال يستطيعون تذك
األمر هكذا:
أدى ظهور شبكة اإلنرتنت، مع محركات البحث الحسابية املتطورة،
إىل جعل الوصول إىل املعلومات مبثل سهولة رفع املرء إصبعه، مل نعد
بحاجة إىل بذل جهود مكلفة للعثور عىل األشياء التي نريد. نستطيع
البحث يف غوغل عن زميل قديم، والعثور عىل مقاالت عىل اإلنرتنت، أو

.
)6(
البحث عن اسم املمثل الذي كان عىل طرف لساننا

231
ّ الشيء املتعلق بتصفح اإلنرتنت
ورسعان ما سترتك هذه االسرتاتيجية الجديدة بصامتها عىل الدماغ. درس غاري
سمول Small وزمالؤه يف جامعة كاليفورنيا 24 فردا يف منتصف العمر، كان من
بينهم اثنا عرش ميتلكون الحد األدىن من الخربة يف استخدام محركات البحث عىل
اإلنرتنت )مجموعة مبتديئ اإلنرتنت( واثنا عرش لديهم خربة أوسع بها )مجموعة
)7(. ّ تفحص العلامء أدمغة هؤالء املشاركني خالل مهمة جديدة

خرباء اإلنرتنت(
للبحث عىل اإلنرتنت وخالل مهمة ضابطة لقراءة نص عىل شاشة حاسوب ُهّيئت
ملحاكاة التخطيط النمطي لكتاب مطبوع. ويف حني أظهرت أدمغة املجموعتني أمناطا
مامثلة من خالل تفعيل مهمة قراءة النص، كانت أمناط التفعيل مختلفة بشكل
مالحظ خالل مهمة البحث عىل اإلنرتنت: أظهر املسح الدماغي ملجموعة مبتديئ
اإلنرتنت منط تفعيل مشابها ملثيله يف مهمة قراءة النص، يف حني أظهرت مجموعة
خرباء اإلنرتنت زيادات كبرية يف نشاط مناطق إضافية تتحكم يف عمليات صنع
القرار، والتعليل املعقد، والرؤية. ومع ذلك، وبشكل مثري للدهشة، فبعد خمسة
أيام فقط من قضاء ساعات قليلة عىل شبكة اإلنرتنت، أظهرت مجموعة املبتدئني
سابقا أمناطا من النشاط الدماغي متاثل ما أظهره نظراؤهم من الخرباء. ومرة أخرى،
ميكننا أن نرى قدرة التكيف القوية التي ميتلكها الدماغ البرشي. عىل أي حال، فليس
من الواضح ما إذا كان هذا التغرّي الفعال ظاهريا تجاه البيئة الجديدة لإلنرتنت
أمرا جيدا. أشارت األمناط الدماغية الجديدة إىل حدوث ّ تحول يف االسرتاتيجية من
ُ القراءة الفعلية ملا يعرض إىل البحث الرسيع، والذي يشري بدوره إىل أن مدى نجاح
البحث يف غوغل ال يعتمد عىل التمحيص التفصييل أو عىل عمق التفكري، بل يعتمد
بدال من ذلك عىل تقييامت رسيعة يف ظاهرها.
وبطبيعة الحال فإن استخدام القواميس، وجداول اللوغاريتامت، واملوسوعات
يتطلب بدوره أفعاال رسيعة من التقييم. وعىل أي حال، فخالفا لتأثري غوغل، هذه
املوارد التقليدية مل تشكل مطلقا تهديدا مامثال للذاكرة، غري أنها كانت دامئا عامال
مساعدا لذلك العدد الكبري من الحقائق املعروفة واملوجودة يف الدماغ بالفعل.
تكمن املشكلة املحتملة يف الكيفية التي يحتمل أن تؤدي بها زيادة االعتامد عىل
اإلنرتنت إىل تآكل الخط الفاصل بني الحقائق التي ميكننا أن نفرتض أن الجميع
تقريبا عىل علم بها، وتلك األنواع من الحقائق التي قد ال تكون من قبيل املعرفة

232
ّ تغير العقل
العامة، وبالتايل ستحتاج دامئا إىل البحث عنها. عىل سبيل املثال، إذا التقى اليوم
شخصان بالغان يف العامل الغريب املتقدم بعضهام مع بعض، فبوسعهام التسليم تقريبا
بأن كال منهام يعرف ما هي برشلونة وأين تقع، أو من هو نابليون أو شكسبري، من
دون الحاجة إىل البحث عن تلك املعلومة عىل هاتفه النقال. سيتمكنان من إجراء
محادثة مثرية لالهتامم عىل افرتاض أنهام يشرتكان يف عدد كاف من بعض الحقائق
األساسية، مثة إطار مفاهيمي مشرتك يوفر نقطة انطالق لتوليد األفكار. إن ما منتلكه
من القواسم املشرتكة مع اآلخرين يحدد بالفعل نطاق تفاعلنا ومحادثتنا بصورة
عامة، لكن دعونا نأخذ األمر إىل أقىص مداه: تخيل أن يصبح يف الناس باملستقبل
من االعتياد عىل الوصول الخارجي ألي شكل من أشكال املراجع لدرجة أنهم مل
يستوعبوا أي وقائع عىل اإلطالق، ناهيك عن وضعها ضمن سياق لتقدير أهميتها
وفهمها. سوف تتخلل أي مناقشة فرتات توقف طويلة يف أثناء بحث كل محاور
عن اسم أو عبارة عىل جهاز رقمي. وبطبيعة الحال، فإن بعض الناس يعرفون دامئا
أكرث من غريهم. مل تكن هناك من قبل فجوة واضحة بشأن ما ميكننا أن نفرتض أنه
معلوم للجميع وما يعترب غامضا وبالتايل من املقبول أن يجري االعرتاف بالجهل به.
لكن إذا مال التوازن يف نهاية املطاف بصورة أكرب إىل أحد االتجاهني فمن املحتمل
أن يتدىن مستوى املحادثة العادية التي تجري يف الوقت الحقيقي وجها لوجه
)والتي ّ تعرضت للخطر بالفعل بواسطة مواقع الشبكات االجتامعية( إىل أبسط
ُ التعامالت التي يفرتض فيها امتالك الحد األدىن من املعرفة العامة، أو أن تتباطأ إىل
حد تقرتب معه املحادثات التي تحدث خارج إطار اإلنرتنت، عن طريق الرسائل
النصية أو الربيد اإللكرتوين، إىل أن تصبح القاعدة ال االستثناء.
إن سهولة البحث عن يشء ما عىل أحد محركات البحث ال تعمل فقط بالفعل
عىل تحويل إسرتاتيجيات الذاكرة فحسب، بل وعمليات تفكرينا ذاتها. ومن الصعب
اآلن أن نعود بالذاكرة إىل أيام البيئة الغنية باألسئلة والفقرية يف األجوبة التي عاشها
الكثري منا كطالب، وهو عامل كان يجب علينا فيه أن نتصفح املوسوعات الثقيلة
واملرهقة أو التخطيط لرحلة تستغرق وقتا طويال إىل مكتبة للمراجع. مل يكن أي
يشء يأيت برسعة أو بسهولة: كان هناك كفاح شاق ومستمر للحصول عىل املعلومات
الدقيقة التي تحتاج إليها، وكان عليك أن تركز عىل ما هو رضوري حقا. وعند

233
ّ الشيء املتعلق بتصفح اإلنرتنت
محاولة البحث عن إجابة عن سؤال ما، سترشع رحلة بحثية ذات هدف واضح
متاما: ترتبط كل خطوة بشكل متتال يف مسار خطي يؤدي يف نهاية املطاف إىل
وجهة محددة ومختلفة. وكام رأينا، فهذه هي الكيفية التي ميكن أن تختلف بها
عملية للتفكري عن شعور فوري خام، من خالل الشعور برسد قصيص مبرور الوقت.
وهذه التجربة املتعلقة مبرور الزمن املوّجه نحو الهدف هي التي أرشت إىل أنها
متنح كل واحد منا قصة حياة فريدة وتخلع عىل األحداث واألشخاص املتضمنني
فيها معاين فريدة من نوعها. وكام وصفه يت إس إليوت Eliot ببالغة يف قصيدة ليتل
:Little Gidding غيدنغ
لن نكف عن االستكشاف
وستكو ّ ن غاية تقصينا كله
أن نصل إىل حيث بدأنا
)8(
وأن نتعرف عىل املكان للمرة األوىل
وهذا السطر األخري هو بيت القصيد: فاملكان األصيل هو اآلن يف الواقع مكان
مختلف. إن الجهود ذاتها التي نستثمرها يف رحلة االكتشاف، يف الوقت الذي ينقيض
يف دمج النقاط وإجراء اتصاالت عرب شبكات العصبونات، تخلع أهمية وداللة عىل
ما نتعلمه، لذلك نرى األشياء بطريقة جديدة. نحن اآلن يف خطر دخول السيناريو
العكيس، وهو عامل ميكن القول بأنه فقري يف األسئلة تتعرض فيه أدمغتنا ّ للتشبع
باإلجابات لكن يصعب فيه أال يتشتت انتباهنا ويغيب عن بالنا ما أردنا معرفته
يف البداية.
إن جيمس ثريبر Thurber، وهو كاتب، ورسام كاريكاتري، ومفكر أمرييك شهري
تويف يف العام ،1961 أي قبل أن يعني »ركوب األمواج« أي يشء عىل اإلطالق سوى
تسلق أسوار املياه املالحة التي تلوح يف األفق، قال ذات مرة: »من األفضل أن نسأل
)9(. إن تجربة ركوب األمواج التي ال نهاية

بعض األسئلة من أن نعرف كل اإلجابات«
لها يف بحر النهايئ من اإلجابات قد تتجاوز الهدف األصيل املتمثل يف صياغة سؤال
للعثور عىل إجابة محددة وقاطعة. يف املقابل، فإن الطريقة الجديدة التي تعمل
وفق مبدأ »ما يأيت بسهولة يذهب بسهولة« فيام يتعلق بالتعامل مع املعلومات
الواردة قد تكون لها تأثريات جديدة يف الدماغ البرشي ّ املتكيف باستمرار. ومن أجل

234
ّ تغير العقل
دراسة هذا االحتامل، نحن بحاجة إىل فك مغالق ما ميكن أن يحدث للعقل عندما
تغمره كميات هائلة من املحتوى. ال يتعلق األمر مبجرد كمية املواد املتاحة، بل
األهم من ذلك هو الرسعة وبالتايل السهولة التي ميكننا جميعا أن نتفاعل ونتعامل
معها بها.
لقد انتقلنا اآلن، بفضل غوغل ومحركات البحث األخرى، من صياغة األسئلة إىل
ّ التعرج والتاميل عرب األجوبة. تعرض شبكة اإلنرتنت تيارا النهائيا من الحقائق، لكن
األسئلة العميقة واملثرية لالهتامم التزال أقل وضوحا. انظر يف املثال املتعلق بدراسة
ّم
سبارو املذكورة أعاله: »عني النعامة أكرب من دماغها«. رمبا أنك مل ترشع أبدا يف تعل
الكثري عن النعام، لكن يف سياق البحث مبوقع غوغل، إذا كتبت »عينان« فستقفز
أمامك هذه املعلومة. لن تساعدك تلك املعلومة يف حد ذاتها عىل فهم كيفية عمل
العني، إذا كان هذا سؤالك األصيل حقا، لكنها ستشتت انتباهك، وتجعلك تتوقف
للحظة لتقول »واو«، ومن ثم يجري تخزينها بعيدا يف ذاكرتك باعتبارها معلومة
منفصلة ومعزولة ميكنك استدعاءها عندما تحتاج إىل موضوع للحديث وأنت يف
املقهى أو إىل جوار مربد املياه. ويف أحسن األحوال ستعمل عىل متزيق التسلسل
الخطي لالستكشاف مبعرفة حقائق عن العينني، ويف أسوأ األحوال ستصيبك باالرتباك
حول ما قد ميثل أهم القضايا املتعلقة بالعينني.
قد ال تتعلق املشكلة اآلن باالعتامد كثريا عىل مصدر خارجي للحقائق بل برتك
عقلية تجميع األجزاء والقطع املنفصلة من املعلومات تتفوق عىل العملية التي
كانت طبيعية سابقا، والتي تتمثل يف االستفادة من هذه الحقائق وتوصيل النقاط،
كام ميكن أن يحدث بشكل طبيعي ضمن إطار مفاهيمي داخيل. يف دراسة أجرتها
ماليندا ديجارليه Desjarlais يف جامعة بروك يف العام ،2013 جرى تكليف طالب
جامعيني ميتلكون مستويات عالية ومنخفضة من االنتباه املتواصل يف ّ تصفح اإلنرتنت
ملدة 20 دقيقة ملعرفة مزيد عن كيفية ّ تشكل األعاصري الحلزونية املدارية، وهو
)10(. وّجه
موضوع مل يكونوا يعرفون عنه سوى القليل يف البداية؛ وتال ذلك اختبار
الطالب ذوو املستويات املرتفعة من االنتباه املتواصل عىل نحو أكرث تواترا تعلمهم
بطريقة خطية، وذلك بالتبديل بني نتائج محركات البحث والروابط األوىل. ونادرا
ما اختار هؤالء املتعلمون االرتباطات التشعبية املعروضة عىل الروابط ذاتها، وكان

235
ّ الشيء املتعلق بتصفح اإلنرتنت
هؤالء الطالب األفضل أداء يف االختبار. أما املتعلمون ذوو املستويات املنخفضة من
االنتباه املتواصل فقد استفادوا عادة من فرصة التنقل الرسيع بني مصادر املعلومات.
يف حني أنهم بدلوا بني نتائج محركات البحث والروابط األوىل، فقد انخرط املتعلمون
منخفضو االنتباه يف استكشاف االرتباطات التشعبية املعروضة بتواتر أكرب بكثري مام
فعل الطالب مرتفعو االنتباه. وعىل أي حال، فعادة ما كانت املصادر ذات االرتباط
التشعبي غري ذات صلة باملوضوع املعني. لذلك، ولعله من غري املستغرب، كان أداء
الطالب ذوي مدى االنتباه القصري يف االختبار أسوأ من نظرائهم الذين متكنوا من
الرتكيز لفرتة أطول.
من املمكن أن تكون هذه االختالفات يف األداء أكرث وضوحا عندما ننظر إليها
عرب الفئات العمرية. استقىص ديفيد نيكوالس Nicholas، مدير رشكة CIBER
للبحوث، كيفية استخدام مختلف األجيال لإلنرتنت يف البحث عن املعلومات، ومدى
ثقتهم يف قدرات البحث التي ميتلكونها. جرت مقارنة جيل غوغل )للمولودين
بعد العام 1993(، والجيل Y( للمولودين بعد العام 1973 وقبل العام 1994(
والجيل X( للمولودين يف العام 1973 أو ما قبله( من حيث قدرتهم عىل التامس
املعلومات عىل اإلنرتنت. أنفقت األجيال األصغر سنا جزءا من الوقت الذي قضاه
الجيل األكرب سنا يف البحث عن إجابة كل من السؤالني البسيط واملعقد. عىل أي
حال، وباعرتافهم، فقد كانوا أقل ثقة يف اإلجابات التي عرثوا عليها، كام يتضح من
حقيقة أنهم تصفحوا عددا أقل من الصفحات، وزاروا عددا أقل من النطاقات،
وأجروا عددا أقل من عمليات البحث مقارنة باملجموعة األكرب سنا. كذلك، وعىل
نحو مؤثر، كانت اإلجابات التي أدلوا بها للمسائل البسيطة واملعقدة يف معظمها
نتاجا لعمليات القص واللصق. كذلك اتضح أن الجيل األصغر سنا ميتلك ذاكرة عاملة
أضعف، ويتسم بكفاءة أقل يف أداء املهامت املتعددة، عىل الرغم من انهامكهم فيها
بوترية أكرب. وقد خلص الباحثون إىل استنتاج مفاده أن »امليل إىل االندفاع، واالعتامد
عىل اإلجابات الرسيعة، وعىل أوىل النتائج التي تظهر عىل غوغل، جنبا إىل جنب مع
تزايد عدم الرغبة يف تناول الفروق الدقيقة أو الشكوك، أو عدم القدرة عىل تقييم
املعلومات، يرتك الشباب عالقني بصفة خاصة عىل سطح عرص »املعلومات«، وذلك

.
)11(
بالتضحية يف كثري من األحيان بالعمق مقابل االتساع«

236
ّ تغير العقل
ولهذه النتائج آثار عميقة يف املواطنني الرقميني، ويف قدرتهم عىل البحث عن
املعلومات عىل شبكة اإلنرتنت، وعىل نطاق أوسع عىل التعلم عموما ومن ثم النجاح
الشامل يف الحياة. ميكن ملن ميتلكون قدرا أكرب من الحقائق تحت ترصفهم الفوري
إنشاء بنى أكرث ثراء للواقع، ومن ثم امتالك منظور مستنري بسياق يتيح فهام أعمق
ومزيدا من الحكمة. وعىل الرغم من أن عدد الحقائق التي ُتستوعب ال يضمن
الحكمة تلقائيا، فإن الحقائق تشكل النقاط البالغة األهمية التي تربطها، وتفرسها،
وتضعها داخل مخططاتك الشخصية إلعطائها مغزى. لكن إذا مل يكن بوسعك سوى
أن تتذكر األماكن التي ميكنك فيها البحث عن اإلجابات بدال من اإلجابات ذاتها،
ّم حتى هذه النقاط، وبالتايل ال ميكن توصيلها بالنقاط األخرى

فلن يحدث تعل
لتشكيل منظور الفرد عن العامل.
هناك تجربة غري مسبوقة أخرى تقدمها محركات البحث، والتي ميكن أن تؤثر
)12(. متثل مشاهدة مقاطع

يف كيف وماذا نتعلم، وهي موقع يوتيوب (YouTube)
الفيديو عىل موقع يوتيوب أو املواقع املامثلة شكال من أشكال التعلم مبعناه األعم،
إذ إن مشاهدة مقطع للفيديو يتضمن معالجة مدخول قادم إىل دماغك من الشاشة.
وبعد كل يشء، ستحصل عىل كتلة صغرية من املعلومات؛ وستعرف اآلن شيئا مل تكن
تعرفه من قبل، حتى لو كان ذلك أن كلبا يركب الدراجات اليزال عىل قيد الحياة
وبصحة جيدة ويؤدي عروضه يف والية أوهايو. غري أن كثريا من الناس يشاهدون
مقاطع الفيديو عىل موقع يوتيوب من دون أي دافع واضح للحصول عىل أي
معلومات جديدة. تتمثل الجاذبية هنا يف أن يوتيوب يقدم معلومات برصية، وأفعاال
بدال من الكلامت املنطوقة. إن األفعال تتحدث بالفعل بصوت أعىل من الكلامت،
كام أن مشاهدة األفعال النادرة، أو املثرية، أو املضحكة ّ تثبتك يف هذه اللحظة، إذ
إن ما تراه هو ما تحصل عليه. يجب اإلقرار أيضا بأن يوتيوب يسمح بالتعليقات،
وكثريا ما تتم مشاركة الروابط بني األصدقاء، لذلك فمن املمكن أن تزدهر الشبكات
االجتامعية بدورها حول مقطع للفيديو، كام ميكن أن يحدث حول فيلم أو كتاب.
والفارق الكبري هنا هو أنه بسبب أن مدة مقطع الفيديو محدودة عادة بخمس
عرشة دقيقة أو نحوها، عىل عكس الفيلم أو الكتاب، فإن الفيديو عىل موقع يوتيوب
عادة ما ينطوي عىل قصة يحكيها، والتي هي أقرص وبالتايل أقل تعقيدا.

237
ّ الشيء املتعلق بتصفح اإلنرتنت
إن فعال مثل الكلب الذي يركب الدراجات أو أشخاص يؤدون رقصة هارمل شيك
)حيث ترقص مجموعات مختلفة من الناس عىل أنغام أغنية تحمل االسم نفسه(
يحتوي عىل قيمة اسمية خاصة به وحده؛ فال يحتاج إىل أن ّميثل أو أن يرمز إىل أي
ُ يشء ما مل يوضع ضمن إطار مفاهيمي تفصييل لقصة يكون فيها للسلوك ارتباطات
بأفعال سابقة، أو بخصائص محددة متنحه عالقة خاصة غري جوهرية للخصائص

املادية لهذا الحدث. ومن النادر جدا ملثل هذه الحبكات القصصية املفصلة أو
املعقدة أن تكتمل عىل موقع يوتيوب؛ عىل عكس التلفاز الذي هو أكرث انفتاحا

عىل مثل هذه القصص. ومع ذلك، ففي حني توجد بعض األدلة عىل إحالل تصفح
اإلنرتنت محل مشاهدة التلفاز التقليدي، فإن الوقت الذي ُي ىَقض يف مشاهدة
الربامج التي تبث عىل اإلنرتنت - والذي يبلغ يف املتوسط نحو 6.8 ساعة أسبوعيا
- يفوق بكثري معدل االنخفاض يف مقدار املشاهدة األسبوعية للتلفاز التقليدي،
)13(. ولعل األهم من ذلك أن الوقت اإلجاميل الذي ُي ىَقض

الذي هو 7 دقائق فقط
يف املشاهدة التي تتحكم فيها الشبكات )التلفاز باإلضافة إىل املواقع اإللكرتونية
للشبكات( قد ازداد بنحو 4 ساعات أسبوعيا.
يف الحياة الحقيقية، تكون لألفعال دامئا عواقب، والتي - كام نعلم جيدا -
يتعذر عكسها. وخالفا ملا يحدث يف ألعاب الفيديو، ال ميكن ألحد أن ُيعاد إىل
الحياة؛ لذلك فإن قتل شخص ما هو فعل خطري للغاية وذو مغزى. وعىل النقيض
من ذلك، وكام ناقشناه، فإن إسقاط يشء عىل األرض، ومن ثم اإلمساك به عىل
الفور هو أمر ال معنى له: فقد جرى َعكس الفعل متاما وعىل نحو فعال. عىل
أي حال، معظم أحداث الحياة تتكشـف ما بني هذين النقيـــــضني: فكـــثري مام
نقوم به يبـــدو بال معنى يف وقت حدوثه، غري أننا ندرك بعد التفكري أنه يستهل
سلسلة من التفاعالت املتعلقة بالسبب والنتيجة، والتي أدت إىل نتيجة معينة. حتى
إسقاط عملة معدنية والتقاطها قد يؤدي إىل نتيجة معينة، حتى لو ظن الناس الذي
يشاهدونك من اآلن فصاعدا أنك غريب األطوار قليال.
وبدال من ذلك، قد تؤدي األفعال ليس فقط إىل تأثري فوري ميكن التنبؤ به
بل إىل تأثري ينطوي عىل العديد من التداعيات غري املبارشة أيضا. من املؤكد أن
هذا التسلسل املعقد للسبب والنتيجة والعواقب غري املبارشة هو ما يرقى إىل

238
ّ تغير العقل
اعتباره قصة جيدة. وكلام زاد عدم القدرة عىل التنبؤ بتسلسل السبب والنتيجة
)لكنه كان مفهوما يف وقت الحق( مثلام يحدث يف أثناء حل غموض جرمية قتل
- كان الرسد أكرث تشويقا. وفوق ذلك كله، إذا كانت للشخصيات أيضا أهمية
جوهرية بحكم ما فعلوه يف املايض أو ببساطة بسبب ارتباطهم بالشخصيات
األخرى، فستكون القصة أفضل وأفضل: فهي مثل الحياة الحقيقية متاما. وعىل
النقيض من ذلك، فإن الشخصية يف مقطع اليوتيوب ال متتلك عادة أي خلفية
درامية معقدة وليست لديها عالقات شخصية، كام أن أفعالها ليست لها عواقب
طويلة املدى؛ فهي متجمدة يف نافذة صغرية من الزمن. إن ما تشاهده ال يعني
شيئا يف الحقيقة.
هل ميكن أن ينطبق هذا البيان أيضا عىل تجميد إطار لوحة ما؟ ال، ألن اللوحة
ُتظهر لك العامل عرب عني ذاتية للغاية وخصوصية للفنان، ورمبا ترّوج ألفكار ووجهات
نظر جديدة. وعىل كل حال، فإن تناظرا أفضل قد يتمثل يف صورة أو مجموعة من
الصور ألشخاص وأشياء وأحداث ليس بينك وبينها أي صلة. وبالنظر إىل املاليني
من مقاطع الفيديو التي يستضيفها موقع يوتيوب، فإن التنافس بينها عىل جذب
انتباهك والسهولة والرسعة التي ميكن بها تداولها قد تشري إىل أن الكمية تتفوق
عىل الجودة، وأن اإليجاز يرتبط مبدى انتباه أقرص، وبالتايل مستوى أقل من املشاركة
الشخصية أو البصرية.
لذلك قد يبدو محريا، أو حزينا، أو مثريا للقلق، أو مفهوما متاما بالنسبة إىل
البعض أن يرغب الناس يف قضاء وقتهم بشكل سلبي يف مشاهدة يشء ليس
بالرضورة حتى قصة لكنه يجعلك تبتسم، أو تلهث، أو تهز رأسك، أو تبيك، ولو
للحظة فحسب. ولعل هذا هو النشاط األدىن من بني جميع األنشطة املرتبطة
بالتقنيات الرقمية: لبضع لحظات، يحدث استبدال العامل االفرتايض باآلخر الخارجي،
ليس ألي غرض، ومن دون الحاجة إىل استجابة، ومن دون تحقيق أي مغزى بخالف
جذب انتباههم السلبي لفرتة وجيزة. وبعد ذلك، بطبيعة الحال، ميكنك أن ُتعيد
مشاهدته مرارا وتكرارا.
رمبا تتمثل الجاذبية هنا يف أخذ اسرتاحة من واقع الحياة- أي حقيقة عدم
الحاجة إىل بذل أي جهد، أو تقديم أي مدخالت، بل وال حتى مجرد التفكري. وإذا

239
ّ الشيء املتعلق بتصفح اإلنرتنت
ّم بحيث
كان األمر كذلك فقد ابتعدنا كثريا عن كل من ربط الحقائق بالذاكرة والتعل
ميكننا ترجمة املعلومات إىل معرفة.
ما وجدته رائعا ]حول سؤال الناس عن متى بذلوا قصارى جهدهم
يف التفكري[ هو أن شخصا واحدا فقط ذكر أن ذلك حدث يف املكتب،
وبالتحديد يف الصباح الباكر... وبعبارة أخرى، عندما مل يكن املبنى
مستخدما كمكتب عىل اإلطالق. ومن املثري لالهتامم أن أحدا مل يذكر
التكنولوجيا الرقمية... فالتكنولوجيا، عىل ما يبدو، أداة جيدة لنرش
.
)14(
وتطوير األفكار، غري أنها ال تستخدم كثريا يف تفريخها
ومرة أخرى، نجد أن عامل املستقبليات ريتشارد واطسون Watson هو املتشائم.
لكن مع قضاء مجتمعنا فرتات متزايدة من الوقت يف ركوب األمواج، أو السباحة،
أو الغرق يف مواقع مثل غوغل أو يوتيوب، فرمبا كان واطسون محقا. إن اليشء
السحري حول ركوب األمواج قد ال يكون قيمة املحتوى الالنهايئ، والرسعة غري
املسبوقة، وسهولة الوصول إىل املعلومات، رمبا كانت الجاذبية الحقيقية تكمن يف
أن فرصة خوض تجربة ما ميكنها أن تصري هدفا يف حد ذاتها، وأنه يستحيل الحصول
عليها يف أي مكان آخر. ميكن لهذه التجربة عىل اإلنرتنت أن تتفوق بسهولة عىل
املنطق الطويل املدى لركوب األمواج يف املقام األول: أن تعرث عىل يشء ما. وإذا
كان األمر كذلك، فنحن عىل وشك أن نشهد تغريا جذريا يف الطريقة التي ّ يفكر بها
الجيل املقبل.

241
الشاشة هي الرسالة

يف العام ،1964 جادل مارشال ماكلوهان
McLuhan، يف كتابه األسطوري املعنون »فهم
وسائل اإلعالم«، بأن التكنولوجيا ليست قناة
محايدة لكنها يف حد ذاتها تؤثر يف العمليات
)1(. واستطرد
الذهنية: »الوسيلة هي الرسالة«
ماكلوهان إلقامة التمييز بني وسائل اإلعالم
فصنفها إىل: »ساخنة ]غري محفزة للحواس[«
و»باردة ]محفزة للحواس[«. تقوم وسائل اإلعالم
»الساخنة« بكل املجهود نيابة عنك؛ فأمام
التلفاز، أو اإلذاعة، أو حتى صورة فوتوغرافية
بسيطة، أنت مجرد متلق سلبي. ويف املقابل،
فإن وسائل اإلعالم »الباردة« مثل الرسوم
املتحركة أو الهاتف، تتطلب نوعا من مشاركتك
يف االستجابة ملا تعرضه هذه الوسائل بأكرث من
الحد األدىن. ومن املثري لالهتامم أنه ميكن النظر
إىل التجارب التي تجري عرب اإلنرتنت باعتبارها
الشاشة هي الرسالة

»توفر الكتب والشاشات أنواعا
مختلفة للغاية من الخربات، وبالتايل
تستحرض أنواعا مختلفة من األداء
واالستجابات واألولويات«
17

242
ّ تغير العقل
ُ »ساخنة«، ألن ما ي َعرض عىل الشاشة من مادة غريبة ومذهلة عىل نحو متزايد ال
يرتك شيئا للخيال، وُتعد كذلك »باردة« أيضا حيث إن جاذبيتها الضخمة تأيت من
التجربة التفاعلية املبنية عىل املشاركة التي تقدمها. إن وسط التقنيات الرقمية
تحديدا، أي الشاشة نفسها وما يكمن وراءها، قد يوّجه اآلن عمليات تفكرينا يف
اتجاه غري مسبوق. إن الفرق املادي بني الشاشة والكتاب، وتوافر النص التشعبي
hypertext، والفرصة ألداء مهام متعددة أو االنخراط يف أنظمة لتدريب العقل لها
جميعها تأثري محتمل غري مسبوق يف عملياتنا الذهنية.
إن الخاصية املادية األوىل واألكرث وضوحا للشاشة هي أن النص ييضء عىل
سطح صلب بدال من أن يكون مطبوعا عىل صفحة هشة رقيقة. يف العام ،2001
جادل كل من أبيغيل سيلني Sellen وريتشارد هاربر Harper يف كتابهام املعنون
»خرافة املكتب الالورقي« بأن الورق التقليدي العتيق الطراز سيستمر يف مامرسة
)2(. كان األساس املنطقي ألسبابهام هو املفهوم الرائع

دور مهم يف الحياة املكتبية
حول إمكانيات االستخدام affordances، وهي الفكرة القائلة بأن الخواص املادية
ليشء ّ »متكن« أو »تسمح« بأنشطة معينة. متثل تعليلهام يف أن الورق، الذي ميكن
أن يكون رقيقا، وخفيفا، ومساميا، ّميكن من تنفيذ بعض األنشطة مثل اإلمساك،
والحمل، والطي، والكتابة، وهلم جرا. وبالتايل ستكون إمكانيات استخدام الحواسيب
املحمولة والهواتف النقالة مختلفة للغاية.
ومن جانبها، رشعت آن مانغني Mangen من جامعة أكرشوس للعلوم التطبيقية
يف أوسلو يف استكشاف أهمية إمكانية استخدام القيام بالفعل بلمس الورقة من
)3(. وقد توصلت

خالل مقارنة أداء قراء الكتب الورقية مبن يقرأون عىل الشاشة
إىل نتيجة مفادها أن القراءة اإللكرتونية reading-e أسفرت عن فهم أدىن نتيجة
للقيود املادية للنص التي ُتجرب القراء عىل التمرير صعودا وهبوطا، وبالتايل تشويش
)4(. وهذا عامل مهم، ألن وجود متثيل مكاين

قراءتهم نتيجة لعدم االستقرار املكاين
ذهني جيد للتصميم املادي للنص يؤدي إىل فهم املادة املقروءة بشكل أفضل.
ويكون من يفهمون جيدا، مقارنة مع أولئك الذين يفهمون عىل نحو رديء، أفضل
ّر وتغيري الرتتيب املكاين للمعلومات املتضمنة يف النص، وبالتايل فقد
بكثري يف تذك

.
)5(
تكون هناك صلة بني الشكل املادي ملا تقرأ ومدى فهمك له

243
الشاشة هي الرسالة
مثة اعتبار آخر متعلق بالقراءة من الشاشة، وهو االحتامل األكرب إلجهاد
العينني. إن االختالفات بني الصفحة املطبوعة والشاشة لها عواقب مهمة عىل
الهندسة البرشية لإلبصار ergonomics visual. تعتمد العمليات اإلدراكية البرصية
- املكانية للقراءة عىل وضوح النص، والذي يعتمد بدوره عىل اكتشاف الحروف
والتعرف عىل الكلامت، وعىل مصدر الضوء، واإلنارة املحيطة، وحجم الحروف،
وزمن العرض، واملباعدة بني السطور، وهلم جرا. تؤثر كل هذه العمليات يف أداء
القراءة، واإلجهاد البرصي، ووقت البحث. وحتى بني األنواع املختلفة من وسائل

.
)6(
اإلعالم اإللكرتونية، تؤدي اإلضاءة دورا فارقا
هدفت أبحاث هانهو جيونغ Jeong، من جامعة تشونغ شني يف سيول، إىل
تقييم قابلية استخدام الكتب اإللكرتونية واملطبوعة من حيث تلبيتها معايري
موضوعية مثل إرهاق العينني، وكذلك إدراك وفهم املادة املقروءة بالنسبة إىل طالب
)7(. أظهرت النتائج أن »تأثري الكتاب« يؤثر

السنة السادسة من املدارس الحكومية
بدرجة كبرية يف درجات االختبار: فباملقارنة مع قراءة الكتب اإللكرتونية، أسفرت
قراءة الكتب املطبوعة عن فهم أفضل للامدة املقروءة. وعالوة عىل ذلك، فقد
عاىن الطالب إرهاق العينني بعد قراءة الكتب اإللكرتونية أكرث مام فعلوا بعد قراءة
تلك املطبوعة، وعىل رغم أنهم كانوا »راضني« عن الكتاب اإللكرتوين، فإنهم ّفضلوا
الكتب املطبوعة يف الواقع. أصبح معظمهم تعبا من القراءة عىل الشاشة. ويف
املقابل، فقد يكون لهذا التعب تأثري سلبي يف كل من فهم املادة املقروءة وإدراك
الكتب اإللكرتونية: أظهر مزيد من التحليل الستجابات املستخدمني أن العديد من
مالحظاتهم الناقدة تركزت عىل حجم أو وضوح الشاشة أو النص، وليس عىل الكتاب
اإللكرتوين نفسه.
أما السمة املميزة الثانية للتكنولوجيا الرقمية فهي اإلغراء والفرص التي تتيحها
ألداء مهام متعددة. ال يشك نيكوالس كار Carr، يف كتابه املعنون »األفكار السطحية«،
يف اآلثار الضارة املحتملة: »ال يستحوذ اإلنرتنت عىل انتباهنا إال لتشتيته. نحن نركز
بشكل مكثف عىل األداة نفسها، عىل الشاشة الوامضة، لكن انتباهنا يتشتت بفعل
)8(. يتحدد
توصيل تلك األداة الرسائل واملحفزات املتنافسة بشكل رسيع ومتالحق«
تعدد املهام يف وسائل اإلعالم عمليا بفعل السيناريوهات املعتادة متاما واملزعجة

244
ّ تغير العقل
للغاية، مثل التحول من التحقق من رسائل الربيد اإللكرتوين إىل إجراء محادثات
عرب الرسائل الفورية مع شخص ما، وكتابة الرسائل النصية أثناء مشاهدة التلفاز، أو
التنقل من موقع إلكرتوين إىل آخر. ويف استطالع شمل ألفي *** ترتاوح أعامرهم
بني الثامنة والثامنة عرشة، بلغ معدل الوقت الذي قضوه يف تعدد املهام بني أكرث
من أداة تكنولوجية يف العام 1999 نحو 16 يف املائة، لكنه تضاعف تقريبا إىل
)9(. ويف استطالع أجري عىل طالب الجامعات

29 يف املائة بعد مرور عرش سنوات
األمريكية، ذكر 38 يف املائة منهم أنهم مل يتمكنوا من االستمرار يف االستذكار ألكرث
من عرش دقائق من دون فحص الحاسوب املحمول، أو الهاتف الذيك أو الحاسوب

.
)10(
اللوحي، أو القارئ اإللكرتوين الخاص بهم
وباعتبار أن تنفيذ مهام متعددة عىل األجهزة اإللكرتونية، بحكم التعريف،
ّز كثري من األبحاث عىل ّكم املعلومات

يشتت االنتباه بني املصادر املتعددة، فقد رك
التي ميكن االحتفاظ بها، ومدى كفاءتها، عندما يقوم األفراد مبهام متعددة بني
األجهزة املختلفة. ّصنفت إحدى الدراسات الطالب من خالل سلسلة مؤلفة من
ثالثة اختبارات. ُق ِّسم املشاركون إىل مجموعتني: من ينخرطون بانتظام يف تنفيذ
مهام متعددة عرب األجهزة املختلفة بشكل متكرر، وأولئك الذين ال يفعلون ذلك.
تضمنت االختبارات الثالثة املتضمنة يف الدراسة نظر املشاركني إىل عدد من األشكال
واألرقام، أو الحروف، لكن املهمة املطلوبة متثلت يف أن يتذكروا بعضا فقط من
الصور التي تظهر عىل الشاشة وتجاهل األخرى.
يف جميع االختبارات الثالثة، بدا أن من يفرطون يف تنفيذ املهام املتعددة غري
قادرين عىل تجاهل األشكال التي ُطلب منهم تجاهلها، وغري قادرين عىل استبعاد
ما مل يكن مطلوبا يف هذه املهمة تحديدا. ويف جميع الحاالت، فاق أداء من ينفذون
قليال من املهام املتعددة نظراءهم ممن يفرطون يف تنفيذ املهام املتعددة. كان
الباحثون قد رشحوا لهم يف البداية فوائد املهام املتعددة املسندة إليهم، لكن إيال
أوفري Ophir، وهو املؤلف الرئييس للدراسة والباحث يف مخترب ستانفورد للتواصل
بني البرش والوسائط املتعددة التفاعلية، خلص إىل ما ييل: »ظللنا نبحث عام هم
أفضل فيه ومل نجده«. وقد ّمتثل تفسري أوفري يف أن »من يفرطون يف تنفيذ املهام
املتعددة يستقون عىل الدوام املعلومات من جميع املعلومات املتاحة أمامهم.

245
الشاشة هي الرسالة
)11(. وقد أسهب أنتوين واغرن

فهم ال يستطيعون إبقاء األمور منفصلة يف عقولهم«
Wagner Wagner، وهو باحث نفيس، يف وصف هذه الفكرة عىل نحو أعمق:
»عندما يكون ]من يفرطون يف تنفيذ املهام املتعددة[ يف مواقف تكون فيها مصادر
متعددة للمعلومات واردة من العامل الخارجي أو ناشئة من الذاكرة، يكونون غري
قادرين عىل استبعاد ما ال صلة له بهدفهم الحايل. وتعني عدم القدرة عىل االستبعاد

.
)12(
أن أداءهم يتباطأ بفعل تلك املعلومات غري ذات الصلة«
كذلك ُذِكر تعدد املهام بوصفه سببا لكون الوقت املنقيض يف قراءة كتاب درايس
)13(. وتبني البحوث أيضا أن

إلكرتوين أطول مام يحدث عند قراءة الكتاب املطبوع

.)14(
طلبة الجامعة ينفذون مهام متعددة فيام يقرب من 42 يف املائة من وقت الصف
وجدت دراسة تجريبية حول تنفيذ املهام املتعددة وفهم املحارضات أن الفهم قد
ُلف الطالب مبهام البحث البسيطة يف مواقع غوغل، أو

يترضر بشكل كبري عندما ك

)15(. وعموما،
يوتيوب، أو الفيسبوك والتي شغلت 33 يف املائة فقط من وقت الصف
فقد أظهر الطالب الذين قضوا ثلث املحارضة يف تنفيذ املهام املتعددة انخفاضا بلغ
11 يف املائة يف اختبار الفهم بعد املحارضة. مثة إجابة بسيطة لهذه الظروف املحزنة
عىل ما يبدو، وهي أن من يرغب من الطالب يف التعلم فسيفعل ذلك، وسينرصف
انتباه من يصابون بامللل ونقص الدوافع خالل املحارضات. وعىل أي حال، فقد اتخذ
الباحثون خطوة إضافية، فوجدوا أنه بالنسبة إىل الطالب الذين مل يشغلوا أنفسهم
باملهام املتعددة، فحتى رؤية الطالب اآلخرين املستخدمني للمهام املتعددة يف أثناء
املحارضة كان لها تأثري سلبي كبري يف فهمهم. ّ تعرض الطالب الذين رأوا مبارشة
الطالب املستخدم للمهام املتعددة وهو يتصفح الفيسبوك، أو غوغل، أو يوتيوب
النخفاض أدائهم بنسبة 17 يف املائة يف اختبار الفهم التايل، مام يدل عىل أن التأثري
ّ املشتت لالنتباه لتكنولوجيا الحواسيب الشخصية يف الفصول الدراسية مل يؤثر فقط
يف الطالب الذين يشعرون بامللل ولكن أيضا يف الطالب أصحاب العزمية.
ولكن خارج الفصل الدرايس، هل تؤثر املهام املتعددة يف أثناء فرتات االستذكار
بدورها يف األداء األكادميي؟ راقب الباحثون طالب املدارس املتوسطة، والثانوية،
والجامعات يف أثناء انهامكهم يف تنفيذ مهام أكادميية يف منازلهم ملدة خمس عرشة
)16(. وقد أخذوا يف اعتبارهم وجود التقنيات األخرى، والنوافذ املفتوحة
دقيقة فقط

246
ّ تغير العقل
عىل حواسيبهم يف بيئة التعلم قبل االستذكار، قبل إجراء تقييم دقيقة بدقيقة
لسلوكهم يف أثناء تنفيذ املهمة وخالل استخدام التكنولوجيا بعيدا عن املهمة. ومن
املثري للدهشة أن متوسط الوقت الذي قضاه الطالب يف أداء املهمة قبل ّ التحول
عنها كان أقل من ست دقائق، والذي كان راجعا يف معظم األحيان إىل وسائل
التشتيت التكنولوجية )مبا يف ذلك وسائل اإلعالم االجتامعية والرسائل النصية(، كام
ذكروا تفضيلهم ّ للتنقل بني املهام. مل يؤثر اتخاذ موقف إيجايب تجاه التكنولوجيا يف
ّ املهمة خالل االستذكار؛ وعىل أي حال، فقد كان لدى من فضلوا ّ التنقل بني املهام
عدد أكرب من التقنيات ّ املشتتة لالنتباه، وكانوا أكرث عرضة من غريهم للخروج من
املهمة. وليس من املستغرب يف الحقيقة أن يكون الرتكيز هو العامل الرئييس، وأن
تنفيذ املهام املتعددة قد يأيت بنتائج عكسية.
أصبح تبادل الرسائل الفورية واحدا من أكرث أشكال االتصاالت الحاسوبية شعبية
بني طالب الجامعات، من خالل برامج مثل سكايب ودردشة الفيسبوك. ومل يكن
من املستغرب يف استطالع شمل عينة كبرية من طالب الجامعات، والذي أجري عرب
اإلنرتنت، أن ذكر أكرث من نصفهم أن تبادل الرسائل الفورية يف أثناء االستذكار كان
)17(. وباملثل، فقد وجدت دراستان أن هناك عالقة

له تأثري ضار عىل أدائهم األكادميي

)18(. وقد
عكسية بني كم الوقت املنقيض عىل الفيسبوك واملعدل الرتاكمي للدرجات
ذكر مستخدمو الفيسبوك أيضا أنهم يقضون ساعات أقل يف كل أسبوع يف االستذكار

.
)19(
باملقارنة مع غري املستخدمني للفيسبوك
ويف حني قد يكون الطالب واعني بالتأثري الضار لتنفيذ املهام املتعددة، فقد
رشع استقصاء أكرث رسمية يف قياس مدى الجودة املحتملة ألداء الطالب يف اختبار
ما عند القيام مبهام متعددة أثناء االستذكار. ويف إحدى الدراسات، كان من املتوقع
من الطالب املنهمكني يف تبادل الرسائل الفورية أثناء قراءة نص عن علم النفس
عىل اإلنرتنت أن يستغرقوا وقتا أطول يف قراءة النص، وأن يكون أداؤهم سيئا يف
)20(. ُق ِّسم املشاركون عشوائيا إىل واحد من بني ثالثة اختيارات: تبادل
اختبار الفهم
الرسائل الفورية قبل القراءة، وتبادل الرسائل الفورية أثناء القراءة، أو عدم تبادل أي
رسائل فورية. استغرق الطالب فرتة أطول بكثري يف قراءة النص عندما كانوا يتبادلون
الرسائل الفورية أثناء القراءة، من دون احتساب الوقت الفعيل املستغرق يف بعث

247
الشاشة هي الرسالة
ّ الرسالة. حذ ُ ر الباحثون من أن الطالب قد يشعرون بأنهم ينجزون مزيدا يف فرتة
.
)21(
أقرص من الوقت يف أثناء تنفيذ املهام املتعددة، والواضح أن األمر ليس كذلك
وباختصار، عىل رغم أن القدرة عىل إنجاز العديد من األمور يف وقت واحد قد
تبدو شيئا رائعا ملواكبة رسعة الحياة يف القرن الحادي والعرشين، فإن الثمن قد
يكون باهظا. تتزايد األدلة بشأن اآلثار السلبية ملحاولة معالجة تيارات مختلفة من
املعلومات يف وقت واحد، فتشري النتائج املتوافرة حتى اآلن إىل أن تعدد املهام يؤدي
ّم، وكذلك زيادة األخطاء

إىل زيادة الوقت الالزم لتحقيق املستوى نفسه من التعل
أثناء معالجة املعلومات، مقارنة مبن يقومون مبعالجة املعلومات نفسها بالتعاقب
أو بشكل متسلسل.
وتتمثل السمة األساسية الثالثة للشاشة يف أن الكتاب املطبوع ال ميكنه أبدا
أن يعرض نصا تشعبيا. وعىل رغم الفروق الفردية بني القراء، مثل سعة الذاكرة
العاملة واملعرفة السابقة، والتي تؤدي جميعها دورا يف األداء النهايئ للقراءة، فمن
املمكن لزيادة متطلبات النص التشعبي عىل عملية صنع القرار واملعالجة البرصية
)22(. فالنص التشعبي، يف نهاية املطاف، وهو

أن يكون لها تأثري ضار يف كفاءة الطالب
انحراف عن مسار الفكر الخطي، قد يرصف انتباهك عن الفكرة أو ال يرصفه، لكنك
لن تكتشف ذلك إال عندما يتشتت انتباهك بالفعل. ميكن القول إن التفاف النص
التشعبي الذي ميكن أن يؤدي إىل مزيد من التعرجات بعيدا عن الرحلة الفكرية
األولية هو أقرب من كونه إلهاء عن مسار الفكر الخطي من الحاشية التقليدية،
والتي تتسم بكونها محدودة وال تؤدي إىل ما هو أبعد منها. وعالوة عىل ذلك، فإن
ارتباط النص التشعبي ليس ارتباطا صنعته بنفسك، كام أنه ليس بالرضورة مهام
يف املسار الفريد لتعليلك املنطقي واإلطار املفاهيمي الذي تبلغه يف نهاية املطاف.
وبالتايل فهو لن يساعدك بالرضورة عىل القراءة بوترية تسمح لك بفهم واستيعاب
ما تقرأه.
ميثل هذا املفهوم حول القراءة بوتريتك الخاصة بك جزءا مهام ملا يعرف مبا وراء
املعرفة metacognition، أو القدرة عىل مراقبة أدائك املعريف الخاص بك والوعي
به. يتفق ما وراء املعرفة ويتقارب مع الفهم الجيد للامدة املقروءة. قارن كل
من راكفيت أكرمان Ackerman وموريس غولدسميث Goldsmith، من معهد

248
ّ تغير العقل
التكنيون اإلرسائييل للتكنولوجيا وجامعة حيفا، أداء القراءة لكل من التعلم عرب
الشاشة والتعلم عرب النصوص املطبوعة ورقيا، فوجدا أن األداء ال يختلف بدرجة
كبرية يف ظل ظروف االختبار الثابتة. وعىل أي حال، فعندما جرى تنظيم وقت
االستذكار ذاتيا، جاءت نتيجة القراءة من الشاشة أسوأ من القراءة من الورق.
وترافق األداء املتدين ألولئك الذين يقرأون من الشاشة مع قدر كبري من الثقة
ّموا من الورق

املفرطة فيام يتعلق باألداء املتوقع، يف حني أظهر املشاركون الذين تعل
مراقبة أدق ألدائهم. توصل أكرمان وغولدسميث إىل استنتاج مفاده أن الناس يبدو
أنهم يدركون الوسيلة املطبوعة باعتبارها أكرث مالءمة للتعلم النافع، يف حني أن
الوسائط اإللكرتونية، أي جهاز الحاسوب كمثال يف هذه الحالة، هي أكرث مالءمة
للقراءة الرسيعة وغري املتعمقة للنصوص القصرية مثل األخبار، ورسائل الربيد
اإللكرتوين، وتعليقات املنتديات.. واإلدراك الشائع ملا ُيعرض عىل الشاشة باعتباره
مصدرا للمعلومات املخصصة لبث الرسائل السطحية قد يقلل من حشد املوارد

.
)23(
املعرفية الرضورية للتنظيم الذايت الفعال
يقودنا هذا إىل املسألة الرابعة، وهي األكرث أهمية عىل اإلطالق: أي سبب انتقائك
لكتاب أو ا ّ لتحول منه إىل كتاب إلكرتوين يف املقام األول. كشفت األبحاث التي
أجريت أخريا، والتي انطوت عىل تحليل سلوك القراءة يف البيئة الرقمية عىل مدى
السنوات العرش املاضية أن االنخفاض يف االنتباه املستمر أصبح مييز وبشكل متزايد
)24(. ومع الكم املتزايد من الوقت الذي

مهارات القراءة والكتابة وعاداتها لدى الناس
ُيقىض يف قراءة الوثائق اإللكرتونية، يبزغ شكل سلويك للقراءة من الشاشة يتميز
بقضاء مزيد من الوقت يف التصفح والقراءة الرسيعة، واكتشاف الكلامت الرئيسية،
والقراءة ملرة واحدة، والقراءة غري الخطية، والقراءة بصورة أكرث انتقائية، يف حني يقل
ّزة. قد تستغرق القراءة من

ُ الوقت الذي يقىض يف القراءة املتعمقة والقراءة املرك
الشاشة وقتا أطول من قراءة كتاب مطبوع )بسبب احتامل وجود مشتتات لالنتباه،
مثل روابط النصوص التشعبية( أو أنها قد تشجع عىل إسرتاتيجية أكرث توجها نحو
التصفح. فأي من االثنني، الكتاب أم الشاشة، قد يكون تنفيذه أكرث صعوبة؟
يف جامعة غوتنربغ، قاس فريق فرانشيسكا كريتزشمر Kretzschmar( عن
طريق تخطيط كهربية الدماغ EEG )املوجات الدماغية و ّ تتبع العني لتقييم الجهد

249
الشاشة هي الرسالة
)25(. كررت النتائج ما أظهرته

املعريف املكتنف يف القراءة يف كل نوع من الوسائط
النتائج السابقة من حيث إن املشاركني اختاروا بأغلبية ساحقة الورق املطبوع أكرث
من اإللكرتوين أو الحاسوب اللوحي كوسيلة القراءة املفضلة. وعىل أي حال، فلم
يفرق الجهد املعريف الفعيل بني الوسائل، مام يشري إىل أنه عىل رغم أن القراء ّصنفوا
األجهزة الرقمية باعتبار أنها تتطلب مزيدا من الجهد، فلم يكن باإلمكان تفريق
النتائج املوضوعية من حيث الفهم أو اإلدراك. قد يفرس هذا التصور الشخيص سبب
عدم انتشار الكتب اإللكرتونية عىل نطاق واسع بني طالب الجامعات. ُتقرأ الكتب
.
الدراسية ألسباب مختلفة وبإسرتاتيجيات مختلفة عن الروايات مثال )26(
من املؤكد أن املهارات التي تتجاوز الفهم واإلدراك قد تزدهر بسهولة أكرب نتيجة
لقراءة الكتب الدراسية املطبوعة. وعىل سبيل املثال، فقد ّ تتبعت دراسة أجريت
يف جامعة شيفيلد الطالب وهم يتعرفون عىل حرشات قمل الخشب woodlice،
حيث استخدمت مجموعة منهم دليال تقليديا مطبوعا للتعرف عىل تلك الحرشات،
)27(. وقد
ّ فيام استخدمت مجموعة أخرى الدليل نفسه محمال عىل أحد الحواسيب
اتضح أن املجموعة التي استخدمت الكتب املدرسية التقليدية كانت أكرث فضوال
وتشكيكا يف املعلومات. ولعل الكتاب يوفر إحساسا بالدميومة وبنية مبارشة ّمتكن
الطالب من الشعور بأنهم أكرث أمنا وثقة عند طرح األسئلة. وبدال من ذلك، فقد
يشعرون بأن لديهم مزيدا من الوقت للتأمل، وبأنه ليس هناك دافع ُم ّ لح للضغط
عىل زر لالطالع عىل املدخول التايل عىل الشاشة. ولذلك فقد يكون هذا اإلحساس
باالستكشاف الشخيص وفقا لوتريتهم الخاصة هو ما يكمن وراء التفضيل الشخيص
للطالب، كام لوحظ يف دراسات أخرى.
وهنا يكمن التناقض: عىل رغم جاذبية الكتب الورقية، فإن القراءة أصبحت
تجربة رقمية عىل نحو متزايد. تتزايد مبيعات الكتب اإللكرتونية بوترية متسارعة،
)28(. وقد تجاوزت مبيعات الكتب

يف حني تراجعت مبيعات الكتب التقليدية
اإللكرتونية مبيعات الكتب املطبوعة ألول مرة يف الواليات املتحدة يف العام 2012
)29(. كان للنمو البطيء يف بيع الكتب املطبوعة حتام آثار يف تجار التجزئة. أغلقت
متاجر الكتب املستقلة يف اململكة املتحدة واحدا تلو اآلخر؛ فقد انخفضت أعدادها
)30(. من الواضح أن العوامل االجتامعية

اآلن لتبلغ ثلث ما كانت عليه يف العام 2005

250
ّ تغير العقل
واالقتصادية ومنط الحياة الغالبة مثل الحداثة، ورخص الثمن، وسهولة الوصول إىل
الكتب اإللكرتونية كانت العوامل الرئيسية التي تجاوزت االعتبارات األخرى، مبا
يف ذلك تلك الفكرية. توفر الكتب والشاشات أنواعا مختلفة للغاية من الخربات،
وبالتايل تستحرض أنواعا مختلفة من األداء واالستجابات واألولويات.
ولعل الجاذبية الرئيسية للكتاب املطبوع هي الرمزية الثقافية، عىل رغم أنها
لن تحظى بقيمة أعىل عند أخذ االعتبارات الدنيوية كالسعر وسهولة االستخدام
يف الحسبان. تتسم الكتب املطبوعة بوجودها يف وقت ومكان محددين، وتوفر
دميومتها أمانا ُمطمئنا لن يتمكن الكتاب اإللكرتوين من توفريه مطلقا. وأنا أمعن
النظر يف مكتبي، حيث تغطي أرفف الكتب ثالثة من الجدران األربعة من حويل،
حاولت أن أتخيل هذه الجدران عارية يف مقابل التخزين يف كومة من ذاكرات
ُ التخزين. إن مجرد رؤية وملس الكتب - التي طبع بعضها بغالف ّ مقوى، وبعضها
بغالف ورقي، والتي تتسم بألوان وأحجام مختلفة، وبدرجات متفاوتة من البىل-
يشبه جلوسك وسط مجموعة من األصدقاء القدامى. ويف كثري من الحاالت، أتذكر
املرات التي حصلت فيها عىل كتاب معني يف حيايت، والتهمت الحقائق الواردة فيه،
أو كيف اندهشت من األفكار املطروحة فيه. وعىل رغم أن محتويات بعضها قد
عفى عليها الزمن، فإن احتامل التخلص من أحد هذه الكتب، أو يف الواقع أي كتاب
منها عىل اإلطالق، قد يبدو تقريبا كنوع من القتل.
فيام وراء القيمة الوظيفية التي توفرها الخصائص املعينة للصفحة املطبوعة، وفيام
وراء الذكريات الشخصية، هناك أيضا األيقونوغرافية iconography القوية للكتب
املادية. يف العارش من مايو ،1933 أحرق الطالب النازيون ما يقرب من 25 ألف مجلد
من الكتب »غري األملانية«، مبا يف ذلك كتابات آينشتاين وكذلك ملؤلفني غري أملان مثل
إرنست هيمنغواي. أما اليوم، ويف املوقع نفسه من برلني، توجد فتحة كبرية مغطاة
بالزجاج يف الساحة املرصوفة بالحىص، والتي تكشف عن منطقة محفورة تحت الجدران
الواسعة وهي تبدو فارغة األرفف يف شهادة بسيطة لكنها مرعبة... عىل ماذا؟ ترمز
الكتب إىل املعرفة، واألفكار الجديدة، وإبداع الروح والخيال اإلنسانيني. هل ّ سيقدر
املواطنون الرقميون يف املستقبل القيمة الكامنة يف هذه األشياء غري التفاعلية مع وقتها
وزمانها املحددين، وذات القصة غري القابلة للتغيري واملحتبسة يف صفحاتها الرقيقة؟

251
الشاشة هي الرسالة
قد تتمتع األعامل املطبوعة دامئا بيشء خاص بها، عىل رغم تغيرّ أمناط حياتنا،
وجدول أعاملنا، وعقلياتنا. قد تتحول الكتب والشاشات إىل أشياء متكاملة بدال من

كونها متنافسة، متاما مثل الكتاب والفيلم، أو اإلذاعة والتلفاز، أو الدراجة والسيارة؛
حيث يؤدي كل منها أدوارا مختلفة لكنها متكاملة يف حياة كثري منا. يكمن الجزء

الجديد يف حياتنا اآلن يف الحصول عىل الحقائق من خالل األجهزة الرقمية. هل يغيرّ
هذا التحول يف الوسيلة من مدى فعالية معالجتنا لتلك الحقائق، والكيفية التي
نتعلم، ونتذكر، ونفكر بها؟
وبغض النظر عن األنشطة العامة للنص التشعبي وتعدد املهام، ميكن
للتقنيات الرقمية أن توفر فرصا تعليمية رسمية فريدة من نوعها. يتوافر العديد
من منتجات التدريب الذهني التي ّتدعي تحسني الوظيفة اإلدراكية من خالل
االستخدام املنتظم للتامرين املرتكزة عىل الشاشة، وقد ذكرت بعض الدراسات التي
أجريت عىل املسنني واألطفال يف سن ما قبل املدرسة أن آثار استخدامها متواضعة
)31(. وعىل الرغم من ذلك فلم يكن أدريان أوين Owen وزمالؤه يف
لكنها إيجابية

.)32(
كامربيدج ولندن مقتنعني بوجود أدلة تجريبية دامغة مبا يكفي إلثبات فاعليتها
وقد بحثوا السؤال الرئييس بشأن ما إذا كانت الفوائد الناتجة خالل التدريب تنتقل
إىل املهام األخرى التي مل يحدث التدريب عليها، أو أنها تؤدي يف الواقع إىل أي
تحسن عام يف مستوى األداء اإلدرايك. وخالل الدراسة التي أجريت عىل اإلنرتنت
مدة ستة أسابيع، راقبوا تدريب نحو أحد عرش ألف مشارك عدة مرات كل أسبوع
يف املهام اإلدراكية التي تهدف إىل تحسني التعليل املنطقي، والذاكرة، والتخطيط،
واملهارات البرصية املكانية، واالنتباه. كان التحسن واضحا يف كل واحدة من املهام
املعرفية موضع الدراسة، كام كان متوقعا، لكن املالحظة الحاسمة كانت غياب أي
دليل عىل انتقال هذه اآلثار إىل املهام التي مل يحدث التدريب عليها، حتى عندما
كانت تلك املهام مرتبطة عىل نحو وثيق مبا يخص عمليات التفكري املطلوبة.
لكن توقف للحظة. أمل نالحظ يف املناقشة السابقة حول ألعاب الفيديو عكس
ذلك متاما - أن هناك بالفعل أدلة قوية عىل أن املهارات املستفادة ميكن نقلها
أثناء مامرسة األلعاب إىل سياقات أكرث عمومية؟ وبالتايل، فوفق القيمة الظاهرة
ومن دون التعمق وراء املزايا النسبية لأللعاب املحددة ونظام التدريب، أين يكمن

252
ّ تغير العقل
ّ الفارق املميز الحاسم؟ مثة فارق مهم، مع كل التحذيرات املعتادة للقولبة النمطية،
قد توفر ألعاب الفيديو- بحكم التعريف- تجربة أكرث إثارة وتحفيزا مام ميكن أن
ُ يقدمه العامل الثاليث األبعاد الذي هو ممل وغري شيق. ويف املقابل، فنادرا ما يرَّوج
لتدريب العقل باعتباره ّ مشوقا. وأخريا، فإذا كنا نفكر من حيث االكتساب الجاد
للمعرفة وبيعها بوصفها منتجا، فهناك حاجة إىل أن يركز االكتساب الطويل املدى
عىل املستهلك وليس عىل تلك اللحظة القصرية األجل من املرح الذي ال طائل
وراءه. إن الدافع لرشاء برنامج تدريب العقل هو تحسني الذات. ومن ناحية أخرى،
فليس السبب الرئييس الختيار مامرسة إحدى ألعاب الفيديو هو التعلم بل تسلية
نفسك وإمتاعها.
يتحدد الفرق بني اإلحساس قصري املدى والتحسن املعريف طويل املدى يف
الدماغ، بشكل جزيئ عىل األقل، مرة أخرى، مبشاركة صديقنا القديم املخلص، أي
الناقل العصبي الدوبامني. هل وجود أو غياب مستويات الدوبامني العالية هو ما
يصنع الفرق، عىل األقل من الناحية النظرية، بني ما إذا كان ميكنك تطبيق املهارات
املستفادة من مهمة بعينها عىل بقية املهام واألنشطة األخرى؟ عىل رغم أن ذلك
قد يبدو مفرطا يف التبسيط، مثة احتامل ينبع من حقيقة أن الدوبامني يعمل مثل
نافورة يف الدماغ، تنبثق من األجزاء التطورية األساسية بشكل أكرب للوصول إىل
الروافد الواسعة للمناطق املخية »العليا«. ميكن أن يعمل الدوبامني أيضا مبنزلة
الصامم، بصفته عامال ميكنه تهيئة الخاليا الدماغية ألن تكون أكرث حساسية للتنبيه
عند وصوله. يجري إفراز الدوبامني خالل سيناريوهات معينة، مثل مامرسة األلعاب،
نتيجة لزيادة االستثارة واملكافأة، مام ّميكن من تسخري مزيد من الدوائر الدماغية،
وبالتايل جعل التعلم أكرث تعميام.
يجب علينا أال نقلل أبدا من أهمية االستمتاع. يكمن جزء من الرغبة يف الدراسة
يف القدرة عىل التفاعل االجتامعي والشعور الذي متنحنا إياه باالنتامء، وبأننا جزء
من الحشد وال ميكن استبعادنا. متثل التفاعلية الشبكية interactivity networked
واحدا من العوامل األساسية التي متيز أحدث األلعاب التعليمية عىل اإلنرتنت عن
األلعاب التقليدية املخزنة عىل األقراص املدمجة، والقامئة بذاتها. حدد كوان مني
يل Lee وزمالؤه من جامعة جنوب كاليفورنيا كيفية تأثري التفاعلية الشبكية يف

253
الشاشة هي الرسالة
ّم لدى مستخدمي األلعاب يف مسابقات األلعاب التعليمية عرب اإلنرتنت،
نتائج التعل
ومسابقات األلعاب التعليمية غري املتصلة باإلنرتنت، واملحارضات التقليدية يف
)33(. وجد الباحثون أن التفاعلية الشبكية يف مسابقة األلعاب

الفصول الدراسية
التعليمية عرب اإلنرتنت تعزز التقييم اإليجايب ملستخدمي اللعبة يف التعلم، وأداء
االختبار، ومشاعر الحضور االجتامعي. وتشري تحليالت أخرى إىل أن مشاعر الحضور
االجتامعي ضمن شبكة تفاعلية هي ما يهم يف مخرجات التعلم املختلفة. ولذلك
فمن خالل تعزيز الشعور باالتصال مع اآلخرين، تعمل تقنيات الشاشة كحافز
إيجايب. وليس من املستغرب أن يتضح أن أفضل بيئة للتعلم هي بيئة تستمتع فيها
وتتفاعل مع اآلخرين، بغض النظر عام إذا كان يجري توفري هذه املكونات الرئيسة
عرب شاشة أو من خالل سيناريو أكرث تقليدية.
ويف حني ميكن للشاشة أن تقدم بسهولة نظاما للمراجعة يف العمليات العقلية
أشد رصامة مام ميكن أن يقدمه الناس أو الورق، فهل يعني هذا أننا نتعلم بفعالية
أكرث من خالل الشاشة؟ بطبيعة الحال، ُوِّظفت التقنيات املساعدة بالحاسوب يف
الفصول الدراسية منذ عقود، واستمر استخدامها املعتدل يف تعزيز تجربة التعلم
لدى الطالب. تبدو حاالت التعلم من أجهزة الشاشات أكرث حسام بالنسبة إىل
الطالب ذوي االحتياجات الخاصة، سواء أكانوا يعانون إعاقة برصية، أم عرس القراءة
dyslexia، أم صعوبات أخرى يف التعلم. ثبت حتى اآلن أن استخدام الربامجيات
»عدمية األخطاء« errorless، حيث ال توجد إجابات صحيحة أو خطأ هو واحد من
أفضل املقاربات. وباستخدام هذه الربامجيات، تجري مكافأة التجربة والخطأ، فضال
عن االستكشاف، بسامع صوت ضوضاء مرحة، ورسوم متحركة هزلية، ورسومات
مفعمة بالحيوية، واملوسيقى، والكالم بأصوات تبدو طبيعية. وبالنسبة إىل األطفال
ذوي االحتياجات التعليمية الخاصة، فإن هذه الربامجيات التفاعلية غري املصدرة
لألحكام، مع شاشات العرض الرسيعة الوترية وامللونة، تصبح بسهولة أكرث تحفيزا

.
)34(
من كتاب مطبوع بسيط
تبدو الحواسيب اللوحية التي تعمل باللمس تحديدا مفيدة لطائفة من الطالب
املصابني بإعاقات منائية. وقد أجريت مراجعة عىل خمس عرشة دراسة تغطي
خمسة مجاالت هي: الدراسات األكادميية، والتواصل، والعمل، والرتفيه، واالنتقال

254
ّ تغير العقل

)35(. ذكرت الدراسات موضع املناقشة نتائج املشاركني الذين

عرب السياقات املدرسية
تراوحت أعامرهم بني 4 سنوات و27 سنة، والذين جرى تشخيصهم باضطراب
طيف التوحد و/ أو إعاقة ذهنية أو كليهام. وشملت معظم الدراسات أجهزة
اآليبود iPods أو اآليباد iPads وهدفت إما إىل تقديم الدعم التعليمي عرب الجهاز
أو إىل تعليم الفرد كيفية تشغيل الجهاز للوصول إىل املحفزات املفضلة. يضمن
الهدف األخري أيضا استخدام الجهاز إلنتاج الكالم كوسيلة لطلب املحفزات املفضلة.
وبأخذها معا، كانت النتائج إيجابية يف معظمها، مام يوحي بأن أجهزة اآليبود،
واآليبود باللمس، واآليباد، واألجهزة األخرى ذات الصلة هي وسائل مساعدة تقنية
صالحة الستخدام املصابني بإعاقات منائية.

ّم. وعىل سبيل

تتضح فوائد تكنولوجيا الشاشة أيضا يف االتجاه السائد للتعل
املثال، أظهر تحليل تلوي لست وأربعني دراسة أصلية مختلفة والتي شملت ما
مجموعه 36793 طالبا وطالبة وجود آثار إيجابية مهمة الستخدام الحاسوب فيام
)36(. وباملثل، فقد راجع تحليل واسع النطاق أجري

يتعلق بتحصيل فهم الرياضيات
أخريا الكيفية التي تؤثر بها الربامحيات التعليمية يف محصلة القراءة يف ما مجموعه
)37(. تشري النتائج إىل أن

أربع ومثانون دراسة شملت أكرث من 60 ألف طالب وطالبة
برامج القراءة املختلفة، التي تجري غالبا عرب الحاسوب، تنتج عادة تأثريات إيجابية،
حتى إن كانت صغرية، يف مهارات القراءة. وعىل أي حال، فإن أي تطبيق تكنولوجي
مبتكر أو تدخل متكامل ملعرفة القراءة والكتابة ُسيظهر نتائج إيجابية أكرث يف وجود
دعم من املعلم. وبالتايل فإن أكرب وعد لألجهزة الرقمية ال يكمن يف الربامجيات
والشاشة يف حد ذاتها، ولكن يف استخدامها الوثيق الصلة بجهود املعلمني.
مل تكن هذه رؤية جديدة ألي شخص قرأ روايتي »نجاح اآلنسة جني برودي«
أو »وداعا مسرت شبس«. ال يشء يقف يف طريق معلم ملهم ومتحمس. غري أن
التعليامت املبارشة وجها لوجه آخذة يف االنخفاض يف التعليم العايل. فقد الحظ
املحارضون أيضا اتجاها آخر يف املقررات الجامعية: ذكر أخريا 55 يف املائة من
أعضاء هيئة التدريس أن معدالت حضور املحارضات قد انخفضت نتيجة إلدخال
)38(. ويف العام ،2006 كان من

التسجيالت الصوتية الرقمية يف عروضهم التقدميية
بني األسباب الرئيسة التي ذكرها طالب الجامعات لتربير عدم حضورهم املحارضات

255
الشاشة هي الرسالة
)39(. وبنفس املعنى، فعند سؤالهم عن سبب

توافر املواد عىل شبكة اإلنرتنت
غيابهم عن املحارضات، ذكر ما يقرب من 70 يف املائة من الطالب الذين شملهم
استطالع أجرته إحدى جامعات النخبة األسرتالية أنهم يستطيعون التعلم باستخدام
التسجيالت الصوتية الرقمية بنفس فعالية حضورهم للمحارضة املقابلة شخصيا.
وتوصل أحد التقارير إىل أن أداء طالب مادة االقتصاد الذين استذكروا مواد
املقرر عن طريق التلقني من الشاشات كان أسوأ بكثري مقارنة مع أولئك الذين
حرضوا املحارضات التقليدية )40(. ويف حني مل تختلف املجموعتان فيام يتعلق
باستيعاب الطالب للمفاهيم األساسية، فقد فشلت املجموعة التي تعلمت افرتاضيا
فشال ذريعا يف استيعاب املواد املعقدة. وهذا يدل عىل أن األفكار املعقدة ال ميكن
نقلها عرب الشاشة عىل نحو فعال كام هو الحال عند نقلها من شخص إىل آخر. وقد
توصلت دراسة أخرى إىل نتائج مامثلة حول أفضلية التدريس من شخص إىل شخص
)41(. ويف الواقع أنه عند تكليف طالب الكليات الذين

بالنسبة إىل األداء األكادميي
يدرسون مقررا متهيديا يف االقتصاد الجزيئ عشوائيا إما بحضور املحارضات وجها
لوجه وإما من خالل عروض تقدميية منقولة بالفيديو، حصل الطالب الذين حرضوا
املحارضات وجها لوجه عىل متوسط درجات أعىل يف االختبار.
ويبدو أن فوائد الحوار، واملناقشات التي تحدث وجها لوجه، وحل املشكالت مع
شخص آخر التزال تتجاوز فوائد التواصل االفرتايض. وعندما يتعلق األمر بالتعليم،
من املؤكد أن هناك دامئا حجة قوية للفصول الدراسية الحقيقية ذات املعلمني
الحقيقيني الذين يقومون باإلرشاف عىل املحادثات التي تحدث يف الحياة الواقعية،
بغض النظر عن عدد الشاشات يف الفصول، والوقت الذي يقضيه الطالب أمامها.
وتشري الدراسات التي أجريت أخريا إىل أن الكتب واأللواح الرقمية قد تكون أدوات
تعليمية مفيدة، لكن األهم من ذلك هو استخدامها جنبا إىل جنب مع اإلرشاف من
قبل شخص بالغ. فحص أوفرا كورات Korat وأدينا شامري Shamir، من كلية الرتبية
يف جامعة بار إيالن، آثار قراءة الكتب اإللكرتونية يف مهارات القراءة لدى األطفال
)42(. قرأت إحدى املجموعات كتابا

الذين ترتاوح أعامرهم بني الخامسة والسادسة
إلكرتونيا بشكل مستقل، واملجموعة الثانية قرأت الكتاب اإللكرتوين مبساعدة أحد
البالغني، وقرأت الثالثة كتابا مطبوعا مبساعدة أحد البالغني، والرابعة قرأت كتابا

256
ّ تغير العقل
مطبوعا من دون تدخل البالغني. أظهرت النتائج أن النشاط املتمثل يف قراءة الكتاب
اإللكرتوين مبساعدة البالغني أحرز تقدما أكرب يف معرفة أسامء الحروف، وكذلك تقدم
مستوى القراءة عموما مقارنة بجميع املجموعات األخرى. وهنا قد يتفوق الكتاب
اإللكرتوين عىل الكتاب التقليدي، برشط مساعدة أحد البالغني.
ال يحدث التعليم داخل فقاعة، بل هو جزء ال يتجزأ من حياة الفرد وعالقاته.
وبالتايل، فإن أمناط الحياة املختلفة ستؤدي دورها أيضا يف تحديد ما إذا كان ميكن
للشاشة أن تحدث فرقا يف التعلم وإىل أي مدى. ومثة عامل آخر يرتبط بارتفاع
درجات االختبار يف الرياضيات والقراءة، وهو وجود حاسوب منزيل، حتى مع أخذ
)43(. وعىل أي حال، فقد

دخل األرسة ورأس املال الثقايف واالجتامعي بعني االعتبار
ُيحدث امتالك حاسوب منزيل »تأثري شارع سمسم«، حيث يؤدي اخرتاع كان يحمل
وعدا كبريا بجعل األطفال الفقراء يلحقون تعليميا بركب األطفال األغنى إىل زيادة
الفجوة التعليمية بني األغنياء والفقراء، وبني البنني والبنات، وبني األقليات العرقية
والبيض. ميكن لهذه الفجوة أن تتزايد مع ظهور األجهزة الرقمية التي يتعني امتالكها
)أي الباهظة التكلفة( مبعدل أرسع من أي وقت مىض.
يعد اآليباد اآلن ركيزة أساسية يف التعليم والرتفيه بالنسبة إىل كثري من األطفال.
ويف حني أن معظم املدارس يف الواليات املتحدة ال متتلك القوة الرشائية لتزويد طالبها
بأجهزة اآليباد، فإن األطفال الذين ال ميلكونه يحصلون عليه من أرسهم وغريهم من
البالغني، الذين يفرتض أنهم يستخدمونه أيضا. يؤدي اآليباد دورا متزايد األهمية
يف النظام التعليمي األمرييك. ويف قامئة حديثة ألكرب مائة مؤسسة تستخدم اآليباد
يف جميع أنحاء العامل، متثل مدارس الواليات املتحدة ما يقرب من 70 يف املائة من
)44(. وّقعت رشكة آبل Apple يف العام 2013 صفقة بقيمة 30 مليون دوالر
القامئة
مع مجلس املدارس املوحدة يف لوس أنجلوس، وهو ثاين أكرب مجالس املدارس العامة
يف الواليات املتحدة، لتوفر جهاز آيباد لكل طالب بحلول العام 2014 )45(. أدخلت
الدول الغربية األخرى أيضا بحامس تكنولوجيا اآليباد يف نظام التعليم الرسمي.
تعتمد املدارس يف جميع أنحاء العامل فصوال دراسية مرتكزة إىل الحواسيب اللوحية
فقط )املعروفة باسم »الفصول الدراسية املتوافر بها جهاز لكل طالب«، والتي تدعمها
بالكامل رشكة آبل، وال ميكن إنكار آثارها التجارية( للطالب من سن الروضة فصاعدا.

257
الشاشة هي الرسالة
جهزت إحدى املدارس االبتدائية يف والية أريزونا أحد فصولها الدراسية بأجهزة اآليباد،
ووصفته بأنه »فصل التخيل اإللكرتوين« iMaginarium( 46). إذا حاولنا تقييم الكيفية
التي تؤثر بها ثقافة اإلنرتنت السائدة حديثا يف الطريقة التي يتكيف بها العقل عىل
ّم، فإن إدخال اآليباد عىل نطاق واسع يف الفصول الدراسية

األمناط املختلفة من التعل
قد ميثل مكانا جيدا للبدء بذلك.
ّفك ُ ر، عىل سبيل املثال، يف رسالة تلقيتها عرب الربيد اإللكرتوين من أم قلقة، اتفق
أن كانت طبيبة أيضا:
تتبنى مدرسة ابنتي يف أسرتاليا التعليم الرقمي بحامس اعتبارا من
الصف الخامس... وال تستخدم سوى حاسوب لوحي من سن التاسعة أو
العارشة والذي ميكنه أيضا االتصال باإلنرتنت. باعتباري أعمل يف مجال
الصحة املهنية، فقد أجريت بنفيس عمليات بحث واسعة عىل اإلنرتنت، فلم
أعرث حتى اآلن عىل أي دليل عىل الفوائد باستثناء »رأي الخرباء« واألخبار
الرسدية. هل لديك علم بأي أدلة علمية بشأن اآلثار الفسيولوجية العصبية
لعدم استخدام أي يشء آخر بخالف استخدام الحواسيب يف التعلم؟
ُتعد ليزا رايت Wright شخصا منوذجيا متحمسا الستخدام اآليباد، وهي مديرة
مدرسة يف مقاطعة إسيكس يف اململكة املتحدة، وهي ّتدعي أن مرونة املنهج تعني
أنه ميكن استخدام اآليباد يف كل صفوف املدرسة االبتدائية. متثل رايت منوذجا
واضحا عىل تغيرّ املنظور:
لقد استخدم طالب الصف الرابع ]أي الذين يبلغون نحو مثاين أو
تسع سنوات[ اآليباد يف دروس الرياضيات، ولعب ***** السنة األوىل
بعض ألعاب الرياضيات وتعليم القراءة من خالل سامع الصوتيات ...
ويستخدمها تالميذ العام األول؛ ]أي من يبلغون من العمر نحو أربع
أو خمس سنوات[ يف دروس التعليم الديني، بينام يستخدمها طالب
الصفني الخامس والسادس ]الذين ترتاوح أعامرهم بني 9 سنوات و11
سنة[ يف موضوعاتهم، مثل التعلم عن السفينة تيتانيك عن طريق
الولوج إىل شبكة اإلنرتنت. لقد اشرتينا أجهزة اآليباد ألنها مرنة ومتعددة
االستعامالت. لدينا هنا مساحة جميلة يف الهواء الطلق، بحيث ميكن

258
ّ تغير العقل
لألطفال أخذ أجهزة اآليباد إىل الخارج وحتى استخدامها اللتقاط الصور.
نريد أن نجعل التعلم ممتعا لألطفال. ُت َ ستخدم أجهزة اآليباد يف كل
األوقات. وإذا تجولت يف أنحاء املدرسة، فستجد طفال يف مكان ما أو
.
)74(
مجموعة من األطفال تستخدم أجهزة اآليباد، وهذا ما أريد أن أراه
وعىل رغم أن السيدة رايت ترص أيضا عىل أن الكتب وطرق التدريس التقليدية،
مثل القلم والورق، ال تقل أهمية، ففي كثري من الفصول الدراسية التي يتوافر فيها
ّ جهاز لكل طالب، حل الحاسوب اللوحي محل كل طرق التدريس التقليدية.
وعىل النقيض من هذا التصويت بالثقة، والذي جرى بأغلبية ساحقة، ّ ادعى
تقرير صدر أخريا أن حواسيب لوحية تبلغ قيمتها ماليني الدوالرات تقبع يف خزائن
املدارس الربيطانية نتيجة لفرط إقبال املعلمني عىل رشاء التكنولوجيا الجديدة من
دون أي دليل عىل أنها تحسن من مخرجات التعليم بالفعل)84(. كثريا ما نفرتض
أن أي تكنولوجيا جديدة تتفوق تلقائيا عىل ما سبقها؛ ُويعزى التقدم يف املعرفة
والفهم إىل األداة نفسها. يستند هذا الرأي يف كثري من األحيان إىل التوافر والحداثة،
ولكن ليس إىل عوامل أخرى مثل نوع الرقابة التي تتوافر أو قدرة املعلم عىل
إلهام الطالب. وعىل أي حال، فمن األقرب لصميم املوضوع، إذا أخذنا السؤال
الذي طرحته األم األسرتالية الطبيبة، فام الدليل عىل أن أجهزة اآليباد وغريها من
املساعدات الرقمية تحدث فرقا كبريا بالفعل؟
مثة عامل حاسم ومربك علينا أن نأخذه يف االعتبار، وهو الجاذبية الهائلة المتالك
أجهزة اآليفون واآليباد. رشع ديفيد فوريو Furió وفريقه يف جامعة البوليتكنيك يف
فالنسيا يف مقارنة نتائج التعلم وتفضيالت األطفال الذين ترتاوح أعامرهم بني مثانية
وعرشة أعوام، والذين مارسوا لعبة تعليمية سواء يف شكلها التقليدي أو عىل جهاز
اآليفون )49(. أوضح 96 يف املائة من األطفال أنهم يودون مامرسة اللعبة عىل هاتف
اآليفون مرة أخرى، وأوضح 90 يف املائة أنهم يفضلون تجربة ألعاب اآليفون عىل
األلعاب التقليدية. كان التصميم املادي للجهاز نفسه عامال مهام بالفعل.
ُجريت يف العام 2013 ملقارنة الحواسيب

وقد ظهرت نتيجة مامثلة يف دراسة أ
املكتبية مع أجهزة اآليباد)50(. تلقى الطالب درسا عن الوسائط املتعددة عرب اإلنرتنت إما

عىل جهاز آمياك iMac املكتبي يف املخترب وإما عىل جهاز اآليباد يف الفناء الخارجي
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

مواضيع متشابهه المنتدى التاريخ
ق قصص غير جنسية 0 186
ق قصص غير جنسية 0 231
ق قصص غير جنسية 0 79
جدو سامى 🕊️ 𓁈 قصص غير جنسية 0 49
جدو سامى 🕊️ 𓁈 قصص غير جنسية 1 50
جدو سامى 🕊️ 𓁈 قصص غير جنسية 0 39
جدو سامى 🕊️ 𓁈 قصص غير جنسية 1 41
جدو سامى 🕊️ 𓁈 قصص غير جنسية 1 43
جدو سامى 🕊️ 𓁈 قصص غير جنسية 0 39
ق قصص غير جنسية 0 105

مواضيع متشابهه

أعلى أسفل