• سجل عضوية لنشر مواضيع ومشاركات ومحادثة الأعضاء بدون إزعاج الإعلانات

مكتملة واقعية " سلسلة عالم المعرفة " الصداقة & قيمة أخلاقية مركزية (1 مشاهد)

قيصر ميلفات

مغلق للتوبة
مستر ميلفاوي
كاتب ذهبي
عضو
ناشر قصص
ناشر صور
ميلفاوي متميز
ميلفاوي كوميدي
ميلفاوي شاعر
ناشر موسيقي
ميلفاوي سينماوي
ميلفاوي نشيط
ناشر قصص مصورة
ناشر محتوي
مترجم قصص
نجم ميلفات
ملك الصور
إنضم
30 مايو 2023
المشاركات
5,815
مستوى التفاعل
4,878
نقاط
1,380
النوع
ذكر
الميول
طبيعي
أطروحة وخطة الكتاب

»ال ميكن ألي نظرية أخالقية أن
تكون وافية إن مل تنظر يف الصداقة
كقيمة أخالقية مركزية أو إن مل
تقر بأنها عنرص جوهري يف الحياة
الصالحة«
املقدمة

)٭( period Stoic، املرحلة الثالثة من الفلسفة الهلنية، وقد
بدأت بعد وفاة أرسطو وركزت عىل الضالالت التي تنشأ عن قوة
املشاعر. ]املحرر[.

10
الصداقة
الصعب، إن مل يكن من املستحيل، أن يحقق الكائن اإلنساين هذا النوع من الحياة
أو أن يسعى وراء غايات جديرة باإلنسانية من دون تنمية الصداقة والتمتع بثامرها.
وأفرتض بهذا القول أن وظيفة النظرية األخالقية، بغض النظر عام إذا كانت علمية أو
فلسفية أو الهوتية، هي أن تفرس ناحية أو جزءا مهام أو إشكاليا يف الواقع اإلنساين
أو الطبيعي أو اإللهي. وليك تقوم النظرية بهذه الوظيفة بصورة وافية يجب أن توسع
فهمنا لهذا الوجه من وجوه الحياة اإلنسانية أو هذا العنرص من عنارصها. وتستطيع
النظرية القيام بهذا الواجب عندما ُت ّعرف وتحلل مكوناته وترشح عالقات مكوناته
بعضها مع بعض، وكيف يقوم كل مكون من هذه املكونات بوظيفته. وبالتايل، فعىل
النظرية األخالقية أن تربر هذه املعرفة وتصوغ، عىل أفضل وجه، التصورات األساسية
التي ميكن أن تعرب عن فهمنا مليزات هذا الجانب أو هذا العنرص. لكن كيف ميكن
لهذه النظرية أن تنجح يف تفسري أي وجه من وجوه الواقع أو أي مشكلة نواجهها
يف مسرية حياتنا عندما تهمل أي عنرص من العنارص املكونة له؟ وعىل سبيل املثال،
تفسرينا لظاهرة املطر سوف يكون غري واف إذا مل نأخذ بعني االعتبار عامل الجاذبية
أو الحرارة أو الضغط الجوي، وتفسرينا لظاهرة الحرب أيضا سيكون غري واف إذا مل
نأخذ بعني االعتبار عامل الرغبة يف الهيمنة أو الجاهزية العسكرية. وباملثل، ستكون
النظرية األخالقية غري وافية إذا مل تأخذ بعني االعتبار تجربة الصداقة والدور الذي
تؤديه يف حياة اإلنسان. نعم، الصداقة منط أو نوع من التجربة اإلنسانية، وهي،
بالذات، منط سلويك. كام سأسعى إىل أن أرشح بالتفصيل كيف أن الصداقة ليست
عالقة سطحية، بل عالقة عميقة وجوهرية ومرتسخة يف صلب الطبيعة اإلنسانية
كحاجة أساسية، وكيف أنها متثل أرقى أمناط الحياة االجتامعية، ألنها تؤدي دورا
حيويا يف حياة األصدقاء وطريقة تفكريهم وشعورهم وأفعالهم، أي يف طريقة تصميم
وعيش حياتهم. وبإمكان الصداقة أن تكون مصدرا للبهجة واللذة وحافزا للعمل املبدع
واملعونة النفسية واملادية، وملجأ يف أوقات الضيق. باختصار، هي مصدر مهم للنمو
والتطور األخالقي. الحياة األخالقية جزء ال يتجزأ من الحياة اإلنسانية عامة. غري أن
غياب الصداقة كقيمة أخالقية مركزية عن النظريات التي سادت الفكر األخالقي من
القرن الرابع إىل يومنا هذا يظهر تجاهل هذه الحقيقة األولية. ويتضمن هذا الغياب
أن تجربة الصداقة ليست لها عالقة، أو ال تؤدي دورا يف السعي وراء الحياة األخالقية،

11
املقدمة
لكن علينا أن نتذكر أن كل قيمة أخالقية تستلزم، بحكم الرضورة، نوعا من الخربة
األخالقية – مثال، خربة العدالة أو املحبة أو الصدق أو الشجاعة أو العفة أو احرتام
الوعد أو التواضع. القيمة األخالقية مبدأ الفعل الذي يتناسب مع سلوك معني، ألنها
تشكل مخطط أو بنية الفعل وتعطيه جوهره ومعناه، وهي التي تعطي الفعل صفته
األخالقية. مثال، تحقيق قيمة العدالة يف الفعل هي التي تحوله إىل فعل عادل. عالوة
عىل ذلك، كل قيمة أخالقية قابلة ألن تصبح قاعدة أخالقية: كن عادال! أحب أخاك
اإلنسان! كن صادقا! قل الحقيقة! القاعدة هي توجيه ملزم للسلوك وفقا ملتطلبات
القيمة األخالقية. والقيمة األخالقية تكتسب صفتها كقيمة ألنها تعرب عن نوع مهم، أو
ذي قيمة، من األفعال. وهذه األهمية أو الجدارة هي التي تضفي عىل القاعدة صفتها
التوجيهية )prescriptive)، وهي أيضا مصدر اإلشباع الذي نستمده من السعي وراء
القيم يف حياتنا. غري أن الصداقة ليست نوعا من التجربة فحسب، بل نوع من التجربة
األخالقية أيضا. لهذا، فإن تطـور الصداقـة يتضمــن: )أ( وجــود نوع من الخــربة.
)ب( وجود نوع من القيم األخالقية. وكام سوف أوضح، فإن الصداقة عنرص جوهري
يف الحياة األخالقية ورشط من رشوطها. لهذا السبب ليس يف مقدور أي نظرية أخالقية
أن تهمشها أو تتجاهلها يف التنظري للحياة األخالقية.
والقول بغياب الصداقة عن التنظري للحياة األخالقية، يف األنظمة الفلسفية الرئيسية
خالل القرون الستة عرش املاضية، ال يعني غياب كتابات عن الصداقة. والعكس
هو الصحيح، فقد ترك لنا عدد ال بأس به من الفالسفة والالهوتيني وكتاب املقاالت
كثريا من املناقشات واألوراق واملقاالت، وحتى بعض الكتب، عن الصداقة، والعديد
منها مثري لالهتامم وممتلئ بالبصرية واإلفادة، غري أنها ال تعالج الصداقة كقيمة
أخالقية مركزية وال تعتربها رشطا للحياة األخالقية. وسواء يف العرص الوسيط أو
الحديث أو املعارص، فقد اعتربها الالهوتيون قيمة أو فكرة مساعدة )auxiliary).
عىل سبيل املثال، معظم الالهوتيني الذين كتبوا عنها مل ينظروا فيها، ومل يحللوها،
.(agape)
(2)
كقيمة أخالقية مركزية، بل كجزء من تحليلهم لتصور املحبة املسيحية
وُطرحت تحليالتهم، يف معظم األحيان، يف صيغة مقارنة بني الصداقة باعتبارها هوى
)philia )واملحبة املسيحية، وغاية املقارنة مل تكن توضيح فكرة وأهمية الصداقة
كقيمة مركزية، بل توضيح طبيعة وأهمية املحبة املسيحية يف الحياة الصالحة أو
الدينية. هذا ما نراه يف أعامل القديس أوغسطني والقديس توما األكويني وكريكغارد

12
الصداقة
)٭(، إذا أردنا ذكر بعض أسامء الالهوتيني. ويف الواقع، إذا ألقينا نظرة فاحصة
وميالندر
عىل مناقشات الالهوتيني من القديس أوغسطني إىل ميالندر، فسوف نكتشف أن
أيا من هذه املناقشات مل يسهم يف زيادة فهمنا للصداقة كقيمة أخالقية، بأكرث من
مناقشات الفالسفة القدماء. واليشء املثري لالهتامم، بصورة خاصة، هو أن عددا
كبريا من الالهوتيني استبعدوا مفهوم الصداقة من مناقشاتهم التي حللت الحياة
األخالقية. وسوف أرشح الحقا أسباب هذا االستبعاد بالتفصيل.
عالوة عىل ذلك، مل يسهم فالسفة العرص الحديث يف زيادة فهمنا للصداقة كقيمة
أخالقية مركزية، ألنهم أيضا أبعدوها عن تحليلهم للحياة األخالقية. لقد رفض
الفالسفة الذين سادوا هذا العرص من هوبز إىل ميل معالجة الصداقة كقيمة أخالقية
(3). وكام سأجادل، فإنهم مل يعتربوها عنرصا ّ مقوما للحياة األخالقية. لقد
مركزية
ناقش فالسفة كهيوم وميل البعد النفيس للطبيعة اإلنسانية وحللوا القيم اإلنسانية،
غري أنهم مل يبحثوا الدور الذي تؤديه الصداقة، أو ميكن أن تؤديه، يف الحياة
األخالقية. وكام فعل الالهوتيون، ناقش بعض الفالسفة وكتاب املقاالت، وبينهم
)٭٭(، فكرة
ْ عىل سبيل املثال بيكون ومونتاين واسبينوزا وإمرسون وكانت ونيتشه
الصداقة، غري أنهم مل يكن هدفهم تحليلها كقيمة مركزية بل التشديد عىل أهميتها
يف الحياة العملية. ويف الواقع كان اهتاممهم بهذه القيمة عمليا، ال نظريا. ومتحورت
أفكارهم، ماعدا أفكار نيتشه واسبينوزا، حول بصرية الفالسفة اليونان والرومان
القدماء، لكنهم، فعليا، استبعدوا مفهوم الصداقة، وأيضا مفهوم املحبة، من الحياة
)٭٭٭( ونيتشه إىل تطور

األخالقية. نعم، تطرق فالسفة بارزون مثل هيغل وشوبنهاور
املحبة، لكنهم فعلوا ذلك يف سياق تحليلهم لألرسة ووحدة األرسة والتفاؤل والتناسق
)٭( Augustine St،( 354 – 430 ميالدية( الهويت ***** عاش يف الجزائر يف العرص الروماين؛ Thomas.St Aquinas
)1225 – 1274( الهويت وفيلسوف إيطايل كاثولييك؛ Kierkegaard Soren( 1813 – 1855 )فيلسوف والهويت وشاعر
دمناريك؛ Meilaender .C Gilbert( ولد يف 1946( أستاذ الالهوت بجامعة نوتردام األمريكية. ]املحرر[.
Michel Eyquem de Montaigne إنجليزي؛ دولة ورجل فيلسوف( 1626– 1561 )Francis Bacon )٭٭)
(1533 – 1592) من فالسفة عرص النهضة الفرنسيني؛ Spinoza Baruch( 1632 – 1677 )فيلسوف هولندي من
أصل سيفاردميي برتغايل؛ Emerson Waldo( 1803 – 1882 )كاتب وشاعر أمرييك؛ وكل من Kant Immanuel
)1724 - 1804(؛ وكل من Friedrich( 1844 – 1900)، فيلسوفان أملانيان.
)1860 – 1788( Arthar Schopenhauer و ،(1831 – 1770)George Wilhelm Friedich Hegel )٭٭٭)
فيلسوفان أملانيان. ]املحرر[.

13
املقدمة
ودوافع الحياة واملشاعر الغرامية. لكن، هل ميكن لتحليل الصداقة أن يكون وافيا أو
شامال إذا مل ينطلق من فهم معقول للمحبة كعالقة إنسانية أساسية؟
لقد كان االهتامم بالصداقة كقيمة أخالقية جديرة بالتحليل األخالقي الجدي معدوما
(4). وال يحتاج األمر إىل أكرث من نظرة عجىل

حتى السنوات األخرية من الفرتة املعارصة
إىل الكتابات األخالقية لهذه الفرتة– املقاالت والكتب والتعليقات النقدية – حتى نتبني
غياب الصداقة كقيمة أخالقية مركزية عن هذه الكتابات. هنا نجد تحليال منطقيا
ومفصال ومعقوال للتصورات األخالقية األساسية، كالخري والحق والحرية واملسؤولية
والعقاب والعدالة والحكم األخالقي والواجب والقواعد األخالقية واألنانية والغريية
واإللزام. وال أبالغ إذا قلت إن األسئلة الرئيسة التي انشغل بها الفالسفة هي: ماذا
نعني بــ»الخري«؟ ما الذي يجعل الفعل أو القانون أو الشخص أخالقيا؟ كيف نربر
املبادئ أو األحكام األخالقية؟ ما رشوط الفعل األخالقي؟ كيف ّ نعرف بوضوح، وبدقة
إذا أمكن، املفهومات الالزمة لبناء النظريات األخالقية؟ غري أن اليشء املدهش هو أننا
نكتشف غيابا مامثال للصداقة عن النظريات األخالقية، حتى تلك التي تقع يف إطار
(5). ومع ذلك احتلت الصداقة مكانا بارزا، إن مل يكن املكان األول، يف

األخالق الحميدة

)٭( وآخرين. لكن

فكر الفالسفة القدماء كأفالطون وأرسطو وإبيقور وسنكا وشيرشون
ال يحق للفالسفة إغفال أو إهامل قيمة أدت دورا مركزيا يف التنظري األخالقي ألكرث
من مثانية قرون. ويف الواقع يجب أن يثري هذا الغياب شعورا من القلق، عىل األقل
شعورا من الدهشة أو رغبة قوية يف فهم دينامية هذا اإلهامل: ملاذا توقفت الصداقة
عن كونها قيمة أخالقية مركزية بعد تراجع الفلسفة الهلنية والهلنستية ونهوض
الالهوت املسيحي يف القرون الوسطى؟ ال ميكن القول إن سبب هذا الغياب هو املزاج
الشخيص أو األيديولوجي أو الفردي لهذا الالهويت أو ذاك أو لهذا الفيلسوف أو ذاك،
ألن هذا الغياب كان ظاهرة عامة. ويف الحقيقة مل يكن هذا الغياب موضع مناقشة
أفضت بعد ذلك إىل رفض للصداقة كقيمة مركزية من قبل الفالسفة والالهوتيني، بل،
وبكل بساطة، اختفت الصداقة من الفضاء الفلسفي كأنها رحلت بهدوء عن الجو
الثقايف برمته ملدة ألف وأربعامئة سنة. كيف حدث هذا الرحيل؟
)٭( Epicurus و Aristotle وPlato، فالسفـــــة يونــان مــــن القـــرون األربعـــة األولـــى؛ وLucius Seneca
و Cicero Marcus فيلسوفان رومانيان. ]املحرر[.

14
الصداقة
أعتقد أن سبب غياب الصداقة كقيمة أخالقية مركزية يف حقل التنظري األخالقي
خالل األلف واألربعامئة سنة املاضية هو ما اقرتح تسميته يف هذا الكتاب »تحول
النموذج األخالقي« )shift paradigm moral). سأستعمل هذا املفهوم كمبدأ
تفسريي. أوال، سوف أطور هذا املفهوم بالتفصيل، وبعد ذلـــك ســـوف أشــرح:
)أ( أن سبب استبعاد الصداقة من عملية التنظري األخالقي هو تحول يف طريقة فهم
الفالسفة والالهوتيني لطبيعة السلوك األخالقي عامة، و)ب( أن هذا االستبعاد غري
مربر. وقد وقعت ثالثة تحوالت منوذجية أخالقية منذ تراجع الفلسفة الهلنستية
يف القرن الرابع امليالدي: األول كان الهوتيا؛ والثاين كان أخالقيا؛ والثالث كان يتصل
)٭(. األول حدث يف العصور الوسطى؛ والثاين

بفلسفة الفلسفة metaphilosophy
يف العرص الحديث؛ والثالث يف العرص الراهن. األول يعكس نظرة الالهوت لوظيفة
النظرية األخالقية؛ والثاين يعكس نظرة الفالسفة للنظرية األخالقية؛ والثالث يعكس
نظرة الفالسفة للفلسفة عامة. وعىل الرغم من أن غياب الصداقة يعود إىل هذه
التحوالت الثالثة، فإنه ليس مربرا. فبام أن الصداقة مقوم جوهري، بل رمبا رشط
من رشوط الحياة األخالقية، فإنه ال يجوز للفالسفة إهامل هذه القيمة األخالقية،
وال يجوز لهم إهامل وجه من وجوه التجربة اإلنسانية مادام جوهريا للحياة
اإلنسانية. قد نجادل بأن الحياة األخالقية تتم بالعيش وفقا لإلرادة اإللهية، أو وفقا
للشعور بالواجب، أو وفقا ملبدأ الخري العام، أو وفقا لتصور الفرد ملعنى الحياة
الخرية من دون األخذ بعني االعتبار ما يقوله أو يفكر أو يشعر به اآلخرون أو، بعد
ذلك كله، وفقا ملعايري املجتمع. وبالتايل، فقد نجادل بأن وظيفة النظرية األخالقية
ليست تحليل التجربة أو السلوك األخالقي، بل مجرد توضيح التصورات األخالقية
واكتشاف أفضل الطرق لتربير املبادئ واألحكام األخالقية. نعم قد نجادل وفقا
ألي من هذه الطرق، ووفقا لطرق أخرى، كام فعل الالهوتيون وعلامء االجتامع
والفالسفة يف العصور الوسطى والحديثة واملعارصة. غري أن جدلياتهم مل تستلزم ومل
تربر استبعاد الصداقة من التنظري األخالقي. وباملقابل، فسوف أجادل بأن الصداقة
مقوم من مقومات الحياة الصالحة، لذا يجب أن تعامل كقيمة أخالقية يف التنظري
األخالقي. وسوف تقوم حجتي عىل أربع خطوات. أوال، سوف أرشح مفهوم تحول
)٭( Metaphilosophy، دراسة البنية املجردة للفلسفة. ]املحرر[.

15
املقدمة
النموذج األخالقي. هنا سأوضح معنى »النموذج« و»النموذج الثقايف«، ألن تصور
النموذج الثقايف يتضمن تصور النموذج األخالقي. وبعد ذلك سأفرس كيف يتحول
النموذج، بغض النظر عام إذا كان ثقافيا أو أخالقيا. ثانيا، فعىل الرغم من أنني
سأقدم باستمرار أمثلة توضح معنى »النموذج« و»تحول النموذج« والعالقة بني
هذين املفهومني، فسوف أناقش بالتفصيل الثقافتني الهلنية والهلنستية كمثالني عىل
تحول النموذجني الثقايف واألخالقي. وقد اخرتت هاتني الثقافتني لسببني: )أ( ألنهام
متصلتان كل منهام باألخرى. )ب( ألنهام متصلتان بالعصور الوسطى والحديثة.
وسوف توضح مناقشة هاتني الثقافتني مفهوم النموذج وتحول النموذج، وسوف
تعزز مصداقية أطروحتي. ولدي رغبة قوية يف أن أبرهن عىل أن النموذج الثقايف
ملجتمع معني يحدد إىل حد كبري النموذج األخالقي، أي املعتقدات والقيم التي
تشكل بنية النموذج الثقايف املحددة لتصور الجامعة للخري األسمى وبالتايل للقيم
التي تنبثق عنه. وإثبات صحة هذه القضية رضوري جدا ألطروحتي التي تقول إن
الصداقة قيمة أخالقية مركزية، ألنه، كام سأوضح، إذا كانت الصداقة حاجة إنسانية
أساسية، وإذا كان مفهوم الخري األسمى عند الجامعة يتضمن هذه الحاجة، وإذا
كان هذا املفهوم متجذرا يف منوذجها األخالقي، وإذا كان مصدر القيم األخالقية
للجامعة، فال ميكن للفالسفة، بغض النظر عن نزعاتهم الفلسفية أو الدينية أو
األيديولوجية، استبعاد الصداقة كقيمة أخالقية مركزية من نظرياتهم األخالقية.
وعىل خالف فالسفة العصور الوسطى والحديثة، مل يتخل فالسفة العصور الهلنية
والهلنستية عن والئهم لنامذجهم األخالقية عندما نظروا يف طبيعة الحياة األخالقية،
فأ ّقروا بأن الصداقة مقوم من مقومات الحياة األخالقية. وسوف تلقي مناقشة
الكيفية التي تندمج بها الصداقة يف طيف القيم األخالقية التي يعالجها الفالسفة
ضوءا عىل العالقة الوثيقة بني النموذج األخالقي والقيم التي تنبثق عنه )الفصالن
الثاين والثالث(. ثالثا، سوف أناقش النموذج األخالقي يف العصور الوسطى والحديثة
واملعارصة، ويف كل مناقشة من هذه املناقشات سوف أركز االنتباه عىل العالقة بني
النموذجني الثقايف واألخالقي. وهديف هو أن أرشح كيف ميكن للنموذج الثقايف أن
يقرر النموذج األخالقي، أي كيف ميكن للرؤية األخالقية )vision moral )التي هي
أساس النظرية األخالقية، أن تكون منغرزة يف النموذج الثقايف. وسوف يتضح من

16
الصداقة
تحليل هذه العالقة ملاذا تردد فالسفة هذه العصور يف االعرتاف بالصداقة كقيمة
أخالقية مركزية يف التنظري األخالقي. سوف نرى أن سبب هذا الرتدد هو أنهم ّعرفوا
وظيفة النظرية األخالقية عىل نحو يناسب اهتامماتهم الدينية أو الفلسفية أو
االجتامعية. وعىل عكس الفالسفة القدماء الذين اعتقدوا أن هذه الوظيفة تفسريية
ومعيارية يف آن واحد، فقد اعتقدوا أنها معيارية باملقام األول، مبعنى أن وظيفة
النظرية هي فرض وتربير صياغة معينة للمبدأ األخالقي األعىل. وبغض النظر
عام إذا كان تبني هذه املهمة قد استلهم اإلصالح االجتامعي أو الحقيقة ُ املَنَّزلـة
)truth revealed )أو رؤية فلسفية معينة، فهؤالء الفالسفة تجاهلوا أن الصداقة
حاجة إنسانية أساسية، وأنها تكمن يف الرؤية األخالقية للنموذج األخالقي. هذا
التجاهل غري مقبول. إذ كيف ميكن للنظرية األخالقية، كنظرية، أن تهمش، أو تهمل،
مطلبا جوهريا للطبيعة اإلنسانية ؟ رابعا: يف سياق مناقشتي لكل منوذج أخالقي
سوف أرشح ملاذا كان استبعاد الصداقة من النظرية األخالقية األساسية للعرص
ذي الصلة أمرا غري مربر. وملزيد من التعزيز ملصداقية أطروحتي سوف أجادل يف
الفصل األخري بأن الصداقة حاجة أنطولوجية وعالقة أنطولوجية. وهكذا، ومبا أنها
أحد مقومات الطبيعة اإلنسانية، ومبا أن الحياة األخالقية تكمن يف النمو والتطور
اإلنسانيني، فإنه يجب علينا أ ّ ن نقر بأن الصداقة قيمة أخالقية مركزية.

أناقش يف هذا الفصل العالقة بني النموذج
األخالقي والنظرية األخالقية، وسأبدأ بتحليل
مفهوم النموذج: النموذج الثقايف، والنموذج
األخالقي، وتحول النموذج األخالقي. وهديف
هو أن تشكل هذه املناقشة أساسا لتحليل
فكرة الخري األسمى والقيمة األخالقية والقاعدة
األخالقية. ما العالقة بني هذه املفهومات
الثالثة؟ ما مصدر تصور الفيلسوف للخري
األسمى؟ الهدف من طرح هذه األسئلة هو
البحث عن أس�اس النظرية األخالقية، ألن
معرفة هذا األساس هي وحدها التي متكننا من
اكتشاف معيار لتقييم كفاءة النظرية األخالقية.
س�وف أبحث عن مصدر الرؤية األخالقية
للفيلسوف، املطورة يف النموذج الثقايف، وأبني
أن فكرة القيمة األخالقية، وبالتايل فكرة القاعدة
األخالقية، مستمدة من تصور الفيلسوف للخري
األسمى. فبنية النظرية األخالقية تعكس بنية
مفهوم النموذج األخالقي

»إن تربير استيعاب أو استبعاد
الصداقة من النظرية األخالقية
سوف يعتمد يف النهاية عىل
كونها، أو عدم كونها، موجودة يف
النموذج الثقايف للجامعة، ومن
ثم يف النموذج األخالقي، ألنه ال
يكفي أن نقول إن الصداقة حاجة
إنسانية، إذ يجب اعتبارها قيمة
أخالقية مركزية«.
1

18
الصداقة
النموذج األخالقي الذي تقوم عليه. ولدي رغبة قوية يف أن أبني أن نظرة الجامعة إىل
الخري األسمى تحدد يف نهاية املطاف مفهوم الفيلسوف لوظيفة النظرية األخالقية.
إن دراسة القيم األخالقية الكامنة يف الرؤية األخالقية للجامعة هي السبيل إىل
معرفة كفاءة، أو عدم كفاءة، النظرية األخالقية. فهذه الرؤية هي املعيار األعىل
لتقييم كفاءة النظرية األخالقية.
وعموما، أنا أعني بكلمة »منوذج« منطا أو طريقة عامة يف التفكري والشعور
والفعل، يف مجال معني من مجاالت الحياة اإلنسانية: الفن، الدين، السياسة،
التجارة، املجتمع، األخالق، الرتبية، العلم. والتفكري هو وسيط االعتقاد وأساسه
العقل، والشعور هو وسيط القيمة وأساسه العاطفة، والعقل هو وسيط السلوك
وأساسه اإلرادة. وحقل التجربة هو حقل »الفعل« أو »السلوك«. وكلمة »يسلك«
تعني »أن يترصف الفرد بطريقة معينة«، والسلوك هو منط معني من الفعل.
وعندما نستعمل كلمة »فعل« بصورة عامة فإن هذه الكلمة تعني منطا من
األفعال. ويف هذا الكتاب سأستعمل كلمتي »فعل« و»سلوك« عىل نحو يسمح
لكل منهام بأن تحل محل األخرى. أما الذي يضفي عىل السلوك الصفة العامة
فهو أن جامعة ما )فئة أو مجتمعا أو فئة من املجتمعات(، أو معظم أعضائها
يتبنون طريقة معينة من التفكري والشعور والفعل. وكل مجال من مجاالت التجربة
اإلنسانية يشكل نوعا من السلوك. ومن ذلك، مثال، السلوك الديني أو االجتامعي أو
األخالقي أو االقتصادي. وتتشكل وحدة حياة املجتمع من وحدة مختلف املجاالت
السلوكية. وينبثق النموذج عندما تعتنق الجامعة نظاما من املعتقدات والقيم
كمبادئ لتعريف وتنظيم أفعالها ضمن إطار معني من السلوك. عىل سبيل املثال،
السلوك الديني لجامعة ما يتسم بالنموذجية إذا اعتنق عموم أفرادها مجموعة من
القيم واملعتقدات الدينية. فالصفة النموذجية تنبثق عن وحدة وسيادة هذه القيم
واملعتقدات يف سلوكهم الديني. إذن، النموذج الديني هو نوع من البنية الفكرية
التي تتشكل من القيم واملعتقدات الدينية التي تعتنقها الجامعة. ويف الواقع،
هاتان الفكرتان تخدمان )أ( كمثل و)ب( كمبادئ أفعال، وال توجدان كيشء خارج
نطاق التفكري والشعور والفعل يف حياة الناس، فحسب، بل كقوة محركة لسلوكهم
الديني أيضا. ومع مرور الزمن تغدو جزءا تكوينيا يف كيانهم العقيل، بل تصبح األداة

19
مفهوم النموذج األخالقي
الفكرية والشعورية التي تحدد منط تفكريهم وشعورهم وأفعالهم ونظرتهم للعامل
حولهم. وهذا النمط يشكل رؤيتهم الدينية، ويصبح الدين بالنسبة إليهم طريقة
حياة وليس مجرد مجموعة من املعتقدات توجد يف عقولهم ُكمثل اجتامعية. ويف
الواقع، معظم املتدينني ال ميتلكون معرفة دقيقة بالهوت دينهم، شأنهم يف ذلك
شأن املواطن الذي ال ميتلك معرفة دقيقة بدستور بالده، عىل الرغم من أن هذا
الدستور متاح للجميع ومعرتف به باعتباره املثال السيايس للدولة. وعىل سبيل املثال
فإنهم يتقنون السلوك الديني، ويعرفون معناه، غري أنهم ال يعرفون بحكم الرضورة
أسس ومبادئ سلوكهم الديني أو ما إذا كانت هذه األسس واملبادئ مربرة، وهل
هي مجرد مصادفة أن معظم املؤسسات الدينية يف مختلف املجتمعات يف العامل
لديها مدارس وبرامج ثقافية خاصة لتعليم املنتمني إليها أسس ومبادئ دياناتهم؟
غري أن الخاصية النموذجية ال تقترص عىل نوع معني من السلوك، بل تشمل
جميع أنواع السلوك– السيايس، العلمي، الفني، األخالقي، االقتصادي، الثقايف، الديني.
هذه األنواع تشكل ما يسمى عامة املؤسسات. وكل واحد منها ميثل منطا منوذجيا
من السلوك. لهذا يجوز لنا الكالم عن مناذج دينية وأخالقية وسياسية وعلمية. ويسري
أفراد الجامعة ضمن هذه املؤسسات وفقا للمعتقدات والقيم املتوافق عليها. هذه
املعتقدات والقيم تعد أساس األمناط السلوكية النموذجية، ألنها مصدر هويتها
وكيانها املميز. غري أنه باإلضافة إىل هذه املؤسسات التي تشكل بنية املجتمع، الثقافة
بحد ذاتها نوع من النموذج – منوذج ثقايف – ألنه باملقارنة بالثقافات األخرى يدير
أفراد املجتمع حيواتهم وفقا ملجموعة عامة من املعتقدات والقيم. وتشكل هذه
املعتقدات والقيم ما أسميه هنا »رؤية للعامل« )view world)، وسوف أناقش ذلك
الحقا. هذه الرؤية التي تشكل نسيج الثقافة هي املصدر األول للمعتقدات والقيم
الجزئية التي تشكل هوية وبنية النامذج السلوكية املختلفة. وهكذا نستطيع التمييز،
يف بداية املناقشة، بني نوعني من النامذج: املؤسساتية والثقافية، األول يشمل أي
نوع من النامذج السلوكية، والثاين يشمل أي ثقافة باعتبارها نوعا، كالثقافة اليونانية
أو املرصية. إذن، املهمة األوىل التي سأحاول إنجازها هي رشح لتصور النموذج.
والنقطة التي سأركز عليها هي أن النموذج، بغض النظر عام إذا كان مؤسسيا أو
ثقافيا، هو نظام فكري ومنط من السلوك الوجودي؛ إنه مجموعة من املعتقدات

20
الصداقة
والقيم وطريقة وجود يف العامل. مثال، عندما تتبنى جامعة ما أو تطور نظاما من
املعتقدات والقيم، وعندما تصبح هذه املعتقدات والقيم القوى املحركة لحياتها
الدينية فإن شيئا رائعا يحدث: تتخلق نظرة عامة، أي يظهر للوجود نوع من الثقافة-
يف هذه الحالة ثقافة دينية. هذه النظرة ليست دينية أو فكرية بل »رؤية عقلية«
)vision intellectual)، تلك الرؤية التي منها ينبثق الفعل العقيل أو الديني. وهي
تؤمن أساس الفكر والشعور والفعل الديني عند الناس أو تقرر طريقتهم يف التعبري
الديني. وتنبثق إشعاعات الروح الدينية لشعب ما عندما يتكلمون ويفعلون ويعرِّبون
عن أنفسهم دينيا. وغالبا ما يكون بإمكاننا أن نستشعر أو نستشف أصالة أو زيف
اإلنسان الديني أو صدق أو نفاق املفكر من أفعالهام وأقوالهام. والرؤية العامة هي
مصدر ما يسمى يف بعض األحيان بـ »الروح الدينية« أو »الثقافة الدينية«. ونسيج
هذه الثقافة هو نسيج املعاين الكامنة يف املعتقدات والقيم الدينية. وروحها تشع
من منط تفكري املؤمنني بها ومن شعورهم وأفعالهم الدينية، وتظهر يف مامرساتهم
وعاداتهم ورموزهم وأعرافهم ونزعاتهم وآمالهم وطموحاتهم وعالقاتهم االجتامعية؛
هي تتجىل باختصار يف منط تفهم أعضاء الجامعة معنى ومصري حياتهم، وبالتايل فإن
معتقدات وقيم الجامعة تغذي الشخصية الدينية ألعضائها. لنأخذ عىل سبيل املثال
**** اسمها ليندا، هذه الطفلة ال تولد ككائن ديني بل تولد بإمكانية أن تصبح
كائنا دينيا. إن ما تتلقاه عند الوالدة هو اإلمكانية الدينية. غري أنها ال تتلقى هويتها
الدينية، أو هوية هذه اإلمكانية، فهي تكتسب هذه الهوية عندما متارس الحياة
الدينية يف مجتمعها- أي عندما متارس الطقوس والشعائر واالحتفاالت واألعياد
والعادات واألعراف التي تشكل النسيج الديني لثقافتها- هذه املامرسة تحولها من
شخص ديني باإلمكانية إىل هوية دينية معينة. الهوية الثقافية للجامعة هي التي
تحدد الهوية الدينية ألعضائها. ويوجد فارق كبري بني امتالك معتقدات وقيم دينية
)عىل املستوى العقيل( والوجود الديني )religious being). اإلنسان الديني ُي ْظِهر
هويته الدينية بسلوكه. وعندما يكتسب هويته الدينية فإنه يكتسب جوهرا دينيا،
أو كيانا دينيا. امتالك هذه الهوية هو أساس عضويته يف الجامعة الدينية. هذه
العضوية ليست قانونية أو سياسية أو اجتامعية. وميكن للفرد أن يصبح عضوا يف
جامعة دينية من دون أن يسجل قانونيا كعضو فيها، ومن دون أن يعيش فيها.

21
مفهوم النموذج األخالقي
العضوية الدينية عالقة روحية. وجوهر هذه العالقة هو مشاركة األعضاء اآلخرين
رؤية دينية وطريقة حياة معينة. وإذا كن ُت عضوا يف جامعة دينية معينة فإنني
أفكر وأشعر وأفعل كبقية األعضاء. الثقافة الدينية التي هي مصدر هويتي الدينية
تنبض يف عروقي وال تفارقني أينام ذهبت. الشخص املسيحي أو اليهودي أو البوذي
أو املسلم أو الهندويس الذي يهاجر إىل دولة أخرى يرتك كل أمالكه املادية، غري
أنه يحتفظ بهويته أو كيانه الديني. بإمكاين أن آخذ فرتة اسرتاحة من هذا أو ذاك
الواجب، لكنني ال أستطيع أن آخذ فرتة اسرتاحة من كياين أو وجودي الديني، وهذا،
بالطبع، إذا كنت شخصا متدينا. وإذا حاولت أن أفعل ذلك فإنني أحاول اقرتاف نوع
من االنتحار ألنني سوف أطمس جزءا جوهريا من ذايت، غري أنني لن أستطيع حتى
ولو فعلت ذلك. ال ميكن قتل أو طمس الذات، التي هي أنا، بسكني أو بأمر قانوين،
ألنها ليست موجودا جزئيا ماديا، وال ميكن اقتالعها، فليست هناك تربة نقتلعها منها،
أنا هو أنا. وعىل املستوى العقيل، أستطيع فهم حقيقة *** آخر وأستطيع اإلقرار
بحقيقته وأستطيع اعتناقه عقليا واإلعالن أنني رسميا أنتمي إىل هذا الدين. لكن
هذا بحد ذاته ال يجعلني متحوال )Convert). أصبح متحوال فقط عندما أرى وأشعر
وأفعل من منظور الحقيقة الدينية أو من الرؤية الدينية لهذه الحقيقة. غري أن هذا
ليس سهال أبدا، إذا كان ممكنا باألساس. وليك يصبح ممكنا يتعني أن تخضع شخصية
املتحول إىل *** آخر لعملية تغري جذري، كام حصل للقديس أوغسطني والقديس
)٭(. حتى يف هاتني الحالتني مل يحصل التحول )االهتداء( بصورة كاملة، ألن
بولص
كال الشخصني احتفظ بالنزعة الدينية األساسية، أي بالشعور والرؤية الدينية التي
امتلكها قبل التحول )االهتداء(. فيهودية القديس بولص التي عاشها قبل االهتداء
تخللت إىل حد كبري فهمه ومامرسته املسيحية بعد االهتداء، وأيضا ****** القديس
أوغسطني تخللت، إىل حد كبري، فهمه ومامرسته للمسيحية بعد االهتداء. الوجود
الديني ليس مجرد منط من أمناط التفكري بل طريقة حياة يف العامل.
بيد أن تصور الهوية الدينية يتضمن واقعة مهمة أخرى: كل عضو يف الجامعة
يشارك بقية األعضاء الهوية الدينية ذاتها، وبطريقة ما، فكل واحد منهم يجسد
)٭( Paul .St ، هو بولص الطرسويس، ولد حوايل العام 5م، وتويف يف روما بني عامي 64 و67 ميالدية. ]املحرر[.

22
الصداقة
النموذج الديني أو الرؤية الدينية التي تسود حياة املجتمع الدينية. هذا يستلزم
أن يشبه سلوك العضو يف جامعة دينية سلوك اآلخرين. وهذه العالقة تفرز نوعا
من التامسك بينهم. غري أن هذا التامسك )والتشابه( ال يعني أنهم نسخ متطابقة.
إن كل ما يعنيه هو أنهم يعتنقون معتقدات وقيم الجامعة. فمثال، إذا حدث أن
امرأة اسمها ماري كانت ****** أرثوذكسية رشقية فإنها سوف تتناول أثناء القداس
وترسم الصليب عىل صدرها يف مناسبات معينة، وتصوم يف أيام وأشهر محددة كل
عام، وتقدس األيقونات وتحرتم أعياد القديسني. وسوف تشبه يف هذه األنواع، ويف
أنواع أخرى من السلوك، جميع املسيحيني األرثوذكس الرشقيني يف كل مكان. عموما،
متيز هويتها الدينية يتأىت من مالحظة هذا النوع من السلوك. غري أن السؤال املهم
هو: كيف تفهم هي املعتقدات والقيم التي تؤسس هذا النوع من السلوك؟ وكيف
تطبقها يف حياتها؟ املكان الحقيقي للجوهر الديني هو القلب اإلنساين. غري أن
القلب وجود دينامي يف حالة منو مستمر. ورشوط هذا النمو تختلف من شخص إىل
آخر. ويف نهاية املطاف، يتوقف األمر عىل ظروف الفرد، وأيضا عىل ظروف الجامعة
العقلية والعاطفية واالجتامعية واملادية والثقافية. نحن نرى ونشعر ونسلك من
وجهة نظر فردية. هذه إحدى الحقائق األساسية للتجربة اإلنسانية.
غري أنه، وعىل الرغم من أن العضو يف الجامعة الدينية هو فرد ويبقى فردا،
فإن ماري، وهنا أعود إىل مثايل السابق، تسلك من وجهة نظر النموذج الديني
للجامعة. علينا أن نتذكر أن قلبها الديني ينبثق عن هذا النموذج. غري أن هذا
النموذج، كام أكدت سابقا، ال يوجد كفكرة يف عقلها، عىل الرغم من أنها قد متلك
فكرة كهذه، بل يوجد كنسيج لهويتها الدينية. ولكن هذه امليزة هي التي تجعل
رؤية النموذج رؤية دينية. وهكذا، فعندما أستعمل كلمة »منوذج« أعني النظام
الفكري املتأصل يف قلوب وعقول ونفوس الناس. هذا النظام هو املبدأ الفعيل
لسلوكهم، ليس فقط يف املجال الديني، بل يف جميع املجاالت الحياتية أيضا. وكل
مجال من هذه املجاالت ميثل نوعا منوذجيا من السلوك. وكل واحد منها يستمد
صفته النموذجية من كون هذه املجاالت األجزاء التي يتكون منها النموذج الثقايف،
وبصورة أدق األجزاء التي يتكون منها جوهر ودينامية »رؤية العامل« )World
view )املتضمنة يف هذا النموذج.

23
مفهوم النموذج األخالقي
تكتسب الثقافة صفتها النموذجية من رؤيتها للعامل، ألنها تستمد وحدتها
وتكاملها وحيويتها من فهمها للعامل والحياة اإلنسانية. والنظرة إىل العامل هي يف
جوهرها عبارة عن تنظيم وتحويل هذا الفهم إىل طريقة حياة. كل نوع منوذجي
من السلوك يعرب عن ٍ بعد مهم من أبعاد الحياة الثقافية. أقول »حياة« ألن
كلمة »ثقافة« ال تشري إىل مجرد فكر أو إىل نوع من النظام الفكري املجرد، بل
إىل يشء موجود، إىل واقع فعيل معيش، إىل طريقة حياة. وأساس هذه الطريقة
هو املعتقدات والقيم التي تعتنقها الجامعة. هذه املعتقدات والقيم تتحول إىل
وقائع داخل شبكة الثقافة– يف األعراف والطقوس والرموز والتقاليد والنزعات،
ويف استجابات أعضاء الجامعة للعامل، دينيا وفلسفيا وجامليا؛ ويف طريقة تحقيقهم
للسعادة، وخاصة يف فهمهم للكائن اإلنساين. تدور حياة الكائنات اإلنسانية ضمن
حدود الثقافة، والثقافة مصدر هويتهم كأفراد.
غري أن الثقافة ال توجد كواقع خارجي يخطط ويوجه حياة األفراد، كام يفعل القائد
العسكري الذي يخطط ويوجه سلوك جنوده. الثقافة توجد يف عقول األفراد، يف نسيج
شخصياتهم. هناك تتجذر، يكتسبها الفرد كطبيعة ثابتة، يف مسرية النمو االجتامعي.
مثال، عندما أتجاوز سن املراهقة أكتشف أنني أمرييك أو صيني أو سوري أو أملاين،
أو **** أو ***** أو يهودي، أو هندويس أو بوذي، وأيضا أكتشف أنني ذكر أو
أنثى، وأنني أمتلك شعورا سياسيا وأخالقيا واجتامعيا وجامليا ودينيا معينا. باختصار،
أكتشف أنني فرد خاص، ولدي رؤية معينة للعامل والحياة اإلنسانية واملصري اإلنساين.
بكلامت أخرى، أكتشف أنني أفكر وأشعر وأفعل بطريقة معينة. وبالتايل، أكتشف
أنني أنتمي إىل أرسة معينة وأعيش يف مدينة معينة ودولة معينة وسنة معينة وعرص
معني. من أين أتت ذايت، الذات التي هي الفرد الجزيئ؟ وإذا ألقيت نظرة فاحصة
عىل مصدر هذه الذات فسوف أكتشف أن هذا املصدر هو الثقافة التي نشأت فيها.
لكن أين هذه الثقافة؟ كيف أتت إىل حيز الوجود؟ كيف صنعتني؟ ال ميكن للمالحظة
االعتيادية أن تكتشف واقعا ماديا أو نفسيا- منطقيا ميكن تسميته »الثقافة«. عندما
أحاول التفتيش عن تفصيالت الثقافة يف محيطي االجتامعي واملادي، فإن كل ما
أجده هو أشياء طبيعية ومصنوعة من قبل اإلنسان، وحيوانات، وكذلك كائنات برشية
تسلك إىل حد كبري كام أسلك. ال أجد شيئا اسمه »ثقافة«، عىل النحو الذي أجد به

24
الصداقة
الشجرة أو الجبل أو الكلب أو سقراط. وكام ترى، فالثقافة ال توجد هنا أو هناك، يف
متحف ما، أو يف مكتبة الجامعة، أو يف أي مكان ما يف نظام الطبيعة، هي ليست شيئا
مصنوعا أو شيئا من أي نوع، إنها توجد يف عقول وقلوب ونفوس الناس، وتحركهم
يف أنشطتهم من الداخل. وتتم هذه الحركة بواسطة املؤسسات التي تشكل بنية
املجتمع: األرسة والقانون واملدرسة واملسجد والفن واملنظامت االجتامعية. واآلباء
واألساتذة ورجال الدين والشيوخ والكتب واألعامل الفنية والتلفزيونية والعادات
واألعراف هي األدوات التي تجري من خاللها عملية التثقيف، أي بنقل املعتقدات
والقيم األساسية إىل عقول وقلوب ونفوس الجيل الناشئ. واليشء الذي ينقل يف
الواقع هو مبادئ سلوكية، من ناحية، ونظرة إىل العامل، من ناحية أخرى. لكن، كيف
ميكن لهذا النظام الثقايف الهائل أن يدير حياة الناس االجتامعية والروحية؟ دعوين
أقر لفوري بأن الثقافة ال تسقط من السامء لتتسلل إىل عقول وقلوب ونفوس الناس.
الواقع أن الثقافة هي سبب وجود املجتمع. ال ميكن ملجموعة من الناس أن تصبح
مجتمعا إال عندما متتلك نظرة ثقافية، بغض النظر عام إذا كانت هذه الثقافة بدائية
أم متقدمة، فامتالك الثقافة )أو الحس الثقايف( هو الذي يحول هذه املجموعة إىل
مجتمع. عندما أكتشف أنني فرد، أكتشف يف تلك اللحظة أن الثقافة التي تنبض يف
عروقي الروحية هي طريقة حياة مؤسسة يف وقت مىض. عندما أتأمل هذه الحقيقة
مليا أكتشف أن هذه الثقافة انتقلت من جيل إىل جيل، وأن وسيلة هذا االنتقال
هي املؤسسات التي تشكل بنية املجتمع. وأكتشف أيضا أن الثقافة سلطة ال يستهان
بها يف حياة األفراد املنتمني إليها. ملاذا يحدث ذلك، أو كيف يحدث؟ هذا ليس جزءا
من بحثي هنا. غري أنني أشري إىل هذه النقطة ليك أشدد ثانية عىل أن الثقافة توجد
يف عقول وقلوب ونفوس الناس الذين يعيشونها، أو الذين عاشوها. ونحن نعرف أن
هناك ثقافة ما، حية كانت أو ميتة، عندما نعرف كيف يعيش )أو كيف عاش( الناس
الذين ينتمون إليها، ونعرف كيف يعيش الناس عندما نعرف كيف يسلكون، ونعرف
كيف يسلكون عندما نعرف أعاملهم الفنية والدينية والسياسية والعلمية والفلسفية
والتكنولوجية واألخالقية واالقتصادية واالجتامعية. أعاملهم تجسد طريقة حياتهم،
وتجسد أيضا نظرتهم الثقافية. لهذا ميكن القول إن )أ( داخليا الثقافة توجد يف عقول

.
)1(
وقلوب ونفوس الناس و)ب( خارجيا توجد يف أعاملهم

25
مفهوم النموذج األخالقي
فإذا كانت الثقافة تعيش يف قلوب وعقول ونفوس شعب ما، فيمكن االستنتاج
أنه توجد عالقة مبارشة، بل سببية أيضا، بني النموذج الثقايف وطريقة سلوك أعضاء
الجامعة، أو بني النموذج الثقايف والنامذج السلوكية املختلفة. بداية ألن املعتقدات
والقيم الفاعلة يف حياتهم كمبادئ سلوكية عىل املستويني الفردي واالجتامعي تنبثق
أساسا عن النموذج الثقايف، وبصورة أدق عن رؤيتهم للعامل، ألن هذه الرؤية هي
وحدة هذه املعتقدات والقيم. ويتولد عن تغلغل هذه املعتقدات والقيم يف نسيج
الثقافة ما أرشت إليه سابقا بأنه »الروح« الثقافية. هذه الروح متكننا من الكالم عن
»النظرة الثقافية«، ألنها تحدد طريقة تفكرينا وشعورنا وأفعالنا. لنأخذ عىل سبيل
املثال القول الشائع بأن الثقافات الرشقية تتميز بالسمة »الروحية« أو الصوفية أو
املتسامية )transcendental)، عىل عكس الثقافة الغربية التي تتميز بالسمة العلمية،
أو الواقعية، أو العقالنية. كيف كان للفارق بني الثقافتني أن يوجد لوال اختالف النظرة
إىل العامل، التي قامت عليها الثقافة الرشقية، عن النظرة التي قامت عليها الثقافات
الغربية؟ النظرة إىل العامل تخلق يف ذات الفرد نزعة »أو موقفا« تجاه العامل– ندرك
وجود هذه النزعة يف األعامل الدينية والفنية والفلسفية واألخالقية واالجتامعية،
وبخاصة يف مجريات حياة الناس وطريقة تحقيقهم للسعادة. وتخلق هذه النظرة
أيضا ما سامه بعض الفالسفة وعلامء األنرثوبولوجيا الحس الثقايف. هذا الحس هو
املصدر األسايس للحدس الذي يغذي الفعل املبدع يف جميع ميادين التجربة اإلنسانية.
وهو الذي يشكل مضمون القيم الرئيسية املهمة يف حياتنا كأفراد وجامعات. هل كان
لهذا أن يتخلق إذا مل ينبثق عن فهم الجامعة للعامل والحياة اإلنسانية؟
سوف أبحث بالتفصيل يف اشتقاق قيمة واحدة، هي بالتحديد قيمة الصالح
األخالقي، التي هي مبدأ التمييز األخالقي، يف الفصول اآلتية، عندما أناقش النامذج
اليونانية والهلنستية والقروسطية والحديثة واملعارصة: كيف يحدث هذا االشتقاق
يف كل من هذه النامذج؟ غري أن النقطة التي يجب الرتكيز عليها اآلن هي أن تربير
استيعاب أو استبعاد الصداقة من النظرية األخالقية سوف يعتمد يف النهاية عىل
كونها، أو عدم كونها، موجودة يف النموذج الثقايف للجامعة، ومن ثم يف النموذج
األخالقي، ألنه ال يكفي أن نقول إن الصداقة حاجة إنسانية، إذن يجب اعتبارها
قيمة أخالقية مركزية. بيد أنه يتعني أيضا أن نفرس ملاذا هي حاجة أساسية. ولن

26
الصداقة
ٍ نستطيع القيام بهذا التفسري من دون تحليل واف لتطور النموذج عىل املستويني
الثقايف واألخالقي، ألنه تفسري ألصل الصداقة كقيمة أخالقية- مصدرها وعالقتها
بالخري األسمى ودورها يف حياة اإلنسان. ومعرفة هذا الدور هي املبدأ األسايس الذي
يربر استبعادها أو استيعابها يف النظرية األخالقية.
1 ّ - بنية املحاجة
هذا هو السبب الرئيس وراء أن محاجتي يف هذا الكتاب تتكون من جزأين، يف الجزء
األول سأحاول أن أبني ملاذا أخطأت النظرية األخالقية يف العصور الوسطى والحديثة
واملعارصة عندما استبعدت الصداقة من النظرية األخالقية. ويف الجزء الثاين سأجادل
بأنه من الرضوري تضمني الصداقة يف طيف القيم األخالقية املركزية. ويف الجزء األول
سوف أستعمل مفهوم النموذج األخالقي عندما أدفع بأن إهامل الصداقة يف العصور
الثالثة املاضية كان غري مربر. هنا سوف أحلل النامذج األخالقية لهذه العصور الثالثة
)الفصول الرابع والخامس والسادس(. والغاية من هذا التحليل الكشف عن األرضية
التي ترتكز عليها حجتي عىل املستوى التاريخي واملنطقي. ويف الجزء الثاين سأدفع بأن
الصداقة حاجة إنسانية أساسية، لهذا يجب اعتبارها رشطا رضوريا للحياة األخالقية.
ومادامت رشطا رضوريا، ال يجوز إهاملها عند التنظري األخالقي. سأنجز هذا الجزء
من الحجة عىل مرحلتني: يف املرحلة األوىل سأحلل حجج نظريات الصداقة يف العرص
الهليني والعرص الهلنستي، وملاذا اعتربت حاجة إنسانية، ُمركزا بنحو خاص عىل ما دعا
الفالسفة القدماء إىل القول بأنها قيمة أخالقية مركزية. فالحجج التي قدمها الفالسفة
القدماء بقيت حتى يومنا هذا صلبة وشائعة القبول )الفصل الثالث(. ويف املرحلة
الثانية سأقدم تحليال عميقا لألساس األنطولوجي للصداقة. هنا سأدفع بأن الحاجة إىل
الصداقة تكمن يف الطبيعة اإلنسانية، يف بنية كياننا اإلنساين )الفصل السابع(.
2 - مفهوم تحول النموذج
دعونا اآلن نسأل: ماذا نعني عندما نتكلم عن تحول )shift )النموذج يف أي
نوع من أنواع السلوك، مثل السلوك الديني أو األخالقي أو العلمي؟ املطلوب هنا
هو أن نفرس كيف ميكن لنوع من السلوك أن يتغري بتوجهه من منط معني من

27
مفهوم النموذج األخالقي
التفكري والشعور والفعل، الراسخ يف عقول وقلوب ونفوس الشعب ملدة طويلة من
الزمن، إىل منط آخر. هذا السؤال يستدعي مالحظتني: األوىل، أن تحول النموذج
لنوع من السلوك يعكس تحوال عاما لتوجه ثقافة الجامعة، أي تحوال يف نظرتها
إىل العامل أو يف طريقة فهمها للعامل ولغاية الحياة اإلنسانية. هذا يعني أن تحول
النموذج ال يحدث كأمر منعزل، من دون تحول مامثل يف جميع النامذج السلوكية
األخرى، ألنها مرتابطة عضويا. وهي مرتابطة بهذه الطريقة ألنها تستمد وجودها
من مصدر واحد: الرؤية األساسية أو الفهم العام، أو رؤية للعامل هي التي تتأسس
عليها الثقافة. هذه الرؤية هي مصدر املعتقدات والقيم التي تشكل نسيج الثقافة،
وهي أيضا التي متنحها صفة الرتابط الداخيل، بحيث إن األنواع املختلفة من السلوك
تتكامل بعضها مع بعض. فكل نوع منوذجي من السلوك يسهم يف تعزيز حياة
الجامعة الروحية واملادية. وما متر به ثقافة ما يف تاريخ اإلنسانية من نهوض وتطور،
وما يعرتيها من انحطاط، ال يكون مجرد نهوض أو انحطاط هذا النوع من السلوك
أو ذاك، عىل الرغم من أن هذه العملية قد تبدأ بنوع واحد، بل صعود أو انحطاط
الثقافة برمتها. دعوين أرشح هذه النقطة ببعض األمثلة، ألنها تؤدي دورا حاسام يف
تثبيت صحة القول بأن تحوال يف نوع منوذجي من السلوك يعكس تحوال يف التوجه
العام للثقافة ككل. عندما انترش اإلسالم يف الجزيرة العربية، مطلع القرن السابع
امليالدي، مل يقدم للقبائل العربية مجرد تصور توحيدي *** أو مجرد نوع جديد من
السلوك يحل محل وثنية هذه القبائل، بل طريقة حياة جديدة. مفهوم األلوهية
الذي برش به النبي محمد )ص( استلزم إميانا بإله يطلب من عباده أن يعيشوا
بطريقة معينة: مل يقدم النبي محمد )ص( إىل العرب الهوتا أو فلسفة دينية، بل
طريقة حياة. حملت هذه الطريقة بني طياتها والدة لطريقة جديدة من السلوك
األخالقي واالجتامعي والسيايس والفني والتعليمي واالقتصادي. باختصار، كان ميالد
ثقافة جديدة. ومل تتالش الثقافة الوثنية إال عندما ترسخت هذه الثقافة الجديدة.
يف نهاية املطاف تأسست هذه الرؤية اإلسالمية للعامل كقوة أساسية أوىل يف حياة
الناس. ويف حالة ثانية، عندما قرر األمري الرويس ملقاطعة كييف فالدميري األكرب اعتناق
املسيحية األرثوذكسية، جاعال منها *** اإلمرباطورية خالل العقدين األخريين من
القرن العارش امليالدي، فهو مل يعتنق مجرد مفهوم جديد لإلله، حل محل الرشك

28
الصداقة
)polytheism )الذي ساد روسيا قرونا، بل اعتنق رؤية جديدة للعامل، فقد جلبت
البريوقراطية الدينية، التي أتت من القسطنطينية إىل كييف لنرش *** اإلمرباطورية
الجديد، أفكارا جديدة إلعادة بناء املجتمع الرويس وفقا ملعتقدات وقيم جديدة–
فنية ودينية وأخالقية واقتصادية وسياسية واجتامعية. ومل يحل الدين الجديد محل
طريقة الحياة الوثنية إال عندما ترجمت هذه املعتقدات والقيم إىل مؤسسات
اجتامعية وسياسية. ويف حالة ثالثة، التحول من النظام البطليمويس إىل النظام
الكوبرنييك يف الفلك مل يغري فقط مبادئ التفكري العلمي يف الفلك، بل أحدث أيضا
تغيريا يف جميع العلوم الطبيعية، وكذلك يف الفن والدين والفلسفة والقانون وفنون
الحكم واالقتصاد والرتبية. فالرؤية التي تقوم عىل مركزية الشمس )heliocentric )
يف نظامنا النجمي فتحت املجال مليالد رؤية جديدة للعامل، ألنها أحدثت تغيريا
جذريا يف توجه الثقافة األوروبية، جاءت الحداثة كنتيجة لهذا التغيري.
ثانيا، التحول الثقايف، أو التحول يف أي نوع من أنواع السلوك النموذجية، ال
يحدث فجأة، وال يحدث مبرسوم إمرباطوري أو بأمر مليك أو ديني. وبالتايل، نوع
هذا التحول ومسريته ال يتقرران وفقا ملخطط صممته لجنة دينية أو فلسفية أو
أيديولوجية. كال، التحول الثقايف عملية تطور تدريجي، ومن الصعب تحديد بدايتها
أو نهايتها. ويف أفضل األحوال ميكن تحديدها بشكل عام، أي ميكن تحديد بدايتها
ونهايتها خالل فرتة اجتامعية أو سياسية معينة، أو كنتيجة لثورة دينية أو علمية،
أو بعد نكبة اجتامعية أو كارثة طبيعية. إنها يف العادة عملية هادئة ال تكاد تكون
ملحوظة، ألن هذا النوع من التحول ليس حدثا ماديا بل روحي.
الثقافة طريقة حياة، ويقع التشديد يف هذه الجملة عىل كلمة »حياة«، بغض النظر
عام إذا كانت طبيعية أو إنسانية. الحياة نشاط خالص، وهي دامئا »عملية« ألن
جوهرها نشاط يدوم عرب الزمن وميكن وصفها بـ »دافع« أو »قوة حيوية« وهدفها
هو الوجود. فالحياة يف جوهرها دافع أو حافز للوجود ولالحتفاظ به ومتديد بقائها
بحد ذاتها. الحياة ليست ظاهرة قابلة للمالحظة الحسية، عىل الرغم من أننا
نستطيع أن نستشعر مجراها الدينامي باطنيا، حتى يف حاالت كهذه ما يستشعره
الفرد هو مجرى حياته الباطنية فقط. لقد جادل الحكيم هرياقليطس، الذي قال
إن الوجود تحول »عملية صريورة« )process)، بأن مصدر هذا التحول هو العقل

29
مفهوم النموذج األخالقي
)logos)، وأن هذا العقل يوجد خارج العامل الحيس. فالحياة هي التي تحرك املشهد
املتغري للطبيعة. ويف العامل اإلنساين املوقع األنطولوجي، أو إذا استخدمنا املجاز
املكان الذي تقطن فيه الحياة اإلنسانية، هو عقول وقلوب ونفوس أعضاء الجامعة،
أو األفراد املنتمني لتلك الجامعة. وعنارص هذه الحياة هي املعتقدات والقيم التي
تعتنقها والتي توجد عىل أرض الواقع كمبادئ سلوكية- كعادات، كتقاليد، كأعراف،
كآمال، كرغبات، كميول سلوكية، كطرق تجاوب مع العامل. إنها القوة الدافعة
للثقافة ولحياة الجامعة. هي، وهي فقط، القوة املثرية التي تدفعنا إىل السعي
وراء أهدافنا وسعادتنا. فامذا ميكن أن تكون »اإلنسانية«، تلك الصفة التي تجعلنا
كائنات إنسانية، من دون هذه املعتقدات والقيم؟ حقا، هذه املعتقدات والقيم
تؤدي دورا حيويا يف منو وتطور الثقافة، وهي أيضا أساس املؤسسات التي تشكل
:
)2(
بنية الجامعة السياسية واالجتامعية. دعوين أوضح ما قلته مبالحظتني
ُ األوىل: هذه املعتقدات والقيم مُثل. وباعتبارها ُمُثال، فهي مبادئ للتنظيم
االجتامعي والسيايس. الجامعة تنظم نفسها بطريقة معينة، وفقا لتصورها لطبيعة
الحياة اإلنسانية ومصريها. والوسيلة التي تؤدي إىل هذا الهدف هي بناء نظام
من املؤسسات: يف حكومة، قانون، أرسة، فن، مدرسة، اقتصاد، علم، تجارة، زراعة،
وغري ذلك من املؤسسات االجتامعية. وتحقق الجامعة هدفها كجامعة يف إطار
هذه املؤسسات، التي تجسد معتقداتها وقيمها. مثال، مؤسسة القانون تجسد مثال
العدالة، ومؤسسة الفن تجسد مثال النمو والتطور اإلنساين، ومؤسسة التجارة
تجسد مثال االزدهار االقتصادي. وهكذا فإنني أعتقد أن بناء هذه املؤسسات يف
مختلف مجتمعات العامل من أهم إنجازات اإلنسانية، ألن بناءها يعني بناء البيت
اإلنساين، حيث ينمو األفراد ويتطورون ككائنات إنسانية. نعم، نحن، بشكل عام،
جزء من الطبيعة وبيتنا هو الطبيعة، غري أننا يف الواقع نعيش يف املؤسسات التي
نبنيها، بغض النظر عام إذا كانت هذه املؤسسات هي املنزل أو املكتب أو املعمل
أو املزرعة أو الحديقة أو السيارة أو الباخرة أو الطريق الذي نسري عليه. نحن نعيش
يف هذه البيئة املصنوعة. ال نعيش يف الطبيعة بصورة مبارشة كام تفعل الحيوانات
بل يف البيئة املصنوعة. عموما، إطار هذه البيئة هو إطار الحضارة. أحجار بناء هذه
الحضارة هي األشياء التي يصنعها أو يبتكرها البرش يف مختلف األنشطة اإلنسانية:

30
الصداقة
العلم، الفن، التجارة، التكنولوجيا، الرتبية، الحياة العائلية. والحضارة تتجسد يف
ثقافة الشعب – يف روحه. ونتعرف عىل هوية ودرجة تقدم مجتمع ما بدراسة
حضارته. هل توجد طريقة أخرى ملعرفة الثقافات املاضية أو املعارصة؟ الحضارة
هي أفضل الطرق التي تصل بنا إىل روح الثقافة.
املالحظة الثانية: الثقافة ليست وجودا مجردا أو ساكنا، بل نوع من الحياة–
حياة إنسانية. هي موجودة يف الحارض، لكن الحارض دامئا قفزة اندفاعية نحو
اللحظة التالية– نحو املقبل، سواء كان الثانية أو الدقيقة أو اليوم أو األسبوع أو
السنة أو القرن– إنها قفزة اندفاعية نحو املستقبل. إذن، عندما نقول إن مجرى
ثقافة ما تحول فإننا نعني أن ثقافة حية تحول مجراها. كيف تحول مجرى
الثقافة الهندية أو الصينية أو الروسية؟ كيف ميكن لإلنسان الهندي أو الصيني أو
الرويس الذي مييش يف شوارع دلهي أو بكني أو موسكو أن يغري هويته الشخصية؟
التحول يف النظرة الشاملة للثقافة ليس حدثا عاديا، ليس ألنها تحيا يف عقول
وقلوب ونفوس الشعب فحسب، ولكن أيضا ألنها متأصلة يف نظام مؤسيس شديد
التعقيد. أي تحول يف طبيعة أو بناء هذه املؤسسات يستلزم تغريا يف طريقة تفكري
وشعور وسلوك املجتمع. وبالتايل، فأي تغيري يف هذه الطرق يستلزم تحوال يف
طبيعة هذه املؤسسات. لهذا السبب، أي محاولة لفرض ثقافة عىل مجتمع ما
محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ. أحدث محاولة فاشلة من هذا النوع كانت
محاولة فرض أيديولوجيا، أي طريقة حياة معينة، عىل الشعب الرويس يف القرن
العرشين. لقد فرض مهندسو الثورة الروسية يف العام 1917 نظاما راديكاليا من
املؤسسات واملنظامت االجتامعية والسياسية عىل الشعب الرويس، وتجاهلوا، كليا،
يف هذه العملية املعتقدات والقيم التي وّحدت املجتمع الرويس قرونا عديدة.
لكن هذا النظام كان إىل حد كبري مغايرا للمعتقدات والقيم التي كانت تنبض
يف عقول وقلوب وسلوكيات الشعب. اضطر الناس إىل أن يعيشوا يف إطار النظام
ولكن ليس كجزء من النظام. لهذا السبب، وبعد سبعني سنة من إنشائه، عندما
انهار االتحاد السوفييتي، وعندما سقط نظام املؤسسات واملنظامت »الشيوعي«،
اضطرت الحكومة إىل أن تتبنى نظاما جديدا. لكن ارتكز هذا النظام الجديد
عىل املعتقدات والقيم الروسية التقليدية. وهكذا أصبح البطريرك الرويس، الذي

31
مفهوم النموذج األخالقي
كان غائبا عن املشهد االجتامعي والديني أيضا خالل الحكم السوفييتي، واحدا
من أهم الشخصيات االجتامعية البارزة يف روسيا. نراه غالبا مع رئيس الدولة يف
املناسبات االجتامعية والسياسية كأنه يقول – طبعا رمزيا – بأن روح روسيا األم قد
عادت. باإلضافة إىل الدول اآلسيوية واألوروبية التي تقع عىل حدود روسيا الغربية
والجنوبية، وتقدم الصني مثال آخر عن حتمية فشل أي محاولة لفرض نظام من
املؤسسات واملنظامت غريب عىل شعب ما. فبمجرد أن انتهت الحرب العاملية
الثانية، تأسس يف الصني نظام جديد من املؤسسات واملنظامت، غري أن هذا النظام
مل يدم أكرث من ثالثني سنة. فبعد موت ماوتيس تونغ، الذي أسس هذا النظام
مبارشة يف العام ،1949 شعر أتباعه بحاجة ماسة إىل أن يبتعدوا عن األيديولوجية
املاركسية، وإىل أن ينعشوا املعتقدات والقيم الكونفوشية التي ارتكزت عليها حياة
الصني الثقافية التقليدية. لقد كان هذا اإلنعاش، ومازال، تدريجيا وبطيئا. فالصني
التي تنهض يف هذه األيام كقوة سياسية واقتصادية وتكنولوجية عاملية أقرب إىل
الكونفوشية منها إىل املاركسية.
وعندما أعلن إفالس النظام الشيوعي يف روسيا يف العام ،1989 واتخذت خطوات
رضورية الستبداله بنظام أقوى، مل يغري املهندسون الجدد للدولة الروسية بعض املؤسسات
السابقة فحسب، بل كتبوا دستورا جديدا. والدستور الجديد الذي كتبوه يعكس إىل حد
كبري نظرتهم التقليدية للعامل. هذا متاما هو ما فعلته بولندا والدول األخرى التي تحررت
من قبضة االتحاد السوفييتي. جميعها كتبت دساتري جديدة. يف هذه الخطوة افرتضت
ثالثة أمور: أوال، أن الدستور الجديد يجب أن يعكس معتقدات وقيم الشعب األساسية؛
هذا يتضمن أن تحوال يف نوع منوذجي من السلوك، مثال، الفن، يجب أن يعكس تحوال
يف التوجه العام للثقافة. غري أن منط وأسباب التحول يعتمدان عىل ظروف الشعب
ُ َّتاب الدستور
السياسية واالقتصادية والتكنولوجية والعلمية واالجتامعية. وثانيا، أخذ ك
البولندي الوضع الوجودي ملجتمعهم بعني االعتبار. كان هدفهم يتمثل يف دستور بولندي
يعرب عن روح الشعب، كام أرصوا عىل دستور يعالج احتياجات وآمال الشعب يف مرحلة
الحداثة. وكان هدفهم األعىل أن يكون هذا الدستور أداة للتقدم االجتامعي والسيايس
واالقتصادي والثقايف. ويف الواقع قدمت ورقة يف العام 1993 تعالج هذا املوضوع تحديدا

.)3(
في مؤمتر بجامعة وارسو كان موضوعها الدستور البولندي

32
الصداقة
ثالثا، عملية التحول يف رؤية مجتمع ما للعامل، ومن ثم التحول يف مؤسساته
االجتامعية والسياسية هي، كام ُ شددت سابقا، عملية تدريجية. مثال، عندما كانت
بولندا تناقش عضويتها يف االتحاد األورويب يف 2003 - 2004 اعرتض عدد من القادة
البولنديني عىل االتفاقية، ألن دستور االتحاد األورويب ال يعرتف بدور الكنيسة
الكاثوليكية يف تطوير الثقافة البولندية. ودستور كهذا، كام زعموا، يقلل من شأن
الرتاث الثقايف البولندي. لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية مؤسسة قوية يف بولندا.
لكنها تفقد تأثريها، تدريجيا يف معظم الدول األوروبية، خاصة بعد الحرب العاملية
الثانية. نعم، الثقافة تتغري، لكنها تتغري تدريجيا.
3 - تصور النموذج األخالقي
القيمة األخالقية والفعل األخالقي. يف مناقشة تصور النموذج األخالقي علينا أن
نبدأ بتفسري، أوعىل األقل برشح معقول، للقيمة األخالقية أو للخاصية )quality )
التي تضفي عىل فعل أو حالة ما صفته/ ها األخالقية. كيف ميكن لنا أن نربر القول
بأن الصداقة قيمة أخالقية مركزية ويجب أن تؤدي دورا بارزا يف النظرية األخالقية
إذا مل نؤسس هذا التربير عىل تفسري واف للقيمة األخالقية؟ وكيف ميكن لهذا
التفسري أن يكون وافيا إذا مل نربهن عىل عالقته مبصدره– الخري األسمى؟ إذن، من
الرضوري أن نوضح بقدر اإلمكان العالقة بني القيمة األخالقية والخري األسمى، ألن
هذا النوع من الخري هو أساس النموذج األخالقي، كام سأجادل.
النموذج األخالقي إطار مفهومايت )conceptual framework )يتشكل من
املعتقدات والقيم األخالقية للجامعة. وتشري عبارة »قيمة أخالقية« إىل تصورات
كالعدالة والصدق والشجاعة والشفقة والعفة والتسامح والشهامة والحكمة
والصداقة والتواضع. ونحن نستعمل هذه القيم كأساس للقواعد األخالقية،
ونستعمل القواعد األخالقية كأساس للفعل األخالقي: مثال، كن عادال، كن صادقا،
كن شجاعا، قل الحقيقة! ويكون الفعل أخالقيا عندما يحدث وفقا لقيمة مثل
العدالة أو الصدق أو الشجاعة، وغري أخالقي عندما ينتهك هذه القواعد، أي عندما
يكون ظاملا أو كاذبا أو جبانا. والفعل األخالقي، بحد ذاته، حادثة طبيعية، وكحادثة

طبيعية، فهو يفتقر إىل الصفة األخالقية أو الالأخالقية، ألن الصفة األخالقية للفعل


مفهوم النموذج األخالقي
ال تنتمي إىل الفعل عىل النحو الذي ينتمي به اللون أو الشكل أو االمتداد إىل
اليشء املادي. مصدر الصفة األخالقية للفعل األخالقي هو القيمة األخالقية التي
تعمل كأساس للفعل األخالقي. نحن البرش نضفي عىل الفعل الصفة األخالقية،
ألننا نعرف معنى وأهمية هذه القيمة األخالقية؛ وألننا نعرف أن الفعل األخالقي
هو مثال عىل نوع معني من القيمة األخالقية. قد يبدو نوع من الفعل يف مجتمعنا
ظاملا، لكن الفعل ذاته قد يبدو عادال يف مجتمع آخر. مثال، يف مجتمعنا يعد استعباد
الكائنات اإلنسانية منطا ظاملا من السلوك، لكنه كان عادال عند اإلغريق، ألنهم
اعتربوه مامرسة إنسانية طبيعية. لهذا، يجوز لنا القول بأن القيم األخالقية هي
ّ التي تعرف مجال الفعل أو السلوك األخالقي. وعلينا أال ننىس أنها هي التي تشكل
»األخالقية« املتوافق عليها يف مجتمع ما أو يف ثقافة ما.
فضال عن ذلك، ميكن إضفاء الصفة األخالقية عىل القوانني واألشخاص واملؤسسات
وحتى املجتمعات، ألن القيمة األخالقية هي مصدر الصفة األخالقية، وألنها مستقلة
عن الفعل أو اليشء. وميكن وصف أي من هذه الظواهر بأنها عادلة أو طيبة. ويكون
شخص ما شجاعا بقدر ما ميثل )هو أو هي( قيمة الشجاعة بفعله. لهذا نستطيع
القول بأن القيمة األخالقية هي مبدأ التمييز األخالقي، هي التي ّ تقرر أخالقية أو ال
أخالقية أي يشء، وهي أيضا التي تقرر الحدود األخالقية للجامعة، ألنها املبدأ الذي
ترتكز عليه تلك الجامعة، يف متييز أنواع السلوك األخالقي عن غريها من األنواع. لكن
القيم األخالقية ليست أساس القواعد األخالقية وليست مصدر أخالقية األفعال أو
األشخاص فحسب، بل هي أساس اإللزام األخالقي أيضا. القاعدة األخالقية ليست
مجرد توصية ألن نسري بطرق معينة، بل هي أيضا أمر ألنها تتضمن إلزاما بأن نسلك
)أو نفعل( وفقا للقيمة األخالقية الكامنة يف القاعدة األخالقية. والواجب هو ذلك
النوع من الفعل الذي ال ميكن يل أن أتخلص منه. لدي االختيار بأن أشارك أو ال
أشارك يف لعبة معينة أو أن آكل نوعا معينا من الطعام، لكن ليس لدي االختيار يف
أال أسلك بصورة عادلة أو صادقة أو شجاعة. مبدئيا، أنا دامئا ملزم بأن أكون عادال
وصادقا وشجاعا. أقول »مبدئيا« ألن اإللزام األخالقي يتضمن املقدرة عىل القيام
بالفعل األخالقي. كلمة »واجب« تتضمن يف هذا السياق »أستطيع«. عادة، ال تتوقع
من املريض أو الذين يعانون اضطرابا نفسيا أن يقوموا بواجباتهم دامئا. هنا نفرتض

34
الصداقة
أن الفعل األخالقي فعل مسؤول، واملسؤولية األخالقية تفرتض ثالثة رشوط: املعرفة
األخالقية واالختيار واملقدرة عىل الفعل؛ فال ميكن يل أن أتحمل مسؤولية أخالقية عن
فعل ما، إن مل أكن قادرا عىل إنجازه، وعىل معرفة معنى أن يكون الفعل أخالقيا،
وعىل أن أختاره لذاته. وإذا كان من واجبي أن أقول الصدق يف حالة ما، فعيل أن
أعرف ما معنى الفعل الصادق، وأن أعرف أن هذا النوع من الفعل واجب أخالقي
ويجب أن أكون مؤلف هذا الفعل، أي يجب أن يكون بإمكاين أن أفعله؛ وإن مل أكن
أعرف ذلك فكيف ميكن اعتباري مسؤوال عن عواقبه؟ قد يحدث الفعل )قرسا( وفقا
لرشوط مادية أو اجتامعية أو قانونية، وقد يكون مربرا من وجهة نظر اآلخرين أو
القانون أو من وجهة نظر الدين أو املجتمع، غري أنه لن يكون فعال أخالقيا. السؤال
عام إذا كنا نستطيع أن نوفق بني اإللزام األخالقي والحرية يف اختيار الفعل سؤال
صعب. وأنا أعتقد، يف الواقع، أنني بإمكاين أن أسلك وفقا للقاعدة األخالقية مبلء
إراديت بنقل مصدر اإللزام املتضمن بالقاعدة من املجتمع أو القانون أو اإلله أو الدولة
إىل إراديت؛ وهذا طبعا إذا جرى اختيار الفعل بناء عىل تفهم للقاعدة والدور الذي
تؤديه يف حيايت كإنسان. وهذه النظرة موجودة يف ثنايا تحليل ْكانت )Kant )يف »نقد
العقل العميل« و»املبادئ األساسية مليتافيزيقا األخالق«.
يف ذروة مرحلة املراهقة نكتشف أننا ملزمون بأن نسلك وفقا للقواعد األخالقية
للجامعة، ونسلم مبصداقية هذه القواعد بناء عىل سلطة املجتمع – الوالدين،
الشيوخ، األساتذة، الكهنة، األعامل الفنية، وباختصار الرأي العام. وكام أكد أرسطو
وهيغل وديوي، فإن الشخصية األخالقية تنجم عن تغلغل القيم األخالقية الكامنة
ّد فينا
يف القواعد األخالقية وترابطها الداخيل يف ذات الشخص. هذه العملية تول
توجها أخالقيا محددا يسمى )يف العادة( »الضمري األخالقي« أو »الحس األخالقي«.
وعندما أواجه مشكلة أخالقية، وعندما أدرك أن هذه املشكلة تستدعي القيام
بفعل معني وبالتايل بصنع قرار، فأنا ال أعتمد يف صنع هذا القرار، أو حتى يف
تنفيذه، عىل منط معني من السلوك؛ عىل األقل ليس بصورة مبارشة. إن ما أعتمد
عليه هو إدرايك الشعوري ملا هو حق وخري أو واجب. أنا أعتمد عىل ما ميليه عيل
ضمريي. وعىل عكس ما يظنه بعض الناس، فصوت الضمري ليس أعمى أو عشوائيا.
إنه حس مثقف، نوع من الحدس املعريف. ألنه ليس يف مقدوري أن أسمعه إذا

35
مفهوم النموذج األخالقي
مل أفهم نوع املشكلة التي أواجهها واملطلوب مني أن أفعله. هذا الصوت نوع
من »اإلدراك« أو البصرية، لديه القدرة عىل أن يفكر بطريقة خاصة ويستوعب
وقائع الحالة التي أواجهها؛ وهو يدرك حدسيا منط الفعل الذي يجب أن أقوم
به. هذا الصوت يتثقف ويتطور مع مسرية النمو االجتامعي، وهذه املسرية ال
تتوقف طوال حياتنا. وبعد أن يحدث الفعل يكون بإمكاين أن أحلل وأستخلص
نوع املنطق الكامن يف الحدس األخالقي الذي كان أساس القرار الذي صنعته.
غري أننا نعتمد عامة عىل أمناط مختلفة يف التفكري عندما نواجه مشاكل أخالقية
جديدة وصعبة. هنا، يف حاالت كهذه، نستعني مببدأ أخالقي أعىل، باملبدأ الذي
تنبثق منه القواعد األخالقية أو الذي يربرها، كام سأرشح بالتفصيل الحقا. غري أننا
يف مسرية حياتنا اليومية عادة ما نعتمد عىل ضمرينا. تقوم هذه امللكة بوظيفة
املرشد األخالقي. وهي ليست مجرد مصدر ملعرفة الخري والرش، الحق والباطل، بل
أيضا سلطة تعاقبنا عندما ال نقوم بواجبنا. عامة، يأتينا العقاب كشعور بالذنب أو
وخز الضمري. فضال عن ذلك، نحن نبتعد عن الذين يخالفون صوت الضمري ونشعر
بالسخط عندما نكتشف أنهم اختاروا فعلهم من دافع أناين أو انتهازي أو عندما
نعرف أنهم انتهكوا القواعد املتوافق عليها يف املجتمع. غري أن التظاهر بالسلوك
األخالقي أصبح طريقة حياة يف مجتمعنا. واملهم بالنسبة إىل الكثري من الناس
هو أن »يظهروا« باملظهر األخالقي أو يجعلوا اآلخرين يشعرون بأنهم أخالقيون
من دون أن يكونوا أخالقيني. هذا النمط من السلوك مفيد يف حاالت عديدة
وأصبح ظاهرة عامة ومنترشة يف املجتمع. العديد من الناس يسلكون بصورة دينية
ومحببة ولطيفة ومتسامحة ورشيفة وحنونة ومناسبة ومثقفة بحسب الطلب،
أي، من دون أن يكونوا كذلك! لست يف حاجة إىل أن أبرهن عىل هذا القول. ولكن
سأرشح معنى ما أقوله بوصف موجز لتجربة حدثت معي منذ عدة سنوات.
حاولت إحدى الطالبات أن تنتحر. كنت مرشدها وبالوقت نفسه كانت هي
سكرترييت. حدثت هذه الحادثة مساء يوم السبت يف منتصف الليل. كانت هذه
الفتاة مثقفة، باملعنى الصحيح لهذه الكلمة، عقليا وأخالقيا واجتامعيا. تلقيت
مكاملة هاتفية من صوت يرتجف من شدة األمل. وكان هذا الصوت صوت والدة
طالبتي. من صميم هذا األمل استطاعت أن تقول إنه عيل أن أحرض فورا إىل غرفة

36
الصداقة
العناية املركزة يف مستشفى القديسة ماري، ألن ابنتها آنجيليك حاولت االنتحار
وهي عىل وشك املوت. »سوف أكون معك بعد دقائق قليلة«! قلت لها.
وبالفعل، كنت يف غرفة العناية املركزة يف أقل من ربع الساعة. كانت آنجيليك
قد أخرجت عىل نقالة من غرفة العناية املركزة عندما وصلت. يف تلك اللحظة مل
أستطع فعل أي يشء ألن املمرض كان يحاول تركيب شبكة معقدة من األنابيب
تنقل األوكسجني والسوائل عرب فمها وأنفها. كانت واعية، عىل الرغم من أنها كانت
يف حالة واضحة من الهذيان. وقفت عىل مقربة من النقالة وأمعنت النظر يف
وجهها الذي كان يكتيس بصورة املوت. رافقت النقالة التي كانت تقودها إىل غرفتها
وبقيت إىل جانبها حتى وضعت يف رسيرها، لكنها استسلمت للنوم. يف تلك اللحظة
اتجهت إىل املمرض، وبعينني ممتلئتني بالحزن عربت له عن تقديري للطفه وحسن
معاملته للمريضة. كان جوابه فوريا عىل النحو التايل: »رسرت جدا مبا فعلته. ال
تشكرين من فضلك، وظيفتي هنا هي أن أكون لطيفا مع املرىض. أمتنى أن تقدم
تقييام جيدا إىل مديري«. شعرت بصدمة هادئة ترسي يف عروقي عندما سمعت
هذا الجواب. ّ احمر وجهي وارتبك عقيل، غري أنني استطعت أن أحول نظري عنه
إىل والدة آنجيليك. موجة عارمة من خيبة األمل والغضب اجتاحت وجهها! السلوك
األخالقي وظيفة! يا لألسف! لكن السلوك األخالقي ليس ثوبا نلبسه عند الطلب، إنه
تعبري عن الضمري، عن القلب األخالقي. إنه إحدى الطرق التي نعرب بها عن البعد
األخالقي لكياننا اإلنساين. لهذا السبب، السلوك األخالقي جزء ال يتجزأ من عملية
تحقيق الذات. غري أن الواقع هو أن بعض الناس يتجاهلون ضامئرهم، وألسباب
مربرة أو غري مربرة، ال نستطيع أن نستنتج أنهم ال ميتلكون طبيعة أخالقية أو أنهم
ال يعرفون، فكريا أو حدسيا، الفرق بني الحق والباطل، الخري والرش. تطوير هذه
الطبيعة جزء جوهري من عملية النمو التي منر بها ككائنات إنسانية، ككائنات
مثقفة. ال أفرتض بهذا القول وجود نظرة أخالقية كلية أو مربرة نهائيا. ما أفرتضه هو
أن األخالق والثقافة األخالقية عنرصان جوهريان يف جميع ثقافات العامل.
4 - تصور الخري األخالقي
لنفرض أن أحدا يتساءل: ملاذا يتعني عيل أن أكون أخالقيا؟ أو ملاذا يتعني عيل أن

37
مفهوم النموذج األخالقي
أكون مخلصا أو رحيام أو شجاعا؟ أو ملاذا يتعني عيل أن أقول الصدق أو أيف بالوعد؟
الجميع يتوقعون أن نسلك يف حياتنا العادية وفقا للقواعد األخالقية املتفق عليها
يف املجتمع. والجميع يتوقعون أن تكون أفعالنا صادقة وعادلة وشجاعة؛ وباختصار
أخالقية، حتى لو تعارضت هذه األفعال مع مصالحنا الشخصية. ويف الواقع، معظم
الناس يأخذون هذه القواعد مأخذ الجد ويحاولون السلوك وفقا ملا متيل عليهم
ضامئرهم، إال عندما، لسبب من األسباب، يستسلمون لليأس أو يفقدون األمل
من الحياة – عىل األقل، أعتقد أنهم يحاولون. بصيص من الشعور األخالقي يبقى
مشتعال يف قلوبهم، ويف بعض األحيان يشتعل حتى يف أحقر الناس. لكن عندما
نسأل ملاذا نأخذ القواعد األخالقية بعني الجد، فإننا يف الواقع نبحث عن تربير لهذه
القواعد؛ نبحث عن أسباب مقنعة، أسباب ِّمربرة– كرضورة للسلوك وفقا لها. ومن
ناحية أخرى، فإن أخذها بجدية يفرتض أنها صحيحة )VALID )وملزمة، عىل األقل
بالنسبة إىل الجامعة، وأنها تتميز باألهمية العليا، غالبا ما يتأسس هذا االعتقاد عىل
قيمة أو معتقد أسمى: قد يكون مثاال أو قد يكون الروح الكلية أو **** أو الخري
العام أو التقليد أو العقل. والجامعة ترتكز عىل هذه السلطة يف تربير قواعدها
األخالقية. مثال، إذا اتفق أنني أعيش يف جامعة ******، وأنني ***** صادق،
فإنني سوف أجادل بأنه من واجبي أن أحب اآلخر، ألن هذا الواجب ينبثق من
إرادة **** كام هي معلنة يف أفعال وتعاليم املسيح، وأيضا فأنا أؤمن بأن السلوك
وفقا إلرادة **** هو الخري األسمى يف حياتنا، أي إن واجبي الذي يلزمني مبحبة اآلخر
مربر ألنه ينبثق من إرادة ****. ولكن إذا اتفق أنني أعيش يف جامعة علامنية، وإذا
حدث أن هذه الجامعة تركز عىل العقل واملصلحة املتنورة يف تنظيم مؤسساتها
ومنظامتها، وأيضا يف إدارة حياتها، فقد أجادل بأنه من واجبي أن أسلك وفقا لقواعد
الجامعة األخالقية، ألن السلوك وفقا لهذه القواعد يساعد عىل نرش الخري العام. يف
هذه الحالة أرتكز عىل »خري الجامعة« الذي يشمل خريي، باعتباره السلطة العليا
يف تربير القواعد األخالقية. وقد قدم الفالسفة خالل القرون األربعة املاضية مناهج
متطورة لتربير القواعد األخالقية. ومن أهم هذه املناهج املنهج النفعي، والكانتي،

.
)٭(
واملثايل، والرباغاميت، والفضيلة، ومنهج أخالقية األخالق
)٭( ethics-meta، هو التحليل الفلسفي لحالة القيم الخلقية وأسسها وحدود مجالها وتعبرياتها . ]املحرر[.

38
الصداقة
مبا أن مسألة تربير املبادئ األخالقية مهمة بالنسبة إىل صوغ مفهوم النموذج
األخالقي، فسوف أوضح هذه املسألة مبناقشة مثال واحد– النفعية عند جون
)4(. بحسب ميل، الخري األسمى الذي يفوق بأهميته أي خري آخر،
ستيوارت ميل
والذي يجعل حياتنا جديرة بالعيش، هو السعادة. كل خري نستهدفه يف حياتنا
هو وسيلة لتحقيق الخري األسمى، مبعنى أننا إذا نظمنا هذه الخريات كهرم فإن
السعادة ستكون عىل رأسه. إحدى هذه الخريات هي القيم اإلنسانية. وكام أرشت
سابقا، فهذه الخريات تشكل النظام األخالقي للمجتمع، وهي، كام رأينا، أسس
القواعد األخالقية املعرتف بها يف املجتمع. ويكون الفرد أخالقيا بقدر ما يسلك
وفقا لهذه القواعد. الحياة األخالقية منط وجوٍد يف العامل. الفرد الذي يختار منط
حياة مجتمعه يثمن القيم األخالقية التي يتبناها يف سلوكه، لهذا السبب يأخذها
بعني الجد وال يحيد عنها. واآلن دعونا نسأل امرأة اسمها ليندا تعتنق نظرة جون
ستيوارت ميل: »ملاذا تسلكني بصورة أخالقية؟« أو بصورة أدق، »ملاذا تسلكني
بصورة عادلة ورحيمة وشجاعة؟«، وسوف نفرتض بإثارة هذا السؤال أن هذه
املرأة فعال تسلك بصورة أخالقية إما ألنها تتميز بنزعة أخالقية أو انطالقا من
شعور بالواجب، وهذا يعني أن سلوكها ينبثق عن شخصية أخالقية، عن شعور
أخالقي معني. وهكذا، فسؤالنا ال يبحث حالة نفسية كحافز للسلوك، بل يبحث
عن أسباب مربرة لطريقة سلوكها: هل هي مربرة يف هذا الشعور؟ هل لديها سبب
مقنع ألن تسلك أخالقيا؟ وبالتايل، سوف نفرتض أن الجامعة قد تعرتف أو ال تعرتف
بالقواعد األخالقية التي تتبناها يف حياتها، وسوف نفرتض أيضا أنها تسلك وفقا
لتصور جون ستيوارت ميل للحياة األخالقية. حسنا، كيف ستجيب عن سؤالنا؟ ما
منط التفكري املنطقي الذي ستتبناه يف جوابها؟ بكل تأكيد سوف تبدأ بالقول إنها
تسلك أخالقيا ألن هذا النمط من السلوك يساعد عىل نرش السعادة العامة، أي إن
القيم األخالقية التي ينطوي عليها مفهومها ملعنى السلوك األخالقي سوف تعزز
السعادة، وسوف تضيف أن السعادة هي خريها األسمى، وأن هذا الخري هو أساس
أفعالها، هي تعيش به ومن أجله. هذا الجواب معقول، لكن لنفرتض أننا وجهنا
إليها السؤال التايل: ماذا تعنني بالسعادة؟ باعتبارها أحد أتباع ميل، سيكون جوابها
الفوري عىل النحو التايل: »السعادة« تعني بالنسبة إيل »اللذة«. ليست هناك

39
مفهوم النموذج األخالقي
حاجة إىل أي بحث مفصل ملعنى اللذة، لكن دعونا نناقش العالقة بني السعادة
والخري األسمى والقيم.
يبدو واضحا من املناقشة السابقة أن الفرد يسلك بصورة أخالقية ليك يكون
سعيدا: الفضيلة وسيلة، ليست غاية بذاتها، الغاية هي السعادة. قد يرى البعض
أن هذه النتيجة غريبة، ألنهم يعتقدون أن الفضيلة قيمة جوهرية )intrinsic )
مبعنى أنه يجب أن ننشدها كغاية يف ذاتها. غري أن أتباع ميل يعتربون هذا النمط
من التفكري خاطئا، ألن الدافع األول يف الطبيعة اإلنسانية يستهدف السعادة، وليس
الفضيلة. علينا أن نعترب كل يشء ننشده ثانويا، بل ووسيلة لهذا الهدف األسمى.
لكن الناقد قد يجادل بأن الفضيلة قيمة نبيلة. لهذا إذا فضلنا عليها السعادة فإننا
نهمش ونحط من شأن الفضيلة. ولكن، بالعكس، سوف يعرتض املؤمن بفلسفة جون
ستيوارت ميل بالقول إن الفضائل قيم رفيعة ورمبا يجب أن نعتربها جوهرية، لكن
إذا اعتربناها رفيعة، أو جوهرية، فذلك ألنها أفضل وسيلة للسعادة، فهي تستمد
رفعتها وجوهرها النبيل من هذه الحقيقة. إذا أجرينا دراسة نقدية وبحثية ملصدر
القيمة فسوف نكتشف أن الهدف األول والرئييس يف حياة البرش هو السعادة،
وأنهم يقدرون الوسيلة التي تؤدي إليها، والتاريخ اإلنساين يبني أن الفضيلة ليست

.
)5(
سوى رشط جوهري لتحقيق السعادة
قد تكون هذه الحجة، أو ال تكون، مقنعة، غري أنني عرضت بنيتها األساسية
فقط ليك أسلط أكرب قدر من الضوء عىل العالقة بني القاعدة األخالقية والخري
األسمى، وبالتايل بني الخري األسمى والفعل األخالقي. التأكيد عىل أن السعادة هي
الخري األسمى يف الواقع يعني أن الخري األسمى هو مبدأ التمييز األخالقي، وبالتايل
فهو املعيار األعىل للتقييم األخالقي، لهذا ميكن القول بأنه مصدر الصفة التي تضفي
عىل الفعل أو الشخص أو القانون صفته األخالقية. وبإمكانه أن يقوم بهذه الوظيفة
فقط ألنه الخري األسمى، أي ألن »قيمته« تعلو عىل كل قيمة أخرى. لهذا السبب
فهو أساس مبدأ املنفعة، الذي يعتربه ميل املبدأ األعىل للتقييم األخالقي: »العقيدة
التي تتبنى مبدأ املنفعة كأساس لألخالق أو ملبدأ السعادة العامة تقول إن األفعال
تكون صائبة )Right )بقدر ما تنرش السعادة، وخاطئة بقدر ما تنرش ما هو عكس
)6(. إذن فمن يتبع ميل سوف يربر السلوك وفقا للقاعدة األخالقية، أو
السعادة«

40
الصداقة
سوف يربر شعوره باإللزام األخالقي، أو شعوره بالواجب لاللتزام بالقاعدة األخالقية،
مثل »كن صادقا!«، بأن يلتزم بذلك ألن فعله املرتقب سوف ينرش السعادة. الكلمة
املحورية يف هذه الجملة هي »ألن« التي استعملت لتبيان املربر، ويف هذا السياق
لتبيان مربر السلوك وفقا للقاعدة األخالقية. غري أن القاعدة األخالقية ليست
سوى قضية عامة، أو أمر. فهي ال تشري مبارشة إىل حاالت أو أفعال أخالقية جزئية
بل إىل نوع من الحاالت أو األفعال، تلك التي تتسم بصفة أخالقية معينة، مثل
الصدق. يف عدد كبري من الحاالت يكون يف مقدور الناس أن يصدروا أحكاما تقييمية
مبارشة لحاالت من الصدق وأن يصدروا أحكامهم عىل حاالت النزاهة. وعادة ما
يكتسبون املهارة يف التقييم وإصدار األحكام بالتجربة. لكن يف بعض األحيان تكون
حاالت الصدق غامضة أو صعبة أو من الصعب تحديدها. يف حاالت كهذه ال ميكن
االستعانة بالقواعد األخالقية أو حتى بالحدس األخالقي للفاعل، ألنه يستحيل عىل
أي منها أن يصدر حكام جزئيا. كيف يتعني عىل الفرد أن يسلك يف حاالت كهذه؟
هنا يأيت دور املعيار األعىل للتقييم األخالقي. وبحسب ميل، يف حاالت كهذه علينا
أن نستعني مببدأ املنفعة، ألنه املنرب األعىل يف تقييم األفعال األخالقية. وكام نرى،
فإن القواعد واألفعال األخالقية، بل وأي حالة أخالقية، تستمد صفتها األخالقية من
املبدأ األخالقي، أو بكلامت أخرى من تصور الفيلسوف للخري األسمى. هذا التصور
هو أساس الفعل األخالقي ومن ثم النظرية األخالقية.
5 - الخري األخالقي والقواعد األخالقية
ال نستطيع تحقيق سعادتنا أو خرينا الحقيقي بأفعال أو مناسبات قليلة أو يف
فرتة زمنية محددة. السعادة مسرية متصلة من التحقق. ويحتاج الفرد إىل عمر كامل
ليك يحققها. مبدئيا ألنها ليست حادثة أو حالة نفسية، بغض النظر عن نوعها،
لكنها خاصية )أو مزاجية( تنبثق من السلوك األخالقي كطريقة حياة. قد نشعر
بالسعادة يف بعض األحيان، غري أنها ليست شعورا. وهكذا، مبا أن القيمة األخالقية
هي أساس الفعل األخالقي، ومبا أن حياة اإلنسان تساوي مجموعة األفعال التي
عاشها يوميا طوال حياته، فتحقيق السعادة هو عملية تعتمد عىل نوعية الحياة
التي يعيشها الفرد. لهذا علينا أال نستهدف السعادة كغاية ميكن تحقيقها يف لحظة

41
مفهوم النموذج األخالقي
أو فرتة زمنية معينة، بل هي نوع من الحياة، أي نوع من السلوك، الذي ميكن أن
يقوم عىل الخري األسمى. هل يبدو أن هذه النتيجة تنطوي عىل يشء من التناقض؟
كال! السلوك األخالقي رشط رضوري للحياة الخرية. سعادتنا تزداد بقدر ما نرتقي
يف الحياة األخالقية. لهذا السبب فإن اإلنسان السعيد ال يكرتث للصعوبات واآلالم
واملحن التي يواجهها يف حياته. من الخطأ الظن بأن السعادة »واقع« ميكن متييزه
واستهدافه، ماديا كان أم نفسيا. اليشء الوحيد الذي ميكن أن نستهدفه هو الفعل
الصالح. لقد تجنبت تعريف أو تحليل مفهوم الخري بالتفصيل ألن غايتي هنا ليست
رشح أو تقييم النظرية األخالقية عند جون ستيوارت ميل، بل حاولت فقط توضيح
العالقة بني تصور الخري األسمى والقواعد األخالقية يف نظام ثقايف معني.
ال أكون مبالغا إذا قلت إن الخري الذي يربر السلوك وفقا للقواعد األخالقية
يتجسد، أو يظهر جليا يف القواعد ذاتها، أو بكلامت أخرى، إن القواعد األخالقية
تجسد فهم الجامعة ملعنى وأهمية الخري األسمى. أعتقد أنه بإمكان هذا الخري
أن يربر السلوك وفقا للقواعد األخالقية، والخري الذي ال يربر هذا السلوك سيبقى
خارجيا، مبعنى أنه ال توجد عالقة جوهرية بينه وبني السلوك. كيف ميكن لفعل
أقوم به أن ينبثق من شعور باإللزام األخالقي إذا كانت القاعدة التي تلزمني أخالقيا
ال تعرب عن الخري األسمى يف حيايت؟ وهل ميكن لذلك الفعل أن يكون أخالقيا إذا
مل يصدر عن إراديت؟ لهذا السبب، وبغض النظر عام إذا كانت القوة سياسية أو
اجتامعية أو دينية أو مادية أو اقتصادية، ال ميكن لها أبدا أن تكون مصدرا لإللزام
األخالقي. اإلرادة، جامعية كانت أم فردية، هي املصدر األعىل لإللزام األخالقي.
وعىل الرغم من أن التحليل السابق للعالقة بني الخري األسمى والقواعد
األخالقية موجز، فإنه يبني بكل وضوح )1( البنية املنطــقية للتفــكري األخالقــي
)2( الوظيفة الرئيسية للنظرية األخالقية. أوال، التفكري األخالقي هو العملية الفكرية
التي تؤدي إىل الحكم األخالقي الصحيح. ويف الحالة األخالقية )situation moral )
يكون همنا األول تحديد مسار الفعل الصائب أو الصالح أو األخالقي- الحل السليم
للمشكلة األخالقية التي نواجهها. ميكن التعبري عن هذا االهتامم بالسؤال التايل:
ما الذي يتعني عيل فعله يف هذه الحالة؟ واإلتيان بالعمل الصائب هو اإلقدام عىل
املسلك الصحيح أو اختيار مساره. ومعظم املشاكل األخالقية التي نواجهها يف حياتنا

42
الصداقة
اليومية ليست إشكالية. وكام ذكرت سابقا فنحن نستطيع حلها بقوة العادة أو
الفطرة السليمة أو الحدس األخالقي. لكن عىل الرغم من أنها ليست إشكالية، فإن
الشعور األخالقي الذي يصدر الحكم األخالقي، ومن ثم الفعل األخالقي، يتميز يف
جميع هذه الحاالت مبنطقه الخاص. يظهر هذا املنطق، بوضوح أشد، يف الحاالت
اإلشكالية، يف حاالت جديدة، أو غامضة أو معقدة، أو يف حاالت تنطوي عىل تضارب
بني القواعد األخالقية أو تضارب بني القيم األخالقية. يف حاالت كهذه تتفحص ملكة
الحكم األخالقي منطق الحالة األخالقية، يف العمق. ويف هذه العملية، هي تتحرك
بني حقائق املعضلة األخالقية التي أثارت اإلشكالية، والقواعد األخالقية، واملبدأ
األعىل الذي ّ يعرف الخري األسمى. وهدفها من هذه العملية هو اكتشاف أساس
الفعل املرتقب. ال نستطيع اكتشاف هذا األساس يف القاعدة األخالقية ألنها عامة
وال تحتوي عىل أي أمر أو إشارة إىل املشكلة التي نواجهها، بل فقط إىل صفتها
األخالقية الصورية )formal). واملستهدف بالقاعدة األخالقية ليس مخاطبة، أو
معالجة، مشاكل أخالقية جزئية نواجهها يف هذه اللحظة أو تلك، ويف هذا السياق
أو ذاك. املستهدف هو نوع من املشاكل تتعلق باألفعال الصادقة أو الشجاعة أو
العادلة. بيد أن السؤال امللح يف الحياة العملية هو: كيف يكون باستطاعتي أن
أسلك بشجاعة أو صدق أو محبة؟ املطلوب هنا هو نوع خاص من التفكري يرتجم
املعنى الكامن يف القاعدة األخالقية إىل حكم جزيئ. لكن عندما تكون هذه الرتجمة
صعبة يتعني عىل الفرد الذي يواجه املشكلة اللجوء إىل الخري األسمى ألنه املعيار
األعىل للتقييم األخالقي. دعوين أسلط الضوء عىل املنطق الكامن يف هذه الحالة
مبثال: لنفرض أن مارقا يدعى جو، وهو أحد أصدقايئ، طلب مني االختباء يف بيتي
ألن رجال األمن يالحقونه، ولنفرض أنني تعاونت معه ووعدته بأنني لن أفيش رسه،
ولنفرض أيضا أن رجال األمن تشككوا يف مخبئه وراحوا يفتشون املنطقة، بيتا بيتا.
وعندما وصلوا إىل بيتي تساءلوا بكل وضوح عام إذا كان هذا املارق موجودا يف
بيتي أو عام إذا كنت أعرفه: هل من واجبي أن أنطق بالصدق؟ القاعدة األخالقية
تقول: كن صادقا! لكن ما الواجب عيل يف هذه الحالة الجزئية؟ كيف أصدر الحكم
السليم؟ إذا نطقت بالصدق فإنني سأتسبب يف إرسال إنسان بريء إىل السجن ورمبا
إىل اإلعدام، لكن إذا كذبت بهدف حاميته فسوف أنتهك القاعدة األخالقية التي

43
مفهوم النموذج األخالقي
تأمر بالصدق، علام بأنه من واجبي احرتام هذه القاعدة. يف هذه الحالة أواجه
قاعدتني متضاربتني، األوىل تقول: قل الصدق، والثانية تقول: احرتم حياة اإلنسان
الربيء. يف هذه املرحلة من حرييت األخالقية بإمكاين اللجوء إىل عملية من التفكري
األخالقي. أسأل نفيس: ما الهدف من هذه القاعدة؟ كيف ميكن لقاعدة هدفها
تعزيز حياة وسالمة الجامعة أن تسمح بقتل أو تعذيب كائن إنساين هو، واقعيا،
مفيد للمجتمع؟ هل يجوز يل االلتزام بأمر الصدق الكامن يف القاعدة األخالقية
بصورة عمياء ومن دون اعتبار للعنارص األخالقية األخرى؟ مثال، ويف هذه الحالة،
أليس من واجبي مساعدة البرش األبرياء الذين يعانون مصيبة قاسية؟ هل من
واجبي االلتزام بقانون سيئ أو بتطبيق سيئ للقانون؟ أرجو أن تالحظ، هنا، يف هذا
الخـط الجـديل، أنني ال أشكك يف صدق القاعدة، بل يف منهج تطبيقها. هي حتام
متصلة باملوقف الذي أواجهه، لكن هل هي القاعدة الوحيدة التي يجب أخذها
بعني االعتبار؟ بهذه الطريقة من التفكري، أنا أحاول اكتشاف الواجب األخالقي
املناسب ألننا قد نواجه أكرث من قاعدتني يف هذه الحالة. لكن لنفرتض أننا بصدد
قاعدتني فقط. مثال، إذا اخرتت حامية املفكر املارق جو من رجال األمن فإنني
سوف أقوض سلطة القانون، ألنني سأعتربه، ضمنا، قانونا باطال. وإذا قمت بهذا
الفعل فسوف أضع نفيس يف وضع شبيه بوضع املفكر املارق، ألنني، واقعيا، سأكون
خارجا عىل القانون مثله. وسط هذه الحرية األخالقية أسأل نفيس: ما الحل السليم؟
كيف يتيرس يل اكتشاف الواجب األخالقي يف هذه الحالة؟ ال أستطيع االستعانة
بأي شخص، ألن حكمي يجب أن يرتكز عىل فهمي للحالة – أي فهمي ملضمونها
وللمبدأ الذي سيكون أساسا حكميا، وباختصار، عىل الحكم أن ينبثق من إراديت.
السلطة الوحيدة الرشعية التي ميكن االستعانة بها يف هذه الحالة هي املعيار األعىل
للتقييم األخالقي، ألنه مصدر القاعدة التي سأرتكز عليها يف إصدار حكمي. يف
هذه الخطوة، وليك أتوصل إىل الحكم السليم، يتعني أن أعتمد عىل تقييم عنارص
الحالة التي أواجهها، وقائع الحالة التجريبية والعالقة بني القاعدة واملعيار األخالقي
األعىل، أي الخري األسمى. أدير حوارا بني هذه العنارص. مثال، هل السلطة السياسية
عادلة؟ يف نهاية املطاف ال ميكن لحكمي أن يتناقض مع املعنى الكامن يف الخري
األسمى، ألن هذا التناقض سوف ينزع املضمون األخالقي عن حكمي، وبخاصة

44
الصداقة
اإللزام االخالقي املطلوب يف صنع الحكم األخالقي، خاصة أن الخري األسمى هو مبدأ
التمييز األخالقي. طبعا هذا الوصف لصنع الحكم األخالقي موجز جدا ألن عددا
كبريا من العنارص يدخل يف عملية التقييم األخالقي. إن ما فعلته هنا هو عريض
لنموذج التقييم األخالقي املعتمد من قبل الفالسفة من أيام أرسطو إىل يومنا هذا.
وأعتقد أنه يوضح العالقة بني الخري األسمى والقواعد األخالقية واملكانة املركزية
للخري األسمى يف السلوك األخالقي.
ّ ثانيا، هذا النموذج عرف أيضا مهمة النظرية األخالقية، وهي دراسة السلوك
األخالقي، وبصورة أدق، دراسة القواعد واملبادئ األخالقية وتوضيح معاين القيم
األخالقية التي تحدد طبيعة املعيار والقاعدة األخالقيني. والسؤال املركزي يف
هذه املناقشة هو الخاصية التي تضفي عىل الفعل أو القانون أو الشخص صفته
األخالقية أو التي تضفي عىل أي ظاهرة صفتها األخالقية. والبحث يف هذه املناقشة
هو بحث يف املبدأ الذي يحدد الصفة األخالقية بجوهرها. وال ميكن للقواعد
األخالقية أن تكون هذا املصدر، ألنها معطاة كوقائع اجتامعية. لكن العكس
صحيح، فهي بذاتها تستمد صفتها األخالقية من مصدر أو مبدأ أعىل، فهي عديدة
ومتنوعة. مثال، الصدق يختلف عن الكرم أو الشفقة أو العدالة، وبالتايل تختلف
هذه القواعد األخالقية بعضها عن بعض مبعناها وأهميتها. وعىل الرغم من هذا
االختالف، فإن جميعها يشرتك ويتسم بالصفة األخالقية. كيف متتلك هذه الصفة
األخالقية؟ هل ميكن لهذه املشاركة أن تشري إىل مصدر أعىل؟ أضف إىل ذلك أن
معنى كلمة »أخالق« ليس واضحا وليس محددا، وعىل األقل ليس كليا، ألن ما
هو أخالقي يف جامعة معينة قد ال يكون كذلك يف جامعة أخرى، عىل الرغم من
أن مختلف الجامعات اإلنسانية تعتنق مجموعة مركزية من القواعد األخالقية.
ويف الواقع ما هو أخالقي ضمن الجامعة ذاتها قد يختلف من فئة إىل أخرى ويف
بعض األحيان من فرد إىل آخر. وباإلضافة إىل ذلك، فإن معنى وتطبيق القواعد
األخالقية يتغريان مع تقدم الزمن، لكن القواعد تدوم. مثال، اعرتف الناس بالقاعدة
»كن عادال!« يف أيام حمورايب منذ نحو أربعة آالف سنة. واعرتفت بها مختلف
املجتمعات اإلنسانية الواحد تلو اآلخر منذ ذلك الوقت، غري أن معنى هذه القاعدة
كان يتغري بصورة راديكالية. أال يشري هذا التغري إىل أن القواعد األخالقية تستمد

45
مفهوم النموذج األخالقي
مضمونها األخالقي من مصدر خارج عنها«، لكن الصعوبة يف صياغة تعريف أو
تصور واضح لجوهر الكيان األخالقي بذاته تزداد تعقيدا عندما نواجه يف هذه
األيام مشاكل أخالقية جديدة يف األبعاد املختلفة لحياتنا البيولوجية والتكنولوجية
واالقتصادية واالجتامعية والنفسية. غري أنه إذا مل يتيرس للقواعد األخالقية أن
تكون املصدر الذي يضفي عىل األفعال صفتها األخالقية، فام هو املصدر الذي
ميكن أن يقوم بهذه الوظيفة؟ لقد اكتشف الفالسفة، بناء عىل دراستهم التجريبية
للسلوك األخالقي، أن هذا املصدر هو نظرة الجامعة، أو تصورها للخري األسمى.
الخري األسمى فقط هو الذي ميكن أن يضفي الصفة األخالقية عىل األفعال والقوانني
واألشخاص واملؤسسات، حتى عىل القواعد األخالقية. وهذا الخري هو وحده الذي
ميكن أن يربر احرتامنا للقيم األخالقية املنبثقة منه، وهو أيضا الذي ميكنه أن يربر
الطاعة للقواعد املنبثقة منه. الهدف النهايئ للنظرية األخالقية كان ومازال فهم
معنى ومضمون الخري األسمى الكامن، أو الذي ُي ْفترَترَض أن يكون كامنا، يف مختلف
القواعد األخالقية.
6 - النظرية األخالقية والنموذج األخالقي
فالسفة األخالق ال يرشعون وال يصوغون األعراف أو القواعد األخالقية، ألنهم، أساسا،
ال يستطيعون خلق قيم أخالقية. هذه إحدى مهامت الكائنات البرشية يف سعيهم إىل
تحقيق ذواتهم ككائنات إنسانية. إنجاز هذا الهدف من أهم أولوياتهم، ألن السلوك
األخالقي رشط رضوري للبحث عن أي يشء جدير باالهتامم يف حياتهم- الجامل،
الحقيقة، املحبة، الحرية، العدالة، والهدوء النفيس. أما كفالسفة فمهمتهم هي فهم
طبيعة وأهمية السلوك األخالقي بنظرية أو نوع من النظام الفكري. وبصورة أدق،
مهمتهم هي الغوص يف عمق الروح األخالقية للجامعة واكتشاف البنية املنطقية
ودينامية القدرات األخالقية الكامنة يف جوهر الطبيعة اإلنسانية. وهدفهم من هذه
العملية البالغة األهمية هو استيعاب رؤية الجامعة للخري األسمى، ألن تصورا وافيا
لهذا الخري سيكون مصدر )أ( املعيار األعىل للتقييم األخالقي و)ب( القيم التي
تنبثق منه و)ج( القواعد األخالقية التي ترتجم هذه القيم إىل أمناط سلوكية أخالقية.
ميدان الخري األسمى يحدد إطار التنظري األخالقي، ألنه ميدان الوجود األخالقي بحد

46
الصداقة
ذاته. وال يجوز للفالسفة أن يتجاوزوا هذه الحدود، ألن هدفهم الرئييس هو إلقاء
أكرب قدر ممكن من الضوء عىل طبيعة القيم األخالقية والسلوك األخالقي واكتشاف
القدرات الكامنة يف الطبيعة اإلنسانية، فهم ال يستطيعون، إال بتحقيق هذا الهدف
املزدوج، تفسري طبيعة السلوك األخالقي أو اقرتاح مبادئ معيارية للتقييم ميكن
استعاملها يف تنظيم املجتمع وإصالحه. وأي محاولة لصياغة مبدأ كهذا، من دون
تأسيسه عىل الحس األخالقي الواقعي والحي للجامعة، سوف يشكل هروبا إىل
املثالية العاطفية أو املنفعية العاطفية، ومن ثم تجريد املبدأ من أهميته وعالقته
الوثيقة بحياة الجامعة. وبالتايل، فأي محاولة لصياغة هذا املبدأ من دون اعتبار
لإلمكانات الفعلية الكامنة يف الرؤية األخالقية ويف رغبات الجامعة، خاصة تلك
املتصلة بوضع أساس سليم لتنظيم وإصالح املجتمع، ستشكل استسالما للوضع
الراهن الراكد، وبالتايل فسوف تنزل باملبدأ إىل مجرد تقريرعلمي وصفي ملفهوم
الجامعة للقيمة األخالقية والسلوك األخالقي. يتميز الفيلسوف األخالقي بعقل
)٭(، بعينني مركزتني عىل املثال، الذي يشري إىل املايض، وعينني أخريني مركزتني
يانويس
عىل الحارض، أي عىل الطموحات األخالقية للجامعة التي تشري إىل املستقبل. هدف
الفيلسوف هو استيعاب املثال الكامن يف الواقع وبناء نظرية مفيدة عمليا تساعد
عىل التقدم اإلنساين، وهو ال يستطيع تجاهل هذا الهدف، ألن الحياة اإلنسانية يف
حالة تغري مستمر. لهذا السبب، فإن هدفه يف صياغة تصوره للخري األسمى كمبدأ
للتمييز األخالقي ليس إعطاءنا درسا يف األخالق، بل إظهار إمكانات التغري األخالقي
الكامنة يف نظرة الجامعة إىل الخري األسمى. لكن هل ميكن لهذا التغري أن يحصل
من دون فهم واف للقدرات الكامنة يف الطبيعة اإلنسانية؟ ومن باستطاعته القيام
بهذا الواجب سوى الفيلسوف؟ ويف هذا الصدد نجد رشحا واضحا لهذا االتجاه
املنهجي للنظرية األخالقية يف »فلسفة الحق« لهيغل، »الدرس الذي تعلمناه من
)٭٭(، وهو درس التاريخ الذي ال مفر منه، هو أن املثال ينبثق فقط عندما
املفهوم
ينضج الواقع ويقف شامخا يف مواجهة الواقع، وذلك عندما يستوعب املثال العامل
)٭( صفة من يانوس Janus إله األبواب والبدايات والتحوالت عند الرومان. ]املحرر[.
)٭٭( املفهوم الذي تطرحه الفلسفة حول ما يجب أن يكون عليه العامل، أو حول املثال الذي تريد الفلسفة أن
تصوغ العامل وفقا له. ]املحرر[.

47
مفهوم النموذج األخالقي
الواقعي ذاته، مبادته، ويعلو ببنيته من أجل ذاته، ليتخذ شكل مملكة عقلية...
)7(. ليك
)٭( تبسط جناحيها فقط عندما يبسط الظالم عباءته عىل األرض
فبومة ميرنفا
يستطيع الفيلسوف فهم السلوك األخالقي– أساسه، عنارصه، مضمونه، إمكاناته،
أهميته– فعليه أوال أن يحلل بنية هذا السلوك بصورة منظمة ونقدية وشاملة.
لقد بني هذا التحليل، الذي دشنه أرسطو ووصل إىل ذروة تطوره يف عرصنا هذا، أن
النظرية األخالقية تتشكل من )أ( تصور للخري األسمى، و)ب( تصور للقيم األخالقية،
يعرب عن حس الجامعة بـ »األهمية« و )ج( تصور للقواعد األخالقية، يعرب عن
مضمون القيم األخالقية و )د( منهج يستهدف 1 - توضيح وتعريف العنارص الثالثة
السابقة و2 - تأسيس رشعية املعيار األعىل للتمييز والتقييم األخالقي و3 - رشح
ملنطق ودينامية الحكم األخالقي«.
تطرقت إىل طبيعة ووظيفة النظرية األخالقية فقط ليك أرسم الخطوط الرئيسية
للنموذج األخالقي. وتشف بنية النظرية األخالقية عن بنية النموذج األخالقي، ألن
وظيفة النظرية األخالقية هي التحليل املنظم والنقدي والشامل للنظام األخالقي،
أي للنموذج األخالقي أو للنظام األخالقي كام يوجد عىل أرض الواقع املعيش،
وليس كام يتصوره الفيلسوف بعقله. هي دراسة للنظرة األخالقية للجامعة، وهذا
يعني دراسة ملعتقداتها وقيمها األخالقية. إذن، النموذج األخالقي أساس النظرية
األخالقية. وكنظام فكري، النموذج األخالقي هو صياغة فكرية للنظرة األخالقية. غري
أن هذه النظرة تنبثق عن الرؤية األخالقية للجامعة، وجوهر هذه الرؤية هو تصور
الخري األسمى، أي فهم الجامعة لقيمة الحياة اإلنسانية العليا. هذا الفهم، بدوره،
يعرب عن فهم الجامعة ملا هو األكرث قيمة يف الحياة اإلنسانية، وملا يجعلها جديرة بأن
تعاش. أضف إىل ذلك أن هذه الرؤية هي مصدر اليقني الذي يدفع بإنسان كسقراط
إىل أن يفضل املوت من أجل القيم التي انبثقت من هذه الرؤية، كام رآها يف ذلك
الحني. اإلنسان الذي يستطيع أن يفكر ويشعر ويريد ويحب ويتعجب هو اإلنسان
الوحيد الذي يستطيع التساؤل: كيف يتعني عيل أن أعيش؟ كيف يتعني أن أسلك
يف هذه الحالة أو تلك؟ هل حيايت جديرة بالعيش؟ وتكمن هذه األسئلة يف صميم
األنظمة األخالقية التي تشكل نسيج الثقافة اإلنسانية. وطريقة اإلجابة عن هذه
)٭( Minerva، إلهة الحكمة وراعية الفنون الرومانية، وتتجىل يف هيئة بومة. ]املحرر[.

48
الصداقة
األسئلة هي دامئا التي تحدد تراث الجامعة الفني والديني واالجتامعي والعقيل.
لكن، بغض النظر عن الشخصية املميزة والتوجه والتطور ومدى التقدم فيام
يتصل بأخالقيات الجامعة، فإن هذه األخالق تنبثق من الرؤية األخالقية لتلك
الجامعة، عن حدسها ألهم قيمة لحياة اإلنسان. وهذه الرؤية هي محل ميالد القيم
األخالقية. كل قيمة تعكس بعدا أساسيا من أبعاد الرؤية األخالقية وتستمد سلطتها
ومقدرتها عىل اإللزام من هذه الرؤية. لهذا السبب، عندما يعيش الفرد وفقا لها فإن
حياته ستكون حياة صالحة. لقد فضل سقراط املوت عىل الحياة، ألنه كان يعتقد
أنه من الخطأ انتهاك سلطة القانون، وألنه كان يعتقد أن الحياة ال تكون جديرة
بالعيش إذا مل يثمن الفرد بحرية ووعي معرفيني قيمة وكامل القوانني األخالقية
املتوافق عليها يف املجتمع والقيم التي ترتكز عليها. وعالوة عىل ذلك، ففي تحليله
لرشوط صنع القرار األخالقي جادل أرسطو بأنه عندما ينتابنا الشك حول ما إذا كنا
)٭( الذي يتناسب معنا كأفراد، وعلينا أن ننظر

قد قمنا بالفعل وفقا للوسط )Mean)
بعني االعتبار إىل الطريقة التي ميكن أن يترصف بها شخص لديه حكمة عملية ألن
شخصا كهذا ميتلك شخصية أخالقية عميقة، ألنه/ ألنها يتميز/ تتميز بحس أخالقي
.
)8(
سليم، ذلك الحس الذي يعرب عن الحس األخالقي األكرث استنارة لدى الجامعة
إذن توجد رؤية للخري األسمى يف مركز كل نظرية أخالقية. هذه الرؤية أساس
النموذج األخالقي، وأحجار بنائه هي القيم األخالقية، املعتقدات، القواعد، الحس
األخالقي. لكن، وكام جادلت يف الجزء األول من هذا الفصل، فالرؤية ليست فعال
عقليا منعزال عن الرؤية الثقافية للجامعة، بل تعكس نظرتها إىل العامل وبخاصة
نظرتها إىل معنى الحياة اإلنسانية ومصريها، وعندما طرح أرسطو مسألة الخري
األسمى اكتشف أن الناس ّعرفوه يف ضوء فكرة السعادة، لكن ما السعادة؟ كيف
ميكن أن نحققها إذا مل نعرف ماهيتها وطريقة تحقيقها؟ إىل حد كبري، يعتمد
مفهوم الجامعة للسعادة عىل نظرة هذه الجامعة إىل العامل، عىل نظرتها إىل قيمة
)9(. ولهذا السبب، فأي تغري يف توجه الثقافة

وهدف الحياة اإلنسانية بحد ذاتها
سوف يتسبب يف قدر من التغيري باألمناط السلوكية النموذجية. الثقافة تتموضع
)٭( الوسط املرغوب فيه، بني التطرف والتفريط . ]املحرر[.

49
مفهوم النموذج األخالقي
يف هذه األمناط السلوكية– يف املعتقدات والقيم التي تشكل بنيتها. غري أن الثقافة
ليست كيانا راكدا بل كائن عضوي حي ودامئا يف حالة تغري وتطور، ألنها جوهريا
حياة، حياة إنسانية. أساس هذا التطور هو الرؤية التي تنبثق منها رؤية للعامل.
وكلام ازدادت هذه الرؤية عمقا واتساعا وثراء متددت األمناط السلوكية النموذجية
النابعة عنها بعمقها واتساعها وثرائها. هذا التمدد يشكل تحديا مستمرا للنظريات
األخالقية التي تدرس األمناط السلوكية النموذجية املختلفة، مثال األمناط الجاملية
واالقتصادية والرتبوية والسياسية.
وإذا سلمنا بأن وظيفة النظرية األخالقية هي فهم وتفسري النموذج األخالقي
للثقافة فلن نستطيع إهامل أي عنرص أو بعد للرؤية األخالقية، ألنه ينبثق منها.
وعىل فيلسوف األخالق، كفيلسوف، أن يأخذ بعني االعتبار أي تغري أو تطور يف فهم
الجامعة للخري األسمى وفهمها الواقعي للقيم األخالقية الكامنة فيه. وأحد الرشوط
الرضورية لكفاءة النظرية األخالقية هو الشمولية )comprehensiveness )وهذا
يعني أنه يجب عليها أن ترشح وتفرس كل ناحية أو كل بعد من أبعاد النموذج يف
كل مرحلة من مراحل تطوره. مثال، كيف ميكن للنظرية أن تكون وافية إذا عجزت
عن تفسري تجربة الصدق أو الكرم، ومن ثم التطور الذي يحدث لهذه التجربة؟
وباملثل كيف ميكن لها أن تهمل تجربة الصداقة، خاصة إذا كانت هذه التجربة
جوهرية للحياة اإلنسانية؟ هذه األنواع من التجارب أجزاء ال تتجزأ عن السلوك
األخالقي، وبالتايل من النموذج األخالقي، ألنها جوهرية للحياة اإلنسانية، بغض
النظر عن اختالفنا يف ترجمة معناها أو معنى الخري بحد ذاته. عالوة عىل ذلك،
فإن القيم األخالقية املنبثقة من الخري األسمى متسقة بعضها مع بعض، وهذا يعني
أن تطبيق أي قيمة ال يتضارب مع تطبيق القيم األخرى، بل عىل العكس يدعمها.
وعلينا أال ننىس أن جميع القيم تنبثق من مصدر واحد – حدس الخري األسمى –
فهي تستمد اتساقها، أو انسجامها بعضها مع بعض من وحدة هذا املصدر، فالقيم
األخالقية الكامنة يف هذا الخري ليست سوى طرق لتحقيق الحياة الصالحة. لهذا
السبب، فإن انتهاك أي من القواعد األخالقية سوف يعرقل تحقيقها. مثال، من
الصعب، ويف الواقع من املستحيل، أن يكون الفرد صالحا إذا سمح لنفسه بأن يكذب
أو بأن يكون بخيال، ألن هذه األمناط من السلوك سوف تعرقل، بحكم الرضورة،

50
الصداقة
إمكانية السلوك العادل والشجاع والشفيق والعفيف. لهذا السبب فإن تجاهل
الصداقة كقيمة مركزية يف عملية التنظري األخالقي سيحد من إمكانية تحقيق الحياة
الصالحة وسيجعلها بحكم الرضورة ناقصة. سوف أرشح هذه القضية بالتفصيل يف
الفصول التالية. لكن النقطة التي تستحق الذكر يف هذه املرحلة من املناقشة هي
أن تصور النموذج األخالقي أفرز معيارا لتقييم كفاءة النظرة األخالقية: ليك تكون
النظرية األخالقية وافية )adequate)، عليها أن تأخذ بعني االعتبار جميع القيم
األخالقية الكامنة يف الرؤية األخالقية للجامعة. وكام أوضحت، فإن هذه الرؤية
هي مصدر تصور الفيلسوف للخري األسمى وملبدأ ّ التميز األخالقي، وبالتايل، للقيم
األخالقية التي تنبثق منه. نحن نعرف ما إذا كانت النظرية قد أهملت قيمة معينة،
أو استوعبتها، بالرجوع إىل النموذج األخالقي، ونحن نعتمد يف ذلك عىل دراسة
تجريبية ونظرية للنموذج األخالقي الكامن يف النموذج الثقايف. سوف أطبق هذا
املنهج يف تحلييل للنظرية األخالقية بالعصور الوسطى والحديثة واملعارصة، وسألجأ
إىل هذا املعيار يف مناقشتي للنامذج الهلنية والهلنستية، وسوف أبني ملاذا اعتربوا
الصداقة قيمة أخالقية مركزية.

1 - تحول النموذج األخالقي
تحول النموذج األخالقي يعني تحوال يف
النظرة األخالقية للثقافة، تحوال يف رؤيتها
للخري األسمى. وبالتايل، فهو يعكس تحوال يف
الرؤية للعامل الكامنة يف النموذج الثقايف. ومنط
فهم الجامعة ملعنى ومصري الحياة اإلنسانية
يحدد، إىل حد ما، منط حياتها. ومنط فهمها
للعامل بدوره يحدد منط فهمها ملعنى الحياة
اإلنسانية. عىل سبيل املثال، هل العامل عدايئ أم
متعاون مع الكائنات اإلنسانية؟ كيف تكتسب
األشياء التي تشكل الطبيعة ماهيتها؟ هل
البرش كائنات طبيعية كبقية األشياء حولهم،
عىل الرغم من أنهم أكرث تطورا وأكرث قيمة من
النباتات والحيوانات، أم إنهم يختلفون عنها
ويتميزون بأهمية خاصة؟ إذا كان الجواب عن
هذا السؤال بنعم، فام مصدر هذه القيمة؟
اإلنسان يريد أن يعرف مصدر ودينامية العامل.
النماذج األخالقية يف الثقافتني
الهلنية والهلنستية

»نقول إن الفعل شجاع عندما
يجسد فضيلة الشجاعة. لكن إذا
أردنا معرفة ماهية الشجاعة يتعني
أن نلجأ إىل املجتمع: إىل الجامعة«.
2

52
الصداقة
الرغبة يف معرفة طبيعتنا وطبيعة العامل تكمن يف الطبيعة اإلنسانية. هي جزء من
تركيبتنا اإلنسانية. ماذا لو أن قوة مطلقة هي التي خلقت العامل؟ وماذا لو أن
هذه القوة تهتم بالبرش وماذا لو أنها تؤدي، أو بإمكانها أن تؤدي، دورا بناء يف
حياتهم؟ كيف يتيرس لهم أن يعرفوا بوجود وهدف هذه القوة؟ أعتقد أنهم يودون
أن يعرفوا ما إذا كانت هذه القوة العليا قد خلقتهم، أو بطريقة ما وضعتهم عىل
سطح األرض لغاية معينة. ولكن ماذا لو أن هذه القوة ال تكرتث لهم، فكيف يجب
أن يعيشوا؟ هل يؤدي وجود أو عدم وجود هذه القوة دورا حاسام يف تحديد
منط حياتهم؟ مثال، بعض الناس يعتقد أن العدالة والحرية والحقيقة والجامل
واملحبة واحرتام اإلنسان لآلخر أمور مهمة جدا، ويكافحون من أجل هذه القيم،
وهم عىل استعداد ألن ميوتوا من أجلها، ملاذا؟ وكبقية األشياء يف الطبيعة، البرش
زائلون – يأتون من العدم ويعودون إىل العدم. هل من الرضوري لهذه املعرفة أن
تؤثر يف نوع الحياة التي يختارونها؟ بإمكاننا إثارة العديد من األسئلة ذات الصلة
التي تثري اهتاممنا مبصدر وطبيعة وغاية وجود العامل ووجودنا وعالقتنا بالقوة
املطلقة، إذا كانت هذه القوة موجودة. لكنني أعتقد أنني قلت ما فيه الكفاية
ليك أركز االنتباه عىل سؤالني مهمني: ما طبيعة العامل الذي نعيش فيه؟ وما طبيعة
ومصري الحياة اإلنسانية؟ إىل التأمل النقدي لتاريخ الحضارة اإلنسانية وكيفية انبثاق
الثقافة وتطورها وانحطاطها يبني أنه توجد عالقة بني هذين السؤالني. وبغض النظر
عام إذا كانت جامعة ما بسيطة أو متطورة أو متقدمة، فنظرتها إىل العامل ومكانة
اإلنسان فيه تؤدي دورا حيويا يف تأسيس منط حياتها. لهذا السبب جادلت يف
الصفحات السابقة بأن التحول يف النموذج الثقايف عىل النحو الذي يتضمن تحوال يف
ظروف الجامعة، املادية والروحية، يؤدي يف آن واحد إىل تحول يف حياتها السياسية
والفنية والعلمية والدينية واالقتصادية والرتبوية، أو بتعبري آخر، أي تحول يف أي
من األمناط السلوكية النموذجية يؤدي بالرضورة إىل تحول يف النامذج السلوكية
األخرى، وعاجال أم آجال إىل تحول يف توجه النموذج الثقايف. لكن يف معظم األحيان،
حصلت التحوالت الثقافية النموذجية كنتيجة لتحول يف منط منوذج واحد أو أكرث–
والتحوالت الثقافية املستمرة، الحية أو امليتة، خالل الـ4 آالف سنة املاضية ممتلئة
بالدالئل التجريبية التي تدعم هذا القول.

53
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
والدراسة املعمقة لرؤية الجامعة للعامل– رؤيتها للحياة والطبيعة اإلنسانية
ومعناها– غري ممكنة يف هذا الكتاب، ألن دراسة كهذه تتطلب، بحكم طبيعتها ذاتها،
تحليال موسعا إلنجازاتها يف الفن والعلم والتكنولوجيا والدين واالقتصاد والتنظيم
االجتامعي والقانوين ويف األخالق والحكم، وأيضا ملساهمتها يف تطوير الحضارة
اإلنسانية. لكن مبا أن هديف هو البحث يف العالقة بني الرؤية للعامل يف ثقافة ما
وأمناط مناذج السلوك، وخاصة النموذج األخالقي، فإن مناقشة موجزة للرؤية للعامل
يف الثقافات الرئيسية للحضارة الغربية سوف تفي بالغرض. ويف سبيل تحقيق هذا
الهدف سوف أسلط الضوء عىل بعض املالمح األساسية لهذه الثقافات، ثم عىل الكيفية
التي تتجسد بها هذه املالمح يف املؤسسات الرئيسية لكل ثقافة. والقضية التي سأدافع
عنها هي أنه توجد عالقة عضوية بني الرؤية للعامل واملؤسسات، ونتيجة لذلك هناك
عالقة بني الرؤية للعامل وأمناط السلوك النموذجية املنبثقة عنها. وهذه العضوانية توفر
أرضية أنطولوجية للقضية التي تقول إن التغري يف رؤية العامل لثقافة ما يسبب تغريا يف
اتجاهات أي من املعتقدات والقيم التي ترتكز عليها الثقافة. وعالوة عىل ذلك أيضا،
يتبني أن املعتقدات والقيم التي تحدد هوية الثقافة وتدير مسريتها هي الرتبة الخصبة
التي تغذي املعتقدات والقيم الجزئية لألمناط السلوكية النموذجية. وسوف أناقش يف
هذا الفصل، ولو بصورة موجزة وكمقدمة، دينامية تحول النموذج األخالقي. والثقافات
التي سأناقشها هي الهلنية والهلنستية. والهدف من هذه املناقشة هو رشح كيفية
هذا التحول. ويف الفصلني الرابع والخامس سوف أقدم تحليال معمقا للنامذج الثقافية
للعصور الوسطى والحديثة، والنامذج األخالقية املتأصلة فيها. أعتقد أن هذه املناقشة
ستخدم كإطار لتفسري األسباب التي أبعدت الصداقة عن التنظري األخالقي يف العصور
الوسطى والحديثة والحالية، وملاذا ُتعد هذه األسباب غري مربرة. وبتعبري آخر، محصلة
هذه املناقشة ستكون املعيار الذي سأرتكز عليه يف رشح األسباب التي أدت إىل استبعاد
الصداقة من التنظري األخالقي يف هذه العصور، وملاذ ُ ا تَعد هذه األسباب غري مربرة.
2 - النموذج األخالقي الهليني
أوال، دعوين أبدأ برؤية العامل يف الحضارة اليونانية القدمية، أو الهلنية، التي
استمرت من القرن السابع قبل امليالد إىل القرن امليالدي الرابع. وميكن القول بأن

54
الصداقة
هذه الرؤية للعامل تتسم بثالث خصائص جوهرية: االتجاه امليتافيزيقي والغايئ
واإلنساين. وسوف أناقش هذه الخصائص، وبعد ذلك سأبني كيف تتجسد يف ثالث
مؤسسات رئيسية: الدين والفن والسياسة. وآمل أن ُتظهر هذه املناقشة العالقة
بني الرؤية الهلنية للعامل والنموذج الثقايف، أي بني املعتقدات والقيم التي انبثقت
النظرة عنها واملؤسسات الرئيسية التي تشكل بنية الثقافة الهلنية. والفكرة التي
سأشدد عليها هي أن هذه العالقة وثيقة، عضوية. مبعنى أن نظام الثقافة الهليني
يستمد وجوده من رؤيته للعامل. ومن دون هذه العالقة ال نستطيع القول بأن تحول
النموذج الثقايف يجلب معه تحوال يف النموذج األخالقي.
التوجه امليتافيزيقي: تتميز رؤية العامل عند اليونانيني القدماء بعقلية ميتافيزيقية.
كان لديهم اهتامم عميق مبصدر األشياء، بالقوة الكلية التي يقوم عليها وجود العامل
ونظامه ووحدته؛ وأيضا كانت لديهم رغبة قوية يف اكتشاف الحقيقة التي تسرّي
املشهد املنظور للوجود الطبيعي: هل التغري ممكن من دون افرتاض وجود قوة
ما أو مبدأ دائم، أو يشء يجعل التغري ممكنا؟ املطر يهطل – ولكن ملاذا؟ الشجرة
تنمو- ولكن ملاذا؟ الناس متوت- ولكن ملاذا؟ ال أبالغ إذا قلت إنه كان لليونانيني
القدماء اهتامم قوي مبعرفة رس النظام الكوين والقوة التي تحرك العامل املنظور
والقوانني التي شكلت العامل كام نعرفه اآلن. هل نستطيع أن نفهم أي يشء إذا
مل نفهم جوهره؟ وهل نستطيع فهم جوهره إذا مل نفهم مصدره، أو منشأه: املبدأ
األول )arche)؟ نعم أراد اليونانيون القدماء أن يعرفوا العامل برمته. وعرب عن هذا
االهتامم مؤسسو الحضارة اليونانية: الفنانون وكتاب املرسح والفالسفة والالهوتيون
)٭٭( )Hesiod )إىل

)٭( )Homer )وهزيود

واملشرتعون والسياسيون من هومريوس
أفالطون وأرسطو واإلسكندر األكرب. وكانت أعامل هومريوس مصدرا ثريا للحكمة
واإللهام للمفكرين الذين دشنوا العرص الذهبي لليونان القدمية، وكانت أيضا مصدرا
ثريا للتاريخ والثقافة اليونانية. وكان أول مفكر يعرب عن النزعة امليتافيزيقية للعقل
اليوناين هو أناكسيامندر )Anaximander). وميكن القول بأنه كان أول ميتافيزيقي
يف العامل الغريب.
)٭( Homer، أعظم شعراء اليونان القدمية.
)٭٭( Hesiod، شاعر يوناين عاش بني القرنني الثامن والسابع قبل امليالد.

55
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
)٭( أن العامل )كوسموز cosmos ٌّ ) هو كل

من أضخم املساهامت الباقية لفيثاغورس
منظم )ordered). وبعده أىت هرياقليطوس بالقول بأن مبدأ عقليا) لوغوس logos )
)٭٭( من هاتني الفكرتني

واملقصود عقل أو/ وحكمة، يسري العامل. وانطلق أناكساغوراث
ليؤسس عليهام اقرتاحه بأن العقل )nous )يدير حركة الطبيعة. وصلت هذه النظرية
امليتافيزيقية، وميكن القول النزعة امليتافيزقية، إىل أعىل درجة من التشذيب والتنظيم
بتصور أفالطون للخري )Good the ِّ ) وتصور أرسطو للمحرك الذي ال ُي َحَّرك. استعمل
هذان الفيلسوفان هذين التصورين كمبدأين تفسرييني أنطولوجيني ومعرفيني. األول

.
)1(
كان مبدأ السببية األعىل، والثاين كان مبدأ املعرفة األعىل
الغائية: بحسب اليوناين القديم، العامل ليس مصادفة بل نظام غايئ. ويف الواقع،
تصور النظام يتضمن تصور الغاية. لكل يشء موجود مكانته ووظيفته. مصدر النظام
الكوين وأساسه مبدأ عقيل، أو قوة عقلية. هل نستطيع الكالم عن القوانني الطبيعية،
أو أي نوع من القوانني، إذا مل نفرتض أن العامل نوع من النظام؟ هذه الخاصية تتخلل
ليس فقط الفلسفة اليونانية بل تتخلل الدين والفن والسياسة أيضا، وتظهر جلية يف
تصور أفالطون للخري. وعندما سئل سقراط يف محاورة »طياموس«: ملاذا خلق ****
العامل؟ كان جوابه »ألنه خرّي«– **** خري والوجود الذي خلقه خري.
غري أنه بحسب أفالطون الخري ال »يتسم بالصفات اإلنسانية، بل قوة أو جوهر
يف صورة مستقلة عن العامل الذي خلقه. الخري مصدر وأساس العامل املعقول،
ويتشكل هذا العامل من »صور« )forms( )أو أفكار(. الصور، بحسب أفالطون،
جواهر، كليات، ُمُث ْل. وبإمكاننا اعتبارها مناذج أو مقاييس. هذه الصور عقلية مبعنى
أنها توجد بالنسبة إىل العقل فقط. إنها بسيطة، وهي إذن غري قابلة للتلف، ولهذا ال
تتغري. وتوجد كجهاز متكامل، كنظام. لهذا السبب يشري أفالطون إليها كعامل. عالوة
عىل ذلك، فهذا العامل املعقول مصدر وأساس العامل الحيس– الطبيعي. وال ميكن لهذا
العامل أن يوجد من دون العامل املعقول.
ونحن ال نخالف ما قاله أفالطون إذا قلنا إن الخري مصدر وجود ووحدة العامل
الحيس. مثال، اليشء الجميل يستمد جامله من مشاركته يف صورة الجامل أو من
)٭( Pythagoras، ريايض ومتصوف ولد يف إحدى جزر اليونان القدمية وتأثر به أفالطون وأرسطو. ]املحرر[.
)٭٭( Anaxagoras، فيلسوف ولد يف آسيا الصغرى، ويقال إنه من جاء إىل اليونان بالفلسفة. ]املحرر[.

56
الصداقة
حلول صورة الجامل فيه. وباملثل، العامل الحيس نظام متكامل ألنه يتشارك يف
النظام املعقول، أو ألن النظام املعقول حارض فيه. لكل يشء موجود يف العامل غايته
ومكانته. هذه الغاية خرية. لهذا السبب أكد سقراط يف »الطياموس« أن **** خلق
العامل ألنه خري. العامل ينبثق عن سبب خري. وهكذا إذا سألنا أفالطون: ما هي غاية
البرش يف هذا العامل؟ فإن جوابه سيكون تحقيق أنفسهم ككائنات إنسانية عندما
يعيشون وفقا لصورة اإلنسانية، أي عندما يجسدون بأفعالهم، أو بحيواتهم، جوهر
اإلنسانية. وكل موضوع يتسم بالجودة بقدر ما يقوم بوظيفته بصورة وافية، وعندما
يقوم بهذه الوظيفة تلبية للمتطلبات والتوقعات الكامنة فيه، يف جوهره. ينطبق
هذا املبدأ عىل النباتات والحيوانات واألشياء املادية. ويف العموم، كان العقل اليوناين
القديم عقال غائيا.
اإلنسانوية )humanism). بحسب اليونانيني القدماء، اإلنسانية )الوجود
اإلنساين( أبرز وأمثن حقيقة يف الكون. وعىل الرغم من أن الكائنات اإلنسانية جزء
من الطبيعة بأجسادها وأن مصريها هو مصري األشياء الطبيعية، فهي أيضا مواضيع
مغايرة لألشياء الطبيعية، مبعنى أن إنسانيتها ليست جزءا من الطبيعة وال ميكن ردها
إىل خصائص طبيعية. جوهر الكائن اإلنساين هو العقل )ذهن، نفس، وعي(. العقل
أساس اإلنسانية– أساس الفكر والشعور واإلرادة. بامتالكه العقل ميلك اإلنسان طبيعة
ثانية: الطبيعة اإلنسانية. القوانني التي تحكم النشاطات العقلية واألخالقية والنفسية
تختلف عن القوانني التي تحكم الطبيعة املادية. هذه القوانني كلية ودامئة. إذن،
قيمة الحياة اإلنسانية تختلف عن قيمة األشياء املادية فهي أفضل من قيمة النباتات
)٭( عن هذه الخاصية بوضوح يف أنتيغون:

والحيوانات. لقد عرب سوفوكليس
... مل أ ّقدر
ما أعلنته تقديرا عاليا هكذا
وال اعتربت أن ما أعلنته متجاوز بقدرته البرشية
قوانني الرب الباقية ا ُ لتي مل ت َّدون:
مل تدون اليوم وال كانت مدونة باألمس، لكنها باقية عىل حالها
حية عرب األزمان؛ أما من أين جاءت
)٭( Sophocles، أحد كتاب ثالثة للرتاجيديا اليونانية القدمية، عاش يف القرن الخامس.

57
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية

فال أحد يعلم. فكيف ميكن لخويف
من الرجال املختالني أن يجعلني أتجرأ عىل عصيانها

)2(
وعىل أن أحتمل حكم الرب؟
عىل رغم أن اإلنسانوية كانت تشع يف نسيج الرؤية الهلنية للعامل كام تشع الحياة
يف الكائن العضوي، فإن الفالسفة هم الذين صاغوا هذه الخاصية كمثال ثقايف. لقد
)٭( مطلع القرن الخامس قبل امليالد بأن اإلنسان مقياس جميع

جادل بروتاغوراث

)3(. وبعد
األشياء، فاملوجود هو املوجود لديه، وغري املوجود هو غري املوجود لديه
(cosmos(. لكن أفالطون،
(4(
فرتة قصرية أعلن دميقريطس أن اإلنسان كون مصغر
كام هو معروف، طور هذا املبدأ لدرجة الكامل، حيث جادل بالتفصيل بأن النفس
)العقل( جوهر اإلنسانية وأنها ال مادية، وأزلية، وأنها أمثن ما يف الكون. انتعش هذا
املبدأ الذي يقول إن اإلنسانية أهم حقيقة يف العامل وإنها مقياس املعرفة مجددا يف
القرن الخامس عرش، وأصبح القوة الفاعلة يف نهوض »اإلنسانوية« اإليطالية ومبدأ
أساسيا يف فكر عرص النهضة وثقافته.
3 - رؤية العامل الهلنية والثقافة الهلنية اليونانية
اآلن سوف أبني منط انعكاس الخصائص الثالث السابقة يف ثالث مؤسسات
هلنية: الدين والفن والسياسة.
الدين: كانت اآللهة اليونانية محور الدين اليوناين، وأخذها اليونانيون مأخذ
الجد، وشكل مجمع اآللهة )Pantheon )اليوناين نظاما إلهيا، كنوع من النظام
العائيل، لكنه بقي نظام اعتالء زيوس )Zeus )سدة الحكم كأب وسيد عىل جميع
اآللهة. وعىل الرغم من كونه اإلله األعىل، مل يكن زيوس، أو بقية اآللهة، مطلقا بالقوة
والحكمة والخري. جميعهم خضعوا لقوانني كلية. كان اإلقرار بقانون كيل كأساس لفهم
العامل والحياة اإلنسانية مركزيا يف كتابات هومريوس وهزيود، وأصبح فيام بعد أساس
الفلسفة اليونانية التي أتت إىل حيز الوجود ألول مرة يف تاريخ الحضارة اليونانية عىل
يد طا ْ لس، الذي ازدهرت عطاءاته يف النصف الثاين من القرن السادس قبل امليالد.
)٭( Protagoras، فيلسوف يوناين سبق عهد سقراط وعده أفالطون من السوفسطائيني. ]املحرر[.

58
الصداقة
وال نبالغ إذا قلنا إن العقل اليوناين يتميز بالنزعة القانونية. ويف الواقع، غالبا ما تذمر
زيوس من »الرضورة« )Necessity)، أم إلهة القدر، وخضع إلرادتها رغام عنه. وعىل
أي حال، كانت اآللهة اليونانية »مخلوقات«؛ تصورها العقل اليوناين وصنعها وفقا
للصورة اإلنسانية. كانت عمليا كالبرش، غري أنها متيزت عنهم بصفتني: عدم املوت
والحياة املريحة )الخلود والراحة(. وتعرب هذه الصفات عن رغبات إنسانية مركزية.
من منا، نحن الكائنات البرشية الفانية، ال يرغب يف أن يكون خالدا وأن يحقق
رغباته يف الحياة من دون تعب أو شقاء؟ يف بعض األحيان كانت اآللهة تنخرط يف
عالقات محبة وكراهية، صداقة وعداوة، تحد وتالعب، تعاون ومنافسة، مع آلهة
أخرى. وقد تفرس هذه الخاصية سبب اهتامم اآللهة بالبرش واختالطها معهم. لكن
اليشء املهم هو أن اآللهة خلقت لغاية، والقوة التي خلقتها مل تكن غامضة ومل
تخلقها كاستجابة لوهم باطل، بل لتلبي نوعني من الحاجة: األوىل عملية والثانية
نظرية– لحل مشكالت شخصية واجتامعية، ولإلجابة عن أسئلة إنسانية صعبة. أوال،
وعىل سبيل املثال، من بني اآللهة، كانت أثينا إلهة الفن والحرب والحكمة؛ وأبولو
إله الطب واملوسيقى والنظام؛ وأرمتيس إلهة الغابة والصيد؛ وبسيدون إله البحر؛
وأفروديت إلهة الجامل والحب؛ وأريز إله الحرب؛ بينام كان زيوس إله السامء وحامي
النظام اإللهي. ووجدت أيضا آلهة ثانوية وأجنبية كإيروس وهدد. والنقطة املهمة
هي أنه كان لكل إله مجاله ووظيفته. وعندما كانت هناك حاجة إىل إرضاء اآللهة أو
تلبية خدمة معينة، اعتاد املؤمنون أن يقدموا لها هدايا وصلوات وذبائح واحتفاالت،
ويف بعض األحيان طعاما يف أمكنة وأوقات وظروف معينة. وعىل الرغم من هذه
العالقة، كان اليونانيون يحرتمون ويقدسون آلهتهم. شيدوا عددا من أروع املعابد
ليك يكرموها ونظموا عددا من األلعاب واملهرجانات واالحتفاالت ليك ميجدوها. ثانيا،
ميكن وصف آلهة اليونانيني كمبادئ تفسريية، وجدت لتجيب عن أسئلة صعبة: ملاذا
توجد أو تحدث هذه الظاهرة أو تلك؟ كانت اآللهة عبارة عن قوى سببية مسؤولة
عن مختلف أنواع الظواهر التي توجد وتحدث يف العامل. لكن مل يكن يف مقدورها
أن تعطي األجوبة النهائية لجميع األسئلة التي أثارها اليونانيون. وعىل الرغم من
ذلك مل تعرتض أو تتدخل يف محاولة طالس تطوير منهجه لإلجابة عن هذه األسئلة.
كانت حرية التفكري من امليزات األساسية للثقافة اليونانية. لهذا السبب، عندما تأسس

59
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
منهج طالس للبحث كمنهج ناجح، مل يثوروا أو يعربوا عن شعور بالغرية أو املنافسة
ومل يتآمروا عىل الفالسفة، بل عىل العكس أجازوا واحرتموا حريتهم. وكان ومازال
معبد أبولو شاهدا عىل هذه الواقعة. علينا أال ننىس أن وظيفة الكاهنة يف ذلك
املعبد كانت صياغة القرار الحكيم. والنقطة التي تثري االهتامم هنا هي أن الفلسفة
والفنون واآلداب دعمت أهمية الدين والحاجة إليه، بينام الدين بدوره كان أرضية
خصبة لألفكار امليتافيزيقية من أناكسيامندر إىل أرسطو. وأول مرشوع مركزي أنجزه

.
)5(
اليونانيون بعد انتصار الفرس عىل أثينا كان إعادة بناء األكروبوليس
لكن مل يكن الدين مؤسسة أو وظيفة منعزلة، بل تخللت نسيج الثقافة اليونانية
برمتها– فلسفتها وفنها وسياستها ونظامها الرتبوي وحياتها االجتامعية، ويف الواقع
كانت مكان والدة هذه املؤسسات. عندما أدرك اليونانيون الحاجة إىل أن يجسدوا
آلهتهم صنعوا لها متاثيل. وعندما أدركوا الحاجة إىل حامية هذه التامثيل شيدوا
لها معابد. وعندما أدركوا الحاجة إىل أن يعربوا عن احرتامهم وإخالصهم آللهتهم
ابتكروا الرقص والفن املرسحي واملوسيقى ليك يكرموها وميجدوها. وعندما أدركوا
الحاجة إىل أن ينظموا أنفسهم ليك يلبوا حاجاتهم كجامعة عادوا إىل تاريخهم
ودرسوه بعمق، وخاصة إىل هومريوس وهزيود. وتفحصوا متطلبات الطبيعة
اإلنسانية، الكتشاف القوانني واملؤسسات التي تناسبهم. وعندما استشعروا عدم
رضاهم عن اآللهة عندما أهملت واجباتها، وبخاصة يف اإلجابة عن األسئلة الصعبة،
ابتكروا منطا جديدا من التفكري، وكان الناتج الفلسفة.
شارك مسؤولو الدولة دامئا، وبصورة مبارشة أو غري مبارشة، يف الحياة الدينية
وإدارة املؤسسات. حتى الفالسفة أخذوا الدين مأخذ الجد. وبالنسبة إىل الفالسفة،
كانت أثينا هي اإللهة الراعية للفلسفة، وأيضا كان آخر رجاء لسقراط عىل فراش
)٭٭( آسكليبيوس. مل يتنب فالسفة

)٭( أن يقدم ذبيحة لإللهة

املوت أنه طلب من كريتو
اليونان موقفا عدائيا نحو دينهم، بل عىل العكس، كانت معتقداتهم الدينية جزءا
من تحليلهم لطبيعة العامل والحياة األخالقية.
الفن: ميكن القول عامة إن الفن اليوناين تركيب مكون من نزعتني متناقضتني
)٭( Alopece of Criton، أحد أتباع سقراط.
)٭٭( Asclepius، إله الصحة واملرض.

60
الصداقة
ومتضاربتني: األوىل نزعة النظام واالتساق والرصامة والرياضيات، والثانية نزعة
الشغف والرغبة والحرية. ونشاهد هذا الرتكيب بوضوح يف العامرة والنحت والفن
التشكييل والدراما. سوف أرشح دينامية هذه النزعة املزدوجة بتحليل للبارثنون
)Parthenon )كمثال معامري. ملاذا شيد اليونانيون معابدهم، وبخاصة أن املعابد
التي بنوها ليست أماكن عبادة دينية؟ أو: ماذا كانت غاية املعبد؟ عبد اليونانيون
آلهتهم يف الهواء الطلق، يف الطبيعة تحت القبة الساموية. وكام ذكرت لفوري، فهم
شيدوا املعابد لحامية متاثيل آلهتهم وليك يكونوا بالقرب منهم. الحقيقة أن املعبد
اليوناين ُشّيد نتيجة شعور باحرتام لآللهة ولتكرميها. بهذه الطريقة عرب اليونانيون
عن حسهم الديني وعن تقديرهم آللهتهم. بكل تأكيد، كان البارثنون هيكال بسيط
البنية، مجردا، هندسيا بعمق، بنية خالية من االدعاء. لكن إذا قمنا بدراسة جاملية
لهذه البناية وركزنا عىل التفاعل بني األجزاء املصمتة والفارغة، وعىل األنوار والظالل
التي تشكلها األعمدة يف الداخل والخارج، وكيف يستقر السطح بروح من النشوة
عىل األعمدة وكيف ينساب عاليا نحو السامء، فسندرك كيف أن هذا التفاعل يحول
هذه البناية إىل عمل فني يعرب عن املثل الدينية والجاملية وامليتافيزيقية للعقل
)٭( غري موجود اآلن. ولكن عىل

اليوناين. إنني عىل علم تام بأن متثال أثينا بولياس
الرغم من ذلك، البناية تحفة من الكامل الهنديس، من النظام العقيل الحقيقي الذي
يشع بالشغف الديني للروح اليونانية، وهي بناية تقوم عىل قمة اآلكروبوليس
كقربان للتعبري عن شكر اليونانيني ألثينا، إلهة الفن والحكمة والحرب، وأيضا
لجميع آلهة اليونان. تنهض هذه البناية من األرض متجهة نحو السامء. وسطحها
املحمول عىل ُعُمد يصل إىل ذروته يف القورصة، معربا بهذا التشكيل املعامري عن
توتر لذيذ بني املحدود والالمحدود، بني الواقع اإلنساين واألمنية اإلنسانية. نفس
السطح املحمول عىل عمد الذي يتجه نحو السامء الالمتناهية، يعرب يف آن واحد،
عن قوة دفع الجاذبية نحو األسفل، وهي القوة التي تثبت البناية بقوة عىل األرض.
واألعمدة التي تتجعد وتشكل تاجا يف النهاية العليا وتنتفخ يف وسط العمود تعرب
عن هذا التوتر بوضوح رائع، عن التوتر الدرامي بني اندفاع األمنية اإلنسانية إىل

ُنية للربة أثينا. ]املحرر[.

)٭( Polias Athena، ك

61
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
أعىل، باتجاه الالمحدود، واندفاع الجاذبية إىل أسفل باتجاه املحدود. املؤمنون
ميجدون الالمحدود يف حضن املحدود. ويف الواقع، فإنهم ميجدون القوى الخالقة
لإلنسانية، ألن اآللهة التي تجلس يف املعبد، تلك اآللهة التي يعبدونها، هي التي
خلقتهم. لكن رس املعبد يف التعبري عن روح الثقافة اليونانية يكمن يف قدرته عىل
مخاطبة الحس الجاميل وامليتافيزيقي للروح اإلنسانية بحد ذاتها. وال يكمن هذا
الرس يف بنية العامرة الرياضية املبدعة فحسب، بل يف أداء وظيفتها كمعبد أيضا، أي
كمكان يتقاطع فيه الوجود اإللهي واإلنساين. وعىل الرغم من أنها اآلن خربة تقوم
)٭( كبناء ٍعار، فعندما منيش داخلها وخارجها ال نستطيع مقاومة

عىل األكروبوليس
األناقة يف نظام هذه األعمدة والطريقة التي حددت بها فضاء املعبد. هل نستطيع
تجاهلها وهي تنئ تحت ثقل السطح املحمول عىل عمد الذي يندفع نحو األعىل
كجوقة تغني إىل حد التناغم الهادئ؟ هل نستطيع مقاومة صفاء اللحن العذب
يف فضاء املعبد؟ هل نستطيع مقاومة الشعور بالحرية من هموم الحياة اليومية
عندما نلقي نظرة حولنا وال نجد سوى ترنيمة الغبطة التي يغنيها الالمحدود للسامء
الزرقاء للعامل اليوناين؟
واآلن دعوين أحول انتباهي، ولو بإيجاز، إىل منط فني آخر يعرب عن الخصائص
األساسية للثقافة اليونانية– العقل، النظام، الغاية، اإلنسانية، التوجه امليتافيزيقي.
وكبقية األمناط الفنية، انبثقت الرتاجيديا عن االحتفاالت الدينية لليونانيني القدماء.
لقد تحولت األعامل الغنائية والرقصة والشعرية التي ابتكروها يف القرن السادس
)٭٭(، الذي تسلم الحكم

قبل امليالد، تدريجيا، إىل أعامل درامية. أعجب بيسسرتاتوس

)٭٭٭( يف العام 569 قبل امليالد، بهذه األعامل، وشجع مؤلفيها

بعد أن تقاعد سولون
عىل الكتابة وكان مينح جوائز ألفضل املرسحيات، ومن بني الفائزين كان سوفوكليس
)٭٭٭٭(. عىل الرغم من أن الرتاجيديات والكوميديات

ويوريبيدس وأسخيلوس
والرتاجيكوميديات احتفظت بروحها الدينية كإطار للفعل الدرامي، فإنها تجاوزت
)٭( Acropolis، قلعة قدمية تطل من فوق تلة صخرية عىل أثينا. ]املحرر[.
)٭٭( Pisistratus، أحد حكام أثينا يف القرن السادس قبل امليالد. ]املحرر[.
)٭٭٭( Solon، رجل دولة وقانوين وشاعر أثيني من القرن السابع قبل امليالد. ]املحرر[.
)٭٭٭٭( Aeschyles و Euripides و Sophocles، ثالثة من أعظم مؤلفي الرتاجيديا اليونانية. ]املحرر[.

62
الصداقة
املواضيع الدينية، ألنها عربت بواقعية عن طريقة حياة اليونانيني بجميع أبعادها–
السياسية واالقتصادية واالجتامعية والرتبوية والفلسفية، الجدية واالعتيادية،
املتفائلة واملتشابهة، العقلية والالعقلية. كعمل فني، مثلت املرسحية عاملا يعمره
أناس ذوو اهتامم عميق بأسئلة ومشاكل الحياة األساسية: الحرية واملسؤولية،
املحبة والكراهية، الخري والرش، الجامل والقبح، الحياة واملوت، السعادة والتعاسة،
اإلنسانية واأللوهية، القوانني اإللهية واإلنسانية، البطولة والسلوك العادي، الحكمة
والحامقة. إحدى املرسحيات التي نالت إعجاب العامل القديم والحديث واملعارص،
والتي صنفها أرسطو وهيغل كأعظم الرتاجيديات، والتي تصور هذا العامل، هي
مرسحية سوفوكليس »أوديب ملكا«. وأنا أشري إىل هذه املرسحية باعتبارها عاملا
ألنني أريد أن أشدد عىل خاصية النظام– يف هذه الحالة النظام العقيل. تشكل هذه
املرسحية نسيجا رائعا من األفعال التي تتطور وتتقدم، بحكم املنطق، وتصور عمق
شخصية أوديب، حتى تصل إىل ذروة مذهلة عن التجربة الدرامية– عمق إنسانيته
وإخالصه املطلق للحقيقة، شجاعته، شعوره بالحرية، وتكريسه نفسه ملصلحة شعبه
وعائلته. يشعر القارئ الذي يستوعب منطق الحبكة ويعيشها بطريقة »خيالية«
بأنه يف قبضة التشويق )Suspense)، يف قبضة النزاع بني الحرية واملسؤولية، بني
الكيل والجزيئ، العقالين والالعقالين، العدالة والظلم، الحرية والحتمية، كرامة
اإلنسان وقوة القدر، منذ بداية القراءة إىل سقوط أوديب يف النهاية. نعم، الحبكة
بسيطة وواضحة، لكنها ثرية ومعقدة مبضمونها. ميثل سوفوكليس الدراما اإلنسانية
يف مسرية هذه املرسحية، فهو ميثل املعاناة التي ينطوي عليها نضالنا لتحقيق
ذواتنا، ويربز األهمية العليا للعقل والعدالة، للتكامل األخالقي والشجاعة واملثابرة،
للمثالية والواقعية، للقوة والشفقة، لإلخالص واالحرتام، للشهامة والتواضع، للحكمة
والحامقة، للضعف والعظمة يف الطبيعة اإلنسانية. نعم، هذه الصفات وغريها
تظهر عمق إنسانيتنا وتسلط الضوء عىل دراما الحياة اإلنسانية. لكن مل يتوقف
سوفوكليس عند هذا املستوى يف التمثيل )التصوير(، ألنه يقدم يف هذا دراما
الوجود اإلنسانية يف إطار ميتافيزيقي. وهو ميزج بأحداث املرسحية أصعب األسئلة
العابرة لألزمنة التي تهمنا ككائنات إنسانية: ما حدود الحرية واملسؤولية؟ هل
الكائنات اإلنسانية فعال حرة؟ هل هي فعال عاقلة؟ هل تسيطر عىل مصريها؟ ما

63
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
حدود العقل؟ ما دور الالوعي يف حياتنا الواعية؟ كيف يجب أن نعيش ككائنات
إنسانية؟ هل السعي وراء الحياة املثالية مربر؟ نعم، الحبكة بسيطة وواضحة، إال
أنها تجر القارئ إىل عاملها وتجربه عىل االنخراط، عىل املستوى العاطفي والعقيل،
يف مجرى الحوادث واألفكار والقرارات والتحديات والدسائس واألسئلة واملفاجآت
واالنفجارات املدوية لالنفعاالت اإلنسانية. كيف نفرس هذا التطور الدرامي؟ أميل
إىل االعتقاد بأن مفتاح الجواب ال يكمن يف عنرص التشويق، بل يف عظمة الرؤية
األخالقية وامليتافيزيقية الدينية للمرسحية، يف فعلها الذي يجسد الحقيقة، ويجسد
الحرية والصداقة واملحبة التي تنبثق عن هذه الرؤية. من منا ال يعشق شخصا
كرس حياته لهذه املثل؟ لقد كرس أوديب حياته لهذه املثل، لكن كان تكريسه
)٭( الذي مل يره

ساذجا، تقريبا أعمى. كان عليه أن يصغي إىل األعمى ترييسياس
إال بعد أن فقد هو أيضا برصه. وعىل الرغم من ذلك، فام كنا ُلنعجب به لو أنه
امتثل لنصيحة األعمى وتفادى مصريه املأساوي. هل يجوز لنا أن نعجب بشخص مل
يكرس نفسه ُملُثله بصورة مطلقة؟ ليس بوسعي هنا مناقشة البعد املأساوي ملصري
أوديب، لكني أردت تسليط الضوء عىل املثل املتجسدة يف شخصيته، التي نجدها يف
العديد من األعامل الرائعة يف الثقافة اليونانية. كانت هذه األعامل من صنع العقل
اليوناين، وكانت فاعلة يف حياة الشعب اليوناين. لكن عىل الرغم من ذلك، كانت
إنسانية كلية بجوهرها، وكانت من أهم مثار التفكري امليتافيزيقي يف العرص الذهبي
للثقافة اليونانية. هل هي مصادفة أنها مازالت تالقي اهتامما عامليا شامال؟ هل هي
مصادفة أن الفن اليوناين القديم كان محركا فاعال لعرص النهضة األوروبية؟ هل هي
مصادفة أنه عىل الرغم من الهجوم الذي شنته ما بعد الحداثة ضد الفن يف عرصنا،
.
)6(
ُ التزال مُثل الفن اليوناين حية يف مختلف األمناط الفنية يف املرحلة املعارصة؟
ُ السياسة: كام الحال يف مجال الفن والدين، يظهر النظام السيايس للحضارة
اليونانية القدمية، بكل وضوح، الخصائص األساسية للنظرة العاملية التي تعد أساسا
)٭٭( عن هذه الخاصية بكل جالء، يف »خطبة الجنازة«، قبل

لها. لقد عرب بريكليس
أن ميدح الجنود الذين فقدوا حياتهم يف املعركة ضد اسربطة يف 431 قبل امليالد،
)٭( Tiresias، األعمى البصري يف مرسحية »أوديب ملكا«. ]املحرر[.
)٭٭( Pericles، أحد أبرز رجال الدولة وقادتها وخطبائها يف العهد الذهبي ألثينا. ]املحرر[.

64
الصداقة
عرب عن تقديره ملؤسسة الدولة، حيث قال: »أريد أن أوضح لكم املبادئ السلوكية
التي اعتمدناها يف الوصول إىل هذه الدرجة من القوة، وإىل املؤسسات وطريقة
)7(. لقد كان برييكليس عىل وعي تام بالعالقة

الحياة التي جعلتنا إمرباطورية عظيمة«
السببية بني الرؤية اليونانية للعامل وطريقة الحياة اليونانية، أي الدور الذي أدته
املؤسسات االجتامعية يف تطوير الحضارة اليونانية. دعوين أركز االنتباه عىل املؤسسة
السياسية: الحكومة. ويف الواقع، ابتدأ بريكليس مديحه بهذه املؤسسة. ما الخصائص
األساسية لهذه املؤسسة؟ الحرية– الحرية األخالقية والسياسية، وأساس هذه الحرية
الحكم الذايت. املجتمع املستقل، أي املجتمع الحر، يحكم ذاته بذاته. يف هذا النوع
من املجتمع يكون الشعب مصدر السلطة السياسية، والشعب هو الذي يحكم
وليس اإلرادة القاهرة، سواء كانت إرادة الطاغية أو إرادة قلة متسلطة، بل القانون،
ومصدر هذا القانون إرادة الشعب. املجتمع الحر هو املجتمع الذي يحدد حياته
ومصريه، اإلنسان الحر هو اإلنسان الذي يحدد حياته ومصريه. لكن كيف يحدد
املجتمع حياته ومصريه؟ بحسب برييكليس، فإن »الحرية« ال تعني فقط الحرية
الخارجية، أي االنعتاق من الخطر أو القيود الخارجية، بل الحرية الداخلية أيضا،
حرية الشعب يف أن يحكم، أن يختار طريقة حياته ويعيش وفقا لحكمته. يف هذا
النوع من املجتمع يختار املواطن مرشوع حياته ويحقق نفسه كفرد– املو َ اطنة الحرة
هي األساس الوحيد للمجتمع الحر. اآللية التي اختارها األثينيون لتحقيق حريتهم
هي املشاركة املبارشة يف إدارة شؤون الدولة – أي شؤونهم. هم الذين رشعوا القوانني
التي نظمت حياتهم. لكن الخاصية املهمة لهذه املامرسة السياسية هي أنها حولت
أعضاء املجتمع إىل جامعة. األعضاء يف هذا النوع من املجتمع مواطنون ال أتباع.
الجامعة أساس حياة املواطنني، وهي مصدر معتقداتهم وقيمهم، تلك القيم التي
تضفي املعنى عىل حياتهم األخالقية واالجتامعية والعقلية والدينية والفنية، عىل
حياتهم كبرش. باختصار، املواطنون يحققون مصريهم يف الدولة )Polis )ومن خاللها.
بحسب برييكليس، الدستور هو أساس الحرية واملبدأ األعىل للتنظيم السيايس
واالجتامعي. وميكن القول إنه أعىل تجسيد إلرادة الشعب ولرغبتهم يف طريقة
الحياة التي يختارونها. وتتجسد هذه اإلرادة يف املؤسسات التي تنظم حياتهم. حرية
املجتمع تعتمد عىل مدى انبثاق القوانني عن إرادة الشعب. لهذا السبب الشعب يف

65
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
املجتمع الحر ينتخب املسؤولني الذين يرشعون وينفذون قوانني الدولة. لكن بحسب
اليونانيني، قوانني الدولة ليست السلطة العليا يف األمور التي تتعلق بالحق والباطل يف
إدارة شؤون الدولة. وليك تكون القوانني عادلة يجب أن تتسق مع متطلبات الفضيلة،
أو ما نسميه يف الوقت الحارض القوانني األخالقية أو العقالنية. »إدارة القانون«، كام
يقول بريكليس »تتمركز يف أيدي األكرثية، وليس األقلية. وعىل الرغم من أن القانون
يضمن عدالة تساوي بني الجميع من دون استثناء يف خالفاتهم الشخصية، فإن علينا
االلتزام مبتطلبات الفضيلة، وهكذا فعندما يتميز مواطن عن اآلخرين بطريقة ما،
ألي سبب كان، فإنه يحتل مناصب عالية يف الدولة، ال كهبة يمُنح إياها بل كمكافأة
)8(. يف الدميوقراطية الحقيقية املواطن يطيع القانون ليس من شعور
يستحقها«
بالخوف بل من شعور باالحرتام. ملاذا ال أحرتم القانون الذي ينبثق من إراديت؟ أليست
الطاعة لقانوين أنا، عندما يكون عقالنيا ومتسقا مع القانون األخالقي، جوهر حرية
إراديت؟ كان برييكليس فخورا بهذه الخاصة للدميوقراطية األثينية: »عىل املستوى
الخاص نحن أحرار، وعىل املستوى العام نقوم بواجباتنا بشعور من االحرتام. نتجنب
األفعال الباطلة ألننا نحرتم السطلة القانونية، وبخاصة القوانني التي تحمي املترضرين،
)9(. القانون
وكذلك تلك القوانني غري املكتوبة التي تجلب عىل املخالف السخط العام«
األخالقي األعىل هو الذي يحدد جوهر العدالة. صحيح أن القانون هو مقياس
العدالة، لكن ما الذي يضفي عىل القانون صفة العدالة يف اإلطار االجتامعي؟ وفقا
لألثينيني، وأيضا وفقا ألفالطون وأرسطو، يكون القانون عادال عندما يخدم مصالح
الشعب أو الجامعة، وليس مجرد مصالح األقلية أو مصالح الحاكم. علينا أال ننىس
أن املجتمع كائن عضوي. هل ميكن للكائن العضوي أن يكون سليام إذا كان عضو
فيه مريضا؟ أليست الجامعة كائنا عضويا؟ فكيف ميكن لها، باملثل، أن تكون إذا
أهملت املعوزين واملرىض، أو إذا أهملت التعليم والفن والتجارة واالحتياجات املادية
للشعب، أو إذا مل توفر االحتياجات الحياتية بالتساوي لجميع أعضائه، يف سعيهم
لتحقيق أنفسهم كأفراد؟ هل بإمكان الجامعة أن تكون عادلة إذا أهملت الكرامة
اإلنسانية؟ كال، ولكن هل ميكن للمجتمع أن يحكم بصورة عادلة عندما يطبق القانون
حرفيا فقط؟ نعم، فإحدى الخصائص الجوهرية لرؤية العامل عند اليوناين القديم هي
أن غاية الدولة كنظام، كمنظومة للمؤسسات االجتامعية، هي خلق وتعزيز رشوط

66
الصداقة
املجتمع العادل. صاغ هذه القاعدة، بكل وضوح، قادة مثل برييكليس وبيسسرتاتوس
)٭( وفالسفة ومرسحيون يف العرص الذهبي لليونان القدمية بني

وسولون وكليسثنيس
القرنني الرابع والسادس قبل امليالد. وال أزعم أن هذه الرؤية املثالية تحققت يف أثينا
والدول األخرى، وهي مل تتحقق، ألن اليونانيني مل يكونوا، جميعا، أحرارا باملعنى
الذي رشحته منذ لحظات، حيث مل يتمتع النساء والعبيد واألجانب بحق املشاركة
يف العملية السياسية. أضف إىل ذلك أن العديد من الناس عانوا الفقر والعنرصية
والعزلة السياسية. األصح أن نقول بأن الحرية كانت مثاال يونانيا، وكان هذا املثال
عنرصا جوهريا يف الرؤية اليونانية للعامل. علينا أن نتذكر دامئا أن املثل أهداف نسعى
من أجلها. واملهم هو ما إذا كانت هذه األهداف جزءا من حياة الفرد أو الجامعة

.
)10(
كطموحات، وما إذا كانت تؤدي دورا فاعال يف حياتهم
4 - تحوالت النموذج األخالقي يف الثقافة الهلنية
أحد العنارص املهمة التي حاولت أن أوضحها هو أن تحول مؤسسة أو أكرث يف
ثقافة الجامعة ينتج تحوال يف املؤسسات األخرى للثقافة، أي يف الثقافة ككل. قد يبدأ
هذا التحول بسبب تغري راديكايل مفاجئ، أو انهيار مفاجئ، أو تطور بطيء إلحدى
املؤسسات؛ لكن عاجال أو آجال سوف تتغري بقية املؤسسات وفقا ملنطق التغري الذي
طرأ عىل املؤسسة األوىل. وعادة ما يشري التغري الراديكايل الذي يطرأ عىل مؤسسة
رئيسية إىل تغري، وإن يكن تدريجيا، يف رؤية تلك الثقافة ككل للعامل، وأيضا يف املوارد
املتوافرة لها يف ذلك الحني. وبكلامت أخرى، سوف يكون التغري شامال، وإذا استعملنا
تعبريا للفيلسوف نيتشه، فسوف يعني تغري معنى القيم )transvaluation )يف
مفهوم الجامعة تغري القيم فيام تعده الجامعة مهام يف مختلف مجاالت الحياة:
الدينية والخلقية والسياسية واالقتصادية والرتبوية والفنية واالجتامعية.
5 - االنتقال إىل منوذج الثقافة الهلنستي
دعونا اآلن نرى كيف تحولت هوية الثقافة اليونانية إىل الثقافة الهلنستية. فيام
ييل سوف أسلط الضوء عىل دينامية هذا التحول، وبخاصة عىل العنارص التي أدت
)٭( Cleisthenes َّ ، أحد نبالء أثينا. أسهم يف إدخال تعديالت مهمة عىل الدستور وسعت من صالحيات الشعب. ]املحرر[.

67
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
دورا حاسام يف تغيري املؤسسات، ومن ثم يف تغيري هوية الثقافة اليونانية. هديف
النهايئ هو أن أبرهن عىل صدق القضية التي تقول إن تغريا يف رؤية العامل يف ثقافة
ما سوف يؤدي إىل تغري يف أمناط السلوك النموذجية لتلك الثقافة. هذه املناقشة
للتحول التدريجي للثقافة اليونانية من هويتها الهلنية إىل هويتها الهلنستية سوف
تلقي ضوءا كاشفا عىل هذه القضية. وعندما أنتهي من تحلييل لهذه القضية
سأناقش عملية تحول منوذج معني إىل منوذج آخر– إىل رؤية أخالقية جديدة. تنبع
دينامية التحول هذه من نوعية التحول الذي طرأ عىل الرؤية الهلنية للعامل. أي
تغيري يف القيم واملعتقدات، التي تشكل بنية رؤية العامل، سيؤدي إىل تحول يف رؤيتها
األخالقية، أي يف رؤيتها للخري األسمى.
سوف أبدأ بلمحة تاريخية، وبحثية، عىل املرحلة األخرية من العرص الذهبي
اليوناين. انهارت إمرباطوريتان يف النصف الثاين من القرن الثالث قبل امليالد، األوىل
فلسفية، والثانية سياسية. شيد األوىل أفالطون وأرسطو، وشيدت الثانية أثينا
وإسربطة. انهارت األوىل بوفاة أرسطو يف العام 322 قبل امليالد، والثانية عندما
)٭( وأثينا يف 338 قبل امليالد. األوىل

تغلب امللك فيليب املقدوين عىل جيوش طيبة
سجلت نهاية التأمل امليتافيزيقي الذي دام من القرن السابع إىل القرن الرابع قبل
امليالد، والثانية سجلت نهاية الدولة– املدينة يف اليونان. دشن هذا االنهيار املزدوج
عملية انحطاط الثقافة الهلنية التي احتفلت بأعىل لحظاتها يف عهد برييكليس
وسقراط وفيدياس وسوفوكليس ودامت حتى موت أرسطو واإلسكندر األكرب، ومهد
هذا االنهيار لربوز مقدونيا كأعظم قوة سياسية يف العامل اليوناين، خاصة عندما
تخىل ابن فيليب، اإلسكندر األكرب، عن الدولة- املدينة )polis )ملصلحة الكيان
املتعدد األعراق )cosmopolis). وقد بدأ تحقيق هذا الهدف بتوسيع حدود
مقدونيا رشقا إىل نهر الهندوس يف الهند، وشامال إىل أفغانستان، وجنوبا إىل مرص
وشامل أفريقيا. كان هدفه بسط سلطته ونرش الثقافة اليونانية يف األرايض التي
احتلها. كان يؤمن، مثل أستاذه أرسطو، بتفوق الثقافة اليونانية ويف الواقع، فقد
زرع بذور هذه الثقافة يف األرايض التي سيطر عليها. وعىل عكس أي فاتح من قبله،
)٭( Thebes، مدينة يف وسط اليونان، لها دور مهم يف األساطري. ]املحرر[.

68
الصداقة
جلب معه حاشية كبرية من العلامء واملختصني بالرياضيات واملعامريني والنحاتني
والفالسفة والخرباء يف الحياة االجتامعية للبلدان التي احتلها. ميكن اعتبار هؤالء
املفكرين، الذين كانوا الحافز األول لنهوض وتطور وانتشار الثقافة الهلنية، سفراء
ثقافة، غري أن اإلسكندر مل يعش ليشهد مثار أعامله ألنه مات يف بابل بعد عرش
سنوات من بدء حملته العسكرية. مل يرتك وريثا، ألنه، ال هو وال غريه، توقع موته
املبكر. وعالوة عىل ذلك، مل يكن أحد من ضباطه مؤهال لخالفته، ألنهم افتقروا إىل
رؤيته ومثاليته وذكائه العسكري وحامسه ومهاراته القيادية، غري أنهم نجحوا يف
تقسيم اإلمرباطورية إىل خمس ماملك: فارس وبرغامون وسورية ومرص ومقدونيا.
معروف أن قهر شعب أسهل من حكمه، خاصة عندما ميتلك الشعب ثقافة مغايرة.
فكيف تيرس مللوك اليونانيني حكم شعوب مغايرة لهم يف كل يشء: اقتصاديا ودينيا
وسياسيا واجتامعية وأخالقيا وتاريخيا؟ كيف أمكنهم أن يحكموا هذه الشعوب إذا
مل يكونوا قد استطاعوا التواصل معها؟ وكيف ميكن التواصل مع هذه الشعوب إن
مل ينطقوا بلسانها، ثقافيا ولغويا؟ عىل عكس الحكام اإلمرباطوريني يف سورية وبالد
النهرين ومرص وآسيا الصغرى وبالد فارس، مل يكن الهدف من الحملة التوسعية
التي قام بها اإلسكندر استعباد الشعوب التي تغلب عليها بل حكمها. وهدفه كان
سيادة السلطة والثقافة اليونانية. هدفه كان خلق نظام عاملي جديد بصورة الثقافة
اليونانية. وامللوك الذين خلفوه نفذوا السياسة ذاتها. برزت هذا الحقيقة بعد موت
اإلسكندر، ألن هدف امللوك الجدد مل يكن إنشاء سلطة إمرباطورية مركزية عىل
الشعوب التي يحكمونها كام كانت الحال يف اإلمرباطوريات السابقة، وكام أصبح يف
معظم اإلمرباطوريات فيام بعد.
عىل أي حال، كانت الثقافات املختلفة يف آسيا الصغرى وسورية وفارس راقية
ومتقدمة. رمبا كان باإلمكان تغيري الجوانب املادية من حياتهم نسبيا ولفرتة زمنية
قصرية، حتى إن كانت هذه مهمة صعبة، أما تغيري روحهم الثقافية، أو بكلامت
أخرى، مؤسساتهم وتقاليدهم، املكتوبة وغري املكتوبة، برسعة، فأمر آخر! كان
امللوك الجدد عىل وعي تام بأن التعاون مع أتباعهم الجدد رشط رضوري للبقاء
يف الحكم. ومارسوا هذا التعاون بالتسامح الثقايف واالنفتاح عىل تقاليدهم، عىل
األقل إىل حد معقول. مارسوا فن املساومة. تعلموا كيف يقتبسون ويتلقون، وليس

69
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
فقط كيف يعطون. لكن عىل الرغم من أن هذه السياسة كانت عقالنية، وإىل حد
ما عملية، فإنها مل تكن سهلة التطبيق، وإن بقيت أفضل سياسة يف تلك الظروف.
القوا الكثري من الصعوبات، مثال كانت األرستقراطية اليونانية، مثال، معزولة عنرصيا،
خاصة يف مرص، عن السكان األصليني. احتفظوا بتقاليدهم ومامرساتهم وحاولوا
قدر اإلمكان أن يكونوا أوفياء لطرقهم اليونانية. أسسوا أنظمة إدارية يونانية يف
مختلف املاملك التي أخضعوها. اللغة اليونانية كانت لغة الدولة والتعليم، غري أن
هذه الحال مل تدم طويال، فخالل قرن واحد هاجر عدد هائل من التجار واملعلمني
والفالسفة والفنانني والعلامء واملزارعني والجنود واملغامرين اليونانيني إىل املدن
الرئيسية يف املاملك الخمس. مل يرتددوا يف العمل والتزاوج والعيش مع السكان
األصليني. ومل يرتددوا يف العيش وتحقيق مصريهم هناك. هذا االنفتاح واالختالط
ساعدا عىل بروز رؤية ثقافية جديدة.
اقتبس اليونانيون العديد من تقاليد وأفكار وسلوكيات ومامرسات املجتمعات
الجديدة التي سيطروا عليها. غري أنهم، يف الوقت نفسه نقلوا معتقداتهم وتقاليدهم
حيثام حلوا. يف أقل من مائة سنة انترشت الفنون واللغة والفلسفة والعلم والقوانني
اليونانية يف املاملك الجديدة. وبهذه الطريقة جرت عملية من التفاعل الثقايف، وناتج
هذه العملية كان انبثاق ثقافة جديدة: الثقافة الهلنستية. دخلت كلمة »هلنستي«
قاموس اللغة عىل يد دوين )Doyen)، أحد املؤرخني يف القرن التاسع عرش. تشري
هذه الكلمة إىل اندماج الثقافة الهلنية )اليونانية( مع ثقافات الرشق األدىن: سورية،
فارس، برغامون، مرص وشامل أفريقيا. وعىل الرغم من أن جميع الثقافات التي
ازدهرت يف هذه املاملك كانت مختلفة بعضها عن بعض، وبقيت مختلفة، كانت
جميعها هلنستية، ألن كل واحدة منها جسدت خصائص أساسية من الثقافة الهلنية.
عىل سبيل املثال، عىل الرغم من أن توجه الثقافة املرصية كان »يونانيا« فإنها ظلت
مختلفة عن الثقافات السلوقية والفارسية واملقدونية والربغامونية، عىل الرغم من أن
جميع هذه الثقافات متيزت بالتوجه اليوناين. مل يكن هذا التغري مصادفة أو قصدا بل
رضورة تاريخية. الرغبات واآلمال واملعتقدات واملثل اإلنسانية ال تسقط من السامء،
بل تنبثق عن ظروف الشعب الوجودية، عن نوع التجارب التي ميرون بها يف تلك
الحقبة الزمنية. أليس من املعقول أن نتوقع تغريا يف رغبات وآمال ومعتقدات ومثل

70
الصداقة
الشعب عندما تتغري بنية هذا النوع من التجارب؟ عندما تتغري طبيعة أهم مؤسسة،
املؤسسة السياسية، التي تشمل وتغذي وتحمي بقية املؤسسات، حيث املواطنون
يكتسبون األبعاد األخالقية والعقلية والدينية والسياسية واالجتامعية لشعبهم؟ نعم،
عندما تتغري هذه املؤسسة أليس من املعقول أن يحدث تغري مامثل يف املؤسسات
األخرى؟ هذا ما حدث عندما متزقت الدولة- املدينة )polis )اليونانية كوحدة
سياسية وثقافية، وأصبحت جزءا من الوحدة السياسية العاملية )cosmopolis )
الجديدة. أعتقد أنه عندما تنهار أهم مؤسسة، املؤسسة السياسية، فإن املؤسسات
األخرى سوف تتأثر بحكم الرضورة. ومبرور الزمن ستتغري هويتها.
حجم ورسعة هذا التغري سوف يتقرران وفقا ملنطق وطبيعة التغري اللذين
يطرآن عىل املؤسسة السياسية، ألن هذه املؤسسة تحدد، بطبيعتها، أطر وأنواع
وتوجهات وإمكانات التغري الذي يحدث يف املؤسسات األخرى. مثال، عىل الرغم من
أن البطاملة كجامعة وثقافة ظلوا معزولني، فإنهم مل يتيرس لهم أن يحكموا مرص
من دون أن يتخذوا، عىل األقل، بعضا من آلهتهم وتقاليدهم ومامرساتهم الدينية.
ومرة أخرى، ويف اتجاه مناقض لتوجهاتهم الهلنية، اقتبس امللوك البطاملة ألقابا
ّص« )Soter )وتزوجوا أخواتهم، ومارسوا عبادات طائفية،

دينية جديدة، مثل ُ»املَخل
وأضفوا عىل أنفسهم ما يشبه القداسة )تقليد ابتدأه اإلسكندر األكرب(، وارتبطوا
ببعض اآللهة. عالوة عىل ذلك، ابتدعوا آلهة جديدة مثل سريابيس )Serapis )وهو
عبارة عن مزيج من أوزيريس )Osiris )وآبيس )Apis )من جهة، وصفات معينة
لزيوس وديونيسيوس، من جهة أخرى. واليشء الغريب هو أن طائفة سريابيس
انتقلت إىل اليونان وعبدوه هناك كبقية اآللهة، وأصبحت ديلوس )Delos )مقره
الرئييس. بعض املعابد اليونانية بقيت إىل يومنا هذا كآثار تذكارية شامخة وشاهدة
عىل الثقافة الهلنية والتي شيدت تكرميا لإللهني هوروس )horros)، وإدفو )Edfu).
أضف إىل ذلك أن زوجة وأخت بطليموس، أنايت، اتخذت إيزيس إلهة نصرية لها.
وانتقلت هذه اإللهة إىل اليونان وعبدها الناس هناك كإلهة معرتف بها. وحدثت
تغريات مامثلة يف املاملك األخرى. عىل سبيل املثال، كوسيلة لتثبيت حكمه يف
مقدونيا وآسيا الصغرى، وليك يزداد نفوذه يف فارس ويقنع الشعب بأنه القوة
املطلقة، قدم دمييرتيوس بن انتيغونس نفسه ككائن إلهي، وكسليل لآللهة، كام

71
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
كان يفعل بقية امللوك يف مرص وسورية ومقدونيا. كان يخاطبه الشعب األثيني
عىل النحو التايل: »سالما يابن بوسيدون العظيم، وأفروديت. اآللهة األخرى إما أنها
بعيدة عنا أو هي بال آذان أو ال وجود لها أو ال تكرتث لنا أبدا، أما أنت فرناك كيل
)11(. هل
الحضور. ال يف الكلامت وال يف األحجار، بل يف الحقيقة، لهذا نتوسل إليك«
توجد طريقة أفضل من هذه لدولة- مدينة متمرسة سياسيا ليك تكسب حامية
وعطف ملك استبدادي؟
وعىل الرغم من هذا النمط وأمناط شبيهة من مامرسة النفوذ، فإن الشعوب
اليونانية احتفظت بنفوذها وغالبا مبركزيتها يف حياة الشعوب الهلنية والهلنستية.
لقد شيدوا املعابد تكرميا لزيوس وأفروديت وديونيسيوس وأبولو يف جميع أنحاء
املاملك. لكن معناها ومغزاها األخالقي والديني وامليتافيزيقي تغري جذريا. وأعتقد
أن هذا التغري حتمي، ألن البيئة الثقافية واملادية لهذه املعابد واآللهة بذاتها مل
تكن يونانية بصورة صافية، فبيئة الدولة- املدينة )polis )اندثرت وحلت محلها
بيئة الكوزموبوليس )الدولة العاملية(. لقد كانت ابنة اإللهة تيكه )Tyche )إلهة
املصادفة، أو الحظ، شعبية يف جميع أنحاء املاملك الهلنستية، لكن هويتها اليونانية
بحكم الرضورة تغريت وفقا ملشاعر ومعتقدات املجتمع املتعدد الثقافات، وأصبحت
إلهة القدر، أي ليس فقط إلهة الحظ بل إلهة املآيس أيضا. وهكذا غادرت موطنها
جبل األوليمب وتحولت إىل قوة شفافة تحرك جميع التحوالت والتغريات يف
الظواهر املادية. الطبيعة أصبحت موطنها الجديد.
دعونا اآلن نطلع عىل مؤسسة هلنستية أخرى، الفن. ولرنكز انتباهنا عىل فن
النحت، ألنه، برأيي، يبني بوضوح كيف تغري الفن مبنهجه ومواضيعه ودوره يف
املجتمع، وبخاصة كيف انعكس هذا التغري يف املعتقدات والقيم التي انبثقت
عن الثقافة العاملية. خصائص املثالية والبساطة والتوازن التي ميزت الفن الهليني
تراجعت، وبرز وعي جديد واهتاممات فنية جديدة. واكتسب الفنان حرية
إبداعية مل يعرفها من قبل، فلم يعد يتقيد باختيار موضوعه الذي كان يقترص عىل
متثيل شخصيات ومشاهد معينة، بل اعترب عامل الحياة اإلنسانية برمته، وأيضا عامل
الطبيعة، مصدرا لإللهام اإلبداعي. بهذه الخطوة انتقل الفنان من النزعة املثالية
إىل النزعة الواقعية. كرم شخصيات كالعلامء والفالسفة والسياسيني وآلهة معينة

72
الصداقة
بصنع متاثيل جميلة لهم، وعرضها يف أماكن خاصة وعامة. وكان هدفه مزدوجا:
التعبري عن االحرتام للشخصيات املرموقة يف املجتمع، والرتبية األخالقية. مثال،
)٭(نقرأ: »ألنه علم الفضيلة والعفة للشباب، ولحياته التي عاشها

تحت متثال زينون
كنظام متكامل«. ومل تكن اهتاممات الفنان يف ميدان الحياة العملية مقترصة عىل
)٭٭( أو عىل قادة ومثقفني، بل

أشخاص كسقراط وأبيقور وإبكتيتوس ودميوسثنس
شملت مجاالت أخرى يف الحياة االجتامعية. وقدم النحاتون طيفا واسعا من الناس:
رياضيني وصيادي سمك وأطفاال ومسنني، نساء ورجاال، بغض النظر عام إذا كانوا
أغنياء أو فقراء أو مثقفني أو أقوياء أو ضعفاء. اليشء الذي لفت نظر الفنان هو
سيل الحياة الواقعية، الحياة عىل أرض الواقع، ليس فقط عىل املستوى االجتامعي،
بل عىل املستويني الروحي والنفيس أيضا. مل يتقيد خيال الفنانني بأي جانب من
السلوك اإلنساين، مبا يف ذلك السلوك الجنيس. بقيت بعض متاثيلهم إىل يومنا
هذا، وهي موجودة يف عدة مناطق يف الرشق األوسط وأوروبا وأمريكا الشاملية،
وبالتايل صاحب التغري يف موضوع العمل الفني تغري يف الرؤية واألسلوب الفني.
سعى الفنانون الهلنستيون إىل أن يعربوا بتامثيلهم عن الحياة الباطنية ملختلف
أنواع البرش، يف الساحات العامة واألروقة السياسية واملعابد واملدارس واملنازل ويف
الطبيعة. ركزوا انتباههم عىل الحياة الباطنية وحاولوا التعبري عن جوهر وقيمة
هذه الحياة بصورة ذات ثالثة أبعاد. تحول الرخام إىل جسد إنساين، إىل تعبري
عن الحزن واملحبة والعزلة واملأساة والتفكري. وتحول أيضا إىل إمياءات وحركات
حية. مل يتقيدوا بقواعد االنسجام والرياضيات كام فعل الفنانون الهلنيون. منطق
النفس اإلنسانية، أو منطق الحياة اإلنسانية، حل محل منطق الرياضيات العادي.
استطاعوا تطويع الوسيط التعبريي ملنطق التعبري. دعونا ُن ِ لق نظرة نقدية عىل
)٭٭٭( )Hermes )لرباكستليس )Praxiteles )الذي ميثل ذروة تطور
متثال هريمس
فن النحت يف العرص الكالسييك، ونقارنه بتمثال أبوكسيومينوس )apoxyomenos )
)٭( Zeno، فيلسوف ومعلم يوناين من القرن الرابع قبل امليالد. ]املحرر[.
)٭٭( Epictetus، فيلسوف رواقي تويف يف القرن الثاين قبل امليالد؛ وDemosthenes، رجل دولة وخطيب أثيني
من القرن الرابع قبل امليالد. ]املحرر[.
)٭٭٭( Hermes، **** اآللهة، رب املسافرين والتجار واللصوص عند اليونانيني. ]املحرر[.

73
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
الذي يعود إىل الفرتة األوىل من العرص الهليني. عىل الرغم من أن هريمس منوذج
من التوازن واألناقة، فإن الفرد بكل سهولة يالحظ أنه معدوم الحيوية– التمثال
يعطينا االنطباع بأنه جزء من اللوح الرخامي الذي استعمله الفنان يف تشكيله، كأنه
محبوس يف صندوق داخل هذا اللوح. التمثال بحد ذاته جميل وحيوي. هذا صحيح،
لكن ال نستطيع إدراك هاتني الصفتني إال إذا وقفنا لننظر إليه من زاوية معينة.
عالوة عىل ذلك، وعىل الرغم من أنه جميل كشكل مادي وبإمكاننا تقديره جامليا
عىل أكمل وجه، فإنه ال يخاطبنا وال يثرينا عاطفيا. حياته الباطنية تبقى محجوبة
وراء سطح التمثال، ويف املقابل نجد أبوكسيومينوس رفيعا ومرنا ومتحررا. ذراعاه
وركبته اليمنى دينامية ونشيطة. التمثال ككل موجود يف الفضاء الطلق، وال يخضع
لقواعد رياضية وفيزيائية وتوازنية. نرى هذه الخاصية يف متاثيل عديدة متطورة إىل
.
)٭(
درجة أعىل يف أعامل مثل »ناييك من ساموثرايك« و»امرأة السوق« »أفروديت«
يف هذه األعامل وأعامل أخرى الحقة نالحظ محاولة رائعة يف التصوير التعبريي،
يف التعبري عن الحياة الباطنية والخارجية للموضوع املصور. لقد نجح فنان النحت
الهلنستي يف دمج الصفات اإلنسانية مع الرخام.
عىل عكس نحايت العرص الكالسييك الذين أعطوا مواضيعهم شكال مثاليا، وبغض
النظر عام إذا كانت منحوتاتهم تصور فالسفة أو سياسيني أو آلهة أو مواطنني
مرموقني، ّمثل النحاتون الهلنستيون الكائنات اإلنسانية كام كانوا يعيشون ويفهمون
حياتهم عىل أرض الواقع. وأرادوا أن تنبض هذه الحياة يف عروق متاثيلهم. لهذا
السبب حاولوا تحويل مادتهم النحتية إىل صور حية. امرأة السوق، املوجودة اآلن
يف متحف نيويورك، ليست متثيال مجردا لنوع من النساء بل المرأة معينة )جزئية،
خاصة(، لحياة إنسانية معينة. إنها متثال المرأة واحدة حية، بإمكانك أن تلتقيها يف
الشارع، أو يف الساحات العامة، امرأة ميكن لك أن تتفاعل معها وتعرفها وتتحسسها
وتحاورها بهدوء. الثوب الذي ترتديه والسلة التي تحملها وشعرها الذي تحجبه
قبعة مجعدة وثنايا ثوبها الفضفاض وثدياها اللذان يعربان عن نبل املرأة وعمق
)٭( Samothrace of Nike The أو متثال النرص املجنح، منحوتة رخامية رومانية لسيدة من البالط يف طريقها
ملهرجان ديونيسوس، عىل األرجح؛ وAphrodite متثال رخامي لربة العشق والجامل واللذة والتناسل اليونانية
أفروديت. ]املحرر[.

74
الصداقة
التعبري الذي يشع من وجهها اإلنساين – كل هذه التفاصيل وغريها تنقل لنا قصة
إنسان فرد. يرتدد نبض هذه الحياة يف التمثال ككل. ال نتفاعل مع هذه اللوحة
الرخامية كرخام، بل كأيقونة حية. نشعر بثقل الزمن يف إمياءة كل عضو يف جسدها،
يف عينيها، يف طريقة انحناء جسدها، يف طريقة حملها للسلة، يف عظام جسدها
البارزة، يف استسالم ركبتيها لثقل جسدها أو رمبا لثقل حياتها، يف طريقة مشيتها
بعزم، ويف الحرمان الذي يشع من منظرها. ويف هذا التمثال، ويف جميع األعامل
النحتية لهذا العرص، انتقلت نظرة النحات من عامل اآللهة وعامل الفالسفة والشعراء
إىل عامل الواقع. عامل مواطن الدولة اليونانية تراجع أمام عامل املواطن الهلنستي،
فلم يعد َق ُّط مصري املواطن مربوطا مبصري الجامعة، بل بإرادته، أو باألحرى مبصري
الجامعة يف الدولة العاملية الجديدة. هل يا ترى »امرأة السوق« تجسد، كبقية

)12(
األعامل الفنية، هذه الحالة الوجودية؟
6 - النظرة األخالقية الهلنستية
سوف أبدأ بنظرة عامة عىل املشهد السيايس. أوىل ضحايا استيالء اإلسكندر
الكبري عىل الدول اليونانية والفارسية والسورية واملرصية والربغامونية كانت الدولة-
املدينة اليونانية )polis )كوحدة سياسية ثقافية. السلطة السياسية التي متركزت يف
أثينا وإسربطة والريسا وطيبة )أثينا( انتقلت إىل املاملك الجديدة، وفيام بعد إىل
روما. بإمكاننا القول إن إقصاء أرسطو عن بالط اإلسكندر مثل، يصور رمزيا إقصاء
مثال الدميوقراطية، ومعه مثال استقالل الدولة- املدينة، يف العامل الهليني. لكن
رسعان ما بدأ هذا الطرد تطورا جديا ال ميكن االنقالب عليه؛ بدأ عملية تحول يف
نسيخ الثقافة. أوال، املواطنون يف الدولة- املدينة )Polis )فقدوا حريتهم السياسية،
فقدوا سلطتهم عىل القانون الذي كان يحكمهم. عوضا عن كونهم مواطنني أي
أعضاء فاعلني ومنتجني يف الدولة، أصبحوا رعايا، من دون إرادة أو طموح سيايس.
والحكومة الجديدة التي كانت تدير حياتهم أو حياة الجامعة مل تكن تستشريهم يف
ْبعدوا عن العملية السياسية، وأبعدوا،
ُ
إدارة حياتهم، ويف الواقع مل متثل مصالحهم – أ
بالتايل، عن أداء أي دور يف تقرير مصريهم. عىل أي حال، عندما خرسوا حريتهم
كمواطنني خرسوا أيضا حسهم بالجامعة، أي شعورهم بالتعاضد مع »املواطنني«

75
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
ُ اآلخرين، ألن أساس هذا التعاضد، وأعني ذلك املشاركة يف العملية السياسية، سِلب
منهم. وبدال من أن يكونوا مجتمعا قامئا بذاته، أصبحت الدولة- املدينة اليونانية
جزءا من ٍّكل أكرب. والقوانني التي كانت تعرب عن مصالح ومساهامت وطموحات
الدولة- املدينة حلت محلها قوانني أجنبية.
لكن انهيار الدولة- املدينة اليونانية أدى، بحكم الرضورة، إىل تهميش املعتقدات
والقيم التي كانت أساس وحدة الثقافة اليونانية ملدة أربعة قرون. بيد أن هذه
املعتقدات والقيم فقدت معناها بالنسبة إىل املواطن، ومع مرور الزمن فقد املواطن
ثقته بها. عىل أي حال، كان هذا االنهيار مبنزلة انهيار لألساس األخالقي للدولة، الذي
كان الحجر األساس للفلسفة االجتامعية لدى أفالطون وأرسطو. وبحسب هذين
الفيلسوفني، فأي نظام سيايس غري مؤسس عىل مبادئ أخالقية هو نظام مفلس، ألنه
ال يعزز الخري العام، وأي نظام سيايس ال يؤدي إىل نظام يرتكز عىل أساس أخالقي
سيكون أيضا نظاما مفلسا، ألنه ال يكرتث ملصالح الشعب. الهدف األسمى لكل من
األخالق والسياسة هو تحسني الحياة اإلنسانية. ال نستطيع فصل القانون السيايس
عن القانون األخالقي. لكن عندما حصل هذا االنفصال بعد انهيار الدولة- املدينة
كجامعة، فقد املجتمع اليوناين تالحمه وحيويته الثقافية، ألنه فقد الغراء الذي كان
سبب هذا التالحم، أي املعتقدات والقيم التي شكلت نسيج رؤيته للعامل. أدى هذ
الفقدان إىل تشظي الدولة داخليا، والعامل اليوناين خارجيا، كام أرشت سابقا. رحل
املواطنون اليونانيون، الذين عاشوا محتمني بعامل متامسك سياسيا وثقافيا استمدوا
هويتهم منه، إىل عامل مفتوح سياسيا وثقافيا. كان هذا الرحيل مصدرا عميقا للشعور
بالعزلة، نفسيا وروحيا. يف حالة كهذه، إىل أين ميكن لليونانيني الجدد أن يرحلوا
مبساعدة بيئة جديدة؟ كان أمامهم خياران: إما أن يستمروا بحياتهم كام كانت،
وإما أن يشيدوا حياة جديدة. مل يكن االختيار األول يف متناول اليد، ألن الدولة
ُدِّمرت بالفعل؛ وبقي أمامهم االختيار الثاين فقط. العزلة ال تطاق، خاصة بالنسبة
إىل اليونانيني الذين كان عقلهم ينبوع إبداع وحياة خالقة، متور فيه روح املغامرة.
ويف الواقع، فقد أخلصوا إىل هذه الروح وبارشوا مغامرة جديدة. وكانت املرحلة
التي بارشوا بها يف مغامرتهم الجديدة خارجية، وليست باطنية نحو الذات الداخلية.
مل ميكنهم تحقيق املعنى الذي كانوا ينشدونه يف داخل الدولة وال يف خارجها بعامل

76
الصداقة
اإلسكندر األكرب وخلفائه، أوال ألن هذا العامل كان أجنبيا، متاما، كام أصبحت الدولة
اليونانية بيئة أجنبية بالنسبة إليهم. العامل الذي اكتشفوه يف هذه الرحلة كان عامل
»الفردية« )individualism): عامل الكائن اإلنساين كفرد. اكتشفوا قدرات جديدة
ومصادر معنى جديدة. اكتشفوا اإلمكانية اإلنسانية بحد ذاتها. يف املايض كانت
الدولة- املدينة ترسم حدود التفكري والشعور والفعل، وكان مصريهم مطمورا داخل
مصري الجامعة. أما اآلن فقد أصبحوا مصدر مصريهم. يف الدولة- املدينة كانت
الجامعة تفكر وتشعر وتفعل من خاللهم، أما اآلن فقد انطلقوا بالتفكري والشعور
والفعل من ذاتهم. اكتشفوا أن الفرد عامل– عامل إنساين، عامل يتشكل من أفكار
ومعتقدات ومشاعر ورغبات وآمال وأفراح وإحباطات وتحديات ومصالح وأما ّين
وأحاسيس سلبية وإيجابية وعواطف ومزاج ومشاكل وحاجيات، وباألهمية نفسها
اكتشفوا أن الفرد هو الذات التي ترتأس هذه الحياة. القيام بهذه الوظيفة – الرتؤس–
هو جوهر الفردية. إذن، الفرد كائن إنساين يحدد ذاته. استمد اليونانيون مادة
عاملهم وإلهامهم يف بناء هذا العامل من الروح الثقافية التي بقيت حية يف نفوسهم،
ومن املوارد الثقافية واملادية الجديدة التي اكتشفوها حولهم يف العامل الجديد، والتي
مل يدركوها يف املايض ألن عقولهم كانت تفكر وتشعر بلغة ثقافتهم السابقة، وألنهم
كانوا يعيشون وفقا ملعتقدات ومعايري وقيم وقوانني كانوا يعتقدون أنها صحيحة.
ولكن يف هذا العامل الجديد مل يفكروا أو يشعروا أو يعيشوا بلغة الثقافة اليونانية، بل
من منظور الدولة العاملية. عامل الثقافة الهلنستية أصبح عاملهم الجديد.
غري أن انهيار املؤسسة السياسية للدولة- املدينة اليونانية مل يكن سوى البداية.
وتدريجيا، لقيت، املؤسسات األخرى الدينية والفلسفية والفنية واالقتصادية
واالجتامعية حتفها، وكان بروز الثقافة الهلنستية نتيجة هذا االنهيار. تأسست
هذه الثقافة عىل نظام عامل جديد. حلت محل خصائص اإلنسانية وامليتافيزيقية
والغائية والولع بالحرية، التي ميزت نظام عامل الثقافة الهلنية، خصائص جديدة:
الفردية والعاملية والواقعية. التوجه الديني واإلنساين للثقافة الهلنية َّ تلبس بالثقافة
الجديدة، غري أنه اكتسب معنى جديدا. الثقافتان متيزتا برؤية إنسانية، واعتنقتا
مبدأ بروتاغوراس »اإلنسان هو املقياس«. لكن يف الثقافة الهلنية كلمة »إنسان«
كانت تعني اإلنسان اليوناين، بغض النظر عام إذا أشارت إىل اإلنسان الفرد أو إىل

77
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
اإلنسان الكيل، ألن الشعب الهلني كان يفكر بلغة اليونانيني، ألن الثقافة اليونانية
كانت محور حياتهم. لكن يف الثقافة الهلنستية اكتسبت كلمة »إنسان« معنى
جديدا. »الفرد« هو الكائن اإلنساين بوصفه إنسانا. مل يكن اإلنسان الهلنستي
يوناين الثقافة فقط بل كان إنسانيا وعامليا برؤيته للعامل والحياة اإلنسانية أيضا.
الحائط الذي كان يفصل اليوناين عن غري اليوناين انهار بانهيار الدولة اليونانية.
وكام أرشت سابقا، بدأ اليوناين يفكر ويشعر ويسلك بطريقة جديدة– الطريقة
اإلنسانية. وانعكست هذه الطريقة بالفن والدين واألخالق واالقتصاد والحياة
االجتامعية الهلنستية. وبالتايل، نعم، مل يرتاجع الدين بدوره املركزي يف حياة الثقافة
الجديدة، لكن اآللهة التي عبدها اإلنسان الهلنستي وطريقة عبادته لها اختلفتا
عن تلك التي مجدتها أعامل هومريوس وهزيود، وأصبحت تجسد النظرة والحس
الديني ملختلف شعوب اإلمرباطورية الجديدة. تشكلت اآللهة الجديدة عىل صورة
»اإلنسان« الهلنستي. هذه هي الصورة التي نجدها يف املاملك الخمس، وفيام بعد
يف اإلمرباطورية الرومانية.
الرؤية الهلنية للخري: بالنظر إىل التغريات الثقافية التي شهدها القرن الثالث
قبل امليالد، دعونا اآلن نسأل: ما مثال أو تصور الحياة الصالحة يف العرص الهلني؟
ما العالقة بني هذا التصور والرؤية الهلنية للعامل؟ كيف تغري هذا التصور يف العرص
الهلنستي؟ أوال، من املعقول القول بأن فكرة »الخري« التي نجدها يف الثقافة الهلنية
انبثقت عن الرؤية اليونانية للعامل، مبعنى أن البصرية األساسية التي أسست هذ
التصور انبعثت من املعتقدات والقيم االساسية للرؤية اليونانية للعامل، من فهمهم
ملعنى الحياة اإلنسانية ومصريها. بكلامت أخرى، الرؤية اليونانية للعامل، التي كانت
أساس الثقافة اليونانية، شكلت الرتبة الخاصة التي غذت تدريجيا بناء رؤية الحياة
اإلنسانية: فهم املواطنني للعامل ومكانتهم فيه حدد، إىل درجة بعيدة، تصورهم
للخري. واآلن سوف أرشح هذه القضية بالتفصيل.
سواء يف أعامل أفالطون أو أرسطو، أو يف أعامل كتاب املرسح، أو يف أفعال رجال
السياسة أو يف منط حياة الناس، كان تفهم اليونانيني للخري بلغة الفضيلة. الشعب
الصالح )الخيرِّ( هو الشعب الفاضل، والشعب الفاضل هو الشعب الذي يسلك وفقا
لفضائل اليونانيني. غري أن الفضيلة أساس السعادة. إذن، يكون اإلنسان سعيدا، أو

78
الصداقة
يصبح سعيدا، عندما يعيش حياة فاضلة. وعندما أقول »الفضائل اليونانية« أعني
الفضائل املتعارف عليها يف الجامعة اليونانية. ويف الحقيقة، الجامعة اليونانية كانت
سبب وجود املواطنني اليونانيني مبا هم عليه كـ »مواطنني«. الجامعة كانت األول
واآلخر يف حياتهم: مصريهم. بحثوا عن مصريهم وحققوه ضمن إطار ثقافتهم. لهذا
السبب قلت سابقا إن مصري املواطنني اليونانيني كان وثيق االرتباط مبصري الجامعة.
هذه النظرة مرشوحة بالتفصيل ومؤسسة ميتافيزيقيا يف فلسفة أفالطون وأرسطو.
بحسب هذين الفيلسوفني، الفضيلة أساس الحياة الصالحة، ويف الحقيقة، كلمة
»فضيلة« تعني »االمتياز«، ولكن ليس هذا أو ذاك االمتياز، ألن لكلمة »صالح«
)أو جيد( أن تصف أي موضوع أو حادثة. غري أن السلوك املهم هو: ما جوهر
الصالح، أو الخري، أو الفضيلة؟ عامة، استمد اليونانيون معنى »الفضيلة« من معنى
»الوظيفة« )ergon). أي مواطن يكون صالحا، أو جيدا، عندما يقوم بوظيفته عىل
خري ما يرام. لكن نوع الوظيفة التي يؤديها املواطن يعتمد عىل طبيعته، وعىل
الغاية املفروض أن يحققها. مثال، وظيفة الطاولة تعتمد عىل الغاية التي صنعت
من أجلها، وهذه الغاية تحدد وظيفة وطبيعة املواطن. باملثل، الناس يقومون بأنواع
عديدة من الوظائف: بوظيفة املواطن أو الوالد أو الصديق أو التاجر أو الجندي أو
الزميل أو الزوج. يف كل من هذه الحاالت وغريها تكون الوظيفة التي يقومون بها
جيدة أو صالحة عندما يؤديها الفرد عىل خري ما يرام، وذلك وفقا ملعايري متعارف
عليها. ولكن كصفة تشري إىل »الخري« أو »الصالح«، فكلمة »فضيلة« تنطبق فقط
عىل الكائن اإلنساين ككائن إنساين. وهنا علينا أن نسأل: ما الذي يجعل الكائن
االنساين فاضال، أي صالحا، كإنسان، ال كتاجر أو زميل أو أب؟ يف البحث عن جواب
لهذا السؤال علينا أن نراقب البرش وهم يؤدون وظيفتهم ككائنات إنسانية. لكن
ما الذي يجعل االنسان إنسانا؟ أو ما جوهر اإلنسانية؟ العقل! النشاط العقيل هو
أساس تعريف اإلنسانية. إذن الحياة العقالنية هي املعيار الذي نعتمد عليه يف
الحكم مبا إذا كان شخص ما صالحا أم ال. الحياة العقالنية الحقيقية حياة صالحة.
غري أن هذا الجواب غري واف، ألن السؤال يدور حول الكيفية التي ميكن بها للفرد
أن يعيش حياة عقالنية، أو كيف ميكن له أن يسلك عىل نحو عقالين يف حالة
معينة؟ املعيار الذي نعتمد عليه يف تحديد عقالنية الفعل هو الفضيلة ووسيلة

79
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
تطبيقه »التدبر« – النشاط العقالين. الفضيلة هي املعيار، والتدبر هو الوسيلة يف
السلوك األخالقي ويف الحاالت اإلنسانية الجزئية. قد نتكلم، كام نفعل غالبا، عن
أنواع مختلفة من الفضيلة: العدالة، الشجاعة، الصدق العفة، الشفقة، التواضع.
تصاغ هذه القيم كقواعد سلوكية، وتستعمل كمعايري، كمقاييس، يف تقييم أفعال
الخري أو الفضيلة. مثال، نقول إن الفعل شجاع عندما يجسد فضيلة الشجاعة. لكن
إذا أردنا معرفة ماهية الشجاعة يتعني أن نلجأ إىل املجتمع: إىل الجامعة. افرتض
اليونانيون أن تصورهم، أو مفهومهم، للفضيلة ولجميع املعتقدات والقيم التي
شكلت رؤيتهم للعامل صادقة وذات سلطة مطلقة. متحور عاملهم حول ثقافتهم.
لهذا السبب جادلت سابقا بأن الدولة- املدينة كانت بالنسبة إىل املواطنني مصريهم.
قد نجادل، كام فعل بعض النقاد، بأن هذه الرتجمة ملعنى الخري غري واقعية
ألنها محلية، نخبوية، ومنحازة. أو ألنها مؤسسة عىل نظرة أحادية الجانب للطبيعة
اإلنسانية وملعنى الحياة اإلنسانية. وقد نقر بعقالنية هذا النقد حبا يف النقاش، لكن
ال نستطيع أن نفعل ما فعله فالسفة مثل هيغل، وإسبينوزا، ونتجاهل أن الفرد يحقق
سعادته يف إطار الجامعة حيث يعيش ويستمد وجوده وغذاء شخصيته. عالوة عىل
ذلك، دعونا نلق نظرة عىل تاريخ الثقافات: كيف كانت الكائنات اإلنسانية يف
املايض – وميكن القول يف الحارض أيضا – تحقق سعادتها؟ ما مبدأ الخري يف هذه
الثقافات؟ هل ميكن للكائنات اإلنسانية أن متيز أنفسها كأشخاص أخالقية، أو أن
تصبح سعيدة، خارج نطاق ثقافتها؟ هل ميكن لفرد، كسقراط أو إمرسون أو نيوتن،
أن يحقق فرديته خارج نطاق ثقافته؟ بصفة عامة، اعتمد تصور الجامعة للخري أو
لنمط تحقيق سعادة األفراد فيها دامئا عىل الحالة الوجودية لثقافتها – عىل مواردها
الروحية واملادية. وما السعادة سوى محاولة الفرد ألن يحقق الرضا الباطني الذي
يدفع العقل ألن يبقى حيا مبدعا، والذي يولد الحس بالنمو الباطني، وذلك الوعي
بأن ما نفعله وننجزه يسهم يف تحسني حياة اآلخرين، وبأن الحياة التي نعيشها جزء
منسجم مع الكل الذي ننتمي إليه، وأننا بفعل ذلك ال ميكننا أن نتجاهل أو نتعارض
مع معتقدات ثقافتنا وقيمها األساسية؟ فهل ميكننا أن نكون األفراد، الذين هم
نحن، خارج ثقافتنا؟ مرة أخرى: هل نستطيع أن تكون أنفسنا صحراء ثقافية أو بيئة
معادية ملعتقداتنا وقيمنا خارج إطار ثقافتنا؟ حتى العبقري وغريب األطوار والعامل

80
الصداقة
املغامر الذي ينحرف عن األعراف والتوقعات العامة للثقافة يستمد نسيج أعامله أو
معتقداته وقيمه من الثقافة. هذا القول ال يستلزم االنجرار إىل النسبية أو إىل نكران
الضمري الفردي، أي إىل مقدرة الفرد عىل نقد قوانني ومامرسات املجتمع، وال إىل
املقدرة عىل النمو يف التفكري والشعور والفعل. ميكن لألفراد أن يحققوا أنفسهم يف
إطار ثقافتهم ويف الوقت نفسه يحتفظون باستقاللية شخصياتهم ككائنات إنسانية.
باإلضافة إىل ذلك، قد يقول البعض إنه عىل أرض الواقع يفهم بعض الناس الخري
بلغة اللذة أو القوة أو الرثوة أو املعرفة أو الصحة أو املجد االجتامعي. ويرون أن
حياتهم ستكون هنيئة ومريحة إذا تبنوا أيا من هذه القيم. لكن هل نستطيع القول
إن العيش وفقا ألي من هذه القيم وحدها يكفي ألن يجعل اإلنسان حقا سعيدا؟
أعتقد أن هذا القول مشكوك فيه. من األفضل أو األنسب القول بأن السعادة هي
تلك الصفة التي تنبثق عن تحقيق حاجاتنا املادية والروحية وفقا ملقياس ُمَدّرج من
األولويات. تشكل هذه الفكرة املبدأ الرئييس يف التعليم األخالقي عند سقراط، وهي
أيضا أساس نظريات أفالطون وأرسطو األخالقية. شيد كل من هذين الفيلسوفني
نظريته السياسية واألخالقية عىل التوجه القيمي للدولة- املدينة اليونانية. وكل
منهام اعترب الجامعة هي الوسيط الذي به يحقق الفرد سعادته. القيم األخالقية
التي شكلت الرؤية الهلنية للعامل كانت أساس الدولة- املدينة كجامعة. »املجتمع
هو اإلنسان مكتوبا بأحرف كبرية«، قال أفالطون. لكن املجتمع الذي كان يقصده
هو نظام العامل اليوناين الذي كان مكتوبا بأحرف كبرية. عموما، وعىل أي حال،
افرتض اليونانيون أن معتقدات وقيم ثقافتهم صادقة، وبصورة مطلقة. لكن كام

.
)13(
سرنى، شكك الهلنستيون بهذه النظرة
الرؤية الهلنستية للخري: ولكن عندما فقدت هذه الرؤية للعامل معناها، ويف
الواقع سلطتها، بالنسبة إىل املواطنني اليونانيني، وعندما بدأوا باالرتحال بني أقطار
العامل املفتوح أمامهم بعد انتصارات اإلسكندر األكرب الحاسمة، اضطروا إىل أن
يطوروا رؤية جديدة للعامل كأساس لحياتهم. يف هذا املسعى، استمدوا إلهامهم
األعىل من نظام عاملهم القديم. من أين لهم أن يعيشوا يف العامل الجديد من دون
توجه، من دون شعور بالضامن الباطني، من دون شعور باالستقرار، من دون هدف،
من دون وسيط اجتامعي وثقايف يحققون به أنفسهم ككائنات إنسانية؟ علينا أال

81
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
ننىس أن اليوناين الجديد انتقل إىل العامل الجديد بهويته اليونانية– كشخص ذي
تراث ثقايف. هل كان ميكن أن يكون األمر بخالف ذلك؟ كانت النظرة السابقة إىل
العامل هي املرتكز، مكان والدة نظرتهم الجديدة إىل العامل. العاملية كانت محور
هذه النظرة، والروح التي سادتها كانت روح الفردية. لقد سبق أن رشحت هاتني
الخاصيتني. اآلن سأوجه انتباهي إىل تصور الخري: كيف فهم الفالسفة الهلنستيون
الخري مقابل فهم الفالسفة اليونانيني له؟
السؤال الذي يلوح أمامنا بعد أن نتأمل السؤال األخري هو: تحت أي رشوط
ميكن ألناس اغتنوا برتاث ثقايف كالرتاث اليوناين أن يحققوا أنفسهم يف عاملهم
الجديد؟ ما نوع املعتقدات والقيم التي ميكن أن يختاروها كأساس، أو كمثل، يف
تلبية حاجياتهم اإلنسانية؟ ليك يكون جوابنا عن هذا السؤال وافيا، علينا أن ننطلق
باإلجابة من فهم عقيل ونقدي للبيئة الروحية واملادية الجديدة ولنوع الثقافة
السائدة فيها آنذاك. حسنا، مل يكن العامل الجديد آمنا ومستقرا وثابتا، ومل يكن
متالحام اجتامعيا، كام كانت الحال يف الدولة - املدينة اليونانية. احتفظت الدول -
املدينة، مثال، أثينا وطيبة أو كورينث، تقريبا، بتامسك بنيتها السياسية واالجتامعية
عىل املستوى الشكيل، والظاهري. لكنها، كام رأينا، فقدت كيانها الجامعي والثقايف
– ذلك الكيان الروحي الذي ألهم الفيلسوف والفنان والعامل واإلنسان العادي يف
مسعاهم لتحقيق أهدافهم، بشعور من الثقة واألمن ويقينهم بأن منط حياتهم
الجديد مربر. يف عامل كهذا، عادة ما يطور الفرد، برسعة، »عقلية عملية« وأسلوبا
للتكيف والعيش يف البيئة الجديدة، وأيضا يفقد رفاهية التفكري امليتافيزيقي أو
مناقشة األسئلة التي ال جواب لها، عىل األقل بصورة نهائية. مثال، مصدر العامل أو
طبيعة الكون أو البحث عن أفضل طريقة ملعرفة اآللهة أو محاولة تربير هذا النظام
السيايس أو ذاك، ألن الجامعة فقدت وجودها، أوال، وألن العامل الجديد كان متشظيا
وتعدديا من حيث الثقافات والتوجهات السياسة، وثانيا، ألنهم كانوا بحاجة ملحة
إىل مواجهة ظروف الحياة الجديدة عىل املستويني الروحي واملادي. لهذه األسباب
ابتعدت، حسب اعتقادي، الثقافة الهلنستية عن التأمل املمنهج أو امليتافيزيقي
الذي يدور حول طبيعة العامل وانشغلت بقضايا أخالقية واجتامعية. الفيلسوف
سينيكا عرب عن هذه الخاصية بوضوح يف رسالة إىل لوسيليوس: »الفلسفة ليست

82
الصداقة
مهنة تلقى قبوال واسعا، وليست وسيلة للظهور االجتامعي، وهي ال تكرتث للكلامت
بل للحقائق، وليس هدفها الحصول عىل نوع من املتعة أو تنقية الحياة املريحة
من الضجر، بل تشكيل وتغذية الشخصية وتنظيم حياة الفرد وضبط سلوكه وإنارة
طريقه بخصوص ما يجب أن يفعل أو أن يتجنب فعله، هي الربان الذي يدير حياة
)14(. نجد غيابا واضحا ألفكار وأنظمة ميتافيزيقية

الفرد كأنه وسط عاصفة خطرية«
مبدعة خالل العرص الهلنستي. وهذا هو السبب الرئييس يف أن فيلسوف األخالق
الهلنستي مل ينظر يف طبيعة الخري فحسب، بل اقرتح أيضا طرق تحقيق الخري. ما
جدوى نظرية الحياة الصالحة إذا مل تتضمن منهجا لتحقيقها يف الواقع؟ ملحة خاطفة
عىل نظرية الفالسفة أورليوس وإبيقور وابكتيتوس ولوكريشوس وزينون وشيرشون
تظهر بوضوح العقلية العملية التي ميزت الثقافة الهلنستية. إشارة موجزة أخرى إىل
سينيكا ستكون مفيدة يف هذا السياق: »هل تريدين أن أخربك عن فائدة الفلسفة
لإلنسانية؟ املشورة! ألق نظرة عىل إنسان يواجه املوت أو آخر يعاين من الفقر أو
ثالث تعذبه الرثوة، بغض النظر عام إذا كانت ثروته أو ثروة إنسان آخر. إنسان
مستاء من بؤسه، بينام إنسان آخر يتوق ألن يتحرر من النعمة. إنسان يعاين مام

.
)15(
فعله به إنسان آخر، بينام اآلخر يعاين مام فعلته به اآللهة«
شأنها شأن الفن والدين واألخالق والقانون، الفلسفة وليدة املجتمع، وليدة
نسيج معتقداتها وقيمها، أفكارها وأعرافها وعاداتها ومامرساتها وأمانيها ومصالحها
وحسها األخالقي ورقيها العقيل والجامعي واألخالقي. وهي مرآة للتصورات،
تعكس الثقافة، طبعا من زاوية معينة. والثقافة هي املدخل األول إىل روح الشعب.
ال ميكن للفلسفة أن تكون أصيلة إذا مل تنشأ من هذه الروح ومل تعكس اهتامماتها
و َ تسع إىل صياغة حاجياتها الروحية بنظام فكري. وهذا بالضبط ما فعله الفالسفة
الهلنستيون. افرتقوا عن أفالطون وأرسطو وغالبية الفالسفة الذين داروا يف فلكهم.
افرتقوا عن التقليد امليتافيزيقي الذي ساد العرص الذهبي للعرص اليوناين وركزوا
انتباههم عىل األسئلة الرئيسية املتعلقة بالحياة اإلنسانية: الخري األسمى. كان
بعض الفالسفة الهلنستيني عىل وعي بهذا االفرتاق وعربوا عنه رصاحة: »من بني
النعم العديدة«، كتب إبيقور، »هي النعمة التالية: انفصالنا الكيل عن اليونان
)16(. ال أكون مبالغا إذا قلت إن الفالسفة الهلنستيني كانوا أخالقيني بامتياز.
املجيدة«

83
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
بذلوا أقىص جهد ممكن لفهم الظروف الروحية واملادية واإلمكانات العقلية للعامل
الجديد. كيف ميكن لنظرياتهم األخالقية أن تقدم النصائح املنشودة يف إرشاد
السلوك األخالقي إذا مل تنبثق عن لب تجربتهم للوضع الثقايف؟ ال ميكن تصدير
أو استرياد األنظمة األخالقية من مجتمع إىل آخر. النظام األخالقي يعمل كجواب
)تجاوب( لنداء الروح اإلنسانية يف سعيها من أجل حياة خرية، سعيدة– وبلغة
عرصنا، يف سعيها من أجل النمو والتطور يف الحياة اإلنسانية. وهنا علينا أن نسأل:
ما نوع النظرة األخالقية، أو تصور الخري األسمى، الذي ميكن للفالسفة الهلنستيني
أن يقدموه، بل قدموه، كأساس لبناء نظرية أخالقية وافية؟ حسنا، مل يكن بوسعهم
االستمرار يف تقليد أفالطون وأرسطو، ألن الحدس األخالقي الجوهري، الذي أدى إىل
فهم هذين الفيلسوفني للخري األخالقي والذي صاغ تلك الرؤية للعامل التي حددت
فهمهام لعاملهام، وملعنى الحياة االنسانية، انبثق من تجاربهام الحياتية كمو َ اطنني
يف الدولة - املدينة اليونانية. غري أن الفالسفة الهلنستيني مل يكونوا مواطنني يف
الدولة - املدينة اليونانية بل يف الدولة العاملية )state Cosmopolitan). وعىل
الرغم من أن امللك كان إىل حد كبري استبداديا، فإنه منح أتباعه قدرا معقوال من
الحرية ليك يختاروا ويديروا حياتهم الشخصية. الدولة– املدينة اليونانية ربت
مواطنني، والدولة العاملية ربت أفرادا. الفردية كانت أساس النظريات األخالقية
الهلنستية، وبخاصة ترجمتها ملعنى الخري. بغض النظر عام إذا كان هذا الخري هو
اللذة )ataraxia )أو الالمباالة )apathia)، الحكم أو االهتداء بنموذج اإلنسان
الحكيم، اتفق جميع الفالسفة الهلنستيني عىل أن الخري األسمى يتمثل يف تنمية
املبدأ العقالين للذات الباطنية. إن مسؤولية الفرد تقتيض منه أن يغوص يف دوافعه
العقلية والعاطفية والطبيعية، ويكتشف إمكاناته اإلنسانية واملهنية، ويصمم
طريق حياته. بإمكان الفرد أن يفهم ويطبق هذا الهدف األعىل بصورة ذاتية أو
أنانية، غري أن معظم الفالسفة الهلنستيني، إن مل يكن جميعهم، أرصوا عىل أن تربية
)صقل( الفردية يجب أن تتم وفقا للعقل، وليس وفقا ملثال ميتافيزيقي أو لرغبة
شخصية. وعندما ننتقل إىل العرص الهلنستي نجد أن »الحكمة« )sophia )التي
كانت مثل الفيلسوف يف العرص الهلني، تغريت وحل محلها التعقل )phronesis )
أو الحصافة. و»الحصافة«، كام كتب إبيقور: »هي بداية كل األشياء ونهايتها، وأيضا

84
الصداقة
هي الخري األسمى. فكيف تأتيّ للحصافة أن تكون أمثن من الفلسفة؟ ألن جميع

.
)17(
الفضائل تنبثق عنها«
ويف الحقيقة، يكمن الخري األسمى يف الحياة العقلية، يف حياة يحكمها العقل
)logos)، وليس يف حياة يحكمها التقليد أو أعراف أو قواعد يساندها الرأي العام.
ّعرف الفالسفة الهلنستيون العقل بـ»الطبيعية«. فالعيش وفقا للعقل كان مبنزلة
العيش وفقا للطبيعة، والحياة وفقا للطبيعة تعني غوصا يف عمق الذات واكتشافا،
بأعىل درجة من املوضوعية، للمبادئ األساسية والدوافع والعواطف والنزعات
التي تحكم هذه الذات. األشياء التي يخلقها اإلنسان نسبية، وقتية، قابلة للخطأ،
يف حني أن ما هو عقيل، أو طبيعي، هو دائم، كيل، حقيقي. لهذا السبب رفض
الفالسفة الهلنستيون مبدأ الفضيلة الذي ساد العرص الهلني. افرتض مواطن الدولة-
املدينة اليونانية أن قيم الدولة صادقة وذات سلطة مطلقة. وانعكس هذا الرأي يف
تعاليم سقراط وأفالطون وأرسطو. غري أن الفيلسوف الهلنستي الذي عاش يف عامل
امرباطورية اإلسكندر واالمرباطورية الرومانية متعدد الثقافات، قال ال لهذا االفرتاض.
هدف الفيلسوف هو البحث عن الحقيقة. وأساس ومبدأ هذا البحث هو العقل.
ويف الحقيقة، الحياة العقلية هي جوهر الفضيلة. اإلنسان الفاضل هو اإلنسان الذي
يعيش حياة عقلية. هذا القول يتضمن بحكم الرضورة إخضاع العاطفة والرغبات
املصطنعة إىل العقل. مل يتذمر الفالسفة الهلنستيون من العواطف والرغبات
الطبيعية، لكنهم جادلوا بأنه من الرضوري أن يخضعوها لسلطة العقل. علينا أن
نقر بها ونشبعها مبا يتناسب مع حقيقة أنها جزء من كياننا الطبيعي. الخري األسمى
ال يتحقق بالسعي وراء مثال أو قيمة نهائية، أو بالعيش وفقا ملقوالت العقل
النظرية أو التأملية، كام جادل أفالطون وأرسطو، بل بالسعي وراء كامل الطبيعة
الفردية وفقا ملقوالت العقل العميل.
لهذا السبب استبدل الفيلسوف الهلنستي مفهوم الحكمة مبفهوم الحصافة.
ويف هذا االستبدال اعتمد عىل افرتاض أن السعادة اإلنسانية ال تتحقق بالعيش
وفقا لتقاليد أو قواعد أو إرشادات معينة، وال باتباع الطرق السلوكية السائدة
يف املجتمع، أو بربط مصري الفرد مبصري الدولة– املدينة اليونانية، بل تتحقق
بكامل الذات، باكتشاف وظيفتها )عملها ergon )يف ذلك املجتمع ويف تلك الحقبة

85
النماذج األخالقية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية
التاريخية، وبإنجاز هذه الوظيفة عىل خري ما يرام، أي عقليا. لكن، كيف ميكن للفرد
أن يكتشف وظيفته يف املجتمع، وأن يكتشف بالوقت نفسه ماهيته الفردية، إذا
مل يكتشف الشعاع الذي مييزه عن اآلخرين كفرد إنساين؟ يف عامل ال يفسح املجال
للحميمية، أو فرصة للتسامي بالذات، أو ملجموعة من القيم التي تعرب عن قدرات
وأمنيات الطبيعة اإلنسانية بحد ذاتها، يكون الطريق الوحيد الذي ميكن للفرد أن
يسلكه يف بحثه عن السعادة هو الطريق الذي يؤدي إىل الذات الباطنية. هذا هو
الطريق الذي سلكه املفكر األخالقي الهلنستي. هل بات هذا هو الطريق نفسه
)٭( بعد عدة قرون عندما قال إن اعتناء الفرد بحديقته هو

الذي أوىص به فولتري
الطريق املليك لبلوغ السعادة الحقيقية، أو قدر منها، يف هذه الحياة القصرية؟ نظرة
خاطفة عىل النظرية األخالقية سوف تظهر أن هذا هو الطريق املفضل الذي تويص

.)18(
به العديد من النظريات األخالقية يف العرص الحديث

)٭( Voltaire، واسمه الحقيقي فرانسوا ماري آرويه )1694 - 1778(، وهو فيلسوف التنوير الفرنيس الشهري. ]املحرر[.

بغض النظر عن االختالف يف نظرتهم إىل
العامل ومزاجهم الفلسفي ورؤيتهم األخالقية،
فإن الفالسفة الهلنيني والهلنستيني أعطوا
الصداقة مركزا مرموقا يف نظرياتهم األخالقية
واعتربوها عنرصا جوهريا، ويف حاالت معينة
رشطا رضوريا للحياة الصالحة. ويف »املبادئ
األوىل« يكتب إبيقور: »بني جميع األشياء
التي تستثمرها الحكمة إلنجاز نعمة الحياة
)1(. يردد
الكاملة، امتالك الصداقة أفضلها«
إبيقور هنا قول الفيلسوف القديم دميقريطس
الذي استمده من الحدس الجوهري لنظريته
امليتافيزيقية: »حياة الفرد ليست جديرة بأن
.)2(
تعاش، من دون صديق واحد عىل األقل«
ويف موضع آخر، يف كتاب »حول الصداقة«
يكتب شيرشون: »أرجوك الرجاء الحار أن
تفضل الصداقة عىل كل ما ميتلكه البرش، إذ إنه
ال يوجد يشء أكرث تناسبا لطبيعتنا وأكرث مالءمة
الصداقة يف النظرية األخالقية
الهلنية والهلنستية

»وفق أرسطو، الصداقة الحقيقية
تفضيلية، أي مقصورة عىل شخص
واحد«

3

88
الصداقة

)3(. وأخريا، نجد أن سنيكا يكتب إىل لوسيليوس: »الصداقة

يف أيام الضيق واالزدهار«
تشكل واحدا من االهتاممات بيننا يف كل يشء. ليست لدينا نجاحات وإحباطات
كأفراد: لحياتنا هدف مشرتك. ال ميكن ألي إنسان أن يكون سعيدا إذا فكر يف
نفسه فقط ومل يكرتث بأي يشء سوى رغباته الخاصة. يجب أن تعيش من أجل
اإلنسان اآلخر إذا أردت أن تعيش من أجل نفسك. العناية املنتبهة واملثابرة بتطوير
هذا الرابط الذي يؤدي إىل مصادقة رفقائنا البرش واعتقادنا بوجود قانون مشرتك
لجميع اإلنسانية، هي التي تساهم أكرث من أي يشء آخر يف حفظ ذلك الرابط
)4(. ملاذا أعطي فالسفة األخالق الهلنيون

األكرث حميمية الذي أرشت إليه: الصداقة«
والهلنستيون، وهم ينطلقون يف التنظري، من رؤيتني إىل العامل بالغتي االختالف، ملاذا
أعطوا هذه املكانة البارزة للصداقة؟ الجواب عن هذا السؤال مهم جدا ألنه ُيدخل
مفهوم الصداقة إىل مناقشتي لفكرة تحول النموذج األخالقي، وألنه يسلط الضوء
عىل منط حدوث هذا التحول يف العصور الوسطى والحديثة واملعارصة.
أوال، بغض النظر عن نظرياتهم األخالقية املختلفة، تشاطر الفالسفة الهلنيون
والهلنستيون افرتاضات تتعلق: )1( بالطبيعة اإلنسانية. )2( بوظيفة النظرية
األخالقية، فكانوا متفقني عىل أن وظيفة النظرية األخالقية هي دراسة الحياة
الصالحة. عىل رغم أنهم مل مييزوا بني األخالق املعيارية واألخالق امليتاأخالقية،
فإن تحليلهم للحياة الصالحة كان معياريا وميتاأخالقيا، يف آن معا. كانوا مهتمني،
أوال، بطرح مفهوم للخري ميكن استعامله معيارا يف التقييم األخالقي، وثانيا، بتقديم
تحليل جامد وبالغ التعقيد ملعنى املفهومات األخالقية واألحكام األخالقية واملبادئ
األخالقية. وسوف يكتشف أي قارئ لنظريات هؤالء الفالسفة، وأيضا لبعض ما
تبقى من الرسائل القصرية التي تركها الفالسفة األقل أهمية، أنهم كانوا ميتاأخالقيني
بامتياز. لقد كان منهجهم يف دراسة الحياة الصالحة فلسفيا شامال، وسعيهم من
أجل الحقيقة مل يكن أقل جدية وحامسا مام كان عليه منذ نشأة الفلسفة الحديثة.
افرتض الفالسفة اليونانيون والهلنستيون أن الحياة الصالحة هي الحياة
السعيدة. بالنسبة إليهم، كان من غري املعقول لإلنسان الصالح أن يكون تعيسا،
أو لإلنسان الرشير أن يكون سعيدا. فاللذة واملال والصحة والقوة، وحتى املعرفة
ليست الوسيلة إىل السعادة. هذه األهداف رشوط رضورية للسعادة، ولكن غري

89
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
كافية لتحقيقها. وبالعكس، فالسعادة صفة تنبثق من الحياة الصالحة، تلك الحياة
التي تؤدي إىل تحقيق الذات. املهم هو أال نحقق أنفسنا ككتل لحمية، أو كمجرد
كائنات متيش عىل قدمني، بل ككائنات إنسانية. ولكننا ال نولد يف هذا العامل ككائنات
إنسانية جاهزة، أو كاملة الصنع، بل كإمكانات ميكن أن تصبح كائنات إنسانية. ونحن
نصبح كائنات إنسانية يف عملية تحقق إنسانيتنا عىل أرض الواقع. هذه العملية،
وتطويرها املستمر، هي مصري اإلنسان عىل هذه األرض. وإنجاز هذا املصري هو
مصدر السعادة. يتجسد هذا االفرتاض يف املقولتني التاليتني »اعرف نفسك« و»كن
نفسك«. هاتان الجوهرتان من الحكمة احتلتا مركزا محرتما يف الفلسفات الهلنية
والهلنستية. اإلنسان الهلني حقق نفسه يف الدولة - املدينة اليونانية، أي كعضو يف
الجامعة. بينام اإلنسان الهلنستي حقق نفسه كإنسان يف الدولة العاملية كفرد. وكل
من هاتني الفلسفتني اعتنقت الرأي القائل إن اإلنسانية أكرث أمناط الواقعية متيزا يف
نظام الطبيعة، وأن تحقيق الخري األسمى يكمن يف تحقق هذا الخري.
ولكن كيف يتأىت لنا أن ننظر يف طبيعة الخري أو السعادة إذا مل ننطلق يف هذا
التنظري من تصور للطبيعة اإلنسانية؟ ومن أين لنا أن نحصل عىل هذا التصور من
دون اعتبار جدي للمعتقدات والقيم التي يرتكز عليها النموذج الثقايف الخري الذي
نبحث عنه يف النظرية األخالقية، وهو خري الكائنات اإلنسانية؟ وإن مل تتضمن
النظرية التي نأمل بناءها مبدأ أخالقيا سليام للسلوك األخالقي فإن هذا املبدأ
سوف يفرض، بحكم الرضورة، من الخارج أو بصورة عشوائية. ولهذا السبب لن
يكون مناسبا للحياة الصالحة. ولهذا فعلينا أن نسأل: ما هي نظرة الفالسفة الهلنيني
والهلنستيني للطبيعة اإلنسانية؟ بإيجاز، آمن أولئك الفالسفة بأن الطبيعة اإلنسانية
كيان عاقل، وبأن امتالك ملكة العقل هو الذي مييز اإلنسان عن الحيوانات وبقية
الطبيعة. ولكنهم أيضا اعتقدوا أن صالح )جودة( أي كائن، مبا يف ذلك الكائنات
اإلنسانية، هو أن يعيش وفقا لجوهره أو لطبيعته. بل إن جوزة البلوط ليست
بلوطة إال عندما تنمو طبيعتها الكامنة يف الجوزة. واألمر ذاته ينطبق عىل األشياء
التي يصنعها اإلنسان. فأي أداة، بغض النظر عام إذا كانت محراثا أو سكينا أو
سيارة أو سهام، فهي تتميز بالجودة عندما تؤدي وظيفتها عىل خري ما يرام، وهذا
أيضا ينطبق عىل الكائنات اإلنسانية: نعترب الشخص صالحا بقدر ما يحقق نفسه

90
الصداقة
وفقا للجوهر اإلنساين، واملبدأ املتبع يف هذا التحقيق هو العقل. تركز هذه الرؤية
للطبيعة اإلنسانية عىل االفرتاض امليتافيزيقي القائل إن الكائنات اإلنسانية أجزاء،
أو امتداد، يف الطبيعة. وفق الفيلسوف الهلني أو الهلنستي فالكائن اإلنساين كائن
»طبيعي« مبعنى أنه ليس مرتبطا دينيا أو ميتافيزيقيا مع كائن فوق طبيعي أو
يف عامل آخر. مصريه شبيه مبصري جميع األشياء التي تشكل نظام الطبيعة. وإذا
كان الوجود اإلنساين زمنيا، وإذا كان العنرص الذي يضفي عىل البرش إنسانيتهم
معطى كيشء كامن، فالفرد يحتاج، إذن، إىل عمر، بل إىل عدة أعامر، ليحقق نفسه
بصورة كاملة. وإذا كانت عملية التحقق عملية فردية إبداعية، فام هو يا ترى
خري الكائن اإلنساين أو مصريه؟ صحيح أن أسس الفالسفة الهلنيني أسسوا النظرية
األخالقية عىل رؤية ميتافيزيقية وحللوا الطبيعة اإلنسانية من منظور هذه الرؤية،
ليك يربروا قواعدها ومبادئها، ولكن إميانهم الذي رسم حدود تحليل الطبيعة
اإلنسانية مل يقيد تفكريهم امليتافيزيقي. وكام ذكرت سابقا، فالفيلسوف اليوناين
إنسانوي النزعة. وحتى اآللهة اليونانية كانت مخلوقات إنسانية. مل تكن قدرتهم أو
حكمتهم مطلقة، ومل تكن مصدر القوانني التي تحكم الطبيعة والحياة اإلنسانية.
فكر الفالسفة الهلنيون و ّ نظروا، والهلنستيون من بعدهم، بحرية كاملة. كان العقل
اإلنساين املصدر النهايئ لفلسفتهم.
ولكن إذا اعتربنا أن جوهر التحقق اإلنساين يكمن يف تحقيق أنفسنا ككائنات
إنسانية، فإنه من املعقول القول إن وظيفة النظرية األخالقية هي، فقط، تحليل
الصفة التي تتحقق بوجودها الحياة اإلنسانية. وعند تحليل هذه الصفة علينا أن
نأخذ بعني االعتبار جميع أبعاد التجربة التي تشكل بنية الحياة اإلنسانية. وبإمكاننا
اتهام أي نظرية تهمل أي بعد من هذه األبعاد بعدم الكفاءة. وتعريف هذه األبعاد
هو من مهامت ُ امل ّنظر األخالقي. ويتطلب كل نوع من هذه األبعاد معيار امتياز
)Arete). فالفعل الصالح يكون صالحا بقدر ما يساهم يف التحقق اإلنساين. وهذا
املعيار ّ يعرف القيمة التي تالئم كل نوع من أنواع الفعل – الصدق، الشجاعة،
الكرم، العدالة، الشفقة، العفة... إلخ. وكام أرشت سابقا، فهذه القيم تصور الخري
األساس الكامن يف رؤية العامل التي متيز الثقافة. وتكتسب هذه الرؤية بنيتها بصياغة
هذه القيم. ووحدة هذه القيم تشكل مفهوم الخري يف كل ثقافة.

91
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
الصداقة هي أحد األبعاد الرئيسة يف التجربة اإلنسانية، وفقا ملا أقر به الفالسفة
الهلنيون والهلنستيون. اعتمدوا يف هذا اإلقرار عىل حقيقتني رئيستني: الحقيقة
األوىل، أن التجربة اإلنسانية ال تقترص عىل هذا أو ذلك املجتمع، بل تشمل جميع
املجتمعات يف املايض والحارض. نعم، بنى بعض الفالسفة الرئيسيني أنظمة فلسفية
نظرية جدا، وقد تكون مجردة، ولكن كان هدف هذه األنظمة تسليط الضوء العقيل
عىل أهم حقائق الحياة اإلنسانية بحد ذاتها. أو بكلامت أخرى، كان الهدف تربير
النظريات األخالقية والرتبوية والفنية والسياسية واالجتامعية التي تناسب الحياة
الصالحة. مثال، كان اهتامم أفالطون األويل ينصب عىل طبيعة العدالة عىل املستويني
الفردي واملجتمعي: ما الذي يجعل حياة اإلنسان جديرة بالعيش؟ ما الذي يجعل
اإلنسان عادال؟ ورث أفالطون هذا االهتامم عن أستاذه سقراط. ونستطيع القول
بثقة عالية إن اهتامم أفالطون األويل كان الفلسفة االجتامعية. كان هدف النظام
امليتافيزيقي الذي بناه، أو اضطر إىل بنائه، هو تربير تصويره للحياة الصالحة. أول
كتاب رئييس كتبه هو »الجمهورية« وآخر كتاب مهم كتبه هو »القوانني«، والرتكيز
يف هذين العملني هو عىل: )أ( أساس العدالة، أو الخري، يف حياة الفرد واملجتمع، ألن
كال منهام غري ممكن من دون اآلخر. )ب( الرشوط التي يجب أن تتوافر لتحقيق
هذا الهدف عىل أرض الواقع. ولكن كيف ميكن للفرد أن ُيَن ِّظر حول حياة املجتمع
الصالح من دون نظرية يف الرتبية وأخرى يف االقتصاد وثالثة يف الفن ورابعة يف
الحرب؟ عىل سبيل املثال، كيف ميكن للفرد أن ينظر يف طبيعة الرتبية من دون
نظرية يف املعرفة وأخرى يف العقل، وكيف ميكن أن ينظر يف طبيعة األرسة من
دون نظرية يف االقتصاد، وكيف ميكن أن ينظر يف طبيعة الفن من دون نظرية يف
الجامل؟ بإيجاز، كيف ميكن للفرد أن ينظر يف طبيعة الحياة الصالحة من دون أن
يفرس أو يسلط ضوء الفهم عىل سؤال التغيري والتناهي اإلنساين )املحدودية(؟ لهذا
السبب فإن كتاب »الجمهورية« يبدأ ببحث يف تعريف العدالة وينتهى بتصور
متكامل وشامل لطبيعة الفرد والحياة االجتامعية. بل إن الفالسفة الهلنستيني الذين
ابتعدوا عن التأمل امليتافيزيقي استعانوا بالرؤى امليتافيزيقية لفالسفة كدميقريطس
وهريقليطس وأناكسيامندر. ويف الواقع، فقد شيدوا أنظمة ميتافيزيقية مبنية عىل
هذه الرؤى ليك يفرسوا ويربروا املبادئ األساسية لنظرياتهم األخالقية. ونحن نخطئ

92
الصداقة
إذا اعتقدنا أن األنظمة امليتافيزيقية التي ترصع تاريخ الفلسفة سقطت من سامء
العقل اإلنساين. كال، إنها تنبثق من تأمل متفكر ومتأن لحقائق التجربة اإلنسانية.
وهذه املقولة تنطبق عىل النظرية األخالقية. وعىل رغم أن النظرية األخالقية نظام
فكري مجرد، فإن معنى ومنطق هذا النظام ينبثقان من مالحظة تجريبية للسلوك
اإلنساين، وعن تفحص للتجربة التي تجعل حياة اإلنسان صالحة.
والحقيقة الثانية أنه باإلضافة إىل هذا املصدر، يتأمل الفيلسوف الطبيعة بإدراك
مبارش لنسيجها، أي لبنائها أو للتصورات التي تحرك اإلنسان يف األمناط السلوكية
املختلفة: ما العنرص الذي يشكل الجوهر اإلنساين؟ لقد أصبح هذا السؤال شائعا
هذه األيام، ولكن ال يجوز تجاهل معناه ومضامينه. وعندما نركز االنتباه عىل هذه
السؤال، فإننا نبحث عن املقومات التي تشكل الكيان اإلنساين، عن تلك الشعلة التي
تفرز مقدرتنا عىل التفكري والشعور واإلدراك. هذا البحث ليس سهال، ألنه عىل عكس
موضوع البحث يف العلم، الذي هو محسوس ومحدد، فموضوع البحث يف الفلسفة،
أي الطبيعة اإلنسانية، ليس شيئا محسوسا ومجسدا. فالباحث يدرسها من خالل
إنجازاتها. وعامل هذه اإلنجازات هو الحضارة. ومهمة الباحث هي استيعاب وفهم
بناء ودينامية هذا العامل بصوره شاملة. وهذا يعني تحليل تفاصيله واكتشاف البناء
املنطقي الذي يجمع ويوحد هذه التفاصيل ويصوغها بتصور فكري معقول. هذه
مهمة الفيلسوف عامة ومهمة الفالسفة األخالقيني الهلنيني والهلنستيني خاصة. مل
يؤمنوا بأن جوهر اإلنسانية هو العقل فقط، ملجرد أن الكائنات اإلنسانية تفكر، ألن
التفكري مجرد عنرص من بناء الطبيعة اإلنسانية، ولكن أيضا ألن العقل ثروة مركبة
ومتنوعة من اإلمكانيات. هذه الرثوة هي أساس اإلنسانية. هؤالء الفالسفة أدركوا،
بناء عىل تأمل للسلوك اإلنساين والطبيعة اإلنسانية، أن الصداقة أحد مقومات
الحياة الصالحة. فمن ناحية، اكتشفوا أن الناس، بغض النظر عن نزعاتهم االجتامعية
واملهنية والدينية واالقتصادية، يستمدون شعورا عميقا بالرضا من الصداقة،
واكتشفوا أن الصداقة تعزز سعادتهم وتجعل حياتهم أكمل، وأنها حاجة إنسانية.
هل هذه الحاجة مؤسسة يف طبيعة اإلنسان االجتامعية؟ ومن ناحية أخرى، اكتشفوا
أن مفهوم السعادة ينطوي عىل الحاجة إىل الصداقة: ال ميكن للفرد أن يكون سعيدا
وال ميكن أن يكمل نفسه كإنسان إذا مل يقتسم حياته مع صديق أو صديقني.

93
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
غري أن النقطة الجديرة باالهتامم الخاص هي أن دراسة موضوع النظرية
األخالقية هي دراسة الخري. ولهذا فإذا كانت تجربة الصداقة أحد مقومات
الحياة الصالحة، فإنه من الرضوري لهذه التجربة أن تكون جزءا رئيسا من هذه
الدراسة. هذا الخيط من التفكري هو الذي دفع الفالسفة الهلنيني والهلنستيني
العتبار الصداقة إحدى القيم األخالقية املركزية. ولكن الدفع بأن الصداقة، كقيمة
أخالقية، متضمنة يف النموذج األخالقي، أي يف نظرتهم لألخالق، أو بأنها حاجة
إنسانية جوهرية، ال يكفي، ألنه من املمكن لنظرتهم األخالقية أن تستلزم منطقيا
هذه الحاجة، ولكن عىل رغم ذلك، وعىل رغم هذا االستلزام، ميكن للفيلسوف
األخالقي أن يهملها بسبب قرص النظر أو االنحياز الديني أو امليتافيزيقي أو بسبب
مزاجه الشخيص. ومن ثم من املهم جدا أن نعرف ملاذا برر الفالسفة، فعليا، تضمني
هذه القيمة يف طيف القيم األخالقية التي ال ميكن االستغناء عنها يف تحقيق
السعادة؟ الدفع املقنع بأن النموذج الثقايف يتضمن الصداقة يشء، والتفسري املقنع
ملنطق هذا التضمني يشء آخر. وليك نعرف ملاذا كانت الصداقة متضمنة يف النظرة
األخالقية، التي هي أساس النموذج الثقايف للفالسفة الهلنيني والهلنستيني، فعلينا
أوال أن نفهم تصورهم للصداقة وكيف برروها بأنها حاجة إنسانية. ولهذا السبب
سوف أبدأ مبناقشة موجزة لتصور الثقافة يف العرص الكالسييك، ويف هذه املناقشة
سوف أركز عىل سؤالني: ما هو تصورهم ملفهوم الصداقة؟ وكيف برروها كحاجة
إنسانية، ومن ثم كإحدى مقومات الحياة الصالحة؟ ومبا أن العرص الكالسييك
َني
يشمل الطورين الهلني والهلنستي، فسوف أختار أرسطو وشيرشون كممثل
عن هذين الطورين، وعند الحاجة سوف أشري إىل فالسفة آخرين. اخرتت هذين
الفيلسوفني ألن تحليلهام للصداقة يجسد جوهر اآلراء املختلفة للصداقة يف
العرص الكالسييك، وألن آراءهام أصبحت مناذج، ويف الواقع ينبوعا لإللهام لجميع
املناقشات الالحقة املتعلقة مبعنى وأهمية الصداقة يف حياة اإلنسان. وليس هديف
من مناقشة أفكارهام أن أعرض أو أقيم كفاءتها، ولكن فقط أن أسلط الضوء
عىل النمط الذي دفع الفيلسوفني إىل اعتبار الصداقة قيمة مركزية يف التنظري
األخالقي. وهكذا سأحاول اإلجابة عن سؤالني: ما الصداقة؟ وملاذا اعتربا الصداقة
حاجة إنسانية؟

94
الصداقة
1 - رأي أرسطو يف الصداقة
وفق أرسطو، فالصداقة نوع من املحبة، أو العاطفة، ولهذا فهي عالقة بني كائنني
إنسانيني. إذن علينا أن نسأل: ما نوع العاطفة التي متيز الصداقة عن غريها من
العواطف؟ الخاصية التي متيز عاطفة الصداقة عن غريها تعتمد عىل موضوعها،
فلدى الكائنات اإلنسانية عواطف مختلفة نحو مواضيع مختلفة. مثال، البرش ال
يستطيعون أن يحبوا مواضيع من دون حياة، ألنه: )أ( ال ميكن للفرد أن يتمنى
الخري لها. )ب( ال ميكن له أن يتبادل معها إرادة خرية؛ ولكن متني الخري وتبادل
هذا النوع من الشعور صفتان جوهريتان متيزان الصداقة. إذن الكائنات اإلنسانية
هي الكائنات الوحيدة الجديرة باملحبة والتي ميكن أن نشكل معها عالقة صداقة.
وكام يالحظ أرسطو، هناك ثالثة أشياء تدفع بالفرد إىل أن يحب اإلنسان اآلخر،
ألنها تثري فينا عاطفة املحبة. يف كتاب »األخالق« يقول: »توجد ثالثة أنواع من
الصداقة، ألن هناك ثالثة أنواع من الخصائص التي تثري عاطفة املحبة. يف جميع
هذه الحاالت توجد حالة مشرتكة تثري عاطفة املحبة بني الشخصني، وهؤالء الذين
)5(. وهذه الخصائص هي: املنفعة، اللذة، الخري. إذن النوع

يحب بعضهم البعض«
األول من الصداقة يرتكز عىل املنفعة، والثاين يرتكز عىل اللذة، والثالث يرتكز عىل
الخري. كل واحد من هذه األسس يشكل دافعا للصداقة. يف النوع األول، يحب
األصدقاء بعضهم البعض، ال من أجل بعضهم البعض، أي ليس بناء عىل تقدير
وإعجاب مليزاتهم العقلية واألخالقية التي تجعلهم جديرين باملحبة، ولكن من أجل
منفعة معينة. هنا تكون الصداقة التي تربطهم خارجية، ال داخلية. مبعنى أنها
ليست عالقة باطنية ولكن عرضية – سطحية. لهذا السبب فهي ال تبقى إال ببقاء
املنفعة. ولهذا السبب فإنهاء الصداقة ال يسبب شعورا عميقا باألمل. وبالتايل ميكن
تشكيل هذا النوع من الصداقة مع أكرب عدد ممكن من الناس. ونجد هذا النوع
من الصداقة بني الناس املتقدمني يف السن واملتفاوتني يف امليزات الشخصية. مثال،
الغني مع الفقري أو الجاهل مع العامل، ألن سبب الصداقة هو املنفعة. النوع الثاين
من الصداقة يرتكز عىل اللذة. وعىل عكس النوع األول، فهذا النوع من الصداقة
شائع بني الشباب، »ألن مشاعرهم )عواطفهم( تحدد مجرى حياتهم. واهتاممهم
)6(. ومن أقوى املشاعر التي تحركهم التجاذب

األول هو بلذاتهم وبالفرصة اآلنية«

95
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
الجنيس. ولكن عندما يتقدمون يف السن، عندما يضعفون جسديا، عندما تزداد
مسؤولياتهم العملية، وعندما يزيد نصيبهم من الحكمة فإن هذه املشاعر، وأيضا
اهتاممات الشباب، تتغري. عىل أي حال، هذا النوع من الصداقة ال يدوم ألنها ترتكز
عىل مصالح معينة وعرضية. لهذا السبب ليست حقيقية.
أما الصداقة الحقيقية، يجادل أرسطو، فتوجد بني أفراد »صالحني« ومتشابهني
)7(. أوال، الخري أساس ودافع يف هذا النوع من

يف صفة الخري التي تجمع بينهم
الصداقة. الصفات الخرية يف شخصياتهم هي التي تسبب التجاذب بينهم، وهي
التي تولد اإلرادة الخرية، وهي الرشط الرضوري لبداية الصداقة، وهي أيضا التي
تثري العاطفة املناسبة لنمو الصداقة. ويف الحقيقة، فاإلرادة الخرية رشط رضوري
للصداقة الحقيقية، بيد أنها ليست متامهية معها لسببني: )أ( من واجبنا أن نتحىل
باإلرادة الخرية نحو جميع البرش، بغض النظر عام إذا كنا نعرفهم أو ال نعرفهم.
)ب( املحبة عاطفة )affection)، ولكن اإلرادة الخرية »تفتقر إىل الرغبة أو الحامس،
)8(. )جـ( الصداقة تتضمن الحميمية، ولكن

بيد أن العاطفة تتميز بهاتني الصفتني«

.)9(
اإلرادة الخرية ليست شعورا يأيت إىل حيز الوجود عفويا يف اللقاءات اإلنسانية
إذن، اإلرادة الخرية ليست الدافع لتطوير الصداقة، بل األفعال والتمنيات والخربة
املتبادلة: »هؤالء الذين ينشدون الخري ألصدقائهم ألنهم خريون )صالحون( هم
األصدقاء الحقيقيون، ألن كل واحد منهم يحب صديقه لذاته وليس ألي ميزة
)10(. امتالك هذه السمة هو الذي يجعل الصداقة فضيلة، ألنها ليست
عارضة«
شعورا أو عاطفة من نوع معني بل حالة )state – )ميزة، روح الفرد )ethos)، التي
توجد كصفة يف شخصية الصديق. ينطلق األفراد من هذا امليل إىل تطوير عالقة
الصداقة، أي من حس معريف لعالقة الصداقة. وكبقية القيم، كالعدالة مثال، ال ميكن
للفرد أن يسلك بصورة عادلة إن مل يعرف معنى العدالة وإن مل يخرت هذا النمط من
السلوك، وإن مل يكن عىل استعداد ألن يتحمل املسؤولية عن هذا االختيار. إن الذي
مييز الصداقة كعالقة أنها ال تنبثق من شعور تجاه اآلخر، عىل رغم أنها تنطوي عىل
ذلك الشعور، ولكنها »تنبثق من محبة أخالقية. لهذا السبب، فعندما يصبح الفرد
الخيرّ صديقا لشخص معني فإنه يصبح َخرْي ذلك الشخص. وبهذه الطريقة، فكل
واحد منهام يحب الخري لآلخر ويكافئ اآلخر بتمني الخري له، ويسعى إىل تعزيز

96
الصداقة

.)11(
مرسته. وكام يقال: االهتامم مشاركة. وهاتان الصفتان متيزان األفراد الصالحني«
يبدو واضحا من هذه املقاطع أن الصداقة حالة ونشاط )فعالية( – حالة ألنها ميل
فاضل، ولكن هذا ال يشكل بحد ذاته جوهر الصداقة؛ ألنها تصبح حقيقية فقط
بعملية مامرستها. وبالفعل تنبثق من هذا امليل عملية الصداقة. إذن املحبة هي
الفضيلة املميزة للصداقة، أما الصفة املميزة للمحبة، فهي العطاء. املحبة عطاء. هنا
تربز معاين املنفعة واللذة يف الصداقة. بالنسبة إىل أي أساس أو دافع، فالصداقة
ليست اللذة وال املنفعة. األصدقاء الحقيقيون جديرون باملحبة ألنهم صالحون،
وهم مصدر منفعة ولذة ألنهم صالحون. وبطبيعته، فاليشء الصالح )الخري( نافع
وباعث عىل اللذة، ألننا نناقض أنفسنا إذا قلنا إن الخري مؤٍذ أو قد يكون مؤذيا.
ولكن إذا كان دافع املحبة هو دافع العطاء فيحق لنا أن نسأل: ما األفضل، أن
نحب أم أن نتلقى املحبة؟ إذا كانت املحبة املرتبطة بالصداقة عملية )نشاطا(
وإذا كان جوهر هذه العملية العطاء، إذن األفضل للفرد أن يعطي من أن يتلقى
املحبة. التلقي سلبي )هامد(، والعطاء فعال )نشط(. و)هنا ميكن أن نسأل، وأرسطو
مل يسأل: هل التلقي الحقيقي ليس فعال أو نشاطا؟(. إذن يحقق البرش أنفسهم
كأصدقاء يف عملية العطاء. ولكن مبا أن دافع الصداقة هو الخري، ومبا أن الشخص
الصالح )الخري( يتمنى أن ينمو بالخري، فكلام ازداد بالعطاء لصديقه ازداد بالخري
كصديق وكشخص. النقطة التي تستدعي انتباهنا هي: إذا ّعرفنا الصداقة بأنها
عملية، كام يفعل أرسطو، فال بد لصفة الخري التي متيز الصداقة أن توجد يف هذه
العملية، ال أن تنشأ عن النتيجة الناجمة عنها، متاما كام يستمد الفنان رضاه من
عملية الخلق اإلبداعي، وليس من النتيجة املرتتبة عليها – أي العمل الفني. وإذا
كان العمل الناتج عن هذه العملية قيم؛ فذلك ألنه يجسد القيمة التي كانت روح
وجوهر هذه العملية. إذن، املحبة التي متيز الصداقة تستهدف الشخص الذي يحب
ال الشخص الذي يتلقى املحبة، تستهدف حياته، ألنه، يف هذا النوع من الفعل،
ينمو ويحقق نفسه كإنسان. وينطوي هذا القول عىل مفارقة، ألن فعل املحبة،
من ناحية، يستهدف اإلنسان الذي يتلقى املحبة، ومن ناحية أخرى يستهدف
اإلنسان الذي يحب. ولكن هذه املفارقة ظاهرية – شكلية – ال حقيقية، ملاذا؟ ألن
فعل املحبة الذي يقوم به الصديق نحو صديقه والذي يستهدف خريه ينبثق من

97
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
محبة الذات – إنه امتداد ملحبته لذاته، ألنه يعرف معنى محبته لآلخر من محبته
لذاته. هذه املحبة ليست أنانية؛ ألنها تتحقق وفق معيار الخري األخالقي. ميكن
تعريف الصديق كإنسان يتمنى الخري لصديقه أو كإنسان يختار األشياء الجيدة
نفسها كصديق أو كإنسان يشارك أفراح وأحزان صديقه. كل من هذه التعاريف
وتعريفات شبيهة بها، يجادل أرسطو، »تنطبق عىل اإلنسان الصالح بالنسبة إىل ذاته.
)وتنطبق عىل اآلخرين الذين يعتربون أنفسهم صالحني؛ ويف كل حالة، كام بينا،
كان املعيار هو الخري األخالقي. أو اإلنسان األخالقي(. ألنه »متكامل كليا ويتمنى
)12(. ويعتمد هذا النوع من التفكري عىل افرتاضني: أوال،

األشياء ذاتها، بكل وجدانه«
أنه حتى بني األشخاص غري املتكافئني، مثال بني الوالد والطفل أو األستاذ والطالب،
فالصداقة غري ممكنة إن مل يكونا متساويني يف الخري. ولكن يف هذه الحالة فاملساواة
املقصودة نسبية )Proportionate)، ال حسابية )mathematical). السلوك النابع
عن شخصية أخالقية، عن رغبة ملنح املحبة وتلقيها، عىل قدر املستطاع، خاصية
متيز الصداقة بعامة. ولكن املقدرة عىل منح وتلقي املحبة وفقا لرشوط املساواة
واملامثلة بالخري متيز الصداقة الحقيقية. ثانيا، يتحد األصدقاء بصحبتهم الصالحة،
ورغبتهم يف نرش الخري يف حياتهم والعزم عىل نرش مشاركة حياتهم بعضهم مع
بعض. وهذا يعزز صدقية القول الشائع »صديقان اثنان، روح واحدة«. و»األصدقاء
)13(. ولكن إذا
يتشاركون يف كل يشء«، »العناية مشاركة«، »الركبة أقرب من الساق«
كان األصدقاء متحدين، بهذه الطريقة، عندئذ يجوز لنا أن نقول: األصدقاء يتمنون
ألصدقائهم ما يتمنون ألنفسهم، أو يحبون أصدقاءهم كام يحبون أنفسهم. عالوة
عىل ذلك، إذا كان الخري أساس وواقع محبتهم، وإذا كانوا صالحني، فإنه من واجبهم
أن يحبوا أنفسهم، ألن االمتناع عن محبة أنفسهم سوف يقوض خريهم، ونتيجة
لذلك يقوض محبتهم بعضهم لبعض.
ثم نأيت إىل أن املساوة واملامثلة يف الخري رشطان رضوريان للوئام بني األصدقاء،
والوئام ذو أهمية مفصلية للصداقة. ألن املزاج السيئ والشجار والنزاع سوف
تقوض، عاجال أو آجال، إمكان التعاون والتفاهم املتبادل والثقة بني األصدقاء. وال
يعني أرسطو بكلمة »وئام« االتفاق يف الرأي أو اآلراء، فهذا االتفاق خارج نطاق
الشعور الذي يوحدهم؛ بل إن االختالف يف الرأي مامرسة صحية وبناءة يف حياة

98
الصداقة
الصداقة، ألنه مؤرش إىل التفهم الذيك وإىل الحكم الصائب يف األمور العملية وموصل
إليهام. وما يعنيه أرسطو هو وئام أو انسجام يف نظرتهم إىل أنفسهم وإىل الحياة
عامة: »ويوجد هذا النوع من الوئام بني الناس الصالحني، ألنهم منسجمون مع
أنفسهم وبعضهم مع بعض، ألن رؤيتهم )عموما( واحدة. وألن رغبات هؤالء الناس
تبقى ثابتة وال تتغري مع تغري الظروف، وألنهم يهتمون باألشياء النافعة والعادلة
)14(. ولن نكون مخطئني أبدا إن قلنا إن

ويتعاونون عىل تحقيق أهدافهم املشرتكة
أساس الوئام بني األصدقاء هو الخري، وأن الخري هو الهدف األسمى يف حياتهم. هذا
الخري هو وحده مصدر االرتباط الذي يوحدهم ويولد الوئام بينهم. هذا الخري، وهذا
الخري فقط، هو السبب الذي يقوض إمكانية الصداقة بني الناس األرشار. قد يتفق
هؤالء األرشار عىل وسيلة تحقيق أهدافهم ولكنهم بكل تأكيد سوف يتشاجرون فيام
بعد، ألنهم ال يتفقون عىل الغايات ذاتها، ألن غاياتهم، يف األساس، شخصية وغري
متبادلة. الناس السيئون ال يهتمون بخري أصدقائهم، وهم عىل استعداد ألن يسيئوا
إليهم أو يتخلوا عنهم، عندما يكتشفون أن أصدقاءهم غري نافعني.
ولكن، وفق أرسطو، فالصداقة الحقيقية تفضيلية، أي مقصورة عىل شخص واحد.
وهي رابط بني شخصني متساويني ومتامثلني يف الخري، مبعنى أنهام يقرران طوعيا أن
ينفتحا أحدهام عىل اآلخر، وأن يتشاركا يف السعي إىل تحقيق ذاتيهام وفقا لرشوط
)15(. ولكن
الخري: »واملثل الذي يقول إن األصدقاء يتشاركون يف كل يشء صحيح«
الفرد ال يستطيع أن يقتسم وقته أو ممتلكاته أو ذاته مع كل شخص، ألن هذا سوف
يقلص مقدرته عىل أن يكرس جميع قواه لنرش الخري يف حياة اآلخرين. هنا ميكن
التساؤل: هل واجباتنا نحو أصدقائنا تلغي واجباتنا نحو اآلخرين أو تصطدم بها؟
إذا كان الجواب نعم، فهل هذا يعني أن الصداقة عالقة أنانية؟ ألنه يف هذه الحالة
سوف يهتم أكرث األصدقاء بعضهم ببعض ويتجاهلون اآلخرين. ولكن الجواب، وفق
أرسطو، هو كال، ألن واجبات الصديق نحو صديقه ال تتعارض مع واجباته نحو
اآلخرين أو نحو الخري العام، وذلك لسببني: أوال، الخري أساس ودافع الصداقة، وهنا
نعني الخري األخالقي، أي الخري بذاته. العنرص الذي يولد رباط الصداقة ووحدة
األصدقاء هو الخري باملعنى األخالقي للكلمة. وأحد الرشوط األساسية لهذا الخري
هو نرش الخري يف حياة اآلخرين. لهذا السبب ال ميكن للفرد يف الصداقة الحقيقية

99
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
أن يتجاهل الخري العام. إذن يف تنظيم حياتهم ال ميكن لألصدقاء أن يتجاهلوا أو
يتجاوزوا واجباتهم نحو اآلخرين. ثانيا، الصداقة اجتامع بني كائنني إنسانيني، وبذلك
هو جزء من الجامعة السياسية األوسع. إنها تستمد كيانها وإمكانياتها من هذه
الجامعة. إذن ال ميكن لألصدقاء، جامعة كانوا أو أفرادا، أن يتجاهلوا واجباتهم نحو
الكل األوسع. لقد كان أرسطو عىل وعي بهذه املشكلة ألنه يسأل: »هل من واجب
الفرد أن يساعد صديقه عوضا عن إنسان فاضل بحاجة إىل مساعدة؟ هل من
واجب الصديق أن يسدد دينه اىل إنسان أحسن إليه أو أن ينفق ماله عىل صديقه،
)16(. وبطرح هذه األسئلة

إن تعذر عليه إمتام هذين الواجبني يف الوقت نفسه؟«
يسلط أرسطو الضوء عىل حدود واجبات الصديق نحو صديقه. وعىل رغم أنه من
الصعب تعريف الحدود يف بعض الحاالت الجزئية، »فإنه ليس من الصعب« يقول
أرسطو »إدراك أنه ال وجود إلنسان مفضل يف كل األشياء. إذن كقاعدة عامة، من
واجب الفرد أن يكافئ املحسن له قبل أن يعطي هداياه إىل أصدقائه املقربني، كام
)17(. والنقطة التي

أنه من واجبه أن يسدد دينه قبل أن يعطي نقوده إىل صديق«
تستدعي االنتباه هي: عىل رغم أن الصداقة عالقة تفضيل، فإنها ال تلغي واجب
األصدقاء نحو الكل الجامعي أو تتقدم عليه.
2 – الصداقة والسعادة
الصداقة املبنية عىل اللذة أو املنفعة أكرث شيوعا من الصداقة الحقيقية. ويف
الواقع، يقر أرسطو بأن الصداقة الحقيقية نادرة، ألن الناس الصالحني باملعنى
الصحيح نادرون – فالصداقة الحقيقية تقتيض شخصية تتميز بالعدالة والشفقة
والكرم والشجاعة والصدق والرشف والعفة والحكمة العملية، وهذه الصفات
رضورية ملامرسة الصداقة. ويتضمن هذا املفهوم أيضا نظاما تربويا وثقافة تساعد
عىل منو الشخصية. ولكن إذا مل تتوافر الرشوط الرضورية ملامرسة عالقة نبيلة
كالصداقة، وإذا كانت هذه الصداقة هدفا مثاليا، فلامذا يرص أرسطو عىل أنها
قيمة أخالقية، واألهم من ذلك، يكرس لها فصلني يف كتاب »األخالق«؟ أوال، فعىل
رغم أنها نادرة، وبالتايل تبقى مثاال، فقد كانت فكرة الصداقة جزءا مكمال للثقافة
اليونانية؛ جزءا من منط رؤيتهم ملعنى حياتهم. نجد هذه الرؤية يف فنهم والهوتهم

100
الصداقة
وفلسفتهم وأيضا يف تاريخهم. كانت الصداقة متأصلة يف طريقة حياتهم الجامعية.
ولهذا السبب ميكن القول إنها كانت، كمثال، متضمنة يف النظرة األخالقية اليونانية
للخري األسمى. ثانيا، نظرية األخالق التي طرحها أرسطو يف كتاب »األخالق« ليست
نظرية علمية، بل فلسفية؛ إنها نظرية معيارية. كان هدفه من هذه النظرية صياغة
فهمه للحياة الصالحة، وللمبدأ الرئييس الذي يجسد جوهرها، وللقيم التي ترتجم
هذا الجوهر إىل قواعد سلوكية، أي إىل نظرية أخالقية. كان يعتقد أنه عىل رغم أنها
نادرة، فإن تحقيقها كان ممكنا، وإذا توافرت الرشوط الالزمة ميكن للفرد أن ينميها
ويعيشها. إمكان تحقيقها ليس أكرث أو أقل من إمكان تحقيق السعادة. هل يتوقف
الناس عن السعي من أجل السعادة، أو محاولة تفهمها، ألنها صعبة املنال؟ طبعا ال،
ألنها حاجة إنسانية جوهرية، والصداقة لذلك، وألنها الزمة للحياة الصالحة. ولكن،
هل هي كذلك؟ هل تكون الصداقة رشطا رضوريا لتحقيق السعادة؟ نعم بكل
تأكيد. ال أحد، وال حتى الشخص املكتفي ذاتيا ويف أوج السعادة، يجادل أرسطو،
)18(. سوف
»يختار أن يعيش من دون صديق، حتى لو امتلك جميع األشياء الجيدة«
أبدأ مناقشتي لهذه القضية باإلجابة عن السؤالني التاليني: )أ( ملاذا تعد الصداقة
حاجة إنسانية؟ )ب( ملاذا هي رشط رضوري للسعادة؟ وسوف أبدأ هذه املناقشة
بعرض لتصور أرسطو للسعادة.
أوال، السعادة هي الخري األسمى يف حياة اإلنسان، كام أن كل نشاط نقوم به،
بغض النظر عام إذا كان علميا أو اقتصاديا أو فنيا أو دينيا أو سياسيا أو اجتامعيا،
يستهدف غاية ما وعادة ما نعترب هذه الغاية خريا؛ ومبا أن مجموع هذه النشاطات
يشكل حياة الكائن اإلنساين، أو حياة املجتمع، فال بد لنا أن نثري سؤال الخري األسمى:
ما هذا الخري؟ عموما، الناس تفهمه عىل أنه السعادة؛ ألنهم يعتقدون، ضمنا، أنهم
سيحققون السعادة إذا فعلوا الخري. لهذا السبب قال أرسطو إن »كل نشاط نقوم
به – يستهدف هذا الخري. وال يوجد يشء أهم أو أكرث قيمة يف حياة اإلنسان من هذا
النوع من الخري، وكل يشء، أو كل نشاط، يستمد قيمته أو أهميته من تحقيق هذا
)19(. لهذا، ومبا أنه األسمى، نستطيع القول

الخري أو من خالل مساهمته يف تحقيقه
إنه يتميز باالكتفاء الذايت. وال يعني أرسطو بهذا النوع من االكتفاء، »االكتفاء بتلك
األشياء التي يحتاج إليها الفرد لىك يعيش حياة منعزلة«، ولكن »الحياة التي تشمل

101
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
)20(. الحياة املكتفية ذاتيا،

الوالدين والزوجة واألطفال واألصدقاء واملواطنني عامة«
ومن ثم فالحياة الصالحة، ال تكون كفايتها مرشوطة بأي من األشياء التي تحتاج
إليها؛ عىل العكس، هي كاملة، ومرغوب فيها ألنها كاملة؛ عندما نقول: مرغوب
فيها نعني أننا نثمنها من أجل ذاتها، ال ألنها قيمة بحد ذاتها، وال كوسيلة لغاية ما.
وما هو اليشء الذي ميكن للفرد أن يريده، أو يرغب فيه أكرث من تلبية حاجاته أو
كامل نفسه؟
ولكن، ثانيا، القول إن السعادة هي الخري األسمى قول ال يضيف جديدا، ألن
علينا أن نعرف طبيعته األساسية، أي الصفات األساسية التي ّ تعرف جوهره، ألن
كلمة سعادة )eudemonia )عادة تعني »العيش الهنيء أو الحياه الناجحة«. هي
ال تشمل االزدهار فقط، أو الحظ السعيد فقط، ولكن أيضا السلوك الصالح أو
الخير.ّ اعتقد اليونانيون أن السعادة من حق اإلنسان الصالح، ال اإلنسان الرشير.
وهي تنتج من السلوك األخالقي، ولكن كيف؟ كام رأينا سابقا، ابتدأ أرسطو تحليله
لطبيعة السعادة بتصور وظيفة اإلنسان كإنسان، ألنه كان يعتقد، كام فعل الفالسفة
السابقون وأيضا اإلنسان العادي، أننا نعرف جودة اليشء بوظيفته. يتميز اليشء
بالجودة بقدر ما يؤدي وظيفته عىل خري ما يرام. ومبا أن جوهر اإلنسان هو النشاط
العقيل، إذن ستكون حياته صالحة، أو سعيدة، بقدر ما يعيش وفقا لقواعد العقل.
ولكن نحن لسنا عقالء مبجرد امتالك العقل، ولهذا فال ميكن القول إننا صالحون
وسعداء ألننا نقوم بنشاطات عقلية فقط، ولكن عندما نقوم بها عىل خري ما يرام،
متاما كام أن العازفة عىل الناي ليست عازفة جيدة ألنها تعزف، بل ألنها تعزف
بصورة جيدة. ونعرف أن عزفها جيد عندما تعزف وفقا ملعيار االمتياز )excellence )
يف هذا الفن. باملثل، يوجد معيار امتياز )arête )لتقييم األفعال العقلية، أو الحسنة.
نشري إىل هذا املعيار بكلمة »فضيلة«. السلوك وفقا لهذا املعيار هو الذي يحدد
ما إذا كان الفعل حسنا أو أخالقيا. إذن، مفهوم الخري األسمى يشمل عنرصين: )أ(
الحياة الكرمية أو االزدهار. )ب( الفضيلة. واالزدهار، بحد ذاته وبعيدا عن كل
يشء آخر، يعني تأمني حاجاتنا كاملال والصحة واللذة والرشف االجتامعي واملعرفة.
واالزدهار ال يجعل الحياة صالحة أو هنيئة، إذ يتعني أن تكون الحياة أيضا فاضلة.
الفضيلة رشط أسايس للسعادة، وهي أيضا رشط رضوري للصداقة، وهي كذلك

102
الصداقة
التي تحول الصداقة املبنية عىل اللذة واملنفعة إىل صداقة حقيقية. هذا النوع من
الصداقة أحد مقومات الحياة الصالحة، ولهذا تساعد عىل تحقيق السعادة.
3 - ملاذا الصداقة حاجة؟
»عىل رغم أن الناس السعداء بامتياز« يكتب أرسطو، »ال يحتاجون إىل أصدقاء
.)21(
نافعني، فإنهم يحتاجون إىل أصدقاء صالحني، ألنهم بحاجة إىل رفقاء من نوع ما«
يحتاجون إىل أصدقاء حقيقيني جديرين بالثقة واإلخالص، يحتاجون إىل أصدقاء ميكن
أن يشاركوهم حياتهم. نحن يف حاجة إىل األصدقاء يف الرساء والرضاء. يف أيام االزدهار
نحتاج إليهم ليك نشاركهم مثار نجاحنا أو ثروتنا أو لذاتنا أو معرفتنا، »ألننا نقوم
)22(. مرة أخرى، ما نفع الثامر التي نجنيها إذا

بأفضل األعامل الحسنة تجاه أصدقائنا«
بقيت محجوبة يف حجرة معتمة؟ كيف ميكن للفرد أن يزيد من مثار كهذه من دون
أن يتشارك فيها مع إنسان صالح، إن مل تصبح إمكانية لزرع وحصد املزيد؟ وكيف
ميكن الحفاظ عىل الثامر من العطب من دون أصدقاء حقيقيني؟ ويف أيام الرضاء،
الصديق ملجأ. ماذا لو تغري حظ الفرد؟ ماذا لو أصيب الفرد بكارثة أو بلوى؟ ماذا لو
فقد كل ما عنده وأصبح عاريا أمام الناس – ضعيفا وعرضة لألذى؟ إن املثل القائل
»الصديق عند الضيق« ينطبق عىل مثل هذه األحوال. وأضف إىل ذلك أن الشباب
واملتقدمني يف السن يحتاجون إىل مساعدة األصدقاء. »يحتاج الشاب إىل الصديق ألن
ذلك يساعد عىل تجنب األخطاء، واملتقدم يف السن يحتاج إىل الصديق لتأمني حاجات
ال يستطيع القيام بها، ومن هو يف عنفوان النضج يحتاج إىل الصديق ملواصلة العمل
الصالح... عندما يجتمع اثنان... فإنهام سوف يكونان أقدر عىل تبني واغتنام الفرص
)23(. وكنوع من املحبة، الصداقة قوة تحمي وترعى وتثمر. واألكرث من ذلك،
الجديدة«
فإن الحاجة إىل الصديق، كام يشري أرسطو، مطلب كامن يف الطبيعة اإلنسانية: يوجد
ميل طبيعي يف اإلنسان إىل الصداقة. يوجد ميل طبيعي إىل أن يحب اإلنسان اآلخر
وإىل أن يتلقى محبة اآلخر. وأخريا، ألن الصداقة من الوئام فهي تشكل الرباط الذي
يوحد أعضاء املجتمع وفقا لرشوط التعاون والسالم والود ونبذ العداوة والتعصب
والفوىض. لهذا السبب يحاول مرشعو القانون خلق جو من الوئام بني أفراد الشعب،
ألنه مرغوب أكرث من العدالة: »األصدقاء ال يحتاجون إىل العدالة؛ ولكن األفراد

103
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
العاديني يحتاجون إىل العدالة، والصداقة الحميمة هي عدالة بكل معنى الكلمة،
)24(. هذه الحجة األخرية تستحق انتباها

وهي ليست رضورية فقط لكنها يشء رائع«
خاصا ألن املعروف هو أن القانون مصدر وأساس النظام والوئام االجتامعي. نعم،
ميكن للعدالة أن تكون أساس النظام، وليس بالرضورة مصدر الوئام، ألن الوئام
مبعنى االنسجام )harmonya )رباط إنساين باطني، ال خارجي كالرباط الذي يولده
القانون. وجود الوئام الباطني مييز »الدولة« مقابل »املجتمع املدين«. أساس الدولة
هو القانون األخالقي، وأساس املجتمع املدين هو القانون املدين.
4 - الصداقة كأحد عنارص السعادة
واآلن، فالقول إن الصداقة، عامة، حاجة، أو إنها تجعل الحياة اإلنسانية هنيئة
يختلف عن القول إنها أحد مقومات السعادة أو إنها رضورية لتحقيق الخري األسمى،
ألنه، كام رأينا، حتى لو أن حياة الفرد مكتفية ذاتيا، فإنها تحتاج -عىل األقل - إىل
صديق حقيقي واحد: فهذا النوع من املشاركة رشط رضوري لتحقيق السعادة.
هذه الحاجة إنسانية، ولكن عىل الرغم من أنها إنسانية، فال ميكن معاملة الصديق
كوسيلة لغاية شخصية. الصداقة الحقيقية مغروسة يف املحبة املتبادلة والثقة
والعطاء ومواصلة التحقق الذايت. وميكن أن نغامر بالقول إنها حاجة ميتافيزيقية،
وإنها عامل جوهري يف منو الفرد وسعادته. كان أرسطو عىل وعي بهذه النقطة
النقدية والقابلة للمناقشة، وكام يقول: »البعض يقول إن السعداء بامتياز، املكتفني
ذاتيا، ال يحتاجون إىل أصدقاء، ألنهم ميتلكون األشياء«، ولكنه يختلف مع القائلني
بذلك، إذ يذهب إىل أن املكتفني ذاتيا الذين أ ّمنوا جميع حاجاتهم املادية والنفسية،
وأصبحوا بذلك سعداء مبعنى خاص، يحتاجون إىل أصدقاء حقيقيني خريين.
فسعادتهم ناقصة من دون أصدقاء حقيقيني. إذن ال ميكن للفرد أن يكتفي ذاتيا من
دون صديق حقيقي. الرشح املفصل الواضح لهذه القضية مهم جدا لتأسيس صحة
أطروحتي يف هذا الكتاب، ألن من الصعب أن نقول، كام قال أرسطو، إن الصداقة
فضيلة، وبالتايل عنرص جوهري كامن يف النظرة األخالقية للنموذج األخالقي اليوناين،
ما مل تكن عنرصا جوهريا من عنارص الحياة الصالحة. االعرتاف بأنها فضيلة، ومن ثم
عنرص يف السعادة، ال يكفي. علينا أيضا أن نبني أن السعادة ليست كاملة من دونها.

104
الصداقة
كان أرسطو عىل علم بهذا املطلب املنطقي. واآلن سأواصل تتبع الخط املنطقي
الذي يلبي هذه املطالب.
أوال: الحاجة إىل صديق، عىل عكس الحاجة إىل أشياء مادية ونفسية، حاجة إىل
إكامل الذات )completion–self)، فالذات اإلنسانية سوف تبقى ناقصة ومنعزلة،
إن مل تتحد برباط املحبة وتصبح كاملة مع ذات أخرى. الصديق الحقيقي هو
)25(. إذن ال ميكن تأمني حاجات األصدقاء

»الذات األخرى«. »صديقان بنفس واحدة«
بواسطة ذات واحدة فقط، ولكن بالسعي بني الكائنات اإلنسانية الصالحة. ثانيا:
إذا كان منح املنافع، كام رأينا، أفضل من تلقيها فإن الفرد سوف يحتاج، بحكم
الرضورة، إىل صديق، ألن العطاء إىل الصديق أفضل من العطاء إىل الغريب. هنا
يفرتض أرسطو أن العطاء إىل اإلنسان الصالح أفضل من العطاء إىل اإلنسان الرشير.
لهذا، ومبا أن األصدقاء الحقيقيني صالحون، فإن العطاء لهم أفضل من العطاء إىل
الغريب. تبدو لنا قوة هذه الحجة بوضوح عندما نتذكر أن عطاء األصدقاء متبادل
ومستمر. لهذا كلام ازداد عطاء األصدقاء ازدادت املقدرة عىل العطاء ومن ثم
عىل الفضيلة. ثالثا: اإلنسان اجتامعي بطبعه؛ فهو مييل إىل أن يكون مع إخوته يف
اإلنسانية، أو إىل أن يصادقهم. إذن، الحياة االنعزالية تتناقض مع طبيعة اإلنسان.
وقد يفضل، الناس االحتفاظ بكل األشياء الجيدة التي يحصلون عليها يف حياتهم،
ولكنهم يف املقابل يرغبون يف مشاركة أعاملهم الصالحة مع اآلخرين، ألنهم بالطبع
مييلون إىل الحياة االجتامعية: »ال أحد يفضل االحتفاظ بكل األشياء الجيدة لنفسه،
)26(، رابعا: الحاجة

ُ ألن اإلنسان اجتامعي بطبعه، وألنه خلق ليعيش برفقة اآلخرين«
إىل األصدقاء تنبثق عن حقيقة أن الصداقة عالقة نشيطة ومثمرة، فهي ليست
مجرد عاطفة، كام رأينا، أو مجرد فعل، بل عملية منو مستمرة، تتطور باملشاركة
والعطاء والسعي وراء الغايات القيمة. نحن نصبح أصدقاء مبامرسة الصداقة.
ولذلك، يجادل أرسطو: »إذا كانت السعادة تتحقق يف سياق الحياة النشيطة، وإذا
كان نشاط اإلنسان الصالح فاضال ومثريا للمتعة )كام قلنا سابقا(، وإذا كنا نرغب يف
هذه الحياة، وإذا كان يف اإلمكان تفهم جرياننا أكرث من أنفسنا وأفعالهم أكرث من
أفعالنا، وإذا كانت أفعال الناس النبالء الذين هم أصدقاؤنا مفيدة وصالحة )ألن
هاتني الصفتني هام مبعث رسور(؛ إذن، فبحكم الرضورة املنطقية، سوف يحتاج

105
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
اإلنسان السعيد باملعنى الصحيح سوف يحتاج إىل هذا النوع من األصدقاء، ألنه
)27(. هذه الحجة

يفضل تأمل األفعال النبيلة، وأفعال صديقه الصالح تتميز بالنبل«
تدعم القول بأن »الصداقة مدرسة للفضيلة«، مبعنى أنها تعزز تطوير الفضيلة،
ألننا، كام جادل أرسطو يف الكتاب الثاين من »األخالق«، نصبح فضالء مبامرسة
الفضيلة ومبحاكاة اإلنسان الفاضل؛ لهذا تزداد الفضيلة كلام مارسناها يف حياتنا.
الخري مرغوب فيه بذاته؛ وكذلك اإلنسان الفاضل مرغوب فيه. واألصدقاء أشخاص
صالحون، إذن رفقتهم مرغوب فيها، لهذا، ومبا أننا نحتاج إىل األشياء املرغوب فيها،
ومبا أن األصدقاء صالحون: ومرغوب فيهم، إذن، فالصداقة حاجة إنسانية؛ أنها
عنرص جوهري من عنارص السعادة.
5 ـ رؤية شيرشون للصداقة

)٭٭(، الذين حذوا حذو
)٭( واملشاؤون
انطلق األبيقوريون والرواقيون والربينيون
أفالطون وأرسطو، من فهم للطبيعة اإلنسانية: ما هي العنارص، أو الخصائص، األساسية
التي تعرف الجوهر اإلنساين؟ ما هو الباعث، أو الدافع، األول للطبيعة اإلنسانية؟
كانوا مقتنعني بأن جوابا وافيا للسؤال عن الخري األسمى يقبع يف صميم هذا الفهم.
وال ميكن ألي سلطة أو مصدر أن يفرض تصورا للحياة الصالحة من خارجها، بغض
النظر عن نوعها أو طبيعتها، ألن ذلك إذا حدث فلن يكون مناسبا، ورمبا يكون
متعارضا، مع رغبات إرادة الناس، وألنه قد يعرضهم لىنوع من السيطرة السياسية
أو الدينية أو االجتامعية. رأى الفالسفة الهلنستيون أنه، من منظور منطقي، ال ميكن
اعتبار الخري األسمى خريا أسمى، إن مل يتجاوب مع املتطلبات الباطنية للطبيعة
اإلنسانية: الرغبات والقدرات واإلمكانات والدوافع. وكأسالفهم، فقد فرسوا الخري
األسمى عىل أساس السعادة: الحياة الخرية هي الحياة السعيدة، إذن الساعي وراء
السعادة يسعى وراء الحياة الخرية. ولكنهم اختلفوا بتحليلهم للخري األسمى، ويعود
هذا االختالف إىل اختالف يف ترجمتهم للطبيعة اإلنسانية، وخصوصا لدافعها األّويل.
ولكنهم، عىل الرغم من ذلك، شاركوهم افرتاضا أساسيا: القوانني التي تحكم الطبيعة
)٭( Pyrrhonists، الفالسفة املتشككون من القرن األول قبل امليالد. ]املحرر[.
)٭٭( Peripatetics، مدرسة فلسفية استمدت أفكارها من مؤسسها أرسطو. ]املحرر[.

106
الصداقة
اإلنسانية هي قوانني الطبيعة. الكائنات اإلنسانية جزء ال يتجزأ من الطبيعة. إذن
السعي وراء الخري يف حياة اإلنسان ال ميكن أن ينتهك هذه القوانني، بل بالعكس،
يصبح اإلنسان سعيدا »بقدر ما ينجح بالعيش وفقا لقوانني الطبيعة عامة، ال القوانني
التي يفرضها املجتمع – األعراف، التقاليد، العادات – وال تلك التي قد تصدر عن قوة
متعالية أو وراء الطبيعة. »نظم حياتك وفقا للطبيعة«. تلك كانت عقيدة فالسفة
ما بعد أرسطو. لهذا ميكن القول إن وظيفة النظرية األخالقية مزدوجة: اكتشاف
)أ( القوانني الخاصة بالطبيعة اإلنسانية. )ب( النوازع األولية أو العنارص األساسية
التي تقوم عليها الطبيعة اإلنسانية. أوال، اكتشفوا أن العنرص الذي يعرف الطبيعة
اإلنسانية غري معطى كحقيقة جاهزة البنية عند الوالدة، بل كحقيقة كامنة: نحن ال
نأيت إىل الطبيعة ككائنات إنسانية، ولكن ككائنات ميكن أن تصبح كائنات إنسانية.
ثانيا، اكتشفوا أن تلبية مطالب الطبيعة اإلنسانية هي تحقيق القدرات الكامنة يف
هذه اإلمكانية – تحقيق الجوهر اإلنساين – يف مسرية الحياة اليومية. إذن، الخري
األسمى ليس سوى هذه العملية بذاتها، أي تلبية مطالب طبيعتنا وفقا لقوانني
الطبيعة. هذه البصرية )insight )األساسية تشكل أرضية الفكرة القائلة إن التحقيق
الذايت، أو الكامل الذايت، هو جوهر الخري األسمى.
سوف أنتقل اآلن إىل رؤية شيرشون للصداقة، وسأبدأ مبالحظة عن الخصائص
األساسية للتصور الكيل للخري األسمى، ألن نظرته تأسست عىل هذا التصور. كام
هو معروف جيدا، جادل األبيقوريون، الذين افرتضوا ميتافيزيقا مادية يف تحليلهم
للحياة األخالقية، بأن الدافع األول يف الطبيعة اإلنسانية هو اللذة )وتجنب األمل(.
إذن، نحن نحقق الخري األسمى عندما نلبي مطالب هذ الدافع. وعىل عكس أرسطو
الذي ميز بني السعادة والفضيلة وقال إن الفضيلة رشط رضوري للسعادة، ساوى
األبيقوريون والرواقيون بينهام. فبينام قال األولون إن املرء يحقق الفضيلة بالسعي
وراء السعادة، محققني بذلك التامهي بني الخري األسمى والسعادة، قال اآلخرون
بالعكس: يحوز املرء السعادة بأن يعيش حياة فاضلة. وباتباع هذا الخط املنطقي،
جادل الرواقيون بأن السمة التي متيز الطبيعة اإلنسانية هي ملكة العقل. إذن، ال
ميكن للذة أن تكون الخري األسمى. ولكن مبا أن الطبيعة اإلنسانية جوهريا كيان
عقيل، إذن فالحياة الصالحة هي حياة يحكمها العقل، أو اللوغوس )logos).

107
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
والقوانني التي تحكم نشاطات العقل اإلنساين تنبثق عن العقل الكوين. وكام تساءل
سينكا: »ما هي أفضل خواص اإلنسان؟ بالعقل يفوق الحيوان، وبالعقل تتفوق عليه
اآللهة. إذن العقل الكامل هو الخري الذي يتميز به اإلنسان، وبقية الخصائص يشرتك
فيها مع الحيوانات والنباتات... إذن، فإذا كان كل يشء يستحق املديح ويحقق
طبيعته، عندما يصل بالخري املميز له إىل كامله، وإذا كان الخري املميز لإلنسان هو
العقل، فإن الفرد الذي يحقق طبيعته العقلية بصورة كاملة يستحق املديح ويحقق
)28(. هذا االفرتاض هو حجر زاوية النظرية الرواقية عامة:

غايته الكامنة يف طبيعته«
خري اإلنسان األسمى هو كامل )إكامل( طبيعته العقلية، أي متكني ملكة العقل من
أن تكون مبدأ تنظيم حياة الكائنات اإلنسانية كأفراد وجامعات. اعتقد الرواقي أن
الغريزة األوىل يف الطبيعة اإلنسانية هي البقاء)حفظ الحياة(، ليس فقط باملعنى
الدارويني، ولكن أيضا باملعنى اإلنساين؛ أي حفظ... اإلنسانية. ووفق شيرشون، فإن
»املخلوق الحي يشعر بارتباط بذاته )أو تعلق بذاته( وبدافع لحفظ ذاته وعاطفة
حب نحوها، ومن ناحية أخرى، يشعر بأن لديه رفضا )antipathy )للدمار واألشياء
)29(. ويردد سنيكا الفكرة نفسها: »أال ترون

التي تحمل بني طياتها إمكان الدمار«
أن كل يشء حي«، كام يقول املعارض، »يتالءم بداية، مع بنيته )constitution)،
وأن بنية اإلنسان بنية عاقلة، ولهذا يتكيف مع نفسه، ليس فقط ككائن حي ولكن
.)30(
أيضا ككائن عاقل، ألن اإلنسان يعز عىل نفسه بخصوص ما ميثل كونه إنسانا«
وهكذا، فإذا كانت بنية )كيان( الطبيعة اإلنسانية تنبثق عن العقل، إذن، فال بد
من القول إن الفضيلة هي العيش وفقا للعقل، وأن هذا العيش هو عملية تحقيق
القوى الكامنة فيه. إذن العقل هو املبدأ األعىل للتقييم األخالقي، وهو أيضا املبدأ
الذي تنبثق عنه جميع الفضائل. هذه الفكرة بالذات دفعت الرواقيني إىل أن يقولوا
إن الفضيلة هي السعادة، أو إنها العيش وفقا للطبيعة. ولكن إن ساوينا الفضيلة
بالسعادة، والسعادة هي الخري األسمى، إذن علينا أن نسعى من أجل الفضيلة كغاية
)٭( )Diogenes )

بذاتها: الفضيلة هي القيمة الجوهرية العليا. وقد صاغ ديوجانس
هذه النقطة بوضوح: »الفضيلة هي الطبع املتناغم الجدير باالختيار كغاية بذاتها
)٭( Diogenes، أحد الفالسفة الكلبيني الذين اعتربوا الفضيلة غاية الحياة، عاش يف نهاية القرن الخامس وبداية
القرن الرابع قبل امليالد. ]املحرر[.

108
الصداقة
ال كوسيلة ألي رغبة أو دافع خارجي. وبالتايل، السعادة تكمن يف الفضيلة، ألن
)31(. لهذا
الفضيلة هي تلك الحالة العقلية التي تجعل الحياة بأكملها منسجمة«
السبب، يبدو يل أن اإلنسان الفاضل إنسان مكتف ذاتيا، وفق الرواقيني، ألن يف
وسعه أن يكون سعيدا من دون ملذات الجسد، من دون امتالك أشياء مادية، من
دون أن يتوقع الخلود. كل ما يحتاجه ليك يكون سعيدا هو الفضيلة، والطريق
الوحيد الذي يؤدي إىل الفضيلة هو الحكمة. لهذا السبب فالحكمة تحتل املكانة
األوىل يف برنامج حياة اإلنسان الفاضل.
6 ـ ما الصداقة؟
أعتقد أن معظم الفالسفة يتفقون عىل أن تحليل أرسطو للصداقة هو الينبوع
الذي استمدت منه جميع املناقشات الالحقة إلهامها وبصريتها األساسية وترجمتها
للعالقة التي تشكل رباط الصداقة. وعىل الرغم من مساهمتهم الفريدة يف فهمنا
لهذه القيمة األخالقية، فإنها تنطبق أيضا عىل النظريات والتأمالت والتقييامت
النقدية لطبيعتها ومكانتها يف حياة اإلنسان التي نجدها يف العصور الوسطى
والحديثة واملعارصة – مثال، أوغسطني واألكويني وبيكون ومونتني، وكانت
وإمرسون وميالندر، وتنطبق أيضا عىل شيرشون. اخرتت نظرية هذا الفيلسوف
للتحليل املفصل لثالثة أسباب: )أ( ألنها تربز مكانة الصداقة يف حياة اإلنسان، )ب(
تحتوي عىل مناقشة متكاملة للصداقة كقيمة أخالقية )ج( متثل مفهوما )تصورا(
لثقافة معينة حول هذه القيمة. هديف يف هذا التحليل هو أن أبني، إىل أوسع
حد ممكن، الخصائص األساسية للصداقة، وعالقتها بالسعادة، وملاذا هي حاجة
جوهرية إىل إكامل الطبيعة اإلنسانية، مع األخذ بعني االعتبار، طبعا، االفرتاضات
الرواقية املتعلقة بطبيعة العامل والحياة اإلنسانية ومصريها. سوف أبدأ بطبيعة
الصداقة كعالقة إنسانية.
»ميكنني أن أحثك بصورة خاصة فقط«، يقول شيرشون للوسيليوس يف محاورة
»الصداقة«، »عىل أن تفضل الصداقة عىل كل ما ميتلك اإلنسان؛ ألنها أمثن يشء يف
)32(. ثم يضيف: »الصداقة ليست سوى توافق كامل عىل جميع

أيام االزدهار واملحبة«
املواضيع اإلنسانية واإللهية، ودامئا يرافقها شعور من اللطف واملودة، ويف الحقيقة،

109
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
فوفق معرفتي، ال يوجد أي يشء أفضل منها مام وهبته اآللهة لإلنسان سوى الحكمة.
بعض الناس يفضل الرثوة، والبعض اآلخر يفضل النفوذ، وآخرون يفضلون الشهرة،
والعديد يفضلون امللذات، وهذه األخرية إحدى خواص الحيوانات بينام األوىل
رسيعة الزوال ومتقلبة، ألنها ال تعتمد عىل رغبتنا بل عىل تقلبات الحظ. وبينام
هؤالء الذين يعتربون الفضيلة الخري األسمى يستحقون اإلعجاب، فالفضيلة هي
)33(. يبدو
بذاتها مصدر وجود الصداقة، ومن دونها ال ميكن للصداقة أن توجد أبدا«
واضحا يف االقتباسني السابقني أن شيرشون مييز بني نوعني من الصداقة، األول يرتكز
عىل املنفعة، والثاين إىل الفضيلة، أو الخري، ويعترب األول غري حقيقي والثاين حقيقيا.
أوال، الصداقة املبنية عىل املنفعة هي صداقة عابرة، ومرشوطة؛ هي صداقة ال تدوم،
ألن املنفعة التي هي أساسها ودافعها ال تدوم. واعتامدها عىل الحظ والظرف أكرث
من اعتامدها عىل اإلدارة أو املبدأ. ثانيا، العالقة يف هذا النوع من الصداقة هي عالقة
خارجية، ال باطنية، أي ال إنسانية، ألن العنرص الوحيد الذي يربط الصديق بصديقه
هو املنفعة، وبكلامت أخرى، ال يوجد رباط روحي أو إنساين بينهام عىل الرغم من
أن هذا الرابط هو ينبوع الصداقة الحقيقية. الصداقة نوع من املحبة، ولهذا السبب
فهي عالقة روحية. عاطفة املحبة هي التي تولد رابطة الصداقة بني األصدقاء. لذا
فهؤالء الذين يشكلون صداقاتهم عىل أساس املنفعة، ال عىل أساس هذه العاطفة
»يلغون الرابطة األكرث حميمية، وهذه الرابطة، وليست املنفعة، هي مصدر البهجة
التي ننشدها من الصداقة. وبالتايل فإن ما يصدر عن الصديق، يكون مصدرا للبهجة
)34(. ولكن عندما يغيب هذا النوع من الرباط فإن

فقط إن صدر عن محبة عميقة«
األصدقاء ال يحب بعضهم البعض بل يحبون املنفعة التي تتحقق من رفقتهم. وهذا
النوع من املحبة محبة ذاتية ال محبة اآلخر. إذن هذه املحبة ليست حقيقية.
الفضيلة ليست أساس الصداقة ودافعها فقط، ولكنها أيضا مصدرها. لهذا
السبب ال ميكن للصداقة أن توجد إال بني الناس الصالحني. ولكن إذا كانت الصداقة
عالقة تحول إنسانني إىل أصدقاء، فام هي طبيعة هذا الرابط؟ أوال، يتكون هذا
الرابط من عاطفة محبة متبادلة، وألنها متبادلة فهي تولد وحدة بينهام. إذن، مصدر
الوحدة هو تبادلية املحبة. يف املحبة الحقيقية نحب اإلنسان اآلخر. ليس ألننا نتوقع
من الصداقة منفعة معينة ولكن ألن الصديق جدير باملحبة، وهو جدير باملحبة

110
الصداقة
ألنه فاضل. الفضيلة جديرة باملحبة وهي مصدر الجاذبية الدامئة بني األصدقاء.
لهذا السبب تنطلق املحبة التي متيز الصداقة تنطلق من إرادة حرة وعفوية. ويف
)٭(، يروي شيرشون أنه صادقه ليس ألنه كان

إشارة تأملية إىل صديقه أفريقانوس
يتوقع أي منفعة منه، ولكن ألنه كان معجبا مبا متيز به – بالفضيلة التي عرف
بها. يكتب شيرشون »إنها الفضيلة. الفضيلة، أقول لك يا قايوس فانيوس، وأنت
يا كوينتس ماكيوس، هي التي تكسب الصداقة وتحفظها، ألنها مصدر القوة التي
تجعلنا نتكيف مع الظروف، وهي أيضا مصدر اإلخالص واالنسجام عندما تظهر
وتنرش شعاعها؛ وعندما يرى إنسان هذا الشعاع يف إنسان آخر، تشتعل نار املحبة
أو الصداقة، ألن كال منهام يستمد وجوده من املحبة. واملحبة ليست سوى التعلق
باإلنسان الذي نحبه من دون إحساس بالحاجة ومن دون السعي من أجل أي
.
)35(
منفعة، ومع ذلك، فإنها ينبوع من املنفعة عىل الرغم من أننا مل نسع من أجلها
ولكن رباط املحبة بني صديقني ليس مجرد عاطفة أو شعور مجرد. بل هو ذلك
النوع من العاطفة الذي ينبثق وجوديا عن تداخل ذايت بني الصديقني أحدهام مع
اآلخر. يجري هذا التداخل يف مجرى حياتهام الروحية. مثل أرسطو من قبله، اعتقد
شيرشون أن الصداقة عالقة نشيطة ومثمرة، وعلينا أال ننىس أنها نشاط مشاركة، وأن
تركيزها ال يكون إال عىل املشاركة: »إذن عىل اإلنسان الحكيم أن يتأكد من مشاعره
الرقيقة، مبثل ما يتأكد من سالمة مركبته، إذ إننا ال بد أن نستوثق من أن صداقاتنا
)36(. هذا الشعور هو الغراء الذي

سليمة كام نريد ألحصنتنا أن تكون سليمة متاما«
يعزز بناء هذا الرباط وثباته، وهو أساس الوحدة بني األصدقاء. هذا النوع من االتحاد
يربر وصف الصديق باعتباره صورة من صديقه، أو باعتباره ذات صديقه، ألنه إذا كان
الصديقان متساويني، مبعنى أنهام منسجامن بالفضيلة والشخصية، إذا انبثق فرباط
الصداقة بينهام من نشاط املشاركة، إذ تداخل أحدهام مع اآلخر يف هذه املشاركة، إذا
كان أساس هذا التداخل متاثل معتقداتهام وقيمهام ومشاريع حياتهام، إذا أصبح هذا
التامثل باختصار حقيقة يف حياتهام، فال بد لذات الواحد أن تعكس ذات اآلخر، وأيضـا
ال بد للصديق أن يحب صديقه، ألن جوهر املحبة هو العناية والعطاء واملشاركة.
)٭( Africanus Scipio، أحد كبار قواد روما القدمية. ]املحرر[.

111
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
النقطة التي تستحق االنتباه هنا هي أن املحبة الخاصة بالصداقة، بالنسبة إىل
شيرشون، هي نوع من الحضور، فاألصدقاء حارضون بعضهم يف بعض وبعضهم لبعض.
اإلقرار بهذه الخاصية هو الذي ميكن الرواقي من القول عن األصدقاء إنه حتى لو مات
أحدهم فلن يحزنهم موته، ليس فقط ألنهم يتقبلون ما جرى، وليس فقط ألن الصديق
يبقى حارضا فيهم، ولكن ألن صداقتهم جعلت حياتهم جديرة بالعيش. سنيكا يعرب
عن هذه الفكرة بوضوح: »امتالك الصديق يكون بالروح، والروح ال تغيب أبدا: إنها
ترى من تحبه كل يوم. ولهذا أقول: شاركني أبحايث، ووجبات طعامي وجواليت، فالحياة
تصبح ضيقة حقا إذا كان خيالنا مقيدا. أراك يا عزيزي لوسيليوس وأسمعك، وأشعر
.)37(
بك إىل درجة أنني أظن أنه من األفضل أن أرسل لك مالحظات عوضا عن رسائل«
هذه النقطة مل تغب عن انتباه أوغسطني. لقد وصف الصداقة كعش محبة. هدف
هذه الصورة هو التعبري عن أهمية املشاركة يف حياة الصداقة، خصوصا أن الصديقني
يندمجان معا ويصبحان نفسا واحدة. وعندما عرب عن شعوره بفقدان صديقه العزيز
)٭( قال: »لقد ازدادت دهشتي عندما اكتشفت أنني بقيت حيا عندما مات،
نربيديوس
ألنه كان »ذايت األخرى«. وقد أحسن أحدهم قوال عندما أشار إىل صديقه بقوله »لقد
كان نصف نفيس«. كنت أشعر بأن نفيس ونفسه كانتا نفسا واحدة يف جسدين. لهذا
السبب كانت حيايت مرعبة. رفضت أن أعيش بنصف نفيس. ورمبا كان السبب يف شدة
.
)38(
خويف من املوت هو أنه كان سيعني اكتامل موت صديقي املحبوب«
وال ميكن لهذا النوع من االتحاد الروحي بني شخصني أن يحدث من دون تنفيذ
بعض الرشوط األساسية. أوال، من املهم أن تبدأ الصداقة بداية حكيمة. وال نستطيع
تطوير عالقة من هذا النوع إن مل نؤمن بقيمة الفضيلة، وإن مل نعش وفقا ملتطلباتها
)39(. فلسوء
وبالتايل »علينا أال نترسع باملحبة وأال نحب اإلنسان غري الجدير باملحبة«
الحظ، »معظم الناس ال يرون أي يشء ذا قيمة يف أمور الحياة سوى ما هو مربح،
وسواء مع األصدقاء أو مع املاشية، فهم يحبون ما يتوقعون منه أكرب قدر ممكن من
)40(. وهم عىل استعداد ألن يتظاهروا ويتملقوا ويرتدوا ثوب الصداقة من
املنفعة«
أجل املنفعة، وال يرتددون يف اللجوء إىل استغالل أي شخص واإلساءة إليه والتالعب
)٭( Nebridius، أسقف برشلونة حتى العام 547 امليالدي، ويحل عيده يف السابع من فرباير من كل عام. ]املحرر[.

112
الصداقة
به، صادقا كان أو انتهازيا، لتحقيق غاياتهم األنانية. لكن الصداقة الحقيقية »جديرة
بالرغبة من أجل ذاتها«، ال من أجل أي كسب مادي. لهذا السبب يويص شيرشون، كام
الحظنا سابقا، بأنه يجب أال نحكم عىل شخصية فرد آخر قبل أن نفتح قلوبنا له؛ إنه
دور اإلنسان الحكيم إذن أن يتأكد من دوافع مشاعره الرقيقة، كام يتأكد من سالمة
مركبته، وأن نتحقق من سالمة صداقتنا كام نفعل مع أحصنتنا، بصورة تامة أن نخترب
)41(. ولكن هذه الوصية تثري مشكلة تنطوي عىل مفارقة،

شخصية أصدقائنا بقدر ما«
إذ كيف ميكن أن نتفحص أو نتأكد من اآلخر إن مل منارس الصداقة؟ كيف نعرف اآلخر
إن مل نشاركه حياته؟ شيرشون عىل علم بهذا التناقض، ألنه يالحظ أن مهارة الناس يف
اختيار حيواناتهم تفوق بكثري مهارتهم يف اختيار األصدقاء. هذه قضية عملية عامة.
نستطيع، عموما، تحديد بعض امليزات الجوهرية للشخصية الفاضلة، مثل الصدق،
العمل الصالح، املودة، اللطف، التواضع، التعاطف، العقالنية، املرونة، الثقة، الشجاعة،
الرضا. وميكن أن نكتشف إىل أي مدى يجسد الصديق صفات كهذه يف سلوكه، خالل
فرتة زمنية معينة، وبصورة ثابتة ومتسقة ومخلصة. ولكن عىل الرغم من أننا قد
نالحظ وجود هذه الصفات، فإننا قد نخطئ. التجربة الواقعية يف نهاية املطاف هي
االختبار النهايئ للتأكد من فضيلة الشخص اآلخر. أعلن شيرشون أكرث من مرة أن
اإلنسان الفاضل الذي يقدر الصداقة كقيمة أوىل يف حياته إنسان نادر، وأن معظم
الناس محكوم عليهم بعدم ثبات شخصياتهم وضعفها. وهو يتساءل: »أين نجد ذلك
اإلنسان الذي ال يفضل املناصب السياسية والقانونية والعسكرية واالجتامعية والنفوذ
)42(. ويعود للتساؤل: »أين نجد ذلك اإلنسان الذي يفضل مصلحة

عىل الصداقة؟«
صديقه عىل مصلحته؟ وملاذا؟ نحن ال نستطيع التغايض عن هذه األمور. معظم الناس
يجدون املشاركة يف أحزان اآلخرين مؤملة وغري عملية، والناس الذين ميارسون هذه
)٭( )Ennius )قال: »نكتشف الصديق

املشاركة نادرون. وعىل الرغم من أن إينيوس
الثابت يف األمور املتغرية، بيد أن تهمة عدم الثبات والضعف تشمل معظم البرش، فهم
)43(. الفكرة التي

يحتقرون الصديق يف أيام ازدهارهم ويتخلون عنه يف أيام محنته«
أراد شيرشون تسليط الضوء عليها هي أن الخري رشط جوهري للصداقة ألنه يؤكد
)٭( Ennius Quintus، كاتب من عهد الجمهورية الرومانية يعد أبا الشعر الالتيني. ]املحرر[.

113
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
حالة من الوئام، أي االنسجام بني األصدقاء، ومن دون هذه الحالة تكون الصداقة
غري ممكنة. وهو يقول لنا إنه استمد قوة صداقته مع سيبيو )Scipio )من طول
املعارشة وتوافق همومهام وميولهام واهتامماتهام ومشاعرهام وتبادل األخذ والعطاء
)44(. غياب هذا التوافق يدمر الصداقة، إذ كيف ميكن لألصدقاء أن يكونوا صورة
بينهام
بعضهم عن بعض، أو يكون أحدهم نصف اآلخر، إن مل يكونوا متساوين بعضهم مع
بعض؟ ولكن املساواة التي يقصدها شيرشون هنا ليست حسابية بطبيعتها، ألنه من
املستحيل ألي إنسانني أن يكونا متامثلني أو متساويني يف كل جزئية – املزايا النفسية،
املهارات، املواهب، النواحي املادية أو الجسمية. املهم هو أن يؤسس الصديقان تبادال
)45(. يضاف إىل ذلك أنه إذا أدرك أحدهام

منصفا يف جميع أفعالهام أحدهام نحو اآلخر
أنه أفضل من صديقه فعليه أن يرفع من مستواه يف الخري أو الجودة من دون عجرفة
أو تعال، ألن العجرفة والتعايل يتضاربان مع شعور ومطالب الفضيلة. وهذا يرتكز
إىل االفرتاض بأن الناس ال يولدون فضالء، ولكنهم يولدون بالقدرة عىل أن يصبحوا
فضالء. الحياة الفاضلة عملية تنمية وتطوير مستمرة. وقد عرب سنيكا عن هذه النقطة
بوضوح: »تتحىل الشخصية بالفضيلة فقط عندما تنشأ وتتعلم وتصل إىل مستوى
عال من الكامل يف املامرسة. مل ُنخلق بالفضيلة ولكن من أجلها. وحتى أحسن الناس،
فهم ال ميلكون من الفضيلة قبل أن ُينضجوها يف ذواتهم سوى مادة الفضيلة، وليس
)46(. ولهذا، فعىل الرغم من أن الصداقة ناجمة

الفضيلة ذاتها. الفضيلة مثرة الرتبية«
عن الفضيلة، فإنها تصبح مبجرد تأسيسها، جامعة، أو مدرسة، لتنميتها. والخري بطبيعته
معد، جذاب؛ إنه قوة بناءة ومثمرة. وكلام أمعن الفرد يف مامرسة الخري، ازداد الخري
يف حياته، وأصبح أفضل.
ولكن كجامعة من األفراد الفاضلني، فالصداقة رشط، ويف الحقيقة عنرص من
عنارص السعادة. قد تبدو هذه الجملة غريبة، ألنه وفق شيرشون وبقية الفالسفة
الرواقيني، فالفضيلة مبدأ السعادة: امتالك الفضيلة يساوي امتالك السعادة
الشخصية. الشخص الفاضل ٍ مكتف ومنضبط ذاتيا. وهو يستمد استقالله ورضاه
بالحياة من موارده الباطنية – الحكمة والفضيلة، حيث تكون الحكمة وسيلة إلنجاز
الفضيلة. ولكن يقول لنا شيرشون إن الفضيلة ليست مجرد رشط، ولكن أيضا عنرص
من عنارص السعادة. ويبدو أننا أمام مفارقة، ولكن هذه املفارقة ظاهرية، لألسباب

114
الصداقة
التالية. أوال: االكتفاء الذايت لإلنسان الفاضل ال يتضمن أي رفض للعامل أو للحياة.
أي، ال يتضمن انطواء الفرد عىل ذاته، بل يعني أننا أسياد أنفسنا، أننا نسيطر عىل
أفكارنا ومشاعرنا وأفعالنا، أننا نسيرّ حياتنا وفقا لصوت الحكمة، أننا ال نستطيع
تغيري مجرى الحوادث الخارجية مبا يف ذلك حوادث أجسادنا، ومن ثم علينا أن
نتحىل بنزعة ال اكرتاثية تجاه هذه الحوادث. نستمد اقتناعنا الذايت من إدراكنا
أننا مكتفون ذاتيا، مبعنى أننا ال نحتاج إىل أي يشء حتى نتمكن من تلبية هذه
)٭( بشأن هذه النقطة: »مل يكن ينقص

االحتياجات. سنيكا يستشهد بكريسبوس
اإلنسان الحكيم يشء، هو يقول لنا، ولكنه يحتاج إىل أشياء عديدة، بينام األحمق
من ناحية أخرى، ال يحتاج إىل يشء ولكن ينقصه كل يشء. اإلنسان الحكيم يحتاج
عيونا وأيادي وأشياء عديدة ليك يحقق أهدافه اليومية، ولكن ال ينقصه أي يشء،
ألن االفتقار إىل يشء ما يتضمن أنه رضوري، وال يشء، بالنسبة إىل اإلنسان الحكيم،
)47(. وهكذا، فمثال الحياة الصالحة، أي الفضيلة، »ينمو ويتطور ذاتيا«
يعد رضورة«
والسعادة مثرة هذا التطور. ولكن حتى اإلنسان الفاضل ال يستطيع أن ينمو ذاتيا
وحده، من دون صديق حقيقي: الصداقة ليست مجرد مصدر للسعادة بل رشط
)48(. السعادة
لها. بكلامت شيرشون: »الطبيعة أعطتنا الصداقة كخادمة للفضائل«
إنجاز باطني، ال ميكن منحها أو رشاؤها، وال ميكن سلبها أو بيعها. الرتبة التي تغذيها
هي الفضيلة. إنها تلك الخاصية املتمثلة يف الرضا أو القناعة العميقة التي تنبثق
ُ عن مامرسة الفضيلة. ال ميكن لهذه الصفة أن تحقن يف النفس كام ُيحقن الدواء يف
جسد املريض.
ولكن بأي معنى تكون الصداقة رشطا للسعادة؟ هي رشط مبعنى أنه ال ميكن
للفرد الفاضل مبفرده، وحده، أن يصبح فاضال، ألنه يحتاج إىل رفقة وتعاون من
صديق حقيقي، ألنه »وحده، من دون مساعدة، ال ميكن له أن ينجز أعىل درجة
من الفضيلة. هو يستطيع تحقيق هذه الغاية عندما يرتافق مع شخص آخر. وإذا
حدثت هذه الرفقة بني شخصني فإن رفقتهام ستكون، بالنسبة إىل الخري األسمى،
)49(. فخريات الحياة – اللذة واملعرفة، االحرتام االجتامعي، الهناء

أفضل وأسعد رفقة«
)٭( Chrysippus، فيلسوف رواقي يوناين من القرن الثالث قبل امليالد. ]املحرر[.

115
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
– تتحقق يف إطار الصداقة. لهذا أنهى شيرشون حواره حول الصداقة بالرجاء التايل
»أرجوك أن تبني أساسا للفضيلة، التي ال ميكن للصداقة أن توجد من دونها، ألنه ال

.
)50(
يوجد أي يشء أفضل من الصداقة يف هذا العامل«
7 ـ ملاذا نحتاج إىل الصداقة؟
املالحظة األخرية عن العالقة بني الفضيلة والصداقة تجرنا إىل السؤال التايل:
ملاذا اعترب الفالسفة الهلنستيون الصداقة قيمة مركزية يف التنظري األخالقي؟ ملاذا
اعتربوا أنها عنرص أو رشط من الرشوط الواردة يف تصورهم للسعادة؟ جوايب عن
هذين السؤالني سوف يرتكز إىل أن النموذج األخالقي الهلنستي كان يتضمن قيمة
الصداقة، أي أنها كانت جزءا من النظرة األخالقية الكامنة فيه. أدرك الفيلسوف
الهلنستي أن الصداقة حاجة، وأنها عنرص جوهري يف السعي من أجل السعادة.
واآلن سوف أقدم الحجج لدعم هذه القضية.
أوال: الصداقة هي الطريق األوسع، أو رمبا الوحيد، الذي يؤدي إىل تلك القناعة
الذاتية، إىل البهجة والرضا الذاتيني، املتوجني للحالة التي نشري إليها عادة بكلمة
سعادة، أو التي تجعل الحياة جديرة بالعيش »يف املقام األول« يقول شيرشون،
»ملن ميكن للحياة أن تكون جديرة بالعيش، كام يقول إينيوس، سوى لذلك الشخص
الذي يتبادل شعور االستلطاف مع صديق ما؟ من هو الفرد الذي ميكن أن يكون
مبهجا أكرث من الفرد الذي ميكن لك أن تتناقش معه حول جميع املواضيع التي
)51(. وفق تفكري أرسطو، ستكون الحياة قامتة، بكل تأكيد،

تناقشها مع نفسك؟«
إذا مل يتقاسمها املرء مع شخص عزيز، صديق حقيقي، يف أيام االزدهار ويف أيام
املحنة! جميع املواضيع الجديرة باملالحقة، واملالمئة ملختلف ظروف الحياة، تتلخص
يف الصداقة: »الرثوة، ليك ننفقها؛ القوة، ألنها تجعل الناس يتوددون إليك؛ امللذات،
ليك تتمتع بها؛ الصحة الجيدة، لكيال تشعر باألمل وليك تقوم بوظائفك الطبيعية. يف
حني أن الصداقة تشمل أكرب عدد ممكن من األمور، وأينام تذهب هي معك، فهي
ال ترتكك ضائعا أو محروما أو مرّوعا، لهذا السبب فنحن ال نبذل جهدا عىل يشء
)52(. ولكن الصداقة الحقيقية مؤسسة عىل الفضيلة،

أكرث مام نبذله عىل الصداقة«
وهذا يعني أنه ال ميكن للفرد أن يكون صديقا إن مل يسلم نفسه للفضيلة. وهكذا،

116
الصداقة
ومبا أن الصداقة، كام رأينا، غري ممكنة من دون الفضيلة، وألنها تشمل جميع األمور
التي تجعل الحياة جديرة بالعيش، وألن الفضيلة هي السعادة، إذن، الصداقة رشط
للسعادة، ولهذا فهي حاجة إنسانية جوهرية، ألنه ال ميكن للفرد أن يحقق نفسه
من دونها.
ثانيا: الصداقة ليست مجرد رشط، إنها أيضا عنرص يف السعي من أجل السعادة
لسببني: )أ( أن الصداقة، بخالف جميع الخربات التي نبحث عنها، فيها من العظمة
ما يفوق كل يشء آخر، ألن خريات كاللذة والرشف االجتامعي والشهرة االجتامعية،
كام رأينا، ال متنحنا الرضا الدائم والعميق والثابت الذي تتطلبه الطبيعة اإلنسانية:
»لو كانت املصلحة مصدر الصداقة، فال بد للصداقة أن تنفصم عراها عندما تزول
)53(. الفرد الذي يستهدف صداقة مبنية

املصلحة. إذن، الصداقة الحقيقية خالدة«
عىل املصلحة يفرتض أنه سيصبح سعيدا عندما يؤِّمن حاجياته املادية ويعيش
حياة خالية من الهم. ولكن هذا االفرتاض خطأ، ألننا إن أقصينا الصداقة الحقيقية
عن حياتنا، فإننا »نقيص الشمس عن العامل«؛ وإذا غابت هذه الشمس فسترتاجع
.)54(
َ الصداقة عن حياتنا، ألننا مل نتلق أي يشء أفضل وأكرث بهجة، من اآللهة األزلية
الصداقة هي الشمس التي تنري حياة األصدقاء وتبعث يف قلوبهم بهجة عميقة
دامئة، ولهذا السبب هي حاجة ال ميكن لألصدقاء االستغناء عنها.
بيد أنها ليست حاجة عادية، أو مادية، ليست ذلك النوع املقرون باملصلحة أو
البقاء. إنها حاجة إنسانية، من ذلك النوع املقرون بدافع االكتفاء الذايت عىل املستوى
اإلنساين. الرضا املقرون بالنوع األول من الحاجة هو اللذة، بينام املقرون بالنوع
ّ الثاين هو البهجة. اللذة تعرف املفهوم العادي للسعادة، والبهجة ّ تعرف النوع الثاين.
ولكن املفهوم العادي للسعادة سلبي، ألنه يستهدف حياة خالية من الهم ويهمل
االلتزام بالفضيلة، بينام النوع الثاين نشيط، ألنه يستهدف تحقيق القوى الكامنة يف
الطبيعة اإلنسانية، وألن هذا التحقيق يبقى تحديا مستمرا. طريقة الحياة اإلنسانية
مؤسسة عىل العقل والفضيلة، ال عىل اإلحساس. واآلن، إذا كانت الفضيلة رشط
الحياة السعيدة، إذن فالصداقة حاجة. هنا علينا أن نتذكر صورة الشمس املعربة.
هدف هذه الصورة هو التعبري عن القيمة املطلقة لهذه الحاجة، ولكن تأمينها ليس
وسيلة إىل غاية خارجية، بل استجابة إىل مطلب من مطالب حياة العقل الذي هو

117
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
جوهر طبيعتنا. البهجة التي تفرزها تنجم عن مامرسة الفضيلة عامة والصداقة
خاصة، أي عن كون الفرد صديقا أو عن القيام بأنشطة الصداقة، وليس عن تأمني
نوع من املصلحة. ترتكز هذه الفكرة إىل االفرتاض الرواقي القائل بأن الشخص
الحكيم ٍ مكتف ذاتيا: أفعاله تنبع عفويا من عقله وتجسد إرادته العقلية. الرغبة
األوىل لهذا الشخص هي أن يكون ذاته، أي أن يعيش حياة عقالنية. هذا النمط
من الحياة مصدر سعادته. سنيكا عرب عن هذه النقطة بقوله: »عىل الرغم من أنه
ٍ مكتف ذاتيا، فاإلنسان الحكيم يرغب يف أن يكون عنده صديق، عىل األقل ليك
ميارس الصداقة وليك يبقي ملكاته العقلية نشيطة، ولكن ال كام يقول أبيقور، ألنه
يريد أحدا أن يأيت ويجلس بجوار رسيره عندما يكون مريضا، أو يحرره عندما يكون
يف قبضة األعداء، ولكن عىل العكس ألنه يريد أن يجلس هو بجوار رسير صديقه
عندما يكون الصديق مريضا أو ليك يحرر صديقه عندما يكون يف قبضة األعداء.
كل من يفكر يف مصالحه الشخصية ويسعى من أجل الصداقة لهذا الهدف يقرتف
.)55(
َ خطأ عظيام... ن ِصف هذه العالقات عادة بأنها صداقات الطقس الحسن«
وبالتايل، ويف محاولته للتمييز بني الصداقة الحقيقية وتلك املبنية عىل املنفعة، يقول
شيرشون إن أتباع النوع الثاين من الصداقة يحرمون أنفسهم »من أجمل وأرفع نوع

.
)56(
من الصداقة، ذلك النوع املرغوب فيه ولذاته«
ثالثا: الصداقة حاجة إنسانية. وهي جزء أصيل من نسيج الطبيعة اإلنسانية؛
ولهذا، وبسبب حاجة أساسية وجوهرية يف بنيتهم الطبيعية، مييل البرش إىل الصداقة
ُ ويبتهجون بها. هذا امليل مغروس يف طبيعتهم االجتامعية. لقد خلقوا وُوجدوا ليك
يزدهروا يف وسط اجتامعي، والصداقة أنسب مثال للوجود االجتامعي اإلنساين.
الكائنات اإلنسانية، يقول شيرشون، تكره العزلة. وبغض النظر عن عظمتها أو نبلها
أو قدسيتها، فإن اإلنجازات اإلنسانية تكون عقيمة خارج نطاق اإلطار االجتامعي،
إذا مل يدركها ويقدرها ويقيمها ويتشارك فيها اآلخرون. ملاذا أسعى إىل أن أخلق
عمال فنيا – قصيدة أو مرسحية أو قطعة موسيقية أو متثاال ـ أو نظرية علمية أو
نظاما فلسفيا أو نظرية سياسية، وملاذا أسعى إىل أن أقوم بفعل املحبة، وملاذا أسعى
من أجل مرشوع مهم أو هدف مثايل إن مل يقدره أو يقيمه أحد؟ أو، مرة أخرى،
هل للفعل املؤذي أو الرشير أي قيمة خارج السياق االجتامعي »إن وجد شخص«

118
الصداقة
يقول شيرشون »مملوء إىل حد عال بالقوة والوحشية إىل درجة أنه يتجنب ويكره
)٭(، فحتى إنسان كهذا يحتاج إىل

االجتامع مع اإلنسانية كام شاع عن تيمون األثيني

)57(. ومن ناحية أخرى، إذا متكنا

شخص ما ليك يصب عليه سموم طبيعته البرشية«
من تصور شخص يف امللكوت يتأمل جامل النجوم، يف ذروة تألقها، فبمقدورنا القول
إن تجربة هذا الشخص ستكون تافهة »بائخة« إذا مل يتشارك يف هذه التجربة مع
إنسان يفهمها ويقدرها. »وهكذا فالطبيعة ال تحب العزلة ودامئا تفتش عن يشء
)58(. يستند هذا الزعم إىل افرتاض أن

يدعمها، والصديق هو أكرث الداعمني إخالصا«
الصداقة متثل أقوى نوع من الرتابط االجتامعي، أوال ألنها، كام رشحت سابقا، شعور
بالوحدة الكاملة بني كائنني إنسانيني. يبدو يل أين أتبنى االعتقاد بأن هذه هي بنيتنا
الطبيعية، أنه يجب أن يوجد رابط اجتامعي بيننا جميعا، وأن يكون هذا الرابط
أقوى عندما تكون العالقة قريبة. لهذا فمواطنك أفضل من األجانب، واألقرباء أفضل
من األغراب؛ ألن الطبيعة زودتنا بشعور ودود نحو األصدقاء واملواطنني. وعالقة
الصداقة أقوى وأرفع من عالقة املواطنة، ألنه ميكن اسرتداد املحبة من الغريب أو
)59(. يفرتض هذا الرأي

املواطن، ولكن ال ميكن اسرتدادها، أو سحبها، من الصديق
الفكرة التي تقول إن الصداقة عالقة تفضيلية، ألنه عىل الرغم من أننا بالطبيعة
منلك ميال إىل أن نعيش حياة اجتامعية، وبالتايل نعتز برفقة اآلخرين، فإننا أيضا
بالطبيعة منلك ميال إىل أن نختار الكائن اإلنساين الذي يالمئنا ويشاركنا حياتنا برمتها.
هذا امليل ليس عشوائيا وال اصطناعيا، بل دافع جوهري يف الطبيعة اإلنسانية. وهذا
سبب إضايف دفع شيرشون وبقية الرواقيني إىل أن يجادلوا بأنه عىل الرغم من أن
ٍ الشخص الحكيم مكتف ذاتيا، فإنه يحتاج إىل صديق حقيقي.
وإن أخذنا بعني االعتبار النامذج األخالقية للعامل الكالسييك – نظرتهم إىل الخري
األسمى واالفرتاضات التي تؤسس هذه النظرات – ميكن أن نستنتج أن الصداقة
عنرص جوهري يف الحياة الفاضلة. وآمل أن تكون تحليالت أرسطو وشيرشون
لطبيعة الصداقة وطريقة تربيرها كحاجة قد قدمت تفسريا معقوال لرضورة اعتبارها
قيمة مركزية يف التنظري األخالقي. ويف إعطائها هذه الدرجة الرفيعة من األهمية،
)٭( Athens of Timon، هو ثري عرف ببغضه ومعاداته للناس. كان ينفق أمواله عىل أصدقائه بسخاء، فلام أفلس
هجروه، ليعودوا له مرة أخرى بعد أن اغتنى. ]املحرر[.

119
الصداقة يف النظرية األخالقية الهلنية والهلنستية
كام رشحت يف هذا الفصل، كان الفالسفة الكالسيكيون أوفياء للنموذج األخالقي،
وكانوا يف هذا الوفاء مخلصني لنظرتهم إىل العامل عامة، أي لفهمهم للطبيعة والحياة
اإلنسانية وملصريهم ولتجربتهم يف الصداقة ودورها يف السعي من أجل السعادة.
مل تحل دون هذا اإلخالص أي اعتبارات دينية أو سياسية أو اجتامعية، بل العكس،
فقد ارتكزوا بثبات إىل الدليل التجريبي والحكم الفلسفي السليم.

ملاذا غابت الصداقة بوصفها قيمة أخالقية
مركزية عن نظريات القرون الوسطى؟ هذا
السؤال جدير بالجواب، خصوصا أن غيابها كان
مفاجئا. يقف هذا الغياب كرفض واضح وجريء،
إن مل يكن مغايرا، يف وجه حضورها البارز يف
ثقافة العرص الكالسييك ونظريته األخالقية. أسلم
بأن الجواب عن هذا السؤال يكمن يف مرحلة
ّ تحول النموذج الثقايف من العرص الهلنستي
إىل العرص الوسيط، ثم من النموذج األخالقي
الهلنستي إىل النموذج األخالقي الوسيط، ألن
ّ التحول يف توجه، أو هوية، النموذج الثقايف،
كام رأينا، يتضمن تحوال يف مؤسساته وبالتايل
يف أمناطه السلوكية النموذجية. باإلضافة إىل
ذلك، ّ فالتحول يف النموذج األخالقي يتضمن
تغريا يف النظرة األخالقية للثقافة، لنظرتها يف
طبيعة املحيط األخالقي: ما هي الصفة التي
تضفي عىل الفعل أو الجامعة أو القانون
الصداق��ة يف نظري��ة أخالق
العصور الوسطى

»مل يرتكز طرد الصداقة من
النظرية األخالقية القروسطية إىل
تحليل منطقي وتجريبي ملفهوم
إنسانية الكائن اإلنساين أو الرشوط
الكافية لتحقيق إنسانيته، ولكن
إىل الحقيقة الكامنة يف الوحي،
واملؤسسة عىل مصدر يفوق الخربة
البرشية«

4

122
الصداقة
صفته األخالقية؟ تتجسد هذه النظرة، التي عادة تصاغ كمبدأ للتميز األخالقي يف
القيم التي تشكل القواعد األخالقية. إذن هذه القواعد تستمد معناها وتربيرها
من النظرة األخالقية. عالوة عىل ذلك، توجد عالقة أنطولوجية بني رؤية الجامعة
للعامل ومنوذجها األخالقي، أي، بني فهمها للعامل وطبيعة الحياة اإلنسانية ومصريها
من جهة، وتصورها للخري األسمى من جهة أخرى. يف الفصلني السابقني رأينا كيف
ظهرت، أو تجسدت، هذه العالقة يف النامذج الثقافية واألخالقية الهلنية والهلنستية،
وأيضا رأينا كيف حصل اإلقرار بالصداقة بوصفها قيمة أخالقية مركزية وتربيرها يف
كل من هذه النامذج بناء عىل االعتقاد بأنها عنرص أو رشط للحياة الفاضلة. يف بناء
نظرياتهم، التزم الفالسفة الهلنيون والهلنستيون بالنامذج األخالقية التي عاشوها.
أدركوا بوضوح أنه ال ميكن للنظرية األخالقية الوافية أن تتجاهل الصداقة بوصفها
قيمة أخالقية مركزية يف عملية التنظري األخالقي، تحديدا ألنها رشط أو عنرص يف
الحياة الصالحة، وذلك بالطبع إذا افرتضنا، كام فعلوا، أن هذا النوع من الحياة
مرحلة يف الكامل الذايت أو التحقيق الذايت.
فيام ييل، سوف أناقش: أوال، امليزات األساسية لرؤية العامل يف العرص الوسيط؛
ثانيا، سوف أرشح كيف تنعكس هذه امليزات يف املؤسسات الرئيسة للعامل الوسيط،
أي كيف تتشكل املعتقدات والقيم األساسية لألمناط السلوكية النموذجية التي
هي أساس هذه املؤسسات؛ ثالثا، سوف أرشح كيف أن نظرية األخالق انبثقت يف
العرص الوسيط عن النظرة األخالقية الكامنة يف الرؤية للعامل؛ رابعا، سوف أجادل
بأن استبعاد الصداقة بوصفها قيمة مركزية من نظرية األخالق غري مربر، ولدي رغبة
قوية يف أن: )أ( أقدم دعام إضافيا ملصداقية القضية التي تقول إن النظرة األخالقية
لثقافة ما تشكل أساس النظرية األخالقية. )ب( أوضح بقدر اإلمكان ملاذا استبعد
املنظرون األخالقيون القروسطيون الصداقة من نظرياتهم.
1 ـ مالحظات متهيدية
سوف أبدأ مناقشتي للنموذج األخالقي القروسطي ببعض املالحظات التمهيدية
عن الدينامية التاريخية التي تشكل أساس نهوض نظرة العامل القروسطية، وهديف
من هذه املالحظات هو تأكيد أن االنتقال من العرص الروماين إىل العرص الوسيط

123
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
سبب تحوال ثقافيا راديكاليا، ألنه يف هذه العملية التاريخية برز نظام اجتامعي
جديد وانبثقت نظرة عاملية جديدة وولدت ثقافة جديدة.
عىل عكس التحول من الثقافة الهلنية إىل الثقافة الهلنستية، الذي كان تحوال
متصال وتدريجيا، كان ّ التحول من الثقافة الهلنستية إىل القروسطية متخبطا نوعا
ما ومفاجئا، ليس ألنه مل يكن هناك نوع من االستمرارية، ولكن ألن هوية ثقافية
جديدة انطلقت من تطور الثقافة القروسطية، واحتلت هذه الثقافة مكانا خاصا بها
يف خارطة الحضارة اإلنسانية. الظروف االجتامعية واالقتصادية والسياسية والدينية
التي مهدت الطريق للتحول يف الثقافة الهلنية كانت مختلفة جذريا، إن مل تكن
غائبة، عن ّ التحول الذي أدى إىل الثقافة القروسطية. ورمبا لهذا السبب احتاجت إىل
خمسة قرون ليك تصبح العبا مهام عىل مرسح التاريخ العاملي.
القبائل الرببرية – القوطيون والقوطيون الرشقيون والقوطيون الغربيون
والڤانداليون والهون واألنغلوساكسون والربغنديون واللومبارديون – التي استقرت
يف أوروبا الغربية خالل القرون الخمسة األوىل يف األلفية األوىل كانت ثقافيا بدائية،
كانت ماهرة يف فن القتال، ال يف الحياة اإلنسانية. كان هدفهم الرئيس يف هذه املرحلة
من تاريخهم هو البقاء، ويف الواقع كانوا غافلني عن أهمية القانون والعلم والفلسفة
والفن والرتبية. ويف بداية األمر مل يهتموا باقتباس الرتاث الثقايف الروماين واألثيني،
ومن أين لهم أن يهتموا بهذا الرتاث إذا كانوا يفتقرون ىف ذلك الوقت إىل وعي ثقايف
وإىل قيم ومعتقدات علمية وفنية وفلسفية وسياسية؟ ومن أين لهم أن ميتلكوا
هذا الوعي إذا كانوا يفتقرون إىل املؤسسات التي تغذي هذه القيم واملعتقدات؟
من املستحيل عىل شعب ما أن يريد ويكافح من أجل يشء ما إذا مل يعرف ّ ويقدر
أهمية هذا اليشء. عالوة عىل ذلك، ّسبب االنهيار التدريجي لإلمرباطورية الرومانية،
الذي شمل معه انهيار عظمتها العسكرية، فراغا، ويف الواقع فوىض ثقافية وسياسية.
حيث ّحل حكم اإلرادة، إرادة رئيس القبيلة، محل حكم القانون. كان الرصاع القبيل
من أجل السلطة، بني القبائل املختلفة وداخل القبيلة الواحدة، سائدا يف أوروبا
حتى نهاية القرن التاسع. كان من املستحيل لبذور ثقافة ما أن تنبت وتزدهر يف
مناخ كهذا، ويف الواقع، كانت هذه املرحلة التاريخية راكدة ثقافيا. ولهذا السبب
أطلق عليها العديد من املؤرخني اسم »العرص القاتم« أو »العرص املبكر« أو »العرص

124
الصداقة
ّ املكون«. القوة الوحيدة التي مارست دورا روحيا بناء ىف حياة القبائل املختلفة
كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. كانت فعالة بخلق رشوط لـ : )أ( نظام سيايس
مستقر. )ب( منو اقتصادي. )جـ( تنوير روحي. كان صعود شارملان إىل سدة الحكم
يف بداية القرن التاسع مطلع عرص جديد. لقد كان شارملان مستاء جدا من وضع
شعبه االقتصادي والسيايس والرتبوي واالجتامعي، وكان يتوق إىل أن ّ يحسن وضعهم
املادي والروحي. رأى بوضوح أن السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف هو الرتبية
)education). هذه الحقيقة وحدها كان ميكن لها أن تنقلهم من حالة الرببرية
إىل حالة الحضارة. الخطوة التاريخية األولية التي أنجزها وكانت الوحدة السياسية.
لقد استطاع إنشاء نظام سيايس مستقر ومسامل. وكانت هذه الخطوة رضورية
للتقدم الثقايف. أما اإلنجاز التاريخي الثاين فقد كان تأسيس نظام اجتامعي جديد:
النظام اإلقطاعي. هذان اإلنجازان ّمهدا لتدشني النهضة املعروفة عامة بالنهضة
)٭(. كانت أهم مقومات هذه النهضة: )أ( ترجمة عدد كبري من األعامل
الكارولينغية
الرومانية واليونانية والعربية والعربية إىل اللغة الالتينية. )ب( إنشاء نظام تربوي.
)ج( دعوة خرباء يف الدين والرتبية والسياسة إىل القيام بأبحاث يف هذه املجاالت
الفكرية وغريهــا. )د( بناء أساس لنظام جديد من املؤسسات الثقافية. وقد اكتسبت
.
)1(
هذه املؤسسات بنيتها النهائية خالل القرنني الثاين عرش والثالث عرش
اآلن آن األوان ملناقشة الخصائص األساسية التي تشكل أرضية هذه املؤسسات،
وسوف أرشح ثالث خصائص أساسية: األخروية، والخلق النهايئ، واملؤسسية.
2 ـ الرؤية القروسطية للعامل
)٭٭(. أعني بـ »األخروية« اعتقاد أن العامل خلقه كائن آخر متعال
األخروية
)مغاير( هو ****، الكائن املستقل عن العامل الذي خلقه، الكائن املطلق الحكمة
والخري والجامل والقوة. عندما أقول إن **** مغاير للعامل الذي خلقه أعني أنه
يختلف عنه بكيانه وطبيعته، فبينام هو روحي وغري متبدل وأبدي، فالعامل الذي
)٭( Renaissance Carolingian، أوىل نهضات ثالث يف العرص الوسيط. ]املحرر[.

.Otherworldliness) ٭٭)

125
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
خلقه محدود وزائل ومادي. قد ندعي أننا نعرف بعض خصائص طبيعته، طبعا بناء
عىل تأمل لنظام الطبيعة وللنص املقدس، ولكن ال نعرف وال ميكن أن نعرف طبيعته
الحقيقية. فطبيعته كام هي بذاتها تفوق مقدرتنا عىل الفهم. عالوة عىل ذلك، عىل
رغم أن الكائنات اإلنسانية مخلوقات، فإنها تختلف عن األشياء الطبيعية، عىل عكس
األشياء الطبيعية تتكون الكائنات اإلنسانية من: )أ( جسد، وهو مادي وجزء من
الطبيعية. )ب( روح، وهي المادية وجزء من العامل اإللهي. الروح مركز العقل. ونحن
نستمد إنسانيتنا من الروح. القوانني التي تحكم حياة اإلنسان ومصريها تختلف عن
القوانني التي تحكم الطبيعة. الروح كائن إلهي، قدمت إىل اإلنسان هبة محبة من
**** يف أثناء عملية الخلق. لهذا السبب بالذات نحن البرش ال ننتمي إىل »العامل«
كام تنتمي إليه الشجرة أو الصخرة، ولكن إىل العامل اإللهي: لهذا السبب نستمد
مصرينا من العامل اإللهي ونحققه باتباع القوانني التي تحكم الطبيعة اإلنسانية.
ويف الحقيقة، فالروح خالدة. غايتها النهائية ليست يف العامل الطبيعي، ومصريها
يكمن يف العامل اإللهي. نوع الحياة التي نعيشها يف هذا العامل - الطبيعية - هي
عبارة عن إقامة مؤقتة أو تهيئة للحياة األبدية يف العامل اإللهي، حيث إن السعادة
الحقيقية تنتظر هؤالء الذين يترصفون وفقا ملا أمر ****. ال يتضمن هذا املعتقد
بحكم الرضورة أن الحياة يف هذا العامل غري مهمة، كال، ولكن يجزم أن السعادة
الحقيقية هي السعادة األبدية، وأننا نحققها يف الحضور املبارش ***. **** هو الخري
املطلق، دعوين أرشح هذه الخاصية القروسطية للعامل بالتفصيل.
منذ نشأته يف القرن الخامس إىل ذروة تطوره يف منتصف القرن الخامس عرش
كان التطور القروسطي للعامل إلهي املحور )centered – god). **** هو امللك املطلق
الذي خلق العامل وكل يشء فيه: هو مؤلف قوانينه وقوانني الطبيعة اإلنسانية، وهو
الذي يحكم تاريخ )مسرية( الطبيعة والحضارة. ال يشء يفلت من انتباهه ومعرفته.
كيف ميكن لهذا أن يحدث و**** مطلق القوة والحكمة والخري؟ اإلنسانية هي
أسمى وأنبل خلقه. كل يشء خلقه **** يأيت يف املرتبة الثانية بعد اإلنسان. وميكن
القول إن الطبيعة وسيلة لغايات اإلنسان وكامله. أول كائنني إنسانيني خلقهام ****،
آدم وحواء، عاشا يف أجمل حديقة. ويف البداية كانت حياتهام نقية وبريئة ويف
منتهى السعادة. وكان وجودهام منسجام مع قوانني الطبيعة والطبيعة اإلنسانية.

126
الصداقة
ولكن لسبب ال نفهمه، اقرتفا خطيئة بشعة: خالفا أمرا إلهيا. وبهذا الفعل أظهرا
عيبا جوهريا يف الطبيعة اإلنسانية: املقدرة عىل فعل الرش. ما الذي يدفع اإلنسان
الذي عرف أن **** مطلق يف املعرفة والقوة والخري إىل أن يتمرد عىل إرادة ****؟
الخيالء. وعقابا لهام، فقدا إىل األبد حياتهام الهنيئة واملثالية والفاعلة، وابتدآ حياة
جديدة مملوءة بالكفاح والعذاب واملرض والتعاسة، واألهم من ذلك: املوت. ولكن
ّص
**** خيرّ وبالتايل هو رحيم. بعث يسوع املسيح، وهو روح من ****، ليك يخل
النوع البرشي، ذرية آدم وحواء، وبرش بكلمة ****، ورشح رشوط تحرير البرش من
خطيئتهم واسرتداد حالة الوجود املثالية التي عاشوها قبل وقوعهم يف فخ الخطيئة.
ولكن اهتاممهم بحياة الجسد كان أقوى من اهتاممهم بحياة النفس. عىل أي حال،
لسوء الحظ أساء معظم البرش فهم املسيح إىل درجة أنه ال أحد منهم، حتى الذين
اعرتفوا بأنهم صدقوه، يؤمن برسالته. بالعكس، مل يأخذوه بعني الجد بل احتقروه
عندما اكتشفوا أنه شكل خطرا عىل طريقة حياتهم القامئة، ّ فقرروا أن يتخلصوا منه،
وهكذا عذبوه. وليك يتأكدوا أنه سوف ال يضايقهم مرة أخرى صلبوه ومات عىل
)٭(. عىل أي حال، ففي الوقت املناسب، وبعد أن تأمل بعض أتباعه طريقة
الصليب
حياته وموته وفهموا مغزى رسالته، ّ تحول شكهم إىل اعتقاد واعتقادهم إىل إميان
بأن املسيح ّجسد جوهر »األب« – ****، وأنه وحده ابن **** كام ادعى. وبروح
الحامس التي ورثوها عن أجدادهم، سافروا إىل جميع أنحاء املعمورة ليك يبرشوا
برسالة املسيح، املسيح الذي صلب ومات ونهض يف املوت بعد ثالثة أيام. وعندما
ازداد عدد أتباعهم يف القرون الثالثة األوىل بعد امليالد، خصوصا يف أوروبا والرشق
األدىن، نجحوا يف تأسيس إحدى أعظم املؤسسات الدينية يف التاريخ، الكنيسة
املسيحية. كانت هذه املؤسسة قوة روحية وحضارية ال ُيستهان بها، مارست يف
أوروبا الغربية دورا حاسام يف توحيد الدول القومية الناشئة، وخصوصا يف تشكيل
املؤسسات السياسية واالجتامعية واالقتصادية والفنية والعقلية. وميكن للفرد أن
يالحظ طابع الكنيسة، بصورة مبارشة أو غري مبارشة، يف كل جانب من جوانب
الثقافة القروسطية يف مراحلها األولية واألخرية. مع مرور الزمن أصبحت الكنيسة
)٭( يصور الكاتب هنا، ويف كل ما ييل من حديث عن السيد املسيح، العقيدة املسيحية القروسطية املخالفة ملا
يعتقده املسلمون عامة ]املحرر[.

127
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
وسيطا بني **** والجامعة املسيحيـة: )أ( كمؤول للنـص الدينـي. )ب( كمعـلم.
)جـ( كمرشد لطريقة وحياة جديدة. اإلنجيل، الذي تضمن الحقيقة اإللهية كان،
حرصيا، يف أيدي الكهنة. ومنعت ترجمته إىل مختلف اللغات األوروبية. لعدة قرون
أخذت الكنيسة عىل عاتقها دور هندسة طريقة الحياة املسيحية، وقلدت نفسها
منصب ممثل **** عىل األرض، واحتفظت مبفاتيح الخالص، والحياة األبدية. فال غرو
أن الكنيسة تقلدت سلطة عليا يف تنظيم وتطوير الثقافة األوروبية طوال العصور
الوسطى. ولكن السؤال هو كيف حازت الكنيسة هذه املكانة؟ اليزال هذا أمرا
مثريا للجدل، وإن كان عدد كبري من املؤرخني طرح أجوبة مفصلة ومدروسة عن
هذا السؤال. أثريه هنا بصورة رسيعة ليك أبرز خاصية مركزية للحضارة القروسطية:
األخروية. فهمنا لهذه الخاصية رضوري لفهم الرؤية القروسطية للعامل، وبالتايل

.
)2(
لفهم نوع النموذج األخالقي الذي انبثق عنه
عندما ننسب األخروية إىل الرؤية القروسطية للعامل نعني أن الطريقة املسيحية
يف التفكري والحياة مارست دورا حيويا يف تشكيل نسيج الثقافة القروسطية. فام هي
املعتقدات الرئيسة التي تشكل أساس هذه الطريقة يف التفكري والحياة؟ اآلن سوف
ألقي الضوء عىل هذه املعتقدات:
)1( االعتقاد بوجود كائن مطلق، وأن هذا الكائن خلق العامل، وأنه املدبر الذي
يسيرّ ويحفظ العاملنْي الطبيعي واإلنساين. هذا الكائن يعرف كل يشء ومسؤول عن
كل يشء يحدث يف العامل الذي خلقه.
)2( االعتقاد أن يسوع املسيح هو ابن ****، هو أسمى ٍ تجل إلرادة ****. عىل
رغم أن **** جوهر مطلق بذاته، فإنه يظهر نفسه للكائنات اإلنسانية باعتباره األب
واالبن والروح القدس.
)3( االعتقاد بأن رسالة املسيح – ماذا قال وفعل – هي كلمة ****.
)4( االعتقاد بأن تأويالت تالميذه لهذه الكلمة هي أساس رسالة الكنيسة
املسيحية.
)5( االعتقاد بأن بطرس، التلميذ الذي أسس كنيسة روما، هو الحارس األمني
لرسالة املسيح عىل األرض. ولهذا السبب يجب اعتبار كنيسة روما املركز والسلطة
العليا يف األمور التي تتعلق برتجمة وتطبيق املعتقدات والقيم واملامرسات املسيحية.

128
الصداقة
)6( االعتقاد بأن الكنيسة هي الوسيط بني **** والكائنات اإلنسانية. الكنيسة
تخطط وتدير املسرية للخالص الزمني واألبدي. ينبثق هذا االعتقاد بالرضورة عن
الحقيقة األبدية أن الكنيسة هي الحارس األمني لكلمة ****. تدريجيا، ابتكرت
الكنيسة مؤسسة ضخمة إلدارة حياة الناس، وابتكرت أيضا فلسفة الهوتية لتربير
تعاليمها ومؤسساتها. مارست الكنيسة تأثريا عميقا ليس فقط يف تشكيل حياة
الجامعة املسيحية ولكن أيضا يف توجيه مسرية التاريخ األورويب. وكانت أوروبا يف
املرحلة األوىل من القرون الوسطى عىل استعداد ألن تتقبل هذا التأثري. قدمت
الكنيسة نورا عقليا عندما كان الجهل متفشيا، وشجعت عىل احرتام القانون عندما
كان العنف طريقة حياة مقبولة بني األفراد والقبائل، وبعثت األمل بحياة أفضل
عندما عاش الناس حياة بؤس شديد وتعاسة. وعززت النظام عندما كانت الفوىض
شائعة يف كل إطار من أطر الحياة. وطورت حس الجامعة اإلنساين عندما عاش
الناس حياة العزلة واألنانية. وباختصار، دشنت نهضة ثقافية روحية عندما غرقت
األغلبية يف ظالم ثقايف.
التوجه الديني العام الذي قدمته الكنيسة إىل املجتمع القروسطي نظريا وعمليا
كان األخروية. العامل اآلخر، العامل اإللهي، كان عامل الوجود الحقيقي: ينتمي الكائن
اإلنساين إىل هذا العامل كنفس، لكن مصري النفس هو إىل خالقها – مصدرها. إذن،
علينا أن نسلك عىل األرض وفقا لكلمة ****، ألن هذا النمط من السلوك هو السبيل
الوحيد لتحقيق مصرينا. البديل لهذا السبيل هو االبتعاد األبدي عن ****، عن الواقع
السعيد. ولكن يف الواقع كانت الكنيسة الحارس الوحيد لهذا املصري يف هذه الحياة.
باب الكنيسة هو املدخل اآلمن الذي يؤدي إىل العامل اإللهي. ومن دون تأسيس هذا
الوعي العام ونرشه بني الناس، كام نرى، مل يكن بإمكان الكنيسة أن تؤدي دورا مؤثرا
يف ظهور القروسطية، أو حتى أيضا يف سقوطها.
الخلق النهايئ: من أهم األسئلة التي حازت اهتامم الفالسفة اليونانيني القدماء
من طالس إىل أرسطو كان سؤال التحول والصريورة: كيف يحدث التغري؟ وكيف
تأيت األشياء التي تشكل نظام الطبيعة إىل حيز الوجود، وكيف تغيب عن الوجود؟
كيف تتحرك وتنمو وتغري هويتها؟ يبدو أن جميع األشياء غري مستقرة. هي يف حالة
تغري مستمر، فالحياة اإلنسانية، كحياة الشجرة أو القط، ليست سوى لحظة عابرة

129
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
من تيار التغري الذي يجرف معه كل يشء يف الطبيعة. هذه الظاهرة حريت وأربكت
الفالسفة والشعراء وكتاب املرسح، وبصورة عامة مهنديس الثقافة اليونانية، وحاولوا
فهم ديناميتها ومصدرها وغايتها. وجاءت ذروة االهتامم بظاهرة التغري املستمر
يف أعامل أرسطو وأفالطون، إذ شيد هذان الفيلسوفان أنظمة ميتافيزيقية رائعة
ومبدعة وثرية فكريا وخياليا، وكان هدفها تفسري طبيعة التغري وكيفية حدوثه.
ال نبالغ إن قلنا إنهام نظرا إىل العامل بوصفه موجودا ديناميا. افرتضا يف تحليلهام
للتجربة اإلنسانية عامة أن التغري حقيقة أساسية يف حياة اإلنسان. وكانت هذه
الخاصية جزءا من نظرتهام إىل العامل.
وبصورة مغايرة، نظر املجتمع القروسطي إىل العامل بوصفه موجودا ساكنا. وىف
الواقع، مل يهتموا بظاهرة التغري، ومل يهتموا بدراسة الطبيعة بذاتها. اهتموا، يف املقام
األول، بخالص الروح والحياة اآلخرة والسعادة األبدية. بالنسبة إليهم، العامل األريض
َ مستَقر إىل حني، »خطوة« يف اتجاه ما أو مكان لتهيئة أنفسهم للحياة القادمة.
افرتضوا يف حياتهم العملية، ويف الهوتهم، أن **** خلق نظام الطبيعة، وأن هذا
النظام مستقر وثابت وال يتغري. مظهره الخارجي يف حالة تغري مستمر، ولكن جوهره
غري ّ متبدل. الكواكب تدور يف مداراتها بانتظام كام يجب، والنباتات تنمو كام هي
الحال دامئا، والحيوانات تتناسل وتجول يف الغابات والسهول والجبال بثقة ثابتة،
ولهيب النار الذي ال يهدأ يتسلق عىل جوانح الهواء الذي يشق طريقه نحو األعىل
من دون خوف - نعم، الظواهر الطبيعية يف حالة حركة مستمرة. ولكن حركاتها
ليست مصادفة وال عشوائية بل تحدث وفقا لقوانني ثابتة: القوانني الطبيعية. كل
يشء عىل حاله وسيبقى عىل حاله. الشمس سترشق غدا، والفصول األربعة ستعود
يف السنة القادمة، والزنبق سيزهر كل ربيع، والعصافري ستسحر الكائنات اإلنسانية
بأغانيها كل صباح، واملطر سيهطل كل شتاء. الفعل الذي به ُخلق العامل – من ال
يشء – ليس فعال أو »صنعا«؛ ليس عملية لها بداية ونهاية. كال، الطبيعة نظام ُخلق
بصورة نهائية وكاملة. العامل الذي خلقه **** مل يكن، عملية من أي نوع، وهذا
)٭(. لقد كان أفالطون أصدق من هرياقليطس عندما

مخالف ملا قاله هرياقليطس
)٭( Ephesus of Heraclitus، فيلسوف يوناين من نهايات القرن السادس قبل امليالد، يعترب الوجود عملية تحول
دائم، ويعد جورج فيلهلم فريدريك هيغل أهم من تأثر به بني فالسفة العصور الحديثة. ]املحرر[.

130
الصداقة
قال إن التغري بذاته غري ممكن، وال ميكن أن يكون عملية مستمرة إذا مل يكن
هناك يشء دائم، يشء يعطيه كيانه وتوجهه واستمراريته. وهل كانت مصادفة أنه
افرتض وجود عامل عقيل مكون من صور )أفكار( كأساس وككيان للعامل املحسوس
)املتغري(، ذلك العامل الذي وصفه هرياقليطس بالعملية )process)؟ كال، بالنسبة إىل
املواطن القروسطي، العامل نظام مخلوق بصورة نهائية، بحد ذاته، كام جادل توما
اإلكويني، هو جوهر؛ ولهذا ال يتغري. التغري الذي َن ْبرُخْبرُْبرُُه يف أجسادنا ومن خاللها هو
تغري عريض، يشء ال يؤثر يف الجوهر. الجوهر أساس ثبات ودوام قوانني الطبيعة.
كيف ميكن لإلله املطلق بالحكمة والقوة والخري أن يخلق عاملا ناقصا – أي شكل
من أشكال النقص؟ أعتقد أن هذه الخاصية، التي كانت متفقة مع الحقيقة الكائنة
يف الوحي وأسست لتأويله هي التي دفعت املجتمع القروسطي إىل أن ينظر إىل
الطبيعة بوصفها نظاما ساكنا. والرتاتبية هي إحدى الصفات املهمة لهذا النظام.
الرتاتبية نظام من الرتب، واملستويات، كل مستوى ميثل نوعا من الوجود. املستوى
األدىن ميثل املاء، وفوقه النباتات، وفوقها الحيوانات، وفوقها الكائنات اإلنسانية،
وفوقها املالئكة، وفوقها رؤساء املالئكة، و**** يتسيد تراتبية الوجود برمته. ليس
مبقدورنا أن نعطي تفسريا ملاذا خلق **** العامل، وخصوصا ملاذا خلق هذا العامل
تحديدا. عىل رغم أن بعض الالهوتيني جادلوا بأن هذا هو أفضل عامل كان ميكن
أن يخلقه ****، بيد أن اإلكويني وأغلبية الالهوتيني جادلوا بأن هذا السؤال غري ذي
موضوع، ألنه مبا أن **** مطلق بالحكم والقوة والخري فإنه بالرضورة – الرضورة
اإللهية – خلق أفضل عامل ممكن. والتساؤل بشأن ما إذا كان **** خلق أفضل عامل
ممكن يصبح له معنى فقط عندما نثري سؤال الرش: ملاذا يوجد رش يف العامل؟ كيف
ميكن *** أن يسمح بوجود الرش يف العامل؟ ولكن ال يجوز لنا أن نسأل حتى هذا
السؤال؛ ألن **** هو الخري املطلق، ولهذا فالعامل الذي خلقه عامل صالح. ولكن حتى
لو كانت تجربة الرش تقلق الفرد، فإن إميانه ب**** يجب أن ّ يسكن قلقه، ألن العامل
صالح وألن **** خلق أفضل عامل ممكن. النقطة التي تستحق انتباهنا هنا هي: من
وجهة نظر العامل القروسطي، فالنظام الذي يشكل بنية العامل هو نظام ثابت وغري
متبدل. األسد يبقى أسدا واملاء يبقى ماء والكوكب يبقى كوكبا. َمّثل هذا املعتقد

.
)3(
عنرصا جوهريا يف منوذج الثقافة القروسطية

131
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
ومل تقترص السكونية، بوصفها خاصية، عىل النظام الطبيعي، بل شملت أيضا النظام
اإلنساين. القوانني التي كانت تحكم حياة الفرد والحياة االجتامعية انبثقت عن القوانني
الطبيعية. الطبيعة اإلنسانية تكرر ببنيتها األساسية التشكيل الهرمي لنظام الطبيعة
الساكنة. وهذه الخاصية تنطبق أيضا عىل عنارصها. وعىل خالف أي نوع من الحيوانات،
فالحيوان اإلنساين مركب من مادة )الجسد( وانفعاالت وعواطف وعقل )نشاط عقيل(.
العقل يتسيد هذه الرتاتبية، وتليه يف املكانة العواطف، ويليهام الجسد يف املرتبة الثالثة.
يكون اإلنسان بحالة انسجام عندما تخضع نشاطات العاطفة والغريزة إىل سلطة العقل.
والعقل تاج الطبيعة اإلنسانية. ويف الحقيقة هو مبدأ الحياة اإلنسانية. اتفق املفكرون
القروسطيون مع املفكرين اليونانيني عىل أن جوهر اإلنسان هو العقل، وأيضا هو الذي
يدير نشاطات الفكر والشعور واإلرادة. نعتمد عليه يف تأمني الحاجات البيولوجية
والسيكولوجية واالجتامعية والدينية واملعرفية. العقل شمس حياتنا. العقل طيف من
الجوهر اإللهي، ومن دونه نرتد إىل الحالة الحيوانية. وليس العقل ملكة عمياء غري
محكومة بقانون، وهو مخالف ملا تصوره اليونانيون الذين اعتقدوا أنه ملكة طبيعية؛
إنه حقيقة مقدسة. والقوانني التي تحكم عملياته والتي يصوغها إلدارة وتوجيه الحياة
اإلنسانية هي قوانني تأسست عىل الطبيعة اإلنسانية، ومبا أن الطبيعة اإلنسانية ليست
موجودا ماديا بل روحي، فإنها ال تتغري، وهي كقوانني الطبيعة كلية وال تتبدل.
ّ وتنطبق هذه السكونية يف الوقت ذاته عىل املجتمع. تبنى املفكرون القروسطيون
نظرة عضوية للدولة: املجتمع كل عضوي يتشكل يف طبقات ومؤسسات ومنظامت.
املواطنون ميارسون أدوارا محددة يف هذه الطبقات واملؤسسات واملنظامت. وكل
)٭( يعطينا وصفا واضحا

ُ فرد خ ّ لق ليؤدي دورا جزئيا يف حياة الكل. جون سالزبرى
لهذه النظرة إىل الدولة يف كتابه »فن السياسة«. فهو يجادل بأن الدولة كيان عضوي.
امللك رأس الدولة، والذين يرشعون القوانني هم قـلبها، والذين يديرون أمور العدالة
وأمور الشعب آذانها وعيونها ولسانها، والذين يدافعون عنها خارجيا أيديها، والذين
يرشفون عىل سالمتها املالية أمعاؤها، والذين يحرثون الحقول ويؤمنون طعام
املجتمع أقدامها. وكام أنه ال ميكن للعني أن تقوم بوظيفة األقدام، واألقدام ال ميكن
)٭( Salisbury of John، مؤلف وتربوي وديبلومايس ورجل *** إنجليزي من القرن الثاين للميالد. ]املحرر[.

132
الصداقة
أن تقوم بوظيفة األيدي، وهكذا، فال ميكن ألي شخص أو مؤسسة أو منظمة أن
تقوم بوظيفة غريها. كل منهم يؤدي دورا »محددا« يف حياة الكل. وبالتايل، بغض
النظر عام إذا كان الفرد ملكا أو فالحا أو حدادا أو صانعا، فإن واجب كل واحد أن
يقوم بوظيفته املحددة )من قبل ****(. ارتكزت هذه النظرة إىل الدولة عىل افرتاض
أن النظام االجتامعي كالنظام الطبيعي، مستقر ودائم، و ّ يف النهاية مقدر.
املؤسسية: عىل عكس التصور اليوناين – الروماين، كان التصور القروسطي،
للمواطن يشري إىل شخص يعيش ويترصف، عىل األقل مبدئيا، كفرد ويترصف كمواطن
هو، كعضو يف مؤسسة هي نفسها عضو يف شبكة أوسع من املؤسسات. بغض النظر
عام إذا كان مواطنا يف الدولة - املدينة اليونانية، أو يف الدولة الكوزموبوليتانية
)العاملية(، عاش كاتب املرسحية أو النحات أو الفيلسوف أو الالهويت أو السيايس أو
التاجر أو املزارع حياة إنسان مستقل. مل يكن ملزما، أو مقيدا، بسلطة قانونية إضافية،
سواء كانت اجتامعية أو سياسية أو دينية. كان كل فرد يدري ويتوقع أن يكون
مسؤوال عن حياته، وأن تصدر حياته عن داخله. »اعرف نفسك«، »كن نفسك« هاتان
القاعدتان، الصادرتان عن الكهنة والحكامء، تعربان بوضح عن هذه امليزة. وتكشف
لنا القصة التي تصور عدم اكرتاث ديوجنيباإلسكندر، عندما أراد اإلسكندر مقابلته،
عن روح الحرية التي متيز الثقافة اليونانية – الرومانية. ويف الحقيقة فاحرتامهم
للحرية يستمد جذوره من نظرتهم إىل العامل. ولكن مل تكن هذه الحرية عشوائية أو
مزاجية، بل كانت تعبريا عميقا عن رغبة حقيقية يف أن يكون الفرد نفسه. أعتقد أن
معظم املفكرين يقرون بأن الناس يف املجتمع اليوناين – الروماين كانوا يرون أن العقل
يحكم الكون. وبصورة عامة، فجميع فالسفة ما قبل سقراط اعتربوا أن مبدأ كليا، أو
عقال (logos )يحكم الكون. وجادلوا بأن العقل هو أعىل مبدأ يف الطبيعة اإلنسانية.
واحتلت هذه النظرة مكانا بارزا يف طيف املثل الثقافية للحضارة اليونانية والرومانية،
ويف الفن والفلسفة والدين والسياسة واألخالق والحياة االجتامعية. كانوا يعتقدون أن
العقل هو السلطة العليا التي تحدد طبيعة الخري والحق والجامل.
عالوة عىل ذلك، اعتقدوا أن الحرية رشط رضوري لإلبداع، وأن اإلبداع بدوره رشط
رضوري للتقدم الفردي واالجتامعي. كيف ميكن لنا أن نتقدم يف مجال من مجاالت
الحياة اإلنسانية إذا مل نستطع تصور طريقة حياة مختلفة، طريقة حياة أفضل؟ كيف

133
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
نستطيع تصور إمكانيات فعل جديد، إن مل نكتشف مبادئ فعل جديدة، إن مل نخلق
الرشوط الالزمة لتحويل الواقع الحايل إىل واقع مختلف وأفضل؟ كيف ميكن لهذا
التحول أن يحدث إن مل منارس الجرأة يف التفكري والشعور والفعل من دون قيود؟ ال بد
لهذه البصرية من أن تسلط شعاعا من الضوء عىل دينامية الروح املبدعة لليونانيني يف
مسريتهم التقدمية إىل ذروة املجد الروماين يف النصف الثاين من القرن األول بعد امليالد.
بصورة معاكسة، نرى أن املجتمع القروسطي اعتقد أن **** هو حاكم الكون
وهو املسؤول عن كل ما يحدث يف الطبيعية وحياة اإلنسان. وهكذا، فالنظام
االجتامعي – السيايس الذي انترش يف أوروبا، من القرن التاسع إىل القرن الخامس
عرش، نشأ واستمر وفقا إلرادة ****. أمل تصادق عليه الكنيسة، املمثل الوحيد املؤمتن
*** عىل هذه األرض؟
ولكن، كام رأينا، كان هذا النظام، مبدئيا، نظاما مؤسساتيا، ألنه كان مصنوعا
من شبكة هرمية من املؤسسات. احتل امللك وحاشيته األرستقراطية رأس الرتاتبية،
والسادة اإلقطاعيون وأتباعهم بأسفله. وكانت الكنيسة التي تغلغلت يف جميع
املؤسسات مندمجة فيه بصورة متكاملة، وشكلت قلبه الروحي. عامة، ميكن القول
إن اإلقطاعة )manor )كانت الوحدة االجتامعية األساسية يف املجتمع القروسطي.
لكنها بدورها كانت مكونة من مؤسسات ثانوية – املزرعة، النقابة، الكنيسة، األرسة،
املدراء، ويف بعض األحيان طبقة التجار. ومع مرور الزمن أصبح النظام اإلقطاعي
.
)4(
النظام االجتامعي الرشعي الراسخ، وأساس طريقة الحياة القروسطية
كانت تحكم كل مؤسسة جزئية مجموعة من القواعد واألعراف واملامرسات
املعرتف بها. أستعمل كلمة »معرتف« ألن هذه القواعد واألعراف واملامرسات كانت
السلطة العليا يف إدارة املؤسسة، وكانت تنتقل من جيل إىل جيل، وكانت جامدة
لدرجة أنه كان من الصعب جدا تغيريها. هذه الخاصية تعكس جانبا أساسيا من
الرؤية القروسطية للعامل: النهائية. كان العامل الذي خلقه **** نهائيا وغري قابل
للتبدل. كيف ميكن ألي يشء خلقه **** أن يكون ناقصا؟ التغري الذي نراه يف الطبيعة
ونعيشه يف حياة اإلنسانية يجري ضمن نطاق الحدود التي رسمها ****. علينا أن
نتذكر دامئا أن السلطة العليا يف إدارة الحياة العملية والنظرية للمجتمع القروسطي
كانت كلمة ****، والكنيسة كانت الحارس األمني لهذه الكلمة.

134
الصداقة
وعندما تصل مؤسسة ما إىل ذروة من االستقرار والصالبة، فإنها تقاوم أي تغري
جدي ومبدع. ويف الواقع، تكتسب سلطة نهائية يف حياة األفراد الخاضعني لها
أو الذين يعيشون ضمن حدودها، ألن القواعد واألعراف واملامرسات التي تدير
حياتها تكتسب، ولو تدريجيا، صفة النهائية – املطلقة. عندما تتأسس هذه القواعد
واألعراف واملامرسات يف حياة املجتمع وتنتقل من جيل إىل جيل وتربهن عىل أنها
كانت ّفعالة يف املايض، فإنه من الصعب، وقد يكون من املستحيل، التشكيك فيها.
ولكن هذا النوع من التوجه الثقايف يعيق اإلبداع والبحث املبدع. هذا ما حدث
للثقافة القروسطية: تحولت حياة الفرد إىل عنرص من نسيجها املؤسيس. كان الفرد
يفكر ويشعر ويعيش من وجهة نظر مؤسسته، من وجهة نظر مكانته يف املجتمع.
كيف ميكن للفرد أن يتحول أو يتبدل إذا عاش حياته من بدايتها إىل نهايتها يف إطار
مؤسسة معينة؟ كانت املؤسسة مسقط رأسه ومصدر غذائه املادي والروحي. إذا
تجرأ عقله وسأل أسئلة فلسفية ودينية، كان يطلب من الكاهن أن يجيب عنها،
وإن مل يستطع الكاهن اإلجابة عنها ذهب إىل املطران، وإذا مل يستطع املطران
اإلجابة عنها ذهب إىل البابا، والبابا كان املحطة النهائية، السلطة النهائية يف جميع
األمور املتعلقة بالحياة النظرية والعملية. عندما كان املتدرب يسأل أسئلة تتعلق
مبهنته، أو يواجه مشكلة يف سياق عمله، كان يطلب أجوبة وحلوال ملشكالته من
»العامل البارع« )Journeyman )وإذا كان العامل البارع مل يستطع اإلجابة عن
أسئلته أو حل مشاكله ذهب إىل املعلم. املعلم كان املحطة النهائية، السلطة
النهائية، يف األمور املتعلقة باملهنة. النقطة التي تستحق االنتباه هنا، عىل أي حال،
هي أن طريقة الحياة القروسطية كانت طريقة حياة مؤسسية، بغض النظر عام
إذا كان الفرد حدادا أو نجارا أو كاهنا أو صانع رسوج أو مزارعا أو فنانا أو زوجا
وزوجة أو صديقا. بيد أن املواطن القروسطي كان يفكر ويشعر ويسلك من وجهة
نظر مؤسسته واملكانة التي كان يحتلها فيها. كانت املعتقدات والقيم التي أسست
البنية املؤسسية للمجتمع أساس حياة الفرد. واملواطن القروسطي مل يشكك فيها،
ملاذا؟ أمل تصادق سلطة الكنيسة عليها؟ أمل تصادق سلطة امللك عىل سلطة السيد
اإلقطاعي وسلطة الكنيسة عىل سلطة امللك؟ أمل يستمد البابا سلطته املطلقة من
**** مبارشة؟

135
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
إن الثقة بأن املعتقدات والقيم، التي أسست السياسة العامة واألحكام الفردية،
صادقة ورشعية خلقت شعورا من: )أ( اليقني، )ب( الهدوء النفيس والثقة بالنفس.
ومن منا ال يرغب، يف عمق ذاته، يف أن تكون معتقداته وقيمه صادقة وغري قابلة
للشك؟ أمل يكن البحث عن الحقيقة واليقني الدافئ الغاية األسمى للعامل والفيلسوف
والالهويت من األيام اليونانية األوىل إىل القرن العرشين؟ ولكن يف القرون الوسطى
أنجبت هذه الثقة شعورا آخر، شعورا باإلشباع الذايت، وقد دمر هذا الشعور روح
الدهشة والبحث النقدي، و ّبرر ضمنيا، عىل األقل عىل املستوى النفيس، اإلذعان
للوضع الراهن بغض النظر عام إذا كان عامال فعاال يف تقدم املجتمع. وباختصار
جعل هذا الشعور طريق التقدم وعرا وقاسيا ومحفوفا باملخاطر. احتاجت رصخة
العقل املبدع، ومعها روح املغامرة، وقتا طويال قبل أن تشق طريقها نحو فجر جديد
من التطور الثقايف.
3 – رؤية العامل القروسطية والثقافة القروسطية
القضية الرئيسة التي حاولت الدفاع عنها حتى اآلن هي أن طريقة فهم شعب
ما للعامل ّ تحدد إىل درجة عالية بنية املؤسسات الرئيسة التي تقوم عليها ثقافته.
ويتأسس هذا الفهم عىل املعتقدات والقيم التي تشكل نظرته إىل العامل. ولكن
هذه النظرة تنبثق من صحيح تجاربهم الوجودية كمجتمع، من محاولتهم توسيع
وتعميق فهمهم للعامل والعيش وفق هذا الفهم. واآلن إذا كانت هناك عالقة سببية
بني رؤية العامل والنموذج الثقايف، فال بد لها أن تظهر يف طريقة سلوك هذا الشعب
ويف طريقة حياته. ونحن نعرف طريقة حياة شعب ما بدراسة بنية منوذجه الثقايف.
يتحدد شكل حياة الفرد ومجراها ضمن املؤسسات التي تشكل بنية هذا النسيج.
كل مؤسسة من هذه املؤسسات متثل منوذجا ثقافيا. نوع التحليل الذي أقوم به هنا
تأسييس )Foundational)، مبعنى أنني أبحث عن مصدر معتقدات وقيم الثقافة
يف حد ذاتها، وكيف ميكن لها أن تكون أساس النموذج الثقايف. إن كفاءة، أو عدم
كفاءة، نظرية فلسفية ما تجربة أو مؤسسة إنسانية تعتمد عىل مقدرتها يك تزيد
فهمنا لتك التجربة )أو املؤسسة(، ونظريتنا بشأن ذلك النوع من التجربة ستبقى
ناقصة إن مل ترتكز إىل فهم شامل ومتكامل لتلك التجربة. مهمة الفيلسوف عامة

136
الصداقة
هي تفسري الواقع بأكرب قدر من املوضوعية، ال من وجهة نظر معينة، دينية أو
فلسفية أو شخصية. ولكن كيف ميكن لنا أن نفهم املعتقدات والقيم التي تشكل
جوهر وبنية منوذج من السلوك موضوعيا إن مل نستوعبه بكامله. الغاية من تصور
النموذج الثقايف هي إعادة تركيز انتباهنا عىل )أ( أولوية التجربة يف إنشاء أي نظرية
فلسفية ألي نوع من التجربة اإلنسانية و)ب( رشوط نظرية كهذه.
واآلن دعونا نسأل: كيف انعكست نظرة العامل القروسطية يف مختلف املؤسسات
التي تشكل النموذج الثقايف القروسطي؟ لقد ناقشت سابقا بعض امليزات الخاصة لهذه
الرؤية للعامل. أعتقد أنها كافية لفهم معتقدات وقيم العامل القروسطي. واآلن علينا
أن نسأل ثانية: كيف انعكست هذه امليزات يف املؤسسات التي تشكل بنية الثقافة
القروسطية؟ سأناقش ثالث مؤسسات هي الفن والفلسفة والرتبية، وهديف بهذه
املناقشة أن أسلط أكرب كمية من الضوء عىل رؤية العامل القروسطية وكيف كانت أساس
ثقافة العصور القروسطية.
الفن: من بني جميع الفنون – الرقص والرسـم واملوسيقـى والنحـت واملسـرح
واألدب – يعرب فن العامرة إىل أعمق حد ممكن عن روح الثقافة القروسطية، ويعد أروع
تجسيد ملعتقداتها وقيمها اإلنسانية. ولعل أبرز عمل وصل إىل ذروة التطور يف القرون
الوسطى املتأخرة هو كاتدرائية نوتردام. »تكمن عظمة روح العامرة القوطية يف األحجار
ذاتها«، تكتب هيلني غاردنر، ويف الحساسية الفائقة للحجر كامدة للبناء، ميكن اكتشاف
)5(. دعونا نلق نظرة عىل كاتدرائية شارتر، يف مدينة شارتر، فرنسا،

روح العامرة القوطية«
التي اعتربها العديد من نقاد العامرة منوذجية يف التعبري عن الروح الثقافية القروسطية.
أنا شخصيا زرت هذه الكاتدرائية وأتفق مع هؤالء النقاد.
عىل خالف بقية الفنون الجميلة، ففن العامرة فن وظيفي. الناس ال تبني أو
تخلق املباين فقط ليك تتأملها أو تختربها جامليا كام تتأمل أو تخترب قصائد شعرية
وروايات ورقصات باليه ولوحات تشكيلية، بل ليك تؤمن حاجات عملية – كأماكن
ومساكن و ٍ مشاف وكنائس ومصارف ومراكز رفاهية ومسارح.. إلخ. كعمل فني،
يتشكل البناء املعامري من ثالثة عنارص. أوال: كونه عمال فيزيائيا كاألدوات املصنوعة
واألشياء الطبيعية. ثانيا: كونه صورة تجسد قيام ومعاين إنسانية. وثالثا: كونه عمال
جامليا يعرب عن صفات الحسن واألناقة واملأساة والكوميديا والجالل. هذه الصفات

137
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
تنبثق عن وحدة العنرصين األول والثاين للبناء. عىل الرغم من أنه ميكن التمييز
بني هذه العنارص، فإنها مرتابطة عضويا ويندمج بعضها مع بعض لتشكل عمال فنيا
يكتسب حياة خاصة يف التجربة الجاملية.
ُ بتصورها الجوهري، صمم ْت الكاتدرائية لتخدم أربع وظائف أساسية: )أ( عبادة
ّ ومتجيد ****. )ب( مساعدة املؤمنني لتأمني خالصهم والحياة األبدية. )ج( نرش الحس
الجمعي بني أعضاء الكنيسة املسيحية. )هـ( تأسيس مركز للرتبية الروحية والعقلية. مل
يكن مصادفة اعتقاد الشخص القروسطي أن الكنيسة صورة، ويف بعض األحيان امتداد،
مللكوت السامء عىل األرض. ومل تكن مصادفة أنها أجمل إنجاز معامري قروسطي. كانت
هذه الكاتدرائية رمزا ألعز متنيات املسيحية القروسطية: الخالص األبدي. مثال، دعونا نلق
نظرة تأملية عىل كاتدرائية شارتر، إن شكلها العام – املنظم هرميا – ينقل انتباه املدرك
الجاميل نحو األعىل وتدريجيا نحو الفضاء األعىل. أوال عىل األكتاف الناتئة. وثانيا عىل
جانبي السقف الذي يتوج بشكل الكنيسة الهرمي. وثالثا عىل أجنحة األبراج نحو الفضاء
الالمتناهي – حيث »يوجد ****، الذي هو من وجهة نظر املسيحية، امللك املقدس«.
والكاتدرائية كمكان هي مكان مثقل بالرسية، ويعرب رمزيا عن الجانب الرسي لإلميان.
ّق الفرد يف الفضاء مع تحليق األبراج فإنه يشارك بوجدانه يف الرس اإللهي.
فعندما يحل
األبراج ال ترتفع عاليا فحسب ولكن أيضا تتمنى، أي تعرب عن شوق الروح املسيحية إىل
ملكوت السامء، واإلنسان القروسطي اعترب الكاتدرائية أقرب نقطة إىل السامء. ولكن
يزداد الشعور بالتحليق شدة عندما ندرك جامليا املكان الداخلـي للعمـارة – وحتى
التصميم الداخيل يوحي بشعور التحليق، بشعور الحركة التصاعدية. وعندما ندور حول
الكاتدرائية ونتأمل تصميمها الجاميل ندركها كعمل نحتي. وندركها ككنيسة، كمعبد ***،
فقط عندما ندخلها ونخترب مكانها الداخيل. وهذا املكان ينفسح أمامنا عندما نقرتب
من املدخل الذي يؤدي إىل العامل اإللهي. ويتكون هذا املدخل من ثالثة أبواب مزينة،
بأناقة، مبشاهد من حياة املسيح تظهر الجالل اإللهي. وعندما نستوعب أهمية ومعنى
هذه املشاهد ندرك أننا عىل وشك االنتقال من نوع معني من املكان إىل نوع آخر، من
نوع من العامل إىل نوع آخر – إىل العامل اإللهي، بغض النظر عن اتجاه أو كيفية حركتنا،
أو كيف نتأمل عنارص العامرة، بيد أن انتباهنا الجاميل يتجه نحو األعىل، نحو األعمدة
الطويلة والهائلة التي تحمل القبة، والقناطر امللونة، والضوء الذي يرقص وهو يشع من

138
الصداقة
خالل النوافذ امللونة، وصحن الكنيسة، واملمرات، مكان جوقة املرتلني الذي يقارب نقطة
العبور، وعمق القبة الذي يبتلعنا – كل هذه العنارص تنقل إدراكنا نحو القبة اإللهية.
حتى لو كنا ملحدين فإننا سوف ندرك صفة الصعود نحو العامل اإللهي الذي تجسده
إذا استقبلنا بنية هذه الكاتدرائية بنزعة جاملية. وبهذه الطريقة ندرك معنى التجربة
)٭( عندما صمم هذه الكنيسة

الدينية. هل يا ترى كان هدف رئيس الدير آبوت سوغه
فتح نافذة للمواطن القروسطي تطل عىل ملكوت السامء؟
ولكن هناك إنارة أخرى مهمة تنتظر املدرك الجاميل لهذه الكاتدرائية، لنفرض
أننا نعطي أعيننا فرصة اسرتاحة ونشغل جسدنا يف هذه املغامرة الجاملية – نعم،
لنفرض أننا نشغل ملكة اإلحساس اللميس يف إدراك هذه العامرة، ليس فقط إدراك
مكانها الداخيل والخارجي، وليس فقط إدراك القبة بكاملها، ولكن بخاصة األعمدة
والجدران والدعامات الحائطية؛ ولنفرض أننا ندرك الحجارة الضخمة املستعملة يف
بناء هذه العامرة ونتحسس نعومتها وصالبتها. إن استيعاب حجمها ووزنها وصالبتها
ورواقها الذي يضاهي رواق القلعة؛ استيعاب رواق هذه القلعة املقدسة، سوف يثري
فينا، بكل تأكيد، شعورا بدوام هذا البناء الرائع وشعورا بضعفنا وصغرنا أمامه. أجيال
عديدة من الفالحني واألسياد والكهنة والفرسان والتجار أتوا، ورحلوا ولكن هذه
القلعة املقدسة بقيت، والتزال باقية، كشهادة عىل عظمة ودوام ملكوت السامء.
ِ هذه القلعة كانت الغ ّ راء الذي وحد الكنيسة وحولها إىل جامعة. عىل املسيحيني
أن يكونوا إخوة وأخوات وأن يتحدوا يف املسيح. املشاركة يف خدمة القداس كانت
بالنسبة إىل املسيحي القروسطي احتفاال بوالدة وحياة وموت املسيح. وذروة هذا
االحتفال كانت املناولة. يف هذه التجربة صوفية الجوهر, يتحول املؤمنون إىل إخوة
وأخوات. هل توجد أرضية أنبل من تلك التي تقف عليها الجامعة اإلنسانية يف
لحظة الحضور اإللهي؟ كانت الكاتدرائية مكان هذا الحضور، ولكنها كانت أيضا
مركز الحياة االجتامعية يف اإلقطاعية ويف الدير ويف املدينة. كان هدف هذا النوع
من التصميم املعامري أن يكون رمزا لسيادة الكنيسة يف حياة املجتمع القروسطي،
وأن يعرب عن أخروية الثقافة القروسطية.
)٭( Suger Abbot: رئيس دير ورجل دولة ومؤرخ فرنيس من القرن الحادي عرش. ]املحرر[.

139
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
باإلضافة إىل كونها مركزا للحياة االجتامعية والدينية والسياسية، كانت الكاتدرائية
أيضا مركزا للتعليم والتنوير الروحي، وقامت بهذه الوظيفة بطريقتني. أوال، بتصوير
)رسم( حياة وأعامل املسيح، وحياة وأعامل القديسني، باإلضافة إىل مجموعة من
الصور الدينية، عىل حيطان وأروقة الكاتدرائية من أهم مصادر املعرفة الدينية يف
أوروبا القروسطية، خصوصا عندما كانت أغلبية الشعب أمية. الطبقة الوحيدة
املثقفة كانت طبقة الكهنة، وإذا كان بعض املواطنني يتقنون الكتابة والقراءة فهذا
ألنهم كانوا، بطريقة ما، عىل صلة باملؤسسات الدينية. الصورة كانت، وتبقى، إحدى
أهم وسائل التعليم. كانت الكاتدرائية مثل الكتاب املصور. وبعد قيام النهضة
الكارولينغية، انترش نظام من املدارس حول الكاتدرائية الرئيسة، وانبثقت عن هذه
املدارس بعض أهم الجامعات – مثال، يف أوكسفورد وباريس وبولونيا – املزدهرة
ليومنا هذا. أدت هذه املدارس الكاتدرائية دورا حيويا يف تطوير الفلسفة والالهوت
والعلم والفن القروسطي. ووضعت أسس النظام املعروف اآلن بالفنون الحرة )العلوم
اإلنسانـية( arts liberal؛ وكانت حافزا يف اإلصالح الديني ونرش سلطة الكنيسة،
ومارست دورا حاسام يف إحياء الكتابات الكالسيكية، و ّحركت روح اإلبداع الفني يف
حياة املجتمع القروسطي. وأخريا، عملت بثبات عىل نرش التعليم العام، ليس فقط
تعليم الكهنة، كرشط لتحسني الحياة االجتامعية والسياسية والدينية واالقتصادية.
الفلسفة: عامة، ميكن القول إن الفلسفة كانت، يف العصور القروسطية،
تابعة لالهوت. وأيضا، ميكن القول إن معظم الفالسفة اعتمدوا عىل النظريات
امليتافيزيقية واإلبستمولوجية واملنطقية اليونانية يف تحليل تجربتهم للعامل وحل
مشاكلهم االجتامعية والسياسية. ولكن، ال ميكن القول إنهم مل يتميزوا باإلبداع
واالستقاللية. بالعكس، كان إنتاجهم الفلسفي عامة ثريا ومحفزا، بل ومصدرا
رئيسا للفلسفة الحديثة. وال أبالغ إن أضفت أنه كان يوجد تواصل بني الفلسفة
القروسطية والفلسفة الحديثة. عىل أي حال، هذا ال يعني أن األولوية يف تأويل
وتفسري العامل مل تكن لالهوت، أو أن التحليل الفلسفي مل يندمج بالتحليل الالهويت.
)٭(
كانت املدارس الفلسفية التي ترصع الثقافة القروسطية من أوغسطني إىل أوكام
)٭( Ockham of Willim، وليم األوكمي، من عظامء ومفكري القرون الوسطى. تويف يف 1347م. ]املحرر[.

140
الصداقة
أخروية التوجه، مبعنى أن مبادئها األساسية يف التفسري امليتافيزيقي واإلبستمولوجي
ونظرية القيم كانت بطريقة ما تقوم عىل مفهوم الكائن املتعايل: حاول الفالسفة
القروسطيون فهم الطبيعة اإلنسانية والطبيعية من وجهة نظر كائن متعال ال ميكن
احتواؤه بخربة أو مبعرفة مبارشة، أو بالعقل الخالص أو بالحواس. واعتقدوا أن
طبيعة ووجود إرادة هذا املوجود، بالنسبة إىل الكائنات اإلنسانية، تكمن يف ظاهرة
املسيح ٍ كتجل إلهي. وهذه الظاهرة – والدته وتعاليمه وأعامله وموته وقيامته – هي
إطار التجيل/ الوحي. ال ميكن فهم هذه الحقيقة بالعقل، ولكن يجب أن نتقبلها
باإلميان، وليس اإلميان األعمى ولكن ذلك اإلميان الذي ينري العقل الطبيعي وميكنه
من استيعاب حكمة وخري والمحدودية ****. يف هذا االستيعاب يكتشف العقل
أن القوانني التي تحكم العملية الكونية، مبا يف ذلك عملية الحضارة، ليست سوى
انبثاقات عن الحكمة اإللهية. لهذا السبب، فاملعرفة التي يكتشفها العقل اإلنساين
يجب أال تتعارض، مبدئيا، مع الحقيقة الكامنة يف الوحي، وهذه يجب أال تتعارض
مع سلطة أو منطق الحقيقة التي يكتشفها العقل. نعم، فكام نرى، الصفة التي
تضفي عىل الفلسفة القروسطية خاصية األخروية هي االعتقاد بأن مبادئ املنطق
واإلبستمولوجيا وامليتافيزيقا والتقييم األخالقي والجاميل مؤسسة عىل الحقيقة
الكامنة يف الوحي، يف حقيقة موجودة يف عامل غري هذا العامل. عىل سبيل املثال، فعندما
نسأل، ملاذا هذا العامل هو كام هو؟ فإن الفيلسوف القروسطي سوف يجيب بقوله:
مادام **** خالق العامل مطلقا يف الحكمة والخري والقول، فإن هذا السؤال، ملاذا خلق
**** هذا العامل وليس عاملا آخر، ٍخال من املعنى. املخطط املتجسد يف نظام الطبيعة
وتاريخ الحضارة يكشف حكمة **** يف خلق العامل. مرة أخرى، إذا سألنا كيف يجب
أن نعيش عىل هذه األرض؟ فإن الفيلسوف القروسطي سوف يقول إنه علينا أن
نعيش بحكمة. الحكمة هي مفتاح السعادة. ولكن الحكمة الحقيقية هي الحكمة
اإللهية، ال الحكمة اإلنسانية. وبتعبري توما اإلكويني »فامدام الدور املنوط باإلنسان
الحكيم هـو أن ينظم ويقـــرر )يحكم(، ومبا أنه يجب الحكم عىل األمور األقل شأنا
يف ضوء مبدأ أعىل، فإن اإلنسان الذي يحكم )يقرر( األمور يف ضوء مبدأ أعىل سوف
يكون اإلنسان الحكيم. إذن، اإلنسان الذي يأخذ بعني االعتبار بصورة مطلقة املصدر
األعىل للكون، أي ****، سوف يكون أكرث الناس حكمة. إذن الحكمة هي معرفة

141
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
)6(. هل هي مصادفة أن مبادئ السلوك يف املسيحية مؤسسة يف القيم

األشياء اإللهية«
املسيحية، والقيم املسيحية بدورها مؤسسة يف حقيقة الوحي؟
ولكن ملاذا التزم الفالسفة القروسطيون، عىل رغم استقاللهم العقيل، يف
مختلف تحليالتهم ملختلف أنواع التجربة اإلنسانية، بالتوجه األخروي يف العامل
الطبيعي واإلنساين؟ أعتقد أن سبب هذا االلتزام هو أن النشاط الفلسفي كان
مؤسسيا: الكنيسة كانت مركز العلم واألبحاث، وكانت مسؤولة عن النظام الرتبوي
يف جميع أقطار أوروبا طوال العصور الوسطى. الالهوت كان املادة األساسية يف
الدراسة. األساتذة كانوا أعضاء يف ذلك السلك الكنيس. عالوة عىل ذلك، كان معظـم
)٭٭(، إذا أردنا ذكر بعض األسامء

)٭(، اإلكويني، أبالرد

الفالسفــة – أوغسطني، إنسلم
القليلة – رهبانا. جميعهم انطلقوا من املعتقد الراسخ أن **** خالق العامل وأنه
من الطبيعي اعتناق هذا املعتقد بواسطة اإلميان، وأن الكنيسة هي الحارس األمني
لإلميان، ونتيجة لذلك، الحارس األمني للحقيقة الكامنة يف الوحي. ميكن للفرد أن
يكون فالحا أو جنديا أو سيدا إقطاعيا أو حدادا، وميكن له أن يكون غنيا أو فقريا،
وميكن له أن يكون إيطاليا أو أملانيا أو فرنسيا، ولكن من غري املعقول ألي شخص
أال يكون مسيحا. املسيحية كانت خبز وزبدة املجتمع القروسطي. وباإلضافة إىل
امللكية، الكنيسة كانت أقوى مؤسسة يف العصور الوسطى.
ولكن مل تكن الحقيقة الكامنة يف الوحي واضحة أو بسيطة، عىل األقل ليس بالنسبة
إىل الشعوب التي كانت إىل حد كبري أمية، بل كانت غالبا معقدة وصعبة وغامضة
ومثقلة باملفارقات، بل وبالتناقضات. كانت بحاجة إىل توضيح ورشح وتنظيم، وبصورة
خاصة إىل تربير. عىل سبيل املثال، كيف لنا أن نؤمن بكائن ال نستطيع إدراكه عقليا
وحسيا؟ كيف لنا أن نؤمن بأن كائنا إنسانيا كاملسيح، الذي صلب كمجرم بأبشع طريقة
ممكنة، هو ابن **** املطلق، ابن الروح املطلقة؟ كيف لنا أن نتصور الحضور اإللهي،
ذلك الحضور الذي ال ميكن استيعابه عقليا، يف حادثة القربان املقدس؟ كيف لنا أن
نؤمن بأن لدينا روحا وأنه ال ميكن اختبار هذه الروح تجريبيا، أو عقليا، وأنها أزلية؟ إذا
كان **** فعال مطلقا بالحكمة والقوة والخري، فكيف ميكن أن يخلق عاملا يحتوي عىل
)٭( Anselm: راهب بندكتي وفيلسوف من القرن الحادي عرش للميالد. ]املحرر[.
)٭٭( Abelard Peter: الهويت ومنطقي فرنيس بارز من القرن الحادي عرش. ]املحرر[.

142
الصداقة
الرش؟ كيف ميكن *** الذي هو كائن روحي أن يخلق عاملا ماديا؟ هل العامل محدود؟
وهكذا. هذه األسئلة وأسئلة مرتبطة بها احتلت املكان األول يف اهتاممات الكنيسة
والطبقة املثقفة، وكانت بصورة خاصة أكرث األسئلة إلحاحا عىل أرض الحياة الثقافية.
مثال، مشكلة الكليات. يف الخطابني النظري والعميل نستعمل كلامت مثل »كريس«،
»نهر«، »عدالة«، »امرأة«، »جامل«، »وجود«... إلخ. هذه الكلامت وكلامت مثلها تشري
إىل فكرة عامة. عندما أقول »نهرا« قد أشري بهذه الكلمة إىل أي نهر يف املايض أو الحارض
أو املستقبل يف أي مكان يف العامل. بوجود اإلشارة ينرصف القول بالرضورة إىل نهر معني
)جزيئ(. عادة تتشكل الكلامت أو األفكار العامة من صفات تشكل معنى أو تعريف
الكلمة. مثال، أرسطو يصف اإلنسان بـأنه »حيوان عاقل«. كل عضو من أعضاء النوع
البرشي يتميز بصفتي العقالنية والحيوانية. هاتان الصفتان ّ تعرفان »اإلنسان«. واآلن،
ما هي هذه الكليات؟ أي ما معناها ّ املحدد؟ هل مضمونها يوجد يف الواقع؟ هل هي
مجرد أسامء؟ وأين توجد؟ نشري إليها بـ»الكلية« ألن جميع الكائنات اإلنسانية تفكر
)تدرك(، مبدئيا، باملعنى نفسه عندما نستعملها. وإال فكيف ميكن لهم أن يتواصلوا إذا
استطاعوا التواصل؟ وباإلضافة إىل ذلك، يبدو أن الكليات تدوم وتحتفظ بهويتها، مبعنى
أن الناس الذين يستعملمونها يولدون وميوتون، ولكن هذه األفكار ال متوت وال تتغري.
مازلنا نقر ونفهم األعامل العلمية والفلسفية واألدبية التي ورثناها من املايض القديم.
هل ميكن لنا أن نفهم، أو نستوعب، هذه األعامل إذا مل يكن معنى هذه الكلامت
التي تشكل النص الذي نقرأه واحدا يف النص ويف ذهننا؟ مستحيل. وفيام كان الفالسفة
القروسطيون مهتمني مبا إذا كانت الكليات حقيقية )real)، أي مبا إذا كان لها نوع من
الوجود الحقيقي، فإن البعض جادل بأنها أسامء فقط، وأن األشياء الوحيدة التي لها
وجود واقعي هي األشياء والحوادث املادية التي تشري إليها الحواس الخمس. والبعض
اآلخر جادل بأنها حقيقية ولها وجود مستقل، ال مادي، وال جوهري، وأن وجودها ال
يعتمد عىل العقل اإلنساين. والبعض اآلخر جادل بأن الكليات ليست حقيقية وليست
»غري حقيقية«، ولكنها توجد يف العقل اإلنساين كتصورات، وأننا نشكل هذه التصورات
بتجريد الصفات العامة املشرتكة بني أعضاء صنف معني من األشياء الحسية والالحسية
يف عملية إدراك هذه األشياء حسيا أو عقليا. ويطلق عىل الفئة األوىل اسم »االسميني«،
وعىل الفئة الثانية اسم »الواقعيني«، وعىل الفئة الثالثة اسم »التصويريني«. دعونا اآلن

143
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
نوضح كيف يستعمل هؤالء الفالسفة نظرياتهم يف الكليات لتربير معتقد عزيز عىل
قلب الكنيسة، بأن نرضب مثاال: التناول )الرسي( املقدس communion holy.
وسوف أقترص يف مناقشتي عىل آراء الواقعيني واالسميني. هل يتلقى املتناول
يف هذه الحادثة خبزا ونبيذا فقط، أم وجودا إلهيا أيضا؟ هل هذه مناسبة رمزية،
ّ أم مشاركة يف الوجود اإللهي؟ تعترب املناولة رس ّ ا؛ رسا ّ مقدسا. الخبز والنبيذ اللذان
يتلقاهام املتناول يكتسبان معنى خاصا بفضل الوجود اإللهي. كيف؟ علينا أن
نقبل هذه الحقيقة باإلميان، ولكن هل ميكن تربيرها عقليا؟ كام نرى، فإذا تبنى
الفرد النظرية الواقعية، فإنه سوف يجادل عىل النحو التايل: بعد أن يقدس الكاهن
القربان، توجد مع الخبز والنبيذ اللذين يتلقاهام املتناول جواهر )ماهية( دم وجسد
املسيح. يف هذا الوجود الرسي يكتسب الخبز والنبيذ العاديان قيمة دينية خاصة،
لكن هذه الحجة تنهار إذا اعتنق الفرد النظرية االسمية، أي إذا اعتقد بالوجود
الواقعي للكليات، ألنه إذا اعتقد بوجودها فبإمكانه أن يقول إن جواهر جسد
ودم املسيح روحية وأبدية، لهذا السبب ميكن للكاهن أن يستحرضها بفعل خاص.
ميكن لهذه الجواهر أن توجد مع الخبز والنبيذ اللذين يقدمهام الكاهن بعد عملية
التقديس. هذا الحضور الجوهري )اإللهي( ّ يحول الحادثة برمتها إىل تجربة دينية
حقيقية. الواقعيون يحاولون أن يربهنوا أن الرس املقدس للمناولة يتسق مع حقيقة
الوحي التي نعتقها باإلميان، بينام االسميون، وهم عقليون صارمون، يحاجون بأننا
ال نستطيع اإلقرار بالرس املقدس باإلميان ألن اإلقرار به يتعارض مع مبادئ املنطق.
من الصعب جدا تأسيس وجود أي نوع من الكليات عقليا.
ال أبالغ إن قلت إن الفلسفة القروسطية كانت استجابة نشيطة ومبدعة
لألسئلة واملشاكل امللحة للثقافة املعارصة لها، متاما كام كانت الفلسفة الهلينية
والهلنستية والحديثة استجابة نشيطة ومبدعة لألسئلة امللحة لتلك العصور.
الفارق هو أن األسئلة واملشاكل الدينية احتلت املكان األول يف أجندة املجتمع
القروسطي. بطبيعتها استلزمت هذه األسئلة واملشاكل: )أ( ميتافيزيقا دينية، )ب(
نظاما فكريا لصياغة وتنظيم معتقدات وقيم، وبالتايل مؤسسات، ثقافتهم األساسية.
ومن غري املمكن لهم أن يكونوا صادقني مع أنفسهم كفالسفة لو تفلسفوا بتقليد
أفالطون وأرسطو أو الفالسفة الرواقيني. وعىل سبيل املثال، كان الفالسفة الرئيسيون

144
الصداقة
كأغوسطني واألكويني وأوكام أصحاب أنظمة فلسفية كأرسطو واسبينوزا وهيغل
أو رسل. علينا أال ننىس أن الفلسفة هي القلب الروحي للحضارة. هذه الخاصية
هي التي تربز بوضوح: )أ( املؤسسية، )ب( السكونية، بوصفهام صفتني رئيستني يف
الثقافة القروسطية. مبدئيا، فكرة النظام بحد ذاتها غري ممكنه إال إذا افرتضنا أن
العامل نظام من الحوادث واألشياء وأنه قابل ألن يصاغ ببنية مفهومية منظمة. ولكن
كيف ميكن للنظام الفلسفي أن يكون نظاما إذا كان الواقع عملية )Process )ّ تحول
مستمر؟ باإلضافة إىل ذلك، إذا كانت تصورات ومبادئ الفلسفة كافية، فام حقيقة
الوحي؟ إذا كانت هذه الحقيقة أبدية، وبالتايل إذا كان العامل الذي خلقه **** نهائيا،
فمن الرضوري للنظام الفلسفي الذي يعكس، مفهوميا، بنية عامل كهذا أن يكون ذا
سلطة نهائية. ولكن كيف ميكن أن يكون ذا سلطة كهذه إذا كانت األرضية التي
يرتكز عليها غري دامئة وغري صادقة؟
الرتبية. النظام الرتبوي للمجتمع هو كنزه الثقايف ومصدر روحه الثقافية والنار
التي تغذي هذه الروح. يجري تحليل وتوضيح ومناقشة وتربير املعتقدات والقيم
التي تشكل بنية الثقافة يف إطار هذا النظام. ويف هذا اإلطار يتم تعميد الصغار
ثقافيا. ال أعني بكلمة »تربية« أو »نظام تربية« يف هذا السياق املدرسة فقط ولكن
أيضا املؤسسات الدينية والعائلية واملنظامت املختلفة حيث يقوم الناس بنشاطاتهم
املعيشية اليومية. يف املجتمع القروسطي، كانت األرسة واملدرسة والكنيسة مرتابطة
بينها، وكان يكمل ويدعم بعضها بعضا. كان الجو الثقايف يف ذلك الوقت أكرث
استقرارا »وتجانسا« يف أوروبا الغربية عام هو يف املايض القريب، مل يكن يوجد
نظام تربوي رسمي يف القرون الوسطى األوىل، وال حتى يف القرون الوسطى املتأخرة.
وكانت املدارس قليلة جدا. األقلية التي متتعت بحق التعليم كانت األقلية الدينية.
بقيت األرسة والكنيسة املركزين الرئيسني للنشاطات الرتبوية، ولكن تأثري األرسة
كان تابعا لتأثري الكنيسة؛ ويف الحقيقة بقيت الكنيسة القوة الرتبوية العظمى طوال
العصور الوسطى، وهيمنت كليا عىل عملية الرتبية. كانت الطبقة املثقفة فعليا يف
ذلك الوقت هي طبقة الكهنة، وكانت أيضا مصدر املعرفة السياسية والالهوتية
والفلسفية والعلمية. وكانت الكنيسة، وبقيت وقتا طويال، املركز الرئيس لنقل
املعرفة والقيم إىل املجتمع. قام منربها بوظيفة الصحافة وقاعات املحارضات. وهنا

145
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
علينا أن نتساءل: هل كان بإمكان الكنيسة أن تنرش أفكارا وقيام مدمرة ملعتقداتها
ُسس أول نظام تربوي يف أثناء النهضة الكارولينغية كان

وقيمها ووجودها؟ عندما أ
الكهنة هم من طبقوا هذا النظام واعتمدوا يف هذه العملية عىل اللغة الالتينية
وعىل كتب الفالسفة والشعراء واملؤرخني اليونانيني والرومانيني. يف بداية األمر ّفضل
ُسس نظام املدارس

هذا النظام الطبقة األرستقراطية والطبقة الحاكمة. ولكن عندما أ
العادية أخذت األديرة عىل عاتقها نشاطات اإلدارة والتعليم والبحث. متيزت املدارس
األوىل الرئيسة التي انبثقت عن هذا النظام، مثل باريس وأكسفورد وسيينا وبولونيا،
باالتجاه الالهويت. مبدئيا كانت جامعة باريس، وكانت من أهم وأشهر مراكز العلم
وأكرثها تأثريا، مؤسسة الهوتية، بينام كانت أكسفورد أكرث انفتاحا وتحرّرا. هنا يف
أكسفورد ازدهر التفكري الدنيوي بجانب التفكري الالهويت. ولكن عىل الرغم من هذا،

.
)7(
كان التوجه الديني للتعليم الجامعي متأصال يف بنيته
ِ دعونا نلق نظرة رسيعة عىل منهج الدراسة. كانت الجامعات تدرس موضوعني،
الرباعية )quadrivium )والثالثية )trivium). شمل األول الحساب، والهندسة
الرياضية، واملوسيقى، والفلك؛ وشمل الثاين القواعد، وعلم البالغة، واملنطق. الحظ
أن علوم الطبيعة والهندسة استبعدتا عن منهج الدراسة القروسطي. كان الرتكيز
عىل: )أ( قراءة وكتابة الالتينية، )ب( التفكري املنطقي. أهم مساهامت الفلسفة
القروسطية يف الحضارة اإلنسانية كانت يف مجال املنطق. كان بإمكان الطالب
القالئل الذين اجتازوا هذه املرحلة أن يتابعوا دراستهم يف حقول القانون والطب
والفلسفة. وهنا تجدر اإلشارة إىل أن األساتذة كانوا إما رهبانا أو بطريقة ما مرتبطني
بالكنيسة، وهكذا أخذوا عىل عاتقهم تحديد املعتقدات والقيم التي ميكن تعليمها،
وأيضا تحديد مناهج البحث والكتابة والتعليم. ولكن حقيقة أن الباحثني واملعلمني
كانوا مرتبطني بالسلك الالهويت ال تعني أننا نستطيع االستنتاج بالرضورة أن جميع
املواضيع التي بحثوا فيها كانت الهوتية أو كنسية. كال، فقد ازداد مجال املواضيع
الدنيوية توسعا يف منهج الدراسة كلام تقدم املفكرون القروسطيون يف أبحاثهم
الفلسفية والعلمية. متتع أساتذة الجامعة مبساحة واسعة من الحرية، ومارسوا
هذا الحق برعاية رسمية من قبل الدولة. وحتى يف حقول الفلسفة والالهوت،
مارس املفكرون قدرا معقوال من حرية الفكر. الجدل الواسع والرثي بشأن الجوهر

146
الصداقة
والوجود والعقل والكليات واإلميان والخلق الكوين والحرية الحتمية وتصورات
أخرى تشهد عىل هذه الحرية. ولكن علينا أيضا أن نقر بأن الحرية الفكرية التي
متتعوا بها كانت متجذرة بقوة يف هيكل ثقايف رسمي يضمن وحدة املعتقدات
والقيم التي متثل عقيدة الكنيسة. كان بإمكان الفالسفة أن يختلفوا برشوحهم
وتفسرياتهم للعقائد والقيم الدينية املختلفة، ولكن مل يكن بإمكانهم االختالف
حول ما إذا كانت الحقيقة الكامنة يف الوحي هي كلمة ****. كان بإمكانهم
التأمل بحرية يف طبيعة الزمان، ولكن مل يكن بإمكانهم االختالف بشأن ما إذا
كان **** خلق الزمان. وكان بإمكانهم االختالف بشأن طبيعة الكليات، ولكن مل
يكن بإمكانهم االختالف حول حقيقة األرسار املقدسة. وكان بإمكانهم االختالف
عىل كيفية خلق الكون، ولكن مل يكن بإمكانهم االختالف حول ما إذا كان ****
هو الذي خلق الكون. وكان بإمكانهم االختالف عىل العديد من األسئلة األخرى،
ولكن يف نهاية األمر جميعهم تبنوا منهجا واحدا لتثبيت صدق املعرفة: املنهج
االستداليل الذي يعتمد عىل استنتاج قضية جزئية )فردية(، من قضية كلية أو أولية.
وافرتضوا عامة أن القضية األولية صادقة؛ إذن إذا كانت عملية االستدالل، أو عملية
التفكري، املوصلة من القضايا األولية إىل النتيجة صحيحة، فإن النتيجة ستكون
بحكم الرضورة صادقة، ألن حقيقتها متضمنة يف القضية الكلية )األولية(. واآلن
نلقي نظرة إىل حجة أرسطو االستداللية، املعروفة بالقياس: )أ( الناس فانون، )ب(
سقراط إنسان، )ج( إذن سقراط فان. القضية األوىل )الكلية( تتضمن النتيجة، إذن
حقيقتها تتضمن حقيقة النتيجة. جميع املفكرين القروسطيني فكروا وجادلوا وفق
هذا النمط يف تثبيت صدق أفكارهم وآرائهم ونظرياتهم. ولكنهم أسسوا قضاياهم
ّم بها كافرتاض علني أو ضمني، واستنتجوا بعد ذلك

األولية عىل حقيقة كلية مسل

ّم بها. واحد من أهم املعتقدات

القضايا الجزئية )الفردية( من القضية الكلية املسل
التي سادت عامل القرون الوسطى كان اعتقاد أن قوانني الطبيعة والحياة اإلنسانية
مؤسسة عىل كلمة ****. حقيقة هذه القوانني كانت األساس النهايئ ألي حقيقة يأيت
بها اإلنسان يف مجال املعرفة. ولكن العلامء القروسطيني مل يعتمدوا يف اكتشافهم
لطبيعة هذه القوانني عىل املنهج التجريبي، بل اعتنقوها بناء عىل سلطة الكنيسة،
بناء عىل سلطة اإلميان. بكلامت توما األكويني: »باإلضافة إىل علم الفلسفة املبني

147
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
عىل العقل، يجب أن يكون هناك علم آخر مستمد من الوحي... وعىل الرغم من
أنه ال ميكن السعي وراء األشياء التي تفوق املعرفة اإلنسانية بواسطة العقل، فإنه

.
)8(
عندما يوحي **** بها يجب اعتناقها بواسطة اإلميان«
عامة، املنهج التجريبي الذي يرتكز عىل املالحظة والتجربة، والذي يقف كمنهج
معاكس للمنهج االستداليل، مل يشق طريقه إىل عامل الفكر حتى القرن الثالث عرش
)٭(؛ ولكن هذه العقلية العلمية مل تنضج فعليا إال يف القرن

عىل يد روجر بيكون
الخامس عرش. وفقا لهذا املنهج، ندرك القانون الطبيعي – املبديئ أو الكيل –
مبالحظة الوقائع الجزئية بواسطة الحواس الخمس، وبعد ذلك وباالستناد إىل هذه
املالحظة نصوغ التعميم املناسب. هنا نبدأ بالحقائق، ندرك الخصائص املشرتكة
بينها، وبعدها نرتقي بعملية فكرية إىل الكيل؛ بينام يف املنهج االستداليل نبدأ بالكيل
ومنه ننتقل إىل الجزئيات. والنقطة املثرية لالنتباه بخصوص االعتناق غري النقدي
َ ّملوه باالستشهاد

للمنهج االستداليل يف القرون الوسطى هي أن الفالسفة غالبا ك
بفالسفة ذوي سلطة مؤسسة، كـأرسطو وأفالطون وأوغسطني وابن رشد. بيد أن
أرسطو، الذي كان نجام وسلطة فلسفية ساطعة يف القرون الوسطى، اعتمد يف
تثبيت صدق نظرياته عىل املالحظة التجريبية. فلامذا رفض الفالسفة القروسطيون
أن يكونوا أرسطيني بهذا املعنى؟ هل ألنهم سلموا مبعتقدات وقيم القرون الوسطى؟
هل هذا النوع من التسليم بريء من التحيز العقيل أو الدوغامئية؟
أثري هذه األسئلة ليك أسلط الضوء عىل التأثري العميق الذي مارسته الكنيسة
يف تشكيل ليس فقط املؤسسات الرتبوية، ولكن أيضا املؤسسات األخرى للمجتمع
القروسطي. نعم، لقد كان الهدف الرئيس للكنيسة هو االزدهار الروحي للشعب
وخالصه، ولكنها كانت أيضا القوة املثقفة األعظم تأثريا يف تنمية وتطوير املجتمع
القروسطي. لقد أدخلت طريقة حياة جديدة، وكانت مهتمة بكل ُبعد من أبعاد
الحياة اإلنسانية، ومارست دورا حيويا يف تنظيم جميع مؤسساتها االجتامعية
والسياسية، وأدخلت قيام ساعدت عىل نرش السالم والنظام والبحث الفكري
واالزدهار االقتصادي والعدالة والسعادة واألمل. لهذا السبب سعت منذ البداية
)٭(Bacon Roger، وعرف أيضا بلقب »املعلم املذهل« Mirabilis Doctor، راهب فرانسيسكاين وفيلسوف إنجليزي من
القرن الثالث عرش. ]املحرر[.

148
الصداقة
إىل أن تصبح قوة سياسية حاسمة. غالبا كانت تتنافس، ويف بعض األحيان تتصارع،
مع امللكيات الرئيسة األوروبية من أجل السياسة، ووصلت إىل ذروة مجدها
السيايس يف القرن الحادي عرش يف أثناء بابوية غريغوري السابع؛ ولكن بدأ هذا
املجد بالرتاجع تدريجيا. ومع ذلك، وعىل رغم أن سلطتها السياسية تقلصت، فإنها
احتفظت بنفوذها حتى القرن السادس عرش، أوليا ألنه كان لها حضور متأصل
وشامل يف املؤسسات االجتامعية والسياسية. كام ذكرت سابقا، كانت الحارس
األمني للمعتقدات والقيم التي بعثت روح الفن والفلسفة واألدب والرتاث والحياة
االجتامعية يف املجتمع القروسطي، وكانت أيضا املراقب الناقد للمؤسسة السياسية.
نعم، خرست سيادتها السياسية، لكنها مل تخرس نفوذها الثقايف. استمرت الكنيسة
بتغذية املعتقدات والقيم التي شكلت بنية الثقافة، ليس فقط يف أثناء العصور
الوسطى، ولكن أيضا يف أثناء العصور الحديثة. فقد بقيت الثقافة األوروبية، يف
جوهرها، ****** إىل يومنا هذا.
4 - غياب الصداقة عن النظرية األخالقية القروسطية
لنفرتض وجود عامل يعتقد فيه البرش أن **** خالق وحاكم الطبيعة والحياة
اإلنسانية، وأن العامل نهايئ الصنع بتصميمه وحوادثه، وأنه ُيحكم بواسطة قوانني
كلية ودامئة، وأنه بسبب خطيئة اقرتفها والدا الجنس البرشي، آدم وحواء، كانت
نتيجتها وقوع نسلهم، أي الجنس اإلنساين، يف هاوية مظلمة من الكدح والتعاسة
واملعاناة، وأن ****، الذي هو مطلق يف القوة والحكمة والخري قرر أن يرسل ابنه
يسوع املسيح، الذي هو انبعاث كامل من جوهره، لينقذ العرق اإلنساين من هذه
الهاوية، وأن هذا االنبعاث الذي يفوق الفهم أظهر حقيقة إرادة وحكمه ومحبة
**** املطلقة، وأن الكنيسة، باإلضافة إىل الدولة، كانتا السلطة األقوى يف إدارة حياة
الناس الروحية – نعم، لنفرتض وجود عامل كهذا، أو بكلامت أخرى بفرض وجود
هذا النموذج الثقايف، فام هو النموذج األخالقي الذي ميكن أن يسود هذا العامل
يف حياته النظرية والعملية؟ كيف ميكن ألناسه أن يرتجموا هذا التصور إىل قيم
أخالقية ومن ثم إىل قواعد أخالقية؟ أثري هذين السؤالني فقط ليك أركز االنتباه عىل
مصدر النموذج األخالقي القروسطي. فهمنا هذا املصدر سوف يظهر لنا العالقة

149
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
بني نظرة العامل القروسطية والنموذج األخالقي املتضمن فيه. كام شددت سابقا، ال
ميكن لهذه العالقة أن تكون عشوائية أو سطحية، ال يستطيع املجتمع، وال يجوز
له، أن يقتبس قيمه، ألن هذا يعني استعارة طريقة حياة، القيم املتأصلة يف نفوس
أهل مجتمع ما هي أساس ثقافتهم، وبالتايل أساس طريقة حياتهم. عىل العكس
ليك تكون قيم املجتمع عامال يف االزدهار الروحي، وإىل حد ما يف سعادتهم، يجب
أن تنبثق عن تجربتهم الحياتية، عن فهمهم للعامل ومكانتهم فيه. عامة، ميكن
استعارة األشياء املادية أو اآلالت وميكن فرضها عىل شعب ما، ولكن ال ميكن فرض
طريقة حياة عليهم. عىل سبيل املثال، كيف ميكن لحيايت أن تكون سعيدة، أو إىل
حد ما جديرة بالعيش، إذا مل تصدر أفعايل عن عقيل وإراديت، وإذا مل تجسد أفعايل
معتقدايت وقيمي؟ إذا مل تصدر أفعايل عن عقيل وإراديت، فإين بكل تأكيد سأعيش
وفقا ملعتقدات وقيم شخص آخر، أو ستتقاذفني تيارات الواقع إىل هنا أو هناك من
دون هدف. يف أي من هاتني الحالتني سوف ال أكون ذايت. ولكن كيف ميكن يل أن
أكون سعيدا إذا مل أكن ذايت؟ هذا النمط من التفكري ينطبق عىل الجامعة.
نشاهد يف هذه األيام، وألول مرة يف التاريخ، اهتامما ودعام متزايدا الستقالل
األقليات الثقافية يف جميع أنحاء العامل. ملاذا؟ يكمن الجواب عن هذا السؤال يف
حقيقة أن لدى الشعوب رغبة عميقة يف أن تعيش وفقا للمعتقدات والقيم التي
تنبثق عن فهمهم ألنفسهم وللعامل، وهكذا ألن يعيشوا وفقا لطريقتهم الخاصة
بالحياة. من دون شك ميكن اإلقرار بأن السعي من أجل السعادة حق. النقطة التي
تستحق االعتبار هنا هي أن الكائنات اإلنسانية تتمسك أوليا ونهائيا بطرق حياتها،
وهي عىل استعداد ألن تكافح من أجلها بكل قواها املادية والروحية. االفرتاض
الذي يؤسس هذا اإلخالص للثقافة هو سؤال أن نكون أو ال نكون. أعي أن الشعوب
واألفراد غالبا تخضع لقوى خارجية؛ وتعيش تحت وطأة واستبداد قوى كهذه،
لكنها تخضع من دافع العجز وغريزة البقاء، ولكن حتى عندما تخضع للسلطة
االستبدادية، بغض النظر عام إذا كانت اجتامعية أو سياسية أو دينية أو بيولوجية،
فإنها معظم األحيان تنكفئ عىل أنفسها الباطنية وتشكل أقليات خاصة أو رسية.
أكتب هذه الكلامت منطلقا من تجربتي الشخصية. كم من ثائر أو مفكر أو فنان
أو كاهن أو عامل أو مهاجر قدم كذبيحة عىل مذبح سلطة كهذه؟ ال أبالغ إن قلت

150
الصداقة
إن أقوى دافع يف الطبيعة اإلنسانية هو دافع الكينونة – أن نكون أنفسنا. ولكن،
هل ميكننا بالفعل أن نكون أنفسنا إذا مل نعش من صميم ذاتنا اإلنسانية؟ إن البؤرة
األنطولوجية لهذا الصميم هي الثقافة.
اآلن، ما هو نوع النظرة األخالقية الكامنة يف رؤية العامل القروسطية؟ كيف
ميكن ترجمة هذه النظرة إىل تصور للخري األسمى؟ وبالتايل، كيف يكمن ترجمة
هذا الخري إىل قيم وقواعد أخالقية؟ موضوع السؤال األول هو معنى وتربير التصور
القروسطي للمبدأ األعىل للتقييم األخالقي. وموضوع السؤال الثاين هو معنى
ومدى القيم األخالقية التي تنبثق عن التصور القروسطي للخري األسمى. يف مجتمع
محوره ****، يكون **** هو الخري األسمى. هذه النظرة بالذات هي التي تصدرت
النموذج األخالقي القروسطي. تنشأ هذه النظرة، منطقيا، عن الفهم القروسطي
للعامل، لكنها أيضا أساس للنظرية األخالقية وتطبيقها. ولكن، إذا كان **** هو الخري
األعىل، وإذا كان الــسعي من أجل السعادة هو سعي من أجل هذا الخري، فسوف
يصح بالرضورة أن **** هو املوضوع األسمى للرغبة واملحبة. إذن، إذا كان **** مبدأ
السعادة، وإذا كان هو كائنا متعاليا يختلف كليا عن العامل الذي خلقه، فإن التصور
القروسطي للخري األسمى هو، عىل عكس التصورات التي نجدها عند الفالسفة
الهلنيني والهلنستيني، تصور أخروي )otherworldly). ينتج من هذه النظرة أربع
قضايا. أوال، الرؤية )vision )املبارشة *** هي مصدر السعادة؛ ثانيا، ****، وليس
اإلنسان الطبيعي، هو مصدر القيم األخالقية؛ ثالثا، ال ميكن تحقيق السعادة يف هذا
العامل ألن **** متعال؛ رابعا، السعي من أجل السعادة يف هذا العامل تحضري لتحقيق
السعادة الكاملة يف الحياة القادمة. دعوين أرشح هذه النظرة بالتفصيل. ُسيظهر
هذا الرشح بنية النموذج األخالقي القروسطي.
يجب عىل أي بحث يف مصدر الصفة األخالقية بذاتها، يف أي منوذج أخالقي،
أو مبدأ أعىل للتمييز األخالقي، أن ينطلق من دراسة تأملية للرؤية األخالقية التي
تؤسس النموذج، ألن هذه الرؤية، يف نهاية األمر، هي مصدر املعتقدات والقيم
األخالقية. هل هناك أي مصدر آخر؟ حتى لو كان هذا املصدر متعاليا، فإن الطريق
الذي يؤدي إليه يبدأ بدراسة قيم ومامرسات املجتمع األخالقية. ال ميكن ألي بحث
أن يتم خارج نطاق التجربة اإلنسانية. إذن علينا أن نسأل: ما هو الحدس األساس

151
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
الكامن يف الرؤية األخالقية للنموذج األخالقي القروسطي؟ يف الواقع، البحث عن
هذه الرؤية هو بحث عن مصدر املبدأ )principium )الذي يجعل األشخاص
والقوانني والحاالت واألفعال أخالقية. أؤكد أن هذا املبدأ يف املجتمع القروسطي
كان كلمة **** كام أَّولتها وقدمتها الكنيسة. أساس هذا التأويل هو تعاليم وأفعال
املسيح. هذه التعاليم واألفعال تجسد الحقيقة اإللهية. ومبا أن **** هو الكائن
املطلق، اتسمت هذه الرتجمة بسلطة مطلقة. هل مصادفة أن يستشهد الفالسفة
الالهوتيون والسياسيون وجميع املسيحيني لها، ويلجأوا إليها، عندما يفكرون أو
يعلمون أو ينظرون يف أي أمر له عالقة بالحياة اإلنسانية؟ الحدس األساس أن ****
هو الكائن املطلق، وأن إرادته مطلقة، ولهذا نهائية، هو جوهر النظرة القروسطية
التي تقول إن الخري األسمى يتحقق عندما ننظر إىل **** باعتباره املوضوع األسمى
للرغبة واملحبة. إذا سلمنا بهذه القضية فسوف يصح لدينا، بالرضورة، أن السعادة
تتحقق عندما نريض هذه الرغبة. وبالتايل، فإذا كان **** قد خلق العامل الذي نعيش
فيه لغاية معينة، وهذا ينطبق عىل الكائنات اإلنسانية، وإذا كان تحقيق هذه
الرغبة هو الغاية العليا للحياة اإلنسانية، فسوف يصح بالرضورة أن إرضاء هذه
الرغبة يجب أن يكون مبدأ التنظيم االجتامعي والسيايس واالقتصادي والرتبوي. ويف
الواقع، ُن ّظمت املؤسسات األساسية للمجتمع القروسطي وفقا لهذا املبدأ. وكانت
وسائل مختلفة لنقل الجامعة املسيحية من هذا العامل إىل العامل اآلخر بأقل قدر
من العناء، فال ميكن تحقيق السعادة الحقيقية والكاملة إال يف الحياة األخرى. ميكن
للمسيحيني الصالحني أن يكونوا سعداء عندما يعيشون وفقا إلرادة ****، ولكنهم
يحققون السعادة الكاملة فقط عندما يقفون وجها لوجه أمام ****، عندما يختربون
مبارشة الكائن املطلق بالقوة والحكمة والخري. ميكن اإلشارة إىل هذا الكائن، كام
فعل املفكرون القروسطيون بــ»الحقيقة« أو »الجامل« أو »السبب األول«. ال ميكن
للطبيعة اإلنسانية أن ترغب فطريا يف أي يشء أكرث من هذه التجربة. عىل أي حال،
أمل يخلق اإلنسان بصورة ****؟ ما الذي يعنيه هذا املبدأ – أن الكائنات اإلنسانية
خلقت بصورة **** – سوى حقيقة أن الكائنات اإلنسانية تتقاسم إحدى صفات ****
الجوهرية؟ هذا االمتياز هو الذي يؤهل البرش إىل أن يتوقوا إىل الحضور اإللهي.
اختلف الفالسفة القروسطيون يف طبيعة هذا الحضور. البعض مثل األكويني قال

152
الصداقة
إنها رؤية عقلية للكائن اإللهي وأن هذه الرؤية تفرز بهجة خاصة هي السعادة.
»من املستحيل ألي خري حادث )مخلوق(« يقول األكويني، »أن ُيحدث )يسبب(
سعادة اإلنسان«، ألن السعادة هي الخري الكامل الذي يطفئ عطش جميع الرغبات.
وال ميكن لهذا الخري أن يكون كامال إذا كانت هناك حاجة إىل تلبية رغبة أخرى.
اآلن، غاية اإلرادة، أي الرغبة البرشية، هي الخري الكيل، كام أن غاية العقل هي
الحقيقة الكاملة. إذن من الواضح أن ال يشء يريض إرادة اإلنسان سوى الخري الكيل،
)9(. ثانيا، »ال ميكن للسعادة

وال يوجد هذا الخري إال يف ****، وليس يف أي مخلوق

)10(. أول فالسفة آخرون،

الكاملة والنهائية أن تتكون إال يف رؤية الجوهر اإللهي«
مثل أوغسطني، هذه الرؤية، صوفيا َّ )رسيا( كنوع من الوحدة املفعمة باملحبة مع
****. جادلوا بأن املحبة الحقيقية هي حالة من البهجة الروحية، ولكن ليس ذلك
النوع من البهجة التي تختربها يف هذا العامل، بل التي تنتج من رؤية الجوهر اإللهي
يف الحياة األخرى )القادمة(، عندما نتحرر من البعد املادي لكياننا. ولكن أوغسطني
تصور الرؤية املبهجة بلغة االشرتاك، أو الوحدة. وهي، بالنسبة إليه، أسمى طريقة
ملحبة ****. كيف ميكن لنا أن نحب **** إن مل نعانقه؟ أسس أوغسطني هذا التأويل
عىل وصية املسيح: »أحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل
عقلك«، و»أحب ألخيك اإلنسان كام تحب لنفسك«. ولكن املحبة توحد، ألنها تخلق
رباط الوحدة بني كائنني. ويبقى التوحد ناقصا إذا ّ تحول إىل تأمل عقيل، ألنه يف هذه
الحالة سيبقى **** بعيدا عن الشخص الذي يتأمله، ولكن فعل املحبة يلغي عالقة
اآلخرية والبعد. كانت أمنية أوغسطني العليا أن يكون مع **** وميتلئ بوجوده.
يف »االعرتافات« ّ يقر بأن جسده سيبقى عبئا حتى يتحرر منه وميتلئ بوجود ****.
»أنت ترفع الشخص الذي متلؤه، ولكن اآلن، ألنني لست مملوءا بك، أنا عبء عىل
.
)11(
نفيس«
ولكن بغض النظر عام إذا قبل الفرد التأويالت األكوينية، التي تعكس تأثري
أرسطو، أو التأويالت األوغسطينية، التي تعكس تأثري أفالطون، يبدو واضحا أنه
بالنسبة إىل هذين الفيلسوفني، بل بالنسبة إىل الفالسفة القروسطيني عامة، الخري
األسمى هو رؤية ****. عىل أي حال، ال ميكن للفرد أن يكتشف هذه الرؤية، وال
يستطيع إنجازها، بواسطة العقل. يتطلب تحقيق السعادة الحقيقية ثالثة رشوط

153
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
عىل األقل: أوال، عىل الفرد أن يسلم بالحقيقة الكامنة يف الوحي فيام يخص اإلميان؛
ثانيا، عليه أن يعيش حياة فاضل؛ ثالثا، عليه أن ينمو بالفـهم الذايت، طبعا وفقا
لتعاليم الكنيسة. ولكنه ال يستطيع توفري الرشط الثالث قبل أن يوفر الرشط الثاين.
ويف الواقع فالفضيلة هي الطريق األمثل لتحقيق السعادة. ولكن كيف ميكن
للفضيلة أن تؤدي إىل الخري األسمى إذا مل تنشأ منه، أو إذا مل تكن مصنوعة من
مادة الخري ذاتها؟ وبعد ذلك، فبغض النظر عام إذا كانت الفضيلة إنسانية أو
إلهية، فهي تستهدف، من حيث الجوهر، تحقيق العمل الصالح، ذلك النوع من
العمل الذي يجعل الكائن اإلنساين صالحا وسعيدا. بكلامت األكويني، »الفضيلة
)12(. وقبله بعدة قرون

تكمل اإلنسان ألنها تقوده إىل السعادة، كام رشحنا سابقا«
عرب أوغسطني عن الفكرة نفسها، مخاطبا **** »املجتمع الصالح هو الذي يخضع
.)13(
إلرادتك. ولكن السعداء هم الذين يعرفون أنك مصدر هذه التعاليم األخالقية«
ولكن مبا أن الكائنات اإلنسانية تنتمي إىل عاملني، العامل األريض والعامل اإللهي، فإنها
تنتمي إىل األول بواسطة الجسد، وإىل الثاين بواسطة الروح. ومبا أن الروح هي
جوهر اإلنسانية، فال بد من القول إنه يوجد نوعان من الفضيلة: إنسانية ودينية.
العقل أساس النوع األول، واإلميان بالحقيقة الكامنة يف الوحي أساس النوع الثاين.
الفضيلة اإلنسانية توجه الفرد نحو السعادة اإلنسانية، والفضيلة الدينية توجهه
نحو السعادة األبدية. هدف الفضائل الدينية هو »****«، يقول األكويني: »ألنها
توجهنا مبارشة نحو ****، وثانيا، ألن **** وحده هو الذي يغرسها فينا، وثالثا، ألن
)14(. اختار األكويني

الوحي اإللهي هو مصدره الوحيد، كام يقول الكتاب املقدس«
ثالث فضائل دينية رئيسية: اإلميان، واألمل، واإلحسان. هذه الفضائل تعرف معنى
جميع الفضائل الالزمة للقيام بالفعل األخالقي، أو الصالح، أو الخري األخالقي.
اإلنسان الصالح هو الذي يجسد هذه الفضائل يف أعامله. وتصور األكويني للفضائل
اإلنسانية الرئيسية – التعقل، والثبات، والعفة، والعدالة – شبيه بتصور أفالطون
وأرسطو. الفضيلة الوحيدة املشرتكة بني الفضائل اإلنسانية والدينية هي التعقل،
ألنها ملك الرؤية التي نحتاج إليها لتطبيق وترجمة معنى القواعد األخالقية يف
صنع القرار األخالقي. هذه امللكة رشط رضوري ألي نوع من الفعل اإلنساين أو
الديني الصائب.

154
الصداقة
عىل رغم أن فالسفة العصور الوسطى، ما عدا أوغسطني، انتقدوا الفضائل
اإلنسانية، فإنهم مل يعرتضوا عليها مبدئيا ألنها مؤسسة عىل العقل. ولكن القوانني
التي تحكم أعامل العقل مؤسسة عىل قوانني الطبيعة، التي هي بدورها مؤسسة
عىل القانون اإللهي. ويكمن عيبها يف الحقيقة يف أنها ليست كافيه لتحقيق السعادة
األبدية. وبقدر ما هي مبادئ للفعل األخالقي، فالفضائل األخالقية ليست الوسيلة
العملية لتحقيق السعادة فقط، لكنها أيضا مصدر اإللزام األخالقي ألنها تتسم
بصفة القانون. وهي تتسم بهذه الصفة ألنها تصدر عن إرادة ****، وإرادة ****
ال تتضمن أي خيارات. أسجل هذه النقطة فقط ليك أشدد عىل حقيقة أنه عىل
رغم أن التوجه األسايس للنموذج األخالقي القروسطي يرتكز عىل مبدأ السعادة
)eudaimonia)، ألنه ينظر إىل السعادة بوصفها هدفا أعىل لحياة اإلنسان، غري
)٭(، أي يقر بإلزامية الواجب األخالقي، ألن القواعد األخالقية

أنه أيضا ديونطولوجي
املؤسسة يف الفضائل األخـالقية إلزامية بطبيعتها، ولهذا السبب جازمة. من واجبنا
أن نحب أنفسنا وأن نحب الكائنات اإلنسانية األخرى؛ إذن، من واجبنا أن نتحىل
بالفضيلة، أي نتحىل بالصدق والعدالة والرحمة والر ّوية، ومن واجبنا أن نحب، ألن
هذه الوصية – املحبة، تصدر عن إرادة ****، ال عن إرادة اإلنسان. ما يقوله ****
صادق بصورة مطلقة؛ وال ميكن وضع هذه الحقيقة موضع التساؤل من قبل العقل
اإلنساين.
5 - غياب الصداقة
إن تفحصنا كامل مشهد النموذج األخالقي القروسطي، فسوف نكتشف غيابا
بارزا للصداقة بوصفها قيمة أخالقية. فكيف ميكن تفسري هذا الغياب؟ فيام ييل
سوف أناقش األسباب الرئيسة لهذا الغياب.
أوال؛ الرؤية األخالقية التي تؤسس النموذج األخالقي القروسطي تهمش قيمة
الصداقة. الحدس، الذي يتضمن هذه الرؤية ويعطيها وحدتها ويفرز املبدأ األعىل
للتقييم األخالقي، ال يحتوي بجوهره عىل حاجة أو مكانا لقيمة الصداقة ضمن
)٭( Deontology، دراسة طبيعة الواجب وااللتزام. ]املحرر[.

155
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
الطيف الواسع للقيم األخالقية والدينية. يتضمن هذا املبدأ ادعائني: )أ( ندرك الخري
األسمى عندما نرى، أو نقابل، الجوهر اإللهي بصورة مبارشة يف الحياة القادمة.
السعادة هي البهجة أو املرسة التي نشعر بها يف أثناء هذه الرؤية. ومبا أن موضوع
هذه الرؤية أبدي فإن السعادة املستمدة منها ستكون بالرضورة أبدية. هل ميكن
لشخص عاقل أن يتوقع خريا أكرث سموا من هذا الخري؟ )ب( بحد ذاته، وبصورة
منعزلة، فإن هذا املبدأ مجرد. ولهذا السبب ال ميكن تطبيقه يف حاالت بعينها، ألن
السؤال املهم هو كيف ميكن تحقيق السعادة يف هذه الحالة الجزئية؟ ميكن أن
أعرف أن الهدف األعىل لحيايت هو أن أقابل **** وأبقى بصحبته إىل األبد. ميكن يل
أن أؤمن بأن هذا الهدف هو أعىل هدف ميكن تصوره، وميكن يل أن أرغب يف هذا
الهدف بكل قواي وأجعله أول أولويات حيايت. ولكن السؤال يبقى كيف ميكن يل
أن أحقق هذا الهدف؟ أو، ما هي الخطوات العملية التي يجب اتخاذها فعليا؟
وفق النظرة األخالقية الكامنة يف النموذج األخالقي القروسطي، **** مصدر الخري
األسمى ووسيلة تحقيقه. ويف الواقع، الفضيلة وسيلة تحقيق هذا الخري: السبيل
التي تؤدي إىل الحضور اإللهي هي الحياة الفاضلة، وتكون حيايت فاضلة عندما
أسري وفقا للقواعد التي ترتكز عىل القيم التي أوىص بها **** ـ اإلميان، واألمل،
واإلحسان. الفضائل تنبثق عن الخري األسمى، والكالم عن هذا الخري له معنى فقط
بقدر ما يرتجم إىل كالم عن هذه القواعد، ألنها هي التي متنح هذا الخري بنيته
الخاصة – شيئا يرتكز عليه – ويف الواقع فهي التي ُت ّعرف فكرة هذا الخري. ومبا أن
القواعد األخالقية هي مبادئ الفعل األخالقي، فإن العيش وفقا لها يشكل الطريق
الذي يؤدي إىل ****. ولكن إذا كانت هذه القيم – أو القواعد – يف الحقيقة، هي
الخري األسمى والطريق الذي يؤدي إىل تحقيقه، وإذا كانت الطريق الذي رسمه
****، فهل بإمكان أي كاهن أو الهويت أو فيلسوف أن يعدلها بأي طريقة؟ هل
هناك أي يشء آخر ميكن للفرد أن يفعله ليك يحقق السعادة األبدية؟ وهل يوجد
أي هدف أهم من هذا الهدف؟ أثري هذه األسئلة بطريقة درامية فقط ليك أشدد
عىل أن غياب قيمة الصداقة بوصفها قيمة أخالقية يتسق منطقيا مع التصور
القروسطي للخري األسمى. فإن أقررنا بأن **** هو من قرر مصري اإلنسان، وقرر
أيضا الخطوات النظرية والعملية الرضورية لتحقيق هذا املصري، فال بد لنا أن نقر

156
الصداقة
ّ بأنه ال يجوز لنا أن نعدل ما رشعه هذا املؤلف. السبب الرئيس لغياب الصداقة
عن نظرية األخالق القروسطية هو أنها غري رضورية لتحقيق السعادة. ميكن
للبرش أن يشكلوا صداقات مع أفراد معينني، وميكن لهم أن يستمدوا رخاء نفسيا
واجتامعيا وماديا منهم، ولكنهم يجب أن يعرفوا أن الصداقة ال تؤمن السعادة
األبدية. أي رضا ينتج من سعي أو إبداع إنساين هو سطحي وعابر إذا ما قورن
بعمق الرؤية اإللهية املبهجة. مل تكن مصادفة وصية **** بالقيم الرئيسة ـ اإلميان
واألمل والحب ـ كأساس للحياة الفاضلة، فهذه املبادئ هي وحدها التي أوىص بها
**** لتهيئة املؤمنني للسعادة األبدية.
ُ ثانيا، خلق الناس ليك يتحقق مصريهم يف ****، وهم مجهزون باملقدرة عىل
أن يدركوا الجوهر اإللهي بصورة مبارشة. هل ترى يوجد يف الطبيعة اإلنسانية
ميل جوهري إىل العودة إىل مصدرها؟ هو يوجد جوهر مبهج أعظم من الحضور
اإللهي؟ عىل عكس أي نوع آخر من الخلق، فالكائن اإلنساين مصنوع من )أ( جسد
)ب( روح. الروح مركز التفكري والشعور واإلرادة والفعل. وهى ّ تعرف اإلنسانية،
بيد أنها معطاة كإمكانية )potentiality)، ولهذا فهي بحاجة إىل تحقيق وتكميل.
عملية تحقيقها هي رسالتنا يف هذه الحياة – أي، أن نصبح ذواتنا اإلنسانية. الرغبة
)اإلرادة، الشهية( أو السعي من أجل السعادة األبدية، والسعي إىل تحقيقها يف
****، جزء جوهري من اإلمكانية اإلنسانية. الكائنات اإلنسانية متتلك رغبة طبيعية
للسعي من أجل السعادة األبدية. أول من و ّضح هذه النقطة هو أوغسطني. فقد
جادل بأن الرغبة يف السعادة كلية، وأن **** هو هدفها األعىل: »عندما أسعى من
أجلك، يا إلهى« كام قال »فإن سعيي هو من أجل الحياة السعيدة. سأبحث عنك
ألنني »أريد لنفيس أن تحيا« )اشعيا :33 55(، ألن جسدي يستمد الحياة من نفيس،
ونفيس تستمد الحياة منك. كيف ميكن يل، إذن، أن أبحث عن الحياة السعيدة؟
... أليست الحياة السعيدة هي التي ينشدها الجميع والجميع صائب يف التوق
)15(. ولكن السؤال املفصيل، يتساءل األكويني، هو ما إذا كنا نبحث عن
إليها؟«
السعادة بالرضورة أم كاختيار حر؟ هل نرغب أو نريد السعادة ألن **** وضع الرغبة
ووسيلة تحقيقها فينا؟ إذا كان **** قد وضع الرغبة ووسيلة تحقيقها فينا، فام هي
ميزة )merit )السعي من أجلها والتمتع بها؟ يكتسب هذا السؤال أهمية استثنائية

157
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
خصوصا إذا اعرتفنا بأن تحصيل السعادة الكاملة غري ممكن من دون مساعدة من
****. كيف ميكن للكائنات اإلنسانية، املحدودة والناقصة جسديا وعقليا أن تراه
سبحانه بجهدها فقط؟ »أي معرفة وفقا لنمط الجوهر املخلوق ال تستطيع رؤية
الجوهر اإللهي الذي يتجاوز كل جوهر مخلوق، ألن ال اإلنسان وال أي مخلوق آخر
)16(. ولكن تلقي العون يف هذه

يستطيع تحقيق السعادة النهائية بقواه الطبيعية«
املهمة البالغة الصعوبة من **** ال يعني، بالرضورة، أن السعي من أجل السعادة
ليس مسؤولية إنسانية. بالتأكيد هي مسؤولية إنسانية. إن ما هو طبيعي، وهذا
رضوري، هو الرغبة يف السعادة الكاملة: جميع الناس بالطبيعة يرغبون يف السعادة
الكاملة، ولكن السعي من أجل رؤية ****، الذي هو مصدر هذه السعادة ليس
طبيعيا. مبعنى أنه ليس مغروسا يف الطبيعة اإلنسانية، لكنه، مبعنى خاص، رضوري.
فعندما نتمعن الخريات املتعددة املتاحة لنا بضوء العقل نكتشف أن رؤية **** هي
الخري األسمى ومصدر السعادة الكاملة. إذن، فإذا كانت الرغبة يف السعادة طبيعية،
وتتميز باألولوية، فإنه يجوز لنا االستنتاج منطقيا أننا ال نستطيع أن نختار أن ال
نختار. بكلامت األكويني »من ناحية أخرى، إذا عرض عىل اإلرادة موضوع غري جيد،
من أي وجهة نظر، فبحكم الرضورة سوف ال نرغب فيه، مبا أن غياب أي خري هو ال
خري. إذن، الخري وحده، الكامل الذي ال ينقصه أي يشء، هو ذلك الخري الذي ال ميكن
)17(. بإمكان الناس أن يعرفوا ما هو

أال نرغبه )نريده(، وهذا الخري هو السعادة«
خري أو حق، ولكن بإمكانهم أن يختاروا أال يفعلوه، وبإمكانهم أن يعرفوا ما الذي
يسعدهم، ولكن بإمكانهم أن يختاروا أال يسعوا من أجل السعادة. سوف ال أعلق
مبا إذا كان هذا الـــرأي ضعيفا أو قويا أو مقنعا. تطرقت إليه بصورة رسيعة فقط
ليك ألقي بأكرب قدر من الضوء عىل طبيعة الخري األسمى.
غري أنه وفقا للفالسفة القروسطيني، ال يكفي التنظري حول طبيعة الخري األسمى،
بل يجب أن يشمل التنظري أيضا وسيلة تحقيقه، أي، الفضيلة – الفضيلة اإلنسانية
والدينية. الفضيلة وسيلة التحقيق الذايت عىل املستوى اإلنساين. وهي ليست مبدأ
التمييز األخالقي األسمى فقط، لكنها أيضا الخري األسمى. هل كان جهد الكنيسة
بجعلها مبدأ التنظيم االجتامعي والرتبوي والفني واالقتصادي والسيايس مصادفة؟
واآلن، إذا كانت الفضيلة املبدأ األعىل لحياة اإلنسان فال بد لها أن تكون أساس

158
الصداقة
جميع املؤسسات الثقافية، ألن حياة اإلنسان ليست محصورة يف البيت أو يف مكان
العمل، ولكنها تشمل جميع مجاالت التجربة اإلنسانية. وإحدى املشاكل األكرث
صعوبة يف هذه األيام يف مجال الرتبية األخالقية عىل مستوى التنظري واملامرسة هي
انتشار عدم االتساق (inconsistency (يف السلوك األخالقي. وكام يبدو، فطريقة
السلوك األخالقي تختلف من مكان إىل آخر بالنسبة إىل الشخص الواحد – البيت،
مكان العمل، الصداقة، السوق، املدرسة، النادي – وتختلف أيضا يف طريقة املعاملة
بني أعضاء األرسة، وبني أعضاء األرسة والجريان أو الغرباء. أو حتى بني األصدقاء.
ال بد للطفل الذي ينمو يف البيت أن يرتبك وسط هذا التنافر أو عدم االتساق يف
السلوك األخالقي. إذ كيف ميكن أن يتعلم الثقة بالقيم النبيلة والقواعد األخالقية
إذا مل متارس باتساق من قبل من يعلمونه إياها، واملفروض أن ميارسوها؟ مثال،
هل باستطاعة األطفال أن يصدقوا والديهم الذين يفرضون عليهم السلوك الصادق
عندما يكتشفون، عاجال أو آجال، أن والديهم والناس حولهم ال يسلكون بصورة
صادقة، أو ال يأخذون الصدق بعني الجد؟ رمبا كانت تربية الشخصية األخالقية
هي السبب الرئيس الذي دفع بالكنيسة القروسطية إىل أن يكون لها حضور جدي
يف جميع مؤسسات املجتمع – ليك تتأكد من أن رشوط تحقيق الحياة الصالحة
والخالص والسعادة قد تأمنت.
ال أخطئ كثريا إذا قلت إنه عىل املستوى اإلبيستمولوجي واألنطولوجي
)٭(، بحسب املجتمع القروسطي، فالله هو الخري األسمى. ولكن

واإلكسيولوجي
بالنسبة إىل الفالسفة والالهوتيني والكهنة واملواطنني، مل يكن **** كائنا مجردا بل إله
شخيص ومحب وحكيم ومتجاوب. لقد أظهر حقيقة طبيعته وكلمته بابنه. وكانت
هذه الحقيقة أساس نظرة العامل القروسطية. كانت أيضا أساس منوذجه الثقايف. فقد
احتوت خطة ترشح وسيلة تحقيق الخري األسمى. وكام رأينا، كان مبدأ هذه الوسيلة
الفضيلة اإلنسانية والدينية. وبقدر ما ميكن تصور الفضائل اإلنسانية ومامرستها،
فهذه الفضائل اإلنسانية كانت امتدادا للفضائل الدينية: هدفها الوحيد هو تنمية
الشخصية األخالقية، ذلك النوع من الشخصية الذي يهيئ الفرد للخالص وللسعادة
)٭( Axiology، دراسة القيم األخالقية و/أو الجاملية. ]املحرر[.

159
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
األبدية. تستمد القيم اإلنسانية معناها وصحتها من القيم الدينية، ألن القيم الدينية
مؤسسة يف الحقيقة اإللهية. ولكنها، بحد ذاتها ليست كافية لتحقيق الخري األسمى،
ألنها تؤدي إىل الكامل اإلنساين يف هذا العامل فقط. ولكن مصري اإلنسان، بالنسبة
إىل الفالسفة القروسطيني، ليس يف هذا العامل بل يف العامل اآلخر. الفضائل اإلنسانية
ليست معنية بالشخصية الدينية للكائنات اإلنسانية، لهذا الـسبب يجب فهمها
وتطبيقها وفقا للقيم الدينية: اإلميان واألمل واإلحسان. وبطبيعتها، فهذه الفضائل
تستهدف الخالص والحياة األبدية، وتساعد عىل تثبيت نظرنا عىل هدفنا الرئيس.
أوال، ألنها تتطلب اعتقادا راسخا بالحقيقة الكامنة يف الوحي وباألمل بالخالص
والحياة األبدية؛ وثانيا، ألنها تنري الطريق الذي يؤدي إىل تحقيق هذا الهدف: املحبة.
املؤمن هو ذلك النوع من اإلنسان الذي يستمسك باملعتقدات املتضمنة يف حقيقة
الوحي، والذي يتميز بإميان راسخ بوعدها، إذ كيف ميكن له أن يعيش حياة الحب
إن مل يكن متأكدا من دون أدىن شك أن هذه الحياة ستؤدي إىل الحياة األبدية؟
حياة الحب التي مثلها املسيح بأفعاله ليست سهلة، ألنها تتطلب انفتاحا مؤملا ضد
قوى الرش بجميع أنواعه، وتكريسا دامئا للكامل اإلنساين، وسعيا دامئا إىل مساعدة
البرش والعناية بهم، وقبل كل يشء، رغبة حارة يف الوجود أمام الحضور اإللهي. هذا
املطلب صعب جدا يف عامل مملوء بالجهل والفقر والكراهية والتعصب األعمى
واالستغالل والظلم، عامل يثمن اللذة واملجد االجتامعي والقوة والرضا الشخيص
واملال أكرث من أي يشء آخر. ملاذا يتعني عىل البرش اختيار طريقة الحياة الصعبة
إذا مل يتأكدوا بصورة مطلقة من أنهم سريثون فيام بعد ملكوت الساموات؟ هذا
السؤال املركزي يستدعي مالحظتني: أوال، حياة املحبة وسيلة إىل هدف هو السعادة
األبدية. ثانيا، نوع املحبة التي تقربنا من **** هي محبة اإلنسان، مبا فيها محبة
أنفسنا. وعند األغلبية من أعظم الفالسفة القروسطيني تشديد عىل هذه النقطة
بقوة. ينبوع محبتنا *** يتدفق أكرث، بغزارة، كلام ازدادت محبتنا للناس. وبالتايل،
فمحبتنا للناس تظهر محبة **** للناس. بهذه الطريقة نكتشف معنى محبتنا ***
يف محبتنا لإلنسان، وهذه املحبة تشكل فينا دافعا للبحث عن **** باعتباره الخري
األسمى. عالوة عىل ذلك، فنحن ندرك معنى وعظمة املحبة اإللهية كلام ازدادت
محبتنا ألخينا اإلنسان. يشـكل هذا اإلدراك حافزا للنمو والتطور اإلنساين، ملحبة

160
الصداقة
الحياة، وهكذا تصبح املحبة قوة بناءة، وعندما تصبح هذه القوة جامعية، تحول
»مدينة اإلنسان« إىل »مدينة ****«.
دعونا نركز انتباهنا اآلن عىل محبة الجار، ألنها الطريق إىل محبة **** ومن ثم
إىل السعادة األبدية. إن كل ما هو مطلوب من املسيحيني هو تحقيق هذا الهدف،
وذلك بتنظيم حياتهم حول هدف نرش أكرب كمية ممكنة من املحبة يف حياتهم
وحياة اآلخرين. يف الحقيقة، ليست لديهم القدرة أو الوقت الكايف الختيار شخص
أو شخصني كأصدقاء لتحقيق طبيعتهم االجتامعية. وإذا حاولوا اختيار هذا الطريق
فإنهم سيفشلون يف السعي وراء الحياة األبدية. ولكن قيمة هذه السعادة أعظم
بكثري من السعادة املستمدة من صداقة شخص. وبحسب الفالسفة القروسطيني،
فالصداقة عالقة حرصية )exclusive)، ألنها تستبعد اآلخرين من فعل املحبة.
ولكن املحبة الحقيقية كلية وشاملة، فهي تشمل كل كائن إنساين. أمل يحب املسيح
اإلنسانية؟ عندما طرح تالميذه سؤاال عن إخوته، أجابهم أن كل الكائنات اإلنسانية
ُ ُخ ّوة«
التي تحتاج املحبة إخوته. يف العصور الوسطى، وفقا لبعض املعلقني، فإن »األ
ّت محل
)brotherhood )حلت محل »الصداقة«، واملحبة املسيحية »agape»، حل
»الهوى«أو األلفة )philia). فاألخوة هي نوع املحبة الخاصة باملسيحية. لهذا
السبب مل تكن الصداقة، وال ميكن أن تكون، بهذه القيمة ألنها ليست سبيال يؤدي
إىل ****. كام نرى، فاستبعاد الصداقة عن أي اعتبار أو تنظري أخالقي يكمن يف الرؤية
األخالقية التي تؤسس النموذج األخالقي القروسطي. إن أقررنا بأن **** هو مؤلف
العامل، مبا فيه الحياة اإلنسانية، وأن الرؤية املبارشة *** هي الهدف األسمى لإلنسان،
وأن محبة اإلنسان هي السبيل لتحقيق هذه القيمة، فام الذي مينع املسيحيني
من االرتداد عن هذه السبيل، بغض النظر عام إذا كان االرتداد نظريا أو عمليا؟
استنتاج هذه القضية ليس اعتباطيا لسببني: أوال، ألنها تنبع منطقيا من املقدمة،
وثانيا، فالفالسفة القروسطيون برروا استبعاد الصداقة من التنظري األخالقي بناء
عىل االعتقاد الراسخ بأن النموذج األخالقي الذي كانوا يعيشونه، والذي حدد مادة
وإطار تنظريهم األخالقي، مل يسمح لهم باعتبار الصداقة قيمة أخالقية كبقية القيم
األخالقية األخرى، مثل العدالة واملحبة. ويف تحليلهم للسعادة انطلقوا من قضية
أن **** هو الخري األسمى. وإذا افرتضنا أن هذه القضية صادقة، فال بد من استنتاج

161
الصداقة يف نظرية أخالق العصور الوسطى
أن السبيل إىل هذا الخري هو محبة ****. فام الذي يدفع الفرد إىل أن يعترب الصداقة
مصدرا للسعادة إذا كان يعرف أن **** هو مصدر السعادة الحقيقية؟
مل يرتكز استبعاد الصداقة من النظرية األخالقية القروسطية عىل تحليل منطقي
وتجريبي ملفهوم إنسانية الكائن اإلنساين أو الرشوط الكافية لتحقيق إنسانيته،
ولكن عىل الحقيقة الكامنة يف الوحي، واملؤسسة عىل مصدر يفوق الخربة البرشية.
تحتوي هذه الحقيقة عىل تصور للطبيعة اإلنسانية وملبدأ كاملها. ولكن ما الذي
يلزمنا بقبول ادعاءات القائلني بهذه الحقيقة؟ أثري هذا السؤال ال ليك أقلل من
قيمة اإلميان الديني أو ليك أستخف به، ولكن ليك أسلط الضوء عىل فهمنا املتزايد
لقوى الطبيعة اإلنسانية عىل املستوى العاطفي والعقيل واملادي يف مسرية التجربة
التاريخية: الحضارة. هل يجوز لنا تجاهل شهادة هذه التجربة؟ لنفرض أن هذه
الشهادة تتعارض يف بعض نواحيها مع حقيقة الوحي؟ عىل سبيل املثال، لنفرض أننا
اكتشفنا أن الصداقة جوهرية للسعادة وأنه ال ميكن للناس، هنا عىل هذه األرض،
أن يحققوا كاملهم من دونها؟ ماذا نفعل؟ هل الصداقة تتعارض مع املحبة كام
علمنا إياها املسيح؟ أميل إىل اعتقاد أن أي نظرية أخالقية تتعرض لالتهام بالنقص،
أو عدم الكفاءة، إن مل تأخذ بعني االعتبار، يف محاولتها تفسري الحياة الصالحة شهادة
التجربة اإلنسانية التي تطالب بالحاجة املاسة إىل الصداقة، وإىل الحاجيات األساسية
للطبيعة اإلنسانية، بناء عىل صوت العقل، وإال فستصبح وسيلة لتربير نظرية
فلسفية أو دينية أو أيديولوجية. لقد كان الفالسفة القروسطيون مخلصني لنموذج
ثقافة عرصهم، لكنهم مل يكونوا مخلصني ألصوات العقل والتجربة. اعتقدوا، كنتيجة
النحيازهم للنموذج الثقايف السائد، أن الصداقة تتضارب مع التصور املسيحي للحياة
الصالحة، وبصورة أدق مع التصور املسيحي للمحبة. ناقش ميالندر هذا النص
بالتفصيل يف كتابه القيم »الصداقة: دراسة يف األخالق الالهوتية«. اعرتف ميالندر
بأنه يوجد توتر جدي بني املحبة املسيحية »agape »والهوى أو األلفة »philia».
وجادل بأن التوتر متأصل يف النظرة املسيحية للحياة األخالقية، ألن الهوى نوع
انتقايئ من املحبة بينام املحبة املسيحية نوع شامل من املحبة. فإذا ّطور شخص
ما صداقة جدية مع شخص آخر فإن هذه العالقة سوف ّ تحد من قدرته عىل
مامرسة املحبة املسيحية. وعىل رغم أن ميالندر يعرتف بهذا التضارب ويشدد عىل

162
الصداقة
ّ أنه يجب أن يكون للصداقة مكان يف النظرية األخالقية املسيحية، بيد أنه يقر
بأنه من الصعب التخلص منه. وهو يذكرنا أكرث من مرة بقول جريميي تايلور:
)18(. نعم،
»عندما كانت الصداقات أنبل األشياء يف العامل، فإن اإلحسان كان قليال«
يف الحقيقة، قد يصبح اإلحسان قليال إذا كانت الصداقة عنرصا جوهريا يف السعي
من أجل الخري األسمى. ولكن الواجب األوىل للمسيحي، كمسيحي، هو نرش املحبة
بني جميع الناس وليس فقط بني شخصني. ولكن ملاذا يعتقد ميالندر أنه يجب أن
يكون للصداقة مكان يف النظرية األخالقية املسيحية لوال أن منط تفكريه ّ يقر ضمنيا
بالحاجة إىل أن نأخذ بعني االعتبار الحاجة العقلية والوجودية للطبيعة اإلنسانية؟
هل التضارب بني املحبة املسيحية »agape »والهوى »philia »حقيقي، مبعنى
أنه من املستحيل أن يتعايشا معا؟ مسألة ما إذا كان هذا التضارب حقيقي أو غري
حقيقي، وما إذا كان بإمكان النظرية األخالقية املسيحية استيعاب الصداقة كقيمة
أخالقية مركزية أو ال، مل تكن أبدا موضوع هذا الفصل. كان اهتاممي، الرئييس، أوال،
هو البحث عن أسباب استبعاد الصداقة من النظرية األخالقية القروسطية. وثانيا،
تفسري مصدر ّ تحول النموذج األخالقي. وثالثا دعم ادعاء أن الفالسفة القروسطيني
مل يأخذوا بعني االعتبار حقيقة أن الصداقة حاجة إنسانية جوهرية، وبالتايل، رشط
رضوري لتحقيق الحياة الصالحة.

1 - النموذج الثقايف الحديث:
املالمح األساسية
عىل الرغم من أنها متجذرة يف النامذج
الثقافية الهلنية والهلنستية القروسطية، فإن
الثقافة األوروب�ي�ة الحديثة التي متتد من
القرن الرابع عرش إىل القرن العرشين فريدة
بإنجازاتها، بارزة برثاء هذه اإلنجازات وعمقها،
ورائعة بتقدمها يف مجاالت الحياة الرئيسة:
الفن والتكنولوجيا والعلم والرتبية والسياسة
واالقتصاد. هل هي مصادفة أن يرتدد صدى
هذه اإلنجازات يف جميع أنحاء العامل طوال
القرن املايض؟ هل هي مصادفة أن تصبح هذه
اإلنجازات بذاتها، الدافع العميل للتقدم الروحي
وامل��ادي يف جميع أنحاء العامل؟ عىل الرغم
من ذلك كله، فأنا أدرك أيضا ضعف وقصور
وإخفاقات وأخطاء املجتمع األورويب الحديث
الفادحة، كام أدرك ضعف وقصور وإخفاقات
الصداقة
يف النظرية األخالقية احلديثة

»عىل الرغم من أن جميع
النظريات عمليا كانت تربط فعل
الخري بالسعادة )eudemonistic(،
فإن الصداقة همشت كقيمة
مركزية يف عملية التنظري األخالقي
ومن ثم كرشط للسعادة«
5

164
الصداقة
وأخطاء الشباب الفادحة، نساء ورجاال يف مختلف الجامعات األوروبية الحديثة.
وأيضا أدرك مدى سوء فهم الحضارة األوروبية الحديثة من قبل النقاد املعارصين
وامليل إىل لومها عىل معظم املصائب التي حلت بالعامل الغريب يف القرن العرشين.
ويف تقييم حياة مجتمع، ما علينا سوى أن نوجه انتباهنا، بكل موضوعية، إىل املدى
الذي يبلغه ذلك املجتمع، بصورة نشيطة ومنتجة، بالحاجات واألمنيات والقدرات
الكامنة يف الطبيعة اإلنسانية، ال بصورة مجردة بل يف سياق الحقبة التاريخية التي
يعيش ويزدهر فيها. هنا أفرتض مع أفالطون وأرسطو أن أي كائن، طبيعيا كان أو
إنسانيا، يحقق كامله بقدر ما يحقق نوع طبيعته الفردية، أي العنارص األساسية
التي تشكل جوهره الفردي. البرش ينجزون نوع فرديتهم وشخصيتهم يف عملية
الحياة اليومية التي يعيشونها منذ اليوم األول إىل اليوم األخري من حياتهم. يتطور
جوهرهم الفردي ويظهر يف هذه العملية. العيش يف الجوهر الذايت هو غاية الفرد،
ويف الواقع، سبب وجوده ككائن إنساين، ألن حياة الكائن اإلنساين، بقدر ما هو كائن
إنساين، هي مغامرة. ويرسي هذا أيضا عىل حياة املجتمع أو الثقافة. ولكن املغامرة
ليست مجرد حدث أو »عملية«، وليست صنع أي نوع من األدوات يف املصانع.
كال، إنها حدث جرى صنعه عىل نحو إبداعي؛ مرشوع جرى تصوره وتحقيقه عىل
ٍ نحو مبدع. إنها »عمل فني«. ما سوف يحدث يف املستقبل القريب أو البعيد يف
حياة املجتمع، حتى ولو خططنا له، هو دامئا استجابة للموارد الطبيعية واإلنسانية
والتحديات التي نواجهها يف ذلك الوقت. قد نصمم خطة مستقبلية، ولكن عملية
تنفيذها دامئا تنطلق من توقع مثايل، ألننا ال نستطيع التنبؤ أو السيطرة عىل
حوادث الحياة اإلنسانية يف املستقبل الوشيك. الدهاء والحرص والتنبؤ والعزم
والبصرية العقلية رشوط رضورية لتحقيق النتيجة املرغوبة أو املمكنة. وأعتقد أنه
من املناسب وصف الحياة اإلنسانية عىل مستوى الفرد أو الجامعة كمغامرة. ال
ميكن الحكم عىل املغامرة، أو عىل أي مرشوع، بناء عىل األخطاء أو اإلخفاقات
التي يقرتفها الناس يف هذه املرحلة أو تلك من القيام بالفعل أو املرشوع، بل بناء
عىل اإلنجاز ككل. يجب أن تكون النتيجة معيار تقييم الفعل أو املرشوع؛ إىل أي
حد قدم الفعل أو املرشوع خريا؟ إىل أي حد اقرتبت النتيجة من توقعاتنا؟ نحن
نثمن املغامرة العظيمة يف مسرية الحضارة اإلنسانية بناء عىل الدور الذي لعبته يف

165
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
تقدم ومنو الثقافة اإلنسانية، بناء عىل مقدرتها عىل خلق الرشوط املرغوب فيها
لتثقيف العقل عىل مستوى اإلنسانية. ال ميكن تقدير السلبيات املادية التي تنتج
عن املغامرة والعمل عىل تجنبها يف املغامرة التالية إال عندما نعرتف بهذا املبدأ.
علينا أن ننظر إىل املغامرات السابقة كمصدر لإللهام واملعرفة والنمو اإلنساين. هذا
مطلب عقيل وأخالقي ألنه ينبثق من صميم الجوهر اإلنساين. لهذا السبب، عندما
نستثمر إنجازات مغامرات الثقافات السابقة بصورة أنانية أو اعتباطية أو حمقاء،
عندما نتجاهل أو نحبط الرغبات والحاجيات واألمنيات اإلنسانية، عندما ال نصغي
إىل رصخة الحرية وصوت العقل الذي ينطلق من أعامق الروح اإلنسانية، فبكل
تأكيد سوف نكرر األخطاء والسلبيات الفادحة التي اقرتفت يف املايض وكانت عائقا
لتقدم اإلنسانية طبعا بطرق مختلفة وبدرجات متفاوتة.
والقول إن الثقافة األوروبية الحديثة متواصلة مع ثقافة القرون الوسطى يتضمن
القول إن قيم ومعتقدات العرص الحديث ولدت من رحم الثقافة القروسطية. من
الصعب، إن مل يكن من املستحيل، الكالم عن تواصل بينهام من دون افرتاض هذا
النوع من الوالدة. »س« تتواصل مع »ص« فقط عندما تستمر عنارص جوهرية
من »س« أو تبقى يف »ص«، وإال انعدم كل أساس للتواصل بينهام. ولكن التواصل
بني الثقافات القروسطية والحديثة مل يكن عقليا فحسب، ولكن أيضا وجوديا
تاريخيا، ألن أوروبا الحديثة هي عىل تواصل مع أوروبا القروسطية جغرافيا ودينيا
واجتامعيا وسياسيا وعلميا وفلسفيا. مل يكن بينهام انقطاع زمني أو مادي. فقد
تدفق الزمن القروسطي يف الزمن الحديث برسعة جديدة، ومبقدار واتجاه جديدين،
ولكن الرتسبات الثقافية التي جلبها معه نضجت وحققت إنجازات رائعة: الصفات
األساسية )أو املثل( التي أعطت الحداثة هويتها وتكاملها ـ السعي من أجل الحرية
يف حياة الفرد واملجتمع، االعتامد عىل التفسري العلمي ملختلف الظواهر، أولوية
الرتبية اإلنسانية، بناء املؤسسات االجتامعية ـ اختمرت يف رحم هذه الرتسبات. وهذا
بالذات أعطى القوة الكافية للتحول الثقايف يف مجرى الحياة القروسطية. عالوة عىل
ذلك، كانت هذه الصفات كامنة يف طريقة تنظيم املؤسسات الدينية والعلمية
واالجتامعية والسياسية، ويف طريقة خلقها لجو يساعد عىل النمو الثقايف والتفكري
العلمي. نحن نخطئ إن ظننا أن العصور الوسطى كانت مظلمة، أي إن اعتقدنا

166
الصداقة
أنها كانت غارقة يف الجهل والفقر والعنف والخرافة. لقد تركت إنجازاتها يف املنطق
وامليتافيزيقا والفن والتحليل الالهويت والرتبية األدبية والتنظيم االقتصادي والسيايس
واملهارة يف التحليل السيايس، وحتى يف البحث العلمي، أثرا دامئا يف جوهر وتوجه
الحضارة الغربية. العلامء الذين درسوا يف جامعات أملانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا
وإنجلرتا هم أنفسهم الذين بدأوا النهضة الثانية يف إيطاليا؛ والقادة السياسيون
الذين حكموا املجتمع اإلقطاعي يف مختلف أنحاء أوروبا هم أنفسهم الذين مهدوا
الطريق لنهوض الدول الوطنية، وخلقوا الظروف الالزمة لتنظيم العالقات الدولية؛
والتجار الذين أرشفوا عىل حياة املجتمع االقتصادية هم أنفسهم الذين أصبحوا
املريكانتاليني، وفيام بعد الرأسامليني يف العامل الحديث؛ والرهبان والكهنة الذين
كافحوا من أجل سيادة الكنيسة هم أنفسهم الذين أدوا دورا مفصليا يف تجزئة
وتهديم سلطة الكنيسة وأيضا إصالحها؛ والالهوتيون الذين دافعوا عن مركزية
الكنيسة يف جميع ميادين الحياة هم أنفسهم رسموا الخطوط التي يجب أن تفصل
املجال الديني عن املجال العلامين؛ واألرستقراطيون الذين سلموا بأولوية الربح هم
أنفسهم الذين أخذوا عىل عاتقهم عملية اكتشاف أمريكا والهند والصني، ومهدوا
الطريق لنهوض الهيمنة األوروبية عىل العامل؛ وعلامء الفلك والرياضيات الذين
انبهروا بالخلق اإللهي الكوين هم أنفسهم أشعلوا نار الثورة العلمية؛ واملعلمون
الذين هيأوا الرجال والنساء للخالص وللحياة األبدية هم أنفسهم الذين حملوا
مشعل الحرية اإلنسانية إىل الجيل املقبل بشجاعة، ودافعوا عن الحاجة إىل تأسيس
نظم ثقافة عاملية.
ولكن التحول من القروسطية إىل الحداثة وبالتايل من طريقة حياة إىل طريقة
حياة أخرى، مل يكن عملية بسيطة أو رسيعة. أوال، احتاجت العملية إىل ثالثة قرون،
وكانت حدثا هائال. ثانيا، سببت عدة تغريات وتطورات. ُي ّقسم املؤرخون العرص
الحديث إىل أربع مراحل: النهضة، التنوير، القرن التاسع عرش، القرن العرشون.
التحول الثقايف الذي أدى إىل أوروبا الحديثة اختمر واكتسب هويته يف مرحلة
النهضة. يف هذه املرحلة بدأت أوروبا باالنفصال عن العصور الوسطى وبتنمية
هويتها الثقافية. يف فضاء هذا الوعي ولدت القيم واملعتقدات التي جعلت الحداثة
إمكانية قابلة للتحقيق. وعىل الرغم من أن روح هذه القيم واملعتقدات كانت ترقص

167
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
ببهجة يف عقول الفالسفة والشعراء واملعامريني وكتاب املقالة والنحاتني واالقتصاديني
والسياسيني وعلامء الفيزياء والتجار واملزارعني، فإن الناس الذين عاشوا يف هذه
الحقبة الزمنية - يف عرص النهضة - مل ينظروا إىل أنفسهم كأبناء عرص حديث. ويف
الحقيقة مل يدركوا أنهم يف مرحلة انتقال من نوع من الثقافة إىل نوع آخر. مل
يدركوا أنهم كانوا مخططي تحول ثقايف هائل ومهندسيه وجمهوره. ومع ذلك كانوا
معجبني باالكتشافات الجديدة التي كانوا يقومون بها. نضجت مثار عملهم يف القرن
الثامن عرش، يف عرص التنوير. وعندما أقول نضجت، أعني أن املؤسسات الرئيسة،
التي شكلت نسيج املجتمع الحديث، والتي عربت عن معتقدات وقيم رؤية جديدة
للعامل، جرى تأسيسها يف هذه املرحلة. عندئذ أصبح الناس، وخصوصا الطبقة املثقفة،
عىل علم بأنهم يعيشون يف زمان جديد، وأن ثقافتهم حديثة جديدة مقارنة بثقافة
القرون الوسطى. اكتسب العلم والفن والفيزياء واالقتصاد درجة عالية من االستقالل
الذايت. وتأسست الدولة الوطنية بوصفها كيانا قانونيا ذا سيادة، وتأسس نظام من
العالقات واالتفاقات الدولية. وكام سوف أبني، فقد أصبح العقل ال اإلميان، أساس
الحياة الحديثة، وصار مسلام به كمرشد يف التنظيم السيايس واالجتامعي واالقتصادي
والفني والفلسفي. ولكن عىل الرغم من أن املجتمع األورويب الحديث ارتقى إىل
درجة عالية من الوعي الذايت، فإنه مل يبدأ بتنفيذ مثله السياسية واالجتامعية حتى
القرنني التاسع عرش والعرشين. وعىل سبيل املثال، فالحرية كقيمة عليا، مل تتأصل
كطريقة تفكري سيايس حتى الثورة األمريكية وبعدها الثورة الفرنسية. هاتان الثورتان
نرشتا موجة من اإلصالح السيايس يف جميع أنحاء أوروبا. ومثار املعرفة العلمية مل
تصبح جزءا من الحياة االجتامعية والسياسية واالقتصادية إال عندما بدأت مسرية
الثورتني الزراعية والصناعية. ومل تندمج الروح الدميوقراطية يف الحياة السياسية
إال عندما تبنت الدول األوروبية فكرة التعليم اإلجباري. فهل يعد قول ديوي أن
التعليم حجر زاوية الدميوقراطية نوعا من املصادفة؟ الفردية كرشط لالزدهار
اإلنساين مل ترتق لتصبح قيمة مركزية إال عندما تم االعرتاف بالحقوق اإلنسانية،
بواسطة ضامنات قومية ودولية يف القرنني التاسع عرش والعرشين. وعىل الرغم من
الهجوم الرشس ضد الحداثة يف النصف الثاين من القرن العرشين، فإن عددا كبريا
من الفالسفة واملؤرخني جادلوا بأن هذا الهجوم هو يف غري مكانه وسابق ألوانه،

168
الصداقة
ليس فقط ألن مثل الحداثة مل تطبق كليا بعد أو بصورة وافية، ولكن أيضا ألن
عملية التطبيق مستمرة. فهل الدميوقراطية حقيقة واقعة؟ هل تحققت العدالة
االجتامعية؟ هل املجتمع الغريب مجتمع إنساين؟ هل األجيال الصاعدة مثقفة باملثل
واألمنيات اإلنسانية؟ هل نظام العالقات الدولية الحايل يساعد، حقا، عىل نرش السالم
العاملي؟ هل السياسات االقتصادية الحالية حقا تساعد عىل نرش الرفاهية يف جميع
أنحاء العامل؟ حسنا، هل تصور هوبز للطبيعة اإلنسانية يقبع كواقع خلف ما يسمى
الحضارة األوروبية؟ إن هذه األسئلة وأسئلة أخرى مرتبطة بها خالفية واستفزازية
وإشكالية. ليس يف إمكاين مناقشتها هنا، ولكني أثريها ليك أشدد عىل أنه برغم أن
ُمُثل الحداثة كانت قلب املجتمع األورويب الحديث وعقله، فإنها مازالت مجرد مثل
وإن كانت مثال ميكن تحقيقها. عالوة عىل ذلك، فهؤالء الذين يجادلون بأنه علينا أن
نؤجل الحكم عىل درجة نجاح برنامج الحداثة، يالحظون أن معظم األعامل الوحشية
واألخطاء الفادحة التي ارتكبها األوروبيون خالل القرنني املاضيني مل تكن خطأ ُمُثل
الحداثة أو مرشوعها، بل خطأ القادة الذين مثلوها أو ترصفوا باسمها. علينا أن
منيز بني صحة املثل الثقافية وبني مدى التزام الحكمة عند تحقيقها. ولكن النقطة
الخاصة التي يجب أن نشدد عليها هي أن عملية التحول من الثقافة القروسطية إىل
الثقافة الحديثة كانت عملية تدريجية.
ومع ذلك، فام كان لهذه العملية أن تحدث وال كان يف إمكانها أن تأخذ االتجاه
الذي اتخذته لوال حدوث تطورات تاريخية مهمة. وعىل عكس ما يعتقده بعض
املفكرين، فيمكن لألفكار واملثل أن تغري مسرية التاريخ. سواء كانت فتوحات
إسكندر األكرب يف رشق وغرب البحر األبيض املتوسط، أو اخرتاع العجلة، أو اكتشاف
الفضاء الخارجي، أو مغامرة لفنان، فهل ميكن لهذه املغامرة أن تحدث من دون
رؤية أو فكرة تصور حالة جديدة أو وضعا جديدا بغض النظر عام إذا كانت هذه
الحالة جديرة أو غري جديرة باإلنجاز؟ هل ميكن لفيلسوف كهيغل أن يكون مخطئا
كليا عندما يشدد عىل دور األفكار يف تقدم الحضارة؟ نعم، إن الطموح الشخيص
والعواطف والتلهف للقوة وحب املجد ودافع الحياة هي وسائل التغيري التاريخي.
كيف ميكن للتغيري أن يؤدي إىل سقوط حضارة أو نهوض وتطوير حضارة أخرى؟
أعتقد أنه يجوز لنا القول إنه ميكن لحضارة أو أمة أن تدوم بقدر ما تبقى عىل

169
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
انسجام مع الطبيعة، وبقدر ما تبقى نشيطة ومستجيبة بفعالية إىل حاجات الشعب
املادية والروحية.
2 - تحول النموذج الثقايف الحديث
عامة، ال ميكن للثقافة أن تنحدر أو تدوم أو تتقدم أو تركد أو تجدد نفسها أو
أن تقفز نحو األمام إال عندما تؤّمن وسائل الحياة املادية والروحية بشجاعة
وإبداع ومسؤولية. وعندما تستثمر مواردها الطبيعية بحكمة. هذا ما حدث وفق
اعتقادي ألوروبا يف املرحلة األخرية من العصور الوسطى. فبغض النظر عن مكاناتهم
االجتامعية أو االقتصادية أو الفكرية، أدرك الناس يف ذلك املنعطف التاريخي أنهم
مضطهدون، وأن القادة الدينيني الذين يحكمونهم فاسدون، فانتفضوا. وكانت
النتيجة إصالحا دينيا شامال. تعرضوا لألفكار الكالسيكية واملعارصة، فدشنوا ثورة
التفكري والبحث العلمي. وعندما ازدادت معرفتهم العلمية وابتدأوا بتطبيقها، كانت
النتيجة الثورتني الزراعية والصناعية. وعندما فوجئوا بتضخم سكاين، توزعوا بني
كيانات منفصلة كدول قومية. وعندما الحت الحاجة إىل نرش املعرفة يف املجتمع،
اخرتعوا املطبعة. وعندما أدركوا الحاجة إىل تثبيت القوة السياسية وبناء دولهم
عىل أسس متينة، دشنوا مغامرات يف اكتشاف العامل. وعندما أدركوا الحاجة إىل
التعبري عن رؤيتهم لجامل الطبيعة واألعامل اإلنسانية بحرية كأفراد، ابتدعوا أجمل
األعامل الفنية يف العامرة واملوسيقى والرسم والنحت واألدب. وعندما أدركوا أن
مواردهم العقلية والثقافية التي أدت إىل رؤيتهم للعامل محدودة، وجهوا انتباههم
إىل إنجازات اليونانيني والرومانيني القدماء، واستقوا إلهاما ثريا منها، وهكذا انبثق
)1(. وأهم ما
عرصالنهضة. هذه التطورات وغريها جعلت التحول إىل الحداثة ممكنا
أسفر عنه هذا التحول كان ظهور رؤية جديدة للعامل، ومن ثم منوذج ثقايف جديد.
فام هي املالمح األساسية لهذه الرؤية للعامل؟ كيف تختلف عن الرؤية القروسطية؟
فيام ييل سوف أناقش ثالثة مالمح جوهرية تقرر ماهية هذه الرؤية الجديدة:
سيادة العقل، الحركة اإلنسانوية، والدينامية. آمل أن تلقي هذه املناقشة ضوء
الفهم عىل أساس النموذج األخالقي الحديث، وخصوصا عىل الرؤية التي تأسس
عليها منطق النظرية األخالقية التي سادت العرص الحديث.

170
الصداقة
سيادة العقل ْ : عندما نجد أن فيلسوفا مثل كانت، الذي غاص عميقا يف الحداثة
وحلق عاليا يف سامء مثلها، يخربنا بأن شعار عرص التنوير الذي فيه أصبحت الثقافة
الحديثة متأصلة يف الشعوب األوروبية هو »تحىل بالشجاعة واستخدم عقلك أنت«
(!aude sapere((2)، وإن العقل أسطع ضوء ميكن أن ينري طريقنا يف البحث عن
الخري والحقيقة والجامل، وإنه أعىل سلطة يف الربهنة عىل صحة املعرفة يف املجاالت
النظرية والعملية – عندما يعلن فيلسوف كهذا مثل هذا الشعار، فعلينا أن نأخذه
بعني الجد. ال يعني كانت بهذا الشعار أن املجتمع يف العصور الحديثة وصل يف ذلك
الحني إىل أعىل درجة من التقدم العقيل وأن مؤسساته االجتامعية جرى تأسيسها
عىل أسس عقلية أو أنها تعيش حياة عقلية حقيقية، ولكن أن املجتمع يف ذلك
الوقت اعرتف بسيادة العقل وأنه القوة التي يجب االعتامد عليها يف معرفة الطبيعة
وتنظيم املجتمع وحل املشاكل االجتامعية واالقتصادية والسياسية عىل املستوى
الفردي والعام، ويف تطوير السلوك األخالقي ويف السعادة ويف معرفة **** واإلنسان.
ولكن يف الوقت نفسه عبرّ هذا الشعار عن رفض لتغليب اإلميان عىل العقل وللتوجه
األخروي للثقافة القروسطية. املفكر الحديث مل ينظر إىل العامل من وجهة نظر
****، أي مل يفهمه من منظور الحقيقة الكامنة يف الوحي، املرتكزة عىل اإلميان،
بل من منظور العقل وتحت ضوء العقل. هذا الرفض مل ِ يعن نكران وجود **** أو
االنتقاص من أهمية الحقيقة اإللهية، ومل يعن الحاجة إىل اإلطاحة بالكنيسة. إن ما
يعنيه هو أن العقل، ال اإلميان، هو أفضل وسيلة لفهم الطبيعة والحياة واإلنسانية
عىل هذه األرض، وأن التأكيد املغاىل فيه عىل الخالص والحياة األبدية كام فرست
وبرشت الكنيسة، أدى إىل إهامل طبيعة اإلنسان، بل ورمبا إىل معرفة ناقصة بها.
ووفق مفكري القرون الوسطى األخرية، يجب علينا أن منيز بني نوعني من الواقع:
روحي و ٍ متعال، من جهة، ومادي ومبارش من جهة أخرى. نعرف األول بواسطة
اإلميان والثاين بواسطة العقل. إذن، عىل العقل واإلميان أن يتنازعا كل منهام اآلخر،
وأال يتدخل أحدهام يف شؤون اآلخر. هذا الرتتيب املبكر مع الكنيسة مهد الطريق
النبثاق العقل كميزة جوهرية، إن مل تكن مركزية يف الرؤية الحديثة للعامل.
الشعار الذي أطلقه كانت: رضورة أن نتحىل بالشجاعة ونستعمل العقل،
يتضمن القول إنه يف البحث عن معرفة صحيحة للطبيعة ولطبيعة اإلنسان، علينا أن

171
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
نتحرر من التأثريات الخارجية كاإلميان والخرافة واالنحياز الشخيص واإلجحاف أو أي
نوع من الدوغامئية. يفرتض هذا القول أن العقل آلية معرفية وافية، أي أنه ميتلك
جميع القدرات الالزمة )أ( ملعرفة و)ب( إلثبات صدق أو كذب القضايا املعرفية
اإلرادية كالتفكري، االستدالل، الربط، التعميم، الحكم، االعتقاد، النكران، الحدس،
التوكيد. وميتلك عالوة عىل ذلك قدرات االستنتاج واالستقرار والتمييز بني الحق
والباطل. نعم قد يقرتف أخطاء، ولكن بإمكانه أن يصححها. اعتقد مفكرو العرص
الحديث أن هذه امللكة كامنة يف الطبيعة اإلنسانية وميتلكها كل إنسان عىل مستوى
الكون. عىل سبيل املثال، إذا كانت قضية ما ـ كمبدأ السببية أو قوانني الحركة أو
نظرية فيثاغورس ـ صحيحة فمن الرضوري أن تكون صحيحة بالنسبة إىل البرش يف
كل زمان ومكان. وعىل عكس ما يعتقده بعض املعلقني، فالقول إن ملكة العقل
هي األكرث جدارة يف إثبات صدق املعرفة ال يستلزم تهميش العواطف واالنفعاالت
واألهواء. فلكل من هذه امللكات مكانتها ودورها يف تلبية حاجياتنا وتأمني سعادتنا.
يظن بعض الفالسفة مثل ديكارت وديدرو وآخرين وكأن الطبيعة اإلنسانية مجزأة
إىل ملكات متاميزة ومنفصلة بعضها عن بعض: العقل واإلرادة والعواطف. ولكن
وفق معرفتي، فام من فيلسوف حديث اعترب هذه امللكات منفصلة أو عدائية
بعضها تجاه بعض، فكل واحدة منها جزء من ذات العقل الواحد. وعندما ناقشوا
التضارب بينها، كان أول ما اهتموا به هو تطويرها بصورة متوازية بحيث يقوم كل
منها بوظيفته عىل خري ما يرام ويحقق الرضا املناسب له. ويف الواقع اعترب كانت
وهيغل وشوبنهاور وجميع فالسفة القرنني التاسع عرش والعرشين هذه امللكات
وظائف يف العقل الواحد. مثال، جادل هيغل بأن الشعور هو الرتبة التي تغذي
العقل وأن العقل ينمو من الشعور كام تنمو الشجرة من الرت ُ بة التي زرعت فيها.
ولكن مل يكن استعامل العقل مقصورا عىل امليادين العلمية والفلسفية والالهوتية،
بل شمل أيضا امليدان العميل لحياة اإلنسان. فإذا اكتشفت ملكتي العقلية فإين
ال أعود يف حاجة إىل أن أسمح لسلطة كهذه بأن تحكمني بغض النظر عن مدى
شعبيتها أو مهارتها يف الحكم أو حكمتها. إذا كانت وظيفة العني الرؤية، واألذن
السمع، فالعقل وجد لهدف معني، فلامذا تسمح بخنقه، خصوصا عندما يكون هو
العنرص الذي يحدد الطبيعة اإلنسانية؟ وهكذا فإذا مل يقم العقل بوظيفته كام

172
الصداقة
يجب، فهل يبقى يف إمكاين أن أكون ذايت وهل يف إمكاين أن أكون حرا؟ إذ كيف
يكون يف إمكاين أن أكون ذايت وأن أكون مسؤوال عن أعاميل إن مل تكن صادرة عن
إراديت الحرة؟ قد أكون مرسورا أو راضيا، ولكن هل يف إمكاين أن أكون سعيدا؟
وحتى يف الدين والحياة الدينية، هل ميكن إلمياين أن يكون أصيال، أو مقبوال، أمام
**** إن مل يصدر عن عقيل وقلبي ونفيس؟ كيف يل أن أستحق السعادة األبدية إن
مل أكتسب الحق فيها، وكيف يل أن أكتسب ذلك الحق إن مل تكن أفعايل ناتجة عن
إراديت؟ مرة أخرى، كيف أصبح مؤمنا؟ هل من املمكن عىل اإلطالق أن أكون متدينا
أو أن أؤمن بحقيقة الوحي، من دون معرفة وافية ملعنى اإلميان؟ وكيف أحصل
عىل هذه املعرفة من دون قوة العقل؟ أو كيف أستطيع القول إن اإلميان يفوق
العقل إن مل يصدر هذا القول عن العقل ذاته؟ اليشء املدهش هو أن الالهوتيني
القروسطيني اعتمدوا عىل ميتافيزيقا أفالطون وأرسطو يف تربير معتقداتهم الدينية.
هل هذا االعتامد اعرتاف ضمني بسلطة العقل؟ ليس يف وسع الفرد إال أن يتساءل:
هل ميكن للحقيقة التي هي مصدر جميع الحقائق أن تكون محجوبة عن العقل
لدرجة أنها يف حاجة إىل تربير؟ كيف ميكن لضوء هذه الحقيقة أن يكون محجوبا
عن الرؤية العقلية؟ املنطق الكامن يف املالحظة األخرية يقبع وراء النزاع بني العقل
واإلميان الذي شغل الفالسفة القروسطيني قرونا عدة. يف القرن الحادي عرش كتب
أنسلم، مقتفيا أثر أوغسطني »أنا ال أحاول أن أفهم، ليك أؤمن، ولكني أؤمن ليك
)3(. وإن قلنا إننا نؤمن بأن العقل

أفهم. ألين أؤمن أيضا بأين لن أفهم إال إذا آمنت«
هو الوسيلة، والرشط، إلدراك وجود **** وملعرفة صفاته، فنحن نقر عىل األقل ضمنيا
بأن العقل هو الوسيلة ملعرفة ****، إذ إننا من دون فهم ما نعرف أو من دون
فهم معنى االعتقاد بوجود وسامت ****، فسيكون االعتقاد مشوها، ويف الحقيقة،
عاريا من األصالة. يف إمكان الفرد أن يشكك يف النظرية القروسطية حول ****
والعقل واإلميان، أو بجدية القول بوجود تناقض بني اإلميان والعقل، ورمبا أمكن
القول بتضارب االفرتاضات التي يقوم عليها الزعم بالتضارب بينهام، لكن هديف هنا
ليس املشاركة يف هذا الجدل، بل اإلشارة إىل أن فالسفة النهضة أدركوا أنه ال ميكن
االستغناء عن العقل، وإنه جدير بالثقة أكرث من أي ملكة أخرى، يف مجال البحث
عن املعرفة.

173
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
وفق اعتقادي، تعود سيادة العقل يف العرص الحديث إىل سببني مهمني.
أوال، اكتشف فالسفة هذا العرص أن املنهج املعتمد يف القرون الوسطى ملعرفة
**** والطبيعة اإلنسانية غري واف. وتم هذا االكتشاف بواسطة العقل ذاته
الذي منحه **** لإلنسان. ثانيا، املعرفة الوافية للطبيعة رشط رضوري ملعرفة
الطبيعة اإلنسانية والقيم اإلنسانية. وال أكون مبالغا إن قلت إن اكتشاف العقل
للمرة الثانية من قبل ُ امل ْحدثني كان السبب الرئيس يف تحويل النموذج الثقايف
القروسطي إىل النموذج الحديث.
اإلنسانوية: أحد أهم إنجازات النهضة التي أدت دورا يف تحديد هوية العرص
ُطلق عليها اسم »الحركة اإلنسانوية«. كان قادة هذه الحركة

الحديث كان حركة أ
مغرمني بالرتاث الكالسييك. درسوا فن وعلم وأدب وطريقة حياة بالد اليونان
والرومان. اعتربوا أنفسهم باحثني يف »اإلنسانوية«، وعملوا عىل نرش قيمها يف جميع
مجاالت الحياة. ترجموا وفرسوا الكتب الرئيسة التي ازدهرت يف العرص الكالسييك،
ال ليك يقلدوا اليونانيني والرومانيني، ولكن ليك يتعلموا منهم. عىل عكس العلامء يف
املرحلة األخرية من العصور الوسطى، مل يلجأوا إىل أفالطون وأرسطو لتربير مبادئ
ميتافيزيقية أو دينية معينة، ولكن الستيعاب أفكارهم وبصريتهم وقيمهم، بهدف
توسيع أفق تفكريهم يف دراسة الطبيعة والطبيعة اإلنسانية. أدركوا أن القروسطني
أهملوا الطبيعة، بيد أن للطبيعة أهمية حاسمة، ليس فقط لتأمني حاجات الحياة
واالزدهار اإلنساين، ولكن أيضا لفهم الطبيعة اإلنسانية، ألن الكائنات اإلنسانية
جزء ال يتجزأ من الطبيعة. أدركوا بوضوح أن الكائنات اإلنسانية قيمة يف حد ذاتها،
وهي توجد يف حد ذاتها لذاتها، وليس فقط مجرد وسيلة لغاية ما؛ وأدركوا أيضا
أنه ال ميكن للكائنات اإلنسانية أن توجد كغايات بذاتها إن مل تحكم نفسها وتقرر
هي مصريها، وأن الفرد هو صانع مصريه بقدر ما يصمم وينفذ مخطط حياته. ويف
الحقيقة، هذا النوع من الحرية أساس الكرامة، إذ كيف يستحق الفرد أي تقدير
أو احرتام عىل أي عمل يقوم به إن مل يكن هو مصدر العمل، ومن ثم كيف ميكن
للمرء أن يقدر قيمة حياته إن مل تكن من صنع يده؟ عادة نحرتم البرش ونقدرهم
عندما يقومون بأعامل خرية ونبيلة، وهم يشعرون باالعتزاز الذايت عندما ينجزون
أشياء مفيدة ومهمة مبساعيهم الشخصية، ال مبسعى أشخاص آخرين. وباملثل،

174
الصداقة
كيف ميكن يل أن أشعر بتقدير لذايت أو أن أحصل عىل التقدير من أي إنسان آخر
إن مل أكن مسؤوال عن حيايت وعن رشوط تحقيقها؟ الكرامة اإلنسانية صفة تنجم
عن القيام باإلعامل الصالحة. هذا التوجه القيمي هو الذي حاول مفكرو العرص
الحديث اقتباسه من اليونانيني والرومانيني وليصبح مثاال مركزيا يف الثقافة الحديثة.
)٭( عن هذه النقطة بوضوح يف كتابه »خطبة

لقد عرب جيوفاين بيكو ديال مرياندوال
حول كرامة اإلنسان«: »مل أعطك يا آدم ال مكانا وال سمة وال امتيازات محددة
ليك متتلكها أنت بحريتك وحكمتك. طبيعة املخلوقات األخرى محددة وتحكمها
القوانني التي فرضتها أنا عليها، أما أنت فسوف تحدد طبيعتك من دون أي إكراه
أو عائق بالحرية التي وهبتك إياها. وضعتك يف مركز العامل ليك تستطيع رؤية
العامل من تلك النقطة بصورة أفضل. مل أجعلك سامويا أو أرضيا حتى تصمم وتصنع
)4(. تستدعي
لنفسك ذلك الجوهر الذي سوف تختاره أنت كصانع حر ذي سيادة«
هذه الفقرة ثالث مالحظات:
أوال: الكائنات اإلنسانية تولد حرة؛ بإمكانها اختيار ما تريد أن تكونه ومتتلك
القدرة – العقلية والنفسية والجسمية – ألن تفعل ما تختاره. وبقدر ما هي إنسانية،
فالكائنات اإلنسانية تخلق ذاتها بذاتها. هذا االعتقاد أصبح فكرة متأصلة يف نسيج
الفكر الغريب الحديث عىل املستويني النظري والعميل. يتضمن القول إن اإلنسان
كإنسان ال يولد بوصفه كائنا جاهزا أو معطيا، بل كإمكانية تنتظر التحقيق، أننا نولد
بوصفنا كائنات إنسانية ولكن هويتنا الفردية ال تتقرر عند الوالدة. تحديد هويتي
كفرد هي مهمتي وهي مرشوع حيايت، وميكن القول إن حيايت هي عملية تحقيق
هذه الهوية؛ وأيضا ميكن القول إن هذه العملية هي عملية خلق ذايت. ولكن حرية
الفرد غري ممكنة يف مجتمع استبدادي، يف مجتمع يهيمن عىل رشوط تحقيقها. ما
نفع القول إن الفرد حر إذا كانت رشوط تحقيق ذاته غائبة؟ ال ميكن لهذه الرشوط
أن تفرض، بل يتعني أن يختاروها. لهذا السبب مل يشمل الخطاب الحديث حرية
الفرد فحسب ولكن أيضا الحرية السياسية التي تضمن حرية الفرد. مل تكن مصادفة
أن يكون االهتامم الرئيس للنظرية السياسية يف العرص الحديث هو تحليل وتربير
الدميوقراطية، ومل تكن مصادفة أن يناضل الدميوقراطيون من أجل حرية الفرد،
)٭( Mirandola della pico Giovani، نبيل وفيلسوف إيطايل من عهد النهضة. ]املحرر[.

175
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
ألن الحرية رشط رضوري لتحقيق أي فعل أو مرشوع قيم يف حياتنا؛ وبالتايل، كان
طموح النظرية االقتصادية تحليل وتربير الشكل األمثل القتصاد السوق الحر؛ وأيضا
كان املثل األعىل يف العملية الرتبوية هو الكتابات التي تنطلق من مبدأ حرية الفرد؛
وكانت يف الوقت ذاته الحافز املبدع يف مجال التعبري الفني.
ثانيا: أظهر مفكرو اإلنسانوية ثقتهم املطلقة بالقوى الكامنة يف الطبيعة
اإلنسانية، يف مقدرتها عىل إنجاز مشاريعها عىل املستويني الفردي واالجتامعي.
وتكشف هذه الثقة عن نظرة متفائلة يف إمكان مستقبل مزدهر. وعىل رغم أن
بعض مفكري الحركة اإلنسانوية، كمونتني وفيام بعد فولتري، شككوا يف هذه الثقة
واعتربوها ساذجة إن مل تكن سخيفة، غري أنها كانت متأصلة كتوجه أسايس يف الرؤية
الحديثة للعامل. فعىل سبيل املثال، أكد فالسفة القرنني الثامن عرش والتاسع عرش
)٭( عىل ثقتهم بالعقل، وقدموا بعضا من

ْ أمثال لوك وهيوم، وكانت وهيغل وسبنرس
أهم التحليالت لبنيته، ومهد عملهم الطريق لنهوض السيكولوجيا التجريبية. ومن
ناحية أخرى، برهنت أعامل العلامء أمثال نيوتن وداروين عىل صدقية الثقة بالعقل
ومبقدرته عىل معرفة الطبيعة واستعامل هذه املعرفة تدريجيا يف تحسني الحياة
اإلنسانية. فامذا كان ميكن أن تكون حال اإلنسانية كام نعرفها اآلن لوال اإلنجازات
التكنولوجية التي تحققت خالل القرنني املاضيني؟ ال شك يف أن العقل قابل للخطأ،
وال شك يف أن قدراته املعرفية مل تتحقق بصورة كاملة، وال شك يف أنه كلام تقدم عىل
طريق تحقيق هذه القدرات فإنه سوف يتقدم باتجاه مزيد من التطوير والتصحيح
الذايت والثقة. عىل الرغم من عيوبه، لكنه يبقى القوة الوحيدة والعليا التي ميكن
االعتامد عليها يف معرفتنا الطبيعة ومعرفتنا أنفسنا. ومثل اليونانيني من قبلهم، أقر
مفكرو الحركة اإلنسانوية بهذه الحقيقة.
ثالثا: ال يكفي أن تقول إن مصري الكائنات اإلنسانية عىل عكس أي مخلوق آخر
هو تحديد هويتها الفردية والثقافية، ومن ثم تحديد سعادتها بجهدها، ولكن من
املهم أيضا أن نفرس كيف يحقق البرش أنفسهم ككائنات إنسانية، كيف يف إمكانهم
أن يكونوا أحرارا، ما املبادئ التي ميكن االعتامد عليها يف تحقيق هذا الهدف األعىل؟
مىض مفكرو الحركة اإلنسانية إىل الثقافة الكالسيكية الستلهام الجواب عىل هذا
)٭( Spencer Herbert، فيلسوف وعامل أحياء وأنرثوبولوجي وسوسيولوجي إنجليزي من القرن التاسع عرش. ]املحرر[.

176
الصداقة
السؤال. أنعشوا مثال الرتبية املبني عىل أساس الحرية، الذي كان سائدا يف األكادميية
)٭(. تبني لهم بكل وضوح أن أنسب نوع من أنظمة

والاليسيوم والحديقة والرواق
الرتبية لتثقيف اإلنسانية عىل نحو يؤهل لتحقيق القوى اإلنسانية ولتطوير ملكة
الحرية هو النظام الذي يقوم عىل العلوم اإلنسانية والفلسفة واألدب والفن والتاريخ
والرياضيات والسياسة. ويف الواقع، فكلمة إنسانيات مشتقة من الكلمة الالتينية
)humanitas)، التي كان اسمها يف أيام أفالطون وأرسطو )paideia)، وهو نظام
تعليم ثقايف واسع ثم صارت تعني اإلنسانيات يف أيام شيرشون وسنيكا. اإلنسانويون
علامء كرسوا أنفسهم ألفكار وقيم اإلنسانيات. ومازالت هذه القيم حجر أساس
الرتبية، ويرتكز إليها مبدأ الحرية. قد يتشكك الفرد فيام إذا كانت هي أفضل وسيلة
لرتبية النوع البرشي، ولكن الجواب عن هذا السؤال يجب أن ينبثق عن تأمل
متعمق لعنارص الطبيعة اإلنسانية. سواء كنا نتحدث عن أفالطون أو شيرشون أو
)٭٭( أو أي فيلسوف تربية حديث، فإنه يجب عىل أي باحث

كوندورسيه أو نيومان
يف األبعاد التي تثقف – تبني، تحقق – الطبيعة اإلنسانية أن يأخذ بعني االعتبار
ملكات العقل والعاطفة واإلحساس. ونحن نسلم، حتى يومنا هذا، بهذا املعتقد عىل
الرغم من أن مفهومنا لهذه امللكات أو لكيفية مامرسة الرتبية قد اختلف.
باإلضافة إىل اإلنسانيات، أحيا مفكرو حركة النهضة علوم اليونانيني والرومانيني.
ومل يكن ما أنعشوه مجرد أع�مال علامء قدماء مثل إقليدس وهرياقليطس
وأرخميدس، ولكن أيضا )أ( روح التفكري العلمي و)ب( منهج دراسة الطبيعة.
حاولوا بقدر املستطاع دراسة الطبيعة مبوضوعية جدية وفهمها من دون انحياز
ديني، ألن هذا النوع من الدراسة أفضل نوع يؤدي إىل معرفة صحيحة، ومن ثم
إىل معرفة ميكن االعتامد عليها. لقد رفضوا االعرتاف مبرجعية نهائية، وخصوصا
مرجعية أرسطو، يف تحليل املادة والحياة وحياة اإلنسان. وخلصوا إىل أن املنهج
االستداليل، الذي كان مجديا يف علم يف الالهوت، كان محدودا يف تفسري الحوادث
الطبيعية. تبنوا نظرية أرسطو يف البحث العلمي وتجاوزوها. وباإلضافة إىل املالحظة،
أدخلوا التجربة والرياضيات كعنارص يف املنهج العلمي. أحيوا املفهوم الفيثاغوريث
)٭( Stoa ,Garden ,Lyceum ,Academy، مراكز العلم يف اليونان القدمية. ]املحرر[.
)٭٭( Newman Henry John، كاردينال كاثولييك وتربوي إنجليزي من القرن التاسع عرش. ]املحرر[.

177
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
القائل إن الطبيعة كتبت بلغة الرياضيات. وأحيوا تصور فالسفة ما قبل سقراط
بأن األرض ليست مركز الكون. وبرهنت أعامل العلامء األوائل مثل كبلر وتيخو
)٭( جدارة هذا املنهج وعززت الثقة به، لدرجة أنه كان

براهي وكوبرنيكيس وغاليليو
امللهم لنهضة وتسيد العلم الحديث، ثم امللهم لتطبيق املنهج العلمي يف دراسة
الطبيعة اإلنسانية. وميكن اعتبار بيكون وهوبز ولوك وهيوم أمثلة حية عىل هذا
التطور. وقد بلغ البحث يف الفيزياء والفلك يف القرنني السادس عرش والسابع عرش
ذروته يف كتاب نيوتن »املبادئ الرياضية لفلسفة الطبيعة«. ساد هذا العمل حقل
الفيزياء لغاية النصف األول من القرن العرشين. ومل تنب فيزياء آينشتاين أن فيزياء
نيوتن كانت خطأ، بل تجاوزتها. استوعبت قوانني نيوتن وتجاوزتها. وكانت العلوم
الطبيعية األخرى، وبصورة خاصة الكيمياء والبيولوجيا والفلك والجيولوجيا، تتقدم
نحو األمام. ويف الجيولوجيا بقيت نظرية داروين مركزية يف فهم ظاهرة الحياة.
وال أحد من الفالسفة، سواء كانوا براغامتيني أو طبيعيني أو ظاهراتيني أو
وضعيني أو تحليليني استطاع تجنب روح التفكري واالكتشافات العلمية لدرجة أن
بعض املفكرين وصف رؤية العامل يف العرص الحديث بالعملية. مل يكن هذا الوصف
مبالغا فيه لسببني: )أ( العلم وَّسع نطاق معرفتنا بالعامل أكرث من الفلسفة، )ب(
َّ العلم مهد الطريق لنهوض التكنولوجيا املعارصة. وال ميكن تصور الثقافة املعارصة
من دون هذه اإلنجازات.
السياق: الدينامية. نظر املجتمع القروسطي إىل العامل كواقع اتخذ صورة نهائية.
بالنسبة إليهم، فإن القوانني التي تحكم نظام الطبيعة والتنظيم االجتامعي والسلوك
الصالح مستقرة وال تتغري. إذا كانت لدى شخص ما رغبة يف معرفة ظاهرة طبيعية،
كان يلجأ كام رأينا إىل سلطة راسخة يف العلم. وإذا عاىن مشكلة شخصية، كان
يلجأ إىل الكاهن. وإذا كان عنده سؤال ديني، كان يذهب إىل الالهويت. وإذا كان
يعاين صعوبة مهنية كان يلجأ إىل السيد اإلقطاعي. فكرة أن الطبيعة تتغري بيولوجيا
أو جيولوجيا، وأن القوانني التي تحكم الحياة االجتامعية ومصري اإلنسان ومجرى
)٭( Kepler Johannes، ريايض وفليك أملاين من القرن السابع عرش؛ وBrahe Tycho، نبيل وفليك دامنريك من القرن
السادس عرش؛ وCopernicus Nicolaus، ريايض وفليك أملاين من القرن الخامس عرش؛ وGalile Galileo، فليك
وفيزيايئ وفيلسوف إيطايل من القرن السادس عرش. ]املحرر[.

178
الصداقة
التاريخ غري ثابتة كانت بعيدة كل البعد عن منط تفكريهم. وبصورة مغايرة، نظر
اإلنسان الحديث إىل العامل كنظام دينامي من الحوادث الطبيعية واإلنسانية للقوانني
الطبيعية التي ال تتغري. )أ( ال متثل أفكارا موجودة يف عامل ديني أو ميتافيزيقي،
بل تعميامت مستمدة من مالحظة الظواهر الطبيعية )ب( األنظمة القانونية
مخلوقات اجتامعية، و)ج( القوانني األخالقية متثل وعي أو حس الناس األخالقي.
أوال، يفرتض اإلنسان الحديث أن جوهره هو عملية )ص�يرورة(، مسرية. مل
تكتشف هذه الفكرة فجأة ومل تندمج يف نسيج الثقافة الجديدة مصادفة، بل
تطورت تدريجيا وأصبحت حقيقة معيشة يف العلم والفلسفة والفن خالل القرون
األربعة املاضية. عىل سبيل املثال، االعتقاد أن املادة كم )quantum dynamic)
دينامي )طاقة( مل يقره علامء الفيزياء إال يف السنوات األوىل من القرن العرشين.
االعتقاد الكالسييك أن الطبيعة نظام ساكن من األشياء والحوادث والذي ساد النظرية
الفيزيائية األوروبية حتى منتصف القرن التاسع عرش تلقى دعام جازما من خالل
تحليل نيوتن للامدة والزمان واملكان. االفرتاض بأن املادة تتكون من أجسام )ذرات(
صغرية بسيطة وغري قابلة لالنقسام واجهت أول نقد عندما اكتشف العلامء بواسطة
التجارب أن نظرية نيوتن يف املادة ال تعطي تفسريات ناجحة يف بعض األحيان. ويف
الواقع اقرتحت األبحاث العلمية أن الذرة ليست بسيطة، بل قابلة لالنقسام، وأنها
طاقة، وأن الزمان مكاين واملكان زماين، وأن نظام الطبيعة هو نوع من العملية
الكونية. ومن النتائج املهمة التي ترتبت عىل ذلك أنه تبني أن قوانني الطبيعة
ليست كلية وليست مطلقة. وحل تصور االحتامل اإلحصايئ محل التنبؤ اليقيني.
َبتت مرة أخرى

انهار عرص اليقني أمام االحتامل النقدي. هذه الفكرة التي أحيت وث
فكرة هرياقليطس بأن الطبيعة سياق )عملية(، دشنت، كام ذكرت، طريقة جديدة
من التفكري يف العلم والفلسفة والفن.
ثانيا، بالتوازي مع تطوير فكرة أن الطبيعة عملية دينامية وأن القوانني التي تحكم
األشياء والحوادث الطبيعية ليست كلية وال مطلقة، بل احتامالت إحصائية، انبثقت
وتطورت فكرة أن املجتمع أيضا ليس ذا بنية ثابتة، وأن القوانني التي تحكمه ليست
كلية وال مطلقة. افرتاض أن املجتمع كائن عضوي أصبح مبدأ أساسيا يف نظرية
ومامرسة السياسة الحديثة. أسهم هذا التطور كثريا يف االنتقال من منوذج ثقايف

179
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
ساكن إىل منوذج دينامي. عامالن ساعدا عىل هذا االنتقال: )أ( نهوض الدولة الوطنية
و)ب( إحياء نظرية ومامرسة السياسة اليونانية – الرومانية القدمية. اكتشف مفكرو
الحركة اإلنسانوية أن األنظمة القانونية يف مختلف مجتمعات العامل هي عبارة عن
صناعة اجتامعية، وغري صادرة عن قوانني ميتافيزيقية أو دينية. وهكذا، فبام أن
املجتمع بطبيعته تاريخي، فال بد من القول إن األنظمة القانونية املاضية والحالية
أيضا تاريخية، أي مل تصدر عن مصدر متعال ولكنها صدرت عن عامل الحياة اإلنسانية،
هنا عىل األرض، وبصورة أدق عن إرادة الناس ال عن إرادة الحاكم املطلق. ميثل هذا
االكتشاف عودة إىل مثال الدولة – املدينة اليونانية )polis )القدمية. احتاج املجتمع
الحديث إىل ثالثة قرون ليك يتقبل ويطبق هذا النموذج.
وعىل الرغم من أنه مل يكن عىل وعي به فإن أول مفكر شق الطريق تدريجيا
)٭( الذي جادل بأن السيادة

نحو فصل القانون عن جذوره املتعالية هو جان بودان
هي أساس السلطة السياسية يف الدولة؛ فهي املبدأ األعىل لتنظيم وإدارة املجتمع،
وهي أيضا املبدأ الذي يربر وحدة الدولة الوطنية واستقاللها. ولكن عىل الرغم
من أن بودان حلل ودافع عن هذه النظرية للسيادة بالتفصيل، فإنه مل يستطع
تحرير نفسه من فكرة القانون الطبيعي، من قانون يضع حدودا ملا ميكن أن يفعله
الحاكم، ألن الحاكم وإن كان يتمتع بسلطة سياسية مطلقة فإن أي تغيري أو تعديل
يف القانون يقوم به يجب أال يرض مصالح املجتمع. أدت نظرية بودان يف السيادة
إىل تيارين: االستبدادية والدميوقراطية. َّمثل التيار األول هوبز ومثل التيار الثاين
لوك وروسو. ولكن الفيلسوف الذي قدم تحليال منظام وحاسام وتربيرا للسيادة يف
منظور دميوقراطي كان روسو، لدرجة أن ْكانت وصفه بـ»نيوتن العامل الحديث«.
يعترب روسو الحرية جوهر اإلنسانية، فمن دونها ال ميكن أن يكون البرش برشا.
إذن فال ميكن أن نكون كائنات إنسانية إال عندما تنبثق السلطة التي تحكمنا
من إرادتنا، أي عندما نشارك بحرية يف اختيارها. فقط عندما يكون القانون الذي
يحكمنا غري مفروض علينا، وعندما مبلء إرادتنا نختار السلطة التي ترشع قوانني
تخدم مصالحنا، ميكن لنا أن نعيش بحرية تحت سلطة القانون. إذن الحكومة مربرة
)٭( Bodin Jean، فيلسوف سيايس فرنيس من القرن السادس عرش. ]املحرر[.

180
الصداقة
بقدر ما هي نابعة من إرادة املحكومني. إن الدميوقراطية هي مجتمع يحكم نفسه،
مجتمع غري محكوم من قبل سلطة خارجية، أي خارجة عن إرادته، بغض النظر عام
إذا كانت دينية أو أيديولوجية أو عام إذا كانت مستنرية عقليا أم ال. عندما أسس
السلطة السياسية عىل اإلرادة، ّحول روسو املجتمع إىل جامعة، ألن الحرية نفسها

.
)5(
التي هي أساس السلوك األخالقي هي أيضا أساس الدولة
وكام كانت الحال مع بودان، مل يخلص روسو نفسه من تقليد القانون الطبيعي،
ألنه ميز بني »اإلرادة العامة« و»إرادة الكل«، فإرادة الكل هي إرادة مجتمع ما يف
مكان معني وزمان معني. إرادة الكل هذه قد تخطئ، ولكن اإلرادة العامة ال تخطئ.
وال يجوز إلرادة الكل أن تنتهك اإلرادة العامة. هذه طريقة أخرى يف تأسيس
القانون املدين يف نوع من القانون الطبيعي. ولكن اإلخالص لهذا التقليد بقي حيا
يف أعامل العديد من الفالسفة حتى يومنا هذا. وبينام ال ميكن للقانون املدين عند
ْكانت أن ينتهك األمر امللزم، فعند بنتام وميل ال ميكنه أن ينتهك مبدأ املنفعة. هديف
هنا ليس مناقشة التعقيدات والنقاط الدقيقة والرتجامت املغايرة واألفكار الرئيسة
التي تشكل النظريتني الكانتية واملنفعية. تطرقت إىل تربير السلطة الرشعية فقط
ليك أشدد عىل أنه يف الثقافة األوروبية الحديثة، فإن القوانني التي تحكم املجتمع
اإلنساين دينامية ويف تطور مستمر عىل مدار التاريخ.
3 - الرؤية الحديثة للعامل والنموذج الثقايف الحديث
يوافق معظم املؤرخني والفالسفة، إن مل نقل كلهم، عىل القول إن الحركة
اإلنسانية وسيادة العقل والدينامية هي الصفات التي تحدد الرؤية الحديثة للعامل.
هذه الخواص موجودة إىل حد كبري يف الرؤى الهلنية والهلنستية والقروسطية للعامل،
ومن املستحيل ألي مجتمع أن يحرز تقدما ملموسا أو أن يزدهر ألي فرتة زمنية
من دون اإلقرار بهذه الخواص، عندما يحاول تفهم العامل، ألن هذه الخواص عنارص
جوهرية يف التجربة اإلنسانية بحد ذاتها. القضية التي أحاول رشحها والدفاع عنها
يف هذا الكتاب هي أن الثقافة تفهم العامل من منظور معني. أي بلغة أفكار وقيم
معينة. ومبرور الزمن تصبح هذه اللغة طريقة تفكري وشعور وسلوك، ومن ثم مبدأ
تنظيم ملؤسسات املجتمع، وبالتايل لطريقة حياته. وتشكل القيم واملعتقدات بنية

181
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
هذه النظرية التي متنح الثقافة هويتها. وأي مناقشة لالختالفات بني الثقافات يف
الواقع هي مناقشة لهذه القيم واملعتقدات. لهذا، فأي محاولة لفهم ثقافة ما يجب
أن تنطلق من فهم للصفات األساسية التي تشكل منوذجها الثقايف. مثال، صفات
العقالنية واإلنسانوية يف الثقافات الهلنية والهلنستية انتعشت وتحولت وانتقلت
إىل العرص الحديث بواسطة اإلنسانويني. ولكن هذا االنتعاش واالنتقال مل يكن
ساذجا أو مترسعا، ومل يكن محاولة تقليد لطريقة حياة. لقد اكتشفوا أن الثقافة
الكالسيكية مصدر ال ينضب من البصرية والفهم، وأن نظرتها الثقافية شكلت منطلقا
بناء لفهم العامل. كانت هذه النظرية تحديا مبدعا، وكان اإلنسانويون عىل استعداد
ألن يحفظوا ويوسعوا أفق املعرفة والتجربة العلمية يف الفلسفة والفن والسياسة.
أدركوا بوضوح أن تركيز القدماء عىل العقل وقيمه اإلنسانية املطلقة كان سليام،
ولهذا أحيوا هذه املبادئ كتوجه قيمي. ال أكون مبالغا إن قلت إن الحافز األساس
ملفكري النهضة والتنوير والقرن التاسع عرش انبثق من هذا التوجه اإلنساين )أ( من
رغبة يف تحسني نوعية حياة اإلنسان، و)ب( من احرتام وتقدير للحقيقة. هل كانت
مصادفة أن القرن التاسع عرش أنتج أعظم الحركات األيديولوجية واالجتامعية
إلصالح املؤسسات الرئيسة التي يعيش فيها الناس كأفراد؟ اكتشف مفكرو الحداثة
أنه ال ميكن لهذا الهدف أن يتحقق إال عندما يتحرر العقل من العقبات التي تعيقه
يف خلق الرشوط الرضورية لتثقيف عقول املواطنني.
إن ما فعلته إىل اآلن هو تركيز االنتباه عىل النواحي األساسية يف رؤية العامل يف
العرص الحديث، ولكن السؤال الذي يتطلب جوابا ملحا هو إىل أي مدى تنعكس
أو تظهر هذه املالمح يف نسيج الثقافة، أي يف مؤسساتها؟ القضية التي كنت
ومازلت أدافع عنها هي أن النموذج األخالقي ينبثق من رؤية الجامعة األخالقية.
استيعاب هذه الرؤية هو أفضل طريقة لفهم املعتقدات والقيم املنبثقة عنها.
إذن، علينا أن نسأل ما نوع الرؤية التي تؤسس نظرية أخالق العرص الحديث؟
ال نستطيع اإلجابة عن هذا السؤال قبل إكامل مناقشتنا للرؤية الحديثة للعامل
الحديث ألنها أساس النموذج الثقايف.
أنا عىل علم تام بأن تعقيد الرؤية الحديثة للعامل وثراءها، وتنوع املجتمعات
الحديثة، والتقدم الباهر لإلنجازات الفلسفية، والفنية، والعلمية، واالقتصادية،

182
الصداقة
والدينية، والسياسية لهذا العرص يجعل الكالم عن ثقافة حديثة أمرا صعبا. ومع
ذلك، وعىل الرغم من هذا التعقيد والتنوع والتقدم فإنه من املمكن الكالم عن
رؤية حديثة للعامل، ومن ثم عن ثقافة حديثة. الحدود الثقافية بني دول أوروبا
الغربية كانت دامئا شفافة، وقنوات التواصل العلمي والفلسفي واالقتصادي
والتكنولوجي والفني والتجاري بينها مل تنقطع قط. ومنو القومية، خالل القرون
املاضية، مل ينتج أي تغري ملموس يف توجهها الثقايف. عالوة عىل ذلك، فنهوض
وتطوير االتحاد األورويب، الذي بدأ بضم دول أوروبا الرشقية، يقدم دليال واضحا
عىل صحة هذا االدعاء.
واآلن، فالبحث يف طبيعة رؤية للعامل هو بحث يف روح ثقافة معينة، وأيضا
بحث يف املعتقدات والقيم التي تشكل ثقافة تلك الرؤية للعامل. نحن نستمد
معرفتنا بثقافة ما من دراسة أمناط سلوكها النموذجية - الفنية والدينية واألخالقية
واالقتصادية والعلمية واالجتامعية - بغض النظر عام إذا كانت هذه األمناط حية
أو ميتة. هذا النوع من الدراسة هو املصدر ألصح معرفة ممكنة لثقافة ما. ولهذا
السبب، فمن املناسب يل أن أؤسس فهمي للرؤية األوروبية الحديثة للعامل عىل
تفسري لكيفية انعكاس هذه املعتقدات والقيم يف مؤسساتها االجتامعية. لقد سبق
أن رشحت دور العلم يف تطور الثقافة األوروبية الحديثة، واآلن سوف أركز االنتباه
عىل ثالث مؤسسات، هي الفن والسياسة والفلسفة. وتسعى هذه املناقشة إىل
القول إنه إذا كان النموذج األخالقي مغروسا يف النموذج، أو كامنا فيه، فسوف
يصبح من الرضوري القول إنه يجب البحث عن الرؤية األخالقية التي تؤسس
النموذج األخالقي يف النموذج الثقايف. لهذا السبب، فعندما نحاول فهم النظرية
األخالقية علينا أن ننطلق من فهم واف لنموذجها األخالقي.
الفن: أحد اإلنجازات البارزة للنهضة هو إحياء الفن الكالسييك ملجتمع ما.
ترجم اإلنسانويون أعامل املؤلفني اليونانيني والرومانيني وعلقوا عليها. درسوا عامرة
أثينا وروما وبيزنطة وأدبها، وأبدوا إعجابا عميقا بالعبقرية الكالسيكية الفنية.
أحدث اهتاممهم العلمي والجاميل بالفن الهليني والهلينستي فورة ال مثيل لها يف
جميع مجاالت الفن يف العصور الوسطى. ّ تسيد فن العامرة بقية الفنون، وبصورة
عامة مل تكن العامرة والنحت والرسم واملوسيقى فنونا مستقلة، بل فنون فرعية،

183
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
أجزاء من تكوين فن العامرة الذي استهدف يف بعض أنشطته املساهمة يف إظهار
عظمة وقداسة ورسية الكاتدرائية، ويف خلق تجربة للملكوت الساموي ومساعدة
الناس يف أن َي ْخبرُبرُوا الحضور اإللهي هنا واآلن. وكان سيعد أمرا عجيبا، إن مل نقل
سخيفا، لو رأينا رسامني أو نحاتني يعملون يف استديوهاتهم خلف لوحات ومتاثيل
فنية ملجرد تحقيق غايات مالية أو شخصية أو إبداعية، أو موسيقيني يف صوامعهم
يؤلفون قطعا موسيقية ال تعرب إال عن شعورهم الشخيص أو عن خربتهم بجامل
وجالل الطبيعة، أو لالحتفال مبناسبة سياسية أو اجتامعية. لقد كان الخالص هدفهم
األسمى. ولهذا السبب كرسوا كل أنشطتهم الجامعية والفكرية والعملية لتحقيق
هذا الهدف. ولكن تحوال طرأ يف عرص النهضة األوروبية تسبب يف تراجع فن العامرة
عامة والكاتدرائية خاصة، وأفسح املجال لتقدم الفنون األخرى. وهكذا، حل محل
الكاتدرائية القوطية ذات الوقفة العمودية وبرجها الصاعد نحو ****، والذي يعرب
عن أخروية الثقافة القروسطية، بناء عضوي يحمل القبة الساموية. وحل محل
الخط العمودي، الذي عرب عن أمنية الروح الدينية، الخط األفقي الذي مييز املعبد
اليوناين. و أصبحت الكاتدرائية البيزنطية ذات القبة الساموية يف الوقت نفسه القبة
التي تحتضن األرض، واإلله الذي كان الكائن املتعايل عىل الخليقة مل يعد متعاليا، بل
أصبح الكائن الذي يحل )Immanent )يف الخليقة.
ليست العامرة فقط ، ولكن مجمل املجال الفني مل يعد دينيا بكليته. ومل يعد
القديسون واملالئكة والحوادث الدينية والعائلة املقدسة املوضوع الوحيد للفن
عامة. املواضيع العلامنية حلت محل املواضيع الدينية. املواضيع الدينية والدنيوية
ُوجدت بعضها مع بعض. فالفنان دافينيش الذي رسم العشاء األخري، هو ذاته من
)٭( نحت أيضا داود

رسم أيضا »موناليزا«. وميكيالنجيلو الذي نحت بييتا )pieta)
)٭٭(. أصبح الخط الذي كان مييز بني الساموي والدنيوي غامضا. أصبحت
)David(
الطبيعة، مبا يف ذلك الكائنات اإلنسانية، موضوع الفن، وعولجت املواضيع الدينية
بصورة طبيعية. ويبدو هذا التحول جليا يف املوسيقى والعامرة واألدب. الفنان الذي
كاد يكون مجهوال يف العصور الوسطى حاز اعرتافا بفرديته وعقله املبدع، كشخص
)٭( عمل نحتي ميثل جسد املسيح تحمله أمه السيدة مريم العذراء. ]املحرر[
)٭٭( متثال لذكر عار أكمله ميكيالنجيلو بعد أن بدأه فنان آخر. ]املحرر[.

184
الصداقة
يستحق االحرتام االجتامعي. الكنيسة مل تعد بعد ذلك الحني راعية األعامل الفنية
والفنانني، فقد توسعت دائرة رعاية الفن وأصبحت تشمل أرستقراطيني وباباوات
وتجارا ومنظامت اجتامعية. كان التوجه العام حتى القرن الرابع عرش يف النحت
والرسم البيزنطي مجردا، كليا، دينيا، خاليا، من الحياة. ولكن إحياء الفن الكالسييك
غيرَّ هذا النمط من الخلق الفني. وكاليونانيني والرومانيني من قبلهم، ارتكز فنانو
عرص النهضة األوروبية يف تشكيل رؤيتهم الفنية عىل الطبيعة، بغض النظر عام
إذا كانت إنسانية أو طبيعية. أصبحت الطبيعة هي اإللهام الفني وأساس الشكل
الفني. حاولوا استيعاب البعد الدينامي للطبيعة والتعبري عنه يف أعاملهم الفنية.
كان هدفهم هو متثيل العامل حولهم كام عاشوه يف التجربة العادية. وشأنه شأن
الفيلسوف والعامل والريايض، كان الفنان مغرما بالحقيقة. مل يدرك املكان كبعدين
بل ثالثة أبعاد. وسواء يف الرسم أو النحت، مل ميثلوا الكائنات اإلنسانية كحيوانات
تقف عىل قدمني، أو ككتل لحمية، بل ككائنات إنسانية، كعوامل ذاتية تشع من
خالل هذه اللحم. مل يعد املقدس متعاليا. عىل سبيل املثال، يف أعامل ميكيالنجيلو
**** يقابل اإلنسان. اإلنسان يصبح إلهيا واإلله يصبح إنسانيا. أصبح الرتكيز عىل قيمة
اإلنسانية املطلقة؛ عىل اإلمكانية اإلنسانية؛ عىل القيم التي تؤسس هذه اإلمكانية؛
عىل الحاجة إىل خلق الرشوط االجتامعية والسياسية لتحقيق هذه اإلمكانية؛ عىل
حقيقة أن إمكانية التقدم االقتصادي والسيايس مرشوطة بالتقدم اإلنساين. أصبحت
هذه العنارص مالمح بارزة يف الفن. اإلنسان الحديث رأى بعني إنسانية، ومزج
ُذن إنسانية، و َّصور العامل حوله بعقل

دهانه بأيد إنسانية، وأصغى إىل املوسيقى بأ
إنساين، ونحت متاثيله بشعور إنساين. فهو مل يفعل ذلك بخيال مجرد كإنسان حامل،
ولكن كفرد إنساين عاش يف تلك املدينة وتلك الحقبة التاريخية. وأي عاشق للفن
سوف يشعر بهذه اإلنسانية، وفق رأيي، عندما يخترب جامليا أعامل فنانني مثل
ميكيالنجيلو إىل غريكو أو كارافاجيو أو روبني أو ديالكروا أو برنيني أو فريمري، إذا
كان لنا أن نكتفي بذكر بعضهم.
الفنانون ***** ثقافتهم؛ وكان فنانو العرص الحديث ***** ثقافتهم. األعامل
الفنية التي ترصع تاريخ الفن من القرن الخامس عرش إىل القرن التاسع عرش تعكس
التحوالت الثقافية التي طرأت عىل املجتمع األورويب يف العلم والدين والفلسفة

185
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
والتكنولوجيا والسياسة والرتبية واالقتصاد، وإذا كان كل نوع من أنواع السلوك
اإلنساين يعرب عن بعد مهم للطبيعة اإلنسانية، فإنه يف إمكاننا القول، وفق اعتقادي،
إن الفن األورويب الحديث سجل للتقدم الدينامي الروحي األورويب خالل تلك
الحقبة التاريخية. دعوين أرشح ما قلته بتحليل لعمل فني حديث، هو »ذبيحة
إسحاق« للفنان رامربانت، هذا العمل ليس تحفة فنية، وليس عمال متوسط الجودة،
ومع ذلك، فهو عمل عظيم لفنان عظيم. اخرتت هذا العمل ليك أركز عىل حقيقة
أن روح الفن الحديث تتغلغل يف جميع حقول الفن الحديث. باإلضافة إىل ذلك
اخرتت رمربانت ألنه جرس بني املرحلة الفنية األوىل والثانية، وألنه ميثل ذروة الفن
األورويب الحديث.
سوف أبدأ مبالحظة أن رمربانت ترك لنا مجموعة منوعة من املواضيع الفنية
- دينية واجتامعية، وتاريخية وصورا ألشخاص وجامعات وألفعال إنسانية. تظهر
أعامله اهتامما عميقا بالطبيعة والكائنات اإلنسانية والحياة اإلنسانية. لقد حاول
استيعاب البعد الدينامي للطبيعية يف أعامله. وكانت شخوصه مزيجا متناقضا من
النبل واملثالية والدنيوية والفردية الصارمة. اعرتض عىل األعراف الفنية واالجتامعية،
ومع ذلك ُفقد سعى نحو الشهرة االجتامعية. تأثر بفن العرص، وكان يصغي إىل
الصوت اآليت من مصدر اإللهام املبدع. كل عمل أبدعه كان مغامرة فنية. وكيف يتأىت
له أن يكون مبدعا إن مل يشق طريقه برؤيته الفنية إىل حميم الطبيعة اإلنسانية
ومجرى الطبيعة؟ عينه الفنية مل تقف عند املظهر، ولهذا رفض الرأي القائل بأن
الفن يقلد الطبيعة والحياة اإلنسانية. بالنسبة إليه، الفنان ال يقلد ما يراه، بل يعبرّ
عن الجوهر الذي يراه بـ »عقله«. العمل الفني موضوع معرب ألن ما يخلقه الفنان
عىل قامشة اللوحة ليس سوى وسيلة تواصل، وسيلة تحمل بني طياتها املضمون
الذي يريد الفنان نقله إىل املشاهد. ال ميكن متثيل هذا املضمون أبدا. عىل املشاهد
أن يغوص يف جوهر هذا املضمون ويشكله إبداعيا يف خياله. وبهذه الطريقة، يبث
فيه الحياة ثانية. وليس مصادفة أن أعامال فنية كهذه هي، إىل حد كبري، موحية
واقرتاحية. وليس مصادفة أن تذوقها هو عبارة عن نشاط حواري، يتعاون فيه
املتلقي مع العمل الفني، ليس فقط لتفعيل املحتوى الجاميل، ولكن أيضا لتأمله
واالستمتاع به. لقد كان رمربانت بارعا يف خلق هذا النوع من الفن.

186
الصداقة
دعونا اآلن نقف أمام »ذبيحة إسحاق« املوجودة يف متحف اآلرميتاج يف مدينة
بطرسبورغ )يف روسيا(، هذه اللوحة تاريخية - دينية متثل صورة من العهد القديم،
تصف كيف سافر األب إبراهيم إىل جبل املروة لهدف واحد، ليك يقدم ابنه األول
والوحيد كذبيحة. األب إبراهيم مل يقرر القيام بهذا الفعل بناء عىل شعور عبثي،
بل تلبية ألمر من ****. هو تقبل هذا األمر بامتثال وإجالل؛ ألنه كان يؤمن ب****
وبحكمته بصورة مطلقة. ما نراه يف هذه اللوحة - يف بداية التجربة الجاملية -
هو متثيل للفعل الذي يوشك فيه األب إبراهيم عىل وضع السكني عىل رقبة ابنه،
ويد املالك متنعه من القيام بهذا الفعل. يف الحقيقة، إن ما نراه هو فعل درامي
بامتياز، ولكن كيف ندركه كفعل درامي؟ العني املجردة ال ترى الصفة الدرامية.
وال نالحظ مبارشة تفاصيل اللوحة )املالك وإبراهيم وإسحاق(، كل ما نراه هو
رزمة من األلوان تصور ثالثة أشخاص. هوية ومعنى الحادثة التي ندركها تنجم عن
)٭(. ومن
ترجمة لها عندما نقرتب من اللوحة مبعرفة عامة عن قصة ذبح إسحاق
دون هذه املعرفة ليس يف إمكاننا إدراك هذه اللوحة كقصة. ولكن حتى هذه
املعرفة ال تكفي ليك ندركها كحادثه درامية. كلام تعمقنا يف تأمل العظمة الفنية
للمشهد - اإلمياءات التعبريية إلبراهيم واملالك وإسحاق ـ غصنا يف عمق الدراما.
نعم، الطريقة التي ابتكرها رمربانت لتصوير إميان وتعابري األفعال البرشية توحي
بعامل الدراما، وميكن القول إنها تظهر هذا العامل. بلمسة فرشاته السحرية استطاع
أن يصور أعظم مواجهة حية بني العنف واملحبة، حيث تظهر إمكانية العنف يف
الصميم اإللهي واإلنساين للمحبة. ركز انتباهك أوال عىل املالك الرسول املقدس الذي
يقوم بوظيفتني يف آن واحد: )أ( مينع إبراهيم من أن يحز عنق إسحاق بالسكني.
ونرى السكني وهو ينزل نحو الرقبة. فالسكني ليس عىل األرض وليس يف يد إبراهيم
بل يتحرك كأنه يقول إن عملية الذبح ألغيت. الحظ التفاعل بني السكني والرسن
الالمعني وفراغ الرسن والسكني الذي يسقط أمامه. اإلدراك الجاميل لهذا التفاعل هو
إدراك ليس فقط لحادثة طبيعية كيشء طبيعي يتمثل يف عملية السقوط، ولكن
أيضا لعملية فعل إنساين لفعل يصـل اإللهـي باإلنسـاين بلمسـة واحـدة. )ب( وعىل
)٭( الذبيح وفق املنظور اإلسالمي هو إسامعيل، ووفق املنظور املسيحي هو إبن إبراهيم اآلخر إسحاق. ]املحرر[.

187
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
الرغم من أن املالك مينع الذبح بيده اليمنى، فإن عينيه مركزتان عىل وجه إسحاق
ووالده املعذب والخائف، ويد املالك اليرسى تعلن هذه الرسالة. ولكن قوة التأثري
الدرامي لهذه الحادثة تزداد ثراء وعمقا عندما تستوعب التباين بني الهدوء املصمم
لدى املالك من جهة، وبني إمياءات إبراهيم املضطربة من جهة أخرى. وبينام نرى
إبراهيم مندهشا، ورمبا مرتبكا، نرى إسحاق مضطربا. إبراهيم مندهش مام تفعله
يد املالك؛ ألنه يعرف بعمق ذاته أن **** يحبه، وأنه هو الذي منحه إسحاق.
باإلضافة إىل ذلك، كان يثق بأن **** لن يتخىل عنه – ولكن، ماذا عن هذه اللحظة؟
ال بد ليده املطيعة، وعينيه املرتبكتني أن تتساءالن يف تلك اللحظة: هل ما يحدث
حقيقة؟ ملاذا - ملاذا يا رب أبطلت حكمك؟ هل أنت تخترب إمياين؟ هل هذا مالكك
أم عفريت هزيل؟ أمل تعرف أن إمياين بك مطلق، يا من تعرف نفيس وقلبي وعقيل؟
هل أنت متزح معي؟ واآلن دعونا نوجه انتباهنا إىل إسحاق: الحظ يد املالك التي
تحبط فعل الذبح، والحظ كيف أن عينيه مركزتان عىل إبراهيم، ال عىل إسحاق.
وتذكر أن املالك رمز محبة **** إلبراهيم وإسحاق. حول انتباهك إىل يد إبراهيم
التي تغطي وجه إسحاق لتتبني أن إبراهيم ال يريد إلسحاق أن يرى هذا الفعل
األحمق. هل بإمكانه فهم ما يحدث؟ وإن فهمه، فهل يف إمكانه تحمله؟ يبدو
جسده مفعام باالضطراب، ال يريد املوت - ولكن َمن يريد املوت؟ ال بد من أنه
متكن من معرفة ما كان يحدث له. ملاذا غطت يد والده الهرقلية فمه؟ نعم، لنعرف
أنه كان بإمكان شفتيه أن تتكلام - ما الذي ميكن أن يقوله؟ من دون شك سوف
يعرب عن غضب: كنت أعتقد أنك تحبني يا والدي. متنيتني طوال حياتك، واآلن إذ
بلغت سن الرشد قررت أن تقتلني؟ أال تعرف أن القتل العمد جرمية؟ أي أب ذلك
الذي يتجرأ عىل قتل ابنه الربيء واملحبوب؟ هل أنت مجرم يا والدي؟ هل كان
والدي املجرم مختبئا وراء قناع من املحبة والشهامة؟ يف إمكاننا أن نتأمل بهدوء
تفاصيل الحوار الذي كان ميكن أن يجري بني إبراهيم واملالك وإسحاق. ويف الواقع،
يشعر الفرد ليس فقط بالحاجة إىل أن يتأمل، ولكن أيضا إىل أن يشارك يف هذا
الحوار، من خالل قوة املشهد املعرب الذي خلقه رمربانت عىل القامش بقوة الضوء
املقدس الذى يغمر املالك، ووجه ويد إبراهيم، وجسد إسحاق. يف هذه اللوحة
نشعر بأن الحوار الذي نشارك فيه يحدث يف غمرة الضوء. هل النور هو مصدر

188
الصداقة
الوجود؟ عىل أي حال، اليشء املذهل فنيا يف هذا العمل لرمربانت هو خلق واحد
من أروع األنظمة )الصور( الفنية ـ منطقيا وعقليا وعفويا ـ ليس ذلك النوع الذي
يهم الريايض والفيلسوف والعامل، ولكن ذلك الذي ينبثق من اللوحة ذاتها، من روح
الفنان لحظة الخلق الفني. كتمثيل درامي، ال توجد يف العمل نقطة مركزية. عني
املتلقي تجد نفسها منخرطة بالتفاعل الحواري الذي يجري بني األشخاص الثالثة.
هذا العمل الفني مثال منوذجي من النظام والجامل والتعبري اإلنساين.
الحكومة: تاريخ الدول األوروبية هو، بديناميته الذاتية تاريخ نهوض وتطور الحرية
كام نعرفها اآلن يف الغرب وبقية العامل. إذا تفحصنا املبدأ الذي يؤسس للتنظيم
والتحول التدريجيني للحكومات منذ القرن الرابع عرش، سوف نكتشف أن التوجه
الرئييس لهذا التحول هو توجه نحو أكرب قدر من الحرية يف جميع مجاالت الحياة
اإلنسانية. ولد هذا املبدأ من رحم الثقافة األوروبية. والعامل الذي جعل هذه
الوالدة ممكنة هو عمل اإلنسانويني الذين كرسوا اهتاممهم األويل إلحياء ثقافة
العرص الكالسييك. كان هذا املبدأ - يف بداية األمر - كامنا يف املنهج الذي تبنته
الشعوب األوروبية يف تحقيق رغباتها وأهدافها وقيمها ومعتقداتها وحاجاتها؛ يف
طريقة تنظيم مؤسساتها االجتامعية؛ يف طريقة استثامر مواردها الطبيعية واإلنسانية.
ففي حياتهم فضاء ميثل املشتل الذي منت فيه هذه الفكرة، كاستجابة ملطلب باطني
للروح اإلنسانية، الروح التي ُتحدد ماهية إنسانيتنا، والتي جوهرها الحرية. وأعني
بـ »الحرية« قدرة الفرد عىل أن يعيش بوعي وعقل مستمد من إرادته، ومن جوهر
إنسانيته، ومن رغبته الجوهرية ألن يكون مكتفيا ذاتيا.ً وتتشكل الحرية من ثالثة
عنارص: الوعي الذايت بأن جوهر املرء يتمثل يف قدرته عىل أن يعيش حياة مستقلة؛
ويف خطة أو مرشوع لتفعيل هذا الهدف، وإرادة أو قدرة عىل تنفيذ هذه الخطة.
هذا ما يعنيه فالسفة مثل هيغل وديوي، ومعظم الفالسفة وعلامء النفس وعلامء
املجتمع، عندما يقولون إن تحقق الذات هو جوهر الحرية. هذا التعريف املهم
ينطبق عىل الحرية السياسية؛ فجامعة ما تكون حرة بقدر ما تكون مستقلة وذات
.
)6(
سيادة وقادرة عىل الحكم الذايت، أي بقدر ما تحكم نفسها وتكون مصدر حياتها
انبثق الوعي بالحرية كهدف أسايس لحياة اإلنسان يف أوروبا، وألول مرة يف
تاريخ الحضارة، أوال كتطور تاريخي عندما تجزأ املجتمع اإلقطاعى إىل دول قومية،

189
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
وثانيا عندما بدأت الدولة الحديثة تنظيم املجتمع وبناء مؤسساتها عىل أسس. مل
ينبثق هذا الوعي عىل نحو قصدي أو مفاجئ، بل كان انبثاقه تدريجيا ودامئا من
القرن الخامس عرش إىل القرن التاسع عرش. يف هذه اللحظة التاريخية املمتدة
انطوت الروح اإلنسانية عىل ذاتها، واستمعت إىل صوتها الباطني، إىل الرسالة التي
نقلها هذا الصوت الذي قال إن مصري الحرية هو مصري اإلنسان كإنسان، أو بكلامت
أخرى، الحرية هي جوهر اإلنسانية. إن إحياء الفكر الكالسييك، والتقدم البارز
للعلم والتكنولوجيا، ونهوض املريكانتيلية وانتشارها، والنمو السكاين، ونضج الفنون،
وإصالح الكنيسة، وانتشار التعليم، وتوسع شبكة التجارة الدولية، وتقدم املؤسسات
القانونية والسياسية، واإلقرار بأن حكم القانون رشط رضوري للتقدم السيايس،
وللتطور التدريجي للحكومة الدستورية والتمثيلية ـ نعم، هذه العوامل، وعوامل
أخرى، أدت دورا حيويا يف جعل الصوت مسموعا. سمع الناس هذا الصوت، وسمعه
أيضا القادة السياسيون يف الدول األوروبية الرئيسية. كان هوبز ولوك من أوائل
الفالسفة البارزين الذين استوعبوا معنى الفوىض السياسية والثورة والحروب التي
سادت القرنني السادس عرش والسابع عرش. الدرس األول الذي تعلامه هو أن النظام،
نوعا من النظام العقالين، رشط رضوري لالستقرار والتقدم االجتامعيني، وأن أساس
هذا النظام هو القانون. ولكن ما مصدر أو قاعدة هذا القانون؟ هل هو إرادة
العاهل أم إرادة الشعب؟ رأى فالسفة القرن السابع عرش أن جوابا صحيحا عن هذا
السؤال يجب أن ينطلق من تصور معقول للطبيعة اإلنسانية، فام طبيعة الكائنات
اإلنسانية، يف حد ذاتها، خارج نطاق املجتمع؟ ما الرغبات والدوافع التي تدفع الناس
إىل أن يسلكوا كام يسلكون؟ هل هم عقالنيون ولطفاء واجتامعيون أم أنانيون وغري
عقالنيني ومثريون لالشمئزاز بالطبيعة؟ طبيعة البرش الجوهرية هي التي يجب أن
تحدد نوع القانون أو السلطة التي تحكمهم. عىل سبيل املثال، جادل هوبز بأن
البرش بالطبيعة أنانيون ومنفرون وغري عقالنيني وال أخالقيون، وأنهم عىل استعداد
الستعامل أي وسيلة، قوة، مكيدة، خداع، لتحقيق رغباتهم الشخصية، وأن اهتاممهم
األكرب ٌّ منصب عىل الحياة املبهجة واللذة. ومن دون سلطة أقوى منهم، سوف ال
يرتددون يف استخدام اآلخرين، أو السيطرة عليهم، أو حتى قتلهم لتحقيق مآربهم.
ولكن من ناحية أخرى، فمن دون سلطة أقوى منهم سوف يكونون يف حالة حرب

190
الصداقة
يتصارع فيها كل واحد مع الجميع. ولكن هذا الوضع محبط. فلهذا، وليك يخرجوا
من هذا الوضع، يجب عىل شخص، أو عدة أشخاص، أن ينظموا حياتهم، ويصنعوا
نظاما سياسيا واجتامعيا يضمن لهم السالم واألمان واالزدهار. نظريا، الشعب يتنازل
عن حقه يف حكم نفسه بنفسه للحاكم، ويف هذه الخطوة يجتمعون ويضعون عقدا
بينهم، ملنح ذلك الشخص السلطة ألن يحكمهم، رشط أن ُيَؤِّمن لهم األمان والسالم
والنظام واالزدهار. يف هذا النوع من الدولة يكون الحاكم هو مصدر القانون.
إرادته تكون محكمة االستئناف يف إدارة األمور الداخلية والخارجية للدولة. هذه
النظرة السياسية كانت مفيدة يف املراحل األوىل للعرص الحديث؛ ألنها بررت شكل
الحكومة السائدة يف ذلك الوقت، الحكومة املطلقة يف فرنسا وإسبانيا وبريطانيا
وأملانيا والدول اإليطالية. من أهم إسهاماتها يف تطور الحكومات األوروبية الحديثة
)7(. ولكن مل تأخذ

أن النظام املبني عىل أسس قانونية رشط رضوري لتقدم اإلنسانية
هذه النظرية بعني االعتبار دافع الحرية. أول فيلسوف عظيم اعرتف مبركزية هذا
الدافع وحلله، نقديا ومنهجيا كان لوك، الذي جادل بأن الكائنات اإلنسانية »حرة
ومتساوية ومستقلة« بالطبيعة، وإنه ال يحق ألي إنسان أن يعاملهم بأي طريقة
أخرى، عىل عكس نظرة هوبز التي تقول إن اإلنسان يف حالته الطبيعية ال عقالين
وال اجتامعي ومثري لالشمئزاز. يقول لوك إن اإلنسان عقالين واجتامعي، وميتلك حسا
أخالقيا مييز الحق من الباطل، والظلم من العدل، والخري من الرش. ولكن إن عاش
من دون تنظيم اجتامعي، عجز عن تحقيق أهدافه ككائن إنساين. فالناس يحتاجون
إىل سلطة عامة ليك تنظم حياتهم العامة وتديرها، وتختلق نظاما سياسيا يساعد
عىل االزدهار والتقدم. ولكن كيف ميكن تأسيس سلطة كهذه، بعدالة ومن دون أن
تقمع الناس، أو تنتقص من حريتهم واستقاللهم؟ الحل األسلم لتحقيق هذا الهدف
هو أن يبقى الناس مصدر السلطة، ألنهم سيفقدون حريتهم واستقاللهم واملساواة
بينهم إذا كانت هذه السلطة خارجية، أي إن مل تكن منهم، بغض النظر عن مدى
حكمتها وصالحها. فام الضامن أنها لن تيسء مامرسة امتيازاتها، أو لن تتجاوز
سلطتها أو امتيازاتها؟ وهكذا، فالسؤال العميل هو كيف ميكن لهم أن يحكموا
أنفسهم، ألنهم سيفقدون حريتهم إن مل تصدر السلطة الحاكمة عنهم. الجواب
الذي اقرتحه لوك عن هذا السؤال هو حكومة بالتمثيل، حكومة متثل إرادة الشعب

191
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
أو مصالحه. أساس هذه الحكومة هو القانون. هنا علينا أن نتذكر أن القانون هو

.
)8(
ُ الذي يَعِّرف حقوق وواجبات الحاكم واملحكوم ويعلنها
ولكن بجعل القانون أساس الدولة، وبتأسيس القانون عىل إرادة الناس، كمواطنني
أحرار متساوين ومستقلني، ّحول لوك املجتمع إىل جامعة أخالقية. رشح هذه
النقطة بالتفصيل، ودافع عنها روسو، الذي جادل بأن اإلرادة، ال القوة، هي أساس
الدولة. وال ميكن للفرد أن يزدهر ككائن إنساين إال يف هذا النوع من الدولة. هذه
الفكرة دفعت هيغل إىل أن مييز بني الدولة واملجتمع املدين. يف كل من هذين
النوعني من املجتمع يكون القانون أساس الدولة. ولكن هناك فرقا؛ ففي املجتمع
املدين يكون القانون الذي يحكم الناس هو القانون الذي يفرضه الحاكم، من دون
أن يكون هناك، بالرضورة، اعتبار ألي مفهومات أخالقية أو قيود تعلو عليه. قانون
كهذا هو وسيلة لخلق رشوط لتأمني السالم واألمان واالزدهار املادي، ولكنه ال
يكرتث بنمو وترقية املواطنني عىل املستوى اإلنساين، وال يكرتث بحريتهم. أما يف
الدولة، فالقانون الذي يحكم الشعب مؤسس عىل القانون األخالقي؛ ألنه يجسد
حس الشعب األخالقي. لهذا السبب يشخص هيغل »الدولة« باعتبارها جامعة
)9(. بطريقة
أخالقية، ولهذا السبب جادل بأن الحرية الحقيقية ممكنة يف إطار الدولة
أو بأخرى تبنى معظم املنظرين يف الفلسفة السياسية، يف القرنني التاسع عرش
والعرشين، هذه النظرية.
ولكن، عىل الرغم من أن املفكرين السياسيني يف العرص الحديث اكتشفوا
ورشحوا ودافعوا عن هذه الفكرة يف القرنني السابع عرش والثامن عرش، فإنها مل
تصبح واقعا واعيا وقصديا إال عند حدوث الثورتني األمريكية والفرنسية. وميكن
أن نقول إن هذا الواقع مل يكتمل بعد، بل هو يف مسرية التحقق. ولكن الفكرة
تعكس روح الثقافة الحديثة - رغبتها يف التغري، والنمو، والتصدي لتحدي املغامرات
الجديدة يف مختلف مجاالت الثقافة. علينا دامئا أن نتذكر أن دواليب العقل تسري
ببطء ممل يف مسرية الحضارة اإلنسانية. عىل أي حال، فمام يدعو إىل الرسور،
من منظور تاريخي، هو أن فكرة الحرية كمبدأ للدولة أصبحت مقبولة كمثال
فكري وسيايس، وأن مختلف الدول األوروبية تحاول تطبيقها وفقا ملواردها الطبيعية
والثقافية والتاريخية واملادية. وانترش اإلميان بهذا املثال يف سامء ثقافات أخرى يف

192
الصداقة
عاملنا، لدرجة أنه يؤسس دساتري ووثائق وقواعد وسياسات األمم املتحدة. وأصبح
بصورة تدريجية مقبوال كطريقة تفكري وتنظري يف حقل السياسة يف معظم الدول
.
)10(
املتقدمة
الفلسفة: من الشائع القول إن ديكارت هو أب الفلسفة الحديثة يف تاريخ
الحضارة الغربية، وقد يكون هذا القول مبالغا فيه وفق بعض النقاد، وخطأ وفقا
آلخرين، ليس فقط ألن فالسفة آخرين خالل عرص النهضة األوروبية هجروا قصدا
طرائق الفلسفة القروسطية واعتربوا أنفسهم حديثني، ولكن أيضا ألن الفلسفة
الحديثة كانت ومازالت يف عملية تطوير. ولكن ال نكون مخطئني إن قلنا إن ديكارت
ميثل روح الفلسفة الحديثة بامتياز، أكرث من أي فيلسوف آخر قبله أو بعده. هو
الذي صنع ودافع بقوة عن أهداف ومنهج وأسئلة التوجه العام للفلسفة الحديثة.
وهو الذي حرر الفلسفة من منط التفكري القروسطي. ونجد أساس هذه الحقيقة
يف تأثريه العميق والدائم يف الفالسفة الذين عارصوه، والذين أتوا بعده. فام الرشارة
التي سببت والدة التجريبية والعقلية الديكارتية وفلسفة القرن الثامن عرش، سوى
أعامل ديكارت التأسيسية ومحاولته صياغة أسئلة الفلسفة الرئيسية والدفاع عنها
كام نعرفها اليوم، أو عىل األقل حتى النصف الثاين من القرن العرشين؟ أنا ال أفرتض
أبدا بإثاريت هذا السؤال أن الفلسفة الحديثة بدأت مع ديكارت، ألنه كان جزءا
ال يتجزأ من التقليد الفلسفي الذي بدأه سقراط وأفالطون وأرسطو، واستمر عىل
رغم االنقطاعات حتى عرص النهضة. بكل بساطة، أريد تسليط الضوء عىل الدور
املركزي لديكارت يف تشكيل نوع الفلسفة الحديثة ومجراها. لقد كان فيلسوفا
حديثا بامتياز، ولهذا ميكننا أن نسأل: بأي طريقة تعكس فلسفته الصفات الرئيسية
للرؤية الحديثة للعامل؟ ميكن صياغة هذا السؤال بطريقة أخرى: ما الذي جعل
ديكارت مفكرا حديثا؟ بصفة عامة، يكون الفالسفة حديثني عندما تعكس أعاملهم
مالمح الحداثة، فام تلك املالمح؟
أوال، ويف املقام األول، اإلقرار املميز بدور العقل يف محاولتنا ملعرفة العامل مبا يف
ذلك الكائنات اإلنسانية، واكتشاف أفضل منهج لتنظيم حياة اإلنسان وتحسينها.
كان الفالسفة اليونانيون والرومانيون والقروسطيون، بطريقتهم الخاصة، عقالنيني،
مبعنى أنهم برروا معرفتهم بالطبيعة وحياة اإلنسان بطرق عقلية، ولكن بفارق

193
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
مفصيل مييزهم عن الفالسفة يف العرص الحديث. فام من فيلسوف قروسطي، قبل
ديكارت، وإىل حد ما قبل بيكون وهوبز، اعترب العقل محكمة االستئناف العليا يف
معرفة الطبيعة. وما من فيلسوف آخر أسس رؤية للعامل مبنية عىل أسس عقلية
خالصة. لقد كان متشددا برفضه املرجعية النهائية بأي نوع من أنواعها، بغض
النظر عام إذا كانت دينية وفلسفية أو اجتامعية أو سياسية، يف الوصول إىل معرفة
صحيحة. فالعقل، والعقل فقط، هو الوسيلة الوحيدة يف السعي من أجل أي نوع
من أنواع املعرفة. ومثل بيكون وهوبز، اكتشف ديكارت، منذ أن كان تلميذا يف
)٭(، أن كثريا من املعرفة التي تلقاها من املايض – إن مل يكن معظمها -
الفليش
خاطئة وغري موثقة وذاتية ومرتكزة عىل ما قاله اآلخرون أو عىل سلطة معرتف بها.
ولكن السؤال امللح بالنسبة إىل ديكارت هو سؤال يقينية املعرفة: كيف نستطيع
نرش أو زيادة الخري اإلنساين إىل أقىص حد إذا كانت املبادئ التي نرتكز عليها يف
تنظيم املجتمع عىل املستويني الفردي واالجتامعي غري مؤسسة عىل معرفة يقينية،
معرفة ال تقوم عىل العنعنات؟ يستند هذا االهتامم إىل افرتاض أن املعرفة قوة،
وأنها املفتاح يف حل املشكالت اإلنسانية. عىل سبيل املثال، كيف نستطيع بناء بيوت
أو جسور أو نعمل عىل تأمني الحاجيات اإلنسانية األساسية نظريا وعمليا، إن مل
نعتمد يف هذا العمل عىل معرفة ذات صدقية؟ ال ميكن االستغناء عن هذه املعرفة
للتقدم يف مختلف املجاالت اإلنسانية. وهكذا، فالخطوة األوىل يف تطبيق هذا املبدأ
تتمثل يف صياغة منهج للبحث. وقد أنجز ديكارت هذه املهمة يف كتابيه »القواعد«
و»املحادثة«، وطبقها يف تحليله للطبيعة، ويف تحليله لطبيعة اإلنسان والسلوك
اإلنساين. وكان الناتج رؤية عقالنية للعامل. هنا ال أستعمل كلمة »عقالين« باملعنى
الديكاريت لـ »العقالنية« )Rationalism )التي تقول إن العقل القبيل )priori aِ)
هو القوة التي تفكر وتحدد صحة املعرفة يف العلم والفلسفة، ولكن باملعنى األوسع
الذي يقول إن قدرات العقل من دون ما تفرضه من قيود أي سلطة دوغامئية أو
خرافية، أو تأثري خارج عن قدرات العقل، هي أفضل وسيلة للتقدم اإلنساين يف
السياسة واالقتصاد والرتبية والعلم والتنظيم االجتامعي. وأرى من املفيد أن نلقي
)٭( Fleche La de IV - Henri College ، هي كلية يسوعية تأسست عام .1903 ]املحرر[.

194
الصداقة
نظرة نقدية عىل أربع قواعد ألنها تلقي ضوءا كاشفا عىل مزاج العقلية املعارصة:
»أوالها أال أقبل أي يشء كحقيقة إن مل أدركها بوضوح، أي، أن أتجنب
االندفاع أو االنحياز يف األحكام؛ وأال أقبل منها سوى ما يدركه عقيل بكل وضوح
ومتييز، بصورة ال ترتك مكانا للشك بها. الثانية هي أن أفكك كال من املشكالت
التي أنظر فيها إىل أكرب قدر ممكن من األجزاء ليك أستطيع حلها بأفضل أسلوب
مناسب. الثالثة هي أن أتأملها برتٍو ابتداء من الجزء األبسط واملهمة األسهل؛
وبالرتتيب، وتدريجيا أنتقل إىل معرفة األجزاء األكرث تعقيدا، مفرتضا أنه يجمع
بينها نسق، حتى لو كان هذا النسق بني تلك األجزاء التي ال تبدو منسقة بصورة
طبيعية، مجرد وهم. األخرية هي: أن أضبط عدد كل األجزاء وأراجعها بصورة

.
)11(
ُ ِسقط أي جزء منها«

شاملة للتأكد من أنني مل أ
تأثر ديكارت يف تحليله لهذا املنهج بعلوم ورياضيات زمنه، وهو بذاته كان عاملا
ورياضيا. رأى أن مناهج هذه الفروع العملية تؤدي إىل معرفة أدق وأصح من بقية
الفروع؛ عىل األقل أدق وأصح من املعرفة التي تعلمها يف مدرسة الفليش. وإذا كان
سعي الفيلسوف سعيا من أجل الحكمة، وإذا كان الوصول إىل الحكمة يحدث يف
الحياة العملية، فهل ميكن لفيلسوف أن يتجاهل أي منهج قد يؤدي إىل هذا النوع
)12(. كال! ويف الحقيقة كان الفيلسوف دامئا مستجيبا لعمل أي عالِم
من املعرفة؟
أو باحث يساعدنا يف فهمنا الحياة اإلنسانية. هكذا كانت الحال يف العرص اليوناين
– الروماين، وبقيت هذه الحال إىل يومنا هذا. وعىل عكس بيكون، الذي تجاهل
أهمية الرياضيات يف تحليل هذا املنهج الجديد، دمج ديكارت كال من الرياضيات
واالستقراء يف منهجه. وساعده تطبيق هذا املنهج يف بناء نظام فلسفي شبيه بنظام
الهندسة، من دون أن مينع الفيلسوف من حقه يف أن يتأمل العامل ككل. وعىل
العكس مكنه هذا املنهج من التأمل امليتافيزيقي، ومن بناء أنظمة فلسفية عىل
أرضية ثابتة، عىل معرفة أكرث دقة ووضوحا للطبيعة اإلنسانية، كام أكد سقراط منذ
زمن بعيد. فإذا كان الفالسفة عاشقني للحكمة، فإنهم ال يستطيعون إهامل البحث
عن الحكمة يف أي نوع من أنواع املعرفة. حسنا، هل يف إمكان العالِم أن يستغني
عن الفيلسوف؟ وهل بإمكان الفيلسوف أن يستغني عن العالِم؟ طبعا ال، فقد كان
معظم العلامء يف العرص الحديث، مثال نيوتن وداروين ورشودينغر ودوركهايم،

195
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
مهتمني باألسئلة الرئيسية وبدورها يف دراسة الظواهر الطبيعية واإلنسانية. باإلضافة
إىل تأمالتهم الفلسفية، قدم الفالسفة باستمرار نقدا مفيدا الفرتاضات وتصورات
ومناهج ومضامني العلوم ودورها يف الحياة اإلنسانية. الجدار الذي يعزل اإلنسانيات
بعضها عن بعض، وأيضا العلوم، بعضها عن بعض يف هذه األيام مل يوجد يف أثناء
املرحلة األوىل والطويلة من العرص الحديث.
البحث عن املعرفة الصحيحة كان - إىل حد كبري - مرشوعا تعاونيا. وكان هدف
هذا املرشوع هو التقدم: تحسني الرتبية واملؤسسات السياسية والظروف االقتصادية
واملؤسسات القانونية والسلوك األخالقي. وعىل عكس ما يدعيه بعض الفالسفة
والنقاد، فالتعقلية )intellectualism )- الرأي القائل إن الشغل الشاغل للفلسفة
الحديثة هو التأمل امليتافيزيقي املجرد، والبحث عن املعرفة كهدف بذاته، أو أن
الفالسفة املحدثني معنيون ببناء أنظمة فلسفية - مل تكن القوة الدافعة للفلسفة
الحديثة. كانت الرغبة األولية لدى الفالسفة املحدثني هي اكتشاف أفضل ظروف
ميكن فيها للناس أن يعيشوا ككائنات إنسانية. وقد عرب عن هذه الرغبة بوضوح
فالسفة بينهم بيكون وديكارت ولوك وهيوم وكانت وهيغل وميل. وعند هؤالء، إذا
كانت اإلنسانية معطاة كإمكانية قابلة للتحقيق، فكيف ميكن تحقيقها. ولكن، أوال:
كيف نستطيع الجواب عن هذا السؤال إن مل نعرف بنيتها وديناميتها والرشوط
الالزمة الزدهارها؟ عىل سبيل املثال، من يستطيع قراءة »التجديد« لبيكون، أو
»فلسفة الحق« لهيغل، أو »العقد االجتامعي« لروسو، أو »كانديد« لفوليرت، أو
»رأس املال« ملاركس، من دون أن يدرك الشعور العميق باهتامم هؤالء الفالسفة
باإلنسانية بذاتها، وبالرغبة يف نرش رسالة الكرامة اإلنسانية وازدهارها؟ إعالن
مرياندوال أن **** خلق آدم ككائن حر وقادر عىل أن يصمم ويحقق مصريه هو
إعالن يسلط الضوء عىل القاعدة املنهجية األوىل لديكارت، »أال أقبل بأي حقيقة ما
إن مل أدركها بوضوح«. البحث عن الحقيقة مل يعد مسؤولية نوع ما من املرجعية.
ككائن إنساين عاقل، فأنا أملك القوى العقلية التي متكنني من البحث عن الحقيقة.
ما لو كرس الفيلسوف أو العامل نفسه للحقيقة، حتى يصبح خبريا بها، فإن حقيقة
ما ليست حقيقة بالنسبة َّ إيل ما مل أدركها بعني عقيل، وبالتايل ميكن يل أن أتقبلها
كحقيقة. هل باملصادفة كتب ديكارت »التأمالت« وأعامال أخرى بصيغة املتحدث؟

196
الصداقة
إن والدة الفردية، التي حدثت يف عرص النهضة، نضجت يف املراحل الالحقة من
العرص الحديث كأرضية لتحليل األنواع السلوكية النموذجية املتنوعة.
ولكن تاريخ الفلسفة الحديثة مل يكتسب مالمحه املائزة بانعزال عن تاريخ
العلم واملؤسسات األخرى، خاصة الفن والسياسة واالقتصاد والدين؛ كان منخرطا يف
جميع مجاالت هذه التجارب وهذه املعارف الحديثة. كانت الفلسفة الحديثة حية
ومتجاوبة مع التغريات التي كانت تحدث، وهي تعكس مسرية تطوراتها. بعض أعظم
التطورات يف الحضارة الغربية حدثت خالل الفرتة التي امتدت من القرن السادس
عرش إىل القرن التاسع عرش. تبنى الفيلسوف موقف املالحظ لهذه التغريات؛ وبقي
دائم االستعداد ألن يحللها ويتصدى للتحديات النظرية والعلمية الناجحة لها، دائم
االستعداد ألن ينزع الغموض عن التطورات التاريخية املستجدة، دائم االستعداد
ألن يعيد تقييم دور هذه التطورات يف حياة اإلنسان. جارت الفلسفة الحوادث
الدينامية والكثرية، واملتصاعدة دوما، التي كانت تتكشف حولها. فتح تحررها من
قبضة املرجعية الدوغامئية، التي قيدت العقل التأميل للباحث القروسطي، مجاالت
جديدة ومتنوعة ومثرية لالهتامم، وال متناهية، يف التفكري الفلسفي. دعوين أرشح
هذه النقطة بالرتكيز. فعرب تطورين أولهام داخيل والثاين خارجي، كام رشحت يف
الفصل السابق، شهدت الثقافة األوروبية منوا غري اعتيادي يف الفن، يف العامرة
والرسم والنحت واملوسيقى واألدب واملرسح. النور الروحي الذي انبثق عن هذا
اإلبداع الرائع، والذي ميتعنا حتى اليوم، مل يغفل عنه الفالسفة. والعكس صحيح،
فقد تجاوبوا معه بصورة بناءة ومثمرة. وكانت نتيجة هذا التجاوب انبثاق فرع
فلسفي جديد هو فلسفة الجامل )aesthetics). ترك لنا فالسفة اليونان والرومان
عددا رائعا من األعامل حول طبيعة الفن. هناك، مثال »فن الشعر« ألرسطو،
)٭(، باإلضافة إىل مناقشات

و»الجمهورية« ألفالطون، و»الجميل والجليل« للونجينس
األكويني يف طبيعة الجامل. ولكن ما من فليسوف قبل النهضة األوروبية قدم
دراسة منظمة لطبيعة الفن، والتجربة الجاملية، والتقييم الجامىل، ودور الفن يف
حياة اإلنسان، وعالقته بالعلوم األخرى. وأيضا ما من فيلسوف قبل هيغل قدم
)٭( Longinus، هو االسم املعروف للمؤلف املجهول لهذا الكتاب، ولونجينوس هو اسم الرمح الذي انغرس يف
جسد املسيح فوق صليبه. ]املحرر[.

197
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
تحليال منظام للتجربة الجاملية كواحدة من امليادين الجوهرية للتجربة اإلنسانية،
تتامثل بقيمتها مع التجارب الدينية واألخالقية والسياسية واالقتصادية والعقلية
واالجتامعية. انشغل الفيلسوف يف القرون الوسطى بالعامل اآلخر، ولكنه توجه إىل
اإلطار اإلنساين يف العرص الحديث. وكلام ازداد هذا اإلطار تنظيام وتأسيسا أسهم
الفيلسوف بقدراته املنهجية يف تحليله بصورة منظمة ونقدية وعقلية. ومن ناحية
أخرى، فالفلسفة ذاتها أصبحت أكرث واقعية وأكرث إنسانية.
ثانيا، يف املرحلة األوىل من النهضة األوروبية، عندما تبني أن املنهج العلمي أكرث
فعالية يف معرفة العامل، استقبل فالسفة، بينهم بيكون وديكارت وهوبز، هذا التطور
بحامس. جدد كل من العقليني والتجريبيني بناء فهمهم وفقا للمنهج املستعمل
يف الفيزياء والفلك. مثال يف مقدمة »املحادثة« )Treatise )كتب هيوم »ومبا أن
علوم اإلنسان هي األساس الوحيد للعلوم األخرى، لهذا فاألساس الوحيد الذي ميكن
)13(. ولكن قبول

أن نتبناه يف هذا العلم يجب أن ينبني عىل التجربة واملالحظة«
واستعامل هذا املنهج يف تحليل الطبيعة اإلنسانية أدى إىل انبثاق العلوم األخرى. مل
يكن هذا التطور سهال يف بداية األمر. ويف الواقع احتاجت هذه العلوم نحو قرنني
ليك تنفصل عن جسد الفلسفة. والحقيقة أن مفهوم الكائنات اإلنسانية بوصفها
كائنات طبيعية، من حيث الجوهر، مل يقبل بصورة كاملة حتى النصف الثاين
من القرن التاسع عرش، عندما بدأت سيادة الفلسفة الهيغلية يف الرتاجع، وعندما
وصل املنهج العلمي بذاته إىل درجة معقولة من الوضوح. وقد أدى مفكرون مثل
)٭٭( ودوركهايم وداروين دورا مفصليا يف انفصال العلوم

)٭( وماركس وكومت
فيورباخ
عن الفلسفة. ولكن عىل الرغم من أن هذه العلوم انشقت عن الفلسفة وأصبحت
فروعا أكادميية مستقلة، فإن الفلسفة مل تتخلص منها ألنها استمرت يف املساهمة يف
األمناط السلوكية املختلفة. وكيف لها أن تتجنب هذه املساهمة إذا كانت رسالتها
دامئا هي توسيع إطار فهمنا للعامل؟ هل مصادفة أن فلسفة كل علم من هذه
العلوم ازدهرت يف الفلسفة الحديثة؟ عىل أي حال، أظهرت فلسفة الحداثة - ليس
فقط يف هذا املجال من البحث، ولكن أيضا يف جميع مجاالت البحث ـ تجاوبا
)٭( Feuerbac Ludwig، فيلسوف أملاين من القرن التاسع عرش. ]املحرر[.
)٭٭( Comte Auguste، فيلسوف فرنيس ولد نهاية القرن الثامن عرش وعاش وأبدع يف القرن التايل. ]املحرر[.

198
الصداقة
مبدعا مع التحديات والتطوات الثقافية واملشكالت التي واجهت املجتمع يف األزمنة
الحديثة، وهي بهذه الطريقة تعكس روح الثقافة التي هي مؤسستها الوحيدة.
4 - النموذج األخالقي الحديث
آمل أن تكون املناقشة السابقة برمتها قد مهدت الطريق لتحليل سؤال مركزي:
ما نوع الرؤية األخالقية الكامنة يف النموذج الثقايف الحديث؟ ارتكزت مناقشتي عىل
فرضيتني. أوال: تكشف نظرية العامل الحديثة الستار عن سامت أساسية عامة هي
اإلنسانوية والعقالنية والحيوية. ثانيا: تنعكس هذه السامت يف النموذج الثقايف
األورويب الحديث، أي يف املؤسسات التي تشكل نسيج الثقافة األوروبية الحديثة. القيم
واملعتقدات التي تؤسس هذه املؤسسات وتحدد هويتها هي األطروحة التي كنت
ومازلت مشغوال بتفسريها، ومؤداها أن النامذج السلوكية املختلفة تكتسب بنيتها
من نوعية فهمها لهذه املؤسسات، وتستمد كيانها من رؤية املجتمع للعامل، من نوع
نظرتها إىل الطبيعة وإىل طبيعة اإلنسان. يحل هذا الفهم يف نسيج النموذج الثقايف،
فهو مبنزلة الضوء الذي ينري مسريتها التاريخية. ويف نهاية املطاف، تنبثق الثقافة، كام
جادلت سابقا، عن رؤية للخري األسمى، أي للسعادة اإلنسانية. القيم األخالقية التي
هي أساس القرارات واألفعال األخالقية تنبثق عن هذه الرؤية. ويتضمن املنطق الذي
ُرش يف
يشكل بنية هذا االنبثاق مبدأ تربير القيم الرضورية لتحقيق السعادة. دعني أ
هذا املفرتق من مناقشتي إىل أن القضية التي أؤكدها هنا تأخذ بعني االعتبار ليس
فقط القيم املتداولة، ولكن أيضا القيم الكامنة يف الثقافة، وإال فكيف تفرس إمكانية
التقدم األخالقي أو لجوء شخص - مثل سقراط، يف صنع بعض قراراته األخالقية - إىل
صوت أعىل من الصوت املتعارف عليه اجتامعيا؟ عالوة عىل ذلك، كيف تستطيع
تفسري تغري وتطور وتنوع القيم األخالقية التي ترصع نسيج الثقافات املختلفة يف
العامل؟ لهذا السبب علينا دامئا اللجوء إىل رؤية الثقافة األخالقية كمصدر كامن للقيم
األخالقية. وإذا استبعدنا ذلك، فإنه من الصعب اعتبارها رؤية. مهمة الفيلسوف هي
اكتشاف املنطق الكامن يف هذه الرؤية والرشوط الالزمة النبثاق القيم منها.
واآلن، فلو ألقينا نظرة مقارنة عىل العرصين القروسطي والحديث، لوجدنا
تحوال راديكاليا يف النموذج. الحقيقة اإللهية الكامنة يف الوحي، والتي كانت أساس

199
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
النموذج األخالقي للعصور الوسطى، حل محلها أساس آخر. يف العصور الوسطى
تحدد معنى الخري األسمى بناء عىل االعتقاد بوجود كائن أخروي متعال، ولكن
يف العرص الحديث تحدد معنى الخري األسمى بناء عىل مفهوم معني للطبيعة
اإلنسانية. وبغض النظر عن منط تفكريهم، بحث فالسفة العرص الحديث عن
رؤيتهم للخري األسمى يف الطبيعة اإلنسانية. طبعا، كان تصور الخري األسمى يف
القرون الوسطى أيضا مبنيا عىل معرفة معينة بالطبيعة اإلنسانية، ولكن مل يكن
هذا التصور مبنيا عىل معرفة علمية وفلسفية، بل نبع من مرجعية دينية. أما
املنهج الذي اعتمد عليه فالسفة العرص الحديث يف تصورهم للطبيعة اإلنسانية،
فارتكز عىل معرفة عقلية، ذلك النوع من املعرفة الذي يعتمد عىل املالحظة،
وعىل منط متظهر الطبيعة اإلنسانية يف اإلنجازات الحضارية اإلنسانية املاضية
والحارضة. اعتمد فالسفة العرص الحديث عىل هذا النوع من املعرفة يف صياغة
تصورهم للخري األسمى، ويف بناء نظرياتهم األخالقية. عالوة عىل ذلك، وبصورة
مختلفة عن الفالسفة القروسطيني الذين كانت تحليالتهم للطبيعة اإلنسانية
وللخري األسمى متشابهة مع بعضها إىل حد كبري، كانت تحليالت الفالسفة
الحديثني مختلفة بعضها عن بعض. يف الحقيقة، إحدى الصفات البارزة للفلسفة
الحديثة هي التعددية. ولكن عىل رغم هذه التعددية، اشرتكت رؤيتهم بصفتني
ُسست رؤية الفيلسوف األخالقية عىل تصوره

شكليتني ولكن أساسيتان: أوال، أ
للطبيعة اإلنسانية. وثانيا، كان هدف القيم األخالقية املستمدة من الخري األسمى
هو تحقيق السعادة عىل هذه األرض )يف هذه الحياة(. تذكرنا هذه الفكرة
باملقولة اليونانية أن فعل الفضيلة هو مكافأتها، أي السعادة؛ أو القول بأن عظمة
الفضيلة تكمن ىف مقدرتها عىل تحقيق السعادة، وهذا ال يعني، بحكم الرضورة،
أن الفضيلة مجرد وسيلة إىل هدف، أي أنها ذات قيمة بقدر ما هي نافعة. فام
يعنيه هذا القول هو العيش وفقا ملتطلبات الطبيعة اإلنسانية، إذ كيف ميكن
للفرد أن يكون سعيدا إذا كبت هذه املتطلبات؟ واقعيا، كبت هذه املتطلبات
يعني نكران السعادة. وما الفضائل سوى دروب تؤدي إىل السعادة؟ ثانيا، ملاذا
يكون من واجبي أن أكون أخالقيا إذا كانت األخالق تؤدي إىل التعاسة؟ قد أتقبل
حياة مملوءة بالتعاسة فقط إذا حصلت عىل ضامن، من دون أي شك، أن نفيس،

200
الصداقة
أي ذايت الحقيقية، ليست جسدي، وأنني سأحصل عىل السعادة الحقيقية يف
العامل اآلخر. هل كان يف إمكان أيوب أن يتحمل التعاسة لو مل يكن عىل يقني بأن
**** سوف ينقذه بطريقة ما؟ ولكن مل يكن تحليل فالسفة الحداثة للخري األسمى
ُ ْخرويا بل »دنيوي«. كانت السعادة عىل هذه األرض هي اهتاممهم األ ّويل. يف
أ
هذا السياق الثقايف أو ذاك كان من الصعب جدا بالنسبة إليهم تقديم تربير عقيل
لوجود الروح أو العتبارها موئل العقل، وكان أيضا من الصعب بالنسبة إليهم
إيجاد تربير عقيل لوجود عامل آخر تسكنه الروح فيام بعد.
اآلن، وبناء عىل النموذج الثقايف الحديث، ما نوع الرؤية األخالقية الكامنة فيه؟
كيف ميكن ترجمة هذه الرؤية إىل تصور للخري األسمى؟ هدفنا من اإلجابة عن هذا
السؤال مزدوج: )أ( معرفة ما إذا كان النموذج األخالقي للعرص الحديث حقيقة
مغروسة يف النموذج الثقايف، وهدفنا هنا هو املنطق الذي يظهر العالقة بني تصور
الفيلسوف للخري األسمى، من جهة، وعالقة الخري األسمى بالفضائل املقرتحة كوسيلة
لتحقيقه، من جهة أخرى. ال يجوز لنا أن نرفض أو نقبل قيمة أخالقية، مثل الصداقة،
كقيمة أدت دورا حيويا يف تحقيق السعادة، ومن ثم خدمت النظرية األخالقية ملدة
ألف سنة، من دون إظهار الدور الذي لعبته فضيلة كهذه يف تحقيق السعادة.
إحدى الصعوبات البارزة التي تواجه الباحث عند تصور الخري األسمى يف
العرص الحديث هي كرثة النظريات األخالقية يف ذلك العرص. باإلضافة إىل اختالف
توجهاتهم امليتافيزيقية واملنهجية - تجريبية، مادية، مثالية، رومانسية، حيوية،
الهوتية - قدم هؤالء الفالسفة تصوراتهم الفردية للخري األسمى. لقد كانوا فردانيني.
عكست رؤيتهم األخالقية فهمهم الفردي للطبيعة والعامل. ولكن عىل الرغم من
فردانيتهم، كان جميع فالسفة الحداثة أبناء ثقافتهم. أدركوا العامل من وجهة نظرها.
جميعهم انطلقوا يف ترجمتهم للرؤية األخالقية من تصور للخري األسمى يقوم عىل
فهمهم الطبيعة اإلنسانية، ويتصل بإدراكهم حقيقة أن الخري اإلنساين يكمن يف كامل
الطبيعة اإلنسانية، ويف الرغبة الجوهرية يف تحقيق القدرات التي ُت ّعرف الطبيعة
اإلنسانية. هل تكون الدعوة إىل تحقيق السعادة سوى دعوة إىل تحقيق ذواتنا
ككائنات إنسانية؟ حسنا إذا كان البرش جزءا من الطبيعة، وإذا كان الجوهر اإلنساين
معطى كقدرة مكافئة، وإذا كانت العنارص التي تشكل جوهر هذه القدرة هي

201
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
العقل والشعور واإلرادة، وبالتايل، فإذا كان لب هذه اإلنسانية ورشارتها الباطنية
هام الرغبة يف الحياة - الرغبة، اإلرادة، الدافع، العاطفة، الحب - فام الذي ميكن
أن يرتكب منه تصور الفيلسوف للخري األسمى؟ من منظور منطقي، وأيضا وجودي
وتاريخي، فالجواب الوحيد الذي ميكن إعطاؤه لهذا السؤال هو تنمية اإلنسانية -
كاملها، أو منوها وتطورها كذات إنسانية. علينا هنا أن نتذكر أن الجوهر اإلنساين
عىل مستوى الواقع عملية )process)، مسرية. نعيش يف الزمن؛ ونحن كائنات
زمنية. هذا تحديدا يعني هو أننا جزء من الطبيعة. وجود الحجر أو الشجر - إىل
حد كبري - معطى )جاهز(، ولكن الوجود اإلنساين غري معطى، إنه يف عملية تكون
مستمر، يف عملية تكوين ذايت. كانت هذه البصرية هي الركيزة األساسية للرؤية
األخالقية التي تؤسس النموذج األخالقي. نعم، صاغ فالسفة العرص الحديث هذه
الرؤية بتصورات مختلفة، بلغة اللذة أو املحبة أو املنفعة أو الواجب أو التحقيق
الذايت أو الكامل. وفرسوا هذا التصور بطرق مختلفة. ولكن معظمهم تبنى هذه
البصرية يف تحليلهم السعادة. دعوين أرشح هذه النقطة مبثال: اللذة.

َ ُ سمى وأن اللذة ت ّعرف السعادة

أول من اقرتح فكرة أن السعادة هي الخري األ

)٭(، أحد تالميذ سقراط ومؤسس املدرسة

كان الفيلسوف اليوناين القديم أرستبوس
القورينية. أبيقور ّطور هذه الفكرة بصورة منظمة ومن وجهة نظر مادية. وقد
حازت قبول عدد من أهم الفالسفة يف القرن الثاين بعد امليالد، خصوصا الفيلسوف
الروماين لوكرييتيوس )Lucretius)، ولكنها تراجعت يف القرون الوسطى بسبب
سيادة الفكر املسيحي، بيد أن املفكرين اإلنسانويني يف عرص النهضة أحيوها، وكان
ُسست عليها واحدا من أهم التوجهات

هوبز أول من اعتنقها، مدشنا بأعامله التي أ
األخالقية وأكرثها تأثريا يف تاريخ الفلسفة، وهو النفعية. وفق هذا التوجه فاللذة
هي مبدأ التمييز األخالقي ومن ثم أساس السعادة. طرأ عىل هذا املبدأ تحليل
فكري عميق ودقيق عىل أيدي فالسفة مثل لوك وهيوم وبنتام وشوبنهاور، وبلغ
التوجه ذروته عىل أيدي فالسفة مثل ميل. ففي كتابه »املنفعة« جادل ميل بقوة،
والبعض يقول بصورة مقنعة، بأنه ال ميكن رد اللذة إىل اإلحساس أو الشعور أو
)٭( Aristippus، هو أرستبوس القوريني من القرن الخامس قبل امليالد، ومؤسس املدرسة الفلسفية يف قورينا الليبية.

202
الصداقة
إىل أي نوع من الحوادث النفسية. وهكذا، كام قال، فال ميكن لها أن تكون لذة
الخنازير ولكن لذة اإلنسان الذي يستمد سعادة من إشباع ما تحتاجه امللكات
اإلنسانية العليا. يف نهاية األمر، فهدف العمل اإلنساين هو الخري اإلنساين. وهذا
يشمل الخري االجتامعي والعقيل والجامعي والسيايس واالقتصادي والنفيس. بيد
أن هذه املهمة ليست سهلة. فكيف ميكن يل أن أنرش الخري يف حياة اآلخرين
أو يف حيايت إن مل ينبثق حكمي األخالقي من حس أخالقي؟ إن مل يحدث ذلك
فسوف يبقى حكمي مجردا عشوائيا، وسوف يفتقد الحكمة. لهذا السبب شدد
ميل عىل أن تثقيف أو تربية الشخصية أو الفردية هي الغاية العليا للرتبية، وإال
فإنه من الصعب عىل الفرد أن مييز بني اإلشباع الخنزيري وإشباع احتياجات الكائن
اإلنساين. وهو يعرب عن هذه الفكرة بقولته املشهورة، »من األفضل أن يكون الفرد
كائنا إنسانيا غري راضٍ عن أن يكون خنزيرا راضيا«، أو من األفضل أن يكون الفرد
سقراط وهو غري ر ٍ اض عن أن يكون أحمق راضيا. وإذا كان لدى األحمق أو الخنزير
رأي مختلف فهذا ألنه ال يعرف سوى ما يخصه من املسألة، أما الطرف اآلخر
)14( ما يخصه وما ال يخصه. وال يعني ميل بكلمة تربية

فيعرف األمور بوجهيها«
تربية الفيلسوف، ولكن عملية إمناء وتطوير أي كائن إنساين. يكتب ميل: »ال أعني
بالعقل املثقف عقل الفيلسوف، ولكن أي عقل انفتحت فيه ينابيع املعرفة وتعلم
إىل درجة معقولة أن ميارس ملكاته، أي أن يكتشف اهتاممات ال حدود لها يف البيئة
الطبيعية واإلنسانية حوله ويف الفن وخيال الشعر وحوادث التاريخ وأطوار تاريخ
)15(. يرتكز هذا القول عىل

اإلنسانية يف املايض والحارض وتوقعاتها يف املستقبل«

)٭(، الذي يقول إن »هدف

املبدأ األساس الذي شاركه فيه فيلهيلم فون هامبولت
اإلنسان، الذي تحدده مقوالت العقل األبدية والخالدة وغري املستمدة من الرغبات
الغامضة والوقتية هو أعىل درجة يف تطور القوى اإلنسانية ليك تصبح كال متكامال،
وأن يكون هذا الهدف محور جميع النشاطات واملساعي اإلنسانية، وأن يكون
)16(. يتضمن هذا

تطوير هذه القوى أساس الجهد الذي يبذل يف مساعدة اآلخرين«
املبدأ الفكرة التي شددت عليها مرارا، وهي أن الطبيعة اإلنسانية مل تعط لنا كواقعة
)٭( Humboldt von Vilhelm ، فيلسوف برويس من القرن التاسع عرش. ]املحرر[.

203
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
جاهزة، بل كقدرة تنتظر التحقيق. وبكلامت ميل: »الطبيعة اإلنسانية ليست آلة
ُت َصنع وفقا لنموذج معني وال لتحقيق هدف معني، لكنها شجرة بحاجة إىل أن ُت ّنمى
)17(. ولكن
ُوت ّطور نفسها يف جميع إمكاناتها وفقا للقوى التي تجعلنا كائنات حية«
هذه الفكرة التي انترشت يف بداية عرص النهضة أصبحت أحد االفرتاضات األساسية
يف الفلسفة الحديثة، وأصبحت طريقة التفكري املعتمدة لتحليل وفهم الطبيعة
اإلنسانية ومكانتها يف نظام الطبيعة. وقد يتساءل أحد ما: ملاذا يتعني عىل الفرد أو
املجتمع أن يركز انتباهه عىل النمو والتطور اإلنساين؟ لقد كان جواب ميل عن هذا
السؤال واضحا. فمن بني األعامل التي تستخدم الطبيعة لتحقيق كاملها وجاملها،
)18(. ومبا أن اإلنسانية هدف وليست

فأهمها هو اإلنسان ذاته يحتل موقع الصدارة
حقيقة واقعة، فهل يكون املصري الذي مييض باتجاهه اإلنسان هو الكامل اإلنساين
)perfection human )ولكن هل يوجد مصري أفضل من هذا املصري؟ استعمل
ميل كلمة منفعة كتوضيح فقط، ولكن هذه الرؤية األخالقية بقيت عند هيغل
املثايل، ونيتشه الحيوي، وماركس املادي، وجيمس الرباغاميت، وعند من ساروا يف

.
)19(
دربهم الفلسفي
ولكن الفيلسوف الحديث سعى إىل توفري مبدأ أخالقي يقوم بوظيفة أساس
للفعل األخالقي عىل املستويني الفردي واالجتامعي. وال ميكن فصل أحد هذين
املستويني عن اآلخر، فكام شدد أفالطون: »خري« الفرد و»خري« املجتمع واحد، ألن
املجتمع ليس سوى تنظيم غايئ لألفراد. كيف ميكن البحث عن الحياة الصالحة يف
املجتمع إن مل يكن املجتمع بيئة مناسبة الزدهار حياة الفرد الصالحة؟ مرة أخرى،
سبب وجود املجتمع هو املقدرة عىل متكني األفراد من تحقيق رغباتهم وحاجياتهم
وأمنياتهم. يف تربيرهم لعملية االنتقال من الحالة الطبيعية إىل حالة املجتمع، اعتمد
الفالسفة من هوبز إىل كانت عىل هذا املبدأ. علينا دامئا أن نتذكر أنه وفق أفالطون،
فالحاجة هي مصدر )أصل( الدولة. ولكن السؤال الذي يجب أن نتذكره دامئا هو
ما هي الحاجيات اإلنسانية؟ كيف تساعد عىل تعزيز االزدهار اإلنساين؟ وتحت أي
رشوط ميكن تأمني هذه الحاجيات؟ هذا التأمني هو أساس رشعية الدولة، وأيضا
أساس اإلصالح االجتامعي. دعوين أرشح هذه النقطة بثالثة أمثلة تتباين ترجامتها
للخري األسمى: إسبينوزا، وبنتام، وكانت. أختار هذه األمثلة ألشدد عىل نقطتني

204
الصداقة
مهمتني، عىل تنوعهم وعقليتهم اإلصالحية. أوال: مل تكن النظريات األخالقية التي
رصعت مشهد الفلسفة الحديثة متامثلة، كام كانت الحال يف العصور الوسطى،
يف تصوراتها للخري األسمى، بل كانت تعرب عن ترجمة الفيلسوف للرؤية األخالقية
الكامنة يف النموذج الثقايف الذي عاشه. ثانيا: كان هدف املبادئ األخالقية لهذه
النظريات توفري أساس للفعل األخالقي عىل املستويني الفردي واالجتامعي وتقديم
اقرتاحات تساعد عىل بناء أو إعادة بناء املؤسسات االجتامعية. باختصار، ُقّدمت
املبادئ األخالقية لهذه النظريات كمبادئ لتنظيم السلوك اإلنساين عىل مستويي
الفرد واملجتمع، فكل واحد من هذين املستويني يفرتض اآلخر.
أوال: بعد أن تأمل إسبينوزا طويال نظام الطبيعة ومجريات الحياة اإلنسانية،
توصل إىل اقتناع بأن الخري األسمى يف نهاية املطاف هو معرفة **** واالتحاد معه.
ومبا أن **** هو الطبيعة برمتها، إذن فالخري األسمى هو اتحاد العقل مع نظام
)20(. يف الحقيقة،

الطبيعة بأرسه، »إنه معرفة االتحاد بني العقل والطبيعة برمتها«
يشكل هذا االتحاد الكامل اإلنساين. ويرتجم إسبينوزا هذا الكالم بلغة اللذة، ال
لذة الجسد بل اللذة الناجمة عن محبة ****، فكل يشء نسعى من أجله بوصفنا
كائنات إنسانية يجب أن ينبثق من هذا الخري. يرشح إسبينوزا معنى وطريقة
تحقيق هذا الهدف بكتابه »األخالق«. فعىل هذا النوع من املعرفة أن يكون أساس
حياة الفرد واملجتمع. مثال، ال أستطيع الحصول عىل السعادة من دون مساعدة
وتعاون اآلخرين. سعادة اآلخرين جزء ال يتجزأ من سعاديت. »جزء من سعاديت
هو مساعدة اآلخرين عىل أن يفهموا ما أفهمه ليك ينسجم فهمهم ورغبتهم مع
)21(. وثالثة رشوط يجب أن تتوافر للحصول بقدر اإلمكان عىل هذا

فهمي ورغبتي«
النوع من املعرفة: )أ( علينا أن نفهم الطبيعة عىل أفضل وجه، إذن ال ميكن إجامل
مختلف حقول املعرفة كالطب وامليتافيزيقا والفلسفة األخالقية والرتبية والعلوم
املختلفة يف السعي من أجل الخري األسمى. )ب( بناء نظام اجتامعي يؤدي إىل
تحقيق هذا الهدف. )ج( ّ بناء نظام تربوي ميكن العقل من تنمية قدرته عىل الفهم
ّ وعىل التمييز بني الصواب والخطأ وفهم مكانته يف نظام الكون. طور إسبينوزا هذه
الفكرة يف كتابه »محادثة سياسية – الهوتية«. هنا يجادل بوضوح بأنه علينا أال
نبحث عن املعرفة من أجل املعرفة، ولكن من أجل تحقيق الخري األسمى، ألنه من

205
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
البديهي أنه ال يوجد أي خري أكرث سموا منه. وهو يقول »من الواضح أين أرغب يف
أن أوّجه جميع العلوم نحو هدف واحد، وذلك ليك نحصل عىل الكامل األسمى
الذي ناقشناه. إذن، أي جزء من العلوم ال يخدم هذا الهدف ال قيمة له. وإذا أردنا
اختصار هذه النقطة ميكن القول إنه يجب عىل جميع أفكارنا وأفعالنا أن تتوجه
)22(. وهكذا، فالسعي من أجل معرفة **** ليس

نحو هذا الهدف )االتحاد مع ****(«
بحثا عن معرفة مجردة، ألنها مبارشة وكلية وأيضا ألنها نهائية، كلية. وألنها نهائية
وكلية فهي أفضل مصدر للمبدأ الفردي لتنظيم املؤسسات االجتامعية والحياة
الشخصية. وأيضا ميكن القول إنها السعي من أجل السعادة الحقيقية والدامئة
ألن موضوعها هو ****، األساس املطلق والدائم للوجود بأكمله. فقط عندما نتأمل
مشهد الحياة اإلنسانية من وجهة نظر هذه املعرفة يتسنى لنا التقدم يف تحقيق
الخري األسمى. وقد يتساءل الفرد عام إذا كان من الرضوري أن يكون هذا الخري
أيضا خري اآلخرين، ورمبا خري جميع اإلنسانية. ولنفرض أن مجموعة من الناس
اختارت مبدأ الفضيلة أو العقل، فهل ستحقق بالرضورة الهدف ذاته؟ »أجيب
عن هذا النوع من التساؤل«، يقول إسبينوزا، »بالقول إنه يرتتب عىل ذلك، ليس
بحكم املصادفة ولكن وفقا لطبيعة العقل بذاته، أن خري اإلنسان األسمى هو خري
)23(. منطق
الجميع بقدر ما هو مستمد من جوهر اإلنسان وبقدر ما يعرفه العقل«
إسبينوزا واضح، فإذا كانت الكائنات اإلنسانية جوهريا عقلية، وإذا كان العقل
مشرتكا بينها، وإذا كانوا يعيشون بالظروف الطبيعية ذاتها، فسوف يصلح بالرضورة
أنه يف السعي من أجل الخري األسمى سوف يصلون إىل النتيجة ذاتها، وقد يعربون
عن اكتشافهم ملعنى هذا الخري بلغتهم الفلسفية والثقافية، ولكن مضمون هذا
االكتشاف سوف يكون مشرتكا بينهم.
ثانيا، بعد أن شهد، وبشعور باإلحباط، مساوئ امللكية اإلنجليزية يف الواليات
املتحدة التي أدت إىل الثورة األمريكية، وأنانية والمباالة األرستقراطيني يف أوروبا،
والتي أفضت إىل الثورة الفرنسية، والبطء املؤمل للتقدم االجتامعي يف جميع أنحاء
ُص بنتام إىل أن أفضل طريقة للتغلب عىل

أوروبا الذي أدى إىل استياء عام، خل
هذه املساوئ ومساوئ مثلها هي خلق الرشوط الرضورية لإلصالح االجتامعي؛
وأن الخطوة األوىل لتحقق هذه الرشوط هي خلق نظام سيايس ينرش أكرب قدر

206
الصداقة
من السعادة يف حياة أكرب عدد من الناس. باستطاعة الجامهري أن تتحمل مساوئ
متزايدة وغري مربرة بعض الوقت، ولكن ال تستطيع الصمت إىل األبد. ولهذا
فالطريقة الوحيدة لتأمني استقرار سيايس واجتامعي وتعزيز إمكانية التقدم هي
حامية وتعزيز سعادة الناس، والطريقة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف هي تأسيس
نظام سيايس عادل. فامذا ميكن أن يكون أساس هذا النظام؟ املنفعة! يكون القانون
عادال بقدر ما يعزز مصالح الناس - بقدر ما يعزز منفعتهم أو سعادتهم. املعيار
ِّ املحدد للمنفعة هو اللذة. ويف تطوير هذا الخط املنطقي حذا بنتام حذو لوك
.
)٭(
ومونتسكيو وهلفيتيوس وهيوم، واقتدى عىل نحو خاص بالفيلسوف بيكاريا
ولكن السؤال الذي واجهه كان فلسفيا: كيف ميكن تربير هذا الخط من التفكري؟
يجب عىل أي خط من التفكري أن يرتكز إىل مبدأ صحيح. اكتشف كام اكتشف
جميع املنفعيني من قبل أن أقوى دافع يف الطبيعة البرشية هو دافع اللذة وتجنب
األمل، ويف الحقيقة، اللذة واألمل هام السيدان اللذان يحكامن الطبيعة اإلنسانية:
»هام يحددان ماذا يجب أن نفعل، وماذا سنفعل. إن معايري الخطأ والصواب من
ناحية، وسلسلة األسباب والنتائج من ناحية أخرى معلقة بتاج اللذة واألمل. هام
يتحكامن يف كل ما نفعله، ويف كل يشء نقوله، ويف كل يشء نفكر فيه. وكل محاولة

.»)24(
نقوم بها للتحرر من سلطتهام تربهن عىل قوتهام
واآلن، فإذا كانت اللذة هي الدافع األقوى يف الطبيعة البرشية فيصلح بالرضورة أن
الخري األسمى ومن ثم السعادة تتكون من نرش أكرب قدر من املتعة يف حياة الفرد
والجامعة، ويصلح أيضا القول إن اللذة هي جوهر املبدأ األعىل للتمييز األخالقي.
إذن، أساس النظام القانوين، وفقا لبنتام، هو هذا املبدأ: مبدأ املنفعة الذي يحدد
»ما إذا كان الفعل، بغض النظر عام إذا كان فعل الفرد أو الحكومة، يتسم بالصفة
األخالقية، بقدر ما يعمل عىل زيادة أو نقصان سعادة الشخص الذي يقوم به.
)25(. أوال:
وبكلامت أخرى فهو يعمل عىل تعزيز أو نقصان سعادة الطرف املعني«
ميكن وصف الفعل بالخري أو الحق إذا كان يعمل عىل نرش أكرب قدر من السعادة.
إن ما يجعل الفعل فعال أخالقيا هو مقدرته عىل تعزيز السعادة. عندما يتخذ األفراد
)٭( Beccaria Cesare، فيلسوف وفقيه قانوين إيطايل من القرن الثامن عرش. ]املحرر[.

207
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
قراراتهم، فإن عليهم تقييم األفعال املختلفة املتاحة لهم واختيار املسار الذي يعظم
سعادتهم. ولكن قد يكونون يف بعض الحاالت ملزمني ألن يسلكوا بطريقة معينة.
وحتى يف حاالت كهذه فإن املنفعة هي أساس الفعل، حسنا، ما هو مصدر اإللزام؟
هذا املصدر ليس طبيعيا، مبعنى أن الكائنات اإلنسانية ال متلكه كملكة كامنة يف
الطبيعة اإلنسانية، وليس مقدسا، مبعنى أن أساس الفعل هو صوت أو أمر إلهي. إنه
حس مركب من مصدر خارجي - الدين، الدولة، األعراف االجتامعية، قوانني الطبيعة
- هذه القو ُى ت ّشكل الشعور بااللتزام األخالقي وفقا ملبدأ املنفعة.
ثانيا، أي فعل تقوم به الحكومة، مرشوعا كان أو قانونا أو فعال، فهو يتسم
بالصفة األخالقية بقدر ما يعمل عىل نرش أكرب قدر من السعادة بني الجامعة. ولكن
بنتام كان يطمح إىل »تأسيس« قانون املنفعة؛ كام فعل إسبينوزا من قبله، فقد
أراده، أن يكون أساس املؤسسات االجتامعية، إذ ال ميكن لنظام القانون أن يقوم
بوظيفته عىل خري ما يرام إال إذا تحقق هذا الطموح، وال ميكن للفرد أن يعيش يف
ظل السالم واالزدهار والعدالة إال إذا قام هذا النظام بوظيفته عىل خري ما يرام.
ثالثا، عندما نأيت إىل كانت نصل إىل منعطف تحول حاسم يف تطوير النظرية
األخالقية الحديثة. فقد وّسع تحليله للخري األسمى - الفضيلة والسعادة - إطار
التنظري األخالقي، ومارس دورا محوريا يف تطور النظرية األخالقية يف القرنني
التاسع عرش والعرشين. معظم الفالسفة قبل كانت عالجوا العالقة بني الفضيلة
والسعادة عىل نحو غامض، ويف كثري من األحيان عرفوا الواحدة باألخرى. مثال،
وفق األبيقوريني، فالسعادة هي »الخري األسمى برمته، والفضيلة ليست سوى
)26(. وهكذا فإن

صورة القاعدة )maxim )التي تتحدد باستعامل املنهج العقيل«

)27(. ووفق الرواقيني، من

»الفضيلة هي استيعاب القاعدة التي تؤدي إىل السعادة«
ناحية أخرى، فإن »الفضيلة هي الخري األسمى برمته، والسعادة ليست سوى الوعي
)28(، وهكذا »فوعي )إدراك( املرء بفضيلته هو

بحيازته من حيث عالقته بالذات«
)29(. ولكن، يجادل كانت، بأن تصور الفضيلة )األخالق( وتصور السعادة
السعادة«
مختلفان أحدهام عن اآلخر، وال ميكن دمجهام أو رد أحدهام إىل اآلخر. األول عقيل،
.)30(
والثاين تجريبي بطبيعته. األول مستمد من العقل الخالص، والثاين من التجربة
ولكن وفق كانت فاملصدر األعىل )supremum« )هو الرشط غري الرشطي، أي

208
الصداقة
الرشط غري الخاضع لسواه )originarium)؛ واألخري هو الكيل الذي ليس جزءا
ثانويا من كل أكرب من النوع نفسه (perfectis(»(31). الفضيلة هي الخري األسمى،
ولكن الخري هو مركب )وحدة( من الفضيلة والسعادة، هذان املفهومان يتضمن
كل منهام اآلخر، مبعنى أنه ال ميكن للفرد أن يكون فاضال، من دون أن يكون
سعيدا، وال يكون سعيدا من دون أن يكون فاضال، الرغبة يف السعادة هي الدافع
لفعل الفضيلة، وفعل الفضيلة هو السبب الفاعل للسعادة. عىل رغم أن أساس
الفضيلة هو العقل، وأساس السعادة هو الرؤية أو التجربة، فال ميكن اعتبارهام
عدائيني أو متعارضني أحدهام مع اآلخر، أي ال ميكن اعتبار اهتامم العقل )أساس
الحكم( واهتامم الرغبة )أساس اللذة( أعداء. علينا أن نتوقع من اإلنسان الفاضل
أن يسعى من أجل السعادة، ومن اإلنسان السعيد أن يسعى من أجل الفضيلة.
قد يتساءل الفرد عام إذا كان هذا االنسجام ممكنا، خصوصا أن العقل ملكة
كلية ومتعالية، بينام الرغبة ملكة شخصية وتجريبية: ما هو أساس هذا االنسجام
املمكن؟ أوال يجادل كانت، أن من الجائز افرتاض أن »خالق الكون« صممهام ألن
يتفاعال بانسجام. ولكن ملاذا اضطر هذا الخالق لجعلهام متضاربتني إحداهام مع
)32(. ثانيا، وبصورة أكرث مبارشة، فإمكانية تحقق الوسيط بني هاتني امللكتني
األخرى؟
ومن ثم تحقيق الخري األسمى تكمن يف حرية اإلرادة، يف مقدرة الكائن اإلنساين عىل
أن يتخذ قرارات عقلية. من الخطأ، يجادل كانت، اعتقاد أن إرضاء الرغبة هو توقع
اللذة، بالتايل اعتبار اللذة أساس الفعل؛ عىل العكس »سلوك اإلرادة وفقا للعقل
هو وحده أساس الشعور باللذة، وهذا النشاط يبقى مجرد تصميم عميل ناتج عن
)33(. علينا أال نخلط بني الشعور الناجم عن

وظائف الرغبة، وليس نشاطا حسيا«
تلبية الرغبة ودافعه الحقيقي، أي السلوك عقليا أو السلوك وفقا للقانون األخالقي.
كام رشح كانت بالتفصيل يف كتاباته القانونية العديدة، فاحرتام القانون األخالقي
هو أساس الفعل الذي يعزز الخري األسمى، أي األمر املطلق، فهو ليس أساس الحرية
فقط، لكنه أيضا أساس الفضيلة: »افعل كأن القاعدة )maxim )التي انبنى عليها

.
)34(
فعلك ميكن أن تحولها إرادتك قانونا كليا«
هذا القانون هو مبدأ التمييز األخالقي يف جميع مجاالت الحياة، والسلوك
وفقا لهذا القانون هو الذي مينح الفعل صفته األخالقية، وهو أيضا مبدأ التنظيم

209
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
واإلصالح االجتامعي. وعىل رغم أن كانت ينتمي إىل تقليد العقد االجتامعي، فإنه
يرفض رأي هوبز القائل إن األفراد يف هذا العقد يتنازلون عن حقوقهم الطبيعية
إىل السيد الذي يتمتع بالسلطة السياسية املطلقة، بالعكس، يتم التعاقد مع السيد
لتأمني حقوقهم ككائنات إنسانية، الحق األسايس الذي تتأسس فيه جميع الحقوق
األخرى هو حق الحرية، أو حق التحقق الذايت أو العيش كفرد إنساين. ولكن ال
يستطيع الفرد التنازل عن هذا الحق أو املساومة فيه. وهكذا، فالواجب األول
للسيد هو أن يخلق الرشوط ـ االجتامعية والسياسية والقانونية ـ لتأمني هذا الحق.
ولكن السيد ليس سوى اإلرادة العامة، إرادة الشعب. وتتحقق هذه اإلرادة يف
السلطة الترشيعية. وعىل رغم أن القوانني التي ترشعها هذه السلطة إلزامية، بيد
أنها ليست قرسية، ألنها تعرب عن مصالح الشعب وعام يريده الشعب. لهذا السبب
جادل كانت بأن أفضل نوع من الحكومات هو الحكومة الدستورية أو الحكومة
الجمهورية. ويتأسس هذا النوع من الحكومة يف الحرية، ألن العنارص التي تشكلها
أفراد حرة، ولكن املبدأ األساس للحرية هو األمر امللزم. إذن، للحكومة الحق أن تسن
أي قانون أو تخطط أي مرشوع وتقرتح أي سياسة أو تقوم بتغيري أي رشط مادامت
ال تنتهك هذا املبدأ. أولوية األمر امللزم كمبدأ للتمييز األخالقي والتنظيم االجتامعي
هو الذي ّ يحول الدولة إىل جامعة إنسانية. وميكن للفرد أن يحقق الخري األسمى يف
هذا النوع من الجامعة.
5 - الصداقة يف النظرية األخالقية الحديثة
املقاربة العامة للفالسفة املحدثني ملعنى الخري األسمى تذكرنا بنظرة أفالطون
وأرسطو إىل العدالة أو الفضيلة. أ ّسس أفالطون تصوره للعدالة يف نظريته للنفس
التي تتألف من ثالثة أجزاء - الجزء العقيل والعاطفي والشهواين. الجزء األول يهدف
إىل فضيلة الحكمة، والثاين يهدف إىل فضيلة الشجاعة، والثالث إىل فضيلة العفة.
العدالة وفق أفالطون تنجم عن قيام هذه األجزاء بوظائفها بانسجام. إذن، يحقق
الفرد السعادة عندما يلبي حاجاتها أو متطلباتها عىل خري ما يرام. وفيام بعد، بعد
أن يبني أرسطو أنه ال ميكن تحقيقها بالسعي وراء الرثوة أو الصحة أو اللذة أو
الرشف أو الخري األفالطوين، يتساءل ما هي السعادة؟ اكتشف أنه ميكن الجواب عن

210
الصداقة
السؤال بفهم وظيفة اإلنسان كإنسان )الطبيعة اإلنسانية(. يكون املواطن صالحا
ومن ثم سعيدا، بقدر ما يقوم بوظيفته )ergon )ككائن إنساين عىل خري ما يرام وفقا
للفضيلة، أي ما يحقق ذاته ككائن إنساين. وكام نتذكر، فكل من أفالطون وأرسطو
رأى بكل وضوح أن الصداقة رشط رضوري للسعادة، ويف الحقيقة فهي تشكل عنرصا
جوهريا يف الحياة السعيدة. وتتناقض الحياة االنعزالية، بغض النظر عن جودتها
املميزة اجتامعيا ومهنيا أو بطريق أخرى، مع متطلبات الطبيعة اإلنسانية. فهل
باملصادفة وصف املفكرون القدماء الكائنات اإلنسانية ككائنات اجتامعية؟ ولكن
عندما نتوجه بانتباهنا إىل فالسفة العرص الحديث عامة نرى، عىل الرغم من أنهم
أدركوا أن مصري الحياة اإلنسانية هو التحقيق الذايت، فإنهم مل ّ يضمنوا الصداقة مع
الفضائل ومل يعتربوها رشطا للحياة السعيدة. بالنسبة إليهم ميكن للفرد أن يكون
سعيدا من دون أصدقاء. ولكن هذا ال ينفي أن بعضهم ناقش الصداقة ودرس
أهميتها كنوع من العالقات اإلنسانية، وال يعني أنهم اعتربوها عالقة تافهة، وال
يعنى أنهم اعتربوا أن الناس يخطئون إن أقاموا عالقات صداقة أو إن استمدوا منها
الرضا. كال، إن كل ما نعنيه أن فالسفة العرص الحديث مل يعتربوها قيمة أخالقية،
ذلك النوع من القيم الذي يرثي سعادتنا. ملاذا؟ الحظ أين بإثاريت لهذا السؤال ال
أتساءل عن السبب يف أن فالسفة العرص الحديث أبعدوا الصداقة من تحليلهم
للقيم فقط. عموما، هم تشاركوا يف افرتاضات أخرى بخصوص الطبيعة اإلنسانية
ومصريها مع الفالسفة الكالسيكيني. إذن، ملاذا انحرفوا عن تقديرهم لدور الصداقة
يف تحقيق السعادة؟ ميكن البحث عن جواب لسؤالنا يف التوجه الجامعي للدولة -
املدينة )polis )الهلنية، والتوجه الفردي للدولة الهلنستية، وميكن اإلشارة إىل أن
كال من هذين النوعني من الدولة يتطلب الصداقة كرشط للحياة السعيدة. وميكن
اإلشارة إىل أن فالسفة األخالق يف العرص الكالسييك حاولوا يف تنظريهم األخالقي أن
يحللوا الصداقة كواحدة من حقائق الحياة االجتامعية. )كانت هذه الحقيقة الدافع
إىل تحليالتهم العميقة، وإن كانت عن طبيعة نظرية وأهمية الصداقة يف الحياة
اإلنسانية(. قد يكون األمر كذلك، ولكن من األصلح القول إن الظروف االجتامعية
يف العرص الحديث مل تكن مختلفة كثريا عنها يف العرص الكالسييك. عالوة عىل ذلك،
كانت طريقة الحياة يف مختلف الدول التي شكلت نسيج املجتمع يف العرص الحديث

211
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
جامعية، وأولوية الفردية مل تظهر فجأة أو رسيعا بل تطورت تدريجيا. فالسفة عرص
النهضة ركزوا عىل الجامعية والفردية، فأصبحتا محوري كل فكر منذ ذلك الوقت.
نجدهام بصورة بارزة يف فلسفات إسبينوزا وكانت وهيغل وماركس وميل. دعوين
أعرب عن هذه النقطة بطريقة مختلفة. ال نستطيع القول إن سبب استبعاد الصداقة
من النظرية األخالقية يف أثناء العرص الحديث يعود إىل عدم انغراسها يف النموذج
الثقايف للعرص الحديث، بل بالعكس، فمنطق النظرية األخالقية الذي تسيد النموذج
الثقايف الذي كانت مغروسة فيه هو منطق يستلزمها؛ وبالتايل فمن األصح القول إن
إهامل فالسفة العرص الحديث الصداقة يكمن سببه يف تصورهم لوظيفتها األخالقية
وهو تصور يختلف عن تصور الفالسفة الكالسيكيني لها. بالنسبة إليهم كانت وظيفة
النظرية األخالقية أوال معيارية، وثانيا كانت أداة لتفسري السلوك األخالقي املعارص
أو للنظام. اتجهوا إىل هذا النوع من التنظري بدافع أخالقي. لقد كان اهتاممهم األ ّويل
فهم الرشوط النظرية والعملية لإلصالح االجتامعي، وكان لديهم اهتامم بتصميم
خطة أخالقية لهذا الغرض، خطة تؤدي فعال إىل التقدم اإلنساين. إحدى أمنيات
الحداثة األكرث أهمية كانت تحسني الرشوط املادية والروحية للحياة اإلنسانية. فقد
أدركوا أنه ال ميكن لهذه األمنية أن تتحقق إن مل ترتكز إىل املؤسسات التي تشكل
الدولة عىل مبادئ أخالقية أو عقلية. إذا صح هذا الرأي، وهو صحيح، إذن فأحد
رشوط الفردية للتقدم اإلنساين يجب أن يكون تنظيم أو إعادة تنظيم املجتمع
عىل أسس أخالقية. ولكن كيف لهذا املرشوع أن يتحقق من دون فهم كامل ملعنى
»األخالق«، أو ملعنى »الكائن اإلنساين« السعيد؟ كام أفهمها يف هذا السياق، فوظيفة
النظرية األخالقية هي اقرتاح نظام أخالقي يحتوي عىل مبدأ للتميز األخالقي يعرف
الصفة األخالقية لألفعال، وعىل منهج لتربير هذه املبدأ. ميثل املبدأ تعبريا عن تصور
الفيلسوف ملعنى الخري األسمى أو ملعنى السعادة. هذه الصفة بالذات هي التي
تجعل املبدأ معيارا أخالقيا لتقييم األفعال، ويكتسب هذه املكانة: )أ( عندما يرتجم
إىل قيم ومن ثم إىل قواعد أخالقية. )ب( عندما يقوم بوظيفة املرجع األعىل يف
الوصول إىل أهم قرار، صعب أو جديد، أو يتعلق بحاالت قد تقع عىل الحدود بني
الصواب والخطأ، أو قد تشمل تضاربا يف املصالح. يعتمد إقرار الفالسفة للقواعد التي
تجب إطاعتها يف صنع القرارات األخالقية عىل حدسهم أو فهمهم للخري األسمى أو

212
الصداقة
لكيفية السلوك وفقا له. عندما يقرتح الفيلسوف نظرية أخالقية فهو ال يقدم أساسا
للفعل الجيد أو الصحيح فقط، ولكن أيضا يقدم أساسا لألفعال امللزمة أخالقيا، أي
التي يجب أن نفعلها. قد تتسق أو ال تتسق نظريته مع األعراف االجتامعية، ولكنها
معيار يعد تطبيقه دورا حيويا يف تعزيز السعادة. بكلامت أخرى، فهو يقدم معيارا
أعىل يتأسس عليه الفعل وميكن اعتباره جذعا تنبثق منه جميع التصورات األخالقية.
دعونا اآلن نسلط الضوء عىل السامت البارزة للنظرية األخالقية الحديثة. أوال،
التوجه اإلنساين – حقيقة أن معظم فالسفة الحداثة ترجموا الخري األسمى أو السعادة
من منظور تحقيق الذات أو الكامل أو الرضا. ثانيا، التنوع ـ تنوع الفالسفة يف طريقة
صياغتهم وتربيرهم للمبدأ األعىل للتقييم األخالقي، عىل رغم أنهم مبدئيا قدموا
ترجامت متشابهة للخري األسمى. ثالثا، العقالنية - حقيقة أن ترجمتهم للخري األسمى
ارتكزت إىل فهم عقيل ونقدي للطبيعة اإلنسانية ال عىل سلطة ما. رابعا، العقلية
اإلصالحية ـ وتشري هذه السمة إىل حقيقة أن املبادئ األخالقية التي طرحوها مل تكن
ُ مبادئ متييز أخالقي فقط، مبعنى أنها مل ت ّعرف طبيعة العفة األخالقية يف حد ذاتها،
ولكن أيضا مبادئ لتنظيم واإلصالح االجتامعي. خامسا، عىل رغم أن جميع النظريات
عمليا كانت تربط فعل الخري بالسعادة )eudemonistic)، فإنها همشت الصداقة
بوصفها قيمة مركزية يف عملية التنظري األخالقي ومن ثم كرشط للسعادة. ولكن مرة
أخرى، إذا ترجمت السعادة بلغة الخري األسمى، فلامذا همش فالسفة الحداثة قيمة
ُ ُّرص عىل إثارة هذا السؤال، ليس فقط ألن فالسفة

الصداقة؟ أليست حاجة إنسانية؟ أ
متيزوا بالحكمة كأفالطون وأرسطو وأبيقور وشيرشون وسنيكا أدركوا أنها عنرص يف
الحياة السعيدة، ولكن أيضا ألنها كانت دامئا من حقائق الحياة اإلنسانية. أقرها
هؤالء الفالسفة وفالسفة آخرون يف نظرياتهم األخالقية كعنرص يف الحياة الصالحة
بناء عىل تجربتهم وبناء عىل دراستهم للسلوك اإلنساين يف سياقه التاريخي وعىل
تأمل عميق لديناميات الطبيعة اإلنسانية بحد ذاتها. أي، مل ينجم هذا اإلقرار عن
تأمل ميتافيزيقي خالص. مرة أخرى، كام حاولت أن أوضح يف الصفحات السابقة،
كانت وظيفة النظرية األخالقية معيارية تفرض واجبات )إلزامات( ومتارس دورا يف
تعزيز السعادة اإلنسانية. ولكن هل ميكن لهذا املبدأ أن يخدم هذا الهدف بصورة
واقعية إذا أهمل حاجة إنسانية أساسية مثل الصداقة؟ ال نستطيع التقليل من

213
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
أهمية هذه النقطة؛ الصداقة حاجة إنسانية جوهرية. فبغض النظر عام إذا كانوا
يف العرص الحديث أو الكالسييك أو الوسيط أو املعارص، فالناس مازالوا يف حاجة إىل
صديق واحد عىل األقل يف حياتهم، إىل إنسان جدير باملحبة والتقدير عىل املستوى
اإلنساين. وإذا كانت الصداقة لحاجة حيوية فال بد أن يكون هناك سبب دفع فالسفة
العرص الحديث إىل أن يهملوها.
ال نستطيع القول إن إهامل الصداقة كقيمة مركزية يف العرص الحديث يعود،
عىل األقل جزئيا، إىل غياب الرشوط االجتامعية الرضورية لتنميتها وحتى مامرستها.
لقد كانت أوروبا الحديثة، من القرن السادس عرش إىل التاسع عرش، يف عملية تحول
اقتصادي وسيايس وصناعي وعسكري وتربوي وزراعي مستمر. وبالتايل كان النسيج
االجتامعي والثقايف يف تغري مامثل ومتواصل. التحول والقلق والرغبة يف املغامرة
الروحية واملادية حلت محل النظام واالستقرار اللذين سادا العصور الوسطى،
لهذا كان من الصعب تطوير عالقات صداقة يف أجواء كهذه. ويف الواقع، استمرت
هذه األجواء إىل يومنا هذا، إىل درجة أن بعض املفكرين أطلقوا عىل عرصنا اسم
»عرص القلق« )Anxiety of Age). لست يف حاجة إىل أن أناقش هذا املوضوع
الحساس واملهم يف هذا السياق، وسوف أفرتض أنه كان ومازال حقيقة واقعية،
ولكن هل هذه الحقيقة تربر إهامل الصداقة؟ كال، خصوصا عندما ندرك أن وظيفة
النظرية األخالقية يف العرص الحديث كانت معيارية وليست تفسريية فقط. يتضمن
تصور النظرية األخالقية املعيارية مقولة أن مهمة نظرية كهذه هي تقديم تصور
مربر للخري األسمى لتحقيقه؛ هذا يعني أنه ال ميكن للنظرية إهامل الحاجات أو
املتطلبات األساسية للطبيعة اإلنسانية، وهذه وظيفة نظرية خالصة، وال ميكن لها أن
تهمل كيفية تأمني هذه الحاجات، وهذه وظيفة عملية. وال ميكن للتقييم املوضوعي
والعادل لهذه الحاجات إال أن يبني أن عىل الفيلسوف اإلقرار بهذه الحاجات أو
املتطلبات. حتى لو مل تكن الرشوط االجتامعية املعارصة مالمئة لتنمية الصداقة،
فمن واجب الفيلسوف األخالقي االعرتاف بهذه الحاجات واملتطلبات. عالوة عىل
ذلك حتى لو مل ميارس الصداقة أي إنسان، فإنها عىل رغم ذلك تبقى عنرصا جوهريا
يف تصور السعادة، ولهذا ال يجوز إهاملها.
ولكن السبب الرئيس الذي دفع الفالسفة األخالقيني املحدثني إىل إهامل

214
الصداقة
الصداقة كقيمة أخالقية مركزية هو، وياللعجب، السمة املعيارية لنظرية األخالق
الحديثة. كام أرشت سابقا، كان الفالسفة األخالقيون املحدثون حريصني عىل
اكتشاف مبدأ للتميز األخالقي ينطوي عىل إمكانية أن يكون أيضا مبدأ للتنظيم
وللتحول االجتامعيني. كام أوضحت فيام سلف، فقد آمنوا بإمكانية التقدم،
وبأن الطريق األوسع الذي سيؤدي إىل التقدم هو بناء أو إعادة بناء املؤسسات
االجتامعية عىل أسس أخالقية وعقلية: فكيف ميكن للتقدم عىل مستوى الفرد
والجامعة أن يحدث لو أن املؤسسات التي يعيش فيها أفراد املجتمع تفتقد إرادة
سياسية ورؤية مبدعة؟ وكيف يتأىت للمجتمع امتالك إرادة سياسية ورؤية كهذه
إذا مل تركز مؤسساته عىل أسس عقلية وأخالقية؟ يف محاولتهم معالجة هذا الهدف
الصعب، واملهم جدا، ركز فالسفة العرص الحديث انتباههم عىل صياغة مبدأ ُي ّعرف
أخالقية الفرد والقانون والجامعة من دون أي محاولة جدية أو عميقة لتطبيق هذا
املبدأ يف ميادين الحياة اإلنسانية املحددة. لهذا السبب فكثري منهم، إن مل يكن
أغلبهم، كرسوا انتباههم لتحليل الفضائل العامة. لكن طرح مبدأ كيل وتقديم تربير
لصدقيته يشء، ورشح كيفية تطبيقه يف حاالت بعينها، خصوصا عندما تكون هذه
الحاالت صعبة، يشء آخر.
الصعوبة يف الحاجة إىل التوفيق بني متطلبات املبدأ األخالقي، أو القواعد
األخالقية، ومتطلبات السعادة مل ترشح أو تحلل يف كثري من الحاالت ـ مثال، من
هيوم وإسبينوزا إىل كانت. أعتقد أن الفيلسوف الذي صاغ املشكلة بأكرب قدر من
الوضوح هو كانت ألنه هو الذي رشح، كام ناقشت سابقا، التمييز بني األخالق
وتصور السعادة ويف الوقت نفسه أقر بوحدتها. ولكن السؤال هو كيف؟ يف بحثه عن
الخري األسمى و ّضح كانت أفضلية الفضيلة عىل السعادة، ويف الواقع، بقيت األفعال
التي تؤدي إىل السعادة خارج اإلطار األخالقي، ألنها ال تقع ضمن إطار األمر املطلق.
ولكن كانت مل يضع السعادة يف مرتبة أدىن من الفضيلة فقط، ولكنه أيضا بنى جدارا
بينهام يف كتابه »املبادئ امليتافيزيقية لألخالق«. وهو هنا يجادل بأن أمر السعادة
)35(. إن
غري ممكن، ألن تصور السعادة غري محدد/ غامض، وهو غامض ألنه تجريبي
السعي من أجل السعادة يعتمد عىل التعقل، وعىل التصورات، والتفضيالت التي
تنشأ عن التجارب، وهذه دامئا ذاتية، ونسبية، ومتحولة، ويستحيل تقريرها سلفا.

215
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
وحده الكائن الكيل املعرفة هو القادر عىل ذلك. البرش ال يقدرون. مرة أخرى، هل
يجوز القول بأن الرثوة أو الصحة أو املعرفة أو طول العمر هي األمور التي يتعني
الرتكيز عليها عند السعي من أجل السعادة؟ كال، »إذن فمن املستحيل أن نسري وفقا
لنصائح محددة يك نصبح سعداء«، يقول كانت، »لكن يتعني أن مييض املرء وفق
املشورة الصادرة عن خربة يف أمور مثل الحمية، االقتصاد، اللباقة، ضبط النفس...
إلخ، وهي مسائل تبني من التجربة أنها عامة تساعد عىل تعزيز السعادة. يتضح
من ذلك أنه ال ميكن ملشورة تنصح بالرتوي أن »تأمر« باملعنى الدقيق للكلمة، ال
ميكن لها أن تقدم األفعال موضوعيا كحوادث رضورية؛ ميكن اعتبار أمور كهذه
)36(. ولكن ببناء جدار

مشورة ال أوامر وال مدركات )precerpta )يتصورها العقل«
بني السعادة والفضيلة استبعد كانت من الفضاء األخالقي، بصورة قصدية وواعية،
أنواعا مهمة من الفضيلة، مثل الصداقة. ولكن هذا الحذف ال يتناقض مع تصوره
للخري األسمى، بل بالعكس يتضمنه. وإذا أقررنا بأولية األمر امللزم ملبدأ التمييز
األخالقي، فسوف نستثني الحياة الذاتية من إطار السلوك األخالقي. ولكن كام أشار
العديد من منتقدي كانت، سوف نستثني ليس فقط الحياة األخالقية، وألن األمر
املطلق ال يتضمن أي تعليامت عن طريقة التعامل معها. الرتكيز يف هذه املناقشة
ينصب فقط عىل األفعال التي يسثنيها األمر امللزم، وخصوصا فضيلة الصداقة.
دعوين اآلن أرشح تربير كانت إلبعاد الصداقة عن اإلطار األخالقي.
يف كاملها، يكتب كانت يف »عنارص األخالق«، تكون الصداقة »اتحادا بني شخصني
يجري بناء عىل احرتام ومحبة متبادلني. بالتايل ميكن للفرد أن يرى فيها مثاال توحد
فيه اإلرادة الخرية أخالقيا بني الشخصني بالتعاطف واملحبة املشرتكة... حتى أن
الصداقة بني الناس هي واجبنا، باعتبارها أسمى شعور متبادل. وهذا ليس واجبا
عاديا، بل واجب رشيف يقرره العقل. ومع ذلك تبقى الصداقة الكاملة مجرد فكرة
)لكنها عىل رغم ذلك رضورية، من الناحية العملية( غري قابلة للتحقيق يف أي

)37(. وهذا املقطع القصري يتطلب مالحظتني:

محاولة نقوم بها«
أوال، الصداقة الحقيقية، أو الكاملة، مثال صعب وغري قابل للتحقيق
يف الحياة العادية، مبدئيا ألنها عالقة تبادلية ولكن ال ميكن أن تكون عالقة
تبادلية، ألنه من املستحيل للصديق أن يعرف كيفية شعور صديقه وكيفية

216
الصداقة
تقييم مشاعره/ مشاعرها وترصفاته/ ترصفاتها؛ فضال عن أن ذوي النوايا الطيبة
أخالقيا نادرون.
ثانيا، أساس االتحاد الذي يوحد صديقني مزدوج )أ( التعاطف )ب( والخري
)الرفاه( املتبادل؛ ولهذا فالصداقة عالقة عملية، شخصية، حميمة. وهي عالوة عىل
ذلك عالقة )أو »تصور«( تجريبية. يسعى الناس إىل تشكيل هذا النوع من العالقة،
ال باعتبارها أمرا أخالقيا ولكن كميزة، ورغبة، أو كدافع للسعادة. وهكذا، عىل رغم
أن واجبنا هو السعي من أجل الصداقة ألنها تعمل عىل تعزيز السعادة، فإنها ليست
واجبا عاديا، مبعنى أنه ليس من املمكن أن تنبثق عن األمر امللزم، بل هي واجب
جدير باالحرتام. ولكن السؤال الذي يصعب تجاهله هو، هل ميكن لنظرية أخالقية،
بغض النظر عن نبل مبادئها وتطلعاتها األخالقية، استبعاد الصداقة، أو كامل اإلطار
الشخيص للحياة اإلنسانية، من مجالها؟ يتضمن هذا السؤال االفرتاض بأنه من
الصعب، والبعض يقول من املستحيل، استبعاد السلوك الخاص عن ميدان األخالق.
األمناط املتنوعة لألفعال التي تشكل بنية حياة الفرد يتشابه بعضها مع بعض. مرة
أخرى، هل البحث عن الصداقة فعال تلبية لرغبة أو مليل؟ إنها بال شك عنرص مهم
يف السعي من أجل السعادة، لكنها عالقة إنسانية جوهرية، وباعتبارها كذلك فهي
تخضع للمتطلبات االختالفية الخاصة بالواجبات األخالقية. وهنا ميكن التساؤل:
هل ميكن القول إن كانت قد ّضيق كثريا من امليدان األخالقي، يف محاولته لتأسيس
األخالق عىل أسس صافية ونبيلة، تلك األسس التي قدمت خدمة ال تثمن للنظرية
األخالقية، باعتبارها األمر املطلق كاملبدأ األعىل للتقييم األخالقي؟ لقد ناقش فالسفة
األخالق هذه األسئلة وأسئلة مثلها، وال أقصد االشرتاك يف هذه املناقشة هنا، ولكني
أريد أن أشكك يف تربير استبعاد كانت للصداقة من مجال األخالق، وذلك من واقع
التجربة األخالقية يف العرص الحديث.
ولكن السؤال األكرث إلحاحا هو ما إذا كان ممكنا القول أن كانت كان مخلصا
للنموذج األخالقي الحديث الذي كان يعيشه، أي للرؤية األخالقية املتضمنة فيه.
أميل بالجواب عن هذا السؤال إىل النفي، ألنه أهمل الوظيفة التفسريية للنظرية
األخالقية، واقترص عىل صياغة وتربير مبدأ التمييز األعىل. عىل رغم أن الخري األسمى
بالنسبة إليه يتمثل يف الفضيلة والسعادة، بيد أن األولوية أعطيت إىل األمر امللزم.

217
الصداقة يف النظرية األخالقية احلديثة
وكان يأمل، بناء عىل اإلميان املستقر يف وجدانه، أنهام سيتفاعالن بانسجام يف حياة
الفرد. ولكن هذا األمل غري مقبول فلسفيا. أقر يف السياق نفسه أن هذه املشكلة
ستبقى غري قابلة للحل، ولكن املطلوب من الفيلسوف هو إعطاء تفسري مقنع لهذه
املعضلة. ليس املطلوب أن نحاول ضبط عالقة الفضيلة بالسعادة، أو حتى أن نبني
أنهام متسقتان إحداهام مع األخرى، ولكن صياغة مبدأ األخالق تفرس كيف تعزز
الفضيلة السعادة، والسعادة الفضيلة، من دون تعريف إحداهام باألخرى. ومتيز
االثنني، أو النظر إليهام كطريقني متاميزين إىل السعادة، يتناقض مع رؤية سليمة
للحياة الصالحة التي تكمن جوهريا يف النمو والتقدم اإلنسانيني. النظرية األخالقية
التي ال تأخذ السعادة مأخذ الجد يف مبدئها األخالقي تقرتف خطأ فادحا، ألنه ال
ميكن للحياة األخالقية أن تكون كاملة أو مرضية متاما إذا مل تكن إىل حد ما سعيدة.
رغم ذلك، فبإبعاده السعادة عن ميدان األخالق، اضطر كانت أيضا إىل أن يبعد
الصداقة عن امليدان نفسه. ولكن الغريب أنه رأى بوضوح الدور الحيوي الذي
متارسه الصداقة يف حياة التفاعل الذايت، وبصورة مغايرة عن معظم فالسفة الحداثة،
فقد ترك لنا عددا من املناقشات حول الصداقة، مناقشات دقيقة ومملوءة بالبصرية.
واستبعاده للصداقة من ميدان األخالق كفضيلة كان ناجام عن محاولته تأسيس
صفاء الجوهر األخالقي يف حد ذاته كيشء مستقل متاما عن أي مضمون تجريبي.
ويف محاولته لالستجابة لهذا املطلب املنهجي أعطى األولوية، كبقية فالسفة الحداثة،
إىل الوظيفة املعيارية للنظرية األخالقية؛ وبهذه الطريقة كشف عن عدم إخالصه
للنموذج األخالقي الذي هو أساس نظريته األخالقية.

1 - النموذج الثقايف املعارص
مل يطرأ عىل النموذج الثقايف املعارص،
الذي بزغ يف عامل الحضارة اإلنسانية يف القرن
الخامس عرش، تغري راديكايل عند انتقاله من
القرن التاسع عرش إىل القرن العرشين. العقلية
واإلنسانية والدينامية التي أضفت عىل هذا
النموذج هويته الخاصة بقيت سائدة يف القرن
العرشين، وأفكار الحرية والعدالة والتقدم
والخري واألخ�ل�اق والدميوقراطية واآلداب
والكامل الطبيعية اإلنسانية بقيت أساس الثقافة
واملعارصة، وبقيت أيضا أساس الحياة السياسية
واالجتامعية واالقتصادية واألخالقية والفنية.
وبقدر ما مثلت قيام وأمنيات إنسانية، شكلت
هذه املثل بنية الرؤية الحديثة للعامل. وباإلضافة
إىل ذلك، كانت مبادئ تربيرية لتسويغ سياسات
ومشاريع وقوانني ومنظامت وأفعال الدولة.
وأفرتض هنا أن الدولة استشهدت بهم يف تنظيم
الصداقة
يف النظرية األخالقية املعاصرة

»الوضعيون مل يستبعدوا الصداقة
كقيمة من النموذج األخالقي
املعارص فحسب، ولكنهم أيضا
قيدوا إمكانية كونها موضوعا يف
التحليل امليتا – أخالقي، ألنهم
انشغلوا باللغة النظرية والعملية
للخري األخالقي من دون أي اعتبار
للقيم الناجمة عنه أو الدور الذي
تؤديه يف الحياة السعيدة«
6

220
الصداقة
وإدارة الحياة السياسية واالجتامعية، أو أن مختلف الدول األوروبية نجحت يف
العيش وفقا لها بنجاح، أوال ألنها ُوجدت يف حياة الناس كطريقة حياة - كطريقة
تفكري وشعور وفعل، أو بكلامت أخرى ألنها ُوجدت كنظرة، كطريقة فهم للعامل
ُ وملعنى الحياة اإلنسانية؛ وثانيا ألنها وجدت ُكمُثل، أي كأمنيات. وباعتبارها كذلك،
شكلت إطارا ثقافيا عاش فيه الفنانون والعلامء والفالسفة واألساتذة والسياسيون
ُ واآلباء واألمهات ومسؤولو الحكومة حياتهم. املُثل هي دامئا أهداف ومبادئ فعل،
وهي إلهام يف حياة اإلنسان. وهي أيضا أساس نظرته للحياة، بغض النظر عام إذا
كانت فردية أو جامعية، ويف نهاية املطاف هي ينبوع يستمد الناس منه قوتهم
وعزمهم وفهمهم العميل ودافعهم نحو حياة أفضل. ملاذا َّ عيل أن أحب أخي
اإلنسان، وأن أطيع القانون، وأن أوسع أفق تجربتي الجامعية، وأزداد يف املعرفة،
وأدعم القضايا االجتامعية، وأتأمل الطبيعة والعامل، أو حتى أسعى وراء السعادة،
إذا كنت يف السعي وراء هذا الهدف أو أهداف أخرى ال أؤمن بالقيم التي تؤسسها؟
ولكن عىل رغم أنه مل يطرا تغري راديكايل عىل هوية النموذج الثقايف الحديث
بانتقاله إىل القرن العرشين، كام حدث يف االنتقال من العرص الهليني إىل العرص
الهلنيستي أو من العصور القروسطية إىل العرص الحديث، فإن هذه الهوية تغريت
يف بعض جوانبها املهمة؛ ليس يف نوعية أو طبيعة القيم واملعتقدات التي شكلت
نظرتها إىل العامل أو إىل مؤسساتها االجتامعية والسياسية األساسية، بل يف طريقة
فهمها وترجمتها، والبعض يقول يف تطبيقها، لهذه القيم واملعتقدات ومدى تحقيقها
يف هذه املؤسسات، ويف نهاية املطاف يف حياه اإلنسان العادي. ال نرى يف هذا العرص
تغريا جذريا للقيم، وال انبثاق فهم جديد للعامل وألهمية الحياه اإلنسانية، بل فهام
أثرى وأعمق وأكرث عقالنية، ويف بعض األحيان فهام أكرث تحديا للعامل ولقيمة الحياة
اإلنسانية. نرى وقفة ثقافية جديدة ممتلئة باألمل والثقة؛ نرى استيعابا أكرث واقعية
وأيضا أكرث وضوحا للقيم واملعتقدات األساسية التي أعطت العرص الحديث املوارد
الروحية واملادية الالزمة ألن يشق طريقه يف حياة الشعوب األوروبية؛ وباإلضافة
إىل ذلك نرى يقينا أقوى يف صحة هذه القيم واملعتقدات. القفزة العمالقة التي
أنجزتها الثقافة الحديثة يف العلم والتكنولوجيا والفلسفة والفن والسياسة واالقتصاد
والرتبية تثبت، حسب اعتقادي، صحة هذا االدعاء. أنا عىل وعي تام، كام سأبني فيام

221
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
ييل، بالسلبيات التي رافقت هذه القفزة، أي األخطاء الفادحة والحامقات والدمار
الذي أحدثه حراس هذه الثقافة. علينا دامئا أن نتذكر أن مجرى الحياة اإلنسانية،
وبالتوازي مجرى الحضارة اإلنسانية، هو دامئا مغامرة يف املستقبل املجهول، وأن
الطبيعة اإلنسانية ذاتها تتطور وتتحقق يف هذا املجرى ذاته. نكتشف إمكانات
أفعالنا يف عملية العيش عىل املستويني الفردي والجامعي. ال منلك، وليس بإمكاننا
أن منلك، معرفة دقيقة عن قراراتنا واملشاريع التي تخططها الحياة اإلنسانية، وأيضا
حياة الحضارة عامة. كل ما منلكه يف مرشوع الحياة هو رؤية عقالنية )ويف بعض
األحيان حمقاء أو غامضة أو مضللة( أو تصور، ومهارة لصنع القرار وتحقيق هذه
الرؤية. تنبثق هذه الرؤية، ومعها املهارة، عن التجربة وامتالك بعض املوارد لتحقيق
هذه الرؤية، مل يخطئ هيغل عندما قال إن الدولة ليست عمال فنيا مثاليا، ومل
)٭( ساذجا عندما جادل بأن الواقع )reality )الطبيعي واإلنساين عملية
يكن وايتهيد
صريورة. الدولة، أو الحياة اإلنسانية عامة، هي دامئا مثال قيد التحقق. ولكن،
اإلمكانيات ومدى هذه العملية ال حدود لها. ونحن نكتشف نتيجتها، ومن ثم ما
نريد إنجازه، أثناء العملية ذاتها. أميل إىل االعتقاد أنه علينا النظر إىل تطور النامذج
الثقافية يف ضوء هذا الجانب من الوجود اإلنساين. عىل هذا الضوء أن ينري دينامية
انتقال العرص الحديث إىل القرن العرشين. ال ميكن لنا استيعاب هذه الدينامية إال
عندما نعرف، عىل األقل بصورة موجزة، الحوادث والتطورات التاريخية التي أدت
دورا حيويا يف بروز القرن العرشين كنموذج ثقايف خاص. وسيكون موضوع الجزء
األول من هذا الفصل مناقشة، ولو قصرية، لهذه الحوادث والتطورات.
دعوين أسارع إىل القول إن الحوادث والتطورات التي سأناقشها اآلن حدثت يف
إطار مؤسسات معينة. لهذا علينا النظر إليها كحوادث وتطورات مؤسساتية. ولكن
كام جادلت يف الفصل األول، املؤسسات التي تشكل بنية النموذج الثقايف مرتابطة
بينيا، لهذا فأي تغري يف مؤسسة واحدة سوف ينتج بصورة مبارشة أو غري مبارشة
تغريا مناسبا أو وثيق الصلة باملؤسسات األخرى. ولكن التغري الذي سأناقشه ليس
راديكاليا أو بنيويا، بل نوعي )qualitative)، ألنه ناجم عن تطبيق واسع ونشيط
للقيم واملعتقدات التي ساندت النموذج الثقايف الحديث مدة أربعة قرون. سوف
)٭( Whitehead North Alfred، فيلسوف وريايض إنجليزي تويف يف 1947 . ]املحرر[.

222
الصداقة
أناقش بإيجاز ثالث مؤسسات: العلم والتكنولوجيا، والسياسية، والفن. هديف من
هذه املناقشة هو أن أظهر كيف أن التغريات يف هذه املؤسسات أنتجت تغريات
جذرية يف النموذج الفلسفي. وأتوقع أن توفر هذه املناقشة أرضية لتحليل النموذج
األخالقي واألسباب التي دفعت الفالسفة البارزين يف الفرتة املعارصة إىل تهميش

.
)1(
الصداقة كقيمة مركزية يف التنظري األخالقي
العلم والتكنولوجيا: أبدأ مناقشتي بهذه املؤسسة املركبة ألنها رشط رضوري
إلمكان حدوث أي تغري ثقايف مهم، أو أي نوع من التغري يف حياة اإلنسان. هكذا

تغري يتضمن معرفة جديدة، وإال فإن الواقع الحايل، بغض النظر عام إذا كان طبيعيا
أو إنسانيا، سوف يغرق يف روتني متكرر. ولكن التغري الثقايف إنجاز إنساين. ال يحدث

فجأة أو تلقائيا؛ بل يتم بصورة متأنية وغائية ومبدعة. يف اإلطار اإلنساين، ال ميكن
ألي تغري ذي معنى أن يحدث إن مل تتوافر الرشوط الثالثة التالية: فكرة )أو نوع
ما من الخطة(، ووسيلة لتحقيق الفكرة )أو نوع من األدوات أو التقانات(، وإرادة
لتحقيقها )أو نوع ما من الفاعل(. الـ »فكرة« تتضمن معرفة، والـ »وسيلة« تتضمن
التكنولوجيا. وتطور التكنولوجيا يفرتض تطور املعرفة. ولكن تطور املعرفة ال يتضمن
بحكم الرضورة تطور التكنولوجيا، عىل رغم أن اكتشاف معرفة جديدة غالبا ما
يرافق اكتشاف تكنولوجيا حديثة. »التكنولوجيا« كلمة عامة ولها تطبيقات عديدة،
ولكن جذر الكلمة يشري إىل عملية، أو منهج، لتطبيق املعرفة العلمية. نتيجة هذا
التطبيق هو نوع من »اآللة« – وسيلة أو أداة، بغض النظر عام إذا كانت مادية مثل
الفأس كأداة للحفر، أو غري مادية، مثل القانون كأداة للعدالة. عامة، ميكن القول
إن التكنولوجيا هي عملية إنتاج أو صنع آالت. هذه العالقة الحميمية بني العلم
والتكنولوجيا هي التي دفعت بعض املفكرين إىل أن يستعملوا هاتني الكلمتني
إحداهام مع األخرى. عالوة عىل ذلك، ميكن تثبيت حميمية هذه العالقة تجريبيا،
ألن نظرة رسيعة إىل هذين الفرعني من املعرفة سوف تبني أنهام تقدما، خصوصا
يف العرص الحديث، معا، وأن تقدما يف أي منهام له عالقة سببية بتقدم اآلخر. رأى
رواد هذا العرص بكل وضوح أن التقدم املادي أو االقتصادي رشط رضوري للتقدم
االجتامعي، وأن رس التقدم املادي يكمن يف الحصول عىل معرفة صحيحة للطبيعة،
كام أشار بيكون يف القرن الخامس عرش. ويف الحقيقة ميكن القول إن التقدم العلمي

223
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
والتكنولوجي الذي حصل يف القرن العرشين كان إحدى مثار مثل الحداثة، أي
املعرفة العلمية، التي كانت ومازالت مرشوعا مستمرا بغض النظر عن األخطاء
الفادحة واالنتكاسات وخيبات األمل التي حدثت يف هذا القرن.
أصبح واضحا يف بداية القرن العرشين أن معرفة الطبيعة هي مهمة العامل
التجريبي، وهي مهمة كانت مدرجة ضمن اهتاممات الفلسفة سابقا. وحاز هذا
االعتقاد قبول ومصداقية الدوائر األكادميية عامة. ارتكز هذا االعتقاد أوال إىل نجاح
املنهج العلمي يف دراسة الطبيعة. املعرفة التي حصل عليها الفيزيايئ والبيولوجي
والجيولوجي والكيميايئ والفليك، والتي أصبحت أساسا لتطور علمي للعامل يختلف
متاما عن التطور الذي ساد العصور القروسطية، والتي بواسطتها تبني عامل الطبيعة،
واخترب، وفهم لغة الطبيعة، وأطلقت الرشارة التي بدأت الثورة الزراعية يف القرن
الثامن عرش، والتي بدورها حركت عجلة الثورة الصناعية يف القرن التاسع عرش.
أدت هاتان الثورتان إىل ظهور »عامل« جديد هو عامل التكنولوجيا. عندما نشبت
الحرب العاملية األوىل، ظهر وانترش عدد هائل من التكنولوجيات وأصبح جزءا
من طريقة الحياة العادية ومن إنتاج الحاجات األساسية للحياة اإلنسانية، وأيضا
أصبح جزءاً من وسائل تدمريها. كان نجاح املنهج العلمي شاهدا عىل براعة ومهارة
اإلنسان املبدعة. بصفة عامة، ميكن االدعاء أن شعوب القرن العرشين يف أوروبا
الغربية بدأت بالعيش ليس يف الطبيعة مبارشة، ولكن يف البيئة التي أوجدتها
التكنولوجيا. أصبح البيت امتدادا للجسد، والسيارة امتدادا للساقني، والطيارة
امتدادا للذراعني، والتلسكوب امتدادا للعينني، والكمبيوتر امتدادا للعقل، والهاتف
امتدادا لألذن. ابتدأ الناس باالنتقال من األماكن الزراعية يف حضن الطبيعة إىل
املراكز الحرضية )urban)، حضن التكنولوجيا، إىل قرى، ومدن، ومدن ضخمة،
كلها مصنوعة بواسطة علمهم ومهاراتهم التكنولوجية. أخذ التحول التكنولوجي
)technologization )ينرش أجنحته عىل كوكبنا تدريجيا، كام بدأ بنرشها يف
كواكب أخرى من نظامنا الشميس.
ثانيا، نجاح املنهج العلمي يف محاولتنا معرفة الطبيعة شق طريقا إىل دراسة
الطبيعة اإلنسانية بذاتها، وكان عمل المارك وداروين حافزا مهام يف هذا االنتقال.
أظهر هذا االنتقال من دون أي ريب أن الكائنات اإلنسانية جزء من الطبيعة، ويف

224
الصداقة
الحقيقة، امتداد لبقية العضويات يف عملية التطور الكونية. وإذا صح هذا القول،
وقد كان صحيحا بالنسبة إىل معظم العلامء والفالسفة، فبإمكاننا أن نعرف ذلك
بواسطة املنهج العلمي. كان نجاح عامل االجتامع يف اكتشاف معرفة صحيحة ومفيدة
لطبيعة اإلنسان أمراً حاسام. فاملعرفة التي كانت ميتافيزيقية، صوفية، ومحرية
أصبحت مبدئيا يف متناول يد العلم. »الكائن اإلنساين الديني«، الذي كان املوضوع
املميز يف الثقافة الغربية مدة عرشة قرون حل محله »الكائن اإلنساين الطبيعي«،
عمليا، الكائن الذي كان موضوع الثقافات الهلنية والهلنستية. قدم هذا الكائن
الجديد إىل الثقافة الحديثة عىل أيدي العلم والتكنولوجيا. فهل وضع هذا االكتشاف
املهم الثاين حدا للغز الذي حري وشغل عقول الفالسفة والالهوتيني والعلامء مدة
قرون، واملتمثل يف القول إن اإلنسان ينتمي إىل عاملني: طبيعي ومتجاوز للطبيعة،
داخيل وخارجي، بناء عىل كونه عقال وجسدا؟ هل أصبح هذا االكتشاف املصدر
األساس لفهمنا للطبيعة اإلنسانية، ولحل املشاكل اإلنسانية عقليا أو علميا؟ هل هذا
االكتشاف الثاين استبدل الكاهن الذي يلبس الثوب األسود بالعامل الذي يلبس الثوب
األبيض، أو باملهني الحديث يف العيادة الطبية أو املخترب أو املستشفى؟
عالوة عىل ذلك، نهوض العلم كقلعة للمعرفة املفيدة وميكن االعتامد عليها
حث مجموعة من الفالسفة والعلامء والرياضيني يف بداية العرص الحايل عىل تشكيل
جمعية عامة تسمى »حلقة فيينا« )Circle Vienna )يك تخدم هدفني: أ - تحرير
العلم كليا من االفرتاضات واألفكار الفلسفية وامليتافيزيقية وتأسيس أهدافه عىل
املالحظة التجريبية، والرياضيات، والتجربة فقط، و)ب( إعادة تقييم أهداف ومناهج
الفلسفة. مل يتفق هؤالء املفكرون عىل كيفية تحقيق هذين الهدفني، ولكنهم كانوا
جميعا متعاطفني معهام، عىل األقل يف البداية، وأقروا بأن املنهج العلمي هو أفضل
منهج ملعرفة الطبيعة. ولكن عمل هذه املجموعة، الذي صاغ بصورة مبارشة أو غري
مبارشة الوعي الثقايف النامي، كان تطورا تاريخيا استثنائيا، ألن املنهج العلمي حاز
اعرتاف وقبول معظم الحقول األكادميية، وحتى بعض الفالسفة، الذين سعوا إىل فهم
أي بعد من أبعاد العامل أو عنارصه. وقد شمل هذا االتجاه دراسة السلوك اإلنساين.
يف الواقع، مل يفلت أي يشء موجود، بقدر ما هو موجود، من انتباه العلامء. ويف
منتصف القرن العرشين، وبعد ذلك، ازدادت العلوم الفيزيائية تعقيدا وانقسمت

225
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
إىل فروع علمية متخصصة، وأصبح لكل فرع أهداف ومناهج خاصة به. حصلت
العلوم االجتامعية - علم النفس، علم االجتامع، علم السياسة، علم االقتصاد، علم
التاريخ، علم التجارة، علم القانون - عىل استقاللها وأيضا بدأت باالنقسام إىل علوم
فرعية وعلوم مرتبطة بها. وال نكون مبالغني إن قلنا إن العلم والتكنولوجيا كانا
سبب التقدم الهائل للثقافة األوروبية املعارصة يف جميع مجاالت الحياة اإلنسانية.
فهل يربر هذا إميان بيكون باملنهج العلمي كمفتاح للتقدم اإلنساين؟
ولكن اإلقرار بحكمة هذا اإلميان مل يثمر إال عندما أصبحت قوانني وتطورات
العلم وسيلة ناجحة يف الصناعة. ساعد عىل تطبيقها ثورتان: ابتدأت األوىل باالستعامل
الشامل للكهرباء والثانية بالتطبيق املتنامي لتكنولوجيا الرقاقة اإللكرتونية )micro
chip )يف جميع الحقول التجريبية. أوال، انفجرت الثورة الكهربائية، التي بدأ فورانها
يف منتصف القرن التاسع عرش، وأصبحت دم وحياة الصناعة يف حقل الزراعة
واملالحة واالتصاالت والنقل والرتبية والبناء والحرب، وباختصار، يف جميع ميادين
الحياة اإلنسانية يف القرن العرشين. حاول أن تتخيل ما الذي سيحدث للحضارة
اإلنسانية إذا غابت الكهرباء فجأة عن وجه األرض! أيضا حاول أن تتخيل املجهود
اإلنساين والتكنولوجي الذي احتاجته اإلنسانية لجعل هذه الظاهرة أساس ووسيلة
مختلف النشاطات اإلنسانية املعارصة! ثانيا، عىل رغم أنها مازالت تتطور، فإن
تكنولوجيا الحواسيب ال تحدد طريقة إنتاج وتوزيع السلع اإلنسانية والطبيعية
فحسب، ولكن أيضا كيفية تحقيق السعادة. كمثال بسيط، أصبحت اإلنرتنت
وبصورة متزايدة شبكة الطرق املعلوماتية العاملية ووسيلة التواصل التي حولت
مختلف املجتمعات اإلنسانية إىل مجتمع عاملي. لقد أقر العديد من املؤرخني
والفالسفة واألنرثوبولوجيني وعلامء االجتامع واملثقفني بالدور الذي يؤديه العلم
والتكنولوجيا يف تغيري شكل ونوعية وتوجه النموذج الثقايف الحديث. وليست هناك
حاجة إىل أن أذكر القارئ بالثورات املساعدة التي حدثت يف اكتشاف الفضاء،
والبحث واملامرسة الطبية، والتواصل الجامعي، ووسائل التعبري الفني، والزراعة،
واإلنتاج الكبري )production mass )للسيارات والطائرات والبواخر والقطارات
والتلفزيون واألسلحة، ووسائل التكنولوجيا األخرى. إن الرؤية العقلية التي ألهمت
خلق الرشوط املادية، ورمبا الرشوط الروحية أيضا كام يزعم البعض، لبلوغ حياة

226
الصداقة
أفضل، وهو األمر الذي كان أمال أو وعدا يف ذروة العرص الحديث، أصبحت تيارا
واثقا يتطور برسعة يف القرن الواحد والعرشين.
ما يستحق الذكر يف هذا السياق هو أن التطور الراديكايل الذي حدث للعلم
والتكنولوجيا والذي مازال مستمرا، مل يكن حادثة تاريخية منعزلة، بل كان أثرا
مؤثراً بتطورات مؤسسية مشابهة. هذه العالقة التفاعلية تفرس التغري النوعي يف
النموذج الثقايف املعارص. يتميز هذا النموذج بتطبيق أعمق وأكرث ثراء وشموال
للعلم والتكنولوجيا، وهو ما يجب عىل مؤرخ الحضارة، وبخاصة عامل األنرثوبولوجيا،
أن يقر بأهميته، ليس ألن إنجازاتهام أصبحت أساس الثقافة املعارصة فحسب،
.
)2(
ولكن أيضا ألنهام يشقان طريقهام يف النامذج الثقافية العاملية األخرى
السياسة: قصة نهوض ومنو وتحديات املؤسسات السياسية يف النموذج الثقايف
املعارص هي قصة نهوض ومنو وتحديات أو انتصارات الحكومة الدميوقراطية. هي
قصة رؤية إنسانية انبثقت يف القرن السادس عرش كطريقة حياة ترسم صورة تجسد
معنى الحياة اإلنسانية والرشوط الالزمة لتحقيق هذه الرؤية. تعكس هذه الصورة
الرغبة القوية لدى مفكري عرص النهضة يف اإلقرار بالقيمة املطلقة والجوهرية
لإلنسانية بحد ذاتها، لفهمها، وإلعطائها املكانة الالئقة بها يف نظام الكون. الفكرة
التي تشع من هذه الرؤية وتعرب عن جوهرها هي الحرية: إنها، يف آن معا، جوهر
ورشط وجود اإلنسانية. أوال، تنشأ اإلنسانية عن تحقق اإلمكانات التي ّ تعرف الجوهر
اإلنساين: نحن نكتسب إنسانيتنا بقدر ما نحقق من هذه اإلمكانات. والحرية ليست
شعورا أو انفعاال أو حادثة نفسية من نوع ما، وليست مجرد غياب القيود الخارجية،
أي حالة نفعل بها ما نشاء بناء عىل شعور أو رغبة أو إرادة عشوائية، ولكنها نشاط
نحقق به أنفسنا، وميكن القول إنها عملية مستمرة لهذا النوع من التحقق. يف
هذه العملية ال نحقق إنسانيتنا فحسب، ولكن أيضا فرديتنا الجزئية التي متيزنا
يف املجتمع كأفراد. ولكن اإلمكانية اإلنسانية ليست وجودا مجردا، بل هي وحدة
القدرات العقلية والجاملية والدينية والسياسية واالجتامعية واألخالقية، حيث تأيت
)٭(، وتعني القوة واملقدرة.

كلمة »إمكانية potentiality »هنا من »potentates»
)٭( يشار بهذه الكلمة، عادة، إىل الشخص املطلق السلطة. ]املحرر[.

227
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
هذه اإلمكانات حقيقية، وهي تعرف حاجيات خاصة - حاجيات إنسانية. ويحدد
مدى تحقيقها مدى شعورنا بالسعادة. ثانيا: ال ميكن لتحقيق هذه اإلمكانات أن يتم
يف الفراغ. عىل الرغم من أن الناس مسؤولة عن ابتدائها وإدارتها، أي عىل الرغم من
أنهم مسؤولون عن نوعية املجرى الذي تتخذه لنفسها، فإن هناك، عىل أي حال،
رشطا رضوريا لتحقيقها: الحرية. ويف هذا السياق أعني بكلمة حرية غياب القيود
الخارجية ومقدرة الفرد عىل أن يصنع قرارا عقالنيا؛ ومن هنا يستلزم األمر إطارا
سياسيا اجتامعيا يؤمن رشوط الحرية. الحكومة الدميوقراطية تؤمن هذا اإلطار. مل
يتصور أصحاب الرؤى يف عرص النهضة هذا النوع من الحكومة نتيجة لدافع شخيص
أو أيديولوجي أو انتهازي، بل نتيجة لدافع عقال ُّ ين، نقدي، ومن تأمل الطبيعة
اإلنسانية يف عملية تطورها من العرص الهليني إىل الفرتة املعارصة. لقد رأوا بوضوح
أنه إذا كانت الحرية هي الجوهر والهدف األسمى للكائنات اإلنسانية فإنه يتبع
حتام أن الحياة الدميوقراطية هي الطريقة التي تساعد عىل تحقيق هذا الهدف.
وأيضا رأوا أن الظروف الوجودية للثقافة املعارصة، أي الظروف الثقافية والتاريخية،
تستلزم اعتبار هذا النوع من الحكومة مثاال جديرا بالتحقيق.
ويف الحقيقة فقد بقي هذا النوع مثاال إىل يومنا هذا. ركائز هذا املثال هي
العدالة واحرتام كرامة اإلنسان والتقدم الروحي واملادي؛ وتوجهه األسايس هو خلق
الرشوط إلنجاز الحرية اإلنسانية، أي الحكم الذايت. لقد اعتقدوا أن الكائن اإلنساين،
أو املجتمع الذي تحكمه إرادة خارجية، بغض النظر عام إذا كانت مستنرية أم غري
ذلك، هو مجتمع ال ميكن له أن يكون حرا. يرتكز هذا االعتقاد إىل االفرتاض أن
الكائن اإلنساين الحر، أو املجتمع الحر، يصل ذروته من التطور تحت رشوط الحرية:
ال ميكن االستغناء عن الحرية كرشط لالزدهار اإلنساين. عالوة عىل ذلك، يتضمن
هذا االعتقاد أن الحرية هي عملية التحقيق الذايت. ولكن هل ميكن للمجتمع أن
يحكم نفسه، خصوصا إذا كان كبريا؟ ما أداة أو آلية الحكم؟ اإلدارة األكرث فعالية
واألكرث عقالنية هي القانون، وجادل مفكرو النهضة األوروبية بأن القانون العادل
هو أداة للتقدم، بقدر ما ينبثق عن إرادة الشعب، ولكن مرة أخرى، كيف؟ بانتخاب
هيئة متثل مصالح الشعب الذي يحكمه القانون؛ هذا النوع من القانون يصبح مبدأ
التنظيم االجتامعي ومن ثم مبدأ إدارة الحياة العامة. أنا عضو حر يف املجتمع بقدر

228
الصداقة
ما أعيش يف ظل قانون ينبثق عن إراديت، أو بقدر ما يجسد مصالحي. أصبحت هذه
الفكرة، التي كانت مبدئيا أساس الدميوقراطية األثينية، حجر زاوية الدميوقراطية
الحديثة. وكانت أفضل رد ملختلف أنواع النظم األوتوقراطية التي كانت تحكم
مجتمعات أوروبا الحديثة.
إحدى السامت الجوهرية للمثل العليا هي أنها تؤدي وظيفتي النموذج واإللهام؛
هي تعرب عن رؤية لحالة مرغوب فيها بقوة، ويف بعض األحيان لحالة أقرب نسبيا إىل
الكامل، مقارنة بحالة ليست كاملة أو مرغوبة. لهذا يتبناها الفرد كوسيلة لتحويل
الواقع إىل حالة أفضل وفقا لقيم ومعتقدات كامنة فيها. كلام ازدادت ثقة الطبقة
املثقفة يف مثال الدميوقراطية خالل القرن الثامن عرش أصبح مصدر إلهام يف العزم
عىل التغري االجتامعي. أول تأثري مهم نجم عن هذا املثال هو خلق وعي دميوقراطي
ال كبنية سياسية مرحلية فحسب، ولكن كمامرسة، كخطوة عملية لتأسيس املامرسة
الدميوقراطية. نرى هذه الخاصية يف التطور التدريجي لآللية التمثيلية يف عدد من
الدول األوروبية، والتي انترشت يف جميع أنحاء أوروبا الغربية يف منتصف القرن
التاسع عرش. لقد شكلت قناة أحرز الناس من خاللها وجودا يف العملية السياسية.
ولكن الثورة األوىل التي قامت باسم الدميوقراطية، وأدت إىل هزمية نظام
الحكومة التقليدي يف أوروبا الحديثة، كانت يف فرنسا يف نهاية القرن الثامن عرش.
رغم كونها حادثة غري اعتيادية، وأظهرت تطلع الروح اإلنسانية إىل الحرية واملساواة
واالزدهار، واستعدادها لدفع مثن باهظ من أجلها، بيد أنها مل ترش، أو عىل األقل
ليس بصورة وافية، إىل تدشني الدميوقراطية كطريقة حياة. من السهل تصميم نظام
سيايس جذاب، نظام َيِعد نظريا بأنبل طريقة حياة، ولكن تنفيذ هذا التصميم
يبقى مجرد طموح، كام يبني تاريخ الحضارة بكل وضوح، ألن طريقة حياة ما
تتضمن تغريا يف املؤسسات التي هي مجال حياة الشعب، وألنها بالتايل تتضمن تغريا
يف رؤية الثقافة العاملية؛ ولكن هذين النوعني من التغري بطيئان ألنهام يعتمدان
عىل الظروف التاريخية وعىل توافر املوارد اإلنسانية واملادية، وعىل مدى استعداد
الشعب للتغري. ال الفالسفة وال املؤرخون ميتلكون معرفة يقينية بديناميات وقوانني
التطور التاريخي، إذا كان لهذه الديناميات والقوانني وجود. لقد قدموا فرضيات
وتعميامت ورؤى مفيدة، ويف بعض األحيان تفسريات ذكية، ولكنهم مل يكشفوا

229
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
الستار عن رس عملية التاريخ. نواجه منطق هذا املوقف الفكري يف محاولتنا لفهم

.
)3(
دينامية قصة الدميوقراطية يف أوروبا الحديثة
يف البداية، أحدث انتصار نابوليون بونابرت املذهل خالل العقد األول من
القرن التاسع عرش شعورا قويا وأمال عميقا لدى الطبقات املثقفة والفقرية بنرش
الدميوقراطية كطريقة حياة. وقد خدم يف الحقيقة قضية الدميوقراطية عمليا، إن مل
يكن نظريا، يف البيئة الثقافية يف مختلف الدول األوروبية. رحب الفالسفة والفنانون
واملصلحون االجتامعيون، باإلضافة إىل الجامهري، بهذا االنتصار. نشوة دميوقراطية
اجتاحت أجواء ثقافة أوروبا الحديثة، ولكن هذه النشوة سحقت ملدة قصرية بخيانة
نابوليون املفاجئة لهذا املثال الدميوقراطي، لدرجة أن الفالسفة والقادة السياسيني
عجزوا عن فهم أو تفسري هذه الخيانة. تصوروا يف البداية أن أوروبا الغربية يف سبيلها
إىل الرتاجع، وأن إميان الشعوب بقيم الدميوقراطية والعدالة والحرية والتقدم وأخوة
الكائنات اإلنسانية انهار أمام الجيوش الفرنسية، التي كانت تنتقل من الجنوب إىل
الشامل ومن الغرب إىل الرشق. بدا كأن إميانهم بالعقل، العقل نفسه الذي أنجب
العلم والتكنولوجيا، أصبح أداة بيد النزوة اإلنسانية والتلهف إىل القوة. بدا كأن
الحس األخالقي، ومعه الحس الديني، الذي كان الدافع األسايس للطبيعة اإلنسانية،
أصبحا ضحية الجانب املظلم للنفس اإلنسانية. وأيضا بدا رمبا أن األوتوقراطية هي
أفضل نوع من الحكم، ألنها، كام جادل هوبز، هي التي تؤمن السالم والنظام
والتقدم. عرب كل من الفالسفة واملصلحني والفنانني، وخصوصا الجامهري الفقرية،
عربوا بقوة عن خيبة األمل يف الثورة الدميوقراطية األوىل التي الحت وراء األفق
كشمس ثقافية ساطعة، بعد أن ذاقوا عصري األوتوقراطية املرير لقرون عديدة. ومع
ذلك، وعىل الرغم من خيبة األمل هذه، فإن شعلة الحامس األخالقي واالجتامعي
والسيايس للنمو والتطور املستمرين عىل طريق الحياة الدميوقراطية مل تنطفئ يف
الكثري من العقول الحرة والثورية. ُترجم هذا الحامس يف العام 1848 إىل فعل
مثمر، وانفتح املجال أمام مسرية دميوقراطية نشطة. حكمت جميع دول أوروبا
الغربية حكومات دستورية وعاشت يف إطار مؤسسات منظمة دميوقراطية بحلول
عام .1920 ولكن يجب اإلشارة هنا إىل أن كارثة مزدوجة هددت بطريقة مميتة
هذه املسرية: الحرب العاملية األوىل )1919-1914( والحرب العاملية الثانية )-1939

230
الصداقة
1945(. زعزعت هاتان الحربان إميان أوروب�ا الغربية بصحة مرشوع الثقافة
الغربية، ليس ألن أسباب هذه الحوادث املأساوية مثلت تحديا للتفسري العقالين
وللمتطلبات األخالقية األساسية فحسب، ولكن ألن الحربني دمرتا أمثن إنجازات
الثقافة الغربية حتى تلك املرحلة الفارقة من التاريخ. كيف ميكن لقادة يفرتض أنهم
متحرضون ومتقدمون عقليا وواعون أخالقيا وتاريخيا أن يدوسوا عىل املثل نفسها
التي خلقت املؤسسات التي يحكمونها؟ حاول املؤرخون أن يفرسوا هاتني الكارثتني:
صعود القومية، الذي أدى فيام بعد إىل ما يسمى »القومية السلبية«؛ هاجس
التفوق السيايس الذي دفع عددا من الدول إىل بناء إمرباطوريات يف آسيا وأفريقيا
والرشق األدىن؛ نهوض السلطة العسكرية كمنافس للسلطة السياسية؛ تشكيل
تحالفات عسكرية خلقت رشوط شن الحروب؛ إهامل الطبقات الفقرية الذي شجع
عىل انتشار الفاشية والشيوعية والنازية كقوى معاكسة للدميوقراطية الليربالية؛
فشل رأساملية السوق الحرة الذي أدى إىل »الكساد العظيم« وضيق الخناق عىل
اإلنسان العادي؛ سلبية الطبقة املثقفة، التي عمقت الشعور باملسؤولية االجتامعية؛
وعنجهية املنترصين يف مؤمترات السالم يف نهايتي الحربني، ما ولد شعورا بالنقمة
ورغبة يف الثأر عند الشعوب املغلوبة - هذه األسباب وأسباب متعلقة بها حللها
نقديا وقيمها املفكرون خالل الجزء الثاين من القرن العرشين؛ ولكن عىل الرغم
من أنها ألقت ضوء الفهم عىل أسباب هاتني الكارثتني الهائلتني، فإنها ال تقدم
تربيرا ملا حدث. هل كان باإلمكان تجنب الحربني؟ من كان املسؤول عن حدوثهام؟
هل يقع مركز املسؤولية يف الطبيعة اإلنسانية؟ يف اإلميان غري الواقعي بالطبيعة
األخالقية والعقلية للكائنات اإلنسانية؟ يف حقيقة أن وقوعهام كان حتمية تاريخية،
أو رمبا يعود السبب إىل هشاشة وسذاجة الدميوقراطية كطريقة حياة أفضل من
أي طريقة أخرى لتحسني املجتمعات اإلنسانية؟ أعتقد أن الحصافة تتطلب وضع
هذه األسئلة عىل طاولة نقاش فالسفة التاريخ. أثري هذه التساؤالت فقط ليك أسلط
الضوء عىل جسامة الدمار املادي والروحي الذي خلفته هاتان الحربان، والصدمة
الثقافية التي أثارتها يف عقل الفيلسوف والفنان واالقتصادي والسيايس، وبخاصة
يف عقل اإلنسان العادي. كيف ميكن للشخص املثقف أن يقف مكتوف اليدين
يف وجه هذا الدمار وهذه الحامقة؟ ولكن ما كان مؤملا فعال ومخيبا لآلمال هو

231
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
ال مباالة النخبة املثقفة، بغض النظر عن توجهها األكادميي قبل هذه الكارثة، ويف
أثنائها، والبعض يقول بعدها. أين كان الفيلسوف، والالهويت، والفنان، والكاهن،
واملعلم، واملصلح االجتامعي عندما كانت هذه الكارثة تحدث؟ هل تظهر هذه
الالمباالة خلال يف النظام القيمي والعقدي للثقافة الحديثة؟ هل تظهر أزمة أخالقية
وتربوية جوهرية يف نسيج هذه الثقافة؟ هل تربر بطريقة ما آراء مفكرين مثل
)٭( وهوبز وماكيافييل بأن الدافع األويل يف الطبيعة اإلنسانية ليس
ثراسيامخوس
دافعا من أجل الخري والجامل والحقيقة كغايات قيمة بذاتها وكسامت جوهرية يف
الطبيعة اإلنسانية، ولكنه دافع للحياة والرضا الشخيص؟ هل تظهر أن الجامهري ال
تهتم بالحرية، بل مبعدتهم؟ حسنا، إحدى النتائج املهمة لهذا الصدمة وهذا الدمار
هي وقفة للتساؤل الذايت. عدد كبري من املفكرين، إن مل يكن جميعهم، فقد إميانه
ُمبُثل الحداثة وحكموا عليها باإلفالس وأعلنوا بداية توجه ثقايف جديد، بينام حاول
آخرون أن يفهموا ملاذا حدثت هذه الكارثة: حاولوا اكتشاف األخطاء التي اقرتفت
وتقوية نقاط الضعف التي ُغض النظر عنها واالستفادة مام حدث، تحديدا ألن
قيم ومعتقدات الحداثة ولدت من رحم العقل، يف اإلدراك األخالقي، ويف الرغبة
الصادقة لتعزيز النمو والتطور اإلنساين. أعتقد أن التاريخ يقف بجانب الفئة الثانية
من املفكرين لسببني:
أوال: ُمُثل الثقافة الحديثة والحرية والعدالة والتقدم واكتامل الطبيعة اإلنسانية
هي ُمُثل كلية وتتجاوب مع أعمق متطلبات الطبيعة اإلنسانية. مل يدرس املفكرون
هذه ُ املثل ومل يقدموها عىل نحو فجايئ وشخيص، ولكنها منت ونضجت نتيجة
محادثة تأملية وحريصة وصبورة ونقدية بني مختلف أنواع املفكرين خالل الخمسة
والعرشين قرنا املاضية. فالفكر والتجربة مبختلف مجاالت الثقافة هام أساس هذه
املثل. والكثري من الناس اليوم يرون هذه املثل كمسلامت لتحسني الحياة، لكن
األمر احتاج إىل عدة قرون من التفكري والتجربة واملناظرة ليك تحوز قبوال عاما.
قد يختلف املفكرون، أو يتفقون، عىل معناها وأفضل طريقة لتحقيقها يف حياة
الفرد واملجتمع، ولكن معظم املفكرين والقادة السياسيني يسلمون بأنها صحيحة
)٭( Thracymachus، سفسطايئ عاش بني القرنني الخامس والرابع قبل امليالد يف أثينا . ]املحرر[.

232
الصداقة
وجديرة باالعتناق. عالوة عىل ذلك، نحن نخطئ إذ نظن أنه ميكن تعريف معناها،
أو أنه ميكن تعريفها بصورة نهائية، ألن ظروف الحياة املادية والروحية يف حالة
تغري مستمر، وتتغري هذه الظروف بصورة مختلفة يف مختلف مجتمعات العامل،
وتعتمد كيفية ترجمتها وتطبيقها عىل نظرة الثقافة العامة وعىل مدى تطورها. عىل
أي حال، اليشء املهم هو أن االختبار النهايئ لصحة هذه الرتجمة )أو تلك( ومنهج
تطبيقها هو مدى نجاحها يف تعزيز سعادة املجتمع.
ثانيا: عىل رغم أن نتائج الدمار والصدمة الناجمة عن حربني مروعتني دامت
ملدة ثالثة عقود، وسببت شعورا عميقا باليأس الساخر ويف بعض الحاالت باالشمئزاز
من الثقافة، فإن روح الدميوقراطية وطريقة حياتها انتعشت وكأنها نهضت من رماد
دمار هاتني الحربني. استأنفت جميع الدول األوروبية طريقة حياتها الدميوقراطية
يف الربع الثالث من القرن املايض، وحاولت شعوبها يف هذه العودة إصالح بعض،
وليس كل، األخطاء التي اقرتفوها خالل القرنني املاضيني. انطلقوا نحو هذا الفعل
من االعتقاد بأن الثقافة األوروبية لن تدوم وال ميكن لها أن تدوم تحت الطغيان
السيايس أو الديني أو العقيل أو األيديولوجي. ويف الواقع، بدأت مثل الدميوقراطية
تشق طريقها إىل معظم الدول يف آسيا والرشق األوسط وأفريقيا وأمريكا الالتينية.
أفضل الكال ُ م عن »مُثل« الدميوقراطية أو طريقة الحياة الدميوقراطية، وليس عن
دميوقراطية معينة، ألنه ال يوجد، ولن يوجد أبدا، منوذج واحد للدميوقراطية؛ ويف
الواقع، ال توجد دميوقراطيتان متشابهتان ببنيتيهام وتفاصيلهام يف االتحاد األورويب
ُ أو خارجه، وإن تشابهت يف اعتناقها ملُثل الدميوقراطية ـ يف بنائها الدستوري الذي
يعرتف باستقالل وسيادة الهيئات الترشيعية والنيابية والقضائية للدولة. املوجود
واقعيا هو طرق مختلفة لتنظيم املجتمع بناء عىل هذه املثل. مبادئ التنظيم
السيايس واالجتامعي تنبثق عن الرتبة الثقافية للجامعة. واالختالفات الثقافية هي
التي تربر الكالم عن الدميوقراطية الفرنسية أو األملانية أو الربيطانية أو السويدية
أو السويرسية أو اإليطالية.
ومن املعقول القول بأن طريقة الحياة الدميوقراطية السائدة يف أوروبا يف هذه
األيام أنضج وأقوى من أي وقت مىض. وميكن القول أيضا إن التقدم يف حقول
الرتبية والهندسة الصناعية والفن واألبحاث واملامرسة الطبية واملعلوماتية والفلسفة

233
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
والالهوت واالقتصاد عوامل أدت دورا مهام فعاال يف هذا التقدم. ولكن هذا ال يعني
أن الثقافة األوروبية ال تخطئ، أو سوف لن تخطئ ثانية. والتساؤل حول ما إذا
كان هذا التطور سوف يستمر من دون انتكاسات كبرية أخرى ال يقع ضمن نطاق
مناقشتي هنا. ولكن النقطة الوحيدة التي أريد التشديد عليها هنا هي أن املشهد
السيايس املميز للنموذج الثقايف املعارص، وإن كان أكرث نضوجا وأكرث فعالية وأكرث
ُ ثباتا، فإنه، مبدئيا، امتداد للمشهد الذي نسج بأيدي رواد عرص النهضة.
الفن: ال يخلق الفنانون، وال ميكن لهم أن يخلقوا، أعاملهم يف فراغ ثقايف، ألنهم
يستمدون معتقداتهم ورغباتهم وعاداتهم وحسهم الفني ودافعهم اإلبداعي،
باختصار نظرتهم إىل العامل، من النسيج الوجودي لثقافتهم، أو من العامل الفني
الذي يحتضنهم. قد يرفضون ثقافتهم أو يثورون ضد بعض أعرافها وتقاليدها
ومامرساتها كام يثور الشباب ضد آبائهم أو ضد املجتمع عامة يف السنوات األخرية
من مراهقتهم، ولكنهم لن يستيطعوا التخلص من نسيجها، من املعتقدات والقيم
التي تشكل بناءها. كيف يستطيعوا فعل ذلك إذا كانت هذه القيم واملعتقدات
هي روحهم، الروح التي غذت نفوسهم، وعقولهم وقلوبهم، والتي هي مصدر دماء
الحياة التي تجري يف عروقهم؟ ومع ذلك، عىل الرغم من هذا التجذر الثقايف، فإن
الخاصية التي تعرف الفنان هي اإلبداع - الشجاعة ألن يتجاوز األعراف الحالية،
وأن يقدم فهام أكرث ثراء ملثلها الثقافية وأمناطا جديدة من التعبري الفني. إن النشاط
الفني بطبيعته يتجنب التقليد وكل ما هو مألوف. لقد تعلمت عيناه أن ترى
النواحي الجوهرية والكلية للواقع. هدف الفنان أن يغوص يف الواقع وينقل عمق
رؤيته الفنية ويشاركها مع اآلخرين، ال ألنه يشعر بالوحدة، وال ألنه يفتش عن نوع
معني من اللذة، ولكن ألنه يرغب يف إشعال رشارة الفهم يف عقول الناس وأن يوسع
أفق خيالهم. أليس فعل املشاركة عىل املستوى اإلنساين نوعا من العطاء؟ أوليس
فعل العطاء فعال ّ من أفعال النمو اإلنساين؟ إن العمل الفني الذي ال يلهب حسنا
األخالقي والذي ال يجدد لدينا الحس بالحقيقة والجامل، هو عمل تافه. ملاذا يتعني
ّ عيل أن أصغي إىل قطعة موسيقية أو أقرأ رواية إن مل ترن تلك التجربة عقيل وتنعش
ضمريي وتريض حيس باللذة الجاملية وتخلق لحظة من التساؤل الذايت؟ وكيف
بإمكانها أن تؤدي إىل هذا النوع من التجربة إن مل تكن كنزا من البصرية العقلية

234
الصداقة
واألخالقية والجاملية؟ عادة يصف فالسفة الجامل العملية الفنية بلغة التعبري أو
التواصل أو التمثيل، ولكن يف أفضل األحوال تبقى هذه اللغة مجازية. اإلبداع الفني
نشاط كاشف، يزيل الحجاب الساتر للوجود أو الحقيقة ليساعدنا عىل رؤية الوجود
أو الحقيقة كام هام. هذا الكشف هو املصدر النهايئ للمتعة الجاملية.
يف التجربة الجاملية ال تراودنا األفكار فحسب، ولكننا نرى ونحدس املضمون
الجاميل للعمل بأعني الخيال، ونفهم ما نراه ألن مضمون التجربة معطى لنا عينيا
يف كامل وجوده: الجوهر، والعالقات، واملعاين، ونبضات الحياة. عندما أصغي إىل
مناجاة هاملت تتدفق من فمه يف سياق العرض الدرامي، أنا ال أصغي إىل محارضة
فلسفية أو الهوتية، وال إىل اعرتاف من نوع ما، أنا أصغي إىل نفس إنسانية غارقة
ُصغي إىل كائن إنساين يكافح

يف عمق فكرها، يف عمق ارتباكها واعرتافها األخالقي. أ
ليك يكون صادقا، أصغي إىل كائن إنساين مغمور يف قوة املحبة، أصغي إىل كائن
إنساين يجاهد ليتصالح مع نفسه، ألين أشعر مبا أسمعه وأفهم ما يعنيه أن تكون
إنسانا.ً هل باستطاعتي مغادرة املرسح من دون أن أتأثر؟ هل باستطاعتي االستمرار
يف حيايت من دون أن أفكر يف معنى حيايت؟ هل باستطاعتي أن أدرك، أثناء العرض،
أنني جالس عىل كريس مبرسح؟ أو كيف أستطيع مقاومة االنجذاب أو االنغامس يف
عامل هذه املرسحية؟ كام ترى، يف التجربة الجاملية ال أفكر فحسب، بل أعيش ما
أدركه وأتخيله. هذا النوع من اإلدراك وجودي؛ إنه ذلك النوع الذي يجعلني أفكر
وأشعر وأفعل وأفهم نفيس والعامل حويل بطريقة مختلفة. رس اإلبداع الفني يقع يف
صميم هذا النوع من اإلدراك، يقع يف مقدرة الفنان أن يحول مادة معينة - كلامت،
رخام، أصوات، أفعال، حركات، دهان - إىل تكوين ذي معنى. ال أكون مبالغا إن قلت
بأن نداء الفنان األسايس هو نداء من أجل هذا النوع من التكوين.
وهكذا كان أيضا نداء الفنان الحديث يف فجر املرحلة املعارصة. مل يكن نداء
نزوة عابرة، بل تجاوب مع وضع الفن يف القرن التاسع عرش والتغريات الدرامية يف
العلم واالقتصاد والسياسة والرتبية والدين. لقد استنفدت عمليا الطرق والوسائل
التقليدية لإلبداع الفني يف القرن التاسع عرش. العديد من األعامل الفنية كانت إما
من دون روح وإما تقليدا. شعر عدد من الفنانني بحاجة ّ ملحة إىل مساءلة قواعد
وثوابت واصطالحات الفن التقليدي، وبارشوا بطرق جديدة للتعبري الفني. ولكن

235
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
عامل املعرفة كان يتضخم بازدياد؛ وكذلك كان عامل التكنولوجيا يغري خارطة السياسة
واالقتصاد والرتبية والحياه االجتامعية باستمرار. مل يكن باستطاعة الفنان والروايئ
واملوسيقي واملعامري والنحات تجاهل هذه التطورات والتحديات. هل ميكن للعني
الشغوفة بالحقيقة والخري والجامل أن تغض النظر عن هذه التطورات؟ إن تاريخ
الفن الرثي واملنعش واملغامر يف القرن العرشين يشهد عىل هذا الشغف. قد أفيد
القارئ إذا قدمت تفسريا ملنطق هذه التطورات مبناقشة قصرية لواحد من األمناط
الفنية: الرسم. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، سوف أختار بيكاسو ألنه مثال عىل
.
)4(
االندفاعة املتوهجة للنبض الخالق ولروح الفن الحديث يف حياته وعمله
عندما وصل بيكاسو إىل باريس يف بداية القرن العرشين، كانت ثورة هادئة، وإن
كانت متصلة، تختمر باطراد يف جميع الفنون. كان هدفها األول التخلص من النظرة
التقليدية إىل طبيعة وأهداف ودور الفن يف حياة اإلنسان، وتأسيس مبادئ اإلبداع
الفني عىل أرضية جديدة. كان الشعراء يف طريقهم لتحرير القصيدة من األوزان
والقوايف وإعطاء الخيال الشعري أجنحة جديدة، وكان املرسحيون يبتكرون تطورات
جديدة للأمساة والكوميديا وامليلودراما، وكان املوسيقيون يحاولون تجاوز املنهج
املؤسس للتآليف السيمفونية ويبثون روحا جديدة حرة يف تعبريهم املوسيقي،
وكان الروائيون يحاولون االبتعاد عن القصة كحكاية والدخول يف عامل من التحليل
والنقد وبناء الشخصية الروائية، وكان املعامريون يعملون عىل تعريف جديد ملعنى
البناية والسكن تحت ضوء التقدم يف العلم والتكنولوجيا والحياة املدنية، وكان
النحاتون يبثون الروح اإلنسانية يف متاثيلهم من دون التطفل املزعج والكليشيات
غري الالزمة والزخرفة املفتعلة. بدا واضحا ملعظم الفنانني أن الفن بجميع أنواعه
وصل إىل طريق مسدود. شعروا بالوهج الحارق لإلبداع وبالحاجة إىل توسيع أفقه
ومقدرته عىل التجاوب مع املشهد الثقايف املتطور الجديد. كانت هذه اللسعة
حادة وعميقة يف نفس بيكاسو املضطربة، ولكنها كانت صدى للوهج الذي انترشت
حرارته يف جميع أنحاء عامل الفن. كان بيكاسو يعرف كبقية الفنانني أنه ال يستطيع
أن يبدع ضمن إطار القواعد واألفكار واملصطلحات واملامرسات التي سادت الوعي
الفني منذ النهضة األوروبية، ولكن مل يكن يعرف بوضوح بعد التوجه الذي يتعني
عليه أن مييض إليه. أوال، كان يعرف أن عليه تجنب املواضع التاريخية: عىل العمل

236
الصداقة
الفني أن يبتعد عن املايض والتاريخ والرسديات والسياسة. لقد استهلك الكثري من
الطاقة الفنية يف خلق صور لألرستقراطيني ومسؤويل الحكومة واملشاهد التاريخية
والتجار األغنياء والقادة الدينيني، صانعي التاريخ. كانت خطوة بيكاسو الثورية
األوىل باتجاه فصل الفن عن السلطة بجميع أشكالها. انظر مثال مشهد »نابوليون
)٭( الذي تكرر رسمه

يجتاز األلب يف طريقه إىل ممر القديس برنارد« للفنان دافيد
مرات عديدة يف القرون املاضية. ميثل هذا املشهد القوة اإلمربيالية املطلقة. فبيد
واحدة ميسك نابوليون بزمام القوة املطلقة، وباليد األخرى يشري إىل الطريق التي
تؤدي إىل ذروة املجد. حتى الحصان الذي ميتطيه يسري بثقة ثابتة ويبدو كأنه يحلق
نحو هذه الذروة. حسنا فعل بيكاسو عندما تجنب مشاهد مملة وعادية كهذه يف
لوحاته الفنية، وعوضا عن هذا النوع، أىت بلوحة »قيادة حصان« يف ،1905 لتصور
فتى شبه ٍعار يقود حصانا من دون رسج. واالثنان، الفتى والحصان، ال يصبوان إىل
املجد أو السلطة. بالعكس، كالهام تبدر عنه نظرة تعرب عن االنطوائية، عن قلق
يثريه مستقبل غامض أو رمبا حارض مقلق. الصدق والبساطة والرباءة تشع من
وقفتهام األنيقة. يقف هذا العمل الفني ككيان مستقل؛ ميثل كال متكامال من دون
اإلشارة إىل أي يشء خارجه.
املثال الثاين التقليدي كان الفكرة الضيقة، وتقريبا السطحية، القائلة بأن هدف
الفن هو الجامل. العديد من الفال ّ سفة والفنانني عرفوا الفن عىل أساس جاميل: العمل
فن يقدر ما هو جميل. العديد منهم افرتض أن الجامل هو مبدأ التمييز الفني.
حازت هذه الفكرة أوضح تعبري عنها يف محاولة إلظهار تناسق الجسم اإلنساين.
ولكن الجامل األنثوي احتل املكان البارز يف الفن األورويب منذ بداية عرص النهضة.
ُعطي جاملها شكال مثاليا. ويف الواقع كان

شكلت األنثى العارية نوعا فنيا، وغالبا أ
هدف ذلك الفن إمتاع عيون األغنياء واألقوياء. ولكن يجوز لنا التساؤل: هل التمييز
بني العري الفني والعري واضح وقابل للتعريف، أو حتى ممكن؟ اعتقد بيكاسو أنه
آن األوان لتجريد العمل الفني من صلته بهذا التصور غري الواقعي للجامل، وعمل
عىل توسيع حقل »الجامليات« إىل أبعد حدود ممكنة. مل يعد الجميل، ليس فقط يف
)٭( David Louis - Jacques، فنان فرنيس تويف يف .1825 ]املحرر[.

237
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
الكائنات اإلنسانية، ولكن أيضا يف جميع حقول التجربة األخرى، الحلو أو الظريف
أو املاتع أو الحامل أو املنسجم تقليديا. ومبجرد أن انتهى من العمل عىل »قيادة
حصان«، رسم لوحة »آنسات أفينيون« يف ،1907 وعوضا عن امرأة مضطجعة يف
مخدعها، أعطانا بيكاسو خمس نساء يف بيت دعارة. ال تتسم هؤالء النسوة باألناقة
والحياء واإلغراء والحنان، وال يتسمن بالنعومة، بل نراهن من دون ثياب، ساخرات
ومحتقرات جنسيا ومتحديات. هذا املشهد يخطف انتباهك ويبقيه يف إطار اللوحة.
ال يسمح لك بأن تحلم أو تتخيل. لقد سقطت لوحة األنثى العارية الجميلة من
فوق املنصة. بعد أن رأى أحد النقاد األمريكيني لوحة بيكاسو، قال إن الرسام أصابه

)٭( بأن هذه اللوحة نكتة.

الجنون، بينام قال ماتيس
الوثن الثالث، واألكرث قوة، الذي انهار هو التمثيل )التصوير:) الفنان ال ميثل
أو يقلد املواضيع والحوادث الطبيعية واإلنسانية فحسب. الفنان خالق، مبتكر، ال
مقلد، وال يهتم بالجامل بحد ذاته. إذا كان هدف الفنان كفنان أن يصور املوضوع
أو الحادثة عىل اللوحة، فمن األفضل أن تقوم الفوتوغرافيا بهذه املهمة. باإلضافة إىل
)٭٭(، هو اندفاع

ذلك، الفنان ال يرسم بيده بل بعقله. اندفاع الفنان، كام قال سيزان
نحو الكيل، اندفاع نحو الجوهر، نحو الوجود. ينبثق العمل الفني عن هذا النوع
من التجربة. وكام قال بيكاسو، الفن استدعاء )Evocation)؛ إنه فرصة الستدعاء
حس الحقيقة املنيس: الجوهر الذي مينح اليشء وجوده. ولكن املنيس يحجبه املظهر
الحيس واالجتامعي. وهدف الفنان هو رفع الحجاب عنه وجعل جوهره جليا واضحا
لإلدراك املثايل. غري أن هذا النشاط ليس سهال وال تلقائيا، إنه إبداعي بامتياز. إن
التكوين الذي يخلقه الفنان هو وسيلة التعبري وهو مأوى الجامل بحد ذاته؛ مأوى
املضمون الحديس الذي يدركه الفرد يف التجربة الجاملية، والذي يخلقه الفنان يف
)٭٭٭(، من
العملية الفنية الحقيقية. اقرتب بيكاسو، تحت تأثري سيزان وفان جوخ
َق عليه »التكعيبية«، باالبتعاد عن العامل الفني التقليدي،

شكل رسعان ما صار ُيطل
أو رمبا بتذكرينا برسالة الفن الحقيقية. هدف هذا النمط من التعبري الفني هو نقل
)٭( Matisse Benoît - Émile - Henri، رسام ونحات فرنيس تويف يف .1954 ]املحرر[.
)٭٭( Cézanne Paul، فنان فرنيس تويف يف .1906 ]املحرر[.
)٭٭٭( Gogh van Willem Vincent، فنان هولندي تويف يف فرنسا يف .1890

238
الصداقة
السامت الجوهرية للواقع كام هو، أي بأبعاده املكانية والزمانية، وأيضا بأهميته.
قد يكون تقديم الواقع تكعيبيا أفضل طريقة إلظهار جوهر األشياء. املهم هو
صياغة السامت األساسية للجوهر وتشكيله وفقا لرؤية الفنان املبدعة. عندما ألقي
نظرة جاملية عىل »صورة دانيال هرني كون وايلر« )1910(، مثال، أنا ال أرى هيئة
إنسان جالس مكتوف اليدين، فحسب؛ أنا »أ ّشيد« هذه الهيئة يف سياق إدرايك لها
جامليا، وإال نزلت بها إىل مستوى الفوتوغرافيا. هدف بيكاسو من اللجوء إىل املنهج
التكعيبي يف التعبري الفني تجاهل الواقع، بل إظهار دينامية الخلق الفني والتجربة
الفنية. ولكن هل كان هذا املنهج األفضل أو األوحد السرتداد رسالة الفن الحقيقية؟
العديد من املهتمني بالفن ضاقوا بهذا املنهج الجديد الذي بدأ يف االنتشار ومل يرحبوا
به بحامس. لقد كان جافا وصعبا بالنسبة إليهم. نعم، كان صعبا وجافا، ولكن من
قال إن الفن الجاد، أو الجامل، دامئا سهال وماتعا؟
كان هجوم بيكاسو الناجح عىل التمثيل باعتباره السمة التي تعرف الفن ذروة
املرحلة التي متكن تسميتها »املرحلة الجاملية«، التي صان فيها بيكاسو فنه عن
االلتزام بأي واجبات أخالقية أو اجتامعية. كان هدفه الرسم، أي خلق أعامل فنية
ّقيمة جوهريا: العمل الفني غاية بذاته. وقد اعتنق يف هذه املرحلة الرأي القائل
بأن غاية الفن هي »أن أرسم وليس أي يشء آخر«. مرة أخرى، فقد كتب ذات مرة:
»سوف أبقى منشغال بالجامليات... سوف أستمر يف صنع الفن من دون أن أنشغل
بالسؤال عام إذا كان ما أفعله يؤنسن الحياة«. والتزم بهذا الرأي حتى منتصف
الثالثينيات. يف غضون ذلك الوقت، أنتج عددا كبريا من األعامل فتح فيها بشجاعة
باب الالوعي وأظهر القوى الباطنية التي تحرك السلوك الواعي – امليول التدمريية
عند البرش، الجنس، الخوف، الضعف، الرغبة – بلمسة عبقرية شعرية. ولكن هذا
املوقف من املامرسة والنظرية تغري فورا بعد تدمري غورنيكا من قبل سالح الجو
األملاين )Luttwaffe )يف .1937 أصابته نوبة من الغضب واالشمئزاز األخالقي،
ومن الثورة، عندما شاهد التدمري الكامل وغري املربر للكائنات اإلنسانية الربيئة
ولإلنجازات الثقافية. كيف ميكن لفنان ذي ضمري أخالقي أن يقف صامتا أمام هذا
الدمار؟ كيف ميكن للفنان أن يتجاهل األرض التي يقف عليها كفنان؟ ولكن هل
باستطاعة الفنان أن ينفصل عن فنه؟ لقد خاض بيكاسو حوارا فنيا راديكاليا. الفن

239
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
الذي ال يربطنا بتيار الحياة اإلنسانية، الذي ال ينعش أو يوقظ الضمري اإلنساين، أو
الذي ال يدفع العقل إىل تفهم أعمق للحياة والعامل، باختصار، الفن الذي ال يحث
الفرد عىل أن ينمو بإنسانيته، قد يحتل وجودا مجردا يف املتحف أو األماكن العامة،
وقد ميثل مكانة معينة يف تاريخ الفن، بيد أنه ال صلة له بالكائنات اإلنسانية. كيف
ميكن للعمل الفني أن يكون مهام إذا مل يخاطب العقل والقلب اإلنسانيني؟ وكيف
ميكن للفرد أن يتمتع بفن كهذا؟ إذا كان الهدف الوحيد للعمل الفني هو إثارة
شعور من اللذة، فإنه سطحي وسجني ذاته يف آن معا، ورمبا وسيلة للتسلية. عىل
العمل الفني الجدي أن ميتلك صوتا إنسانيا، وعىل هذا الصوت أن يتكلم بوضوح
وبصدق. وقد نطقت جدارية غورنيكا بهذا الصوت، وتركت أثرا عميقا عىل فن
العرص الذي تال الحرب العاملية الثانية. حتى بعض أعامله املمتازة املجردة، تلك التي
بدت منفصلة عن الواقع، كانت مرشبة بالبصرية والدفء اإلنساين.
ولكن النمو والتطور الفنيني اللذين مر بهام بيكاسو ومحاولته، أوال، تحرير
الفن من قيود التقليدية واملغامرة يف أساليب جديدة تتجاوب مع مطالب الرؤية
اإلبداعية الحرة، وبعد ذلك تأسيسها عىل أرضية ثقافية جديدة، كانت منوذجية بكل
معنى الكلمة، ألن عملية منو وتطور مامثلة اجتاحت بقية الفنون. الناجم كان روحا
فنية تعددية وممتلئة بالحيوية ومتعددة الجوانب. أصبح الفنان املعارص ميتلك
يف آن واحد عقلية تاريخية وحساسية ثقافية مسؤولة. عىل الرغم من أن الفنانني
عىل وعي تام بهويتهم الثقافية، فإنهم ال يفكرون ويشعرون ويخلقون أعاملهم
برؤيتهم الثقافية فقط، ولكن برؤية عاملية أيضا. لقد أصبحت الحدود املادية
والثقافة والقومية التي كانت تفصل الدول والقارات بعضها عن بعض شفافة بصورة
متزايدة. عالوة عىل ذلك، فإن صدى أي حدث يف أي مكان ينترش يف جميع أنحاء
العامل، ويف فرتة زمنية قصرية. الحركة العابرة للدول تزداد برسعة. الوعي بالثقافات
األخرى والحوار املتعدد الثقافات تيار غري قابل للرتاجع. وما هو عاملي ال ميكن بعد
اآلن فهمه من زاوية املركزية – األوروبية، ولكن بنظرة كونية، أي، بنظرة إنسانية.
اإلنسانية يف حد ذاتها أصبحت، وبصورة متزايدة، االهتامم األول للفنان وملوضوعه
الفني. وسعت هذه التحوالت الثقافية، وتحوالت مثلها، و ّعمقت الرؤية اإلنسانية
للفنان، ووّسعت فضاء الخلق الفني وأطلقت القوى الكامنة يف دوافع اإلبداع. وإال،

240
الصداقة
فكيف يتيرس لنا تفسري اتساع حقل الفن – اتساع نطاق موضوعاته وأيضا وسائله
إىل التعبري الفني؟ وكيف ميكن تفسري بروزه املتصاعد كمؤسسة ثقافية مركزية يف
مجاالت الرتبية والحياة العامة؟
إن الثورة الفنية التي بدأت بالنهوض يف منتصف القرن التاسع عرش ووصلت
ذروتها يف التطور يف القرن العرشين ال تعني، يف اعتقادي، انفصاال عن الفن الحديث
أو رفضا له، وال تعني تحوال راديكاليا عن املعتقدات والقيم الرئيسة التي تشكل
نسيج الرؤية املعارصة للعامل. هدف هذه الثورة هو إعادة تأويل، وتقييم، واكتشاف
لإلمكانات الكامنة يف الدوافع اإلبداعية للطبيعة اإلنسانية. كان هذا التطور لحظة
فارقة للتساؤل الذايت. كان تجاوبا مع التطورات السياسية واالقتصادية والعلمية
والرتبوية والتكنولوجية خالل قرن انتقايل )1850 – 1950( من ناحية، وتوجه
الدوافع اإلبداعية إىل التجاوب مع تحديات هذه التطورات من ناحية أخرى.
2 - الصداقة يف النموذج األخالقي املعارص
عىل الرغم من أنه كان دراميا يف تطوره ومميزا بإنجازاته البناءة، وأيضا املدمرة،
ومهام، بالفعل، من منظور تاريخي، فإن زحف النموذج الثقايف املعارص إىل القرن
العرشين ّسبب تغريا جوهريا يف األمناط السلوكية النموذجية املختلفة. يف استطاعتنا
القول إن هذا التغري نجم عن انفجار يف اإلبداع والعلم والتكنولوجيا واالقتصاد والفن
والسياسة والرتبية. هذا االنفجار وَّسع أفق العقل اإلنساين وأظهر إمكاناته. ابتدأ العقل
بالغوص يف نسيج املادة ويف عمق العقل اإلنساين، من ناحية، ويف الفضاء الخارجي
للكون من ناحية أخرى؛ فبغض النظر عن امليول الجنسية أو املواقع االجتامعية أو
الحالة االقتصادية أو الخلفية اإلثنية أو املواهب العقلية، أصبحت القيمة العليا
للكائن اإلنساين يف حد ذاتها متأصلة يف طريقة تفكري الناس؛ مل يعد الفن مقصورا عىل
النخبة، بل أصبح وسيلة كلية للتعبري عن املشاعر املهمة وعن اهتاممات وأمنيات
ورغبات البرش يف جميع بقاع األرض. واكتسبت الرتبية، بوصفها حاجة أساسية ورشطا
رضوريا للتقدم املادي والروحي اكتسبت اعرتافا شامال. أصبحت الحرية وحقوق
اإلنسان، وهام ركيزتا الدميوقراطية، أسس التفكري األخالقي والسيايس. العمر الطويل
أصبح أمل الجميع وليس األقلية فقط. والدين أصبح أكرث روحانية، وأقل مادية

241
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
ومؤسسية وطقسية. وأخريا، أصبح العامل اإلنساين أصغر وأكرث توحدا من خالل شبكة
كلية من التواصل عىل مستوى املعلومات والسياسة واالقتصاد والنقل.
ولكن، كام أرشت سابقا، كان هذا التغري الجدير باملالحظة نوعيا يف طبيعته، ألنه
مل يشمل تغريا مقابال يف رؤية العامل التي تشكل أساسه، بل بفهم وتطبيق املعتقدات
والقيم التي تشكل نسيجه. تبقى هذه املعتقدات والقيم، وفق معرفتي، أساس
النموذج الثقايف املعارص. ومع ذلك، عىل الرغم من هذه االستمرارية النموذجية،
نشهد تغريا جديا يف طريقة الفالسفة بالتنظري حول طبيعة األخالق والبحث يف
األخالق، أي يف وظيفة النظرية األخالقية. عىل أي حال، هذا التغري ال يعكس تغريا
يف أساسيات النموذج األخالقي، يف األرضية التي يقوم عليها النموذج األخالقي، أي
يف تصوره للخري األسمى. ويف الحقيقة، تبقى الرؤية األخالقية التي تشكل األرضية
التي يقوم عليها النموذج األخالقي مبنزلة محكمة االستئناف العليا بالنسبة إىل
عملية توضيح وتأويل وتربير املبادئ والقواعد والتطورات األخالقية ليومنا هذا.
وبكلامت أخرى، تبقى األرضية التي يقف عليها الفيلسوف يف التنظري معياريا
و»ميتا-أخالقيا«. وبكلامت أخرى، مرة ثانية، يبقى النموذج األخالقي الحديث اإلطار
ألي نوع من التحليل األخالقي، بصورة مبارشة أو غري مبارشة، من قبل الفالسفة
املعياريني وامليتا-أخالقيني. ولكن يف هذه الحالة كيف تفرس غياب الصداقة كقيمة
مركزية عن التنظري األخالقي املعارص؟ هل أسباب هذا الغياب مامثلة لألسباب التي
ناقشناها يف الفصل السابق؟ ال نستطيع اإلجابة عن هذا السؤال باإليجاب، ألن
طبيعة وأهداف الفلسفة طرأ عليها تغري جدي. وهكذا، وعىل الرغم من أن النموذج
الثقايف الحديث مبدئيا مل يتغري، فإن أسباب استبعاد الصداقة كقيمة أخالقية مركزية
تغريت. لهذا السبب علينا أن نفتش عن هذه األسباب ضمن إطار التغري الذي طرأ
عىل النموذج الثقايف الحديث عامة والفلسفة خاصة. كان هذا التغري مميزا وأنتج
مناخا فلسفيا جديدا، ألن بذوره تغذت عىل تطورين تاريخيني، األول فلسفي والثاين
علمي. كل من هذين التطورين شكك يف ادعاءات الفلسفة، وأدى تدريجيا إىل
تحول يف الفلسفة كطريقة تفكري يف العامل.
َّدشن التطور األول كتاب كانت »نقد العقل الخالص«. يف هذا العمل، جادل
كانت بأن املعرفة الرياضية ومعرفة الطبيعة ممكنة، ولكن املعرفة امليتافيزيقية

242
الصداقة
غري ممكنة. إذن، وعىل األقل ضمنا، تصبح معرفتنا بالعالَم منوطة بالعالِم. وال
تتعلق مناقشتنا هذه مبا إذا كانت الحجج املقدمة يف هذا الكتاب العميق حاسمة،
أو مقنعة. ولكن معظم الفالسفة الذين أتوا بعد كانت رفضوا نتائجه، ويف الواقع
رشعوا يف بناء بعض أهم األنظمة امليتافيزيقية يف تاريخ الفلسفة. مثال، فيخته،
)٭(، هيغل، ماركس، شوبنهاور، إذا أردنا ذكر بعض األسامء، كانوا عىل
شيللنيــغ
اقتناع كأفالطون وأرسطو وديكارت وإسبينوزا قبلهم بأن مهمة الفيلسوف هي
معرفة طبيعة الواقع ومعنى الحياة اإلنسانية: الفلسفة منارة املعرفة. ولكن الثقة
بهذا االعتقاد، أو لنقل بهذا االفرتاض، بدأت بالرتاجع بني الفالسفة، عندما بدأت
العلوم الجديدة، الطبيعية والبيولوجية واالجتامعية، بتقديم معرفة موثوقة ومثمرة
للطبيعة اإلنسانية يف النصف الثاين من القرن التاسع عرش. البعض جادل بأنه ميكن
للنظام الفلسفي أن يقوم بوظيفة عاطفية أو جاملية أو دينية، أو بوظائف أخرى،
وميكن أن يلقي بضوء الفهم عىل أسئلة شخصية أو إنسانية، ولكن ال يستطيع أن
يقدم معرفة عن طبيعة الواقع. إن عدم قدرة الفلسفة عىل الوصول إىل معرفة
حقيقية ال بد أن يفرس التنوع املحري، ويف بعض األحيان التناقضات املربكة، بني
مختلف األنظمة الفلسفية. حاول كانت أن يحل هذه املشكلة بصورة نهائية، ولكنه
فشل. عىل أي حال، برهن نجاح العلوم بصورة واضحة عىل أن املعرفة امليتافيزيقية
غري ممكنة، عىل األقل باستخدام املناهج التقليدية للبحث عن املعرفة، وأن املنهج
العلمي هو املنهج املناسب للحصول عىل املعرفة. شكل هذا اإلقرار من قبل العديد
من الفالسفة والعلامء لحظة من التساؤل الذايت: إذا كانت معرفة الطبيعة والحياة
والعقل مهمة العالِم، فام مهمة الفيلسوف؟ هل عىل الفلسفة أن تصبح علام، أو
عىل األقل أن تصبح علمية؟ إذا كان الجواب نعم، فام نوع املعرفة التي ميكن أن
تقدمها؟ ما حقل بحثها، أو ما نوع األسئلة التي تستطيع تحليلها واإلجابة عنها؟
هل كانت الطريقة التقليدية لصياغة األسئلة امليتافيزيقية خطأ ويف حاجة إىل إعادة
صياغة؟ هل يختلف نوع املعرفة التي يجب عىل الفيلسوف أن يسعى وراءها،
نوعيا، عن معرفة العامل؟ حسنا، بغض النظر عن نوع املعرفة التي ينشدها الفالسفة،
)٭( Fichte Gottlieb Johann، األملاين مؤسس الفلسفة املثالية. تويف يف 1814؛ وSchelling Joseph Wilhelm،
فيلسوف أملاين تويف يف .1854 ]املحرر[.

243
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
هل يف إمكانهم السعي من أجل معرفتها قبل أن يتمكنوا من استيعاب املعرفة
العلمية، أو عىل األقل اإلقرار بالقوانني والتصورات الطبيعية؟ وإذا كانت هذه هي
الحال، فهل ستصبح الفلسفة خادمة للعلم؟
من املستحيل تقديم مناقشة مفصلة لالتجاهات املختلفة التي قدمت كحلول
ممكنة أو كأجوبة عن األسئلة التي نشأت عن املأزق الذي أنتجه نجاح العلوم يف
بداية الفرتة املعارصة. يكفي القول إن هذا املأزق مل يهمش أو يزعزع الفلسفة
كحقل أكادميي رشعي وطريقة حياة عقلية ذات أهمية بالغة. عىل العكس، نكون
محقني إذا قلنا إنها تحررت من هذا املأزق وانبعثت كحقل أكادميي أكرث صالبة وأكرث
إنتاجية وأكرث إيجابية مام كانت عليه من قبل. سوف أناقش اآلن ثالثة اتجاهات
واسعة االنتشار: الرباغامتية، والوجودية، والتحليلية. األول رحب باملنهج العلمي،
والثاين أعاد تعريف األسئلة امليتافيزيقية وحاول التجاوب مع املعرفة العلمية،
والثالث تقبل أولوية املنهج العلمي يف سعينا إىل معرفة العامل وحاول إعادة تعريف
وظيفة الفلسفة. ولكن جميع فالسفة األخال ّ ق الذين نظروا ضمن إطارات هذه
االتجاهات الثالثة همشوا الصداقة كقيمة أخالقية مركزية.

)٭(، أبرز الفالسفة الرباغامتيني وأكرثهم تأثريا يف الزمن املعارص،

أوال، وفق ديوي
فسؤال الفلسفة الرئيس هو العالقة بني املعرفة العلمية – القضية أو االعتقاد
الصحيح – والقيم الجاملية والدينية واألخالقية والسياسية واالجتامعية. أصبح
واضحا لديوي يف بواكري تطوره الفلسفي أن املنهج العلمي أفضل منهج للحصول
عىل املعرفة الصحيحة. وهكذا، إذا أرادت الفلسفة أن تقوم بوظيفتها عىل خري ما
يرام، إذا أرادت أن تجيب عن األسئلة الصعبة التي تنشأ يف مسرية حياتنا النظرية
والعلمية، عليها دمج املنهج والروح العلمية يف منط تفكريها. واجه ديوي هذا
التحدي بنجاح مذهل. كانت نتيجة مسعاه تصورا مثريا للعامل – للطبيعة وللطبيعة
)5(. طبق املنهج العميل يف تحليله لألسئلة املركزية

اإلنسانية وملعنى الحياة اإلنسانية
يف اإلبيستمولوجيا وامليتافيزيقا واملنطق والقيم. ولكن عندما نطبقه يف األخالق،
مثال، كام فعل ديوي، فإننا نكون مضطرين إىل أن نتجنب كل ما هو مطلق، خصوصا
)٭( Dewey John، فيلسوف وعامل نفس أمرييك. تويف عام 1952 . ]املحرر[.

244
الصداقة
املطلق الرئيس الذي وقع التسليم به يف النظرية األخالقية التقليدية من دون تحليل
نقدي، والذي رفضه ديوي، أعني الخري األسمى )bonum Summum). يف كتابه
»تفكيك الفلسفة« يكتب »ليس الهدف يف الحياة هو الكامل، كغاية نهائية، بل
الهدف هو العملية القادرة عىل احتامل جميع الضغوط، واملتمثلة يف السعي إىل
الكامل والنضوج، واالرتقاء بجميع أنواعه. اإلنسان السيئ هو اإلنسان الذي، بغض
النظر عام إذا كان سلوكه صالحا يف املايض، يبدأ سلوكه بالتدهور، ليصبح هو إنسانا
أقل صالحا. واإلنسان الصالح هو اإلنسان الذي، بغض النظر عام إذا كان سيئ الخلق
يف املايض، يستمر يف التقدم نحو األفضل. هذا التصور يجعل الفرد قاسيا نحو نفسه
وإنسانيا )عطوفا( نحو اآلخرين. عوضا عن معيار واحد، ملاذا ال نتبنى معايري عدة؟
من الذي يفرض علينا هدفا واحدا، نهائيا، بغض النظر عن فهمنا لهذا الهدف؟ هل
االعتقاد بهذا النوع من الهدف مربر؟ هل يقوم بوظيفته بالرضورة كمبدأ تفسري
وتربير؟ املهم هو إمكانية واستمرارية النمو. علينا النظر إىل »املعايري« باعتبارها
»وسائل« نستعملها يف تعزيز النمو اإلنساين. هكذا، فالقيم ليست كلية ومطلقة؛ بل
يصنعها البرش يف سياق تاريخي – ثقايف معني. إنها تنشأ من صميم التجربة اإلنسانية،
من الحاالت العينية التي يعيشونها، من التحديات التي يواجهونها، من املتطلبات
الحياتية، من الحاجيات النظرية والعملية يف مسرية حياتهم. القيم تتغري وتتطور
ولها سريتها. مثال، طرأت عىل فكرة العدالة تغريات كبرية عديدة وبطرق عديدة
يف معناها وأهميتها وطرق تطبيقها منذ األيام األوىل لليونان إىل يومنا هذا. نثمن
العدالة وبقية القيم ألنها تقوم بدور رشوط رضورية للنمو اإلنساين. ومسألة ما إذا
كان مفهوم »النمو« نوعا من املفاهيم النهائية هي أمر قابل للتساؤل؛ ولكن حتى
لو سلمنا بأنه ليس مفهوما مطلقا، عىل رغم ذلك، فإن وظيفة النظرية األخالقية
معيارية، ومهمتها األولية وفق ديوي هي تقديم رشح معقول للسلوك األخالقي: ما
الذي يجعل القانون أو املؤسسة أو الفعل أخالقيا؟ كيف يجب أن نسلك؟ يف الفقرة
األوىل من كتابه »نظرية الحياة األخالقية« يكتب ديوي: »األخالق هي العلم الذي
يعالج السلوك من حيث هو صواب أو خطأ، طيب أو خبيث«. وهناك مصطلح
واحد لإلشارة إىل السلوك موضع البحث وهو »السلوك األخالقي«. وميكن التعبري
عن الفكرة نفسها بالقول إن هدف األخالق هو الرشح املنظم ألحكامنا املتعلقة

245
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
.)6(
بالسلوك بقدر ما تتعلق باألفعال الصحيحة أو الخاطئة، الجيدة أو »السيئة«
الفعل األخالقي هو الفعل الذي يعزز النمو اإلنساين، ولكن ليس ذاتيا أو وفقا
ألهواء الفرد. ليك يكون الفعل أخالقيا عليه أن يلبي املتطلبات الروحية واالجتامعية
ّ والحياتية للفرد، وعليه أن يلبي متطلبات التفكري النقدي )التدبر(، ويحوز موافقة
املجتمع )املعيار األخالقي(. وهكذا، فليك يكون الفعل أخالقيا عليه أن يكون خيرّا
وأن يختاره الفرد لهذه الغاية. وشأنه شأن أفالطون وديكارت وإسبينوزا وميل، كان
ديوي فيلسوفا إصالحيا. أراد لنظريته األخالقية أن تقوم بوظيفة مبدأ للفعل الفردي،
ولوضع السياسات، والتنظيم املؤسيس، واإلصالح االجتامعي. كان عىل اقتناع بأن
األسلوب األخالقي رشط رضوري للتقدم االجتامعي. ميكن القول إن النظرة األخالقية
التي طورها يف كتاباته االجتامعية الكثرية كانت تقليدية ومعيارية باتجاهها. هذا ال
يقلل من أصالة وقوة إقناع وعمق نظرته ومنهج تحليله.
ال تفسح رؤية ديوي للخري كأساس للحياة األخالقية مكانا للصداقة كقيمة
أخالقية مركزية، ألن السعادة بالنسبة إليه ليست هدفا نهائيا وال حالة عقلية من
نوع ما. هدفنا هو السعي وراء الحياة الصالحة أخالقيا، وهذا النوع هو حياة تنمو
تحت رشوط التفكري النقدي واملبدأ األخالقي: نشعر بالسعادة يف عملية النمو
ككائنات إنسانية. ولكن الصداقة ليست عنرصا يف السعادة وال رشطا لها؛ وهي
ليست إحدى الحاجات أو االهتاممات الرضورية للنمو أو الحياة الصالحة. ولكن
ملاذا يستبعد ديوي الصداقة كعنرص يف الحياة الصالحة؟ يف هذا االستبعاد يعطي كام
فعل كانت أولوية للخري يف حد ذاته. يضع السعادة مبرتبة أقل من الخري. فهو يجادل
بقوة يف »نظرية الحياة األخالقية« أن السعادة نتيجة عن الحياة الصالحة )الخرية(؛
لكنه يعتقد بصورة مغايرة لكانت أن مبدأ التميز األخالقي ليس كليا وخارجيا
بالنسبة إىل حياة الفرد ولكنه، عىل العكس، ينبثق عن هذه الحياة ذاتها. يكمن
الخري األخالقي يف تلبية الحاجيات، أو املصالح الرضورية لبنية الذات اإلنسانية.
اإلنسان الصالح فنان أخالقي. القيم التي تجعل سلوكه أو حياته أخالقية تنبثق عن
عقله وشخصيته األخالقية. ولكن إذا كانت السعادة هي محصلة السلوك األخالقي،
ّ وإذا كنا نعرف الخري بالنمو، وإذا كان النمو ال يشمل بالرضورة الصداقة كعنرص يف
الحياة األخالقية، فلامذا إذن نعترب الصداقة قيمة أخالقية مركزية؟

246
الصداقة
ثانيا، وشأن الرباغامتيني، كان فالسفة الوجود مثل هايدغر، سارتر، ياسربز،
)٭(، الذين يشار إليهم بصورة غامضة باسم

مارسيل، سارتر، كامو، أورتيغا إي غاسيت
»الوجوديني« عىل وعي تام بالنجاح الحاسم للمنهج العلمي يف حقل املعرفة وكانوا
أيضا عىل وعي تام بحقيقة أن التفكري العلمي رشط رضوري، إن مل يكن عنرصا، يف
التفكري الفلسفي. وال ميكن االستنتاج من القول إن معرفة العالَم هي مهمة العالِم
أننا، بالرضورة، ال نستطيع أن نفكر فلسفيا، أو أن العامل ليس موضوع الفلسفة.
يقر فالسفة الوجود بأن األزمة التي سببها انتصار العلم أثارت سؤالني مهمني، األول
منهجي والثاين موضوعي، من حيث طبيعتهام )أ( كيف ميكن للعامل أن يكون موضوع
التفكري يف الفلسفة؟ )ب( إذا كان هدف العلم معرفة العامل، فام هدف الفلسفة؟
أدى التأمل املنتظم والنقدي للسؤال األول إىل متهيد الطريق للمنهج الظاهرايت أو
)٭٭( الذي بدوره مهد الطريق للتفكري الفلسفي يف العامل:

الفينومنولوجي )هورسل(
فلسفة الوجود. جادل الفالسفة البارزون يف هذا االتجاه، هايدغر سارتر، ياسربز،
وأورتيغا إي غاسيت عىل سبيل املثال، بأن العامل هو املوضوع املركزي للفلسفة.
مهمة الفيلسوف ليست معرفة العامل )وهنا أعني هايدغر(، بل معرفة معناه يف
حدود ما هو معروف علميا، فك شيفرة معنى العامل يف املعرفة العلمية وبها. وهكذا
فالسؤال الرئيس للفيلسوف ليس معرفة هذا العنرص أو ذاك - مثال، الضوء أو الحياة
أو الوعي – ولكن معرفة الوجود أو العدم كأساس للواقع الطبيعي واإلنساين. ألنه
ليس الوجود وال العدم معطيني للتجربة املبارشة: فامذا نعني عندما نقول إن العامل
أو أي يشء يوجد )موجود(؟ مبا أن الوجود ليس موضوعا )object)، فإننا ال نستطيع
تعريفه بسهولة. إنه لغز )enigma)؟ وألنه لغز فيجب استكشافه وكشف معناه
بأسلوب عقال ُ ين. هذا الهدف الذي شغف به الفالسفة يف العرص اليوناين القديم دخل
عامل النسيان ألسباب ثقافية وتاريخية، بيد أن واجب الفيلسوف هو إحياؤه والبدء
يف عملية التفكري الفلسفي بالنظر النقدي يف مسألة الوجود. وعىل ما يف ذلك من
)٭( Heidegger Martin، فيلسوف أملاين واسع التأثري تويف يف 1976؛ وJaspers Karl، عامل نفساين وفيلسوف
سويرسي - أملاين تويف يف 1969؛ وMarcel Gabriel، ناقد موسيقي وأديب وأحد فالسفة الوجودية املسيحية، تويف يف
1973؛ وSartre Paul - Jean، فيلسوف وأديب وناشط سيايس فرنيس تويف يف 1980؛ وCamus Albert، صحايف وأحد
مؤسيس فلسفة العبث، تويف يف ،1960 وGasset y Ortega José، فيلسوف ليربايل إسباين تويف يف .1955 ]املحرر[.
)٭٭( Husserl Albrecht Gustav Edmund، فيلسوف الظاهراتية األملاين، تويف يف .1938 ]املحرر[.

247
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
تناقض، فقد انضم للموافقني عىل هذه االستجابة للمهمة األليق بالفلسفة وايتهيد،
الفيلسوف العمليايت )philosopher process )البارز يف العامل الناطق باإلنجليزية.
ففي كلمة ألقاها يف جامعة هارفارد يف العام 1935 قال إنه إذا كانت مهمة العالِم
هي معرفة العالَم فمهمة الفيلسوف هي معرفة معناه: »وفيام يخص الدينامية
النيوتونية، فالعامل والفيلسوف يتجهان نحو طريقني متقابلني. العامل يسأل عن النتائج
ويسعى إىل مالحظة هذه النتائج وهي تتحقق يف الكون، والفيلسوف يسأل عن
.
)7(
معنى هذه األفكار عىل أساس طوفان التشخيصات التي يشقى بها العامل«
ولكن من الرضوري أن يبدأ البحث يف طبيعة ومعنى الوجود من فهم للكائن
ُص هايدغر
)٭(. يف كتابه »الوجود« خل

الذي يثري سؤال الوجود: الدازين Dasein
إىل أن الوجود يف الزمن )الوجود – الزمني( هو معنى الوجود؛ لهذا علينا فهم
»الدازين« من منظور الزمن، وهذا يعني أن الزمن هو اإلطار الذي فيه يجب أن
ُيحلل الوجود املحدد Dasein، والوجود عامة. هذا اإلقرار يحول االنتباه إىل الوجود
)٭٭( هو دامئا

العيني الواقعي، أي الزمني، للدازين. فالكائن اإلنساين )existenz)
األنا التي دامئا تفعل يف العامل الذي هي مغروسة فيه، فتكتشف بل تختلق ذاتها
فيه. ككائن إنساين، أنا لست معطى للعامل ككائن جاهز ولكن كإمكانية لوجودي
أنا؛ لهذا أنا معطى كمهمة يجب تحقيقها - طبعا يف سياق الزمن. ولدت يف العامل
وسوف أتركه من دون إراديت أو معرفتي. وجودي محصور بني حادثتي الوالدة
واملوت. وبني هاتني الحادثتني أنا عملية َت َحُّقق ذايت، ألصبح كيانا إنسانيا محددا
)dasein - الذات اإلنسانية(، بقدر ما أنجح يف تحقيقها. بكلامت أخرى، حيايت هي
مرشوع ال ميكن إكامله. إذن، السؤال األسايس بالنسبة َّ إيل هو غاية ومعنى حيايت.
ولكن كيف أستطيع الجواب عن هذا السؤال وأنا ال أعرف ماذا ومن أنا؟ وفق
هايدغر: جوهري يأيت إىل حيز الوجود – بجهدي طبعا – يف سياق الوجود: يتمثل
جوهري يف وجوده الخاص، أساسا ألنه تحقيق إلمكانيته. ومبا أنني إمكانية، فأنا
أصنع أو أخلق ذايت. ولكن مرة أخرى، إذا كنت معطى كإمكانية، أي مرشوع حياة،
)٭( Dasein، الوجود اإلنساين املحدد أو الكينونة عند هيغل. ]املحرر[.
)٭٭( Existenz، عند ياسرب، هي حالة الحرية التي ميكن أن نعرف يف إطارها الوجود الحقيقي، وبالتايل فهي وجود
باإلمكانية. ]املحرر[.

248
الصداقة
فهذا املرشوع يتحقق يف مسرية الزمن، إذن من األصلح القول إنني تاريخ ال جوهر.
الجواب عن سؤال معنى الحياة اإلنسانية يكمن يف هذه الفكرة: يتقرر معنى حيايت
يف سياق صريوريت الواقعية، يف سياق تحويل إىل الفكرة التي انطوى عليها كياين
باعتبارها إمكانية. تحقيق هذه اإلمكانية هو مصريي.
جميع فالسفة الوجود تقريبا وصفوا عملية تحقيق مرشوع حياة الفرد، بقدر
ما هو تحقيق للذات اإلنسانية كحياة أصيلة )authentic). حياة كهذه تتدفق
من صميم وجودها كإمكانية، ال من »اآلخرين«، ال من سلطة خارجية – املجتمع،
الكنيسة، الدولة. إنها حياة تحقيق ذايت، فيها يعيش الفرد وفقا ألعىل توقعات
الطبيعة اإلنسانية. العيش بعكس هذه التوقعات يعني العيش وفقا لضمري فاسد
)faith bad)؛ يعني العيش بنفاق أو بخداع. عالوة عىل ذلك، الحياة األصلية حرة
ولهذا السبب هي مسؤولة. وهل ميكن لها أن تكون خالفا لذلك مادمت أخلق ذايت
يف عملية العيش اليومية؟ لهذا السبب علينا أن نكون دامئا عىل استعداد ألن نربر
حياتنا. ليست هناك حاجة إىل طرح سؤال التربير الذايت إذا كانت حياتنا تحت رحمة
سلطة خارجية. هذه الخاصية، وهنا أعني الحرية واملسؤولية، هي التي تجعل حياة
اإلنسان من وجهة نظر فيلسوف الوجود أخالقية. ويف الحقيقة، فمفهوم األخالق
يرتجم يف ضوء األصالة: اإلنسان أخالقي أو صالح بقدر ما يحقق ذاته ككائن إنساين.
كام نرى، »األخالق« أو الكيان األخالقي مغروس يف األنطولوجيا الوجودية: تصور
الخري األخالقي متأسس يف تصور األصالة؛ هذا يعني أنه متأسس يف تصور الدازين
dasein الذي بدوره هو متأسس يف تصور الوجود. إنه مغروس يف البناء األنطولوجي
للدازين )الوجود اإلنساين املحدد(. يف هذا الغرس ينصهر األخالقي واألنطولوجي يف
كيان واحد: األنطولوجي يصبح أخالقيا واألخالقي يصبح أنطولوجيا. ولكن، كام قال
سارتر، ال نستطيع استخالص األخالقي من األنطولوجي ألن األنطولوجي هو، جوهريا،
تحليل وصفي لبنية الوجود، بينام النظرية األخالقية اقرتاح معياري للفعل. هذا يفرس
غياب النظرية األخالقية عن الفلسفات الوجودية كام نعرفها يف التقليد الذي سار
عليه أرسطو وكانت وميل. وهذا يفرس ملاذا ال نجد تحليال للقيم األخالقية، ومن
ثم لقيمة الصداقة، يف تحليالتهم للتجربة األخالقية. فهم مل يهتموا بطبيعة السلوك
.)8(
األخالقي ولكن بطبيعة الحياة األخالقية عامة، بالطبيعة التي متيز اإلنسان األصيل

249
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
ثالثا: التيار الفلسفي الثالث الذي قدم أكرث اإلسهامات نقديا وإبداعيا وثراء لتطور
النظرية األخالقية وخصوصا لتشذيب منهجها يف التحليل هو الفلسفة التحليلية عامة
والوضعية املنطقية والتحليل اللغوي خاصة. أقر الفالسفة الذين اشتغلوا ضمن أطر
هذا التيار منذ البداية بأن العلم هو، ال مشاحة، املصدر يف معرفة العامل؛ ولكن
عىل عكس الرباغامتيني وفالسفة الوجود والهيغلييون الجدد وفالسفة العملياتية
)process)، فإن معظمهم إن مل يكن جميعهم اعتربوا الفلسفة خادمة للعلم. كانوا
جريئني بتفكريهم يف أنه إذا كان العلم هو مصدر معرفة العامل الوحيد، إذن عىل
الفلسفة أن تصبح علام أو أن تصبح علمية، أو أن تكف عن االدعاء أو التظاهر بأنها
مصدر »معرفة«. ال تستطيع الفلسفة أن تصبح علام ألنها ليك تصبح ً علام يجب أن
يكون لها موضوع، ومن ثم يجب أن يكون لديها عامل واضح من الحقائق، ولكن هذا
العامل غري موجود ولن يوجد. جادل بعض الفالسفة، الرباغامتيون والطبيعيون مثال،
بأن الفلسفة تستطيع أن تصبح علمية مبعنى أن تتبنى )أ( روح املنهج العلمي و)ب(
املبادئ األساسية للتفكري العلمي؛ ولكن العديد من الوضعيني رفضوا هذه التوجه عىل
اعتبار أنه إذا كانت فلسفة ما علمية فإنها ال تستطيع أن تقدم معرفة عن العالَم، ألن
هذه املعرفة أصبحت مسبقا جزءا من اختصاص العالِم. تستطيع أن تقدم عىل األقل،
)٭(، رؤية للعامل. ميكن إضافة هذه النظرة إىل معرفتنا، بيد أن قيمتها

كام فعل هيكل
األساسية تكمن يف أنها توّحد مختلف أنواع املعرفة يف نظام شامل ومنتظم. وهكذا،
فصياغة الرؤية التي قد تختلف من فيلسوف إىل آخر سوف تخدم أغراضا دينية أو
جاملية أو عاطفية أو أيديولوجية أو أخالقية، ولكنها سوف لن تخدم أغراضا معرفية.
ولكن االتجاهات التي سادت تيار املقاربة الوضعية يف القرن املايض كانت
الوضعية املنطقية والتحليل اللغوي. الوضعيون اختاروا االتجاه الثاين وإعادة
تعريف وظيفة ومنهج الفلسفة. مل تكن هذه املهمة سهلة. تعاون عدد من
الرياضيني والعلامء، قبل تشكيل حلقة فيينا وبعدها، عىل إنجاز هذه املهمة. مل
يصلوا إىل اتفاق عام عىل تصور للفلسفة؛ بيد أن جميعهم اعتنق مبدأ التحقيق
)٭٭( يف جلسات الحلقة، وهنا أعني املبدأ الذي يقول إن

الذي طرحه فيتغنشتاين
)٭( Haeckel Ernst، عامل األحياء والفيلسوف األملاين، تويف يف .1919 ]املحرر[.
)٭٭( Wittgenstein Ludwig، فيلسوف منساوي بريطاين، تويف يف .1951 ]املحرر[.

250
الصداقة
معنى القضية هو منهج تحقيقها؛ ومنهج التحقق منها هو املنهج العلمي التجريبي،
الذي يحيل تطبيقه، معرفة العالَم إىل العالِم. ولكن تطبيق هذا املنهج مبارشة
حذف املبادئ والتطورات غري القابلة للتحقيق التجريبي؛ ودمر أساس الفلسفة
التقليدية الذي ارتكز بصورة أو أخرى إىل مبادئ وتصورات متعالية غري قابلة
للتحقيق التجريبي. ولكن، إذا كان أساس الفلسفة قد ُدِّمر، فام وظيفتها؟ منطقيا،
الوظيفة الوحيدة التي تستطيع القيام بها هي نقدية تحليلية. ولكن ما موضوع
هذا التحليل؟ موضوعه هو املبادئ واملفاهيم واملناهج األساسية للعلوم املختلفة،
وللغة الدينية، ولغة الرياضيات، ولغة الجامليات ولغة كل مجال للبحث العلمي،
مبا يف ذلك اللغة العادية التي هي أساس كل نوع لغوي آخر. بالفعل، ففي جميع
أشكالها، قدمت الوضعية، التي لعبت دورا مميزا يف تطوير فلسفة القرن العرشين،
معالجة تحليلية منطقية للفلسفة التقليدية والرياضيات ومناهج وتصورات ومبادئ
العلوم املختلفة. ولكن يف مسرية تطورها أظهرت أيضا عيوب افرتاضاتها، وحدود
منهجها، وتهميشها بعض أهم األسئلة الدامئة للفلسفة.
هديف من املالحظات السابقة ليس تقييم الوضعية تاريخيا أو فلسفيا، ولكن
فقط تسليط الضوء عىل حجر الزاوية يف النظرة الفلسفية ملبدأ التحقيق. واآلن،
إذا طبقنا املبدأ عىل النظرية األخالقية فسوف تكون إمكانية املعرفة األخالقية
مستحيلة. وقضايا مثل أن »الرسقة خطأ« أو »اللذة هي الخري األسمى« سوف
تفقد معناها املعريف. قد تعني القضية األوىل »أنا ال أحب الرسقة« أو »ال ترسق«
أو »أشعر بأن الرسقة غري مرغوب فيها«؛ وقد تعني القضية الثانية »أنا أحب اللذة
أكرث من أي يشء آخر« أو »أويص بأن تسعى وراء حياة لذيذة« أو »أشعر بأن حياة
اللذة جديرة بالعيش«. ولكن هذه القضايا عاطفية وليست معرفية. هي قضايا
ذاتية وتفتقر إىل الصحة املوضوعية. حسنا، عىل الرغم من أن بعض الوضعيني مثل
)٭(. جادل بأنه ميكن بناء نظرية أخالقية طبيعية شبيهة بالنظرية الرباغامتية
شليك
أو املنفعية، فإن آخرين وهم األغلبية جادلوا بأن بناء نظرية أخالقية معيارية أمر
غري ذي معنى، ألن املعرفة األخالقية، يف األساس، غري ممكنة. مهمة النظرية األخالقية
)٭( Schlick Moritz، الفيلسوف األملاين أبو الوضعية املنطقية يف حلقة فيينا، تويف يف .1936 ]املحرر[.

251
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
حسب اعتقادهم ميتا - أخالقية. هذا الحدس األسايس أدى إىل نوع جديد من
الخطاب األخالقي: األخالق العليا )metaethics( )امليتا – أخالقية(. مهمة األخالق
العليا ليست وضع نظريات أخالقية معيارية، وال السعي وراء معرفة أخالقية، أي
معرفة الخري أو الباطل أو الصفة األخالقية، وال تربير صحة املبادئ األخالقية، أو
كيف يجب أن نعيش أو نسلك يف حاالت معينة، ولكن تقديم نوع آخر من املعرفة
- معرفة استعامل اللغة األخالقية أو معانيها: التصورات واملبادئ األخالقية واملنطق
الذي نستعمله يف تربيرها. مثال، ماذا نعني بكلامت »خري«، »أخالق«، »حرية«،
»عدالة«، »لذة«؟ ما املنهج األكرث فعالية يف توضيح أو تعريف هذه التصورات
وتصورات أخرى، أو ما املنطق الذي يربر استعاملها؟ هل القضايا األخالقية الكلية
أو املوضوعية ممكنة؟ ولكن خطاب األخالق األعىل مل يبدأ بالوضعيني، ألن جميع
فالسفة األخالق من العرص اليوناين إىل اآلن ميارسونه بطريقة أو أخرى. الفكرة
التي ابتدعها الوضعيون هي أن الوظيفة الوحيدة للخطاب األخالقي ميتا - أخالقية
بطبيعتها. وميكن تسليم مهمة اقرتاح وجهات نظر أخالقية، أو مبادئ تقييم، إىل
عامل النفس االجتامعي أو الالهويت أو للمجتمع أو للحكيم، ولكن ليس للفيلسوف.
وال ميكن للفيلسوف القيام بهذه املهمة ألن الفلسفة ليست مصدر معرفة يف العامل
أو الحياة اإلنسانية. عىل أي حال، ففي التخيل عن هذه املهمة علق الوضعيون
حكمهم عىل طبيعة الخري األخالقي وأيضا القيم التي ميكن استمدادها منه، ومن
ثم عىل ما إذا كانت الصداقة رضورية للحياة األخالقية، أو إذا كانت متطلبا أخالقيا،
وبالتايل عىل ما إذا كانت قيمة أخالقية.
غري أنهم برفضهم للتنظري حول طبيعة الخري األخالقي، امتنع الوضعيون باإلضافة
إىل ذلك عن إحداث تغيري جدي يف النموذج األخالقي السائد. كانت مساهمتهم
تحليلية، نقدية، ال جوهرية معيارية. ولكن الغريب أنهم يف مناقشاتهم امليتا -
أخالقية العديدة، واملمتلئة بالبصرية للغات األخالقية النظرية والعملية، ركزوا
انتباههم عىل تصورات مهمة كالخري والحرية والعدالة واملسؤولية والحق واللذة
والتفكري األخالقي واإلحسان والصدق والواجب، ولكن ليس عىل الصداقة. ومع
ذلك ميكن للفرد أن يصادق عىل القول إن الخطاب األخالقي يجب أن يكون مجرد
خطاب تحلييل ونقدي، وإن كان هذا ال يعني بالرضورة أنه يجب إبعاد الصداقة

252
الصداقة
التي لعبت دورا مركزيا يف نظرية األخالقية الكالسيكية وأيضا يف الحياة العملية،
وبالتايل كانت جزءا ال يتجزأ من اللغة األخالقية، عن التحليل امليتا - األخالقي. وأنا
أعتقد أن هذا اإلبعاد ليس سهوا. إنه تعبري جيل عن اهتامم الوضعيني بطبيعة
الصفة األخالقية، أو األخالقي يف حد ذاته، كموضوع للتحليل األخالقي عامة:
ماذا تعني بكلمة أخالقي؟ أو خيرّ؟ ما الذي يجعل حالة ما أخالقية؟ أسلم بأن
هذا االهتامم يعكس تأثري كانت، خصوصا سعيه إىل فصل الخري األخالقي عن
السعادة. يستطيع الفرد أن يكون أخالقيا من دون أن يكون سعيدا. الفيصل هنا
هو األمر امللزم: ترصف بصورة تكون فيها اإلرادة، ويف الوقت ذاته أن تصبح قاعدة
)maxim )فعلك قانونا كليا. وهكذا، مبا أن الصداقة بطبيعتها عالقة تفضيلية،
وهذا يستلزم أن األفعال التي يقوم بها األصدقاء بعضهم نحو بعض ال ميكن وضعها
تحت األمر امللزم، فإنه من السهل استبعاد الصداقة من الخطاب األخالقي. كام نرى
أن الوضعيني مل يستبعدوا الصداقة كقيمة من النموذج األخالقي املعارص فحسب،
ولكن أيضا قيدوا إمكانية كونها موضوعا يف التحليل امليتا - أخالقي، ألنهم انشغلوا
باللغة النظرية والعملية للخري األخالقي من دون أي اعتبار للقيم الناجمة عنه أو
الدور الذي يلعبه يف الحياة السعيدة.
3 - تقييم
سعيت يف املناقشة السابقة إىل أن أفرس ملاذا استبعدت التيارات الفلسفية
البارزة، الرباغامتية وفلسفة الوجود والفلسفة التحليلية، الصداقة كقيمة أخالقية
مركزية من النظرية األخالقية. الرسالة املتضمنة يف هذا اإلبعاد واضحة: الصداقة
ليست متطلبا أخالقيا، وهي ليست كذلك ألنها ليست حاجة إنسانية، فهي ليست
عنرصا وال رشطا للحياة الصالحة.
أوال: استمر الرباغامتيون بالتقليد املعياري يف التنظري األخالقي. عرفوا الحياة
الصالحة بلغة النمو األخالقي، وشأن الرواقيني من قبلهم، ساووا بني السعادة
والحياة الصالحة. كان الرواقيون قد جادلوا بأن الحياة الفاضلة، العاقلة، هي الحياة
السعيدة: نحن سعداء بقدر ما نتبع قوانني العقل أو الطبيعة. الرباغامتيون جادلوا
بأن السعادة حاصل ينجم عن الحياة الصالحة: يصبح الفرد سعيدا بقدر ما تكون

253
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
حياته صالحة. ولكن بينام كانت الصداقة بالنسبة إىل الرواقي حاجة إنسانية، ومن
ثم عنرصا من عنارص الفضيلة، فهي ليست كذلك بالنسبة إىل الرباغاميت. وهكذا
ميكن للفرد أن يعيش حياة صالحة أو خرية من دون الصداقة. هذا ال يعني أن
الصداقة ليست رضورية أو أنها غري مهمة أو أنه يجب تجنبها. كال، إن ما يقولونه
هو أنها ليست عنرصا يف الحياة الصالحة وال رشطا لها. وهكذا، فبام أن موضوع
النظرية األخالقية هو الحياة الصالحة، ومبا أن الصداقة ليست عنرصا يف هذه
الحياة أو رشطا لها، فإنه ميكن حذفها من جدول أعاملها. ولكن هل هذا الحذف
مربر؟ إدراج أو حذف أي قيمة من التصور األخالقي يجري باللجوء إىل النموذج
األخالقي، ألن الرؤية األخالقية الكامنة فيه هي املصدر األعىل لنظرة الفيلسوف
إىل الخري األسمى وإىل كيفية ترجمة هذا الخري إىل مبدأ التمييز األخالقي، وكنتيجة
لذلك للقيم التي ميكن أو ال ميكن شملها كوسيلة لتحقيق الخري األسمى. واآلن
إذا أثرنا السؤال عام إذا كان استبعاد الرباغاميت للصداقة من النظرية األخالقية
مربرا أم ال، فاإلجابة تكون بالسلب، ألن هذا االستبعاد ال يتطابق مع فكرة الحياة
الصالحة يف الرؤية املعارصة للنموذج األخالقي، والحجج التي قدمتها ضد استبعاد
الصداقة كقيمة مركزية من النظرية األخالقية الحديثة يف الفصل السابق تنطبق
بصورة عامة عىل ديوي، ألن النموذج الثقايف الذي ترتكز نظريته إليه هو، جوهريا،
النموذج الثقايف املعارص. لقد كان استمرارا للتنظري التقليدي للعرص الحديث.
دعوين أرشح هذه النقطة بالتفصيل.
ّ الفيلسوف ليس مرشعا أخالقيا. الهدف من نظرية األخالق هو تنظيم ورشح
وتفسري وصياغة الرؤية األخالقية الكامنة يف النموذج األخالقي الحايل. وهو يعتمد
يف بناء نظريته عىل نظرته الفلسفية ومهاراته العقلية ومقدرته عىل فهم الحس
األخالقي لجامعته. والغرض من هذا التنظري هو توسيع إطار معرفتنا لطبيعة
وأهمية السلوك األخالقي، وتوضيح كيف يجب أن نعيش ونحقق أنفسنا ككائنات
إنسانية. وهكذا، فكفاءة النظرية األخالقية يف نهاية املطاف سوف تعتمد عىل مدى
إخالص النظرية للرؤية األخالقية الكامنة يف النموذج األخالقي، واملتطلبات الكامنة
يف الطبيعة اإلنسانية. إىل أي حد أخذ الفيلسوف بعني االعتبار القيم واملعتقدات
األخالقية الثقافية؟ إىل أي حد أخذ بعني االعتبار بصورة وافية قدرات وحاجيات

254
الصداقة
ومتطلبات وأمنيات الطبيعة اإلنسانية؟ إىل أي حد نجح يف ترجمة الحدس األخالقي
الكامن يف الرؤية األخالقية إىل مبدأ تقييم أخالقي قابل للتربير؟ النقطة التي أريد
التشديد عليها هي أنه ال تكفي معرفة الرؤية األخالقية للثقافة، ولكن علينا أيضا
معرفة أنفسنا وإمكانياتنا وحاجياتنا أو رغباتنا ككائنات إنسانية. عالوة عىل ذلك،
علينا أن نقر بأن األنظمة األخالقية حقائق دينامية؛ فهي مثل الكائنات العضوية،
تنمو وتنحدر وتغيب عن الوجود. يتغري معنى وعدد وطرق تطبيق القيم التي
تشكل بنية النظام األخالقي من مجتمع إىل آخر ومن زمن إىل آخر. املهم هو أنها
تستمد معناها من رؤية الجامعة للخري األسمى. يف إمكاننا دامئا أن نسأل: هل
تصور الفيلسوف لقيمة معينة و ٍ اف؟ هل تغري معناها؟ هل استوعب الفيلسوف
بدقة جوهر الرؤية األخالقية للجامعة يف دراسة الخري األسمى؟ هل استمداده للقيم
األخال ٍ قية أو للقواعد من هذه النظرية واف؟ هل تربيره ملبدأ التمييز األخالقي
مقنع؟ هذا املبدأ هو محكمة االستئناف العليا يف تحديد معنى وصحة القواعد
األخالقية. إذن نستطيع القول إن القيم وسائل لتحقيق الحياة الصالحة. كلام ازداد
دور القيمة يف تحقيق الرضا أو يف التحقق اإلنساين، ازدادت أهميتها. مثال، العدالة
قيمة مهمة جدا ألنه ال ميكن االستغناء عنها كرشط إلمكانية الحياة اإلنسانية. كام
الحظ ميل بحكمة، نحن نعترب العدالة والصدق والشجاعة واملحبة قيام ذات أهمية
جوهرية، ال ألن لها وجودا كليا أو مطلقا أو أبديا، ولكن ألن التجربة اإلنسانية
أثبتت مع مرور الزمن أنها رضورية لتعزيز السعادة اإلنسانية. ننسب إليها سمة
»الجوهرية« فقط عندما نتأكد أنها متطلبات جوهرية للطبيعة اإلنسانية ورشط
من رشوط الحياة الصالحة يف تقييم كفاءة النظرية األخالقية.
ّ وعلينا أال نكتفي بالقيم التي أقر بها وحللها الفيلسوف، ولكن أيضا القيم التي
حذفها من النظرية: هل كان تحليله للخري األسمى شامال، أي هل أخذ بعني االعتبار
الرشوط الرضورية والكافية لتحقيق الخري األسمى؟ ميكن الجواب عن هذا السؤال
بدراسة للقيم ألنها تجسد الخري األسمى عينيا، وألنها تقوم بوظيفة قواعد للفصل
األخالقي. إضافة إىل ذلك، تعرب هذه القيم عن الحاجيات واملتطلبات األساسية
للطبيعة اإلنسانية. إن اإلقرار بقيمة يعني اإلقرار بحاجة أو مطلب إنساين، وهكذا
فغياب قيمة يتضمن نكران أو عدم أهمية حاجة أساسية، ونكران حاجة أساسية

255
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
سوف يؤدي بحكم الرضورة إىل استبعاد هذه القيمة. واآلن، أقرت الصداقة
كقيمة أخالقية مركزية يف الثقافتني الهلنية والهلنستية ولكنها طردت من النظرية
األخالقية املعارصة – ملاذا؟ هل هذا الطرد مربر؟ كال. أوال، ألنها كامنة يف النموذج
األخالقي املعارص. ال يوجد أي يشء يشري إىل أن الصداقة أكرث أو أقل أهمية يف
الثقافة الغربية املعارصة مام كانت عليه يف العرص السابق. فهي تبقى موضوعا، إن
مل تكن تطلعا.ً وعىل الرغم من أنه من الصعب تنميتها بصورة ُمْرضية، وهذه هي
الحال دامئا، فإن الناس اليزالون يثمنونها. ثانيا: تبني الدراسة املدققة لنسيج الثقافة
اإلنسانية بكل تأكيد أن الصداقة حاجة أساسية. سوف أكرس كل انتباهي لهذا
االدعاء يف الفصل التايل. ولكن املالحظة التالية رضورية: عندما أقول إن الصداقة
حاجة أعني، أنها مطلب وعدم تلبيته سوف يولد شعورا بالحرمان. نحن خلقنا وفق
تصميم يحتم أن نكون مع اآلخرين، وألن تكون العالقة شخصية وحميمة وثرية
مع ثلة من اآلخرين. الحاجة إىل الصداقة عنرص بنيوي يف الطبيعة اإلنسانية. لهذا
السبب فإن نكرانها غري مربر.
ثانيا: بخالف الرباغامتيني، مل يضع فالسفة الوجود نظريات أخالقية وفق تقليد
أرسطو وكانت وميل؛ ونتيجة لذلك مل يثريوا سؤال الخري األسمى أو كيف ميكن
تربير مبدأ أخالقي أو حتى وجهة نظر أخالقية. ولكن هذا ال يعني أبدا أنهم مل
يهتموا بأسئلة أخالقية، أو باألهمية القصوى للحياة األخالقية، أو بالرشوط التي
يجب أن تتوافر لتحقيق الحياة الصالحة أو السعيدة. عىل العكس، كان لديهم
اهتامم عميق بأسس السلوك األخالقي، وميكن القول إن هذا االهتامم كان من أهم
الدوافع الرئيسة لتطوير فلسفتهم عن العامل عامة. إحدى أهم األفكار التي شغلت
انتباههم بقوة وعىل مدى واسع كانت فكرة األصالة، التي هي بديل لخطاب الحياة
الصالحة؛ ولكن عوضا عن معالجة هذا املوضوع بانفصال كفرع مستقل له منهجه
وأسئلته وأهدافه، أسسوا تحليلهم عىل نظريات أنطولوجية، وكان لديهم اهتامم
خاص ببناء آراء حول الحياة األصيلة عىل أرضية ميتافيزيقية. عىل الفرد أن يسري
عىل طريقهم امليتافيزيقي األنطولوجي ليك يصل إىل آرائهم حول الحياة الصالحة.
بالنسبة إليهم، ال ميكن الكالم عن الحياة الصالحة ما مل ننطلق يف هذا الكالم من
فهم الوجود اإلنساين، ذلك النوع من الوجود الذي هو بجوهره زمني ومعطى

256
الصداقة
للعامل كإمكانية. ولكن هذا الفهم يفرتض فهام معقوال لألرضية التي تتضمن الكيان
اإلنساين املوجود )Being): ما النسيج الجوهري لهذه اإلنسانية؟ هذا السؤال يسأل
عن معنى الوجود، عن معنى إن وجد )Being )ككيان إنساين. تعد معرفة هذا
الوجود رشطا للحياة ككائن إنساين. بالنسبة إىل فالسفة الوجود، فعىل هذا التوجه
أن يقدم أجوبة وافية عن األسئلة التي طرحتها األخالق التقليدية، وجوابا مبارشا
لسؤال أرسطو: ما الخري األسمى؟ ولسؤال كانت كيف يجب أن أعيش؟ ولكن إذا
حاولنا البحث عن مناقشة ملبادئ جزئية أو لقواعد أخالقية أو للفضائل التي قد
تؤدي وظيفة معايري أو إرشاد مع التقييم األخالقي للمشاكل التي نواجهها يف مجرى
حياتنا اليومية، فسوف لن نجدها. إن ما نجده عوضا عن ذلك هو مناقشات تلقي
ضوءا عىل معنى الوجود اإلنساين األصيل، وأيضا تحليالت عميقة للرشوط الالزمة
لتحقيق الحياة األصيلة. أحد هذه الرشوط هي الحاجة إىل العبور أو التسامي
)Transcendence )- إىل محادثة أو تواصل، أو إىل وجود مع، أو إىل تضامن مع
الكائن اإلنساين اآلخر. بكلامت ياسربر، إىل حد كبري، فالجوهر الشامل لإلنسان، ما
هو عليه وما يعتربه كذلك، مرتبط بالتواصل. فاالحتواء )Encompassing )الذي
هو نحن، بجميع أشكاله، يكمن يف التواصل )Communication)، واالحتواء، الذي
هو الوجود بذاته، يوجد بالنسبة إلينا بقدر ما يرقى إىل إمكان التواصل عندما يصبح
كالما أو يصبح قابال للبوح. افرتض فالسفة الوجود أن جوهر إنسانيتنا متسام: أن
أكون أو أصبح هذا املوجود من خالل اآلخر باقتسام وجودي مع اآلخر هو رضورة
للوجود اإلنساين. أنا أمنو مع اآلخر ومن دون اآلخر أنا أسقط )أفشل(. باختصار،
ال أستطيع تحقيق نفيس ككائن إنساين من دون أن أعيش حياة اجتامعية أصيلة.
عامة، نستطيع القول إنه بانشغالهم املكثف باألصالة كان فالسفة الوجود يقفون
بصورة واعية ضد عدد من التيارات الظاملة والعابثة بإنسانية اإلنسان، والتي وصلت
إىل درجة عالية من التطور يف النصف األول من القرن العرشين: مؤسسات دينية
ضعيفة، أنظمة سياسية جائرة، حروب مدمرة، مؤسسات بريوقراطية ال عقالنية،
أنظمة تربوية غري فاعلة، رشوط اقتصادية منحطة، تفتت اجتامعي وال مباالة عامة.
لديهم رغبة قوية يف تحدي هذا التيار الذي كان سببا يف سلب اإلنسان من إنسانيته،
ويف استعادة كرامة اإلنسان املفقودة. ولكن تحليل التسامي Transcendence


عىل

257
الصداقة يف النظرية األخالقية املعاصرة
الرغم من أنه ميتافيزيقي الطبع، فهو يف الواقع تحليل للمحبة والصداقة، أكرث
العالقات اإلنسانية أهمية وحميمية وأكرثها جوهرية. هديف ليس فقط تسليط
الضوء عىل حاجة أنطولوجية، ولكن أيضا عىل الرشوط الالزمة لتلبيتها. وال أبالغ إن
قلت إن فالسفة الوجود قدموا لنا بلغة تختلف عن لغة النظرية األخالقية التقليدية
دعام موثقا الدعايئ بأن الصداقة عنرص يف الحياة الصالحة، ومن ثم يجب أن تحتل
مكانا مناسبا يف عملية التنظري األخالقي.
ثالثا: تعمد الوضعيون، شأن فالسفة الوجود، تجنب بناء نظريات أخالقية
معيارية ألنه ال ميكن للفيلسوف أن يقدم معرفة عن العامل، ومن ثم ال ميكن أن
يقدم معرفة أخالقية، وهو األمر الذي كان وظيفة النظرية األخالقية التقليدية.
ولكن يف إمكانهم، كام قلت سابقا، أن يقدموا نوعا آخر من املعرفة – من معاين
واستعامالت وتصورات ومبادئ وقواعد السلوك األخالقي، وباختصار من اللغة
األخالقية. انطلقوا يف هذا املرشوع من حقيقة أن هذه اللغة موجودة، وهي
اللغة املستعملة يف الخطاب األخالقي من العرص الكالسييك إىل يومنا. إن وظيفة
امليتا - أخالقي هي توضيح وتفسري وتعريف - عند الحاجة - األفكار التي تشكل
هذه اللغة، وتحليل منطق الخطاب األخالقي ودراسة أساليب صحة التفكري يف
تربير املبادئ والقواعد واألحكام األخالقية. وللتمييز بني هذا النوع من البحث
عن النوع املامرس يف النظرية األخالقية التقليدية، أطلقـوا عىل نوع بحثهـــم
ميتا - أخالقي )metaethical)، ألن موضوع بحثهم ليس الحياة الصالحة – طبيعة
الحق والخري والواجب – ولكن اللغة املستعملة يف نقل معرفتنا عن طبيعة الحياة
الصالحة. وهكذا، كوضعيني، مبا أنه ال ميكن للميتا - أخالقيني السعي وراء معرفة
أخالقية، فإنهم، بناء عىل هذا االدعاء ال يستطيعون تقديم اقرتاحات معرفية تتعلق
بالخري األسمى واملبادئ والقواعد األخالقية املستمدة منه، وال يستطيعون تقديم
أي مساهمة تتعلق بتصديق أو تكذيب أي قضية أو وجهة نظر أخالقية. تقترص
مساهمتهم عىل تحليل املنطق املستعمل يف تصديق أو تكذيب القضايا والنظريات
األخالقية. إذن، هم ال يستطيعون تقديم مقرتحات تتعلق بأي من القيم األخالقية،
ومن ثم الصداقة. ووفق معرفتي، فقد التزموا بهذه النتيجة باتساق.
ولكن يف محاولتهم تطبيق املنهج امليتا - أخالقي عىل الخطاب األخالقي، رفض

258
الصداقة
الوضعيون اإلقرار بأهمية النموذج األخالقي املعارص يف نظريتهم امليتا - أخالقية.
كان هذا الرفض مبنزلة تعليق حلمهم ضمنيا عام إذا يجب شمل الصداقة يف عملية
التنظري األخالقي أم ال. وال ينطبق هذا التعليق عىل الحاجة إىل إقرار الصداقة كقيمة
أخالقية، أو أنها عنرص يف الحياة الصالحة. إن سؤال إدراج الصداقة يف طيف القضايا
الجديرة بانتباه امليتا - أخال ّ قي يبقى مفتوحا. عيل أن أقر بأن الصداقة استبعدت
من عملية التنظري األخالقي يف العصور الوسطى والحديثة، ولكن هذا االستبعاد
من النظرية امليتا - أخالقية غري مربر، ألنها عنرص يف النظرية األخالقية الكالسيكية
واللغة األخالقية العادية. بكلامت أخرى، هي عنرص يف النموذج األخالقي املعارص.
وبقدر التزام امليتا - أخالقيني بتحليل اللغة األخالقية، وبقدر ما أن األخالقي املعارص
هو يف حد ذاته لغة أخالقية، فقد كان من واجبهم تكريس جزء من انتباههم
لتحليل الصداقة، ولكنهم مل يفعلوا ذلك؛ ولكن إهاملهم لها تعسفي. ميكن القول إن
سبب امتناعهم هو حقيقة أن اللغة األخالقية التي اعتربوها منوذجية كانت مستقاة
من النظريات الرئيسة الحديثة التي استبعدت الصداقة من التنظري األخالقي.
وإذا كانوا اقترصوا بتحليلهم عىل العرص الحديث، وهذا ما يبدو أنهم فعلوه،
فباستطاعتنا التأكيد أن هذا االختيار غري موضوعي، ألن االختيار الصحيح يف هذه
الحالة يجب أن يرتكز إىل العصور الكالسيكية والوسطى والحديثة، وهم بالتأكيد ال
يستطيعون تجاهل وجود »الصداقة« الشائع يف اللغة العادية. دعوين أرش هنا إىل أن
الصداقة احتلت مكانا بارزا يف العرص الكالسييك ألنها كانت كامنة يف النامذج الهلنية
والهلنستية، وألن فالسفة كأفالطون وأرسطو وأبيقور وسنيكا وشيرشون اعتربوها
حاجة كامنة يف الطبيعة اإلنسانية. أميل إىل االعتقاد بأن إطار األسئلة واملشاكل
األخالقية التي شملها امليتا - أخالقي يف نظريته كان ضيقا. ولهذا ال أخطئ كثريا إن
قلت إنه باستبعاده الصداقة من إطار الخطاب األخالقي، مل يكن امليتا - أخالقي
مخلصا للنموذج األخالقي املعارص وال لتاريخ النظرية األخالقية.

األطروحة التي قدمتها وحاولت رشحها
والربهنة عليها يف الفصول السابقة هي أن
استبعاد الصداقة بوصفها قيمة مركزية من
النظرية األخالقية القروسطية والحديثة
واملعارصة غري مربر، مبعنى أنه ال توجد أسباب
ُمْرضية ومقنعة الستبعادها لكن توجد أسباب
قوية ومقنعة إلدراجها؛ وأن الصداقة عنرص، أو
رشط، يف الحياة الصالحة؛ ومبا أنها عنرص، أو
رشط، فهي متطلب أخالقي. لهذا يجب اإلقرار
بها كقيمة أخالقية مركزية. إىل حد كبري، اعتمدت
يف الدفاع عن هذه األطروحة عىل افرتاض أن
الصداقة، فعال، حاجة إنسانية، ألنه إذا كان
واجب الفيلسوف التنظري حول الحياة األخالقية،
وإذا كانت غاية النظرية هي اقرتاح مبدأ للتميز،
وإذا كان جوهر الحاجة األخالقية يكمن يف تلبية
الحاجات اإلنسانية، وإذا كانت الصداقة حاجة
إنسانية، فسوف يتعني االستنتاج بالرضورة أنه
الصداقة كحاجة أنطولوجية

»إن العاطفة الخاصة بالصداقة
تنبثق بحرية عن دافع أخالقي،
فنحن يف الواقع نقر بأن الخري هو
مصدر املحبة الخاصة بالصداقة«
7

260
الصداقة
ال ميكن للنظرية األخالقية أن تكون وافية إذا مل تتضمن الصداقة كقيمة مركزية
يف تحليل الحياة السعيدة أو الخري األسمى. وقد ساعدين مفهوم النموذج األخالقي
الذي قدمته ورشحته وطبقته يف تحليل األسباب التي أدت إىل استبعاد الصداقة
من النظرية األخالقية يف العصور الوسطى والحديثة واملعارصة عىل اكتشاف مصدر
القيم األخالقية عامة والصداقة خاصة. والسبيل الوحيد لتقرير ما إذا كان ميكن
إدراج الصداقة أو استبعادها من النظرية األخالقية هو تحليل واف ملصدر الصداقة
ومكانتها يف الحياة اإلنسانية وعالقتها بالخري األسمى. لقد رأينا أن أسباب رفضها
يف النظرية األخالقية كانت غري مربرة، ألنها كامنة كمتطلب للحياة األخالقية وفق
الرؤية األخالقية للنموذج األخالقي بالعصور الوسطى والحديثة واملعارصة، وألنها
تكمن كحاجة جوهرية يف الطبيعة اإلنسانية. دعمت صدق هذا االدعاء باللجوء إىل
النامذج األخالقية لهذه العصور الثالثة، وبتأمل ّ ميل ملتطلبات الطبيعة اإلنسانية. ومع
ذلك، ومبا أن هذا االدعاء حاسم ملصداقية حجتي يف هذا الكتاب، فسوف أخصص
هذا الفصل لدراسة تحليلية لألساس األنطولوجي للصداقة. وهديف هو تسليط أكرب
قدر من الضوء عىل السبب الذي يجعل الصداقة حاجة إنسانية جوهرية، ال ميكن
الشعور بالرضا الكامل من دونها. سوف أبدأ من حيث انتهى الفالسفة اليونانيون
والرومانيون، وخاصة أرسطو، وسوف أركز انتباهي عىل معنى أن تكون صديقا،
وبصورة خاصة عىل نوع العالقة التي تخلق رابط الصداقة. تحليل هذه العالقة يجب
ُ أن ي ْظهر ملاذ ُ ا تعد الصداقة حاجة إنسانية، ومن ثم متطلبا أخالقيا.
يف تبني هذه الخطوة املنهجية ال أفرتض أن النظريات الكالسيكية حول الصداقة،
التي ناقشتها يف الفصل الثالث، خالية من نقاط الضعف أو األخطاء أو االفرتاضات
غري الواقعية أو من بعض النواحي التي ال عالقة لها بتفهم الصداقة يف العرص الحايل؛
اليشء الوحيد الذي أفرتضه هو أن الحدس )البصرية( األسايس الذي تنطلق منه هذه
النظريات يف تصورها للصداقة سليم وعميق. وأظن أن هذا أحد األسباب الرئيسية
لبقائها مصدرا »دامئا« للبصرية وأساسا للتنظري والتأمل يف أهمية وطبيعة الصداقة
طوال الثامنية عرش قرنا املاضية. باإلضافة إىل ذلك، عىل الرغم من أن الناس يف
الوقت الحايل يفهمون أنفسهم بطرق مختلفة عام كان األمر يف القرون السابقة،
وأيضا عىل الرغم من أن الرشوط املادية والروحية للحياة يف العصور الكالسيكية

261
الصداقة كحاجة أنطولوجية
والحديثة متباينة، فإن األمور األساسية: العقل والعواطف والبنية الجسدية، مل تتغري.
يبدو يل أنه من الحامقة أن نتجاهل القدرة عىل االستبصار التي كانت ومازالت
ترتاكم عرب مسرية الثقافة اإلنسانية.
االدعاء بأن الصداقة حاجة أنطولوجية يرتكز عىل االعتقاد الشائع بني الفالسفة
وعلامء االجتامع أن الكائنات اإلنسانية اجتامعية بطبعها. إن لديهم ميال طبيعيا إىل
أن يعيش بعضهم مع بعض، وإىل أن ينظموا أنفسهم كجامعات واتحادات ودول
وأرس، ولديهم هذا امليل ألنهم بذلك يكتسبون إنسانيتهم ويحققونها يف املجتمع.
الصداقة حاجة إنسانية جوهرية، وهي ميل متأصل يف الطبيعة اإلنسانية. وهذا
امليل عنرص فيها كام أن العني واألذن عنرصان بالجسد. وهكذا، فال ميكن للناس أن
ينموا ويتطوروا إن مل يشبعوا هذه الحاجة، كام أن الجسد ال ميكن أن ينمو ويتطور
عىل خري ما يرام إذا فقد عينيه وأذنيه. تتمثل السمة األنطولوجية لهذه الحاجة يف
حقيقة أنها رشط ال ميكن االستغناء عنه للنمو والتطور اإلنسانيني، وهي أساسية
لدرجة أننا ال نستطيع تحقيق أنفسنا من دون تلبية هذه الحاجة.
أول فيلسوف صاغ، ووضح، وحاول بجدية أن يثبت صدق هذا االعتقاد كان
أرسطو. يف الفصل األول من كتاب »السياسة« يجادل بأن اإلنسان )Anthropos )
كائن اجتامعي بالطبع: السلوك االجتامعي مركب أسايس يف الطبيعة اإلنسانية.
قد تبدو هذه القضية بديهية، ألنه من املمكن إثبات صدقها باملالحظة التجريبية
والفهم املشرتك، ولكنها ليست كذلك عند أرسطو، ليس فقط ألن معناها ليس
واضحا، ولكن ألنها تحتاج إىل برهنة. وعىل رغم كل يشء فهي افرتاض أسايس
للنظرية السياسية واألخالقية. لهذا السبب علينا أن نتمعن يف الحجج التي قدمها
أرسطو للمصادقة عىل صحتها.
الدولة - املدينة )Polis )هي أعىل نوع من التنظيم السيايس، فهي اتحاد ٍ مكتف
ذاتيا، مبعنى أنها »تنمو من أجل الحياة فقط )وتكون يف هذه املرحلة غري مكتفية
ذاتيا(، وتوجد )بعد أن تنمو متاما( من أجل الحياة الصالحة )وعندئذ تصبح مكتفية
(1). وعىل رغم أنها تنشأ عن األرسة والقرية بصورة طبيعية، وهذا

ذاتيا بشكل تام(«
املعنى فنشأتها طبيعية، ألن انبثاقها رضوري، فإنها ليست طبيعية بهذا املعنى
بل بذاتها. وهي طبيعية بذاتها ألنها متثل أو تحقق اكتامل اإلنسان وأساس منوه

262
الصداقة
وتطوره. فهي تعني تطور الكائنات اإلنسانية، تطور طبيعتهم الحقيقية: »إنها الغاية
أو التحقق النهايئ الذي تستهدفه جميع االتحادات، وتكمن »طبيعة« األشياء يف
هذه الغاية أو يف هذا التحقق النهايئ؛ ألن »طبيعة« اليشء تكمن يف عملية اكتامل
.(2)
منوه، بغض النظر عام إذا كان ما نتحدث عنه هو اإلنسان أو الحصان أو األرسة«
يكون اليشء، سواء كان شجرة أو أسدا، طبيعيا عندما ُ يكمل، أو يحقق طبيعته، فهو
غري طبيعي مادام بقي غري متطور ومجرد إمكانية، ولكنه طبيعي بقدر ما يوجد
كحقيقة، كيشء تم تحقيقه. وحتى لو دخلت الدولة حيز الوجود ال كيشء نشأ عن
األرسة أو القرية، بل بطريقة أخرى، فستبقى دولة طبيعية مادام وجودها لتحقيق
كاملها. باإلضافة إىل ذلك، فالدولة طبيعية ألنها بقدر ما هي اكتامل لتطور الشخص،
فهي غاية؛ وبهذا املعنى فهي األفضل. ترتكز هذه الحجة عىل االفرتاض التايل:
(3). هذا هو السبب الرئيس الذي دفع أرسطو إىل

»الطبيعة دامئا تستهدف األفضل«
أن يجادل بأن الكائنات اإلنسانية مفطورة عىل أن تعيش يف املجتمع و»الذي يعيش
خارج نطاق الدولة، بسبب طبيعته وليس بسبب حادثة ما، إما أنه مخلوق بائس أو
كائن أعىل من اإلنسان«، إنه يشبه اإلنسان الذي كتب عنه هومريوس بازدراء، قائال
(4). ال ميكن للفرد أن يوجد

»من دون عشرية ومن دون قانون ومن دون قلب هو«
ككائن إنساين ٍ مكتف ذاتيا إال يف الدولة، ألنها توفر الرشوط الرضورية والكافية
لتطوير طبيعته الحقة. عىل عكس الحيوانات، مثل األسد الذي طبيعته معطاة
وتبقى عىل حالها طوال وجوده، فالفرد اإلنساين معطى كإمكانية، معطى بالقدرة
عىل أن يفكر ويريد ّ ويقيم ويشعر ويرغب ويأمل ويسأل أسئلة. طبيعته تدخل
حيز الوجود عندما تتحقق هذه القدرات. الدولة هي اإلطار االجتامعي – السيايس
الذي فيه ينمو الفرد ويتطور. الهدف من مناقشتي لنموذج الثقايف بالتفصيل يف
الفصول السابقة هو أن أفرس كيف ميكن للثقافة كمركب من املؤسسات أن تصبح
إطارا لتطوير الفرد ككائن إنساين. ولكن الدولة كائن عضوي؛ فهي كل والفرد جزء
يف هذا الكل. لهذا ميكن القول إن الدولة تسبق األفراد الذين يشكلونها، ألنها رشط
وجودهم. هذا هو السبب الرئييس الذي دفع أرسطو إىل أن يجادل بأن الدولة توجد
بالطبيعة، وأن األفراد، بقدر ما هم أجزاء فيها، يوجدون بالطبيعة. لديهم امليل
الطبيعي إىل أن يحققوا القدرات التي تعرف طبيعتهم الحقيقية: »هكذا اإلنسان

263
الصداقة كحاجة أنطولوجية
ٍ بالطبيعة مفطور عىل أن يكون جزءا من كل سيايس، ولهذا يوجد بالطبيعة دافع

.
(5)
متأصل يف جميع الناس لتشكيل اتحاد من هذا النوع«
الحاجة إىل الصداقة مغروسة يف هذا الدافع، ويف الواقع، الصداقة أقوى تعبري
عنه. هذه النقطة تستدعي املالحظة التالية: الحاجة هي »افتقاد يشء مفيد
ومطلوب ومرغوب«. نحتاج إىل األشياء التي ال منلكها، ولكن أيضا نريد األشياء التي
نحتاج إليها، ألن ما نفتقده يولد بطبيعته شعورا بالقلق، بعدم االستقرار، وبدوره
ّد هذا الشعور رغبة يف اليشء الذي ال منلكه. تلبية هذه الرغبة تولد شعورا
يول
بالرضا، باإلنجاز، باالكتامل الذايت. مثال، عندما أجوع أشعر بالحاجة إىل الطعام،
وعندما آكل أشعر باالمتالء، وحتى يف الحياة العادية نصف هذا الشعور بكلمة
ُلغيت؛ وألغيت ألن األمل الذي
ُشبعت، أ
»ممتلئ«. الرغبة يف األكل تتوقف ألنها أ
سببه الجوع زال. وباملثل، عندما أكون وحيدا أشعر بالحاجة إىل الرفقة. عندما
تلحق يب حبيبتي وتغمرين بقبالتها وعناقها، فالشعور بالوحدة يغادرين: وجود
حبيبتي يشبعني، ويشبعني ألن أمل الوحدة زال. الفراغ الذي كنت أشعر به يف
أثناء غيابها امتأل بوجودها. يف هذه الحاجة، وحاجات مثلها – عقلية وجاملية
ودينية واجتامعية ومهنية – أشعر بغياب أو فراغ من نوع معني. نقول إن شيئا
ما غائب عندما يكون املكان املناسب له فارغا، بغض النظر عام إذا كان املكان
عقليا أو ماديا أو اجتامعيا أو نفسيا. لهذا السبب، وصف أرسطو عملية تلبية
الحاجات بلغة اإلشباع أو الكامل أو االكتامل، ولهذا السبب فمن الفالسفة من
وصفها بالنمو أو الرضا. يف تلبية حاجة ما، نحن منأل أو نكمل نقصا بتأمني ما سبب
الرغبة، مثل الطعام، املعرفة، الحب، الجامل، الراحة، وهلم جرا. عادة ما تنتج تلبية
الرغبة شعورا بالرضا أو الراحة. ولكن تلبية حاجة أساسية أمر طبيعي، ألنها من
متطلبات الطبيعة اإلنسانية. القدرات التي تشكل نسيج إنسانيتنا، واملعطاة لنا
أساسيا، توجد يف البداية كإمكانات، وهي بجوهرها تطلب االمتالء )اإلشباع(، أي
الرغبة يف أن تصبح حقائق قامئة. إن عملية، أو نشاط، هذا االمتالء، أو التحقيق، هي
عملية جوهرية، تحويلية، ألن هويتها تتغري. اإلمكانية توجد كصورة، أو كمخطط أو
كهيكل. هذا يعني أنها توجد من دون مضمون، ولهذا السبب ليس لها كيان. عندما
نتكلم عن وجودها فإننا نقصد وجودا مجردا، ال وجودا فعليا أو واقعيا. ولكن بقدر

264
الصداقة
ما تكون القدرة إمكانية فهي طاقة )قوة(، ولكنها ليست أي نوع من القوة وليست
قوة عامة، ألن هذا النوع من القوة ال يوجد. إنها قوة متثيلية، استيعابية، ذلك
النوع الذي يحتوي، وميتص، ويتقبل، ويحتفظ باملوضوع الذي يختربه )أو يدركه(،
ليصبح املوضوع الذي يستوعبه جزءا جوهريا من كيانه. القدرة تتحقق عندما متتلئ
باملوضوع، أو املضمون الذي ترغب فيه أو تفتقده. عندما أكون مرهقا ثم أرتاح،
فإن الراحة التي أكتسبها متأل املكان )الفراغ( الذي سببه اإلرهاق، وهكذا عندما
أحقق قدرايت اإلنسانية، ال أبقى اإلنسان نفسه الذي كان قبل التحقيق: أزداد، أصبح
أكرث مام كنت عليه – أي، أنني أمنو؛ كياين يكرب بحجمه، عقليا وعاطفيا ونفسيا. كلام

َوت وأصبحت أكرث واقعية.

تقدم تحقيقي لذايت من
واآلن، فالقول بأن الصداقة حاجة أنطولوجية مغروسة يف دافع النمو والتطور يف
الدولة، هو قول يتضمن أنها عنرص يف نسيج الطبيعة اإلنسانية، أو أنها توجد يف
هذا النسيج َكميل طبيعي، ومنه يأيت االدعاء بأنها عنرص مكون يف الدافع للوجود
االجتامعي، الذي بدوره يتضمن أنها موجودة يف الطبيعة اإلنسانية كقدرة. ويبدو يل
أن هذا هو السبب الذي ّمكن أرسطو من القول إنها قيمة مبوازاة العدالة والشجاعة
واالعتدال والحكمة، والذي أيضا مكنه من القول، كام جادلت يف الفصل الثالث،
بأنها حاجة إنسانية، ومن ثم رشط لتحقيق الخري األسمى. رأى أرسطو بوضوح أنه ال
ميكن القول إنها رشط للحياة الصالحة إن مل تكن حاجة إنسانية جوهرية. »ال يود
أحد«، كام يقول أرسطو يف الفصل التاسع من »األخالق«، »أن يختار امتالك جميع
الخريات يف العامل وحده، ألن اإلنسان مخلوق اجتامعي ومصريه الطبيعي هو الحياة
(6). هذه البصرية األساسية، التي ترتكز عىل مالحظة تجريبية

بصحبة اآلخرين«
للسلوك اإلنساين وتحليل فلسفي لبنية الطبيعة اإلنسانية، هي التي دفعت جميع
الفالسفة الذين كتبوا عن الصداقة يف العصور الكالسيكية ويف القرون الوسطى
والحديثة واملعارصة أن يثنوا عليها بقوة، ويعتربوها ذات أهمية بالغة يف كامل
الحياة اإلنسانية، عىل رغم أنهم، كأرسطو، كانوا عىل يقني من صعوبة وجود صديق
حقيقي. ودعوين أعزز هذه الفكرة ببعض األمثلة. يقول ميشيل دي مونتني: »يبدو
أن الطبيعة مل تجهزنا ألمر من األمور بأفضل مام جهزتنا للصحبة - ويقول أرسطو
إن ّ املرشعني أبدوا اهتامما بالصداقة أكرث من العدالة. إن ذروة الكامل يف الصحبة

265
الصداقة كحاجة أنطولوجية
تتمثل يف الصداقة: ألن أي نوع آخر ينتج عن اللذة أو املصلحة أو الرضورة العامة
أو الخاصة، أو بسببها، يكون أقل جامال ونبال من الصداقة الحقيقية – ولهذا السبب
ال يكون صداقة حقيقية، ألن هذه األنواع تحقق غاية أو هدفا أو مثرة تختلف
(7). أعاد فرانسيس بيكون تأكيد مونتني عىل تصور أرسطو

عن الصداقة بذاتها«
للصداقة كحاجة إنسانية – يرتكز هذا التوكيد عىل افرتاض أن الكائنات اإلنسانية
مفطورة عىل أن تعيش حياة اجتامعية ال حياة عزلة: »أي إنسان يستمتع بالعزلة
(8). ولكن العزلة ال تنتهي مبجرد الوجود مع اآلخرين، والتفاعل

إما أنه إله أو حيوان«
معهم اجتامعيا أو رسميا، أو حتى التعاون معهم عىل مرشوع ما. ميكن لإلنسان أن
يشعر مبرارة العزلة يف وسط الجامهري »ألن الجمهور ليس صحبة، والوجوه البرشية
.(9)
ليست سوى متحف صور، والكالم ليس سوى صنج رنان، إذا مل توجد محبة«
الصداقة هي أكرث الوسائل تأثريا، وأقربها للطبيعة، يف التغلب عىل العزلة: »نحن
نقول الصدق عندما نزعم أن أي إنسان ينفر من الحياة االجتامعية ميتلك طبيعة
وحشية، ونخطئ عندما نقول إنه ميتلك خاصية إلهية، إال إذا مل تكن العزلة ناجمة
.(10)
عن املتعة بالعزلة ولكن عن رغبة يف تكريس النفس لتواصل عىل مستوى أعىل«
ولهذا نستطيع القول إن الصداقة عالقة باطنية، ال خارجية، عالقة ال ترتكز عىل
املنفعة بل عىل املحبة، ذلك النوع من املحبة الذي يعزز النمو اإلنساين.
وعىل رغم أن كانت يرفض اعتبار الصداقة عنرصا يف الحياة الصالحة، ألنها ال تتضمن
مبدأ يلزم األصدقاء بأن يسلكوا وفقا لألمر امللزم، فإنه يعتقد أنها رضورية لتحقيق
السعادة اإلنسانية؛ وعىل رغم أن تحقيقها يعتمد عىل الحكمة العملية والظروف
الشخصية للفرد، فإن الصداقة تبقى عالقة أخالقية، ألن تعزيز السعادة واجب
أخالقي. يرتكز هذا الواجب عىل حقيقة أن »البرش اجتامعيون بطبعهم«، رغم أنهم
(11). يف الحالة االجتامعية يشعر الفرد »برغبة قوية يف أن

قد ال يكونون اجتامعيني

(12). الكائنات اإلنسانية ترغب

ينفتح عىل اآلخرين )حتى لو من دون هدف محدد(«

َصني، وأيضا
يف املحادثة، يف مشاركة أفكارها وأفعالها وتجاربها مع أصدقاء ُم ْخل
ترغب يف التعاون معهم وحتى االستمتاع برفقتهم. البرش ينفرون من العزلة، ولكن
ال يستطيعون تكوين عالقة حميمية ومهمة إال مع شخص واحد، أو مع عدد قليل
من األشخاص، ألنه ال يوجد ضامن أن اآلخر لن ييسء إليهم. »ولكن إذا وجد املرء

266
الصداقة
إنسانا«، يكتب كانت، »يتمتع بنزعة خيرّة وبفهم، فيمكن أن يفتح قلبه له بثقة، من
دون التخوف من مخاطر من هذا النوع، وبالتايل يتفق معه بآرائه يف األمور العامة،
عندئذ يستطيع أن يفتح قلبه له، وساعتها لن يكون يف عزلة مع أفكاره وكأنه سجني،
وسيتمتع بحرية يفتقدها مع الرجال الذين يشعرونه وهو معهم بأنه يتعني عليه أن
(13). التفاهم واالحرتام والثقة املتبادلة رشوط رضورية للصداقة.

ينكفئ عىل ذاته«
إنها الصمغ الذي يبقي شخصني يف الصداقة. قد ال يكون هذا النوع من الصداقة
مصدر سعادة الفرد الكاملة، ولكن كونها مبنية عىل الخري املتبادل يجعلها مصدرا
للسعادة، وهكذا »تصبح الصداقة بني البرش واجبا. وميكن اإلقرار بسهولة أنه عىل
رغم أن السعي وراء الصداقة، كشعور بالخري األسمى نحو اآلخر، ليس واجبا عاديا
بل واجب مرشف يفرضه العقل، غري أن الصداقة الكاملة مجرد فكرة )وإن كانت
(14). وهي صعبة التحقيق ألنه

رضورية عمليا( ال ميكن تحقيقها يف حالة واقعية«
ال يوجد ضامن ألن يكون الشخص اآلخر جديرا بأن يكون »صديقي أنا«. تجربة
املحبة ذاتية وغري قابلة للتحديد، لهذا السبب، فمن الصعب عىل الفرد أن يفتح
قلبه وميارس الحميمية املطلوبة ويلبي متطلبات الصداقة. يف هذا الصدد يتساءل
كانت: »كيف ميكن التأكد من تكافؤ جزء واحد من العنارص الرضورية )مثال املحبة
املتبادلة(، يف واجب واحد، بني إنسان وجاره؟ أضف إىل ذلك، هل ميكن اكتشاف
العالقة بني شعور الفرد بالواجب يف حالة ما وشعور اآلخر يف تلك الحالة )مثال
الشعور باملحبة أو االحرتام املتبادل(؟ وكيف ميكن للفرد أن يكتشف ما إذا كان
أحد الصديقني يحب بحامس أكرث من اآلخر أو ال يلقى االحرتام نفسه أو املحبة من
اآلخر، وهل ميكن للعالقة أن تكون عالقة صداقة إذا مل تكن املحبة )أو االحرتام(
متكافئة بينهام؟ وهل ميكن تحقيق التكافؤ يف املحبة، التي هي ذاتية بينهام، والتي
(15). ولكن عىل رغم أن الصداقة صعبة املنال، عىل

هي رشط رضوري للصداقة؟«
رغم أنها مثال، فإنها تبقى حاجة جوهرية. وحتى مع االفرتاض أنها صعبة املنال،
فال نستطيع االستنتاج أنه ميكن تجاهلها أو إهاملها أو التقليل من أهميتها. مثال،
فمن املتعارف عليه أن السعادة، كالعدالة والحرية والحقيقة والجامل، مثال أعىل؛
ولكن عىل رغم ذلك، مل يتوقف الناس عن محاولة اكتشاف طرق ممكنة لتحقيقها.
النقطة التي يجب االنتباه إليها هي أن النمو يف اإلنسانية هو مهمة ال ميكن التخيل

267
الصداقة كحاجة أنطولوجية
عنها. من قال إن هذا النوع من النمو سهل، أو أن ثروة اإلمكانيات اإلنسانية
الكامنة يف صميم اإلنسانية قد تنضب، أو قد تكون قابلة للتعريف بصورة نهائية؟
النقطة املهمة ليست ما إذا كان ميكن تحقيق هذه اإلمكانيات هنا واآلن، أو يف
هذه اللحظة، ولكن ما إذا كان ميكن تعزيز وسيلة تحقيقها، وما إذا كنا نشطاء، ما
إذا كانت مقدرتنا عىل تحقيقها يف ازدياد؛ ولكن إذا كانت السعادة جديرة باالهتامم
ومربرة، وإذا كان وجودها ممكنا، بغض النظر عن درجة وشكل وجودها، فعندئذ
علينا أن نبحث عنها ضمن مسرية البحث عنها. االختبار األعىل لوجودها ليس
شعورنا الذايت أو ما منلكه عقليا وماديا، ولكن مدى نجاحنا يف تلبية الحاجات التي
تعرف إنسانيتنا بصورة بناءة ومثمرة، ومدى نجاحنا يف تحقيق اإلمكانية اإلنسانية.
1 - الصداقة كعالقة أنطولوجية
إذا كانت الصداقة حاجة أنطولوجية، وإذا كانت تنبثق عن هذا النوع من
الحاجة، فنستطيع استنتاج أن العالقة التي توحد كائنني إنسانيني يف رباط الصداقة
هي عالقة أنطولوجية أو إنسانية؛ وعليها أن تكون من املادة نفسها التي تشكل
عنارص الطبيعية اإلنسانية، وإال فستكون شيئا خارجيا مفروضا عليها؛ ومن ثم سوف
ال تكون استجابة أصيلة للحاجة. مرة أخرى، إذا كانت الغاية من العالقة هي أن تقوم
بوظيفة الرباط بني شخصني عىل املستوى اإلنساين، يجب أن تكون عالقة إنسانية؛
وإال فسوف ال تكون لها صلة بالحاجة املنشودة. وبالتايل، فإذا كانت الصداقة رشيحة
من حياة اإلنسان، إذا أصبحت واقعة يف إطار الفعل، فهي إذن منط للوجود )being)،
وبصورة أدق، منط للوجود اإلنساين. دعوين أرشح هذه النقطة بالتفصيل.
جميع الفالسفة الذين تأملوا طبيعة وقيمة الصداقة تقريبا، بداية من أرسطو
حتى يومنا هذا، ميزوا بني نوعني من الصداقة: الصداقة ملنفعة، والصداقة الحقيقية.
النوع األول يرتكز عىل املنفعة – نفسية كانت أو سياسية أو دينية أو عقلية أو
اقتصادية أو مادية؛ وعندما أقول إنها ترتكز عىل املنفعة أعني أن املنفعة سبب
وجودها. املنفعة دافعها وجوهرها وغايتها. هي سبب كون شخصني صديقني،
وسبب نوعية العالقة بينهام، والسبب الذي يبقيهام صديقني. وبالتايل، هي التي
تولد شعور املحبة، ويف بعض الحاالت اإلعجاب، وهي التي تجعلهام يتشاركان بعض

268
الصداقة
أفكارهام وتجاربهام وأرسارهام وأوقاتهام الطيبة وتعاونهام يف بعض األحيان، وهي
التي تدفعهام إىل التعبري عن االحرتام والدعم والسلوك الحسن أحدهام نحو اآلخر.
وباختصار، هي التي تولد »املحبة« بينهام كأصدقاء. ولكن إذا كانت املنفعة سبب
وجود الصداقة بني األصدقاء، فيمكن استنتاج أنه كلام ازدادت املنفعة التي يحصلها
الصديقان ازدادت املحبة بينهام وازدادت قوة االرتباط بينهام، وسوف يعتمد ثراء
وعمق ونوعية ودوام هذا النوع من الصداقة عىل حجم وثراء املنفعة التي يتبادالنها.
وأيضا ميكن استنتاج أنه يف هذا النوع من الصداقة سوف ال يكرتث الصديق بسالمة
صديقه األخالقية أو العقلية أو االجتامعية أو النفسية – بغض النظر عام إذا كان
صالحا أو دينيا أو قبيحا أو لطيفا أو عنيفا. وهو عىل استعداد ألن يتسامح ويحتفظ
بصداقته مادامت املنفعة قامئة، وألن يتخىل عنها عندما تتوقف. كام ترى، يف هذا
النوع من الصداقة تبقى العالقة بني األصدقاء خارجية. الصديق ال يكرتث بنمو
صديقه عىل املستوى اإلنساين، واهتاممه بصديقه دامئا مرشوط، ال ينبع من إرادة
خيرّة، بل يعتمد عىل مدى استفادته من صديقه. بكلامت أخرى، ففي هذا النوع
من الصداقة، يوجد الصديق كوسيلة لغاية، ال كغاية بذاته، ال ككائن إنساين. الصديق
يعامل صديقه كمصدر ملنفعة، متاما كام يتعامل مع سيارته أو بيته أو حاسوبه. مثال،
يصون سيارته ويهتم بها ويتأكد أنها تقوم بوظيفتها عىل خري ما يرام لغاية واحدة: أن
تبقى مصدر منفعة مستمرة وفعالة. الفرق بني السيارة والصديق هو أن الصديق آلة
أكرث تعقيدا وأكرث تقلبا وأكرث حساسية، ومتطلباتها أكرث من السيارة. فهل يكون هذا
هو السبب الرئيس الذي يفرس أهمية التظاهر والتالعب واملكر يف مسعى الحفاظ
عىل هذا النوع من الصداقة واستمرارية منفعتها؟ كم من االبتسامات الساحرة،
والتملق، والكلامت املعسولة، والهدايا، والتمنيات الطيبة والكرمية، يتبادلها الصديق
مع صديقه؟ باختصار، ما مقدار النفاق املتبادل يف إطار األرسة والحكومة والكنيسة
ومكان العمل والتفاعل االجتامعي العام باسم الصداقة أو املحبة؟
ولكن إذا بقيت الحياة الباطنية لألصدقاء – مستقر سعادتهم وإنسانيتهم ومنو
وتطور هذه اإلنسانية يف بعدها االجتامعي والنفيس واملادي – مصونة، غري متاحة
للصديق يف هذا النوع من الصداقة، فسوف ال يكون لها تأثري متبادل يف األصدقاء
سوى املنفعة املتبادلة التي قد تؤدي دورا رضوريا مفيدا عىل املستوى الشخيص؛

269
الصداقة كحاجة أنطولوجية
مثال، املساعدة التي أتلقاها من صديقي قد تفيدين يف رشاء بعض الحاجات املادية
أو الحصول عىل حاجات أخرى. ولكن إذا كانت هذه العالقة وسيلة، وهي يف
الواقع وسيلة، أال ميكن القول إن هذا النوع من الصداقة ترتيب أو صفقة تجارية؟
من الصعب القول إنها تخلق رباطا حقيقيا بني »األصدقاء«، ألن رباطا كهذا ليس
موجودا بينهام يف الواقع. إن ما يوجد بني صديقني من هذا النمط، يف الواقع، هو
نوع من العالقة االقتصادية أو االجتامعية أو العقلية أو الجنسية أو النفسية، أو
نوع من االتفاقية أو صفقة تتقاطع بها مصالح معينة، ولكن ال توجد عالقة إنسانية.
تلك الصداقة التي يقف فيها األصدقاء بعضهم أمام بعض ككائنات إنسانية،
وينفتحون بعضهم عىل بعض، ويتصافحون ويتواصلون وجوديا بطرق ذات معنى.
ولهذا السبب ميز، حسب اعتقادي، فالسفة كأرسطو وسنيكا وشيرشون ومونتني
وبيكون وكانت بني الصداقة الحقيقية، وغري الحقيقية وقالوا إن الصداقة املبنية
عىل املنفعة غري حقيقية. ولكن، ما الصداقة الحقيقية؟ ما سبب وجودها؟ ما طبيعة
عالقتها؟ الجواب عن هذا السؤال رضوري، ألن الرباط الذي شكل الحبل الواصل
بني األصدقاء غري قابل للمالحظة التجريبية. األصدقاء مفصولون بعضهم عن بعض
نفسيا وجسديا، ومع ذلك فهم مربوطون بعضهم مع بعض، والرباط بينهم حقيقي
ونشيط ودائم. ولكن إذا مل يكن قابال للمالحظة التجريبية، فام منط وجوده؟ كيف
يرتبط األصدقاء بعضهم مع بعض؟

)٭( »الصداقة« Friendship،

دعونا نبدأ بإلقاء نظرة قصرية عىل إيتيمولوجيا
ألن ذلك سوف يساعد عىل إدراك أصل معنى هذه الكلمة وخاصة نوعيتها كعالقة،
إذا تبني أنها عالقة، وإذا تبني أنها ليست عالقة؛ عندها نستطيع اكتشاف املعنى
الذي ميكننا اإلشارة إليه كنوع من الرابط، أو عىل األقل كأساس لهذه اإلشارة. عندما
)٭٭( نجد أن »صداقة« تعني »حالة يكون فيها األشخاص

نستعني بقاموس ويبسرت
أصدقاء«، أو »االرتباط )امل�ودة( بني األصدقاء«. العنرصان األساسيان يف هذا
التعريف هام »حالة« و»ارتباط«. التعريف األول يقول إن الصداقة نوع من الحالة،
والتعريف الثاين يعرف الحالة باالرتباط. األصدقاء هم كائنات إنسانية مرتبطة
)٭( Etymology، علم أصول الكلامت. ]املحرر[.
.Webster's New World College Dictionary )٭٭)

270
الصداقة
بعضها مع بعض. ولكن ما نوع الرباط الذي مييز الصداقة، مبا أن الكائنات اإلنسانية
ترتابط بعضها مع بعض بطرق مختلفة، ومبا أن نوع الرباط تحدده نوعية األصدقاء:
ما الذي يجعل الصديق صديقا؟ قد نتقدم يف بحثنا إذا ألقينا نظرة إىل أصل كلمة
»صديق« friend التي تعني باللغة اإلنجليزية القدمية »Freond»، أي ُ»امل ْحب«
وهي الكلمة املجانسة للكلمة األملانية Freund، ذات الصلة بكلمة Frijon التي
تعني »أن تحب«. هذه الداللة تعرب عنها كلمة »صديق«، أي »الشخص الذي يعرفه
الفرد ويكون مولعا به« حيث »مولع« تعني »حنون ورقيق ومحب«. الصديق هو
ذلك النوع من الناس الذي يتبادل شعور املحبة مع شخص آخر. يحسن بنا القول
إن السمة التي تعرف الصديق، وأيضا الصداقة هي املحبة؛ وهي أيضا التي تحدد
نوع الرتابط الذي مييز الصداقة. ولكن هذا التعريف املعجمي يتفق مع التعريف
اليوناين، أي philia، الذي ناقشته يف الفصل الثالث وهي الكلمة التي أصبحت
دارجة االستعامل منذ ذلك الوقت إىل يومنا هذا.
واآلن، ما املقصود بـ »فيليا«، philia، ذلك النوع من املحبة الذي يجمع
األشخاص برباط الصداقة؟ كيف يخلق أو يوجد هذا النوع من املحبة كرباط، أو
كعقد، بني صديقني؟ هل نستعمل كلمة »رابط« و»عقد« مجازيا يف هذا السياق،
وهل يشريان إىل رباط حقيقي له منط محدد من الوجود؟ نحن بحاجة ّ ملحة
إىل جواب عن هذا السؤال، ألنه إذا كانت الصداقة حاجة إنسانية، فعلينا أن
نعرف كيف تأيت إىل حيز الوجود، وما نسيجها، وكيف تتشكل رابطة الصداقة بني
األشخاص. عندها فقط نستطيع أن نختم ونتم قضيتنا واستنكارنا الستبعاد الصداقة
كقيمة مركزية من النظرية األخالقية.
املحبة )philia )ليست انفعاال أو غريزة أو دافعا اجتامعيا أو بنية اجتامعية
)construct social )فحسب؛ هي ليست عالقة مادية، أي أنها ليست معطاة
كموجود جاهز التكوين يف الطبيعة اإلنسانية، بغض النظر عام إذا كانت جوهرية
أو مكتسبة، وليست وظيفة بيولوجية أو نفسية جاهزة. وعالوة عىل ذلك، فهي
ليست معطاة كحاجة إىل البقاء )survival). ولكن عىل رغم أنها ال تختزل يف هذه
العنارص، فإنها تتحقق فيها ومن خاللها. هذه العنارص هي مادة التعبري عنها. بغض
النظر عام إذا وجدت بني النساء والرجال، الزمالء، أو أفراد األرسة، أو الرشكاء، أو

271
الصداقة كحاجة أنطولوجية
الجريان، أو بني األفراد يف أي سياق اجتامعي. ووجود هذه العالقة ال يعتمد عىل
الوضع االقتصادي أو االجتامعي أو اإلثني أو الجنيس للفرد أو عىل شكله البيولوجي
أو مركزه السيايس. ونحن نؤكد هذا األمر بناء عىل فرضية أننا مل نولد »محبني«
ولكن بإمكانية أن نصبح »محبني«، وأن مادة هذا الرابط ليست شيئا ماديا، بل هي
من حيث الجوهر إنسانية وروحية، وليست قامئة عىل خاصية املكان أو الزمان. إنها
معطاة كطبيعة ممكنة بانتظار التحقيق. وباعتبارها طبيعة، فهي قدرة هيكلية، أو
مخطط؛ فهي تتكون من خصائص أساسية، وكل من هذه الخصائص هو باقة من
اإلمكانيات. هذا يعني أن املحبة تصبح حقيقة عندما تتحقق هذه اإلمكانيات. من
املهم جدا هنا أن نسلط الضوء عىل منط وجودها، وتحديدا منط وجودها كإمكانية،
فكام أرشت سابقا، املحبة philia ليست حالة نفسية أو فيزيائية، بل عملية إنجاز
مستمرة؛ تزداد عمقا وثراء وقوة وقدرة عىل اإلرضاء. دعوين أرشح هذه النقطة
مبثل. غالبا ما يشار إىل الفهم )intellect )يف حقل الفلسفة بكلمة العقل )reason)،
باعتباره ملكة أو مقدرة. ولكنه كقدرة يكون »بنية« مركبة من وظائف – تفكري،
ذاكرة، خيال، حدس، إدراك، ربط، مالحظة وغريها من الوظائف. وكل واحد من
ّب من العنارص؛ وهذه تتجذر يف العنارص

هذه العنارص يتألف بدوره من مرك
األساسية كوظائف وقدرات ال حدود لها. طريقة قيامها بوظائفها تعتمد عىل املنطق
الكامن يف امللكة ككل متفاعل. ال تتحقق هذه اإلمكانات إال عندما يؤدي العقل
وظيفة فكرية أو منطقية. ويكتسب العقل شخصية خاصة عند االنخراط يف نشاط
معني؛ مثال، التفكري والحدس والشعور. وعىل الرغم من أنه يؤدي وظيفة واحدة
كنشاط، فإن بقية العنارص تبقى نشيطة وتسهم يف ذلك النشاط. مثال، التفكري ليس
وظيفة منعزلة، بل تشمل الذاكرة والخيال والحدس والشعور والحكم واالرتباط
واإلدراك. وكمقدرة، فالعقل ٌكل عضوي متكامل، ولهذا الكل هدف أويل: املعرفة.
ويف الحقيقة، فالهدف هو مبدأ كليته، أو وحدته. العنارص البنيوية للعقل توجد
ككل متجانس من الوظائف؛ وتتعاون هذه العنارص يف تحقيق الهدف، ألنها متالمئة
بعضها مع بعض: توجد عىل النحو الذي توجد عليه من أجل تحقيق هذا الهدف،
ومن دون هذا الهدف، ال توجد كام توجد. الهدف هو مبدأ وحدتها وتجانسها. إن
ما هو معطى عند الوالدة هو البناء الهيكيل لهذه املقدرة، أي اإلمكانية ألن يصبح

272
الصداقة
العقل فاعال )actus in). وهكذا، فعندما نقول، مع أرسطو، إن الكائنات اإلنسانية
عقالنية بطبيعتها، ال نعني أنهم يقومون بوظيفتهم العقلية عىل خري ما يرام كام
تؤدي أعينهم وآذانهم وظائفها، بل إنهم ميتلكون املقدرة ألن يصبحوا عقالنيني وأن
ينموا ليك يحققوا ذلك، وإال ملا احتجنا إىل نظام التعليم يف املدارس؛ نعني أيضا أن
هذه اإلمكانات ال حدود لها. فكلام واصل املرء تنميتها ازداد مهارة يف استعاملها.
ويتوسع إطار العقل كلام ازداد تحقيق إمكاناته.
باإلضافة إىل الهدف، فاملبدأ الثاين الذي يؤسس وحدة املقدرة هو القوة. املقدرة قوة
)power)، قوة دافعة محركة. القوة هي التي متكن املقدرة من أن تقوم بوظيفتها، ليك
تستهدف الغاية املخصصة لها وتعمل عىل تحقيق اإلمكانات الكامنة فيها. التعريف
املعجمي لكلمة »capacity – مقدرة« يقبض عىل هذه الخاصية بوضوح، فهو يعرفها
بالقدرة عىل االحتواء واالستيعاب واالحتفاظ. فمن دون القوة، من دون الدافع، تبقى
املقدرة راكدة، عقيمة؛ ويف الواقع تفقد صفتها كمقدرة. القوة تقوم بوظيفة مبدأ
التوحيد بتمكني كل عنرص كامن يف املقدرة ألن يؤدي دورا نشيطا و ّبناء يف قيام
املقدرة بوظيفتها. وميكن القول إنه توجد عالقة حيوية تفاعلية بني الهدف والقوة.
يكمل و ّميكن بعضهام بعضا يف أداء وظائفهام، ألنه كلام تقدمت املقدرة باتجاه تحقيق
غايتها ازدادت بالقوة، وكلام ازدادت بالقوة توسع مجال هدفها وازدادت ثراء. ميكن
ألي إنسان أن يشعر بهذا التوسع يف ذروة الفعل الخالق. الكائن اإلنساين الذي ينمو يف
املعرفة أيضا ينمو باملقدرة عىل أن يعرف، والذي ينمو يف املحبة أيضا ينمو يف املقدرة
عىل املحبة، والذي ينمو يف تقدير الجامل أيضا ينمو يف املقدرة عىل تقدير الجامل،
والذي ينمو يف الشعور برس الطبيعة أيضا ينمو يف املقدرة عىل تقدير رس الطبيعة. ال
أعتقد أن قول أرسطو بـأن اإلنسان يرغب يف أن يعرف قد كان مصادفة. أوال، كيف
ميكن لإلنسان أن ميتلك هذه الرغبة إن مل ميتلك أيضا الرشوط الرضورية والكامنة
للسعي وراء املعرفة؟ هنا دعوين أشدد عىل أن الرغبة يف حد ذاتها وقوة وسعي
واجتهاد. لكنها ال توجد وراء املقدرة أو بجانبها بل ضمنها؛ وهنا أعني أنها تتخلل كل
عنرص من عنارصها. واملقدرة بذلك قوية. ولهذا السبب، عىل سبيل املثال، عندما يؤدي
العقل وظيفته، يسهم كل عنرص من عنارصه يف هذا الفعل بالوقت نفسه. فإن كنت
أحاول استكشاف طبيعة ودينامية مفهوم ملكة العقل، فعملية االستكشاف بذاتها

273
الصداقة كحاجة أنطولوجية
تنشأ عن الرغبة يف املعرفة، ومن دون هذه الرغبة ال ميكن لعملية االستكشاف أن
تحدث. كم من طالب يف قاعة املحارضات، أو مشارك يف محادثة أو مناقشة جامعية،
يرتك املناقشة أو املحادثة يف خياله أو ينرصف عنها ويجول يف عامله الذايت من دون أن
يتعلم أي يشء، هذا إذا مل تكن لديه الرغبة يف املعرفة. الرغبة تحرك القوة املطلوبة
الكامنة يف العقل التي تثري االهتامم باملحادثة أو املناقشة، ومتكن كل عنرص من
عنارصه من أن يشارك يف عملية املعرفة. إذن، فاملقدرة قوة غائية بطبيعتها.
ما العنارص األساسية والبنيوية للمقدرة التي تؤسس املحبة )philia )بوصفها
حاجة ورباطا؟ املحبة بوصفها مقدرة تتكون، أي تصبح كال متكامال، من )أ( غاية
معينة و)ب( مقدرة عىل السعي وراء هذه الغاية وتحقيقها. هذان العنرصان
يشكالن الهيكل األنطولوجي للمحبة؛ أما العنارص األخرى التي تكمن يف هذا الهيكل
األنطولوجي فتشكل، عندما تتحقق، نسيجها الواقعي. الهيكل يحدد وظائفها
ويؤمن الحافز والقوة الدافعة إلنجاز فعلها. عالوة عىل ذلك، يشكل هذان العنرصان
البناء األساس لتصور املحبة، حتى إنه من املستحيل التفكري بفكرة املحبة من دون
استحضار ذهني لهذين العنرصين كأساس ملضمون التفكري. مثال، يفرتض تحليل
أرسطو أن الصداقة حاجة اجتامعية، وأنها متثل متطلبا طبيعيا للطبيعة اإلنسانية،
ُ أي أن ي ِحب الفرد وأن ُي َحب من قبل شخص آخر، وأن تلبية هذه الحاجة تخدم
غاية: تعزيز النمو والتطور اإلنساين. ومتييزه لثالثة أنواع من الصداقة يرتكز إىل
هذا االفرتاض. وهو يعتمد عىل »الغاية« كمبدأ للتمييز بينهم. النوع األول يرتكز
إىل املنفعة، والثاين إىل اللذة، والثالث إىل الخري. يف كل من هذه الحاالت أساس
الصداقة هو الغاية منها. الغاية هي التي تدفع بالصديقني إىل أن يتصادقا، وهي
أيضا التي تولد شعور املودة، أو املحبة، بينهام، وهي أيضا، ثالثا، التي تحدد خاصية
كل من هذه األنواع الثالثة من املحبة. الغاية هي أساس الرباط الذي يشكل ظاهرة
الصداقة، ولكن هذا الرباط يصبح حقيقة يف نوع املحبة الناجم عن تحقيق الغاية.
هذه، تحديدا، هي السمة التي أقنعت جميع الفالسفة الذين كتبوا عن الصداقة
بأن يصفوها باملحبة )philia). املحبة هي الرباط والعامل املشرتك بني األصدقاء.
وميكن التساؤل بصورة أكرث مبارشة: ما الحب الذي مييز الصداقة بوصفها
حاجة إنسانية، ال حاجة نفسية أو بيولوجية أو مادية؟ هل هو نوع من الوحدة؟

274
الصداقة
كيف ميكن لكائنني إنسانيني )أو ذاتني إنسانيتني( منفصلني أحدهام عن اآلخر أن
يشكال وحدة؟ ولكن إذا توحدا، فال بد أن يكون هناك يشء، أو رباط من نوع ما،
ليك يوحدهام. حسنا، ما هذا »اليشء« أو »الرباط«؟ أثري هذه السلسلة من األسئلة
ليك أسلط الضوء عىل هذا الرباط فحسب، ألرى ما إذا كان أنطولوجيا وليس مجرد
رباط نفيس أو بيولوجي أو مادي.
إحدى السامت الجوهرية للرباط الذي فيه يقف األصدقاء بعضهم أمام بعض
بوصفهم أصدقاء تتمثل يف الشعور باالرتباط أو االنجذاب. لهذا السبب يصف
فالسفة كأرسطو وشيرشون وكانت الصداقة بأنها صداقة تفضيلية. عىل الرغم
من أن لدى جميع البرش امليل إىل الحياة االجتامعية، فإنهم بالطبع مييلون إىل أن
يشكلوا عالقة صداقة مع شخص أو شخصني، ألن من املستحيل للفرد أن يشكل
صداقة حقيقية مع جميع الناس. عملية تكون الصداقة الحقيقية تحتاج إىل وقت
ومسعى وتكريس، وأيضا تحتاج إىل فتح عقولنا ونفوسنا وقلوبنا إىل الصديق.
وعالوة عىل ذلك، كام أشار أرسطو، فإن االنسجام بني األصدقاء رشط رضوري
للصداقة. ولكن ليس من السهل تطوير االنسجام بني شخصني، ألنه يحتاج إىل
مشاركة يف تجارب حياتية وإىل عيش أحدهام مع اآلخر. يف الواقع، الكائنات
اإلنسانية تتباين يف طرق تفكريها وشعورها وحياتها. ومن الصعب جدا، إن مل
يكن من املستحيل، مالقاة شخصيات متناسقة ومتجانسة مبدئيا بعضها مع بعض.
عندما نجد نفسا شقيقة، نفسا نستطيع التواصل معها عىل املستوى اإلنساين
وميكن أن نفتح لها عقولنا ونفوسنا وقلوبنا تحت رشوط الثقة والحرية واالحرتام
واإلخالص والفهم املتبادل، فإن تطورا مهام يحدث: شعور من االنجذاب يستويل
عىل قلوبنا، وعندما يستقر هذا الشعور يولد أهم متطلبات الصداقة، املودة
)املحبة(، التي بدورها تقوي شعور االنجذاب بني األصدقاء وتدريجيا تتحول إىل
نزعة خاصة: تكريس )devotion). والدة هذه النزعة تشري إىل انبثاق املحبة
)philia )بني الصديقني الراغبني، ألنها تعمل عىل والدة شعور و ٍ اف بالحميمية،
واملتعة الصادرة عن الوجود مع اآلخر، وشعور بالتقدير لهذا الوجود، وبصورة
خاصة يف الرغبة يف الحفاظ عليه، باختباره وإدراكه. هذا الشعور ينبثق من صميم
النزعة االجتامعية للطبيعة اإلنسانية، من رغبتها الجوهرية يف تجاوز ذاتها، يف أن

275
الصداقة كحاجة أنطولوجية
تنفتح، يف أن تتواصل، ويف أن توجد بقرب الكائن الحميم املتجانس مع ذاتها. هذا
الشعور استجابة لنداء هذه الرغبة االجتامعية، التي متثل أسمى وأثرى تلبية لهذه
الحاجة. الداللة االشتقاقية ملعنى كلمة »society- مجتمع«، التي ّ تتحدر من كلمة
)societe )الفرنسية، واملشتقة من الكلمة الالتينية »socius»، التي تعني الرفيق،
تعرب عن معنى هذه العالقة بوضوح ودقة. التالقي بني كائنني إنسانيني، بوصفهام
كائنني إنسانيني، هو مكان والدة الصفة االجتامعية. ولكن الرغبة التي تؤسس،
ويف الواقع ّ تحرك، املطالبة بالصداقة هي أقوى الرغبات يف الطبيعة اإلنسانية؛ إنها
تقبع يف صميمها. ولكن ما يجعلها رغبة حميمة يكمن يف بناء الرغبة: فهي ليست
رغبة يف يشء مؤقت أو عارض أو ثانوي بل يف يشء دائم وجوهري وأويل. نكرانها
يعادل نكران حاجة جوهرية رضورية للتحقق اإلنساين. ولهذا السبب بالذات
ميكن القول إن املودة الناجمة عن تحقيق هذه الرغبة قصدية )intentional )
بطبيعتها، ألنها ال توجد بوصفها حادثة نفسية منعزلة، ولكن كنزعة تستهدف
موضوعا؛ واملوضوع الذي تستهدفه هو الصديق، وتخلق توجها نحو الصديق:
تحمل هذه النزعة بني طياتها االنجذاب املتبادل بني األصدقاء والرغبة يف البقاء يف
إطار هذا االنجذاب. األصدقاء ينجذب أحدهم نحو اآلخر، ويريد أن يكون معه،
ألنهم يشعرون بالحرية واالرتباط يف هذا الكيان، ولهذا السبب عندما، يغيب أحد
األصدقاء لسبب ما، فالصديق اآلخر يشتاق إليه، يشتاق إىل حضوره )presence )
وإىل وجوده. كالهام يشعر بالغياب الوجودي يف هذه الحالة. محبة اآلخر تعني
الرغبة القوية يف الوجود مع الشخص الذي نحبه. »الوجود – مع« عنرص جوهري
يف عاطفة املحبة.
إذا كان انبثاق عاطفة املحبة استجابة إىل حاجة متبادلة، إذا كانت هذه الحاجة
يف بادئ األمر نزعة عامة، ألنها توجد كإمكانية وإذا كانت قصدية يف توجهها،
فامذا عن املوضوع، اآلخر الذي يثري هذه العاطفة؟ يف بادئ األمر تكون الرغبة يف
الصديق رغبة عامة؛ توجد كمجرد شهوة، كشعور بنقص، ال تجاه أي شخص ولكن
تجاه الشخص املناسب. حسنا، هنا ميكن التساؤل: ملاذا هذا الشخص بالذات؟ يف
الواقع هذا السؤال هو طلب ملعرفة األساس األنطولوجي للصداقة، ملعرفة الرباط
الذي يوّحد )يجمع( شخصني يف رباط )عقد( الصداقة. بكلامت أخرى، فهو مطلب

276
الصداقة
ملعرفة بنية )هيكل( الرباط الذي يؤسس الوحدة بني األصدقاء. هل مفهوم الوحدة
مؤسس مجازيا أم أنطولوجيا؟ ما مصدر حرف »ي« عندما يقول أحد ما صديقي؟
هل الياء هنا مجرد شعور أو عاطفة ذاتية؟ أم أن لها أساسا موضوعيا؟ يف مجال
حديثنا عن الصداقة الحقيقية، عادة ال نستعمل »صديقي« لإلشارة إىل أكرث من
شخص أو شخصني، أو عدد قليل من األشخاص. يجب أن يتحىل هذا الشخص، أو
هذان الشخصان، بيشء ما ليك نطلق عليه، أو عليهام، تعبري »صديقي«. ما هذا
اليشء؟ مرة أخرى، يف هذا السياق تستعمل »ي« مبعنى امللكية. صديقي أنا. فعىل
األصدقاء أن ميتلكوا شيئا، أن يتشاركوا يف يشء، وهذا اليشء الذي ميتلكونه هو يف
آن واحد فردي ومتبادل بينهام، مبعنى أن هذا اليشء جزء من كيانهم؛ هذه املشاركة
متبادلة ألن كل واحد منهام يستطيع أن يقول »صديقي«، فهل يا ترى هذا اليشء
املشرتك هو رباط الصداقة؟ وإذا حدث وتبني أنه هذا الرباط، فام مادته؟ دعوين
أبحث يف هذا االحتامل.
أساس الصداقة، ذلك العامل الذي يدفع شخصني إىل أن يتصادقا ويحتفظا
بصداقتهام، ذلك الذي يثري العاطفة التي متيز املحبة )Philia)، هو الخري. الخري
جذاب بذاته، مرغوب فيه، بينام الرش منفر، غري مرغوب فيه. يقول أرسطو »الناس
عامة يقرون بأن املحبوب واملرغوب فيه عامة، هو اليشء الخري واملمتع، وبالنسبة
إىل الفرد، فهو الخري واملتعة للفرد نفسه؛ واإلنسان الصالح الخري محبوب بناء عىل
)16(. األشخاص الصالحون مييلون، بحكم صالحهم، إىل توخي الخري يف

هذين األساسني«
كل يشء يفعلونه. فهم يتعاملون مع اآلخرين من وجهة نظر إرادتهم الخرية. ولكن
امتالك اإلرادة الخرية رشط رضوري، ولكنه ليس كافيا، للصداقة، ألننا قد نحمل مشاعر
طيبة تجاه اآلخرين عموما، بينام الصداقة تتعلق مبشاعر تجاه شخص معني. لذا،
فمن املناسب القول بأن السلوك بدافع من النية الطيبة يف عالقة ما قد يكون بداية
للصداقة. إن رعاية هذه املشاعر املشرتكة تتطلب وقتا، وبناء رابطة الصداقة يتطلب
وقتا أطول، ألن املودة شعور، بينام الصداقة حالة. قد نشعر باملودة تجاه الكائنات،
ولكن املودة املتبادلة هي اختيار، واالختيار ينبع من حالة )أخالقية(. وأيضا عندما
يتمنى الناس الخري ملن يحبون، ومن أجلهم، فال يكون ذلك نابعا من املشاعر بل يكون

.)17(
تناغام مع حالة )أخالقية(«

277
الصداقة كحاجة أنطولوجية
وهذا ما دفع أرسطو للقول بأن الفضيلة هي أساس الصداقة. لذا، فال ميكن
ألساس الصداقة الحقيقية أن يكون عاطفة ذاتية، بل هو نوع من العاطفة املنبثقة
من اإلرادة الخيرّة، وبشكل أكرث دقة، من الشخصية الصالحة الخرية. يوجد »الخري«
عند اإلنسان الخيرّ الصالح كحالة؛ يوجد كنزعة أو ميل، وهذه النزعة مستنبطة
من قيم أخالقية ذات صالحية موضوعية، عىل األقل بالنسبة للفرد نفسه. وهي
تستخلص صالحيتها من حقيقة إقرار املجتمع أو العقل بها. ما نؤكد عليه هنا
هو أن الخري، كحالة أخالقية، ال ميثل عند أرسطو شعورا ذاتيا، بل إنه يشكل
نسيج الشخصية األخالقية: هو ترجمة لشبكة من التربعات األخالقية ضمن هذه
الشخصية. هو السمة التي متكننا من الحكم عىل األشخاص بأنهم خريون إن كانوا
خريين. وهؤالء ينطلقون من إرادة خرية أمام أي ظرف أخالقي، سواء تعلق األمر
بالصدق، أو الشجاعة، أو العدالة، أو التعاطف.
وإذا قلنا مع أرسطو بأن العاطفة الخاصة بالصداقة تنبثق من دافع أخالقي
فنحن يف الواقع نقر بأن الخري هو مصدر املحبة الخاصة بالصداقة. هذا النوع من
املحبة ليس عشوائيا، وليس مؤقتا، بل يتدفق يف اإلرادة الخرية؛ ولهذا السبب فهو
اختيار، ولهذا السبب يحدث مبباركة العقل والفضيلة. ال يعني ذلك أن هذه املحبة
غري عاطفية، أو ال يشعر الصديق فيها بدفء أو حميمية أو انجذاب؛ كال، بل يعني
أنها تنبثق يف قلب أخالقي. هذا النوع من االنجذاب أصيل ودائم ومر ٍض بصورة
عميقة. وتأكيدا ملا قاله أرسطو، يعرب شيرشون عن هذه النقطة ببالغة: »الفضيلة،
الفضيلة، يا قانيوس فانيوس، وأنت يا كوينتوس ماكيوس، هي التي تكسبنا الصداقة
وتحفظها؛ ألنها مصدر القوة التي تكيفنا مع الظروف، وأيضا مصدر الثبات
واالتساق، وعندما ترتقي ويشع نورها وتدرك نفس النور يف شخص آخر وتستوعبه،
فإنها سوف تتقدم نحوه وتتلقى نفس النور من اآلخر، فهذا النور يرضم نار املحبة
أو الصداقة، ألن كليهام يستمد اسمه من املحبة، فاملحبة ليست سوى االنجذاب
نحو الشخص الذي نحبه من دون الشعور بأي نوع من الحاجة، أو توقع أي نوع
.)18(
َ من املنفعة. مع أن املنفعة تنبع من الصداقة ذاتها حتى ولو مل تسع إليها«
فكرة »الصديق« تتضمن فكرة التبادلية، ألن الشخص يدخل عالقة الصداقة
من إرادة خيرّة. الخري هو العنرص املشرتك بني الصديقني، ويشرتكان فيه بالتساوي.

278
الصداقة
بهذا املعنى هام متساويان بالخري. وهكذا يصبحان صديقني ويصبح كل منهام خري
صاحبه. خري الواحد امتداد لخري اآلخر. الخري ذاته يتدفق يف عروقهام، والخري ذاته
يحرك إرادتهام الخرية. يوجد كل منهام يف اآلخر بفضل متاثل الخري يف شخصيتيهام.
كل واحد منهام مرآة تعكس خري اآلخر. هل يا ترى هذه املشاركة بالخري هي دافع
نزعة الصداقة فيهام وأيضا الثقة املتبادلة بينهام واإلخالص وتكريس أحدهام لآلخر؟
وهكذا، فعندما نقول إن الخري أساس الصداقة فإننا نعني أنه يوحد األصدقاء برباط
)bond )الصداقة يف وحدة أخالقية. أعتقد أن هذه امليزة هي التي دفعت فالسفة
كأرسطو وكانت إىل أن يقولوا إن الصديقني نفس واحدة، أو إنهام جزءان لكل واحد.
يف »محارضة عن الصداقة« يقول كانت: »ما ذلك االنسجام )التوافق( الذي يشكل
عقد أو رباط الصداقة بني شخصني؟ ليس انسجام فكرهام؛ بالعكس، االختالف يف
الفكر أساس أقوى للصداقة، ففي هذه الحالة يكمل أحدهام اآلخر. وعىل الرغم من
ذلك، يتعني أن يتامثال يف نقطة واحدة. يجب أن تكون مبادئهام العقلية واألخالقية
)19(. وكأرسطو، يجادل كانت بأن

متامثلة، إن كان للتفاهم الكامل أن ينشأ بينهام«
الصداقة الحقيقية ترتكز إىل العاطفة والنزعة األخالقية، أو إىل الفضيلة والوجدان
)sentiment)، وأنها تنبثق من اإلرادة الخرية، من »استقامة النزعة والصدق
والجدارة بالثقة والسلوك الخايل من الكذب أو النقمة، ومن مزاج رائق ومفرح
)20(. إذن، هذه

وسعيد – هذه هي امليزات التي تشكل شخصية الصديق الحقيقي«
العنارص بالذات، التي تشكل رباط الصداقة، وميكن القول إنها أساسها. إنها مصدر
حرف »ي« عندما أقول »صديقي«. أنا أعلم أن معنى هذا التعبري متعدد األبعاد،
ولكن ما يرتكز عليه اهتاممي هنا هو األساس األنطولوجي – ذلك العنرص الذي
يؤهلني ألن أقول صديقي. ليك تكون لهذا التعبري قيمة، يجب أن يكون له أساس
أنطولوجي، وإال فسيكون ذاتيا أو شكليا أو مجازيا. وهكذا، فعندما يقول أحد عن
أحد »صديقي« فإن ياء امللكية تشري إىل أن هذا القول ينبثق من النزعة األخالقية
الذي يتشارك فيه كال الصديقني. لهذا السبب تستطيع القول »جو صديقي« من
دون أن يتضمن هذا القول شعور امتالك أنانيا، ولهذا السبب أيضا فعندما ُيسمع
لفظ »صديقي«، فإن هذا اللفظ ينطبق عىل الصديقني معا، ألنه ينبثق عن األساس
املشرتك بينهام نفسه.

279
الصداقة كحاجة أنطولوجية
ّ ولكن العالقة األخالقية التي توحد صديقني برباط الصداقة الحقيقي، بقدر
ما توجد بوصفها نزعة يف شخصية األصدقاء، ليست سوى بنية صورية )Formal
Structure)؛ إنها األرضية التي تقف عليها الصداقة. هناك يتالقيان، هناك
يتصافحان ويتوحدان باملصافحة، وهناك يسريان معا يف حياتهام. تصبح وحدة
نظرتهام األخالقية اإلطار الذي فيه يتفاعالن، كل منهام مع نفسه ومع صاحبه ومع
العامل الخارجي. ويأيت هذا الرباط إىل حيز الوجود عندما يتشاركان يف حياتهام، أي
عندما يتشاركان من منظور الخري الذي يوحدهام بوصفهام كائنات إنسانية. فام
مضمون هذا الرباط؟ ما منط وجوده، أو بكلامت أخرى، ما مكانته األنطولوجية؟
كيف يعيش األصدقاء واقعية هذا الرباط؟ الجواب عن السؤال يجب أن ينبني
عىل اعتبار السؤال التايل: ماذا نعني عندما نقول إن األصدقاء يعيشون بوصفهم
كائنات إنسانية صالحة، من منظور التوجه األخالقي الذي يتشاركونه؟ أو، ما املبدأ،
أو الغاية، من هذا التوجه؟ كام رأينا مرارا يف الصفحات السابقة، يقول هذا املبدأ
إن هدف الحياة اإلنسانية، ومن ثم هدف الصديقني، هو النمو والتطور اإلنساين.
وهذا هو السبب الرئيس الذي جعل أرسطو يرص عىل أن الخري هو أساس الصداقة
الحقيقية: الصديقان يريد أحدهام الخري لآلخر من أجل الخري، أي ألن كال الصديقني
خيرّ وملتزم بتعزيز الخري يف حياته ويف حياة اآلخرين.
تربهن الدراسة الدقيقة لفكرة »النمو« أو »الكامل« اإلنساين عىل أن السعي
وراء السعادة يكمن يف تحقيق اإلمكانات التي تشكل الهيكل األساس للطبيعة
اإلنسانية. بقدر ما هي إمكانات، فإنها تنتظر التحقيق؛ هو إذن نداء الواجب. النمو
اإلنساين يتكون من تحقيق هذه اإلمكانات. واآلن، ما عنارص هذا الهيكل األساسية؟
ولن أكون مخطئا إذا قلت بأن هذه العنارص هي التفكري، والشعور، واإلرادة. مثال
التفكري هو الحقيقة، ومثال الشعور هو الخري - أي العدالة والشجاعة والصدق
واملحبة والجامل والقداسة - ومثال اإلرادة هو النمو. ولذا فإن السعي وراء الحياة
الصالحة، الحياة الساعية يف الخري، هو سعي وراء هذه املثل. الكائنات اإلنسانية
الصالحة، ومن ثم األصدقاء الحقيقيون، ملتزمون بفضل إرادتهم الخرية بهذه األمثلة
يف سعيهم وراء الخري يف حياتهم وحياة اآلخرين. هم يف الواقع يسعون إىل تحقيق
هذه األمثلة إىل أقىص حد ممكن. تنعقد الصداقات بني الناس بوصفهم كائنات

280
الصداقة
إنسانية بقدر ما يتمنون الخري بعضهم لبعض، أو بقدر ما ينمون بوصفهم كائنات
إنسانية. وإذا مل يلتزموا بهذه األمثلة، أي إذا مل يسعوا من أجلها معا عىل أرض الواقع
بوصفهم أصدقاء متشاركني يف القيم، فكيف للرباط الذي يوحدهم أن يكتسب بنية
وجودية أو كيانا وجوديا يف عملية النمو بوصفهم أصدقاء؟ ينمو هذا الرباط بعمق
يف حياتهم كلام ازداد منوهم يف املعرفة والجامل، ويف املشاركة يف حياتهم املهنية.
من املهم جدا التأكيد عىل املشاركة. هذا ال يتضمن أبدا بحكم الرضورة أن األصدقاء
نسخ يطابق بعضها بعضا، إن كل ما يتضمنه هو أنهم يعتنقون املثل نفسها، كاحرتام
الفردية يف األمور العملية والفلسفية، وتقدير الجامل واملامرسة الدينية. ولكن إذا
اختلف األصدقاء عىل مبادئ الفعل، أو عىل املثل، فإنهم سوف يختارون طرقا
مختلفة يف الحياة. هذا االختالف يتعارض مع حياة الصداقة كام رأينا يف الفصل
الثالث. ال أبالغ حني أقول إن الصداقة بوصفها عالقة إنسانية هي أعىل صور
التواصل اإلنساين، إنها تواصل يف الفعل، فيه ذاتان تتمتعان بأثرى لحظات يف الوجود
عىل مستوى الفكر والفعل والحميمية، فهام يتشاركان أفكارا ومشاعر وتجارب
ويتعاونان عىل مشاريع قيمة، ويبذالن جهدهام للعناية بنفسيهام وباآلخرين.
علينا أن منيز هذا النوع من التواصل عن التواصل الرسمي أو الذرائعي أو العبثي،
حيث يبقى األفراد منفصلني أحدهم عن اآلخر، وحيث حالة التواصل تعترب مناسبة
لنقل معلومات معينة، أو إلرضاء رغبة معينة. مقارنة بهذا النوع من التواصل،
الشائع يف األوساط االجتامعية والسياسية والتعليمية والدينية واملهنية والعائلية،
يبدو التواصل الوجودي كحدث، وميكن القول إنه حدث متواصل للحضور اإلنساين،
للوجود مع شخص آخر، لالستمتاع بهذا الشخص وليس فقط لتبادل معلومات أو
حاالت نفسية باطنية، ولكن للمشاركة والتواجد مع كائن إنساين آخر. هذا النوع
من التواصل موجود ضمنيا يف رأي هرياقليطيس القائل بأن الكائن اإلنساين هو
جوهريا عقل )لوغوس( أي خطاب )محادثة( عقيل. نعم، الدافع األويل يف الطبيعة
اإلنسانية هو دافع التواصل والتحادث عقليا مع كائن إنساين آخر، حيث العقل
هو املبدأ الذي يحدد طبيعة ومجرى التواصل. وقد ألقى إمرسون الضوء عىل هذه
النقطة، بشكل رائع: »ملاذا اإلرصار عىل االندفاع يف عالقتك بصديقك؟ ملاذا تذهب
إىل بيته وتتعرف عىل أمه وأخيه وإخوته؟ ملاذا تريده أن يزورك؟ هل هذه األشياء

281
الصداقة كحاجة أنطولوجية
مادة مليثاقنا؟ اترك جانبا هذه الحركات والتجاذبات. دعه يكن روحا فقط. رسالة،
فكرة، إخالصا، نظرة، هي ما أريده من الصديق. ال أريد أخبارا وال حساء من اللحم
والقهوة والخرضة. أستطيع الحصول عىل أخبار سياسية وكالم تسلية وتعابري ودية
من رفاق أقل أهمية. أليس من الواجب أن يكون مجتمع صديقي شعريا، بالنسبة

.
)21(
ّ إيل، نقيا، كليا، وعظيام، كالطبيعة ذاتها؟«
املحبة تنمو وتتطور يف وسيط من التواصل الوجودي. ليست مجرد عاطفة أو
شعور باالنجذاب واالرتباط، بل هي مودة حية، مشاعر مشبعة بالحياة، ترقص
فيها قلوب األصدقاء رقصة الحياة. هذه الرقصة تشكل الرتبة األنطولوجية التي
ينمو فيها شعور املحبة يف قلوب األصدقاء؛ وهي أيضا التي تغذي هذا الشعور
وتحوله تدريجيا من عاطفة جزئية، وإىل حد ما منعزلة، إىل عاطفة قصدية تجاه
اآلخر، وتحول وحدة مبادئهام األخالقية والعقلية املتبادلة يف قلبيهام إىل عاطفة
متجانسة ومتامثلة عقليا يف ذات كل منهام، ألنهام يرشبان املاء من الينبوع نفسه،
ويستحدثان غذاءهام من الرتبة نفسها. كلام منت هذه العاطفة، منا كل منهام يف
داخل اآلخر وازداد رباط املحبة بينهام قوة وعمقا. هذا الرباط ليس رباطا مجردا أو
نفسيا، بل أنطولوجي. إنه رباط يعيش به األصدقاء ويشعرون به يف عملية العيش.
وال يرتكز هذا الشعور إىل حجج أو تفسريات أو براهني، بل إىل الشهادة عىل حقيقة
أن كال من األصدقاء يشهد بوجود وحيوية هذا الرباط أو الوحدة. لهذا السبب
ميكن القول إن هذا النوع من الصداقة ال يتأسس يف التوافق ظاهريا أو ضمنيا أو
عىل نحو طبيعي، حيث املصلحة تشكل مصدرا لالنجذاب، ولكن عىل الخطاب أو
املحادثة العقالنية، عىل صوت يصدر من عمق وجود اإلنسان.
دعوين أرشح هذه النقطة بتحليل لكلمة »أحبك« عندما تعرب بها صديقة
عن حبها لصديقها. أختار هذا التعبري ليس ألن األصدقاء يستعملونه أو يجب أن
يستعملوه، ويف الواقع هذا التعبري غري رضوري، ألنه يفتقر إىل عمق وثراء املحبة
املوجودة يف قلوب األصدقاء، ولكن معنى هذا التعبري يكمن يف تصور واقع الصداقة.
ففي النهاية، الصداقة عالقة محبة! فامذا نعني عندما نقول »أحبك«؟ إذا افرتضنا
أن هذا الترصيح قيل يف سياق صداقة حقيقية، فهو يتضمن »أحبك وتحبني!« ال
ميكن للصديق أن يقول »أحبك«، يف الحقيقة، إذا كانت املحبة بينه وبني صديقه

282
الصداقة
غري متكافئة. الحب من طرف واحد غري حقيقي أو غري صادق، فالحب يف جوهره
عالقة متبادلة. كم من سيايس يخاطب جامهريه بقوله »يا أصدقايئ!«، أو تاجر
مع زبائنه، أو أستاذ مع زمالئه، أو وزير مع موظفيه! يف الصداقة الحقيقية، يتعني
عىل العبارة »أحبك« أن تعرب عن جوهر املحبة املشرتكة بني األصدقاء، عن الجوهر
ذاته املوجود يف قلبيهام. إنها اعرتاف بواقع التواصل، ومن منطلق شاعري، هي
احتفاء بهذا الواقع. عاطفة الحب الحقيقي توجد، يف آن واحد، يف قلب الصديقني،
وتوحدهام بفضل الجوهر الواحد ذاته. أنا أدرك متاما أن هذه الوحدة تبدو كأنها
تنطوي عىل تناقض، ألنها تعني وحدة فردين، واألفراد ال يتوحدون. ولكن دعوين
أسارع إىل القول بأن الوحدة ليست مادية بل روحية، وتتكون من معتقدات وقيم
وغايات وطريقة حياة وتجارب ومشاعر مشرتكة؛ إنها وحدة تلك الرشارة التي
َخوان - ما أساس »أخوتهام«، ما أساس

يتوهج ويتشكل بها كائنان إنسانيان. أمامك أ

ََخ ْوين؟ اإلجابة واضحة: هام يأتيان من األبوين ذاتهام، من

العالقة التي تجعلهام أ
املنبع ذاته. باملقارنة، وهذه مقارنة تأويلية ال مقارنة ُمحكمة، فالصديقان توحد
بينهام عالقة تنبع من املنبع ذاته، من املبادئ العقلية والخلقية ذاتها التي يعتنقها
االثنان معا. وهذه الرؤية هي أساس الطرح الذي أتبناه يف هذا الفصل الختامي:
أعني بذلك أن الصداقة هي حاجة أنطولوجية، تحديدا، ألنها عنرص أساس من
عنارص الطبيعة البرشية. الصالح هو منبعها، والصالح هو ما يشيد بنية العالقة التي
تجعلها ممكنة!
أرى أنه من املنطقي أن يقال، كام فعلت يف الفصول السابقة، إنه ال ميكن
القبول باستبعاد الصداقة كقيمة مركزية من النظرية األخالقية، ليس فقط ألنها
لقيت اعرتافا من جانب الفالسفة الهلنيني والهلنستيني، وليس ألنها حاجة إنسانية
أساسية وبالتايل مطلب أنطولوجي، ولكن ألن األسباب التي أدت إىل استبعادها يف
الفرتات القروسطية والحديثة واملعارصة، كام بينت تفصيال، غري مستساغة. وليك
أبرهن عىل أنها غري مستساغة، َطَرحت مفهوم النموذج األخالقي الذي سمح يل
بتتبع أصل مفهوم الخري األسمى. وقد فعلت ذلك ألن هذا النوع من الخري هو منبع
القيم األخالقية وأساس التنظري األخالقي. وقد لعب مفهوم النموذج األخالقي دور
املعيار لتقييم كفاءة النظرية األخالقية: تكون نظرية ما ذات كفاءة بقدر ما تأخذ

283
الصداقة كحاجة أنطولوجية
َ يف حسبانها جميع القيم األخالقية املتضَّمنة يف النموذج األخالقي لثقافة بعينها؛
وهي تفتقر إىل الكفاءة عندما تعجز عن اإلقرار بأي من هذه القيم، أساسا ألن
كل قيمة أخالقية مركزية تعكس حاجة إنسانية أساسية، وبالتايل فالعيش املتوافق
معها هو من رشوط النمو والتقدم اإلنسانيني، أو، إن أردنا أن نعرب عن ذلك بتعبري
آخر، فالقيمة األخالقية املركزية هي من رشوط بلوغ الخري األسمى. والصداقة
قيمة أخالقية مركزية ألنها حاجة إنسانية جوهرية متضمنة يف النامذج األخالقية
القروسطية والحديثة واملعارصة. لقد رأينا كيف أن النامذج األخالقية القروسطية
والحديثة واملعارصة عرضت نفسها لتهمة نقص الكفاءة ألنها عجزت عن اعتبار
الصداقة قيمة مركزية متضمنة يف النامذج األخالقية املتعلقة بثقافة كل فرتة منها.
وقد أدى إىل ذلك تقيد الفالسفة القروسطيني باعتبارات دينية، وتقيد الفالسفة
املحدثني بأسباب اجتامعية – ثقافية، واملعارصين بأسباب فلسفية. لقد سعيت،
بتبني هذا الخط املنطقي، إىل إلقاء الضوء، وبأقىص ما استطعت من قوة، عىل أصل
القيم األخالقية وأساس التنظري األخالقي. وهذا األساس، هذا األساس وحده، هو ما

نركن إليه يف تقييمنا لكفاءة النظرية األخالقية.
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

مواضيع متشابهه

أعلى أسفل